قناة | أبي جعفر عبدالله الخليفي:
مثال على التوسع في دعاوى الاتفاق عند المتأخرين (صلاة ليلة النصف من شعبان جماعة وفوائد في أمر ليلة النصف من شعبان)...
مما ذكرته في دروسي منذ زمن أن فضل ليلة النصف من شعبان ثابت بالجملة، وقد قال الشافعي في الأم: "وبلغنا أنه كان يقال: إن الدعاء يستجاب في خمس ليال في ليلة الجمعة، وليلة الأضحى، وليلة الفطر، وأول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان."
غير أنني أود التنبيه على مسالك بحثية ضعيفة كأن يقول لك (المذاهب الأربعة على كذا وكذا) ثم يأتيك بنقولات لمجموعة من المتأخرين من المذهبيين عامتهم جاءوا بعد السبعمائة، ولا يوجد كلام لأئمة المذاهب ولا لأصحابهم المتقدمين.
ثم إذا رجعت لكلام المتأخرين وجدتهم يتنازعون في التفاصيل ويذكرون خلافاً في مشروعية بعض الأفعال التي توهمك عبارات بعض المتأخرين أو الأبحاث المختزلة أنها مُتفق على مشروعيتها.
قال ابن نجيم الحنفي في البحر: "قال الحافظ الطبري جرت العادة في كل قطر من أقطار المكلفين بتطابق الكافة على صلاة مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان بألف قل هو الله أحد وتروى في صحتها آثار وأخبار ليس عليها الاعتماد
ولا نقول أنها موضوعة كما قال الحافظ ابن الجوزي فإن الحكم بالوضع أمره خطير وشأنه كبير مع أنها أخبار ترغيب والعامل عليها بنيته يثاب ويصدق عزمه وإخلاصه في ابتهاله يجاب والأولى تلقيها بالقبول من غير حكم بصحتها ولا حرج في العمل بها اهـ".
الطبري هنا ليس هو الطبري الحافظ المعروف صاحب التفسير بل هو متأخر بدليل ذكره لابن الجوزي (هذا إن كان المحقق قرأ اسمه بشكل صحيح)
أنت إذا قرأت كلامه توهمت الإجماع على صلاة ليلة النصف من شعبان جماعة وأن الناس اتفقوا على ذلك اتفاقاً عملياً.
غير أنك لو وسعت البحث لرأيت أن هذه الصلاة مكروهة باتفاق المالكية وينصون على أن ولي الأمر ينبغي أن يمنعها.
قال خليل بن إسحاق المالكي المتوفى عام 776 في التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب: "ومن هنا تعلم أن الجمع الذي يفعل في ليلة النصف من شعبان وأول جمعة من رجب، ونحو ذلك بدعة مكروهة. وقد نص جماعة من الأصحاب على ذلك، بل لو قيل بتحريم ذلك ما بعُد. وقد تولى الشيخ أبو عبد الله بن الحاج بيان مفاسده وشناعته، فتنظره في كلامه الذي هو من نور وتأييد".
وقال ابن ناجي التنوخي المتوفى عام 837 في شرحه على متن الرسالة: "ما ذكر هو أحد قولي أهل المذهب، وقيل إن ذلك مكروه، وتجوز صلاة النافلة جماعة ليلا ونهارا قاله في المدونة فأطلقه اللخمي وقيده ابن أبي زمنين وغيره برواية ابن حبيب، وقوله إن قلة الجماعة كالثلاث، وخفي محل قيامهم، إلا كره وسلك ابن بشير هذه الطريقة قائلا وكرهه ابن حبيب، وهو مقتضى المذهب، قال ومنه ما يفعل في بعض البلاد من الجمع ليلة النصف من شعبان وليلة عاشوراء، ولا يختلف المذهب في كراهته، وينبغي للأئمة أن يتقدموا في النهي عنه".
وهذا الكلام موجود في مواهب الجليل شرح مختصر الخليل.
وقال مرعي الكرمي المتوفى عام 1033 في غاية المنتهى: "وأما صلاة الرغائب، وصلاة ليلة نصف شعبان، فبدعة لا أصل لهما، قاله الشيخ وقال: ليلة النصف من شعبان فيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة، انتهى، واستحباب قيامها كليلة العيد ميل ابن رجب في اللطائف".
وفي دقائق أولي النهى للبهوتي كلام نحوه.
ولو رجعنا إلى كتب الحنفية لوجدناهم يحكون خلافاً قال ابن نجيم في البحر الرائق: "وقد ذكر الغزنوي صلاة الرغائب ثنتي عشرة ركعة بين العشاءين بست تسليمات وصلاة الاستفتاح عشرين ركعة في النصف من رجب به صلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة بخمسين تسليمة وينبغي حمله على الانفراد كما مر وصلاة ليلة النصف في أول ليلة جمعة منه وأنها بدعة وما يحتاله أهل الروم من نذرها لتخرج عن النفل والكراهة فباطل وقد أوضحه العلامة الحلبي وأطال فيه إطالة حسنة كما هو دأبه وفي الفتاوى البزازية"
وفي حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح :" ويكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي" المتقدم ذكرها "في المساجد" وغيرها لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة فأنكره أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة وفقهاء أهل المدينة وأصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه إحياء ليلتي العيدين جماعة واختلف علماء الشام في صفة إحياء ليلة النصف من شعبان على قولين أحدهما أنه استحب إحياؤها بجماعة في المسجد طائفة من أعيان التابعين كخالد بن معدان ولقمان بن عامر ووافقهم اسحق بن راهويه والقول الثاني أنه يكره الاجتماع لها في المساجد للصلاة وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم"
فلاحظ حكاية الخلاف.
قال الطرطوشي في البدع والمحدثات: "وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم؛ قال: "ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلا على ما سواها".
وقيل لابن أبي مليكة: إن زيادا النميري يقول: إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر. فقال: "لوسمعته وبيدي عصا؛ لضربته".
وذكر ابن شامة في الباعث فتيا لابن الصلاح يقول فيها: "وأما ليلة النّصف من شعبان فلها فضيله واحياؤها بالعبادة مستحب ولكن على الانفراد من غير جماعة واتخاذ الناس لها وليلة الرغائب موسما وشعارا بدعة منكرة وما يزيدونه فيهما على الحاجة والعادة من الوقيد ونحوه فغير موافق للشريعة والألفيه التي تصلي في ليلة النصف لا أصل لها ولا أشباهها ومن العجب حرص النَّاس على المبتدع في هاتين الليلتين وتقصيرهم في المؤكدات الثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والله المستعان والله أعلم".
وقال البدر العيني في نخب الأفكار: "فإن قيل: الصوم في شعبان قد جاء فيه أحاديث صحيحة، ولكن الصلاة التي يصلونها ليلة النصف ما حكمها؟ وهل لها أصل؟ قلت: ذكر أبو الخطاب أن الأحاديث التي في صلاة النصف منه موضوعة، وفيها حديث عند الترمذي مقطوع، وقد قال أهل التعديل والتجريح: ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يصح، وذكر الطرطوشي في كتاب "الحوادث والبدع" عن أبي محمَّد القدسي: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصل في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين".
وقال السيوطي في الأمر بالاتباع: "بيان بدع ليلة النصف من شعبان ومن ذلك صلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، وهي صلاة طويلة مستقلة لم يأت فيها خبر ولا أثر ضعيف. وللعوامّ بها افتتان كبير والتزام سيما بكثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد، ويجري فيه من الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال والنساء، ومن الفتن المختلفة والمنكرات، ما شهرته تغني عن وصفه وأصلها ما حكاه الطرطوشي فيما تقدم".
وقال عبد الرزاق في المصنف: "7928 - أخبرنا معمر، عن أيوب قال: قيل لابن أبي مليكة: إن زيادا المنقري، وكان قاصا يقول: إن أجر ليلة النصف من شعبان مثل أجر ليلة القدر، فقال ابن أبي مليكة: «لو سمعته يقول ذلك وفي يدي عصا لضربته بها»".
وهذا إسناد قوي إلى ابن أبي مليكة وهو تابعي معروف فكأنه أنكر أمر الفضل.
وذكر الفاكهي في أخبار مكة أن أهل مكة كانوا يحيون ليلة النصف من شعبان، وهو أقدم من ذكر أمر الإحياء الجماعي غير أن ذكر ابن وضاح للأمر في البدع يبين أن الإنكار أيضاً كان قديماً.
وقال المروذي في كتاب الورع: "545 - قلت لأبي عبد الله إن رجلا من أهل الخير قد تركت كلامه لأنه قذف رجلا بما ليس فيه، ولي قرابة يشربون المسكر ويسكرون، وكان هذا قبل ليلة النصف من شعبان. فقال اذهب إلى ذلك الرجل حتى تكلمه فتخوف علي من أمر قرابتي أن آثم
وإنما تركت كلامهم أني غضبت لنفسي. فقال اذهب كلم ذاك الرجل ودع هؤلاء، ثم قال أليس يسكرون. وكان الرجل قد ندم".
أقول: ذكر المروذي مشاحناته للإمام أحمد قبل ليلة النصف من شعبان دليل على أنهم يقولون بفضل هذه الليلة، وما ورد أنه يغفر لكل أحد إلا مشرك أو مشاحن، فكلم أحمد في الذين يصح له هجرهم والذين لا يصح له هجرهم.
وهذه هي العبادة الآكد في النصف من شعبان، وهي مصالحة من بينك وبينه مشاحنة، وقد نص عليها في الأخبار على اختلاف الناس في صحتها، غير أن الآثار في ذلك محتملة، ويكثر جدل الناس في الأمور المختلف فيها ويتركون هذه الثابتة.
ذكرت هذا البحث كاملاً لئلا تغتر بدعاوى الاتفاقات المتوسعة، أو البحث المختزل حين يأتيك بكلمة لحنفي وأخرى لمالكي وثالثة لشافعي ورابعة لحنبلي وكلهم متأخرون ثم يقول لك المذاهب الأربعة على كذا وكذا، وتتوهم الاتفاق. ولتعلم أن الناس ربما فرطوا في الفاضل المتفق عليه أو الخلاف فيه ضعيف وتشبثوا بما فيه شبهة إحداث قوية، وبعض الناس يفعل ذلك مناكفة لخصومه فحسب.