JustPaste.it

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

د. احمد صبحي منصور

الباب الثالث : الحج فى الدين الصوفى الفصل الأول : الشقاق والاختلاف فى الأديان الأرضية

أولا : عمق الشقاق فى الأديان الأرضية

1 ـ فى  الباب الثانى عرضنا للتواتر الحق فى ملة ابراهيم فيما يخص فريضة الحج ، وكيف أعادت قريش التواتر الباطل لأغراض إقتصادية ، ثم كيف استمر هذا التواتر الباطل بقريش بعد الاسلام ، وختمنا الباب بصناعة الدين السّنى لمناسك الحج والذى أعاد التواتر الجاهلى القرشى عبر أحاديث مفتراة ومتناقضة . أى نحن هنا أمام دين أرضى واحد ، ومع أئمته الصانعين له ، ومع ذلك نجد شقاقا بينهم فى مناسك الحج ، بل إن التناقض تجده أحيانا فى الكتاب الواحد بل فى الحديث الواحد ، أى إن الشقاق والاختلاف يصل الى عمق الصناعة نفسها ، صناعة الدين السّنى لدى أئمته الأوائل .

2 ـ وبتكاثر الاختلافات تحوّل الدين السّنى الى أديان فرعية أرضية ، أو ( مذاهب ) مختلفة ، بقى منها اليوم أربعة مذاهب.  ومعنى ( مذهب ) أى أن الإمام المؤسس ( ذهب ) الى هذا الرأى وإختاره ،أى هذا هو ( مذهبه ). ولأنها صناعة شخصية ورؤية بشرية فهو يخالف نفسه أحيانا ، وبالتالى يخالفه أقرانه ( فيذهبون ) الى (مذاهب) أخرى بشرية ، ولكن جاء أتباع لهذا الامام أو ذاك فإختاروا أن يسيروا خلف هذا أو ذاك ، فأصبح جمهور لتلك المذاهب ، وقد تكاثر عبر السنين وتكاثرت معهم خلافاتهم بحيث تستعصى على الحصر، وبهذا الاختلاف والشقاق تكونت المذاهب الأربعة الحالية داخل الدين السّنى .

3 ـ ومع أنها ( مذاهب ) مصنوعة بالبشر ، ومع أن مصطلح ( المذاهب ) هذا ليس من اللسان القرآنى ، ومع تسليم أتباع المذاهب بأن أئمتهم بشر من بنى آدم عاشوا وماتوا كبقية البشر ، إلا إن نسبة أولئك الأئمة أراءهم للنبى عله السلام واعتبارها وحيا قد جعل تلك المذاهب ( شريعة الاهية ) بالإفك والبهتان ، وهذا ما يعتقده الوهابيون اليوم . ومن هنا تصبح تلك المذاهب أديانا أرضية صنعها البشر ، ونسبوها لله جل وعلا زورا وبهتانا ، ثم إختلفوا فيه وتنازعوا ـ ولا يزالون .

4 ـ ويتعمّق الاختلاف ويتمدّد داخل الدين السّنى على مستوى ( الأحاديث )، فأول كتاب فيها وهو موطأ مالك يمتلىء باختلافات بين روايات النسخ الى أملاها مالك لتلاميذه ، ثم تتعدد التناقضات داخل الأحاديث نفسها فى الرواية الواحدة ، ثم جاء الشافعى بكتابه ( الأم ) فكان يختلف مع نفسه  فى الصفحة الواحدة ، واختلف معه المزنى راوى كتاب ( الأم ) فى تعليقاته على كتاب ( الأم ) . وليس لأبى حنيفة كتاب مدوّن إذ قتله الخليفة المنصور عام 150  قبل أن يسود عصر التدوين، وجاء تلميذاه (الشيبانى) و(أبو يوسف ) شيخا المذهب الحنفى فتناقضا مع شيخهما أبى حنيفة فى كل شىء تقريبا.

 ولم يكن ابن حنبل فقيها بل كان من أصحاب الحديث ، و( مسند أحمد ) تم ترتيبه حسب الرواة باعتباره محدّثا وليس فقيها ، ولم يرتبه حسب أبواب الفقه كما فعل البخارى ومسلم . لكن إضطهاد الدولة العباسية له أسفر عن شهرته وتكوين ( حركة ) الحنابلة المتشددة ، فجعلوا له مذهبا فقهيا .

5 ـ وهذا التشابك بين ما هو ( حديث) وما هو (فقه) عمّق الاختلافات أكثر بين أصحاب الحديث واصحاب الفقه، خصوصا مع إدمان الفقهاء بتعزيز آرائهم الفقهية بأحاديث منسوبة للنبى عليه السلام ، وتعارض كل تلك الأحاديث مع بعضها، فحاول أرباب الحديث عبر ( الجرح والتعديل ) تدارك الأمر بفحص مدى صدق الرواة فى ( الاسناد ) أى فى نسبة الحديث الى النبى عبر عنعنات من الرواة ( روى فلان عن فلان عمن فلان..أن النبى قال ) . وهل هذا الراوى صادق أم كاذب ، وكما شرحنا فى بحث ( الاسناد ) إختلفوا وتنازعوا أكثر وأكثر ، ولم يجتمعوا على رأى واحد فى أن هذا الراوى صادق أم كاذب .

6 ـ هذا كله فى دين ( السّنة ) فيما يخصّ التشريع . وهناك فرع من دين السّنة يخص العقائد مثل صفات الله جل وعلا والقضاء والقدر..إلخ ، أو ما كان يعرف بعلم الكلام . وقد بدأ هذا العلم على يد المعتزلة الذين تأثروا بالفلسفات اليونانية وعملوا على التقريب بينها والاسلام ، فتصدّى لهم الفقهاء السنيون المحافظون الرافضون لأى فكر ( وافد ) ، وقد إنشقّ أبو الحسن الأشعرى عن المعتزلة موافقا الفقهاء ، وتكونت طائفة ( الأشاعرة ) السّنية فى العقائد المخالفة للمعتزلة ، وتبعتها طائفة (الماترودية) أتباع أبى منصور الماتوريدى الذين خالفوا أقرانهم الأشاعرة فى مسائل كثيرة . والمضحك أن الحنابلة يكرهون الأشاعرة ويختلفون معهم فى مسائل كثيرة برغم أن الأشعرى إنشق عن أقرنه المعتزلة موافقا أهل الحديث والفقه.

7 ـ وفى القرنين الرابع والخامس من الهجرة كان قد تأسّس لدى المسلمين مئات الفرق والملل والنحل والطوائف الدينية ، وبرز علم جديد متخصّص فى ( الملل والنحل ) منها ما يهاجم بقية الملل معبرا عن وجهة نظره كالملطى ( السّنى ) فى كتابه ( التبيه والرّد ) ، ومنها ما كان يكتفى برصد الخلافات بين تلك الملل والنحل كما فعل أبو الحسن الأشعرى ت 330 فى كتابه ( مقالات الاسلاميين ) وابن حزم الاندلسى ت 456 فى كتابه ( الفصل فى الملل والنحل ) والشهرستانى ت 548 فى ( الملل والنحل ). ثم تشعبت الملل والنحل فى العقائد وفى التشريعات بإزدهار التصوف وانتشار الطرق الصوفية .

8 ـ مع كل هذه الاختلافات بين ( أُمّة المسلمين) فإنّ من المضحك فى عصرنا أن تؤمن ملايين الحيوانات الأليفة بأسطورة (الاجماع )، وتزعم أن ( الأمة قد أجمعت على كذا وكذا ). يعنى أنّه تم عقد إجتماع للأمة المسلمة كلها فى العالم كله من عصر  الخلفاء الى عصرنا ،تم تجمعوا كلهم فى وقت واحد وفى (إستاد ) ضخم  يفوق إستاد القاهرة ، وأخذوا رأيهم فى كذا ، وسألهم المغنى ( فهد بلّان):( صح يارجال ؟ ) فهتفوا جميعا بالفم المليان : أيوه صح .!!. وبهذا حصل ( الإجماع ).. والمجانين فى نعيم .!!

9 ـ وإذا تركنا الدين السّنى الأرضى وذهبنا الى دين أرضى آخر كالتصوف وجدناه ( طرقا صوفية ) تتعدّد وتتكاثر وتتشعب ، منها ما يزدهر ثم يندثر ، ومنها ما يتشعّب ويتكاثر بتكاثر الأشياخ وبالتنافس حول المريدين وتنازع ورثة الأولياء على النذور والقرابين . ودين التشيع الأرضى هو الأخر مبلىُّ بالاختلافات والإنشقاقات من عهد عبد الله بن سبأ الى عصرنا ، من الإمامية الاثنى عشرية فى ايران الى الزيدية والحوثيين فى اليمن والعلويين فى سوريا وشتى طوائف الاسماعيلية. ونفس الحال لدى النصارى والمسيحيين ، من ديانة الأقباط ( الأرثوذكس ) الى ( الملكانيين ) و الكاثوليك قبل الاسلام ، ثم التشعب  فى كل طائفة ، ولا يزال المسلسل مستمرا . ونفس الحال فى اليهودية من الصدوقين والقرّائين ..الخ .. وهذه أديان أرضية تم تأسيسها على أنقاض الدين السماوى بغيا وعدوانا على رب العزة . وهناك أديان أرضية أخرى فى آسيا وأفريقيا نعتقد أنها أيضا تأسست بنفس البغى على رسالات سماوية لا نعرفها .

10 ـ أى أننا أمام حقيقة مرعبة : أن كل تلك الأديان الأرضية المختلفة والمتناقضة مع نفسها ومع غيرها تتفق جميعا على : البغى على الدين السماوى وعقيدته ( لا اله إلا الله ) ، وأنها كلها تقدّس البشر والحجر ، وأنها تصنع دينا بوحى شيطانى وتنسبه لله جل وعلا ظلما وزورا، وأنها تقوم على الهوى بينما يقوم الدين الالهى على ( التعقّل ) ، وأنها مؤسّسة بكهنوت يساند الظلم والاستبداد والفساد ، وأنها تخدع العوام بالدين لتسرق آمالها وأحلامها فى العدل والحرية والكرامة الانسانية . يجمعها كلها أنها ضد دين الله جل وعلا ( الاسلام ) الذى نزلت به كل الرسالات السماوية بألسنة مختلفة، تؤكّد بأنه لا اله إلا الله ، وتدعو للعدل والاحسان والسلام وحرية الدين والانتظار الى يوم الحساب للحكم بين البشر فيما هم فيه يختلفون .

ثانيا :  البدايات ( أ ) : تاليه الرسل هو البداية فى الشقاق

1 ـ لا يجرؤ إنسان مهما بلغ كفره على الزعم بأنه خالق البشر والسماوات والارض والكون الذى بينهما بمجراته ونجومه . لذا يؤكّد رب العزّة أنه لا اله ألا الله ، لأنه وحده خالق كل شىء سواه . يقول جل وعلا :(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ )( فاطر 4)(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) النحل) ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) الطور ) (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد ). وطالما نؤمن فعلا بأن الله وحده خالق كل شىء فكلنا سواء من حيث أننا مخلوقات، وأنه لا يصح لأى مخلوق أن يوضع الى جانب الخالق. وبالتالى فإنّ الايمان الحق بأنه (لا اله إلا الله) تساوى بين البشر فى عبوديتهم لخالقهم ، سواء كان هذا المخلوق نبيا مرسلا أو بشرا عاديا . وبالمساواة فى عبودية البشر للخالق وحده فلا مجال للاختلاف بينهم فى الدين.

2 ـ  ولكن يبدأ الاختلاف فى الدين برفع مخلوق الى جانب الخالق جل وعلا . وهذا يبدأ أيضا بالتفريق بين رسل الله برفع واحد منهم فوق مستوى الآخرين وتمييزه عليهم . ولأنّ الرسل والأنبياء هم صفوة الخلق ، فإن رفع رسول منهم فوق الرسل الآخرين يعنى تأليهه ووضعه ـ وهو المخلوق ـ الى جانب الخالق جل وعلا، ويتولّد بهذا دين أرضى على أطلال الدين السماوى وينتمى هذا الدين الأرضى الى الاله الذى تم صنعه تحت إسم الرسول .  فعل هذا ( المسيحيون ) الذين رفعوا عيسى فوق مستوى الرسل وألّهوه ، ودخل أبناؤهم الى الاسلام بعد الفتوحات العربية ، فمالبثوا أن أضافوا لمحمد نفس صفات التأليه تقريبا الذى أضافه آباؤهم للمسيح ، فأصبحوا  ( أمّة محمد ) مقابل ( أمّة المسيح ) أى أصبحوا ( محمدين ) مقابل ( المسيحيين).

جعل (المسيحيون) المسيح هو (المخلّص   الذى يفتدى البشر ) وجعل المسلمون المحمديون ( محمدا ) هو الذى يقوم بالشفاعة العظمى فيخلّص البشر من هول الانتظار يوم القيامة . لم يجرؤ المسلمون على القول لفظا بأنّ محمدا هو ( ابن الله ) كما يقول المسيحيون ، ولكنهم قالوها بالمعنى، فى عقيدة ( الحقيقة المحمدية ) التى تجعل محمدا نورا أزليا منبثقا من النور الالهى ، وأنه قبل خلق العالم وقبل خلق آدم ، وصاغوا فيها أحاديث مثل : ( أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ) ( كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ، وكنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين ).

2 ـ بعد هذه البداية فى تأليه النبى والتفريق بين الأنبياء يتبعها إضافة أصحاب النبى وآله وأهله الى دائرة الألوهية ، فعل هذا المسيحيون مع الحواريين ، وفعلها المسلمون مع الصحابة. ثم تأتى الخطوة الثالثة وهى تقديس الأحيار والرهبان والأئمة والشيوخ والأولياء وإتخاذهم أربابا .ومع التحذير الذى جاء فى القرآن الكريم ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)( التوبة) فقد سار المسلمون على نفس الطريق يؤلهون الأئمة والعلماء مخترعى أديانهم الأرضية . ثم ينتهى الأمر بتأليه أنفسهم بزعمهم أنهم ابناء الله وأحباؤه ، هكذا قالت اليهود والنصارى:( وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ )ويرد عليهم رب العزّة : ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)(المائدة).وهكذا قال الصوفية المسلمون عن أنفسهم بأن النور الالهى إنتقل من محمد الى الأولياء والأقطاب ..الخ .

3 ـ وبهذا يتحول دين الله الواحد الى أديان أرضية متنافرة ، يتعدد فى كل دين منها آلهته الخاصة به ، ويعتقد كل فريق أنهم  أنهم دون غيرهم أصحاب الجنة، وهكذا يعتقد السنيون والشيعة والصوفية ، وقالها قبلهم النصارى واليهود:( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى )البقرة (111)، ويرد عليهم رب العزة:( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) البقرة ). يعتقد كل فريق أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن غيرهم فى ضلال مبين: ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) وهى عادة سيئة فى كل دين أرضى سبقت اليهود والنصارى، يقول جل وعلا ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ (113) البقرة).وسلك المسلمون بأديانهم الأرضية نفس الطريق، يقول الشيعة أن السّنة ليست على شىء، ويقول السنيون أن الشيعة والصوفية فى ضلال مبين  ، والمرجع لله جل وعلا يوم القيامة (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) البقرة ). وفى كل الأحوال فلن يرضى أصحاب اى دين أرضى بالدين الحق وأصحابه حتى يتبعوا ملتهم ، فهكذا كان موقف اليهود والنصارى من خاتم النبيين، يقول له ربّه جل وعلا :( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  )(120) البقرة ) ويأمر رب العزّة رسوله أن يقول لهم بأن الهدى فى كتاب الله:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) ويحذّر النبى من أن يتّبع أهواءهم:( وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) ( البقرة ) . ونفس الحال اليوم مع أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين ، فالسنيون لا يقبلون النقاش مع من يؤمن بالقرآن وحده حديثا إلا بعد أن يعلن لهم تسليمه بالسّنة، والشيعة والصوفية يرفضوننا طالما لا نؤمن بأئمتهم وأوليائهم. وكلهم يرفض الهدى القرآنى القائم على أنه لا اله إلّا  الله . 

4 ـ الأساس يبدأ بتأليه المسلمين للنيى محمد خلافا للقرآن الكريم، إذ يعتقدون بأن محمدا هو ( أشرف المرسلين ) وأنه ( سيّد الأنبياء ) وهو المفضّل على الأنبياء بكذا وكذا ، وأنّه صاحب الشفاعة العُظمى يوم القيامة، وأنّ مالك يوم الدين ليس رب العزة ـ بل هو ( محمد ) الذى يأمر رب العزة فيطيع .! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . هذا الضلال الفاحش فى التفريق بين الرسل وقع فيه الكافرون من أهل الكتاب فقال لهم رب العزة يأمرهم بالايمان ليس بأشخاص الأنبياء والرسل ولكن بكل ما نزل على الأنبياء وعدم التفريق بينهم وبأن يسلموا وجههم لله جل وعلا وحده لا إله غيره:( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136). وجعل ربّ العزّة هذا أساس الهداية وجعل التفريق بين الرسل أساس الشقاق والاختلاف، يقول جل وعلا بعدها يخاطب رسوله : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة).

ونفس الأمر جاء بنفس الكلمات تقريبا لخاتم النبيين ولنا : ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) آل عمران ) ثم يؤكّد رب العزة فى الآية التالية أن هذا هو الاسلام المقبول عنده جلّ وعلا يوم القيامة ، وأنّ من يقع فى التفريق بين الرسل فقد إيتغى غير الاسلام دينا:( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) آل عمران ). ويؤكّد نفس المعنى فى قوله جل وعلا :( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )، وأن محكّ وميزان الايمان الحق للمؤمن أن يعلن طاعته بعدم تمييز رسول على رسول :( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة ).

وبالتالى فإنّه يكون كافرا بعقيدته ذلك الذى يفرّق بين الله ورسله ، كما يفعل المسلمون مع (محمد) ، إذ يميزونه بذكره مع الله رب العزة فى الشهادة ، فلا ينطقون ( لا اله إلا الله ) إلا ومعها ( محمد رسول الله ) أى يجعلون شهادة ( الوحدانية ) مثنّاة، ويرفعون محمدا فوق بقية الرسل ، ثم يرفعونه مع الله جل وعلا فى الأذان وفى الصلاة وفى الحج .أولئك ـ إن لم يتوبوا ـ ينطبق عليهم قوله جلّ وعلا :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) النساء ) وفى المقابل يقول جل وعلا عن المؤمنين الذين يؤمنون بالرسل جميعا دون نقريق بينهم : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)(النساء). والعجيب أن ينزل الله جل وعلا كتابا سماويا على رسول من الرسل يؤكّد على أنه ( لا اله إلا الله )، ويجاهد هذا الرسول ويعانى ثم ينتصر ويموت ، فلا يلبث بعد موته أن يتحوّل بالبغى الى إله مع الله .

ثالثا : البدايات( ب ):كان البشر أمة واحدة فأصبحوا (أمة المسيح )( أمة محمد ) و (أمة فلان وفلان) 

1 ـ كان البشر جميعا فى البداية أمة واحدة تحت شعار ( لا اله إلّا الله ) وكلهم سواء فى العبودية له ، وتمسكوا جميعا بالكتاب السماوى الذى جاء به الرسل ، وكانوا يحتكمون الى هذا الكتاب فى أى خلاف يطرأ بينهم ، ولكن بداية الاختلاف كانت بالبغى والافتراء على العلم الالهى أو الرسالة السماوية التى تنزل بالبينات . عن البشر جميعا يقول ربّ العزة : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). (213) البقرة ).

2 ـ وفى الوحى الذى نزل على جميع الرسل جاء التأكيد على أنهم جميعا ( أمّة واحدة ) مع إختلاف الزمان والمكان والزمان والظروف . ولكن يبدأ الشقاق والخلاف ويتفرّق الناس الى أحزاب ، ولكل حزب كتابه المقدس أو كتبه المقدسة ، وهذا ما حدث فى تاريخ بنى اسرائيل والمسيحيين والمحمديين . عن الشقاق بين أتباع الرسالات السماوية يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) الأنبياء ) هذا هو الوحى الذى جاء للجميع ، ولكن يطرأ الشقاق ويتفرقون الى أحزاب ، ويتحول الكتاب الالهى كتاب مهجور ن ويستعيض كل فريق عنه بكتب أو ( زُبر ) : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) المؤمنون ). ويقول جل وعلا أيضا يكرّر هذه الحقيقة : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)(الأنبياء ).

3 ـ كانوا ( أمة ) واحدة فى عهد الرسول ولها كتاب مقدس واحد هو الرسالة السماوية ، ثم تحولوا بعده الى أحزاب وطوائف ، أى الى ( أمة فلان وأمة فلان )، وتكاثرت كتبهم المختلفة المتناقضة ، وكلها يفرح بها أصحابها برغم أنها رجس من عمل الشيطان ومن وحيه وإفترائه .حدث هذا قبل نزول القرآن ، ونزل القرآن ، وفيه يحذّر رب العزة مقدما أهل القرآن مما وقع فيه السابقون من الاختلاف ، فأمرهم بالاعتصام بالقرآن ونهاهم عن التفرق، يقول جل وعلا:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(103) آل عمران)،(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)آل عمران).

4 ـ ولكن مالبثوا أن تفرقوا من بعد ما جاءتهم بينات القرآن الكريم . أصبحوا ( أمة محمد )،  ثم أنقسمت ( أمّة محمد ) الى ( أمّة السّنة ) و (أمة الخوارج ) و( أمة التشيع ) و (أمة التصوف )..الخ ،  وكل أمة تتجزأ ، فأمة السنة منها أمة الحنفية وأمة المالكية وأمة الشافعية وأمة الحنابلة . ثم تقسيمات فرعية ، فأمة الحتبلية تتجزّأ ، وتتشعب الى يتولد منها مخلوق شائن قبيح فى عصرنا هو (الأمة الوهابية التيمية الحنبلية السنية المحمدية ) ، وهكذا التشرذم فى بقية الأمم ( المحمدية )..!!

رابعا : البدايات : ( ج ) الوحى الشيطانى الظالم الباغى على الكتاب السماوى   :

1 ـ سبق الاستشهاد بقول ربّ العزة : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).(213) البقرة)، فبداية الاختلاف كانت بالبغى على العلم الالهى أو الرسالة السماوية التى تنزل بالبينات . 

2 ـ إن الشرع الالهى واحد فى أساسياته فى الدعوة لإقامة الدين أو تطبيقه وفى عدم التفرق :( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ  ) (13) الشورى )،ولكن يطرأ الشقاق والتفرّق بالبغى على كتاب الله جل وعلا :( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(14) الشورى ). لذا يأمر رب العزة خاتم النبيين بأن يستقيم مع القرآن الكريم مؤمنا بكل الكتب السماوية بلا تفرقة بينها وألا يتّبع أهواء أصحاب الشقاق والخلاف : ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) الشورى). وهنا إشارة هامة الى دور الوحى الشيطانى الباغى الظالم ، والذى يحمل الشقاق والهوى فى عقائد أهل الديانات الأرضية، وأن المرجع الى الله جل وعلا فى الحكم فى هذا الشقاق والخلاف .

3 ـ  وفى نفس المعنى يقول جل وعلا عن تفرق أهل الكتاب بعد نزول بيّنات الكتاب : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)البينة ). وقال جل وعلا عن بنى إسرائيل :( وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) الجاثية )، أى بغوا على الدين الالهى الذى نزل بالعلم الحقيقى فاختلفوا وتفرقوا ، والحكم لله جل وعلا عليهم يوم القيامة . ثم يأمر الله جل وعلا خاتم النبيين بألا يتبع أهواءهم.: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(18) الجاثية )، وهنا أيضا تلازم البغى على الدين الالهى بمولد الدين الأرضى بالشقاق والهوى ، وأن مرجع الحكم عليهم لله جل وعلا يوم القيامة. 

4 ـ وفى نفس الموضوع جاء سياق آية ( التشهّد) المفروض قولها فى الصلاة دليلا على دين الاسلام و ( لا اله إلا الله )، وهى آية :( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران ) فهذا هو الاسلام ، دين الله الحقّ كما جاء فى الآية التالية :( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )19 ) آل عمران). جاء هذا فى سياق وقوع أهل الكتاب فى الاختلاف بينهم حين بغوا على الحق الالهى كفرا بآيات الله ، يقول جلّ وعلا فى نفس الآية الكريمة :( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ  (19 )(آل عمران).أى إختلف أهل الكتاب بغيا وظلما وتعديا على الكتاب السماوى الذى نزل بالاسلام دين الله جل وعلا .

وجدير بالذكر أن المسلمين فى أديانهم الأرضية صنعوا اسطورة المعراج وصاغوا فيها ( التحيات ) ونسبوها فى صيغ مختلفة الى الصحابة ، ووضعوها مكان التشهّد القرآنى فى الصلاة ، وهو قوله جلّ وعلا :( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18). سلكوا مسلك ( أهل الكتاب ) وبعد أن كانوا ( أمة واحدة ) صاروا أحزابا ، كل حزب بما لديهم فرحون .

5 ـ الشيطان هو اللاعب الحقيقى هنا . فالوحى الالهى بالرسالة السماوية يواجهه وحى شيطانى يضلّ الناس ويوقع بينهم الفرقة والشقاق والبغضاء . ومن هنا فإنّ لكل نبى عدوأ من شياطين الإنس والجنّ الذين يفترون أحاديث وينسبونها ظلما وبغيا لله جل وعلا ولرسوله . يقول جل وعلا عن هذه الأحاديث الشيطانية ومخترعيها ومروّجيها من اعداء الأنبياء : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الأنعام ) ويقول بعدها عن الاحتكام  الي القرآن الكريم فى تلك الأحاديث الضالة : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) (114) الانعام ) . وتكرّر وصف رب العزة بأن أظلم الناس هم الذين يفترون على الله كذبا ويكذّبون بآياته . ومع هذا فإنّ اولئك الذين وصفهم رب العزة بالظلم والبغى هم الأئمة المقدسون لدى أتباع الديانات الأرضية من المسلمين . يكفى أن قلب القارىء يرتعش ويرتعب حين نؤكّد أن من بين أولئك الظلمة الفجرة : البخارى ومسلم والشافعى ومالك وابن حنبل ..الخ .. هذا الرعب من ذكر أسمائهم دليل تقديسهم وعبادتهم الذى عشنا عليه قرونا .!

خامسا :  تحذير أهل القرآن من التفرق والشقاق  الذى وقع فيه أهل الكتاب

1 ـ سبق أن ذكرنا بعض الآيات التى تحذّر خاتم النبيين من إتّباع أهواء أهل الكتاب من أهل الشقاق . ولقد تكرّر هذا أمرا ونهيا للنبى عليه السلام وللمؤمنين ، أمره رب العزة بأن يقيم وجهه للدين حنيفا ، وأمرنا ألّا نكون من المشركين الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا وأحزابا وطوائف دينية : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الروم ).

وأمر الله جل وعلا خاتم النبيين بالتبرؤ ممّن يقع فى التفريق فى الدين ، وأنّ مرجعهم الى الله جل وعلا يوم القيامة ليحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) الانعام ). وفى نفس السورة جاءت الوصية العاشرة من الوصايا العشر أمرا بالتمسك بالقرآن وحده صراطا مستقيما ونهيا عن إتّباع غيره لأن إتباع غيره من الكتب يورث الفرقة والاختلاف  :( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الانعام ).

2 ـ وعلاجا للشقاق أوجب الله جل وعلا الاحتكام للقرآن الكريم فى كل زكان ومكان،فهو الرسول أو الرسالة التى حفظها رب العزة لتظل الرسول بعد موت الرسول محمد عليه السلام : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) النساء) . لذا يقول رب العزّة عن النجاة من الاختلاف وهذا البغى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) الشورى ). وسبقت الاشارة الى وجوب الاحتكام الي القرآن الكريم فى تلك الأحاديث الضالة:( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً )(114) الانعام )

3 ـ إننا نعيش إختبارا فى هذه الدنيا ، ولكل فرد حريته فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية ، ثم سيكون حسابنا على هذه الحرية يوم القيامة . إن الله جل وعلا لم ينزل مع الكتاب السماوى ملائكة العذاب ، بل جعل الدين حرا فى هذه الدنيا ، وجعل يوم الدين للحساب على موقف الناس من الدين . وأنزل الكتاب السماوى للناس ، وهم أحرار فى الايمان به والتمسّك به ، وإن فعلوا فلا سبيل للشقاق والاختلاف طالما يحتكمون الى القرآن وهم فعلا يؤمنون به ويخافون اليوم الآخر (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )(59) النساء ) .

أمّا إذا لم يكونوا مؤمنين فعلا بالله جل وعلا وباليوم الآخر فسيتلاعبون بالقرآن ويزدادون به خسارا ، أمّا المؤمنون فيزدادون بالقرآن هدى ورحمة : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء ). ولهذا يمتلىء تراث الأديان الأرضية للمسلمين بالتلاعب بألايات القرآنية التى تعبّر عمّا فى قلوبهم من زيغ :( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران ). وبالتالى يزدادون بالقرآن خسارا وإختلافا وأنقساما وشقاقا.

4 ـ الاحتكام للقرآن الكريم فى هذه الخلافات هى أن يبحث المؤمن عن الحق القرآنى بدون رأى مسبق بل طلبا للهداية ، وأن يتمسك بالحق ، ويعلن هذا الحق دون أن تأخذه فى الله جل وعلا لومة لائم ، وينتظر الحكم عليه وعلى الناس يوم القيامة .

ختاما :

1 ـ سبق أن عرضنا لخلافات الدين السّنى فى مناسك الحج ، وشريعة الحج فى الدينين  الصوفى والشيعى تنقلنا الى ميدان جديد ومختلف ، حيث السائد فيهما هو تقديس البشر والحجر والحج اليها وعبادتها وتقديسها على حساب رب العزة وكتابه الكريم وبيته الحرام .

2 ـ  وندخل بهذا على ( الحج فى دين التصوف ) .

الفصل الثانى : ( دين التصوف : لمحة تاريخية )

      

 تعريفات التصوف :

 1-  ليس للتصوف عند أربابه تعريف محدد ، فى الرسالة القشيرية ـ دستور التصوف ـ  يقول القشيري ( تكلم الناس في التصوف ، ما معناه، وفى الصوفي من هو، فكلعبر عما وقع له ، واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز  ) ـ( الرسالة القشيرية ط صبيح : 217 ). والقشيري أسبق في الإشارة إلى أن كل صوفي يعبر عنذاته في تعريفه للتصوف ، فقد يكون للصوفي الواحد أكثر من تعريف للتصوف من غير أن يربط بينها رابط وذلك لأن الصوفي (ابن وقته ) فهو ينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت . لذا فإن تعريفات التصوف لا تنتهي كثرة وتناقضاً واختلافاً ، ذلك أن لكل صوفي  (ذوقه ) أو بتعبيرنا ( لكلمنهم هواه )  فالهوى هو الأساس في اختلاف الصوفية في تعريف أهم الأشياء لديهم . وهو التصوف الذي به يدينون ويوصفون .

 وقد يسمون الهوى (ذوقاً) عند الأقدمين أو ( تجربة ) عند المحدثين ، إلا أن الهوىهو المعيار الذي نفسر به حقيقة التصوف ،  وقد جعل القرآن الكريم ( الهوى) نقيضاً للعقل ، ودعا لاستعمال العقل للوصولبه للإيمان الخالص بالله وحده ، وتكرر في القرآن الكريم (أفلا تعقلون ) (لعلكم تعقلون )،ووصف المشركين بأنهم (لا يعقلون ) وبأنهم يتبعون الهوى بلا عقل ({أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً  ؟. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (الفرقان 43 ،44) .ولأن كل منهم يعبد هواه وينكر عقله فقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطرقاً .

 ومن الملاحظأن الاختلاف سمة أساسية للتصوف يشمل كل شيء من تعريفه إلى اشتقاقاته ورسومهوشكلياته ، حتى يحتسب عمر الشقاق بين الصوفية  بعمر التصوف نفسه ، بل ومرتبطاًبعقيدة التصوف نفسها، حتى أن رويم الصوفي يقول: ( ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم )".  ( الرسالة القشيرية 218 ).

إشتقاقات التصوف

 والاختلاف قائم هنا ايضا في اشتقاقات لفظ التصوف، هل من الصوف أو أهل الصفاء ..الخ ...يقول القشيري ( وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس.. ثم أن هذه الطائفة أشهر من أن تحتاج في تعيينهم  إلي قياس لفظواستحقاق اشتقاق ) ( الرسالة القشيرية :  217 ). والقشيري أراح نفسه من الترجيح بين الآراء مع إثباته فضل الصوفية ،وفى نفس الوقت نفى صحة هذه الاشتقاقات من حيث اللغة . ويعنينا من هذا كله أن التصوف منذ ظهوره في تاريخ المسلمين في  القرن الثالثالهجري وحتى الآن ، لم يجد اتفاقاً حول اشتقاقه اللغوي في لغة عربية تمتاز بأنها قياسيةفي قواعدها النحوية والصرفية ، وهذا منطقي في دين جديد يعانى من خلاف مستحكم بين أتباعه ، دين يقوم على الهوى أو (ذوق ) أشياخه ومؤسسيه.

مصدر التصوف

والاختلاف قائم بين الباحثين فى مصدر التصوف ، هل هو فارسى ، يونانى ، هندى ..الخ . ومن الخطأ إرجاع التصوف إلي مصدر بعينه ، فكل صوفي تأثر بنشأتهوثقافته ، وعليه يمكن القول بأن مصادر دين التصوف لدى المسلمين تتعدد بتعدد ثقافاتهم وبيئاتهم. ويمكن اعتبار الفرعونية مصدرا للتصوف للمسلمين المصريين خاصة ، فقد كان لأحد مؤسسى التصوف وهو ذو النون المصري اهتمامات و تطواف بالبراري والمعابد الفرعونية أشار إليها المقريزي: ( الخطط جـ1 / 63، 386، 387 ط 1324 .) والمسعودي  فى : ( مروج الذهب جـ2 / 401 . نشر بارتيه ورمنيار ).

بين التصوف والاسلام 

 1ـ  شاع بين الناس أن التصوف فرع من الإسلام ، أو هو الإسلام ، أو هو ذروةالإسلام ، ويقول تعالى (..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.. المائدة 3)  ومعناه أن دين الله قد اكتمل بنزول القرآن وتمامه، فلا مجال لأيبشر في أن يضيف لدين أكمله الله وحياً من السماء، فالتصوف إن كان يضيف للإسلامشيئا فذلك غير مقبول ، لأن تلك الإضافة إن كانت ضمن ما قرره القرآن فلا تعد إضافةلأنها موجودة من قبل، وإن كانت تلك الإضافة مختلفة عما قرره القرآن فهي مرفوضةوليست من الإسلام في شيء ، إن التصوف إذا اتفق مع الإسلام في شيء فلا حاجة بناللتصوف لأن لدينا الأصل وهو الإسلام دين الله ، والله جل وعلا سيحاسبنا على ذلك الأصل الذيأنزله ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  الأنعام 135). وإن كان التصوف يختلف مع الإسلام فلا حاجة بنا لذلك التصوف الذي يبعدنا عنديننا الذي ارتضاه لنا ربنا . إنها قضية واضحة لا تحتمل التوسط ، فإما إسلام فقط وإماغيره منتصوف أو تشيع أو سنّة ، إما حق وإما باطل ، ولا وسطية ،يقول جل وعلا :( فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ؟.. يونس 32 )  إما قرآن فقط وإما أتباع للضلال  (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ..الأعراف3).

2ـ وبداية الاختلاف  بين الإسلام والتصوف تكمن في أساس التشريع ؛ ففي الإسلامأساس التشريع لله وحده. والقرآن الكريم يحكم على النبي والمسلمين ، أما التصوففالشيخ الصوفي هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ( ذوقه ) أو (حاله ).  

والاختلاف الرئيس هو حين يضفون على ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية ، يدعون أن الصوفي أوتى الكشف أو العلماللدني من الله أو الوحي الإلهي، مع أنه لا وحى في الدين بعد اكتمال نزول القرآن. وإضفاء الوحي والكشف والكرامة إلى الصوفي معناه الدعوة إلى تقديسه والتماس بركتهفي الدنيا وشفاعته في الآخرة ، وتلك سمة الاختلاف الرئيسية بين التصوفوالإسلام ، حيث يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف في الدنيا والآخرة ، إلا أننا لا نجد صوفياً إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلماللدني ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في الله وحده إلها ووليامقدسا. نطلب منه المدد والعون ، نطلب ذلك منه وحده ،لا شريك له جل وعلا.

وذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف تكمن في العقيدة الأساس في كل منهما ،فعقيدة الإسلام لا إله إلا الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. محمد  19 ) والله الإله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..الشورى 11 )  وصفات الله لايوصف بها غيره ، فالله واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقي خلقه (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). أما عقيدة التصوفالحقيقية فهي (لا موجود إلا الله )  أو ما يعرف بوحدة الوجود والتي تعنى أن العالم جزء من الله، أو إن العالم هو الله ، وانه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق  كمثل البحر وأمواجه ، والصوفي الحق عندهم هو الذي يدرك ذلك ويهتكالحجاب ويعلن اتحاده بالله أو حلول الله فيه . وبالقطع فهذه العقيدة تناقض عقيدة القرآن .

3ـ  ولفظ التصوف لم يرد في القرآن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة ليست فيصالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد، يقول جل وعلا: (.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ )(الحديد 27 )، ولم يجرؤ وضّاع الأحاديث المزيفة على كتابة حديثفيه لفظ التصوف ، لعلمهم أن ذلك لم يكن معروفا في الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام ، واكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر يدل عُرفا على التصوففي عصرهم ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال في كل عصر.

وورد لفظ التصوف لأول مرة في تراث المسلمين في كتاب الجاحظ ( البيانوالتبيين)( ج 1/ 233 .). وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف أنه من العلومالحادثة في الملة.)( المقدمة 467 . ط المكتبة التجارية )، وخطأ ابن خلدون في أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوفبعلم ، حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد  يخالف الإسلام ، وقدظهر بعده بقرنين .

4- والتصوف نوعان : احدهما ديني والآخر فلسفي ،  وإذاكان التصوف الديني يناقض دين الإسلام الذي لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإنالتصوف الفلسفي مرفوض أيضاً، لأن الفلسفة الدينية للتصوف  تعزز بالجدل عقائد التصوف الدينية . والتصوف الديني أدخل مصطلحات دينية مستحدثة في الحياة الدينيةللمسلمين لم يعرفها المسلمون الأوائل في الجزيرة العربية ، ومن المصطلحات الدينية الجديدة التي استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. الخ ، ولكل منها مدلول  في دين التصوف ، وسطرت في ذلك الكتب  وبالطبع هم مختلفون في معناها وعددها. وبعض هذه الألفاظ كان مستعملاً في الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهم أوّلوها واستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل(الولي والولاية ) . وموضوعات التصوف الديني والفلسفي  تتمثل في الشطحات ،وأحوال الفناء والحلولوالاتحاد والتحقق بالحق ، والإشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام عقيدة وعلما وفكرا.

 بين الزهد والتصوف:

اعتبر الكثيرون  أن الزهد مرحلة انتقالية أدت إلى ظهور التصوف في القرن الثالثالهجري، ومنهم ابن الجوزي الذي فرق بين الزهد  والتصوف فقال إن (الصوفية انفردواعن الزهاد  بصفات وأحوال ) وأنّ (.. التصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلى )(  تلبيس إبليس : 155 . ). ومع تمسكنا بوجود فروق أساس بين الزهد والتصوف ، إلا أننا نعتقد في أن لكلمن الزهد والتصوف عوامله الخاصة التي ساعدت على نشأته وتطوره منفردا عن الآخر. ودليلنا في استقلالية نشأة الزهد عن التصوف هو استمرار حركة الزهاد بمعزل عن الصوفية ،وقد عاب الغزالي علي زهاد عصره مغالاتهم في الصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهيعن المنكر احتسابا وتشديدهم في أعمال الجوارح فى نفس الوقت الذي هاجم فيهالصوفية المعاصرين له بصفات تناقض ما اشتهر به الزهاد ، فرمى الصوفية المنكرينللفرائض بدعوى وصولهم. للحق واتحادهم به  ( الإحياء : 3/ 341 : 343 ، 199، 344 : 347 ، 3/ 341 : 343 ،199 ، 344 : 347 المطبعة العثمانية ) ، مما يدل على أن الفارق جوهري بين الطائفتين في المعتقدات والسلوك . فالزهاد يتشددون في الصلاة ، والصوفية  ينكرونها لأنهمجزء من الله .

وقد تميز عصر الغزالي بتقرير التصوف ، ولو كان الزهد حركة انتقالية أدت للتصوفلذاب الزهاد في الحركة الصوفية الجديدة المعترف بها ولأنتقلت حركة الزهد إلى متحفالتاريخ عندما توطدت حركة التصوف . وتاريخيا فقد استمر الزهد منفصلا عن تيارالتصوف  الآخذ في الانتشار ، ومع تناقض الزهاد فقد ظل وجودهم قائما حتى بعد أنتمت للتصوف السيادة المطلقة في العصر العثماني، فالجبرتي مثلا يذكر زاهدا في القرنالثاني عشر الهجري هو الشيخ مصطفى العزيزي ت1154 ، وقال فيه ( كان أزهد أهل زمانه في الورع والتقشف في المأكل والملبس والتواضع وحسن الأخلاق ولا يرى لنفسهمقاما .. ولا يرضي للناس بتقبيل يده، ويكره ذلك ، فإذا تكامل حضور الجماعة وتحلّقواحضر من بيته ودخل إلى محل جلوسه بوسط الحلقة فلا يقوم لدخوله أحد..وإذا تمالدرس قام في الحال وذهب إلي داره )( عجائب الآثار 2/ 36 ط 1959 ).   وكان أغلب الزهاد في العصر المملوكي منالعلماء الفقهاء الذين كانت لهم سمات تخالف الصفات الكلاسيكية للشيخ الصوفي، ثم إن الزهد لم يلق في مولده ما لاقاه التصوف من إنكار مما يدل على اختلاف طبيعتهما إلى درجة لا يقبل معها أن يكون أحدهما حركة انتقالية للآخر، فقد بدأ التصوف بالشطح أو إعلان الكفر الصوفي مما أدى لاضطهاد رواد التصوف ، بينما حظي رواد الزهد بإعجابالعامة وعطف الخاصة حيث تركوا متاع الدنيا الذي تقاتل حوله الجميع .

والصوفية الأوائل هم سبب الخلط بين التصوف والزهد، إذ أنهم في اندفاعهم لتقرير دينهم وحمايتهم من المجتمع الذي يضطهدهم جعلوا من أوائل الزهاد المسلمين رواداللتصوف ، مع أنه لم تحفظ عن أولئك الزهاد شطحات صوفية ، مثل الحسن البصري وسفيانالثوري وسعيد بن جبير، وأولئك كانوا يتمتعون بتقدير؛ وطمع الصوفية في أن ينالهم منهشيء.

  ونعود للتصوف ، فقد بدأت جماعات الزهاد منتشرة بين الموالى تتمتع بعطف المجتمعوإعجابه ، فاتصل رواد التصوف بالزهاد واستفادوا منهم مع استقلالية كل حركة. ولم يقعصدام بين حركتي الزهد والتصوف وإنما وقع الصدام بين دينى السّنة والتصوف .

بداية التصوف:

 لنضع الأمور في نصابها الصحيح علينا أن نبدأ بالأساس الذي يجمع التصوفوالإسلام وهو العقيدة ، فالإسلام دين وعقيدة والتصوف كذلك ، والعقائد والأديان علىاختلافها تنقسم إلي قسمين :

ا - دين الله الذي شرعه لخلقه وهو الإسلام الذي جاء به وحي السماء بكل اللغات ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ..) ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) آل عمران 19، 85 )، وهو يعنى الاستسلام الكامل لأوامر الله وحده وبكل اللغات والسلام مع الناس .

2- الدين الأرضي يخترعه البشر ويختلفون فيه حسب الهوى ، فيحرفون فيدين الله ويفترون عليه الكذب ويقدسون مع الله البشر من الرسل والأئمة ، وهذا هو الشرك أو الكفر، ولا فارق بينهما . ودين الله أسبق في الوجود في التاريخ الإنساني فقد فطر الله البشر على أن يسلموا له وحده (الأعراف 172 ، والروم 30 ) وكانآدم أبو البشر رسولا  لأولاده ( آل عمران 33) وتلاه الأنبياء يقولون نفس العقيدة لا إله إلا الله (الأنبياء 25)، ولكن باللغة التي ينطقونها ، ثم قيلت باللغة العربية في الرسالةالخاتمة.

وهناك قصة للصراع بين عقيدتي الإسلام الخالص والشرك تتكرر في تاريخ الأنبياء؛ فنوح عليه السلام تحمل الأذى حتى انتصر في النهاية ومعه قلة مؤمنة نجاها الله منالطوفان ، وتدور الأيام ، ويعود الشرك إلى قلوب الأحفاد من الذرية فيرسل الله رسولا آخريلقى نفس الأذى فيصمد، وهو يذكر قومه بما حدث من الأسلاف السابقين (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ...الأعراف69)، ويهلك الله قوم عاد وينجى النبي هودا ومن آمنمعه ، وتدور الأيام فيكفر الأحفاد، و يأتي منهم نبي جديد هو صالح الذي يقول لقومه: ( وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ ...الأعراف74)، وهكذا تستمر قصة الصراع بينالعقيدتين ، ينتصر الرسول ، ثم يعود الشرك بعده متخفيا تحت دعاوى شتى منها حبالرسول نفسه وأصحابه ، ثم يتحول الحب إلى تقديس والتقديس إلى عبادة ، إلى أن يأتيرسول جديد تتكرر معه نفس القصة .

ثم جاء محمد خاتم الأنبياء بمعجزة القرآن الذي فصّل كل ملامح الشرك ورد عليها، وقد حفظ الله هذا القرآن ليكون حجة على البشر إلىيوم القيامة ، خصوصا الذين كرروا مسيرة الانحراف والقرآن في أيديهم ؛ يؤولون آياته ويخترعون مناهج أخرى لأديان ما أنزل الله بها من سلطان.

إن قصة الصراع العقيدي بينالإسلام والشرك لم تنته بانتصار خاتم النبيين ، وإنما استمرت محاولات العقاند الشركية القديمة للظهور تحت شعار الاسلام ، ثم ما لبثت أن انتصرت وانتزعت منه الساحةليصبح المتمسكون بالإسلام الحقيقي قلائل يعانون الاضطهاد ، كما حدث للقلةالمؤمنة في مكة .

وقد بدأت أولى المحاولات الشركية للظهور فيما عرف بحركة الردة التي ارتبطت بإدعاء النبوة والوحي وعلم الغيب مختلطة بعناصر جاهلية عربية كالعصبيةالقبلية والأنفة من سيطرة قريش وعدم دفع الزكاة. وبإخماد أبى بكر لحركة الردة كانتفكيره في دفع العرب للفتوحات شغلا لهم عن تكرار قصة الردة . وكانت الفتوحات عصيانا فاحشا لدين الاسلام ، وأسفرت فى البداية عنضم الشام والعراق ومصر وايران وهى مناطق عريقة في الفلسفات الوثنية والنزعات القومية.

بدأ عرق الردة ينبض عند الفرس أكثر الأجناس المحكومة قومية وتاريخا وكراهية للعرب. كان العرب قد    برروا استبداهم وفتوحاتهم وحروبهم الأهلية ـ دينيا بتشريع مصنوع بأحاديث ، وهو ما عُرف فيما بعد بالسّنة ، أو دين السّنة الأرضى بأحاديثه التى انتشرت شفويا ثم أُتح لها الكتابة والتدوين والتقعيد فى العصر العباسى . عانى الفرس من الاضطهاد خصوصا فى العصر الأموى ، ثم وجدوا ضالتهم في قيام الدولة العباسية بمساعدتهم ، فصار لهم فيهاالنفوذ ، فتطلعوا إلى أتمام استقلالهم بالردة عن الإسلام ، فكثر في العصر العباسي الأولوجود الزنادقة لولا أن العباسيين في قوتهم استأصلوا حركة الردة وقضوا عليها سياسيا. وثاروا عسكريا فى خراسان والشرق فأخمد العباسيون ثوراتهم بالحديد والنار. بعد هزيمتهم العسكرية التفت الفرس فى العصر العباسى الثانى إلى المقاومة الفكرية فى ميادين مختلفة منها تدعيم الدين السّنى نكاية فى الاسلام ، فكان روّاد الحديث فى العصر العباسى الثانى من الفرس كالبخارى ومسلم والنسائى والترمذى وابن ماجة ..الخ ، ومنها استغلال دين التشيع فقربوا بينه وبين عقاندهم القديمة وخلطوه بأغراض سياسية قومية فواجه الشيعة الشدة من بني العباس ودينهم السّنى . فكان إختراع التصوف آخر جهد فارسى فى الكيد للاسلام .

التشيع هو الذى أرسى للتصوف الأسس التي يقوم عليها. ورث التصوف عقائد التشيع ورسومه وتخفف من أوزاره السياسية ، فبدأ حركة دينية عقيدية أكثر، برواد من الأعاجم، تتلمذوا على يد أساطين الشيعة ، (فمعروف الكرخي) الرائد الصوفي كان نصررانيا فأسلم على يد الإمام على الرضى ، وهو من مواليه ، (ومعروف ) هو أستاذ ( السري السقطى)، الذي هو أستاذ (الجنيد) الملقببسيد الطائفة الصوفية ، وقد قال معروف لتلميذه السري : إذا كانت لك حاجة إلى اللهفاقسم عليه بي )، ( الرسالة القشيرية 15، 16 ،32 ).

فأرسى بذلك قاعدة التوسل بالأشخاص وجاههم عند الله . وبدأالتصوف بذلك مشواره العقيدي.

ثم دخلت الخلافة العباسية في دور الضعف حين تحكمفيهم الأتراك ، فاستفاد المتصوفة من ضعف العباسيين فتشكلت خلايا التصوف من شيخومريدين ، وتمت الاتصالات بينهم فيما بين مصر والعراق والحجاز والشام عبر السياحة الصوفية ، ورفعوا لواء الحب الإلهي ليخفوا تحته عقيدة الاتحاد الصوفية ، ومع ضعفالخلفاء العباسيين فلم تمر الحركة الصوفية الجديدة بدون رد فعل فلاحقت الدولة روادالتصوف بالمحاكمات والنفي والاضطهاد حتى اضطر الجنيد لأن يعلن أن (طريقته منوطبالكتاب والسنة )  ( الرسالة القشيرية 15، 16 ،32 )، وفى نفس الوقت يدرّس التصوف في عقر داره بين المخلصين منتلاميذه وبعد أن يقفل باب داره (ويضع المفتاح تحت وركه) خوفا من أن يتهموه بالزندقة ،ومع ذلك فلم ينج من الاتهام بسبب  كلمة قالها ، مما جعله يتستر بالفقه ويختفي ، وحوكمسمنون وذو النون المصري وسهل بن عهد الله، وبلغ اضطهاد الصوفية ذروته بقتل الحلاج  عام  301. ( الطبقات الكبرى للشعراني 10 ، 13 ، 14 ط صبيح ).

ولا يزال الجنيد زعيما للمعتدلين  من الصوفية بسبب ما اشتهر  عنه إعلان تمسكهبالكتاب والسنة حتى أن من أنكر على الصوفية فيما بعد خدعته أقاويل الجنيد التي قالها بالتقية ، فابن الجوزي ت 597 الفقيه السّنى الحنبلى يستدل  بقول الجنيد السابق ويتخذه حجة على الصوفية  الصرحاء الذين أعلنوا عقيدتهم فيما بعد في عصر ابن الجوزي نفسه ( تلبيس إبليس 162، 158 ).  ومع ذلك فإنالأقوال القليلة التي حفظت عن الجنيد تشي بعقيدته الحقيقية التي منع الخوف منظهورها ، فهو يرى أن العارف الصوفي هو ( من نطق عن سرك وأنت ساكت. ) ، أي سنّللصوفية ادعاء الكشف أو علم الغيب ، وسئل عن مصدره الذي يستقى منه أقواله الجديدةفقال ( من جلوس بين يدي الله ثلاثين سنة أسفل تلك الدرجة ، وأومأ إلى درجة - سلم -في داره )  ( الرسالة القشيرية 31 : 32  ) ، فأرسى مقولة العلم اللدني والوحي.

أي أن مسيلمة الحنفي ليس وحده الكذاب.!

التصوف المعتدل لا يفترق عن ادعاءات المرتدين كمسيلمة الكذاب ، غاية ما هنالك أنمسيلمة جاء في عصر قوة المسلمين ، أما "الجنيد" فقد جاء في عصر الوهن حيث ضعفالعباسيين وقوية الشعوبية وتدهور العرب ، حتى أن مصرع الحلاج زعيم الصوفية المتطرفينلم يتم إلا بدوافع سياسية أكثر منها دينية ، وبعد محاكمة زادت على العشر سنوات .وبمرور الزمن تغيرت الظروف أكثر لصالح التصوف فتضاءل الإنكار عليه ، وزاد انتشارهوبدأ يأخذ دوره في اضطهاد خصومه من الفقهاء، فتبدلت الآية ، وبدأت دورة أخرى   من دورات الصراع الديني.

إنتشار التصوف :

 انفتح الصوفية على العوام يرغبونهم في الانخراط فيالتصوف بإقامة حفلات السماع والطرب ، يقول ابن الجوزي (التصوف طريقة كانابتداؤها الزهد الكلى، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص ، فمال إليهم طلابالآخرة من العوام لما يظهرونه من الزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب )ـ( تلبيس ابليس161 :162 ، 155 : 156 .) . 

ولم يجعل الصوفية من العلم شرطا في مجال التصوف ، بل وقفواموقفا معاديا للعلم فاعتبروه علم الظاهر، بينما ادعوا أنهم اختصوا بالعلم الحقيقي (العلماللدني) الذي يأتي من الله بلا واسطة وبلا تعب أو مذاكرة . وسهل هذا الادعاء دخولالكثرة الكاثرة من العامة في سلك التصوف فزاد بهم قوة وصار معبرا عن العامة أكثريةالمجتمع ، والأكثرية يصفها القرآن بأنها لا تعقل ولا تفهم ولا تؤمن بالله إلا وهى مشركة .

واتصف أساطين التصوف بالمرونة الكافية التي مكنتهم من تحويل غضب الرأى العام ضدشطحات التصوف إلى غضب ضد أشخاص متفرقين من الصوفية مع عدم المساس بمبدأالتصوف ذاته ، فالقشيري مثلا انتقد صوفية عصره واتهمهم بكل نقيصة ليدافع عن مبدأالتصوف ذاته ، يقول في بداية رسالته (إن المحققين من هذه الطائفة - الصوفية ـ انقرضأكثرهم ولم يبق في زماننا من هذا من الطائفة إلا أثرهم .. مضى الشيوخ الذين كانوا بهماهتداء، وقلّ الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع واشتد الطمع ..وأرتحل عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ، ورفضوا التمييزبين الحرام والحلال ، واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة ، وركضوا فيميدان الغفلات ، وركنوا إلي إتباع الشهوات ، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات ، والارتفاقبما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان ، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوءهذه الفعال ، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا  عن رقالأغلال ، وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق ، تجرى عليهم أحكامه وهم محو،وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يزرونه عتب ولا لوم  ، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية ،واختطفوا عنهم بالكلية ، وزالت عنهم أحكام البشرية ، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوارالصمدية ، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا .. الخ الخ ) فالقشيري يرمى معاصريه في القرنالخامس بكل نقيصة بشرية ، مع إهمالهم الفرائض الإسلامية وادعائهم للإلوهية طبقالعقيدة الاتحاد الصوفية ، ثم يقول ( ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان ، بما لوحتببعضه من هذه القصة ، وما كنت  لأبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار غيرة على هذهالطريقة أن يذكر أهلها بسوء، أو يجد مخالف لسلبهم مساغاً، إذ البلوى في هذه الدياربالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة .. ولما أبى الوقت إلا استصعابا، وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه ، واغترارا بما ارتادوه ، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بني قواعده ، وعلى هذا النحو سار سلفه ،فعلقت هذه الرسالة إليكم .. وذكرت فيها بعض سير الشيوخ لهذه لطريقة في آدابها وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم .(الرسالة القشيرية 4، 5 .). أي أن القشيري يعترف أنه لولا الإنكار علىالتصوف لما أطلق لسانه في صوفية زمانه الذين يعتبرهم خارجين علي مبدأ  التصوف ،ومع ذلك فإن الرسالة القشيرية تحوي من أقوال الشيوخ المعتدلين ما يهدم التصوف ويجعلهنقيضا للإسلام .

وصارت عادة عند محققي الصوفية أن يتهموا الصوفية المعاصرين لهم ويشيدوا بمنسبقهم، حفاظا على مبدأ التصوف وليواجهوا الإنكار عليهم من الفقهاء السنيين الأعداء التقليديينللصوفية.

وعلى نفس الطريق سار الغزالي ت : 505  فأنكر علي صوفية عصره  فى ( الإحياء جـ3 / 343 وما بعدها ، 199.).  ولأنه أصبحرأسا للصوفية والعلماء والفقهاء فقد واجه اتهامه للباقين أسوة بالصوفية فهاجم الزهادوالعلماء والعباد عامة ، والفقهاء خاصة ، وأصحاب الحديث وعلماء الكلام والنحاة على وجه الخصوص  .( الاحياء جـ 3/ 301 : 302 ، 333 :341 ،257 : 258. )، ومع ذلك فالغزالي يقرر عقيدة الصوفية في الاتحاد والعشق الإلهي، ودليله الحديثالمكذوب وتأويل الآيات القرآنية وكلام من سبقه من الصوفية : ( الأحياء 3/23: 25 ، 242 :246 ، جـ4/14 ،17 ، 18 ،22 ، 23 ،26 ،28 ،68 ،74 ،75: 77، 83: 85 ،94 ،100 ،102 ،104 ،211: 214 ،221 ،225 ،227 :228 ، 254 :263 ،266: 267 ،269 ،271 ،277، 278 :279 ،281 ،288 ،291 ،292 ،298 :299 .)

 وصار (إحياء علوم الدين ) قرآن الصوفية وحجتهم في تقرير مذهبهم في ( العالمالإسلامي) ، خاصة أن الغزالي عرض فيه لجانب من جوانب الفقه الممزوج بالعوامل الباطنية والروحية ، وهى الناحية التي تقاصر عنها فقهاء عصره ، فدان له الفقهاء بالتبعية ،وانحصر إنكارهم على أشخاص الصوفية المتطرفين  الذين هاجمهم الغزالي في الأحياء.

وإذا  كان أئمة الصوفية قد بدأوا بالهجوم على بعض الصوفية منهم ليسدوا الطريقعلي خصوم مذهبهم من الفقهاء فإن جهدهم توجه أيضا لاجتذاب العامة ومختلف طوائفالمجتمع ، وتمثل ذلك في إنشاء الطرق الصوفية . وقد  بدأ إنشاء الطرق الصوفية في تاريخمبكر في القرنين الثالث والرابع الهجريين . إلا أن العصر الذهبي للطرق الصوفية بدأ بعد تقرير التصوف كدين (في العالم الإسلامي). أي بعد الغزالي في القرن السادسالهجري، وأهم الطرق : الرفاعية التي أنشأها أحمد الرفاعي ت: 570  في القرن السابع ثمالجيلانية التي أسسها عبد القادر الجيلاني ت651، و الشاذلية لصاحبها أبى الحسنالشاذلي ت 656.

كان  للطرق الصوفية الدور الأول في نشر  التصوف بين  مختلف الطوائف،حتى أنمتطرفي الصوفية لجأوا لتكوين الطرق الصوفية للدعاية إلى مذهبهم كالطريقة الأكبرية نسبة لابن عربي الملقب  بالشيخ  الأكبر ،والطريقة السبعينية نسبة لابن سبعين المرسى .

وفى العصر المملوكي تحول التصوف إلي مجرد ترديد لعقائد السابقين ووضعالشروح عليها وتطبيق تعاليمهم ، فانصرف همّ المتصوفة المملوكيين إلى إنشاء الطرقالصوفية وتفرعها بحسب شهرة الشيخ وكثرة أتباعه ، فتفرعت الطريقة الشاذلية والأحمديةوالسطوحية وغيرها إلى عدة طرق تفرعت بدورها وهكذا .. هذا ، مع انعدام الفارق الحقيقي بين الطرق، اللهم إلا في طريقة الأذكار والزّى والعمائم ولون المرقعات ونصوص الأوراد وأسماء الشيوخ، وبمضي الزمن كان يزداد انتشار التصوف ويتعاظم تقديس أشياخه. وتقل في نفس الوقتثقافتهم وعلمهم، ويزداد تسلطهم علي المنكرين عليهم من الفقهاء.

ومقارنة صغيرة تظهر الفرق بين القرن الثالث والعصر المملوكي ..

فالجنيد اضطرللتستر بالفقه والاختفاء في عقر داره لكي يقول لأتباعه المقربين (العارف هو من نطق عنسرك وأنت ساكت ) وأن علم التصوف جاءه من الله أسفل درج داره، أما في العصر المملوكي فقد كان إبراهيم الدسوقي يقول مثلا ( أنا بيدي أبواب النار أغلقتها ، وبيدي جنةالفردوس فتحتها، ومن زارني أسكنته جنة الفردوس .. يا ولدى إن صح عهدك معي فأنا منك قريب غير بعيد، وأنا في ذهنك ، وأنا في سمعك ، وأنا في طرفك ، وأنا في جميعحواسك الظاهرة و الباطنة ) ـ (الشعراني : الطبقات الكبرى 1/ 157 . ،153 )، وكانوا يسجلون ذلك عنه افتخارا به ..وإذا كان الحلاج قد دفع حياته ثمنا لإحدى شطحاته وأوذي الآخرون ونفوا بسببالشطح ، فإن العصر المملوكي ودينه التصوف ـ قد جعل الشطح ـ أو إساءة الأدب معالله تعالى ـ من مستلزمات  الولاية الصوفية ، يقول الشعراني عن معاصره الشيخ أبيالسعود الجارحي ( وكان رضي الله عنه له شطحات عظيمة )( الشعراني : جـ2 /118. ).

 سيطرة التصوف على العصر المملوكي

تكفى قراءة سريعة لبعض صفحات الحوليات التاريخية المملوكية لنتعرف على سيطرةالتصوف على العصر المملوكي، ولأن التصوف العملي يعني الاعتقاد في الشيخ حيا أوميتا فإن عبارة (المعتقد) بفتح القاف تتردد كثيرا في وصف الآلاف المؤلفة من الأشياخالذين حفل بهم العصر، وبنفس الطريقة يوصف الآخرون بأن  أحدهم (حسن الاعتقاد) أيفي الأولياء الصوفية ، وهذا ما تعارف عليه العصر ورددته المصادر التاريخية دليلا على عمق التأثر بالتصوف وسيطرته .

ومع جبروت السلطة المملوكية  فقد كان السلطان يؤمن بالتصوف ويخضع للشيخ الصوفي يلتمس منه البركات ، وتفصيل ذلك يخرج عن المطلوب ،ولكن نكتفي ببعض الأمثلة :

فالظاهر بيبرس بدهائه وسطوته واستبداده سمح بوجود نفوذ للشيخ خضر بل،وتغاضي عن انحلاله الخلقي لأنه يعتقد في ولايته وفى معرفته للغيب ـ ( النويري : نهاية الأرب مخطوط 28 /41 ،119 ،120 ، تاريخ ابن كثير 13 / 265 ، 178 )، ومع حنكة برقوقالسياسية فقد كان يخضع للمجاذيب حتى أن أحدهم وهو الزهوري (كان يبصق فيوجهه )( إنباء الغمر : جـ2/ 57 ، النجوم الزاهرة ج13 /10 .). وعندما افتتح مدرسته الجامعة أعطاه مجذوب (طوبة ) وأمره أن يضعها فيالمدرسة ، فوضعها برقوق في قنديل وعلقه في المحراب ، وظلت فيه باقية ، يقول عنها ابن إياس في القرن العاشر (فهي باقية في القنديل حتى الآن )( تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى 1/ 2/ 373 ).

ومن دراسة بعض المصادر الصوفية يتضح إلى أي مدى كان الصوفي يتسلط علىمريده الأمير، وكان ذلك عاديا لا يستوجب عجبا ولا إنكارا ، وإلا ما قرأنا هذا الكلامللشعراني في تقعيد علاقة الشيخ بمريده إذا كان أميرا مملوكيا ( وما منّ لله على إني لاأحجب أحدا من الأمراء إلا إن غلب على ظنه دخوله تحت طاعتي بطيبة نفسه ، بحيث يرىخروجه عن طاعتي من جملة المعاصي التي تجب التوبة عليه منها فورا .. وكل أمير لاينشرح صدره ويفرح بقلبه بالخروج عن جميع وظائفه وماله ونسائه ورقيقه ودوره وبساتينهإذا أمره شيخه بذلك فلا يصلح للفقير ـ أي الصوفي - أن يصحبه.. ومن أدب الأمير معالفقير أن يراه في غيبته أعظم حرمة من  بعض ملوك الدنيا) وفى مقابل خضوع الأميرالذليل لشيخه كان الشيخ لا يلتزم بشيء تجاه الأمير، يقول زكريا الأنصاري للأشياخ( إياكم أن تتحملوا عن أميركم جميع الشدة التي نزلت به فتلحقوه بالنساء في العجز و الكسل والنقص  بل أمروه بالتوجه إلى الله تعالى في دفع تلك الشدة ) وعد الشيخالخواص (من جهل الأمير رمى حملته على شيخه ). ومن أدب الأمير ألا يطلب من شيخهأن يكون معه علي خصمه ، وألا يطلب مساعدة  شيخه ، وألا يرى الأمير فضلا له على شيخهبما يرسله إلي زاويته من أصناف الأطعمة  وإذا طرده الفقير عن صحبته ألا يبرح بابه ولايجتمع بغيره من الفقراء، وعلى الأمير الخضوع والذلة لشيخه ، وأن يوالى من يواليهويعادى من يعاديه ،( فمن عادى الشيخ فقد عادى الله )، وألا يطلب من الشيخ حاجة إلاوهو في غاية الذل والانكسار والفاقة ، وأن يأمن شيخه على عياله وحريمه ولو اختلى بهم ، لا يخطر بباله أنه ينظر إلي إحداهن بشهوة ، وألا فقد أساء الأدب على الشيخ ، وأنيمرض لمرض شيخه ، وأن يحزن لحزنه ، وأن يرى النعم التي يعيش فيها من بركة شيخه ،وأن يرضى بحكم شيخه فيه كما يرضى العبد بحكم سيده، والأمير مع الفقير كعبد السوءمع سيده الكريم الواسع الخلق ، وعليه أن يعرض على شيخه كل قليل أفخر ما عنده منالنقود والملابس والمطاعم والمشارب إظهارا لشدة محبته له وبيانا لكونه لا يدخر عنه شيئا ،وأن يخلص النية كلما أراد الخروج لزيارة شيخه فلا تكون لعلة دنيوية أو أخروية )( الشعراني : إرشاد المغفلين . مخطوط 138 : 139 ، 233 : 237 ، 247 : 272 . رقمه بدار الكتب 921 تصوف طلعت .)

 لقدجعل أولئك الصوفية من أنفسهم آلهة على مريديهم من الأمراء والمماليك  وجعلوا لأنفسهمالغنم كله بلا مسئولية دينية أو إنسانية تجاه الأمير المريد، ولولا أن قلب العصر المملوكيكان ينبض بالتصوف لما جرؤ الصوفية على تقعيد مثل هذه العلاقة الغريبة بين الأميروشيخه الصوفي.

والعمارة المملوكية التي لا تزال تزين القاهرة حتى الآن هي أصدق دليل علي ما بلغهالتصوف وأشياخه من منزلة وتأثير على المماليك مهما بلغت قسوتهم، وتلك العمارةالمملوكية آية من آيات الفن المعماري وقد خصصت كلها للتصوف وأنشطته الدينيةوالعملية.

والحياة الفكرية والعقلية للعصر المملوكي إفراز لتأثير التصوف ، حيث دارت الحركةالعلمية بين شرح وتلخيص ونظم للمتون وإعادة شرح التلخيص والمتن دون ابتكار أوتجديد، وحيث فرض التصوف نفسه علما بين المناهج ، وحيث دارت الحياة العلمية فيالمؤسسات الصوفية ، وحيث تصوف الفقهاءوتقهقر مستواهم الفكري وطورد منهم من جرؤ على الاعتراض على الصوفية ، كما حدث لابن تيمية ومدرسته ، وبنفسالقدر الذي ازداد فيه تقديس الأولياء الصوفية الأميين ، وكان تقديس المجاذيب أكبر ما يعبر عن احتقار العصر المملوكي للعقل .

والشارع المملوكي كان أصدق ما يعبر عن سيطرة التصوف على الناس ، فالتوسلبالأولياء كان  أبرز نشاط ديني واجتماعي للناس ، وليس مهم شخصية الولي الحي الذييتوسلون به ويقصدونه من كل الجهات ، فقد اشتهر (عبد اسود) بالولاية فتوافدوا عليه منكل مكان  ، بل أن (طفلة صغيرة  ) بقليوب اشتهرت بالولاية فتوجه إليها الناس أفواجا(فبلغ كرى - أي إيجار - كل حمار من القاهرة إلى قليوب دينار اشرفي، وتوجه إليها جماعة من الخاصكية والأمراء  والأعيان  ).( تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى جـ2 /277 ، 4/ 165 .).

ولا نجد أبلغ من وصف المؤرخ أبى المحاسن في اعتقاد الناس في المجذوب الشيخيحيي الصنافيري  يقول فيه ( اجمع الناس علي اعتقاده وهو لا يفيق من سكرته ، وكانالناس يترددون إليه فوجاً فوجاً من بين عالم وقاض وأمير ورئيس ولا يلتفت إليهم ، ولما زادتردد الناس إليه ، صار يرجمهم بالحجارة ، فلم يردهم ذلك عنه ، رغبة في التماس بركته ،ففر منهم وساح في الجبال (  المنهل الصافي مخطوط جـ5 /481 ، النجوم الزاهرة جـ 11 /118 ، 119 .)،  وكان شمس الدين الحنفي إذا حلق رأسه تقاتل الناس علي شعره يتبركونبه ويجعلونه ذخيرة عندهم ( الشعراني : الطبقات الكبرى جـ2 /183.) ، واقتتل الناس على الشيخ الدشطوطي يتبركونبه ( شذرات الذهب جـ8  /130 لابن العماد الحنبلي .ط 1351 هجرية .)،  وكان الشيخ محمد الديروطي لا يكاد يمشى وحده بل يتبعه الناس ( ومن لم يصلإليه رمي بردائه على الشيخ حتى يمس ثياب الشيخ ثم يرده  إليه ويمسح به وجهه  )  ( الغزي : الكواكب السائرة جـ1/84 : 85 بيروت 1945.)،  ورأى الشعراني ذلك المنظر ، وعقّب علية بقوله : (كما يفعل الناس بكسوة الكعبة  ) ( الشعراني تنبيه المغتربين 93 : 94 ط 1278 .).وذكرالشعراني عن نفسه أنه دخل الجامع الأزهر في صلاة جنازة فاكب الناس علية يقبلون يدهويخضعون له ،  وشيعوه حتى الباب حتى صاروا أكثر من الحاضرين في الجنازة) ( الشعراني : لطائف المنن 263 ط 1988 .)

 وإذ مات الشيخ الصوفي تنافس الناس في الحصول على ماء غسله للتبرك به ، وشراء أثوابه التي مات فيها لأخذها حرزا ، وحين مات الشيخ الشناوي  ( أقتتل الناسعلي النعش وذهلت عقولهم  من عظم المصيبة بهم ، وقد دفن في غفلة عنهم ). ( السخاوي : تحفة الأحباب 370 ط 1302 )  (الدوادار : زبدة الفكرة مخطوط 9/ 475 مكتبة جامعة القاهرة برقم 24028 .السبكي طبقات الشافعية 6/ 127 الطبعة الأولى .،  الشعراني : الطبقات الكبرى جـ2 /117)

 أخيرا

1 ـ تعاظمت سيطرة التصوف حتى تسيد العصر المملوكي ، وبينما قام الحنابلة باضطهاد الصوفية فى القرن الثالث الهجرى تغير الحال فى القرن الثامن الهجرى حين إضطهد الصوفية زعيم الفقهاء الحنابلة ابن تيمية وأتباعه، ثم اضطهاد تلميذه المتأخر فى القرن التاسع. تحكّم دين التصوف في المجتمع  المملوكي سياسيا وحضاريا ودينيا وأخلاقيا ، وكان هذا موضوع بحثنا للدكتوراة فى جامعة الأزهر . واستمرت سيطرة التصوف طيلة العصر العثمانى ، ووقف الصوفية المصريون فى الأزهر ضد الوهابية السنية حين ظهرت فى نجد ، وظل نفوذ التصوف سائدا أجبر دعاة الوهابية فى القرن العشرين على نبذ كلمة الوهابية واستبدالها بالسلف والسّنّة كى يتقبلهم المجتمع المصرى . ثم نشهد حاليا ظهور الدين السّنى الحنبلى الوهابى ، وهو الآن يتحرّش بالصوفية ، وبعدها لا ندرى ماذا سيكون ؟!  

الفصل الثالث  (  دين التصوف : لمحة عن أهم عقائد التصوف )

مقدمة : أهم عقائد التصوف هي " الاتحاد . والحلول ، ووحدة الوجود " :

 1 ـ   الفارق " شكلي" بين العقائد الثلاثة ، فأصحاب الاتحاد يعتقدون أن الصوفي إذا حسن حاله يصل " للفناء " في المعبود ويستغرق في حال ( المشاهدة ) و ( يتحقق بالحق ) أو يتحد بالله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ). وأصحاب " الحلول " يعتقدون أن الذات العلية هى التى تتجلى على الصوفي الفاني فى ربه وتحلّ فيه ، فتنمحي في العبد صفة العبودية ويفنى في ربه متحداً فيه ويصير جزءا من الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ). و أصحاب  "وحدة الوجود " يعتقدون أن الوجود " بما فيه من خالق ومخلوق " واحد لا تعدد فيه ، وهو الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) ، وأن المخلوقات هي صور يبدو فيها الحق واجب الوجود ،أى أن الله هو نفس المخلوقات ( تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) وليس له وجود خارج المخلوقات ، ويعتقدون أنّ الصوفي هو الذي يصل إلى هذه الحقيقة التي لا يدركها المحجوبون من بقية البشر ، فإذا زال الحجاب عن قلب امرئ  رأى أن " الشاهد عين المشهود ".

2 ـ وقد يقال أن "عقيدة الاتحاد " لا تختلف في مقولتها عن "عقيدة الحلول" فالاتحاد صعود بالعبد إلى الله و "الحلول " نزول بالإلوهية إلى العبد ، فالخلاف لفظي . ويمكن القول أيضاً بأن الخلاف "كمّي " بين عقيدتي "الاتحاد ووحدة الوجود" فأصحاب الاتحاد يرون للعالم وجودين : خالق ومخلوق ،ثم يتحد الصوفي العارف بالخالق ويحقق الفناء في واجب الوجود ، بينما يتوسع أصحاب الوحدة في هذه المقولة ويجعلونها حقا لكل البشر بل والجمادات ، فهي كلها صور يتراءى فيها الخالق في خلقه .. فعقيدة الاتحاد جزء من عقيدة "وحدة الوجود " أو أن وحدة الوجود هي الهدف الأسمى للقائلين بالاتحاد : أو هي على حد قول بعضهم "الاتحاد المطلق" أي الذي يشمل الإنسان والجماد . ومعنى ذلك أن هناك درجات للعقيدة الصوفية تبدأ ( بالاتحاد والحلول ) وتنتهي( بوحدة الوجود ) أو (الاتحاد المطلق ).

ونعرض لعقائد التصوف كما عرضها الغزالى ،  ثم نناقشها .

   أولا : الغزالي ( 450 – 505) هـ :عقيدة التصوف في( الإحياء ): (درجات  التوحيد عند الغزالي):

1 ـ يقول الغزالى فى ( إحياء علوم الدين ) : ( التوحيد : القول فيه يطول وهو من علوم المكاشفة ) أي أن الغزالي يسد الطريق مقدماً على الفقهاء وهم محرومون من العلم  بالغيب الذي يكاشف الله به أولياءه ، ثم يقول : ( للتوحيد أربع مراتب ، وهو ينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر : فالمرتبة الأولى من التوحيد : هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين ، والثانية : أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه ، كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام ، والثالثة : أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق ، وهو نظام المقربين ، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار . والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحداً ، وهي مشاهدة الصديقين ، وتسمّيه الصوفية الفناء في التوحيد ، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً ، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياُ عن نفسه في توحيده ، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق ..).

2- ثم يشرح الغزالي في ضوء ما سبق أنواع الموحدين ، يقول ( فالأول : موحد بمجرد اللسان ، و يعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف .. والثاني : موحَّد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه ، وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه ، وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفى عليه ، ولم تضعف بالمعاصي عقدته ... والثالث : موحَّد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً ، إذا انكشف له الحق كما هو عليه ، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحداً، وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه ، لا إنه كلّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين .. والرابع : موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد ، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير ، بل من حيث أنه واحد ، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد ) [1].

ثانيا : ولنا على الغزالي ملاحظات :

1- أنه جعل للنفاق درجة في التوحيد وذلك ما لم يرد في مدرسة الجنيد ، ثم جعل التوحيد الإسلامي ( لا اله إلا الله ) توحيد العوام ، ويلمح إلى نوع من المقارنة بين الفريقين ، فالأول يعصمه الإقرار بالتوحيد من الموت بالسيف أما الثاني فيعصمه اعتقاده القلبي من العذاب في الآخرة .

 أما الصوفية عنده فلا يأبهون بالجنة أو بالنار ، يقول : ( ولذلك قال العارفون ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاؤنا للحور العين ، وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا الحجاب فقط ، وقالوا ومن يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره ، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط ) [2].

ولسنا في مجال التعليق على ذلك النص الذي يجعل الصوفية أنداداً لله ويفضلهم على الرسل الذين كانوا يعبدون الله رغبة ورهبة ، ويكفى أن نقرر أن ترفع الصوفية عن الجنة وسخريتهم بالنار تردد في مواضع شتى في الإحياء[3] كإحدى مظاهر عقيدة الاتحاد التي تسبغ الألوهية على الصوفية .

ثم ارتقى الغزالي  بعقيدته الصوفية إلى المرتبتين الثالثة والرابعة .. بينما جعل المنافقين والعصاة في المرتبة السفلى ثم جعل صالحي المسلمين وهم (العوام ) في المرتبة التالية، وحرم عليهم الصعود لمرتبة العقيدة الصوفية حتى ولو كانوا من المتكلمين والفقهاء زعماء "العامة " ، ذلك لأن أساس العقيدة الصوفية في المرتبة الثالثة قائم على الكشف أي علم الغيب ، وهو للصوفية خاصة من دون الناس : يقول الغزالي عن المرتبة الثالثة ( أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين ) وشرح ذلك الكشف بقوله ( وقد انكشفت له الحقيقة كما هي ، لا أنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة ، فإن تلك رتبة العوام المتكلمين )..

لم يجد الغزالي سنداً للعقيدة الصوفية إلا الكشف أو الوحي الذي يتلقاه الصوفي من لدن ربه ، ومعنى ذلك أن هناك عقيدة جديدة نزلت من السماء تعلو فوق دين الله (الإسلام) .. ومعنى ذلك أن القرآن لم يشتمل على أسرار تلك العقيدة التي اختص بها الصوفية من دون الناس،ذلك أن القرآن والإسلام هما للعامة وزعمائهم من الفقهاء والمتكلمين ، وهما في الدرجة الدنيا في تقسيم الصوفية ..

قرر الغزالي في المرتبة الثالثة – أو المرتبة الأولى في عقيدة الصوفية – وحدة الفاعل ، ومعنى ذلك أن كل فعل يصدر عن البشر إنما يصدر في الحقيقة عن الله تعالى ، أي يسند أفعال البشر السيئة والدنيئة لله ( تعالى عن ذلك علواً كبيراً ) مع أن الله تعالى يقول (  مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ .. النساء 79 ) . والقول بالجبرية التامة من أسس العقيدة الصوفية التي تجعل الله (الروح ) المسيطر والكامن في المظاهر الحسية، وذلك يتناقض مع الإسلام والثواب العقاب والجنة والنار، وكلها في نهاية الأمر لا تهم الصوفية الذين يهتمون أساسا بالاتحاد أو التأليه.

ثم قرر الغزالي في المرتبة الأسمى وحدة الوجود ، أي أنّ الذوات أو الأشياء المخلوقة على كثرتها ليست إلا وجوداً  واحداً و ذاتاً واحدة  هو الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) حتى أن الصوفي يفنى فلا يرى نفسه ، وبالطبع لن يرى غيره ،لأنه  يرى الله فقط في كل شيء حوله .

2 ـ رغم ما واجهه الغزالي من إنكار فإنه لم يتخل عن عقيدته بل جعلها من مقامات التصوف عنده في كتابه ( إشكالات الأحياء ) الذي رد به على المنكرين عليه ، يقول في مقام المشاهدة : إنها ( ثلاثة : مشاهدة بالحق ، وهى رؤية الأشياء بدلائل التوحيد ، ومشاهدة للحق ، وهى رؤية الحق في الأشياء ، ومشاهدة الحق ، وهى حقيقة اليقين بلا ارتياب)[4]. فالمشاهدة الأولى : إسلامية ، والثانية : تعبر عن الاتحاد ، والأخيرة : عن وحدة الوجود المطلقة .

ثالثا  : وحدة الوجود في الإحياء

1 ـ استخدم الغزالي مهارته في الفلسفة والمنطق في شرح عقيدة وحدة الوجود ، ولم يتورع عن المغالطة . فهو أحيانا يجعل المخلوقات أفعالا لله ويخلط بين الأفعال والصفات الإلهية ثم يخلط بينها وبين الله ، وذلك كله كي يحقق وحدة الوجود بين الخالق والمخلوقات ، أى أنه ليس لله جلّ وعلا وجود منفصل مستقل عن المخلوقات ، بل يجعل الله جل وعلا هو (عين) المخلوقات ( تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) .  وأن هذه منزلة لا يدركها ولا يشاهدها سوى أولياء الصوفية المكشوف عنهم الحجاب ، أو اصحاب العلم اللدنى الذين يعلمون الغيب . يقول : ( فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره .. المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله تعالى ، و ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله تعالى وأفعاله ، فمن عرف الأفعال من حيث أنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره .. فكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله وبديع أفعاله ، فمن عرفها من حيث صنع الله تعالى فرأى من الصنع صفات الصانع كانت معرفته ومحبته مقصورة على الله تعالى غير مجاوزة سواه )[5]

أي أنه قصر الوجود على الله تعالى وأفعاله واعتبر العالم فعلا لله تتجلى فيه ذات الله باعتبار أن الفعل صفة لله. وتناسى أن صفات الله قائمة بذاته لا تنفصل عنه . لذا قال الله تعالى ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .الإخلاص1) أي في ذاته وصفاته ولم يقل ( كل هو الله واحد ) لأن ( أحد ) تمنع النظير في الذات والصفات معاً .

2 ـ  وهو أحياناً يخلط بين المخلوقات المخلوقة بقدرة الله تعالى والقدرة الالهية كصفة إلهية ، ثم يخلط بين الصفة الالهية وذات الله تعالى يقول ،( وجميع موجودات الدنيا أثر من أثارة قدرة الله تعالى ونور من أنوار ذاته ، بل لا ظلمة أشد من العدم ولا نور أظهر من الوجود ، ووجود الأشياء كلها نور من أنوار ذات الله تعالى)  [6] ).أي أن الموجودات هي قدرة الله ، وقدرة الله هي ذات الله فوجود الأشياء كلها من أنوار ذات الله تعالى ، حسب زعمه .

3 ـ ثم يخلط بين أفعال البشر وأفعال الله التي يجعلها صفات إلهية . ويرى ، أنها – أي الصفات – هي الأصل الذي تصدر عنه أفعال البشر ، يقول : ( والحداد يصلح آلات الحراثة والنجار يصلح آلات الحداد ، وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة ، والسلطان يصلح الصناع . والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم ، والعلماء يصلحون السلاطين ، والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام ومطلع كل حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف )[7].

فهنا تدرج يبدأ بالحداد والنجار وينتهي بالله – وليس ثمة فارق في النوع عنده وإنما الفارق في الترتيب ، إذ كل الموجودات صدرت عن الله وأفعالها ترجع في النهاية إليه حسب عقيدة وحدة الوجود ، التي تجعل الجمال الإلهي يشمل كل الكائنات ويبدو فيها وتعبر عنه ، يقول ( وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة ، وفي غاية الاستغراق والشمول حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض ، فصار ظهوره سبب خفائه ، فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر والإبصار بظهوره )[8].

  أي لأن الناس من غير الصوفية لا يقولون بهذا الرأي ولا يرون في مخلوقاته الظاهرة فقد خفي عنهم بشدة ظهوره في الموجودات ، وهم لا يرونه لأنهم محجوبون ، واستشهد الغزالي على ذلك بقول الشاعر الصوفي ) [9].

   لقد ظهرت فما تخفي على أحد           إلا على أكمه  لا يعرف  القمرا

   لكن بطنت بما أظهرت محتجباً           فكيف يعرف من بالعرف قد سترا

أما الصوفية فلا يرون في الوجود المادي والمعنوي إلا الله ، ولا يرون الله إلا في هذا الوجود أو بتعبيره ( فلم يروا في الكونين شيئا سواه، إن سنحت لأبصارهم صورة عبرت إلى المصور بصائرهم ).[10]

ولأن عقيدة وحدة الوجود لا ترى فارقا نوعيا بين الله والمخلوقات فقد مثّل الغزالي لنظريته وبرهن عليها بما في مظاهر الكون من كثرة وتعدد في الشيء الواحد ليطبق ذلك على الله باعتباره مع الكون المخلوق وجوداً واحداً .يقول عن الإنسان ( الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار ، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار ، وهذا كما أن الإنسان كثيراً إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه ، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد ، إذ نقول أنه إنسان واحد ، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنساناً لا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه وتفصيل روّحه وجسده وأعضائه ، والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق ، وكأنه في عين الجمع والملتفت إلى الكثرة في تفرقة ،فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة ، فهو باعتبار: واحد ، وباعتبارات أخرى سواه : كثير ).[11]

فهنا مقارنة بين الله والإنسان ، فكما أن الإنسان واحد لمن ينظر نظرة سطحية إلا أنه أيضا متعدد بأعضائه وجوارحه وخلاياه .. وكذلك يكون الله (واحدا) باعتبار و(كثيراً ) باعتبار آخر .. هكذا يبرهن الغزالي على وحدة الوجود متناسياً أن الله تعالى قال له (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  .. الشورى 11).

4 ـ وبعد المقارنة بالانسان يقارن الغزالى بين الله جل وعلا والجمادات ، كالشمس والماء ويقول : ( كما أن قوام نور الأجسام بنور الشمس المضيئة بنفسها ، ومهما انكشفت بعض الشمس فقد جرت العادة بأن يوضع طشت ماء حتى ترى الشمس فيه ، ويمكن النظر إليها ليكون الماء واسطة يغض قليلا من نور الشمس حتى يطاق النظر إليها ، فكذلك الأفعال واسطة تشاهد فيها صفات الفاعل ، ولا ننبهر بأنوار الذات بعد أن تباعدنا عنه بواسطة الأفعال )[12]

5 – ثم يتهرب الغزالي من الاستدلال على عقيدته بما جاء في كتاب الله ويعلن أن أسرار هذه العقيدة الدينية محظور أن تسجل في كتاب لأنها من ( الكشف )،أو الغيبيات التى هى مكشوف عنها للصوفية فقط ،  وأن من يفشى هذه الأسرار فقد كفر ، ثم أنها لا تتعلق بالفقه وأحكامه الدنيوية ، يقول : ( فإن قلت كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحداً وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً ؟ فأعلم أن هذه غاية علوم المكاشفة ( أى الغيب الذى لا يعلمه إلا الصوفية بزعمه ) ، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب ، فقد قال العارفون : إفشاء سر الربوبية كفر ، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة )  [13] . أي الفقه  .

6- ومن خلال ( وحدة الوجود ) نظر الغزالي إلى عقيدة الإتحاد ، والصوفي المتحد بالله ، فقصر تعريف الصوفي على من يؤمن بوحدة الوجود، و سبق  قوله عن الصوفية ( فلم يروا في الكونين شيئا سواه )[14]. وفي معرض حديثه عن شكر الله تعالى قال عن الصوفية (إن نظر بعين التوحيد المحض ( يعني وحدة الوجود ) ، وهذا النظر يعرفك قطعا أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب ،وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره ) ( ..فإذا نظرت من هذا المقام عرفت أن الكل منه مصدره ، وإليه مرجعه ، فهو الشاكر وهو المشكور وهو المحب وهو المحبوب ومن هنا نظر " حبيب بن أبي حبيب " حيث قرأ " أنا وجدناه صابراً نعم العبد أنه أواب " فقال : واعجباه أعطى و أثنى ، إشارة إلى أنه أثنى على إعطائه فعلى نفسه أثنى ، فهو المثني والمثنى عليه ، ومن هنا نظر الشيخ أبو سعيد المهيني حيث قرئ بين يديه ( يحبهم يحبونه ) فقال : لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق حبهم لأنه إنما يحب نفسه ، إشارة إلى أنه المحب وهو المحبوب ، وهذه رتبة عالية لا تفهمها إلا بمثال على حد عقلك : فلا يخفى عليك أن المصنّف إذا أحب تصنيفه فقد أحب نفسه ، والصانع إذا  أحب صنعته فقد أحب نفسه ، والوالد إذا أحب ولده من حيث أنه ولده فقد أحب نفسه ، وكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وصنعته فإن أحبه فما أحب إلا نفسه )[15].

  ومعنى ذلك أن الكافرين – وهم أيضاً صنعة الله – يتمتعون بحب الله باعتبارهم جزءا منه .. وهو خطأ ،لأن الله تعالى يقول لهم – مثلاً -  ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ .. غافر10) ، ولكن الغزالي – كما أسلفنا – لإيمانه بوحدة الوجود فلا يرى بأساً في تمثيل الله تعالى بالبشر . ثم يقول الغزالي ليربط بين الاتحاد الصوفي ووحدة الوجود والإيمان بها (.. وهذا كله نظر بعين التوحيد ، وتعبر الصوفية عن هذه الحالة بفناء النفس ، أي فني عن نفسه ، وعن غير الله  فلم ير إلا الله تعالى ، فمن لم يفهم هذا ينكر عليهم ) [16].

7 ـ ووحدة الوجود هي الأصل في عقيدة الحلول والاتحاد . والحلول هو اتحاد الله بالصوفي والاتحاد هو استغراق الصوفي في الله ، أي أن الحلول هو الصورة السالبة للاتحاد .. يقول الغزالي عن وحدة الوجود ( وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم ، وتارة تطرأ ، كالبرق الخاطف ، وهو الأكثر ، والدوام نادر عزيز [17]. ) وقد اصطنع الغزالي أسلوب القصص في الشرح  ..يقول مثلا : (كان إبراهيم بن أدهم سائرا في سياحته ، فسمع قائلا يقول :

                                    كل شيء منك مغفور سوى الإعراض عنّا.

                                      قد وهبنا لك ما فات  فهب  ما  فات  منّا .

فاضطرب و غُشي عليه فلم يفق يوماً وليلة ، وطرأت عليه أحوال ، ثم قال :ثم سمعت النداء من الجبل : يا إبراهيم كن عبداً . فكنت عبداً واسترحت ) .[18]. فإبراهيم بن أدهم سمع بزعمه شعراً اتحادياً فغاب عن طبيعته البشرية ( وطرأت عليه أحوال ) ثم ناداه ربه وأرجعه إلى بشريته فاستراح .. فهنا حلول استمر يوماً وليلة ...

8 ـ ويقرر الغزالى أنّ شعور الصوفي بحلول الله فيه يكون على قدر درجته وتحمله ، وهنا يفترق الشيخ الصوفى الواصل عن تلميذه المريد الصوفى الذى لا يزال فى بداية الطريق .يقول الغزالى  : ( حكي أبو تراب النخشبي أنه كان معجبا ببعض المريدين فكان يدنيه ويقوم بمصالحه .. فقال له أبو تراب مرة : لو رأيت أبا يزيد ؟ ( البسطامي ) فقال ( المريد ) : إني عنه مشغول. فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله : لو رأيت أبا يزيد هاج وجد المريد ، فقال : ويحك ، ما أصنع بأبي يزيد ؟ قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد ، قال : أبو تراب : فهاج طبعي ولم أملك نفسي ، فقلت :  ويلك تغتر بالله عز وجل ، لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة ، قال : فبهت الفتى من قوله وأنكره فقال : وكيف ذلك ؟ قال له : ويلك أما ترى الله  تعالى عندك فيظهر لك على مقدارك ، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره ، فعرف ما قلت فقال : أحملني إليه ) وتمضي الأسطورة فيموت المريد صعقاً عندما يرى أبا يزيد البسطامي ، ويفسر أبو يزيد البسطامى موت المريد بقوله ( كان صاحبكم صادقاً واستكن في قلبه سر لم ينكشف له بوصفه ، لما رآنا انكشف له سر قلبه فضاق عن حمله لأنه في مقام الضعفاء المريدين ، فقتله ذلك )[19].

أي أن حلول الله في المريد التلميذ يختلف عنه في الشيخ الاستاذ ، فالحلول درجات ، والصوفي إذا تحمل حلولاً فوق طاقته فقد يهلك أو يفقد عقله كما حدث في رواية أخرى سبكها الغزالي : ( روي أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسال الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته (أي عقيدة الصوفية في الاتحاد والحلول) ، ففعل ذلك ، فهام في الجبال وحار عقله ووله قلبه وبقى شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء ، فسأل له الصديق ربه تعالى فقال : يا رب أنقصه من الذرة بعضها ، فأوحى الله إليه : إنما أعطيناه جزءاً من مائة ألف جزء من ذرة المعرفة ، وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني فيه هذا ، فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا ، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته ، فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد فهذا ما أصابه عن ذلك ، فقال : سبحانك يا أحكم الحاكمين ، أنقصه مما أعطيته !!، فأذهب الله عنه جملة الجزء وبقى معه عشر معشاره .. فاعتدل خوفه وحبه وسكن وصار كسائر العارفين )[20].

وبهذا الافتراء الكاذب يحاول الغزالي أن يجد سنداً لعقيدة الحلول فيما زعمه من وحي كاذب ينسبه لله جل وعلا .والله سبحانه وتعالى يقول:  ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ... الأنعام 93 ) .

ثالثا :  تعقيب على الغزالي ووحدة الوجود

 

1 ) بالغت بعض الفلسفات في وثنيتها إلى درجة إنكار وجود الله تعالى .. وتطرفت فلسفات أخرى في الرد فادعت أن الله موجود في كل شيء أو أنه مصدر الوجود وأن الأعيان صور للموجود الأكبر يتراءى فيها .

 وكانت مصر والشام والعراق مراكز للفلسفات اليونانية والشرقية بمذاهبها المتعددة من وثنية وإلهية ، وقد سبق للفلسفة أن عمقت الخلاف بين المسيحيين حول طبيعة المسيح ، وأصبحت الفلسفة جزءاً من المسيحية ،وعند الفتح العربى خفُت صوت الفلسفة ثم استيقظ في صورة جدال احتدم بين المسلمين والمسيحيين في عصر المأمون ، وأضطر المسلمون لتعلم الفلسفة كي يردوا بها على المسيحيين الذين حذقوا أساليب الفلاسفة في الجدل والسوفسطائية . وكان يمكن لهم الإكتفاء بالقرآن الكريم ، وقد حوى كثيراً من الحوار مع أهل الكتاب ، إلا أنهم وقد تعلموا الفلسفة فقد وقعوا في هواها . وعملت الفلسفة على بعث المذاهب الدينية القديمة وأهمها وحدة الوجود ..

2 ـ   وقد تعلم  الغزالي الجدل والمنطق والحكمة والفلسفة وبرع فيها وصنّف كتبا. وأشرب حب الفلسفة ووجد صداها في التصوف بفلسفته الوجدانية الأفلاطونية الاشراقية، فآمن به وعلا به وجعله فوق الإسلام،  محاولاً التوفيق بين الحق والباطل متعللاً بشتى الحجج مستفيداً بالفلسفة وما أشاعته من أفكار خاطئة حظيت مع الأسف بالتسليم ، ومنها  أن الإسلام دين وسط بين الكفر وهو إنكار وجود الله ، والشرك وهو الإيمان بتعدد الآلهة .. يقول الغزالي ( التوحيد مسلك حق بين مسلكين باطلين ، أحدهما الشرك والثاني الإلباس ، وكلا الطرفين وسط ، والوسط إيمان محض وهو أحد من السيف وأضيق من خط الظل ، ولذا قال أكثر المتكلمين بتماثل إيمان جميع المؤمنين .. الخ ) [21].

وعجيب أن يشيد الغزالي برأي المتكلمين وهم أكثر الطوائف تعرضاً لنقمته وكراهيته في الإحياء.. ولكنه التأثر بالفلسفة وقد جمع بينهما ..

3) ونرد على الغزالي ووحدة الوجود بتقرير الحقائق التالية :

3/ 1 : عقيدة الإسلام – لا يمكن أن تكون وسطية أو فيها توسط فهي شهادة بأسلوب قصر – أي قصر الألوهية على الله تعالى وحده. وما عدا الله الحق من آلهة فهو باطل (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ) (يونس32). فعقيدة الاسلام ( لا اله ألا الله ) لا تحتمل الرأى الوسط بأي حال .. فإما إيمان كامل بالله المسيطر على كل شيء الذي لا شريك له من ولي أو رسول .. وإما شرك أو كفر. وقليل الشرك يحول الإيمان كله إلى شرك ، فإما إيمان كامل بالله وحده إلاهاً وإما كفر وشرك ،  فالمشركون كانوا يؤمنون بالله ولكنهم أشركوا فعبدوا معه الأولياء والوسائط فخرجوا عن عقيدة الاسلام ، ويؤنبهم الله تعالى في الآخرة بقوله ( ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا..) غافر12) . فهم لم يؤمنوا بالله إلا مع الآلهة والأولياء كوسائط فأصبحوا كفاراً .

3/ 2 : الشرك لا يختلف عن الكفر في المفهوم ودليلنا بالإضافة للآية السابقة قوله تعالى (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ... التوبة 17) . فاقترن اللفظان في أكثر من موضع بعبادة الله وعبادة الأولياء والأصنام و( الكفر) ومعناه التغطية والستر أي أنهم ستروا بشركهم عقيدة التوحيد التي فطر الله الناس عليها ..

3 / 3 : الإنسان في حقيقة أمره لا يمكن أن ينكر وجود الله والوهيته ، قد يتمسك بالشرك ولكنه إذا صدق مع نفسه لحظة لأيقن عبث وجوده بمعزل عن قدرة الخالق ، فالله هو الأساس في عقيدة البشر ، وكل ما هنالك أنهم نسوا عهد الله الأزلي فأشركوا وعبدوا معه الوسائط ، قال تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ...  الأعراف 172 ). فالبشر فطروا على الإسلام مذ كانوا أنفساَ قبل الوجود الحسي ، أو بمعنى آخر فطرهم على الحنيفية ({فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ... الروم 30) . وكل إنسان يولد على الفطرة مسلماَ ثم يتأثر بما وجد عليه آباءه وبالمجتمع فيتعرف على الشرك .

3/ 4 : ولا محل لإنكار وجود الله الذي أشاعته الفلسفة اليونانية جدلاً بغير حق . فلم يحاول القرآن مطلقاً أن يدلل على وجود الله، وإنما برهن على وحدانيته وعبث الإشراك به..

3 / 5 :عقيدة وحدة الوجود هى الأكثر كفرا ، ورأينا الغزالى وهو يخلط بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب، ويجعل في الإله صفات البشر الرذيلة والقبيحة على أساس وحدة الفاعل . يكفي أن جميع العقائد قالت بثنائية الوجود أو الوجود الإلهي والوجود المخلوق ، ووقعت العقائد الضالة فى الزعم بوجود شركة أو شركاء لله جل وعلا من البشر والملائكة ، ولكن مع المحافظة على ثنائية الوجود. إلا أن الصوفية خلطوا بين الوجودين وجعلوهما وجوداً واحداً أي وحدة الوجود ، فمحوا وجود الله جل وعلا وحصروه فى المخلوقات فقط . وهذا غاية في الشر والكفر إذا جعلوا الآلهة تتعدد بتعدد الموجودات من بشر وحجر وحيوان وجماد  ونبات وحشرات وهواء وماء وكل ما تقع عليه العين أو ما تشاهده ، أو على حد قولهم ( أنه الشاهد والمشهود ) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ...

ومشركوا قريش أهون حالاً ، فقد قالوا بالاتحاد فقط ، وقصروه على الملائكة حين اعتبروها بنات الله ، ونعى عليهم القرآن ذلك ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ، أمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ }الزخرف 15، 16 ) .

أما الصوفية فقد قصروا الاتحاد على أنفسهم ثم تكرموا مع الكون فأشركوه في الألوهية ، وجاء الغزالي ليقنعنا بأن ذلك هو التوحيد المحض الذي لم يرد في كتاب ومحظور أن تفشى أسراره ، وأن إسلامنا ما هو إلا الدرجة السُفلى الذي لا يليق إلا بالعوام .

وانتصرت دعوة الغزالي لأن الصراع بين عقيدتي الإسلام والشرك مستمر باستمرار التاريخ الإنساني ، ولكل عقيدة جولة ، وقد انتصر الإسلام بمحمد عليه السلام وسلم على أتباع الشرك وتمت نصرته بدولته ، ولكن لكل شيء إذا تم نقصان . وبدأت حتمية الصراع تفرض نفسها ، وعاد التصوف ممثلاً لأفظع أنواع الشرك العقيدى حاملاً رداء الإسلام واسمه ، يجعل عقيدة الاسلام ( لا اله إلا الله ) في الدرجة السُفلى ، وتم النصر له بزعامة الغزالي الذي أصبح لقبه ( حجّة الاسلام ) كأن الاسلام بالقرآن الكريم ظلّ بدون حجة الى أن ظهر الغزالى فى القرن الخامس الهجرى ليكون بزعمهم ( حجة الاسلام )، مع إنه فى الحقيقة :( حجة ) للتصوف و( عدو  الإسلام ) ..

أخيرا

وإذا كان الغزالى يؤله الصوفية ويجعلهم مع الله جل وعلا فى نفس المستوى ( يجلسون معه فى الحضرة الالهية ) فماذا قال الغزالى عن العبادات الاسلامية التى تعبّر عن عبودية المسلم لله جل وعلا ؟

لقد قال الغزالى بإسقاط التصوف للعبادات الاسلامية .!! ومنها فريضة الحج . موعدنا فى الفصل القادم .



[1]
الإحياء ، جـ 1/ 211: 212 .

[2] إحياء جـ4/ 22.

[3] إحياء جـ 4/ 227 : 228 ، 254، 266، 299، 305 ، 308 ، 309 ، 326 مجرد أمثلة .

[4] إشكالات الأحياء64

[5]  إحياء جـ 2 / 247 : 248 .

[6] إحياء جـ 4 / 370 .

[7] إحياء جـ4 / 104 .

[8] إحياء جـ 4 / 276 .

[9]  إحياء جـ 4 / 277 .

[10] إحياء جـ 2 / 236 .

[11] إحياء جـ 2/ 212 : 213.

[12] إحياء جـ 4 / 370 .

[13]  إحياء جـ 4 212 : 213 .

[14]  إحياء جـ 2 / 236 .

[15]  إحياء جـ 4 / 74 .

[16] إحياء جـ 4 / 74 .

[17] إحياء جـ 4 / 213 .

[18] إحياء . جـ 4 / 74 .

[19]  إحياء جـ 4 / 305

[20] إحياء جـ4 / 288

[21] إشكالات الإحياء : 77 .

 

الفصل الرابع  : الصوفية وإسقاط التكاليف (العبادات) الإسلامية :

أولا : فريضة العبادات بين الاسلام والتصوف

1- فرض الله تعالى على المؤمنين تكاليف تعبدية كالصلاة والصيام والزكاة  والحج والجهاد وذكره وتسبيحه ،إلى غير ذلك من فرائض يحقق بها المسلم تقواه ويجسد عقيدته الدينية القلبية فى صورة سلوك يأتمر بأوامر الله وينتهى عن نواهيه. والمسلمون سواسية أمام فرائض الله تعالى ،كل منهم يؤديها طالما إكتملت فيه شرائطها.. وأول المؤمنين إمتثالاً لأوامر الله تعالى هم الأنبياء.. بل ربما يُكلّف النبي فى العبادة لله مالا يطيقه المؤمن العادى ،وعلى ذلك فأكمل المؤمنين إيماناً هم أكثرهم لله طاعة، وبحساب الطاعة يكون الحساب الختامى لولاية العبد لله تعالى ..

 

 2- أما فى التصوف فالشأن مختلف .. فالعقل المجرد إذا أيقن أن الصوفية إدّعوا الأُولوهية انتظر منهم الخطوة التالية وهى إسقاط التكاليف الإسلامية ، فالمنطق يحتم ذلك ، فهذه التكاليف عنوان لعبودية المؤمن لله ، فلا تتفق بأى حال مع دعوى الأُلوهية الصوفية .. والصوفية كانوا صادقين مع أنفسهم وعقيدتهم فلم يتحرج المعتدلون منهم عن الدعوة لإسقاط التكاليف الإسلامية لأنها تتنافى مع عقيدة الإتحاد الصوفية.. وإن غلّفوا عباراتهم بشيء من الغموض وذلك شيء طبيعى ومنطقى فى مجتمع لا يتصور الإعلان عن إسقاط فرائض الله جلّ وعلا وشعائر دينه . من ذلك ما أورده الطوسى فى اللمع من أن الشبلى قال لرجل (تدرى لم لا يصح لك التوحيد) أى الاتحاد الصوفى (قال لا .قال : لأنك تطلبه بإياك)[1]. ويعني أنه يطلب الوصول لله تعالى ب(إياك نعبد وإياك نستعين) أي بالعبادة ،ومتى طلبه بالعبادة فلن يمكن أن يدعى الاتحاد بالله ، إذ كيف تصلى الآلهة لبعضها، وهل يتصور أن يخصع إله لإله؟؟.

 

ثانيا : الغزالى ومحاولة التوفيق بين دين الاسلام وإسقاط التكاليف الاسلامية عند الصوفية

 

1 ـ والأمام الغزالى وضع كتابه ( إحياء علوم الدين ) ليعقد صلحا بين الاسلام والتصوف ، ولهذا الهدف قام بتأويل الآيات القرآنية وإفتراء الأحاديث ، وجعل هذا التوفيق لصالح التصوف ،فكان يقرّر عقيدته الصوفية بين سطور كتابه ( إحياء علوم الدين ) مستخدما مصطلحات التصوف الخاصة فى تأليه الصوفية أنفسهم . وقد واجهته مشكلة ( أسلمة ) عقيدة الصوفية فى إسقاط التكليف الاسلامية ، وهى التى يؤمن بها الغزالى نفسه . فكيف قام بالتوفيق بينها وبين الاسلام الذى يتستّر به.؟  .

منهج الغزالى أنه كان ينكر ويندد بمن يعلن هذا من شيوخ التصوف فى عصره ـ، بينما يقوم هو بتقرير نفس العقيدة فى كتابه ( الاحياء ) مستخدما المصطلحات الصوفية وشتى التعليلات والتخريجات ، والتأويل وصنع الأحاديث ( النبوية )، ومعظم أحاديث الغزالى فى كتابه ( الاحياء ) لا أصل لها ، كما يؤكّد العراقى الفقيه الّسّنى الذى قام بتخريج الأحاديث فى ( الاحياء ) وعرضها على ميزان النقد والجرح والتعديل طبقا لمناهج أهل الحديث . ومعناه أن تلك الأحاديث التى أسرف الغزالى فى الاستشهاد بها لم تكن موجودة من قبل ، أى هو الذى إفتراها .  

2 ـ فالغزالى كان ينكر على أوباش الصوفية فى عصره دعوتهم لإسقاط الفرائض. يقول (ظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل ، وبعد الوصول يستغنى عن الوسيلة والحيلة ،فتركوا السعى والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلّهم ( أى مكانتهم وقدرهم ـ فى معرفة الله  تعالى عن أن يمتهنوا بالتكليف ( أى أن يذلّوا بالعبادة ) ، وإنما التكليف على عوام الخلق)[2].  وبعضهم (عجز عن قمع صفاته البشرية بالكلية) أى عجز عن إخماد الطبيعة البشرية فى داخله   وعجز عن أن يكون إلهاً متحداً بالله (فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع فى الإلحاد)[3].  أى أن الأولون (وصلوا) بتعبير الغزالى. أى وصلوا لدرجة الأُلوهية فأعلنوا أن التكليف سقط عنهم إذ هو على عوام الخلق ،أى البشر المخلوقين، والآخرون لم يصلوا للأُلوهية فادعوا أن السبب يكمن فى الشرع وتكليفه فأعلن أنه لا أصل للشرع  وأنه تلبيس واعتبر الغزالى ذلك الصنف ملحداً.

ومعنى ذلك أن الدعوة لإسقاط التكاليف قال بها الصوفية جميعاً فى عصر الغزالى، سواءٌ منهم من اعتبره الغزالى صوفياً واصلا  أم من إعتبرهم فى بداية الطريق ، ويعنى ذلك أيضاً أن دعوتهم هذ قوبلت بسخط  الناس وإنكارهم فى عصر الغزالى ، فرأى الغزالى أن يبادر بالإنكار عليهم حفظاً للدين الصوفى من أعدائه الفقهاء الحنابلة .

3  ـ إلا أن الغزالى فى نفس الكتاب ( الاحياء) يقرر عقيدته الصوفية الرامية لإسقاط التكاليف الإسلامية عن الصوفى الواصل ، وذلك بأسلوب ملتو غير مباشر كالشأن به دائماً فى مواضيع التصوف فى كتاب الاحياء ، يقول مثلاً : ( ليس يخفى أن غاية المقصود من العبادات الفكر الموصل للمعرفة والاستبصار بحقائق الحق)[4]. وخطورة هذه العبادة تتجلى فى أن الفقيه العادى يقرأها بطريقة حسنة النية فلا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً ، أما قراءة الصوفى – والخطاب موجه إليه أساساً ـ   فيرى فيها تقريراً كاملاً لإسقاط التكاليف الإسلامية ، فالصوفى يفهم أن غاية العبادات هى المعرفة ، والمعرفة هى عندهم الاتحاد الصوفى بالله جلّ وعلا . ( والاستبصار بحقائق الحق )  أى معرفة الأسرار الإلهية اللدنية، أى العلم اللدنى الالهى الذى يزعمون أنه يأتى لقلب العارف الصوفى بالفيض من الله جل وعلا مباشرة حيث يخاطبه الله ويخاطب هو الله بلا واسطة  ، وهذا فرع من عقيدة الاتحاد بالله عندهم . ومعنى ذلك أن الغاية ( وهى المعرفة الصوفية) إذا حصلت للصوفى بجذبة إلهية مثلاً فقد استغنى عن الوسيلة( وهى العبادات) .

3 ـ وفى مواضع أخرى من كتاب ( الاحياء) تعرض الغزالى لعقيدة الصوفية فى بإسقاط  التكاليف الإسلامية  فضرب الأمثلة للتوضيح ، يقول : ( قيل لعبد الواحد بن زيد : ههنا رجل قد  تعبّد خمسين سنة . فقصده ، فقال له : يا حبيبي أخبرنى عنك ،هل قنعت به ؟ قال. لا . قال: هل أنست به ؟ قال : لا. قال : فهل رضيت عنه ؟ قال : لا . قال: فإنما مزيدك منه الصوم الصلاة؟     قال : نعم ، قال :  لولا أن استحي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة) ، أى مغشوشة، ويشرح الغزالى هذه القصة فيقول أن المعنى أنه قال له :  ( إنه لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب ، وإنما أنت تُعدّ فى طبقات  أصحاب اليمين لأن مزيدك منه فى أعمال الجوارح التى هى مزيد أهل العموم)[5].  فهذه  قصة وهمية جعلت عبادة خمسين عاماً لاغية عند الصوفى عبد الواحد بن زيد ، لأن صاحبها لم يستشعر المقامات الصوفية الإتحادية من الأُنس والرضا والقرب، أو بتعبير الغزالى فقد حرمت  صاحبها من الترقى فى درجات القرب حتى يصل للإتحاد بالله جل وعلا والوصول الى أن يكون من ( أهل الحضرة ) أى الجلوس مع الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، لذا فإنّ منتهى أمر هذا العابد بعد خمسين عاما من العبادة أن يكون من أصحاب اليمين ( التى هى مزيد أهل العموم) أى عموم الخلق الذى لا عمل لهم إلا القيام بالعبادات الإسلامية ،أما الصوفية فهم ـ  بلا عبادة وبلا تكليف ـ  يتمتعون بالقرب من الله والأُنس بالله والمناجاة  مع الله والعشق الالهى ـ  تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا ..

ويلفت النظر هنا أن الغزالى احتج على أولياء عصره مقالتهم بأن التكليف بالعبادات على عوام الخلق فقط وليس عليهم ، وجاء هنا فى قصة عبدالواحد بن زيد فعلّق على العبادات والقائمين بها بأنها ( أعمال الجوارح التى هى مزيد أهل العموم ) فالمعنى واحد . والغزالى يقع دائماً فى التناقض مع نفسه وبإختياره ،. كى يحقق الصلح المستحيل بين الإسلام والتصوف ، فيضطر للإنكار على معاصريه من الصوفية ثم يعود ويقرر ما أنكره أو يؤكد ما ينفيه .

4 ـ  وفى موضع آخر يتحدث الغزالى عن التصوف وأعمال الباطن المزعومة ، ثم يعرض للتكاليف الإسلامية والعبادات ، فيقول ( فأما ما ذكرناه ، فهو تفكر فى عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال ، فإذا ضيّع جميع عمره فى إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب؟ !!. ولذلك كان الخوَاص يدور فى البوادى فلقيه الحسين بن منصور ( الحلاج) وقال : فيما أنت؟ قال: أدور فى البوادى أصلح حالى فى التوكل ، فقال الحسين : أفنيت عمرك فى عمران باطنك ، فأين الفناء فى التوحيد؟؟.  فالفناء فى الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين . وأما التنزّه عن الصفات المهلكات فيجرى مجرى الخروج عن العدة فى النكاح ، وأما الاتّصاف بالصفات المُنجّيات وسائر الطاعات فيجرى مجرى تهيئة المرأة جهازها وتنظيفها وجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها . فإن استغرقت جميع عمرها فى تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجاباً لها عن لقاء المحبوب . فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ، وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفاً من الضرب وطمعاً فى الأجر فدونك وإتعاب البدن  بالأعمال الظاهرة ، فإن بينك وبين القلب حجاباً كثيفاً، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ، ولكن للمجالسة أقوام آخرون)[6].  

فالغزالى يظهر هنا على حقيقته كصوفى قح .. فهو ينظر بإحتقار إلى العبادات الاسلامية وطاعة الأوامر والنواهى الإلهية من خلال عقيدته الصوفية بالاتحاد بالله جلّ وعلا ، ومسمياتها الصوفية التى تساويهم بالله ، طبقا للرجس القائل عندهم بالعشق الالهى الذى يساوى بين الخالق والمخلوق ، ويستعمل مصطلحات العشق الالهى الصوفية من القرب والوصال والفناء والمجالسة والحجاب . ويبدأ النص بالغزالى وهويطرح سؤالاً صوفيا يقول : إذا ضيع الإنسان عمره فى إصلاح نفسه بالطاعة فمتى يتنعم بقرب الله تعالى؟  أو بالتعبير الحقيقى إذا أضاع عمره فى الطاعة فمتى يتنعم بالألوهية؟ واستشهد ـ  ليس بالقرآن وإنما بقصة صوفية عن الحلاج كان فيها الحلاّج يشرع للخواص أسهل الطرق للوصول للتأليه أو الاتحاد الصوفى بالله ، وأنها ليست بإصلاح الحال أى بالأعمال الصالحة، وإنما بالفناء فى التوحيد أى الاستغراق فى الألوهية باعلان عقيدة الاتحاد والفناء فى الذات الإلهية ، فذلك ( هوغاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين) حسب قول الغزالى. ثم يصف الغزالى أعمال الطاعات بأنها تجرى ( مجرى تهيئة المرأة جهازها وتنظيفها وجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها) ، أى كالعروس التى تتجهّز لليلة الدُخلة ، ويصف الإنتهاء عما نهى الله عنه بأنه كخروج المرأة ( عن العدة فى النكاح) باستبراء الرحم من شبهة الحمل . فإذا ظلت العروس تجهّز نفسها لليلة الدخلة فمتى ستتمتّع بلقاء حبيبها ، يقول ( فإن استغرقت جميع عمرها فى تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجاباً لها عن لقاء المحبوب) .

5 ـ  ومع بشاعة التشبيه الجنسى الذى قاله الغزالى فى وصفه العلاقة بين الله جل وعلا والبشر ، ومع بشاعة التشبيه للتكاليف الإسلامية فإنه يعكس نفسية الصوفية ونظرتهم لله تعالى ونظرتهم لأنفسهم كألهة يستحقون المساواة بالله ويعشقونه ( والعشق لغويا يعنى اللقاء الجنسى ) ، أى إنهم لا يرون لأنفسهم مقاماً إلا مجالسته وقربه والفناء فيه وعشقه ( تعالى عن ذلك علواًكبيراً).

 والغزالى لا يكتفى بذلك وإنما يعتبر التكاليف الإسلامية التى تعنى تطبيق العبودية لله تعالى ـ  حجاباً ومانعا يمنع الوصول لدرجة المجالسة مع الله والجلوس معه فى الحضرة الالهية ، فإذا أضاع الصوفى عمره فيها فقد حجب عن لقاء المحبوب يقول ( فإن استغرقت المرأة جميع عمرها فى تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجاباً لها عن لقاء المحبوب ، فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ) أى الذين يجلسون مع الله .

ولا يكتفى الغزالى بذلك ، بل يصف الأنبياء والرسل وأتباعهم المؤمنين بأنهم ( عبيد سوء ) لأنهم اتعبوا أنفسهم  بالعبادة خوفاً من النار وطمعاً فى الجنة .. وأولئك إن افلحوا فمصيرهم الجنة، وليس لهم نصيب فى الجلوس فى الحضرة الالهية . أمّا الصوفية فلا يأبهون بالجنة ونعيمها ولا بالنار وعذابها ، لأنّ مرادهم الالوهية وألّا يتم حجبهم عن مجالسة الله والعشق الالهى بالمحبوب ..يقول الغزالى : ( فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ، وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفاً من الضرب وطمعاً فى الأجر فدونك وإتعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب  حجاباً كثيفاً، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ولكن للمجالسة قوم آخرون )..

والغزالى اختار لفظ (العبد) عمداً، فالطائعون (عبيد) لله و( عباد الرحمن ) أما الصوفية فهم  آلهة ينزعون للإتحاد بالله ويعتبرونه نداً يجالسونه ويفنون فيه عشقا واتحاداً به .. طريق اتحادهم يكمن فى القلب ،إذ بالقلب أوبالروح يتلقى الصوفى العلم الإلهى ويعلم الغيب وتكون الجذبه الإلهية ،و يصف الغزالى المؤمنين (عبيد السوء)بأن بينهم ( وبين القلب حجاباً كثيفاً)..وذلك الحجاب الكثيف هو الطاعة لله بأداء فرائضه والإنتهاء عن نواهيه..أى ان الفرائض الإسلامية حجاب عنده !!

 

ثالثا : الشعرانى وتسويغ إسقاط التكاليف فى العصرين المملوكى والعثمانى

 

1 ـ  وأتاح العصر المملوكى الفرصة للهرب من أداء التكاليف الشرعية ، فالصوفى يحظى بإعتقاد الناس فى كراماته وإن الأرض تُطوى له بخطوة ، أو أنه يتطور أو يتشكل فى صور متعددة ، ومن كان هذا شأنه سهل تصديقه ـ  وهو مصدق صدوق عندهم ـ  بأنه كان يصلى فى مكة أو القدس أو نحو ذلك ، مما سهل الطريق نوعاً ما على إمام التصوف الشعرانى فى القرن العاشر الهجرى ، فهب يدافع عن المقالة الصوفية الشهيرة التى سادت فى العصر المملوكى تزعم أن السالك الذى يصل إلى مقام الاتحاد يرتفع عنه التكليف ، ويفسرها الشعرانى بأنه يسقط عنه التكليف بأداء العبادات بمعنى ألّا تكون العبادة مُرهقة له أو مُملّة له ، يقول الشعرانى : ( قول بعض العارفين أن السالك يصل إلى مقام يرتفع عنه التكليف مرده بهذا التكليف ذهاب كُلفة العبادة فلا يصير يملّ منها .). ثم يؤكّد هذا التأويل بما شاع فى عصره من الاعتقاد فى كرامات الأولياء بحيث يتنقّل أحدهم فى لمح البصر من مكان الى مكان ، أو ما يُعرف بالطى للمكان ، فيصلّى حيث شاء من الأرض بلا مشقّة ، يقول : ( ومن عباد الله من لا يصلى الصلوات الخمس إلا بمكة ، ومن لا يصليها إلا ببيت المقدس ، ومنهم من لا يصليها إلا بالمدينة المشرفة ،ومنهم من لا يصليها إلا بجبل قاف ، ومنهم من لا يصليها إلا فى قبة أرين أو فوق سد اسكندر أوعلى الجبل المقطم [7]. ).  وهكذا ، فسيطرة التصوف أتاحت للشعرانى أن يؤول (سقوط التكليف) بأنها سقوط كلفة العبادة ومشقتها حيث يتمتع الصوفى بكراماته المزعومة بسفر سعيد ومريح وبسرعة الضوء إلى أماكن خاصة يؤدى فيها الفريضة بعيدا عن الناس ، ثم يعود بسرعة الضوء أيضا ، وكأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال فى عينيه .

 

أخيرا : لمحة للتذكير :

 1 ـ هذا. ونتأهب فى هذا الباب لبحث الشعائر الدينية التى ارساها دين التصوف فى العصر المملوكى ،وكيف تعامل مع فريضة الحج . ونعيد التذكير بإنّ الحج كالصلاة وباقي شعائر الإسلام ، ليست فرضاً استحدثته رسالة الإسلام الخاتمة بل أن القرآن آخرالكتب السماوية يؤكد أن التشريع الإلهي واحد في أساسياته (الشورى13) كما أن الوحي للأنبياء جميعاً متفق في الإجمال(النساء163،فصلت43،الزمر65). وبينما اندثرت الكتب السماوية القديمة وأهلك الله تعالى الأمم السابقة،فإن ابراهيم عليه السلام يمثل مرحلة متميزة في تاريخ الأنبياء، فقد تناسلت من ذرينته أمة العرب المستعربة وأمة بني إسرائيل، وقد جاء منهم الأنبياء وأنزل الله فيهم الرسالات ، ثم ختمت الرسالات السماوية بالقرآن وكان محمد خاتم النبيين عليهم السلام . والرسالات السماوية التى نزلت في أبناء ابراهيم من الأنبياء كانت تدعوهم للتمسك بملة ابراهيم حنيفاً ، أى إسلام القلب والوجه والعقيدة لله تعالى وحده وتأدية العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج لله تعالى مخلصاً له الدين . وهذا ما يؤكده القرآن  كلمة الله تعالى الأخيرة – للبشر،حين يأمر النبي والمؤمنين وأهل الكتاب وجميع البشر باتباع ملة ابراهيم حنيفاً(البقرة:135 ،آل عمران95 ، النساء 125،الأنعام 161)، وكان الحج للبيت الحرام أهم معالم ملة ابراهيم .فابراهيم هو الذى أرشده الله تعالى لمكان البيت وأمره أن يطهره مما حوله من الأوثان وأن يدعو الناس جميعاً للحج إليه (الحج26)(البقرة125). وأكد القرآن على أن الحج للبيت فريضة عامة على كل البشر،إذ أنه أول بيت وضعه الله تعالى للناس وعلى الناس جميعاً الحج إليه (آل عمران96-) وقد جعله الله تعالى مثابة للناس وأمناً(البقرة125) والحج إليه واجب على جميع البشر،سواء من كان مقيماً في مكة.. او كان يقطع البوادي سفراًإليها(الحج25).

2 ـ وكان سكان الجزيرة العربية من أميين(لم ينزل عليهم كتاب سماوي) ومن أهل كتاب (كاليهود والنصارى ) يحجون إلى البيت الحرام.إلا أن العرب ما لبثوا أن قدسوا الأولياء وأقاموا لهم الأنصاب (الأضرحة) والأصنام   وزحفت تلك الأصنام إلى البيت الحرام ، حيث كانت لكل قبيلة صنم يمثلها عند الكعبة،وأصبح الحج لبيت الله البيت الحرام حجاً لتلك الأصنام المقدسة،هذا بالإضافة إلى كعبات أخرى أو موالد أخرى أقيمت في مناطق متفرقة. وأصبح لهذا التدين مصالح تجارية وأجتماعية وعلاقات متشابكة.وهذا ما نزل القرآن لإصلاحه داعياً للعودة إلى ملة ابراهيم الحنيفية،بأن تكون العقيدة والإيمان والعبادات والأخلاق خالصة لله تعالى وبلا تقديس لبشر أو حجر.ونجح خاتم النبيين أخيراً في العودة بالعرب إلى ملة ابراهيم في الصلاة والصيام والحج والزكاة.. ولكن مالبث أن عاد التواتر القرشى الجاهلى بعد موت النبى عليه السلام ، وتم تشريعه فى الدين السّنى كما سبق تفصيله . 

3 ـ وظهر دين التصوّف فكانت له طقوسه النابعة من عقيدته فى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والحقيقة المحمدية . وتأثرت بهذا فريضة الحج  عندهم .فالحج لم ينج أيضاً من عبث الصوفية .

والموقف الصوفي من فريضة الحج تفرع إلى ثلاثة أتجاهات،يكمل بعضها بعضاً :

أولاً : دعوة الصوفية لإهمال الحج الإسلامي والتهوين من شأن الكعبة ،

ثانياً: تشريع الحج الصوفي للأولياء الأحياء والأضرحة ،بنفس شعائر الحج الإسلامي تقريباً،

وثالثاً: التحوير في فريضة الحج الإسلامية بما يتلائم مع دين التصوف .

ويلاحظ أن موقف الصوفية من الحج يتناغم وموقفهم من الصلاة.. فهم أهملوها وحوروها وشرعوا لهم صلاة.. وصلاتهم للأولياء أو توسلهم بالأولياء يعني الاتجاه للولي بالزيارة والحج، فنظراَ لتعدد الأولياء وتواجد كل منهم في مكان فإن الصلاة لا تحلو  للصوفي إلا بين يدي الولي حياً أو مقبوراً في ضريح .. وهنا تتلازم عندهم فريضتا الحج والصلاة.. أو الزيارة والتوسل.. وتقوم (الموالد) الصوفية بالجمع بين الفريضتين (الصلاة والحج)أو(الزيارة والتوسل) ..والزيارة هى الحج،فالحج يعني في اللغة القصد (حج البيت أى قصد البيت ويقال حجيت الموضع أحجه حجاً إذا قصدته،ثم سمي السفر إلى البيت حجاً دون سواه)[8]أو(الحج في الأصل:القصد وفي العرف قصد مكة للنسك)[9]..

وإذا كانت زيارة البيت الحرام في وقت معين يسمى حجاً فإن زيارة الأنصاب والأضرحة في وقت معين والتمسح بها وإقامة الشعائر حولها بما يتشابه وشعائر الحج لا تفترق عن حج المسلم للكعبة..من حيث القصد والتقديس والعبادة ..

وهذا ما كان معمولاً به في العصر الجاهلي .. حيث حرفوا في نسك الحج مع قيامهم به منذ دعوة ابراهيم عليه السلام في نفس الوقت الذي قاموا فيه بالحج إلى الأنصاب والبيوت المعظمة في أوقات معلومة..

وأعاد التصوف هذه الجاهلية، إذ دارت الحياة الدينية فيه حول القبور المقدسة ؛بالصلاة والحج اليها .

وموعدنا الآن مع تفصيل ذلك كله..



[1]
اللمع 53.

[2]احياء جـ 3 /199.

[3]احياء جـ3/199

[4]احياء جـ 3 /73.

[5]احياء جـ4 /299.

[6]احياء جـ4 /367: 368.

[7]اليواقيت والجواهر153

[8]أبو بكر السجستانى * القرآن 73 نشر صبيح .

[9]الرازى .مختار الصحاح     (حج).

 

الفصل الخامس :( دعوة الصوفية لتحقير الكعبة )

أولا : إستنكاف الصوفية من التوجه للكعبة في الصلاة:

1ـ يقول ابن عربي (اتفق المسلمون على أن التوجه للقبلة شرط من شروط صحة الصلاة ، ولولا أن الإجماع سبقني في هذه المسألة لم أقل أنه شرط .! )[1].  أى أنه لولا إجماع المسلمين على التوجه للكعبة في الصلاة لما سلم ابن عربي بهذا الشرط في الصلاة ، ففي كلام ابن عربي رائحة تشكيك حين يقول ( اتفق المسلمون) و (الإجماع) فهو يوحي بأن التوجه للقبلة في الصلاة جاء شرعا من اتفاق المسلمين واجماعهم وليس مصدره الشرع القرآني .

والتوجه للكعبة جاء أمراً صريحاً للنبى عليه السلام والمؤمنين في القرآن الكريم ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )( 144) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )(150) البقرة ) .  وطبق الرسول عليه السلام ذلك الأمر وتبعه المسلمون .ثم جاء ابن عربي فى القرن السابع الهجرى ليتجاهل هذه الآيات الصريحة، ولينزل بدرجة التشريع في التوجه للكعبة إلى مجرد الإجماع ، ولولاه ما اعتبر الكعبة محلاً للتوجه في الصلاة ..

2- والشعراني – في العصر المملوكي – يتابع استاذه ابن عربي في محاولة التشكيك في الكعبة كقبلة للصلاة، يقول وهو ينسب الرأى لشيخه الخواص ( وكان الخواص أميا لا يقرأ ولا يكتب ) : ( وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول مراراً : الإنصراف عن الصلاة إلى أى جهة شاء خاص بالأكابر الدائرين مع الأمر لا مع العلل ، فإذا رجّح الشارع بقعة قلدناه في ذلك ونسخنا ما في عقلنا ، وتأمل لو قال إنسان أن بقعة الكعبة كآحاد البقاع لا شرف لها مع غيرها ، كيف يخطّئه المسلمون كلهم )[2].

فالشعراني يرى أن من حق الأكابر – وهم عنده الأولياء الصوفية – أن  يصلّوا إلى أى جهة شاءوا دون التقيد بالقبلة . أما صغار الصوفية فمضطرون للتقليد والتوجه للكعبة ومخالفة العقل – عقلهم، الذى يرى ان الكعبة لا تشرف على غيرها من بقاع الأرض،وحرصاً منهم على ألا يخطئهم اجماع المسلمين..

3 ـ والطريف أن الصوفية يتمسحون بالعقل حين يرفضون تميّز الكعبة بالشرف على غيرها.. ومعلوم أن الصوفية دائماً ينبذون العقل ، فكيف يحتج به الشعراني حين يقول (فإذا رجح الشارع بقعة قلدناه في ذلك ونسخنا ما في عقلنا، وتأمل لو قال إنسان.. إلخ)..

والعقل الذي ظهرت أهميته فجأة للشعراني لا يوافق الصوفية على هواهم إذا كان عقلاً إسلامياً، فالعقل الإسلامي يستجيب لأمر الله تعالى دون لجاج أو جدال ، ويؤمن ويصدق بإخلاص شرف الكعبة كبيت لله تعالى وكحرم اختاره وفضله على سائر بقاع الأرض.. فهى كذلك طالما قال سبحانه وتعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)المائدة97) (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) النمل91 ). والعقل الإسلامي يرفض أن يكون صاحبه ممّن يصد الناس  عن بيت الله الحرام في الصلاة والحج،ويتعرض لعقوبة رب العزّة جل وعلا، وهو القائل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج )   

 

4- والواقع أن التشكيك الصوفي ضد اتخاذ الكعبة قبلة في الصلاة يحركها حقد صوفي دفين ، ينقم على الكعبة أن تكون – دون الولي الصوفي – محل إتّجاه الناس. فالشيخ الصوفى يتمنى ان يتوجه اليه الناس بصلاتهم وليس نحو الكعبة، والمريد الصوفي يتمنى لو يتوجه بصلاته إلى شيخه وليس للكعبة ، ويرى في إرغامه في الاتجاه للكعبة عائقاً عن بلوغ الغاية في تقديس الشيخ ،ويتضح ذلك من قول أبى العبّاس المرسي : ( لو كان الحق سبحانه وتعالى يرضيه خلاف السّنة لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى من التوجه إلى الكعبة)[3]. ( المرسى أبو العباس ) هنا جعل التوجه للقطب الصوفي أولى في الحقيقة من التوجه للكعبة، وعلل الإتجاه للكعبة بأنه مجرد متابعة للسنة . إنّ الأمر بالإتجاه للكعبة ورد في القرآن الكريم ، بيد أنّ  ابا العباس المرسى يتابع ابن عربي في التهوين من أدلة التشريع قي إتخاذ الكعبة قبلة . والمرسي يعنى نفسه في مقالته الآثمة تلك في الاتجاه بالصلاة إلى القطب الغوث ، فقد كان يزعم إنه هو القطب الغوث .!! أى يريد أن يتوجّه الناس اليه فى الصلاة بدلا من الكعبة ، لولا ( السّنة ) حسب زعمه . وقد ذكر ابن عطاء تلميذ أبى العباس المرسى في ترجمته ما يؤيد ذلك.. يقول ابن عطاء فى كتابه ( لطائف المنن ) الذى كتبه فى مناقي المرسى والشاذلى  : ( واخبرني الشيخ نجم الدين أيضاً قال: قال لي شيخي : إذا لقيت القطب فلا تصلين وهو وراءك،فجئت يوماً إلى أبي العباس وهوبالإسكندرية عند صلاة العصر فلما دخلت عليه قال: أصليت العصر قلت: لا ،قال: قم فصل. وفي المكان الذي هو فيه إيوانان قبلي وبحري، وكان الشيخ جالساً في البحري ، فلما قمت لأصلي ذكرت ما قاله شيخي إذا لقيت القطب فلا تصلين وهو ورائك وعلمت أني إذا صليت كان الشيخ وراء ظهري، فأقام الله بقلبى حاله، وقلت حيثما كان الشيخ هناك القبلة، فتوجهت ناحية الشيخ واردت أن أكبِر،فقال الشيخ : لا،هو لا يرضيه خلاف السنة)[4].، أى تواضع المرسى أبو العباس ورفض أن يتوجه اليه مريده بالصلاة لأنّ ذلك يخالف ( السّنة ).!!

 

ثانيا  حقدهم على الكعبة والطواف بها في الحج :

 

1- في الوقت الذي يعتبر فيه الصوفية شيخهم مستحقاً للتقديس  وقبورهم موضع العبادة، وفى الوقت الذى يدعون فيه الناس لتقديس شيوخهم وقبورهم المقدسة فإنهم من واقع هذه العقيدة يحقدون على الكعبة ويعتبرونها وثناً منافسا لهم ، يستأثر من دونهم باتجاه الناس إليه وطوافهم حوله . والمرسي أبو العباس صاحب القول السابق في أحقية القطب بالاتجاه إليه في الصلاة ، يقول للحجّاج المتوجهين للكعبة : ( إذا وصلتم إلى مكة فليكن همكم رب البيت لا البيت، ولا تكونوا ممن يعبد الأصنام والأوثان ) [5]...

بيد أن هذا المعنى أصيل في العقيدة الصوفية أورده الجنيد – المشهور بالاعتدال – ضمن قصة ــ وأسلوب القصص من طرق التشريع الصوفي ــ  فالجنيد يحكي أن امرأة مجهولة قالت له حين الطواف (أنت تطوف بالبيت أم برب البيت ؟ قلت : أطوف بالبيت، فرفعت رأسها للسماء وقالت : سبحانك سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك ، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار ، ثم انشأت تقول :

يطوفون بالأحجار يبغون قربة

                                       إليك وهم أقسى قلوباً من الصخر

وتاهوا فلم يدروا إليه سيرهم

                                            وحلوا محل القرب في باطن الفكر

فلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم

                                             وقامت صفات الود للحق بالذكر..

 

قال الجنيد: فغشى على من قولها،فلما أفقت لم أرها)  [6].

وبهذه الأقصوصة الخيالية يشرع الجنيد – سيد الطائفة الصوفية عندهم – أن الحج للكعبة هو تقديس للأحجار وأن الأفضل منه أن يعمر الباطن بالتصوف، وتفنى فيه الصفات البشرية لتقوم مكانها صفات الحق  ويتحقق الرجل بالله، ويصبح الاها حسب المعتقد الصوفى فى الاتحاد بالله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) وبالتالى فلا داعى للحج أو أى عبادة ، وطالما إنّحد بالله فيستغني عن الكعبة وغيرها، وكيف يحج للكعبة حينئذ وقد أحيا الألوهية في داخله حين زال الحجاب عن بشريته وتحقق بالحق؟؟ على زعمهم.!!

2- ولمجرّد التذكير ، نكرر ونؤكّد على الآتى :

2 / 1 : إنّ الله سبحانه وتعالى -  هو وحده -   المشرع في دينه، و المؤمن مطالب بالطاعة السريعة لكل أوامر الله تعالى حتى لو عجز عن فهم المقصود منها ، فيكفيه أن الله تعالى أمر بذلك فيسارع بالطاعة. بذلك يلتزم كل مؤمن وكل المؤمنين ، وأولهم الملائكة. فالله سبحانه وتعالى ينهى عن السجود لغيره ، ومع ذلك اختبر الملائكة فأمرهم بالسجود لآدم فسجدوا أجمعين.وسجودهم ليس لذات آدم أو شخصه وإنما إطاعة لأوامر الله تعالى . والله جلّ وعلا  ينهى عن قتل الأبناء ، ومع ذلك أمر ابراهيم عليه السلام بقتل ابنه. وجاء الأمر فى صورة منامية غير مباشرة .إلا أن ابراهيم سارع مع ابنه اسماعيل – عليهما السلام – بتنفيذ الأمر، وكان الفداء ، ونجح الوالد والولد فى إختبار الطاعة.

والله تعالى اختبر عباده بالفرائض كالصلاة والصيام واختبرهم بالنواهى ..وغيرها ، وغاية المؤمن أن يسارع بالطاعة انصياعا لأمر الله تعالى وحباً فيه .. ومن ذلك أن الله تعالى أمر ألا يقدس غيره ومع ذلك أمر أن يطاف حول موضع معين فى الأرض ،والمؤمن مطالب بالطاعة حتى لو خفى عليه –إلى حين – الحكمة فى الأمر.. هذا شأن المؤمن . وقد عصى إبليس ربه ورفض الأمر بالسجود لآدم : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) الإسراء )،وجادل ابليس وأبى واستكبر ، فحقت عليه اللعنة . وعلى طريقه سار أولياؤه من بعده يشككون فى أوامر الله تعالى ويشرعون لأنفسهم ، ومن ذلك موقفهم من الكعبة حيث اعتبروها وثناً، أما أنصابهم والطواف عليها وتقديسها فذلك دينهم .

2/ 2 : الصوفية المسلمون أكثر البشر عبادة للأحجار والأوثان والأنصاب . ومع ذلك هم يتهمون الكعبة بأنها وثن . وأن الطواف حولها عبادة للأوثان ، وتناسوا أنهم يطوفون بأضرحتهم وأوثانهم وأنصابهم ، ثم لا يعتبرون هذا عبادة للأوثان . مع أن الأمر مختلف تماما فى موضوع الكعبة والطواف حولها . لقد استغل الصوفية الفرصة فى أن الكعبة مقامة من أحجار لا تختلف   ــ حقيقة ــ عن الأحجار التى يطوف حولها عبدة الأنصاب والأصنام ، فقاموا يشككون ويصرحون بأنها وثنً معبود ، وتناسوا أن المراد ليس تعظيم الكعبة وأحجارها وإنما المراد هو تعظيم الآمر تعالى بإطاعة أمره، حتى لو تعارض ذلك الأمر مع مبلغ علم الناس وغاية اجتهادهم .

2/ 3 : إن لله سبحانه وتعالى فى كل أوامره ونواهيه حكمة بالغة قد  تعلو على مدارك الناس فى عصر معين . إلا أن الله سبحانه وتعالى يدّخر كشفها وإبانة وجه التشريع فيها إلى عصر لاحق لتكون فيه إحدى الآيات المتجددة. ومن ذلك أن الله تعالى حرم الأكل من الميتة، وقد جادل المشركون في ذلك بحجة أن الميتة قتلها الله فكيف نفضل عليها ما نذبحه نحن.. وقد رد القرآن آمراً المسلمين بعدم الجدال معهم : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121 )الأنعام ).. أى إن أطعتموهم في الجدال في أوامر الله تعالى لأصبحتم مثلهم من أولياء إبليس الذي عصى ربه وجادل في أمره،وقد اكتشف عصرنا خطورة الأكل من الميتة وأن الذبح بالطريقة الإسلامية أطهر وأفضل وأكثر صوناً للذبيحة من الفساد والتلوث، أو هى(زكاة) وتطهير للذبيحة .

 وقد اكتشف عصرنا الحكمة في اتخاذ الكعبة قبلة ومقصداً للحج، فقد اكتشف بالصدفة أن مركز الأرض يقع في مكة بالضبط.. وقد أقيمت مكة حول الكعبة تحوطها من جميع الجهات، ومعنى ذلك فالكعبة هى منتصف مكة وهى النقطة الوسطى لهذا الكوكب الأرضي .. وإذا تخيلنا الأرض كرة فإن نقطة الكعبة هي التي تلتقي عندها جميع المسافات بالتساوي . وقد ظهر ذلك حديثاً في معرض اجراء للمسافات البحرية طولا وعرضا استخدمت فيه أحدث وسائل القياس العصري الإلكتروني .

وكما قلنا فالكعبة ليست حيطاناً تقام، فقد أقيمت تلك الحيطان وتهدمت أكثر من مرة ، وإنما هي مكان يقام حوله بناء يحدده مكان يمثل مركز الأرض، لذا يقول تعالى عن بناء ابراهيم للكعبة (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ )(26)( الحج), أي بيّنا له المكان فقام برفع قواعده  (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة 127).، أى كانت قواعد واساسات البيت العتيق موجودة ، ورفعها ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ، وأقاما حوائط البيت أو الكعبة . فالطواف حول المكان وليس البناء ، ولذلك فإن الطواف يحرم فيه لمس البناء أو الكعبة،حتى لا يتحول لمس البناء إلى تقديس للحجر.  

ولقد جعل الله من هذه النقطة في الأرض حرماً مكانياً  له.. حرَمه ، وأمر بالحج إليه ، وجعل الرسالة الإسلامية الخاتمة تنبع من هذا المكان كمركزالعالم ، والرسالة الخاتمة رسالة عالمية فناسب أن تنبع من مكة مركز العالم. وإليها يتوجه المسلمون من كل أنحاء العالم خمس مرات حين الصلاة ، ويتوافد إليها الحجاج من كل فج عميق في الأشهر الحرام يحجون للبيت العتيق ، أقدم بيت أقيم على هذه الأرض المعمورة : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29  0(الحج )  (  إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97 )(آل عمران  ).

ومن إعجاز القرآن الكريم أن أشار إلى أن مكة هى مركز الأرض ، ولذا كان اختيارها مهداً للنبي الخاتم والرسالة القرآنية العالمية ، يقول تعالى عن القرآن ومكة مركز العالم :(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) الشورى). فمكة هي أم القرى ، أى مركز الكرة الأرضية ومركز هذا العالم بكل قراه وتجمعاته السكانية..والرسول مبعوث بالقرآن الرسالة العالمية لينذر أم القرى ومن حولها من قرى أى كل العالم ، وإذا مات فعلى أتباعه أن يواصلوا مسيرته ويصلوا بدعوته إلى كل قرية في العالم معززين بالقرآن المعجز لكل عصر ومكان. يقول جل وعلا :  (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا )(92) (الأنعام 92).

2/ 4 ـ وهكذا يتبين لنا حكمة الله تعالى بتشريعه الحج للكعبة والتوجه نحوها في الصلاة ، فالبيت الحرام هو الحرم المكاني في منتصف الكرة الأرضية ، وقد جعله الله تعالى للناس جميعاً مثابة للناس وأمناً، في كل الأيام، ولله تعالى حرم زماني وهو الأشهر الحرم (تبدأ بذي الحجة وتنتهي بربيع أول) وفي الحرم الزماني أو الأشهر الحرم منع الله تعالى القتل والقتال (التوبة 1 :5، 27) وجعل الحج أثناء هذه الأشهر الحرم ( البقرة 197 ) وأراد الله تعالى فيمن يحج إلى الحرم المكاني (الكعبة) في وقت الحج أى الحرم الزماني أى الأشهر الحرم أن يكون محرماً يؤدي مناسك الحج ، ممتنعاً عن بعض المباحات ، مخلصاً قلبه حتى من نوازع الشر (الحج25) وهذا هو معنى الحج، أي تتعانق الحرمات الثلاث(الحرم المكاني والحرم الزماني والحرم الإنساني) أي القلب فيمتنع القلب المؤمن عن تقديس غير الله وعن إرادة الشر (الحج25) ويؤدي مناسك الحج في أفضل حالات التقوى . وشيوخ الصوفية بعلمهم اللدنى المزعوم أجهل الناس بالاسلام والقرآن ، وقد استخدموا جهلهم اللدنى فى ( تحقير ) الكعبة وبيت الله الحرام .

 

ثالثا : تفضيل الولى الصوفى على الكعبة

1 ـ وقلنا إنّ التشكيك الصوفي في الكعبة كقبلة للصلاة أو كمقصد للطواف ينبع من رغبة دفينة في أن يتجه الناس إليهم بدلاً منها . وسنبحث فيما بعد مظاهر الحج الصوفي للأنصاب والأولياء. وإنما نعرض الآن لمحاولات الصوفية في تفضيل الولي الصوفي على الكعبة لنتعرف على هدفهم في عداء الكعبة ..

2 ـ يقول الغزالي في الإحياء حديثاً موضوعاً لا أصل له وهو(أن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها، ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بولي من أولياء الله تعالى)[7].

وقد أورد الشيخ النويري الصوفى الاسكندرى فيما بعد هذا الحديث في كتابه (الإلمام ) ، ذكره بنصّه ، وأضاف حديثاَ آخر مفترى يقول( من آذى لي ولياً من أولياء الله تعالى فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة ) [8]. وهما متأثران بحديث الولي فى البخارى ( من آذى لى وليا فقد آذنته بالحرب ..!!..).

فالصوفية يجعلون من الاستخفاف بأحدهم جرماً يعظم على تدمير الكعبة وإحراقها.. فهو تفضيل لا يخلو من حقد، وإلا فما الداعي لقولهم (ولو أن عبداًهدمها حجراً حجراً ثم أحرقها .. ) أو (فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة) .. والمؤمن الحق يستعظم أن ينطق بذلك عن بيت الله العتيق أو أن يتخيله مجرد تخيل، أما الصوفي فيعبر عن مشاعره نحو الكعبة بهذا الإفك المفترى ، ليجعل للولي الصوفي مكانة حتى لو هدم في كلامه الكعبة سبعين مرة أو أحرقها حجراً حجراً.

رابعا : زعمهم بأن الكعبة تطوف بالشيخ الصوفى .!!

1 ـ وحقد الصوفية على الكعبة – بسبب طواف الناس حولها – جعلهم يبتكرون في كراماتهم المزعومة أن الكعبة تطوف بالولي .. يقول اليافعي (روي أن جماعة شوهدت الكعبة تطوف بهم طوافاً محققاً) وقد فصل اليافعي هذه الأخبار[9]، ويقول كاتب مناقب المنوفي (وقد حكى جماعة أن الكعبة رؤيت تطوف ببعض الأولياء)[10]. وحكى الشعراني أن الكعبة كانت تطوف (بالشيخ محيى الدين بن عربي)[11]..

وقد قال أبو العباس البصير(لله رجال يطوف بهم بيته، فنظر أبو الحجاج الأقصري فإذا الكعبة تطوف بأبي العباس،قال الأنبابي : ولا ينكر ذلك، فقد تضافرت أخبار الصالحين على نظائر ذلك)[12]..

2 ـ وإذا كانت الكعبة تطوف بهم فلا حاجة للمريد الصوفى للذهاب للكعبة ، فالكعبة عندهم وبزعمهم هى طوع أمر سيده وتطوف به فشيخه أحق منها بالطواف حوله ، وهذا ما كان يحدث، فالمريد الصوفى يطوف بشيخه ويزعم أنه رأى الكعبة تطوف بشيخه ، فشيخه أحق بالطواف حوله منها ، وقد ورد فى مناقب عبد الرحيم القنائى أن  ( فقيرا صوفيا ) أى ( مريدأ ) أراد الحج فأمره عبد الرحيم ، وقال له : ( أن قم طوف بى أسبوع فقام الفقير وطاف بالشيخ ،  فأنكر الراوى في نفسه فرأى فى المنام الكعبة تطوف بالشيخ فاستيقظ) فقال له عبد الرحيم القنائى مكاشفاً : (من الرجال من يروح إلى البيت حتى يطوف به ،وأنا من الرجال من يجئ البيت يطوف به)[13]. وقيل فى مناقب الوفائية أن ابن هارون ( قصد زيارة أبى الحسن الشاذلى فى خيمته،فاغتسل كغسل الإحرام، وطاف بخباءالأستاذ أسبوعاً، فأنكر عليه أصحابه فقال:والله ما اغتسلت وطفت الأسبوع إلا وقد رأيت الكعبة طايفة به)[14]. وجاء فى مناقب الحنفى أن مريدا استأذنه فى الحج فأغفى بين يديه، فرأى فى منامه الكعبة تطوف بشيخه ولما استيقظ كاشفه الحنفى فقال (الشأن) لمن يطوف بالكعبة؟ أولمن تطوف به الكعبة؟)[15].

وأثمرهذا التحقير للكعبة تهاوناً بها لدى عامة الناس، فجاء المثل الشعبى يشبه بعض الناس بالكعبة فروى الإبشيهى مقالتهم : " فلان كالكعبة يُزار ولا يزور"[16].



[7]
احياء جـ4/130

[8]الإلمام .. مخطوط جـ1/3.

[9]روض الرياحين 16.

[10]مناقب المنوفى 44.مخطوط.

[11]     لطائف المنن 425 الطبعة القديمة .

[12]الطبقات الكبرى للمناوى .مخطوط 260.

[13]مناقب عبد الرحيم. مخطوط 12.

[14]مناقب الوفائية .مخطوط 39.

[15]مناقب الحنفى .مخطوط 369: 270.

[16]المستظرف جـ1/29، 30.

 

الفصل السادس :  الدعوة الصوفية لإهمال فريضة الحج الإسلامية :

1- مرّ بنا ما قاله الجنيد فى أسطورته المزعومة التى اعتبر فيها الكعبة وطائفيها أحجاراً( خلقة كالأحجار يطوفون بالأحجار )[1]. والجنيد كان إستاذ الصوفية فى إستخدام تأليف القصص والمنامات فى ترسيخ التشريع الصوفى بطريق غير مباشر. وهو هنا يقرر عبثية الحج للكعبة ويرى أن الناس لو أصلحوا باطنهم لزال الحجاب عنهم وتحققوا بالحق وأصبحوا آلهة ، فلا داع حينئذ للحج ومشاقه ..

وما ألغز إليه الجنيدى صرّح به الحلاج وكان فيه هلاكه . إذ أن ما حُفظ عن الحلاج من شطحات كانت شفوية ، وكان ينكرها فى جلسات التحقيق معه ، وما كتبه منها كانت ألغازا ورموزا يمكن تأويلها . لذا لم يفلح الوزير العباسى الذى كان يحقق معه فى إثبات الكفر عليه ، الى أن عثر هذا الوزير ( حامد ) على سطور مكتوبة للحلاج  عن الحج ، فاستخدمها الوزير دليلا على كفره والحكم بقتله . وكان طبيعياً أن يسارع الجنيد المشهور بالتقية إلى التلميح برأيه السابق  حتى لا يلقى مصير الحلاج . يقول ابن الأثير فى سبب صلب الحلاج : ( وكان حامد يُخرج الحلاج إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه مالا تكرهه الشريعة المطهرة، وطال الأمر على ذلك ، وحامد الوزير مُجدّ فى أمره ، وجرى له معه قصص يطول شرحها، وفى آخرها أن الوزير رأى له ( أى للحلاج ) كتاباً حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه، أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شىء من النجاسات ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة..فإذا فعل ذلك كان كمن حج، فما قرىء هذا على الوزير قال القاضى أبو عمرو للحلاج :كذبت يا حلال الدم ..)[2].  على هذا ، فقد جاءت نهاية الحلاج قتلا وصلبا بسبب إعلانه رأيه فى الدعوة لاهمال فريضة الحج ، وعدم الذهاب للبيت الحرام . ونسى الحلاج فى أنه الحج ليس فرضا إلا على المستطيع فقط ، وغير المستطيع لا شىء عليه أصلا .

وفى هذا العصر الأول لروّاد التصوف بدأ تأويل الرواد الصوفية لمناسك الحج صدّا منهم عن البيت الحرام ، فقيل إنه ( كان ذون النون المصرى يتأول مناسك الحج ويحولها لرموز وإشارات[3]. )

وهكذا وجد رواد التصوف فى الحج ميداناً خصباً يمارسون فيه الرمزيه – كما فعل الحلاج – (لذا فقد قال بعضهم بترجيح الباطن على الظاهر أو الحقيقة على الشريعة أوالإستغناء بالمحتوى الكامن للرمز عن المحتوى الظاهر له تحت اسم إسقاط التكاليف)[4].

واختلف الأمر فى عصر إزدهار التصوف والايمان بكرامات الأولياء الصوفية وتقديسهم وتأليههم .

2- ففى العصر المملوكى حيث ازدهار التصوف والاعتقاد في الكرامات اكتفى مشاهير الصوفية بادعاء الحج بخطوة أو طى المكان، أو ادعاء أنه يحج فى مكة وهو لا يزال بمصر، إلى غير ذلك من أساطير حظيت بالتصديق فى العصر ،وتأسيساً على ذلك كان المرسى يقول ( لو فاتنى الوقوف بعرفة سنة ما عددت نفسى من المسلمين )[5]. أى كان المرسى بزعمه يطير للكعبة ويقف فى عرفات كل عام فى لحظة ويعود .!

وزعم كاتب مناقب المنوفى أن بعضهم رأى المنوفى واقفاً بعرفات وكان فى نفس الوقت فى القاهرة[6]. ،

 أى رأوه فى نفس الوقت فى عرفات وفى القاهرة . وهذه الفرية الصوفية تجمع بين اسطورتين من كرامات الأولياء التى كان يؤمن بها العصر المملوكى : أسطورة الطىّ ( طىّ المكان ) واسطورة ( التطور ) أن الولى الصوفى له أجساد كثيرة تقوم نفسه بتدبيرها والسيطرة عليها ، وبالتالى يمكن رؤيته فى عدة أماكن فى وقت واحد . ومن مؤلفات السيوطى ( القول الجلى فى تطور الولى ) وفيها يحاول إثبات هذه الاسطورة على أنها من كرامات الأولياء ، وكان انتشار الاعتقاد بكرامتى ( الطى والتطور ) من أساليب الصوفية فى العصر المملوكى فى تبرير عدم صلاتهم وعدم قيامهم بالحج .

وعرض أبو الحسن الشاذلى فى أسطورة صوفية على الشيخ الفقيه عز الدين بن عبد السلام أن يخطو به  وبالناس جميعاً إلى عرفات . وهو كرم فى سرد الكرامات ، وكان أولى به أن يتوجه بتلك الكرامات المزعومة إلى التتار- وكانوا حسب الأسطورة – يمنعون الناس من الحج فلم يحج منهم إلا الشاذلى بخطوته المباركة[7]. حسب زعمهم .!!

وقيل فى ترجمة أبى الحسن الفران (كان من أرباب الطى – أى الذين تطوى لهم الأرض فيتنقلون حيث شاءوا – وكان إذا بقى للوقوف –أى الوقوف بعرفة – يوم ، يمضى ويحج ويأتى ، وقد شاع أنه أوصل رغيفين من امرأة عجوز إلى ولدها بالحجاز وكانا ساخنين )[8]. أى إن هذا الشيخ الفرّان كان يحج ويقف بعرفات ويعود الى مصر فى نفس اليوم . بل إنه أوصل رغيفين ساخنين من أم عجوز تعيش فى القاهرة لابنها فى الحجاز . وواضح أن هذا الشيخ ( الفرّان ) كان يعمل فرّانا من قبل ، ثم إستقال من حرفته ، واحترف المشيخة الصوفية ، ووجد من يؤمن به ويصدّقه ، وجاءت كراماته المزعومة تحمل آثار حرفته القديمة . وحمل كثير من شيوخ التصوف لقب حرفتهم القديمة ، من الحلاج والمزين فى بداية التصوف الى ( الخواص ) فى العصر المملوكى.

وفى عصر تشيع فيه  مثل هذه الأساطير وتحظى بالتصديق كان لابد لصوفيته أن ينعموا بالكسل فى بيوتهم لتشيع عنهم مثل هذه الكرامات التى تذكرنا بالصوفية المنقطعين عن الصلاة بحجة أنهم يصلون فى بيت المقدس أو الكعبة أو جبل قاف كل يوم ..

3- وفى نفس الوقت لم يغفل الصوفية عن الدعوه لكى يحج إليه مريدوهم .. أو يكتفى بهم المريدون عن الذهاب للحج بزعم أن الكعبة نفسها تأتى وتسعى لتطوف بالأشياخ ، فهم أولى منها بالطواف حول الشيخ وتقديسه، وسبق توضيح ذلك ، وكيف أن بعض المريدين صرح بأنه : ( والله ما اغتسلت وطُفت الأسبوع إلا وقد رأيت الكعبة طايفة به ) . وتلك دعوة معلنة للطواف بالشيخ وإهمال الحج الإسلامى كما فعل عبد الرحيم القنائى وشمس الدين الحنفى وقد أمر كل منهما مريده بأن يطوف به – حسب الأسطورة – ويكتفى بذلك عن الحج[9].

4- على أن أحد الصوفية ارتقى من التشريع بطريق ضمنى بسبك حكايات الكرامات إلى درجة الأمر المباشر بدون حاجة إلى أساطير وكرامات .. فيروى الشعرانى فى ترجمة الصوفى المشهور فى القرن العاشر (على وفا الشاذلى ) أنه : ( سئل رضى الله عنه عن مريد ادعى أنه شهد كمال أستاذه ( أى آمن بقلبه بألوهية شيخه الصوفى ) ثم آراد السفر عن حضرته لزيارة مكة.. فقال رضى الله عنه : المريد الصادق أول ما يشهد فى شيخه الكمال يجده حضرة الحق التى بها أرواح أئمة الهدى أجمعين بالنسبة له. فكيف مع هذا يفارق تلك الحضرة لمواضع آثار الأنبياء التى هى دون الحضرة التى شهد أستاذه فيها ؟ وكيف يشتغل عن بيت وضعه الحق لنفسه ببيت وضعه للناس)[10]. .

أى أن هذا الشيخ الصوفى ( على وفا ) الذى يحظى بقول الشعرانى عنه ( رضى الله عنه )  يرى  أن الولى الصوفى هو البيت الذى وضعه رب العزّة لنفسه ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً،  أى حلّ رب العزة فى ذلك الشيخ  فيه، فهو أحق بالحج إليه والعكوف عليه من البيت العتيق الذى وضعه للناس .. !!

5 ـ وهكذا فالصوفية شككوا فى الكعبة كقبلة لأنهم يتمنون لو توجه الناس بالصلاة إلى ناحية القطب الغوث .. وشككوا بالكعبة كمقصد للحج ، وادعوا أنها تطوف بهم هم أحق منها بطواف الناس حولهم ، وأعلنوا ذلك بصراحة..

6 ـ وفى الوقت الذى اعتبروا الكعبة فيه وثناً فإنهم لم يتحرجوا من الدعوة للحج إلى أنصابهم وأضرحتهم وأوليائهم الأحياء .



[1]
روض الرياحين 40.

[2]تاريخ ابن الأثير جـ8 /47. المطبعة الأزهرية سنة 1301 .

[3]دائرة المعارف الإسلامية جـ9/426 فضلا عن حلية الأولياءجـ9/170.

[4]أحمد محمود صبحى. التصوف إيجابياته وسلبياته. عالم الفكر مجلد 6عدد2 ص347: 348.

[5]تعطير الأنفاس مخطوط 224 .لطائف المنن لإبن عطاء 98.

[6]مناقب المنوفي .مخطوط 41 .

[7]الإلمام للنويري مخطوط جـ2/ 78.

[8]الكواكب السيارة 149.

[9]مناقب الوفائية مخطوط 39 .مناقب الحنفى مخطوط 369: 370 .مناقب عبد الرحيم مخطوط 12 .

[10]الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 /25.

 

الفصل السابع : تشريع الحج الصوفى للأولياء والأنصاب (الأضرحة )

أولا : الحج الجاهلى للأنصاب والأضرحة والكعبات المقدسة

1ـ  طبقا لعقيدة الشرك كان الجاهليون يعبدون الله جل وعلا ويعبدون معه الأولياء الموتى من خلال قبورهم المقدسة أو الأنصاب ، وتماثيلهم المقدسة أى الأصنام ، وكل ما يمتّ اليهم أى الأوثان . كانوا يعبدون    الأولياء على أنهم هم الذين يقربونهم الى الله زلفى .  وكانوا فى الجاهلية يقومون بالحج الى بيت الله الحرام ( الكعبة ) ويقومون بالحج ومناسكه لمعابدهم وأوثانهم . كانت هناك معابد كثيرة تقصد للحج ، تحيط بها مساحات واسعة تكون لها(حمى) أو(حرم)، ولا يجوز لأحد انتهاك حرمتها أو الاعتداء عليها، وإذا دخل حيوان فى داخلها عُدَ فى ملك الحرم لا يجوز استعادته. وبالإضافة لذلك فقد زرعوا فى البيت الحرام وحول الكعبة 136 صنما ، ولكل قبيلة صنم . وقد أطلقوا على بعض معابدهم الشركية لقب ( كعبات ) وجعلوها تحوز على تقديس وطواف ونذور وحج مثل الكعبة الحقيقية .  ومن هذه الكعبات :  كعبة ( ذو الشرى) فى بطرا حيث يقوم صنم(ذوالشرى) على قاعدة مكسوة بالذهب والصور فى موضع مرتفع على صخرة عالية ، ويحج إليه الجاهليون للتقرب إلى ذلك الإله الذى عرف بأنه رب البيت . ومنها ( كعبة سندان) وهو قصر، كانت العرب تحج إليه فتطوف حوله، ومنها ( ذات الكعبات) وهى مركز حج قبائل بكربن وائل . وكان بنجران بيت عبادة عرف بكعبة نجران، وهوبناء على هيئة الكعبة، كان إذا قصده الخائف أمن بزعمهم . وكان للصنمين (اللات والعزى) بيوت أقيمت عليها ، وسدنة يقومون بخدمتها، فبيت (اللات) بالطائف، وبيت(العزى) بوادى حراض، وتحج إليهما قريش والعرب، ويتقربون إليها بالذبائح، وكانت قريش قد حمت لإلهتها شعباً من وادى(حراض) يقال (سقام ) يضاهون به حرم الكعبة .. وهناك صخورأخرى بعكاظ تمتعت بتقديس الجاهليين وطوافهم حولها .

2 ـ وكما أن الحج لبيت الله الحرام يكون خلال الأشهر الحرم ، كانت العرب تحج إلى هذه الأوثان والكعبات فى أشهر معينة من السنة، وقد جعلوها أشهراً مقدسة أو حرماً زمنياً بالإضافة للحرم المكانى المحيط بتلك الأوثان .. فلكعبة(ذى الشرى) حج يقع فى اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول من كل عام ، فيتوافد إليها الناس فى ذلك الوقت يطوفون وينحرون ويتقربون ..  وهناك أوقات أخرى للأوثان الأخرى .. إلا أن شهر الحج لكل وثن يكون لقاء عاماً يجمع الناس لآداء الفروض وتبادل التجارة ..

3 ـ وحين ظهر الإسلام على الجزيرة العربية انفض الناس عن تلك الأوثان وزال تقديسها، واقتصر الحج على بيت الله الحرام والتزم العرب بالسلام فى الأشهر الحرام، ثم تغير الحال سريعا ، فنسى المسلمون الأشهر الحرم ، ولم يعودوا يهتمون بحرمتها فى القتل والقتال، ثم كانت الدعوة للحج للقبور الصوفية المقدسة والأشياخ الصوفية الأحياء فى أوقات معينة وتقديم النذور إليهم .وكل ذلك بزعم التوسل والتبرك وهى نفس حجة الجاهلين إذ كانوا يفعلون ذلك تحت شعار(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )(الزمر 3 ).

 

ثانيا : الحج الصوفى :

1 ـ أرجع دين التصوف عبادة الأولياء وتأليههم بحيث ينطبق على الصوفية كل ما قاله رب العزة فى القرآن الكريم عن عبادة وتقديس الأولياء فى العصر الجاهلى . أرجع التصوف هذا الدين الجاهلى لمجتمعات المسلمين بدءا العصر العباسى الثانى وحتى الآن .

2 ـ إلا إن الصوفية كانوا أشد كفرا من الجاهليين . لأن الصوفية فعلوا ويفعلون ذلك ومعهم القرآن الكريم ، الذى يزعمون الايمان به ، وهم يعرفون جهاد النبى عليه السلام ضد عبادة البشر والحجر ، وهم يزعمون الايمان به . الجاهليون مع عبادتهم لأوليائهم لم يقعوا فى ( الشطح ) أو سبّ الله جل وعلا كما كان يفعل أولياء التصوف ، كما إن الجاهليين مع تقديسهم لأوثانهم ولأنصابهم  وحجهم لكعباتهم فقد كانوا يقدسون البيت الحرام ويحترمون الكعبة ، أما الصوفية فقد أعلنوا إحتقارهم للكعبة وحقدهم عليها ، واعتقدوا بأحقيتهم دونها فى استقدام الناس إليهم .

3 ـ هذا مع أنهم قد حرصوا على وصف أنفسهم وأضرحتهم بصفات الكعبة وخصائصها، فالدسوقى يوصف أنه"كعبة الحقيقة "[1]. وكانت بعض الأضرحة تُبنى على شكل الكعبة مثل جوسق الماردانيين وقد وصفه السخاوى الصوفى بأنه مبنى على هيئة الكعبة وأن الدعاء تحته مستجاب[2]. بزعمهم . والسخاوى الصوفى هذا هو صاحب كتاب ( تحفة الأحباب ) الذى تخصّص فى تعريف الزوّار أو الحجّاج بالقبور المقدسة فى مقابر القاهرة.وهو غير السخاوى الأكثر شهرة المحدّث المؤرخ  المشهور بكتابه ( الضوء اللامع ) .

والطريف أن هذا ( الجوسق ) كان عمارة تجارية قديمة تنتمى لعائلة الماردانيين المشهورة فى القرن الثالث الهجرى، ثم مالبث أن تحول الى آثار ، ثم تحول بثقافة التصوف الى معبد يشاع أن الدعاء عنده مستجاب .

4 ـ وقد اشتهرت الكعبة فيما بعد بوجود الحجر الأسود فيها ، وهو فى الأصل لتعيين بداية الطواف ، إلا أن الشرك تسلل إلى عقائد المسلمين فقدسوا ذلك الحجر وألفوا فيه الأحاديث التى تحض على لمسه والتبرك به، واستقر فى عقيدة المسلمين تقديس ذلك الحجر والحرص على الوصول إليه بأى طريقة. وكالعادة حسد الصوفية ذلك الحجر وحرصوا على تزيين أضرحتهم بأحجار مثله . ففى ضريح البدوى – وهو مقصد للحجيج من كل أنحاء مصر- يوجد حجر أسود يقول عنه عبد الصمد الأحمدى فى العصر العثمانى "ومن كراماته –أى البدوى – أن حجراً أسود مثبتاً فى ركن القبة ، وكل من زار الأستاذ يتبرك به "[3].  وذلك الحجر ( الأسود ) منحوت فيه أثر قدم ، منسوب للنبى . ولا يزال يتبرك به الصوفية حتى الآن .

وعلى أساس بعض هذه الأحجار المقدسة شُيدت مساجد مثل مسجد الكف بدمشق : ( فيها موضع كف منسوب للرسول )،  وقد طلع إليها الشيخ ابن تيمية وقال : (هذا الكف مصنوع مكذوب معكوس الخنصر فيه موضع الإبهام والإبهام موضع الخنصر فكسرها )  [4].

5 ـ ومعنى ذلك أن هناك من كان يصنع الأحجار على هيئة الكف أو القدم، ويبيعها لتتزيّن بها الأضرحة وتتحول الى ما بشبه الكعبة والحجر الأسود . وهى عبادة صريحة للأحجار ، لا تزال موجودة . وقديماً كان ابراهيم عليه السلام يقول لقومه مستهزئاً من تخلفهم العقلى : (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) (الصافات ).

وفى العصرالمملوكى احترف بعض الصوفية نحت بعض الأحجار الرخام وكانوا يبيعونها للعامة. يقول السخاوى الصوفى فى اواخر القرن التاسع : (  وكان مع بعض الحجّارين رخامة جعلوا فيها أثر قدم ، وداروا فيها فى البلاد والبيوت والأسواق، يقولون للناس هذا موضع قدم نبيكم ، فيقبله الناس ويتبركون به ويعطونهم الأموال ..)[5].

6 ـ وضريح البدوى كان يجتذب الحجيج إليه من كل فج عميق ، ويقدسون فيه الحجر الأسود إلى جانب مقبرة البدوى . وأشاع الصوفية بين العامة أن الحج إلي ضريح البدوى سبع مرات تعدل الحج للكعبة، وبذلك تحقق أمل الصوفية فى الصدّ عن بيت الله الحرام . ومثل ضريح البدوى ـ الذى لا يزال يحتل مكانة مقدسة حتى الآن – كان هناك فى العصر المملوكى قبر ( فاطمة الموصلية ) ، يقول عنه السخاوى الصوفى  : ( يقال أن من أراد الحج وطاف حول قبرها سبع مرات ينوى بذلك الحج فإنه يحج من عامه ذلك . )، ويعلق السخاوى على ذلك بقوله : ( وهذا ليس بصحيح ) .

7 ـ وإذا كان السخاوى قد احتج على اعتقاد العامة وهم أبرز من يتأثر بالصوفية فإن شاعراً صوفياً مشهوراً هو البصيرى كان يقول فى أبى الحسن الشاذلى ..

 

أولم تدر أن مدح علىّ

                             مثل حج وعمرة وزيارة[6].

 

فالبصيرى يجعل من مجرد مدح الشاذلى – وإسمه الحقيقى : على بن عبد الجبار- يعدل الحج والعمرة والزيارة . ولا ريب بعدها أن الحج للشيخ الصوفى حياً أو ميتاً هو الأيسر والأسهل للمسلمين من الحج الى مكة . وذلك هو المدخل للدعوة للحج الصوفى وتشريعه .

 

ثالثا : دعوة للحج الصوفى قبل العصر المملوكى :

1 ـ على أن الدعوة للحج للأولياء والأضرحة قد بدأت قبل العصر المملوكى، وزعم الصوفية أن أويس القرنى –وهو شخصية خيالية وضعوا على لسانها بعض مظاهر التشريع الصوفى- قال داعياً لأحد مريديه "اللهم إن هذا يزعم أنه يحبنى فيك وزارنى من أجلك فعرفنى وجهه فى الجنة ".

2 ـ وتوسع الغزالى الذى أورد هذه المقالة فى تشريع الحج للأضرحة والأولياء .فيقول عن التبرك " يدخل ضمن السفر للعبادة كالحج والجهاد ، ومنها زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام، وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يُتبرك بمشاهدته يُتبرك بزيارته بعد وفاته "[7]. أى إن الولى الصوفى المقدس فى حياته يتمتع قبره المقدس بالحج اليه بعد مماته . وبالتالى فالحج عند الغزالى هو لقبور الجميع طالما تحظى بالتقديس ، سواء كانوا أنبياء وصحابة أم فقهاء وصوفية .

3 ـ ثم يفتى الغزالى بإباحة الحج الصوفى فيفتى بجواز شد الرحال أو الحج لكل القبورالمقدسة ، ويثرثر محاولا تأويل حديث : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد ...) ليتسع مجال الحج لكل القبور المقدسة ، إلى أن يقول: ( وبالجملة زيارة الأحياء أولى من زيارة الأموات، والفائدة من زيارة الأحياء طلب بركة الدعاء وبركة النظر إليهم، فإن النظر إلى وجوه العلماء والصلحاء عبادة..!).

4 ـ والغزالى هنا متسق مع عقيدته الصوفية فى تقديس الأولياء الأحياء بالذات والحج اليهم واعتبار النظر الى وجوههم عبادة، أى يقوم بتشريع نوع جديد من العبادة فى الدين الصوفى هو: ( رؤية وجوه العلماء والصلحاء ). 

5 ـ والغزالى من ذكائه يدعو  لتفضيل زيارة الأحياء من علماء الصوفية لينعم هو بكثرة المريدين فى حياته، وليصرفهم عن الحج إلى غيره من الأضرحة الخاصة بالموتى . ومن أجل ذلك نرى الغزالى يمنع سفر المريد إلا فى أحوال محدده هى طلب العلم ، ( أو مشاهدة شيخ يقتدى به فى سيرته وتستفاد الرغبة فى الخير من مشاهدته "[8]. . 

 

رابعا : الدعوة للحج الصوفى فى العصر المملوكى :

1 ـ ثم ازدهر التصوف فى العصر المملوكى وكثر المشرعون للحج الصوفى حتى من بين الفقهاء الصوفية الذين احترفوا الهجوم على متطرفى الصوفية، ونمثل لهذا الصنف بالفقيه ابن الحاج العبدرى الذى أكثر فى كتابه ( المدخل ) من الهجوم على صوفية عصره، وأكثر  فى نفس الوقت من الدعوة للحج إلى أشياخ التصوف الأحياء والأموات ،  وحرص على استخدام الأسلوب الفقهى فى الوجوب والإلزام، يقول "ينبغى زيارة قبور الصلحاء والأولياء فى كل موضع مر به المسافر أو الزائر" ويقول "إن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار،فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت فى حياتهم،والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين. "، ويقول "ويتعين على الزائر قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والإنكسار" ويقول "وينبغى للشخص ألا يخلى نفسه من زيارة الأولياء والصالحين الذين برؤيتهم يحيى الله القلوب الميتة كما يحيى بوابل المطر،فتنشرح بهم الصدور الصلبة،وتهون برؤيتهم الأمور الصعبة .. فتتعين المبادرة إلى رؤيتهم واغتنام بركتهم .. "[9].  ويلاحظ أن ابن الحاج مع استخدامه الأسلوب الفقهى فى الإلزام مثل "ينبغى " " يتعين " إلا أنه تحاشى الإتيان بلفظ الحج واستعمل بدلاً منه كلمة الزيارة كقوله (" ويتعين" على الزائر قصدهم من الأماكن البعيدة")، وهو بذلك لا يخدع إلا نفسه فما الحج إلا الزيارة الدينية من الآفاق .

2 ـ وكان الصوفية الخًلَص أصرح فى العبارة من الفقهاء الصوفية أمثال الغزالى وابن الحاج .. فالدسوقى يقول بصراحة داعياً للحج إلى نفسه فيقول:

حُجّوا إلى ذاتى ، فذاتى كعبة نُصبت

                                والسر فيها كَسّرّ البيت والحرم[10].

 

3 ـ وصار تقليداً بين الصوفية والفقهاء فى العصر المملوكى الدعوة إلى الحج للأضرحة والأولياء مع اختلاف الأسلوب بين الصراحة والتلاعب بالألفاظ ..

يقول السخاوى الصوفى : " وقبور الصالحين لا تخلوا من بركة ،وإن زائرها والمسلَم على أهلها والقارئ عندها والداعى لمن فيها لا ينقلب إلا بخير، وقد يجد لذلك أمارة تبدو له أو بشارة تنكشف له". ولا يكتفى السخاوى بدعوة الأحياء للحج إلى الأضرحة والتسليم على أصحابها بل يدعو الأحياء إلى أن يحجوا بموتاهم أيضاً إلى أقرب مكان للأضرحة المقدسة، يقول "ويستحب أن يقصد الإنسان بميته قبور الصالحين ويدفنه بالقرب منهم تبركاً بهم"[11].

4 ـ وتأتى الأساطير لتأخذ دورها فى الدعوة للحج الصوفى ، فيروى ابن الزيات عن صاحب ضريح أنه رؤى فى المنام بعد موته" فقيل له ما فعل الله بك؟قال : أعطانى نعيماً لا ينفذ، وحياة بلا موت ،والدعاء عند قبرى مجاب "[12]. إذن فقبره كما تحكى الأحاديث الكاذبة   روضة من رياض الجنة، ولم تأكل الأرض جسده والدعاء عنده مستجاب طالما هو فيه حىَ طبقاً لعقائدهم . وابن الزيّات هذا كان من مشايخ الزيارة ، أى من الشيوخ المتخصصين فى إرشاد الزوار أو الحجّاج الى القبور المقدسة فى مقابر القاهرة ، وقد كتب فى ذلك كتابه ( الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة )

5 ـ وبعض الأساطير لا تأتى بالأسلوب القصصى، وإنما بالتقرير الواثق كأن يقول الشعرانى فى جرأة نادرة " عند قبر الولى ملك يخلقه الله من همّة ذلك الولى ومن صورته،ينفذ الله به ما شاء من الأمور "[13]. وطالما خلق الله ملكاً ينفذ طلبات الحجيج عند الضريح فأولى بالناس أن يهرعوا للحج اليه من كل فج عميق . وهذا الفجور فى الكذب قاله الشعرانى بدون استدلال ، لأنّ العصر كان يصدّق كل تخاريف الشيوخ الصوفية ، ويؤمن بأنهم يعرفون الغيب ، ولديهم العلم الالهى اللدنى ، ينهلون منه ما شاءوا.!!

6 ـ وإعتقاد العصر فيهم جعل الصوفية يجرأون على الدعوة فى حياتهم لأن يحج الناس إلى قبورهم بعد موتهم، فالحنفى كان يقول فى مرض موته" من كانت له حاجة فليأت إلى قبرى ،ويطلب حاجته أقضها له، فإن ما بينى وبينكم غير ذراع من التراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل "[14]. وقبر الحنفى لا يزال يحظى بالتقديس فى القاهرة.

أما الفرغل فقد كان صوفياً قرويا صعيديا جاهلاً لا يعرف القرآن، ومع ذلك كان يقول فى حياته "أنا من المتصرفين فى قبورهم ،فمن كانت له حاجة فليأت إلى قبالة وجهى ويذكرها ، أقضيها له .. "[15].

ولا يزال قبر هذا الفرغل مقدسا فى الصعيد ،ويطلق المصريون على أبنائهم اسم ( فرغلى ) نسبة له وتبركا به ، فالمجانين ـ دائما ـ فى نعيم .!! .



[1]
حسن شمة :4.

[2]تحفة الأحباب 290، 291 .

[3]الجواهر 77 .

[4]تكسير الأحجار 141، 142، 145 .

[5]تحفة الأحباب 263.

[6]ديوان البوصيرى 85.

[7]الإحياء جـ3/194.

[8]الإحياء جـ2/219، 221.

[9]المدخل جـ3/26، جـ1/ 124، جـ1/ 125، جـ2/10، 11 .

[10]الجوهرة 100.

[11]تحفة الأحباب 27.

[12]الكواكب السيارة 226.

[13]درر الغواص 92.

[14]الطبقات الكبى للشعرانى جـ2/86.

[15]الطبقات جـ2/93 .

 

الفصل الثامن : مناسك الحج الصوفى :

مقدمة :

الحج قدوم ثم تأدية للمناسك . بعد القدوم إلى الولى –الذى أوجبه دين التصوف على الناس – كان تشريع المناسك للحج الصوفى .. وتكاثرت هذه المناسك بين أقوال وأفعال مختلفة حسب الطرق الصوفية والأضرحة المتشعبة . ولكننا نبرز السمات العامة لهذه المناسك على النحو التالى:

أولا : المناسك القلبية :

1 ـ فاشترطوا فى الحاج أن يكون خاشعاً مؤمناً بالولى الذى يحج إليه، معتقداً فى حياته البرزخية وتصريفه الإلهى فى الخلق حتى يستحق نيل البركات ..

2 ـ يقول فى ذلك أبو المواهب الشاذلى "من أدب المريد إذا زار شيخاً فى قبره أن لا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل الأدب أن يعتقد حياته البرزخية لينال بركته "[1]. وردد الشعرانى هذه الأقوال ونسبها لأبى المواهب هذا ، ومنها "إذا زار إنسان قبر الولى فإن ذلك الولى يعرفه، وإذا سلم عليه ردَ عليه السلام، وإذا ذكر الله على قبره ذكره معه .. ومعلوم أن الأولياء إنما ينقلون من دار إلى دار ، حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياء، والأدب معهم بعد موتهم كالأدب معهم حال حياتهم ).   

3 ـ وكما أن الله جل وعلا هو الحىّ الذى لا يموت فإن الصوفية يعتقدون أنّ لأوليائهم نفس الحياة بلا موت ، يقول أبو المواهب الشاذلى يضفى الالوهية على الولى الصوفى الميت : " حاشا الصوفى أن يموت"، أى ليس يموت كالأنبياء والرسل وبقية البشر. وأبو المواهب يفترى هذا ليبرر الحج الى قبر الولى الميت ، يوهم بأنه ( حى لا يموت )..!  ويرى أبو المواهب الشاذلى أنّ الولى ( الحىّ فى قبره ) يكون مفيدا لمن يحج الى قبره ، بل ربما يكون أكثر نفعا فى قبره عنه عندما كان حيا يسعى فى هذا الدنيا .  يقول" من الأولياء من ينفع مريده الصادق بعد موته أكثر ما ينفعه حال حياته .. "[2].

4 ـ وكما يوكّد ربَ العزة على إخلاص العبادة لله، ، فأولئك الصوفية يحرصون على إخلاص المريد عقيدته فى تأليهه لصاحب الضريح حين يحج إلى الضريح متوسلا بصاحبه ، يقول السخاوى الصوفى عن بعض الأضرحة "ومن خصائص زيارتهم أن من زارهم سبعة سُبوت على نية الحج أو قضاء الدين أو حاجة قضى الله تعالى حاجته .فينبغى لمن عزم على زيارتهم وغيرهم أن يخلص نيته "[3]. .

ويشرع ابن الزيات فى كتابه (الكواكب السيارة) طريقة للمناسك ، ثم يقول محذراً "وإياك أن تجعله على وجه التجربة فإنك لا تنتفع به "[4]. أى لا بد أن تبدأ الحج والتوسل بصدق نية وعقيدة صافية مخلصة فى صاحب الضريح ، وليس بالشّك والتجربة . ويقول أيضا عن ضريح آخر "والمستحب لمن زار هذا المكان أن يحضر قلبه ويخلص نيته فإنه فى مكان مبارك "[5]

ثانيا :المناسك القولية :

1 ـ شرع ابن الحاج فى كتابه ( المدخل ) طريقة المناسك القولية، يبدأ بالقول  : ( إن كان الميت المُزار ممن تُرجى بركته فيّتوسل إلى الله تعالى به. ) أى إذا كان صاحب القبر يعتقد الناس فى بركته وجدوى التوسل به فيجوز التوسل به . وهنا تناقض فى قول الفقيه الصوفى ابن الحاج ، فهو يقرر فى البداية بأن صاحب القبر ميّت وليس حيّا فى قبره كما يقول الشعرانى وأبو المواهب الشاذلى ، فكيف يستجيب الميت المقبور لمن يتوسل به ، وكيف يتوسّط له عند الله جل وعلا بزعمهم ؟ .

ثم يشرح التوسل القولى : ( ويبدأ التوسل بالنبى(ص) إذ هو العمدة فى التوسل ، ثم يتوسل بأهل تلك المقابر أى الصالحين منهم فى قضاء حوائجه ،ثم يدعو لنفسه ولوالديه وأشياخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين ، ولمن غاب عنه من إخوانه "[6].  وهنا تناقض آخر ، فهو يتوسل بهم ثم يدعو لهم .. أى يجعلهم آلهة يتضرع لهم ثم يجعلهم عبيداً مستضعفين يتضرع لله من أجلهم .. وهذا هو التناقض الذى يقع فيه الفقيه الصوفى الذى يحاول ( أسلمة التصوف )، يظل حيران يحاول التوفيق بين النقيضين :الإسلام والتصوف .

2 ـ وتظلّ هناك إختلافات فى المناسك القولية حسب هوى الأشياخ المشرعين ، يقول ابن الزيات " من قرأ عند مسجد الرفاعى " قل هو الله أحد " أحدى عشر مرة وسأل الله حاجة قضاها"[7].  ، بينما يقول تلميذه السخاوى الصوفى عن ضريح السيدة نفيسة "كانوا يقولون عند زيارتها والسلام عليها بعبارات خاصة فيها ذكر آبائها والتشفع والإستجارة بها "[8].

ثالثا : المناسك العملية وانواعها :

1 ـ معروفة المناسك العملية فى الحج الإسلامى من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والإفاضة وتقديم الهدى .وتأثّر بها الحج الصوفى وقلّدها ، ففيه طواف بالضريح وسعى بين القبور ووقوف خاشع أمام بعضها ، بالإضافة إلى تقديم الهدى نذراً للأولياء .

ويبقى الخلاف بين الحجّ الاسلامى والحج الصوفى : ففى الإسلام لا حرم لله جل وعلا إلا البيت الحرام فى مكة، ولا حج إلا لبيت الله الحرام ، ولا طواف إلا بالكعبة ، وفى الطواف بها لا يجوز لمسها. أما فى العصر الجاهلى وفى دين التصوف فالأنصاب منتشرة تتمتّع بتقديس كما للكعبة وربما أكثر، ولكل منها ( الحرم ) الذى لا يجرؤ إنسان على اقتحامه. وبينما إعتاد حجاج البيت الحرام الوقوع فى الرفث والفسوق والعصيان فإن العابد الصوفى يطوف بالضريح بخشوع وخضوع ، والطواف بالقبر المقدس يعنى لمسه والتبرّك بأعتابه وزجاجه وقماشه وخشبه ، وحتى أقفاله ، حتى لو كان قفل المقصور مصنوعا فى الصين .!!

ثم لكل ضريح منها أيام مخصوصة ( موالد ) أو حرم زمانى يقصده فيها الناس بمثل ما يقصد المسلمون بيت الله فى أوقات معلومة موحدة فى العام . والمقارنة بين مناسك الحج الإسلامى ومناسك الحج الصوفى تستحق وقفة متأنية وبحثاً منفصلاً ولكن منهجنا هنا هو فى كيفية تأدية المناسك فى الحج الصوفى فى مصر المملوكية .

2 ـ وفى البداية فإن مراسم الحج التى للكعبة قد طبقها المصريون فى زيارتهم أو حجهم لضريح البدوى أشهر الأولياء. مقابل أشهر الحج ىللبيت الحرام فهناك موسم محدد للحج للبدوى، هو المولد الكبير فى نهاية  شهرأبيب وأول شهر مسرى بالإضافة إلى المولد الصغير والمولد الرجبى .وكما أن العمرة الإسلامية طوال العام فإن زيارة ضريح السيد البدوى مفتوحة أيضا طوال العام .  وفى موالد البدوى يقوم المصريون بكل مراسم الحج من قدوم وطواف وسعى وتقديم (عجل السيد) نذراً والتمسح بالحجر الأسود عند الضريح. وهناك شعرمنسوب للبدوى يلخص هذه المناسك يقول ..

ألا أيها الزوار حجوا لبيتنا

                        وطوفوا بأستار له تبلغوا المنى

وعند الصفى فاسعوا وحلوا

                       رحالكم تحط ذنوب فى مواطن أمننا

وفى يوم عيد الوصل أوفوا بنذوركم

                         كذا تفث فاقضوا وطوفوا ببيتنا

فكل زمان فيه وصلى فعيدكم

                          وكل زمان فيه قربى لكم منى[9]

 

ومن الناحية العملية فإن تلك الطقوس تقام عند الحج لأى ضريح صوفى ،إلا أن المراجع فى العصر المملوكى ذكرت تلك الطقوس متفرقة فى ثنايا الحديث عن الأضرحة وأصحابها الصوفية .

3 ـ فالإحرام (السّنى ) بالتجرد من لبس المخيط  جعلوه من أهم مراسم الحج لمولد وضريح عبد الرحيم القنائى ،وهو أشهر الأولياء فى الصعيد . وفى مناقب عبد الرحيم القنائى أنه "اتفق أهل بلاده على تجربة إجابة الدعاء عند قبره : يوم الأربعاء يمشى الإنسان حافياً مكشوف الرأس وقت الظهيرة ويصلى ركعتين، ويقرأ شيئا ًثم يقول: اللهم أنى توسلت إليك بجاه نبيك وبأبينا آدم وحواء وما بينهما من الأنبياء والمرسلين وبعبدك عبد الرحيم إقضى حاجتى"[10].

وكان الناس يمارسون هذه الطريقة فعلاً حتى أن الأدفوى مؤرخ الصعيد  فى كتابه ( الطالع السعيد ) ذكرها داعياً لها ،  يقول " هناك فائدة اسمها فائدة الأربعاء وهى أن يتجه الفرد يوم الأربعاء من كل أسبوع إلى مزار السيد القنائى بعد الظهر حافى القدمين، ثم يتوضأ ويصلى ركعتين، ويقرأ شيئاًمن القرآن الكريم ثم يدعو هذا الدعاء : اللهم أنى أتوسل إليك بجاه نبيك وبأبينا آدم وحواء .. إلخ[11]. . ولا تزال هذه الطريقة متبعة حتى الآن ..

وتطرف الصوفية فى مناسك الإحرام فأوجبوا خلع الحذاء، وليس  ذلك فى مناسك الإسلام من صلاة وحج . والمسلم الآن لا يجرؤ على الوقوف أمام ضريح وهو يرتدى حذاءه، بينما يسمح له الإسلام بالصلاة فى النعال ، ويروى الشعرانى عن شيخه الخواص أنه كان إذا زار السيدة زينب بادر بخلع نعله من العتبة ومشى حافياً حتى يجاور مسجدها[12]..

4 ـ والطواف حول كل ضريح من المناسك العادية والمشهورة، إلا أن ابن دقماق يذكر طريقة للطواف كان يمارسها المصريون على سفح الجامع العتيق ( جامع عمرو أو مسجد الفسطاط ) تماثل طريقة الطواف عند الكعبة . يقول " والطواف به سبع مرات ، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التى يستبقلها الداخل من باب السطح ، وهو يتلو ، إلى أن يصل إلى زاوية السطح اليسرى عند المأذنة المعروفة بعرفة، يقف عندها ، ثم يدعو بما أراد،يمر وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقى عند المأذنة المشهورة بالكبيرة ، ثم يدعو بما أراد ،ثم يمر إلى الركن البحرى فيقف فيه محاذياً لغرفة المؤذنين ، ثم يدعو بما أراد، ثم يمر وهو يتلو إلى المكان الذى ابتدأ منه، ثم يفعل ذلك سبع مرات.."[13]

فهنا طواف سبع مرات ، وبداية ونهاية للطواف ، وأركان، و( ديكورات مصنوعة ) تمثل الصفا والمروة، ووقوف بمأذنة سموها عرفة، ودعاء فى الطواف، ولم يبقى إلا العثور على بئر زمزم لتتكامل الصورة، ولن نتعب كثيراً فقبل هذا الكلام حديث عن البئر التى فى الجامع – مع أن النيل قريب جداً من الجامع- ولكنه لزوم الديكور، يقول ابن دقماق عن تلك البئر ومائها " ومنها عند خزرة البئر الذى بالجامع .. أخبرنى من جرب ذلك غير مرة، وذكر أن ماء البئرالمذكورة من شربه أو استحم به للحمى زالت عنه[14]. أى أن ماء البئر(لما أُخذ له).  ومعناه أن الصوفية حولوا أول مسجد إسلامى أنشىء فى مصر إلى كعبة ( مصرية ) يضاهئون بها بيت الله وشرعوا لهم مناسك ما أنزل الله بها من سلطان .

بل أطلقوا على مسجد الفسطاط أو مسجد عمرو بن العاص :( المسجد العتيق ) تشبيها له باسم البيت الحرام ( البيت العتيق ) (ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)( الحج )، فكما إن جامع عمرو هو أول مسجد فى مصر فإن البيت الحرام هو أول بيت وُضع للناس :(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)  ) ( آل عمران )

5 ـ والوقوف فى مكان معين يشير ويماثل الوقوف بعرفة ، وتكررت عبارة الوقوف فى سطور ابن دقماق فى حديثه عن مناسك الحج لمسجد الفسطاط ، بالاضافة الى المأذنة التى سمّوها ( عرفة ) : (والطواف به سبع مرات ، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التى يستبقلها الداخل من باب السطح ، وهو يتلو ، إلى أن يصل إلى زاوية السطح اليسرى عند المأذنة المعروفة بعرفة، يقف عندها ، ثم يدعو بما أراد،يمر وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقى عند المأذنة المشهورة بالكبيرة ، ثم يدعو بما أراد ،ثم يمر إلى الركن البحرى فيقف فيه محاذياً لغرفة المؤذنين ، ثم يدعو بما أراد، ثم يمر وهو يتلو إلى المكان الذى ابتدأ منه، ثم يفعل ذلك سبع مرات  )

على أن الوقوف بعرفة فى المسجد العتيق لم يكن الوقوف الوحيد فى مناسك الحج  الصوفى .فالسخاوى الصوفى يذكر( أن العلماء –لاحظ وصفه لهم بالعلماء –والزوار كانوا يقفون عند قبر القمنى ويجعلون صلة- أى قبر صلة ابن ألآيهم - أمامهم وسالماً العفيف عن يمينهم وأبا الحسن الصائغ عن شمالهم ويدعون فيستجاب لهم)[15]. فهنا وقوف محدد فى بقعة معينة شرعها علماء الصوفية وطبقوها، وزعموا أن الدعاء بذلك مستجاب . ولا يجرؤ أحد على ان يسألهم عن دليلهم فى أن هذا يضمن إستجابة الدعاء .!! ويقول السخاوى عن وقوف آخر "إن من وقف بين قبر المحاملى والأنبارى ودعا بما شاء استجيب له"[16]. ويقول "وكل من وقف بين مشهد عبد الله بن عبد الرحمن الزهرى وبين قبر الشريف المؤيد ودعا استجيب له وجُرّب ذلك ..[17]. فالدليل هنا هو زعمهم بأنّ هذا صحيح بالتجربة . وفى نفس الوقت ينهون من يتوسل أن يفعل ذلك عن طريق التجربة بل لا بد أن يكون مخلصا فى إعتقاده .. تناقض كالعادة.!

6 ـ وضمت المناسك الصلاة والقراءة. ففى الحج لقبر فخر الدين الفاسى ذكر ابن الزيات والسخاوى أن أحدهم رأى النبى (ص ) فى رؤيا منامية يقول فيها : ( إن من توضأ ثم صلى فى المسجد ركعتين يقرأ فى الأولى فاتحة الكتاب وسورة تبارك وفى الثانية فاتحة الكتاب وهل أتى على الإنسان ، ويخرج من المسجد ووجهه إلى القبلة إلى أن يأتى قبر أبى الخير التيتانى لم يسأل حاجة إلا أعطاه إياها "[18]. ) .وهنا تشريع يفترى على الرسول كذباً ليكتسب مصداقية لدى الناس وليشيع شهرة لأولئك الأولياء الموتى ليحجّ اليهم الناس .

7 ـ واختصت المناسك الصوفية باختراع جديد لا يزال بعض علماء الأزهر يمارسونه حتى الآن ، وهو إسناد الظهر للضريح والتوسل به على هذا الشكل. وكان يفعل ذلك رئيس لجامعة الأزهر فى السبعينيات، كان يسند ظهره إلى ضريح الحسين ويتوسل به، وكان يفخر بذلك أمامنا ونحن طلبة فى الدراسات العليا. !

وقد أشار ابن الزيات إلى هذه الطريقة فى حديثه عن مسجد الرحمة " مسجد بنى قرافة " قال فيه "وقد كان من يلحقه من المصريين أمر ضايقه أو أصابته شدة يقصد هذا المسجد ويصلى فيه ،ويسند ظهره للعمود الذى فى وسطه،الذى عليه صفة منامه ورؤيا النبى فيه ،وأنه يأمر بالدعاء فيه، فتزول همومهم وتفرج غمومهم وتقضى حوائجهم [19].  

وروى ابن الزيات عن بعضهم أنه مرض مرضاً شديداً فرأى فى المنام من يقول له " أمضى إلى قبر عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وقف بينه وبين الشريف المدفون معه فى التربة ، وألصق ظهرك إلى الحائط وابتهل إلى الله، فلما أصبح فعل ذلك فعافاه الله، قال : وما وقعت بعد ذلك فى شدة أو تعسرت علىَ حاجة إلا أتيت المشهد ،ودعوت، فيستجاب لى ".

 رابعا : - المناسك المالية :

1 ـ ويقصد بها النذور التى كان الحجاج يقدمونها للأولياء وسدنة الأضرحة .. وقد حرص الصوفية على هذه المناسك بالذات حتى لقد ارتبط الحج الصوفى بتقديم النذور للأضرحة والأولياء .

ومعلوم أن النذر فى الإسلام لا يكون إلا لله وحده، يقول جل وعلا : (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)( البقرة ). وفى تقديم النذور فى الحج يقول جل وعلا محذرا من رجس الأوثان ومن إفتراء الأكاذيب وقول الزور :( ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ). وقد ذكر رب العزة جل وعلا أن الجاهليين كانوا يقدمون النذور لله وللأولياء، ولأن الأولياء فى اعتقادهم هم الواسطة بينهم وبين الله فكانوا يقدمون كل النذور إليها بالأصالة وبالوساطة أى هى الواسطة عندهم لله ، فما يقدمون لله جل وعلا فهو أيضا لتلك الأولياء التى تقربهم لله زلفى بزعمهم ،يقول جل وعلا :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) الأنعام 136 ). وكان ـ ولا يزال الجاهليون والجاهلون ـ يحجون الى معابدهم المقدسة سراعا فى لهفة، والله جل وعلا يصور حالهم يوم البعث بحالهم وهم يسارعون الى الموالد والحج للقبور المقدسة ، يقول جلّ وعلا عن يوم البعث : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)(المعارج ). والى معابدهم المقدسة كانوا يقدّمون أيضا الهدى، أى ينحرون الذبائح قربانا للولى المدفون المعبود . والله جل وعلا حرّم الكل ممّا( ذُبح على النّصًب ): (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (3)( المائدة ).

2 ـ والغريب أن العصر المملوكى كان يطلق على القرابين التى تقدم للأولياء نذوراً، بينما يطلق على النذر المقدم لله قرباناً . ففى طاعون 822 قيل عن المؤيد شيخ " ذبح بيده قرباناً قربه إلى الله تعالى نحو مائة وخمسين كبشاً سميناً"[20]. ).

3 ـ والعادة أنّه عندما يموت الولى يقام على قبره ضريح ،وتشاع حوله الكرامات، فيتوافد عليه الحجاج، وتقدم له النذور والقرابين ويلاحظ أن موالد البدوى الثلاثة لا يتفق واحد منها مع تاريخ ميلاده أو حتى تاريخ وفاته، وإنما روعى فيها فقط أوقات النيل والزراعة والرى  ولتمكين أكبر عدد من الفلاحين من حضور المولد وجيوبهم عامرة بالأموال بعد بيع المحاصيل [21].

4 ـ وفى كتاب عبد الصمد الأحمدى عن البدوى وأتباعه ارتبطت الموالد بالقرابين التى تقدم للأضرحة، يقول : (فالموالد العظام أقيمت للشيخ يوسف الأنبابى) . والموالد إذا كانت عظيمة فالنذور فيها أعظم. ويقول عن أولاد الشيخ أحمد المعلوف بالقليوبية إن لهم  نذورا ، ويزعم أنّ ( كل من قطعها خربت دياره، ) وهذا تهديد لمن يحنث بالنذر ، ويعترف عبد الصمد أن أولاد هذا الولى الصوفى عصاة ، ومع ذلك فكرامات أبيهم سارية :( رغم كونهم على غير نعت الإستقامة )، وعن الشيخ على البريدى:( ينذر الناس له النذور.) والشيخ عمر الشناوى:( يُعمل له مولد عظيم .. ويحصل فيه مدد عظيم ) ،أى نذور عظيمة[22].

5 ـ وكان تقديم النذورإلى الضريح دلالة على الحج إليه فى المصادر التاريخية والصوفية، يقول المناوى عن البدوى  "وجعلواعلى قبره مقاماً واشتهرت كراماته وكثرت النذور إليه وعظُم أمره "[23]. ويقول المقريزى عن ضريح الدسوقى " قبره إحدى المزارات التى تحمل إليها النذور ويتبرك بها "[24]. ويقول عنه آخر "يزورونه ويقصدونه بالنذور وغيرها "[25]. . وقيل عن جد أبى المواهب الشاذلى "كان من الصلحاء ، وله ضريح بسنهور مقصود بالزيارة والنذور"[26].

6 ـ وحين ينصرف الناس عن أحد الأضرحة ولا يحجون إليهم ينعدم نصيبه من النذور، يقول ابن الزيات عن مسجد بنى قرافة " وكان هذا المسجد الشريف كثيراً ما تأتيه النذور بالشموع والخلوق والبخور، فغفل الناس عنه، وهو اليوم مهجور"[27].

7 ـ ولهذا حرص الصوفية من سدنة الأضرحة على استمرار نشر الكرامات لضمان توافد الحجاج باستمرار وضمان سيل النذور،وبلغ حرصهم حد التهديد بمعاقبة من لا  يوفى بالنذر . ولا يزال الفلاحون وأبناء البيئات الشعبية  فى المدن يتخوفون من عدم الوفاء بنذر الأولياء تأثراً بتلك الأساطيرالتى أشاعها الصوفية منذ العصر المملوكى . ويفترى الشعرانى أن شخصاً  نذر حصاناً لضريح الشيخ يوسف البرلسى ثم أراد الناذر أن يبيع الحصان فهرب منه الحصان ودخل قبر الشيخ البرلسى ولم يخرج منه، وقد ردد عبد الصمد هذه الأسطورة[28]. وأساطير أخرى من هذا النوع رددتها مراجع الصوفية[29].

8 ـ وأصبح النذر للاولياء عادة إجتماعية تحدث تلقائيا حتى بدون دعاية صوفية . فقد حدث فى العصر المملوكى سنة 781 أن شخصاً كان يتكلم من خلال حائط ، فافتتن به الناس ، وقالوا ( يارب سلّم ..الحيطة بتتكلّم.! ) . واصبحت من وقتها مثلا . صاروا يحجّون إلي الحائط  ، وبالتالى أخذوا يقدمون النذور لذلك الحائط ، يقول ابن إياس :" وصاروا يجلبون له أشياء كثيرة من الطيب والماورد ومن الزعفران كل يوم على وجه النذر" "ولما شاع أمره جاء إليه جماعة من الأمراء المقدمين والأعيان وحملوا إليه أشياء كثيرة من المآكل والمشارب وغير ذلك .. "[30].

9 ـ والناس لم يقدموا النذور للأضرحة بدون مقابل فهم يعتقدون فيها النفع والضرر.. وهكذا فللحج الصوفى أغراضه الدينية من تحقيق الرغبات وإجابة الدعوات ..



[1]
قواعد الصوفية جـ1/ 161.

[2]الطبقات الكبرى جـ2/65 طبعة قديمةز

[3]تحفة الأحباب 487 .

[4]الكواكب السيارة 288 ، 85.

[5]الكواكب السيارة 288، 85.

[6]المدخل جـ1/124 .

[7]الكواكب السيارة 128.

[8]تحفة الأحباب 117.

[9]عبد الصمد .الجواهر 122.

[10]مناقب عبد الرحيم. مخطوط ورقة 20.

[11]الطالع السعيد 157.

[12]لطائف المنن 337.

[13]الإنتصار 75.

[14]الإنتصار 75.

[15]تحفة الأحباب 261، 262، 284، 364، 365.

[16]تحفة الأحبابب 261، 262، 284، 364، 365.

[17]تحفة الأحباب 261، 262، 284، 364، 365.

[18]الكواكب السيارة 109،تحفة الأحباب4.

[19]الكواكب السيارة 179، 241.

[20]النجوم الزاهرة جـ14/79، تاريخ ابن اياس جـ2/46.

[21]عاشور.البدوى275.

[22]الجواهر 216، 7 2

[23]الطبقات الكبرى 274.

[24]السلوك جـ1/3/739.

[25]مناقب الوفائية 16.

[26]مناقب الوفائية 39.

[27]الكواكب السيارة 179.

[28]الطبقات الكبرى جـ2/95، الجواهر 27.

[29]مناقب الفرغل 14، 15. الكواكب السيارة 217، 218.

[30]تاريخ ابن إياس جـ1/2/246.

 

 الفصل التاسع : أغراض الحج الصوفى ..

مقدمة :

1 ـ فى الحث ّ على الحج الى الأنصاب الصوفية ترددت أقاصيص صوفية عن متوسلين بالأضرحة قدموا إليها من أماكن بعيدة، ثم ناموا عند أعتابها يشكون همومهم فيأتيهم صاحب الضريح فى المنام يحل مشاكلهم، فيستيقظ أحدهم فإذا الحلم حقيقة .. على أساس هذا الهيكل دارت معظم أساطير التوسل بالأضرحة [1].

2 ـ وبسبب سيطرة دين التصوف فقد اعتاد العصر المملوكى الحج إلى الأضرحة، وإمتلآت القرافة ( أو مكان الدفن فى القاهرة ومصر ) بقبور أصبحت أوثانا مقدسة تشاع حولها أساطير الكرامات ، غدت القرافة بتلك القبور المقدسة أهم المزارات يحج اليها آلاف الناس من القاهرة وخارجها حتى من القادمين لمصر أو ( السيّاح ). وقد حرص ابن بطوطة فى كتاب رحلته على تسجيل معالم القرافة وقبورها المقدسة ، ومثله فعل آخرون كالعلوى وابن ظهيرة دليلا على إزدهار ما يعرف الآن بالسياحة الدينية فى العصر المملوكى . بل أصبحت القرافة مقصدا للنزهة ، تأتى اليها العائلات للمبيت فى أيام محددة ، وتكون مناسبات للفسوق والعصيان مرتبطة بالتزاحم أمام الضريح والطواف حوله .

3 ـ هذا التوافد على القبور المقدسة فى قرافة القاهرة أسفر عن تخصص نفر من شيوخ الصوفية فى مهمة ارشاد الزوار،وأصبحت لهم مهنة مربحة ، فتكاثر العاملون بها من الشيوخ، وأصبحوا طبقة سميت بمشايخ الزيارة. ومن أعيان هذه الطبقة من ألَف فى طقوس الحج أو ترتيب الزيارة ، مثل ( ابن الزيات ) صاحب كتاب "الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة"، وتلميذه (السخاوى ) صاحب كتاب"تحفة الأحباب" . وحفلت هذه النوعية من الكتب بأساطير الكرامات للأولياء الموتى تعزّز من الاعتقاد فيهم ، ومن جدوى الحج الى أنصابهم . بل وتجعل للحج اليهم مكافأة ، أصبحت هذه المكافأة أغراضا للحج لتلك الأنصاب .

ونكتفى هنا بما كتب ابن الزيات وتلميذه السخاوى الصوفى  فى التعرف على أهم أغراض الحج الصوفى فى العصر المملوكى . وما ذكراه هو صادق فى تصوير عقلية العصر ومعتقداته ، وإن كانت هذه المعتقدات فى حد ذاتها خرافات دين أرضى كاذب فاجر .

الحج للضريح لأجل التداوى :

1 ـ عن طريق الأساطير والكرامات الصوفية والتى يذيعها سدنة الأضرحة اشتهر بعضها بترابها الشافى أو بمائها الذى يقال فى الأساطير أنه يبرئ المرضى ، وكان هذا نوعا من التخصص والتميز لتلك الأضرحة ، فكانت تلك الأضرحة مقصودة بالحج طلبا للتداوى إيمانا وتصديقا من الناس بتلك الخرافات . وقد ذكر السخاوى فى تحفة الأحباب كثيراً من الأمثلة منها ( مسجد الرعينى )  قال عنه "من المساجد الشريفة المقصودة بالدعاء وبه بئر يستشفى بمائها، وكان مستفيضاً عند المصريين أن من أصابته الحمى فيأخذ من هذا البئر ويغسل به فيذهب عنه الحمى "[2].  ، أى نحن أمام ( عيادة طبية متخصّصة ) مشهورة إستفاض عند المصريين شهرتها فى شفاء الحمى ،وبها بئر فيه ( شفاء للناس ).!

2 ـ ويهون الشرب من الماء إذ لم يكن ملوثاً، أما الذى لا تحمد عقباه فهو تناول تراب المقبرة والاكتحال به للتداوى فى علاج العيون.!. يقول السخاوى عن قبر على بن صالح الكحال : (لاحظ ارتباط اللقب بمهمة الضريح ) : "قيل من كراماته أن من أصابه رمد وجاء إلى قبره، وقرأ شيئاً من القرآن الكريم ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم ويحسِن ظنه( لاحظ أثر الإيحاء هنا ) ويمسح على عينيه من تراب القبر فإنه ينفعه ذلك .. وقد جربه جماعة ووجدوا عليه الشفاء "[3]. .. وربما كانت هذه مؤامرة صوفية لإصابة المصريين بعمى البصر بعد عمى البصيرة !!

3 ـ وقال السخاوى عن قبر ذى النون المصرى "ما أخذ أحد من تراب مقبرة ذى النون قدر درهم أو أكثر وسأل الله حاجته وهو معه أو كان مريضاً وعلقه وسأل الله تعالى الشفاء إلا قضيت حاجته وشفى بإذن الله ، وقد جرب ذلك جماعة "[4]. أى إن تراب مقبرة ذى النون المصرى فيه إجابة لأى دعاء ، وشفاء لأى مرض.

وواضح التركيز هنا على التجربة، والتجربة مبنية هنا على الإشاعات والأساطير شأن كل إفتراءات الصوفية .

4 ـ وكما عاقب الصوفية المصريين بتكحيل عيونهم بتراب الأضرحة فإنهم اخترعوا نوعاً آخر من التعذيب والاذلال وامتهان الكرامة، حين أرغموهم على التشبه بالحيوانات التى تتمرغ فى التراب، تراب الأضرحة طبعاً .. يقول السخاوى عن مشهدين فى القرافة " ومن الناس من يأتى إلى هذين القبرين ويتمرغ بخده ويقصد بذلك الشفاء "[5]

وفى المصادر التاريخية ما يؤيد صاحب تحفة الأحباب فيذكر المؤرخ المملوكى أبو المحاسن بن تغرى بردى فى ( المنهل الصافى ) أن قبر الأمير المملوكى تمان تمرى  ت764 كان "يُزار" أى يحج اليه الناس ، ويتبرّكون بتراب القبر ، يقول :" ويؤخذ من ترابه للتبرك "[6].

وحتى يتم التبرّك بالتراب فلا بد من وضعه بكل إحترام على الوجه ومواضع المرض .

الحج لقضاء الدين :

1 ـ واشتهر بذلك ضريح عبد العزيز الدرينى شيخ الطريقة الرفاعية فى مصر العصر المملوكى . يقول  ابن الزيات فى ضريح الدرينى إنّه " مشهور بإجابة الدعاء فى قضاء الدين " ويقول فيه السخاوى " عُرفت هذه البقعة بإجابة الدعاء وأن من عليه دين إذا قال :"اللهم بما بين بينك وبين صاحب هذا القبر عبدك الردينى إلا ما وفيت دينى " إلا استجيب له"[7]. .. أى هم يعتقدون بالصلة الوثيقة بين الله جل وعلا والدرينى ، ويراهنون على متانة هذه الصلة فيقسمون بها على الله جل وعلا .!!

ورويت أساطير كثيرة فى هذا الشأن [8].

الحج للضريح توسلاً للحج إلى مكة :

1 ـ لم يترك الصوفية الحجّ لبيت الله خالياً من تدخلهم ، طبقاً لما أرسوه فى عقائد العصر المملوكى من اعتبارهم واسطة بين الناس ورب الناس . فلم يتركوا حجاج البيت الحرام دون الإلحاح بأن يستعينوا على الإستعداد للحج بالذهاب للأضرحة والتوسل بها كى تعينهم على الحج لمكة المكرمة .

ينقل ابن الزيات رأى شيخ صوفى وصفه بأنّه : (الإمام العالم العلامة ابن غزال الحضرمى )، يقول هذا الحضرمى فى تشريع جديد إفتراه : ( من أراد الحج إلى بيت الله الحرام فليغتسل فى آخر أربعاء فى الشهر ، أى شهر كان، بعد صلاة الفجر ، ويلبس ثوباً ، ويتطيب بطيب إن كان عنده، ويأتى إلى قبر الشيخ أبى الحسن الدينورى ، ويصلى عنده   أربع ركعات ، يقرأ فى الأولى بفاتحة الكتاب وأية الكرسى، والثانية بفاتحة الكتاب، وإنا أنزلناه فى ليلة القدر، وفى الثالثة بفاتحة الكتاب وألهاكم التكاثر، وفى الرابعة بفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص، ثم يسلم ويقول : يا فرد لا يزدوج ، يا مالك الأشباح والمهج ، يا ودود يا ودود ، ويا ذا العرش المجيد ، يا مبدى يا معيد ، يا فعال لما يريد .. يا مغيث أغثنى  يا مغيث أغثنى، ويشير بأصبعه إلى القبر. ويكون ذلك قبل طلوع الشمس، ثم يقول الله أجعل ثواب هذه الصلاة للشيخ أبى الحسن الدينورى صاحب هذا القبر.. ثم تنزع ثيابك وتجعل فى وسطك سروالاً، وتتمرغ على القبر، وتجعل رجليك خارجاًعن القبر، فإنك تحج فى سنتك .. وإياك أن تجعله على وجه التجربة فإنك لا تنتفع به "[9]. )

2 ـ وبدراسة النص السابق يظهر منه أن الصوفية حرصوا على إيقاع من يريد الحج لبيت الله فى جريمة الشرك قبل أن يحج للكعبة . فأرغموه على أن يصلى إلى قبر ويتوسل به ويشير إليه بإصبعه متوسلا حين يدعو،ثم يبدأ الإحرام عند ذلك القبر بنزع ثيابه ولبسه سروالا ، بل يتمرغ كالحيوان فى تراب القبر ، ويتجه برجليه بعيدا عن الفبر تقديسا للقبر . وفى النهاية يحذره من أن يفعل ذلك على سبيل التجربة . بل لابد أن يقوم بكل هذا الذلّ والهوان وهو فى تمام الخشوع والإيمان .

3 ـ وهذه النصائح الثمينة وجدت لها المنفذين فى العصر المملوكى بدرجات متفاوتة، يقول ابن الزيات عن قبر فاطمة العابدة " من أراد الحج يطوف حول قبرها سبعاً وينوى بذلك تسهيل الحج فإنه يحج فى  سنته" [10].  ويقول السخاوى عن قبورأخرى " ومن خصائص زيارتهم أن من زارهم سبعة سبوت على نية الحج أو قضاء الدين أو حاجة، قضى الله حاجته، وقد جرب الناس ذلك فوجدوه كذلك . فينبغى لمن عزم على زيارتهم وغيرهم أن يخلص نيته"[11].

وهذا إصرار على أن يخلص الحاج لبيت الله الحرام فى توسله  بالأضرحة قبل أن يسافر إلى مكة ، كأنما يخافون أن تسرقه الكعبة منهم ..

خاتمة

فى الوقت الذى سيطر فيه دين التصوف الأرضى على المصريين وجعلهم يتمرغون بتراب الأضرحة طلبا للتداوى كانت أوربا تتحرّر من دينها الأرضى وتبدأ منهج البحث التجريبى ، كأنما تستجيب لقوله جلّ وعلا (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ( العنكبوت ) وبدأت أوربا تسير فى الأرض وتفتح عصر الكشوف الجغرافية كأنما تستجيب لقوله جل وعلا (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الحج ) (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)( الملك ) .

تحررالغرب من سيطرة أديانه الأرضية فدخل بالعالم وقتها الى عصر المخترعات والكشوف الجغرافية ، ويدخل الغرب بنا الآن يبحث فى فضاء النواة داخل الذرة وفى فضاء النجوم والمجرّة . بينما لا يزال المسلمون يقتتلون فيما بينهم فى صراع لا يهدأ، بين أديان أرضية شيطانية ثلاثة : السنة والتصوف والتشيع .

ثم يتهمون الاسلام بأنه هو السبب فى تخلف المسلمين السنين والصوفيين والشيعة .!! وحين نجتهد فى تبرئة الاسلام ونشير لأدينهم الأرضية بأصابع الاتهام يتهموننا بإزدراء الأديان .

نحن فعلا نزدرى تلك الأديان الأرضية . ونتقرب الى الله جل وعلا بإزدرائها ..

وموعدنا امام الواحد القهّار ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون .



[1]
الكواكب السيارة 43، 132، 133، 180.مجرد أمثلة.

[2]تحفة الأحباب 318.

[3]تحفة الأحباب 260.

[4]تحفة الأجباب 359، 360.

[5]تحفة الأحباب 332.

[6]المنهل الصافى جـ2/478.

[7]الكواكب السيارة 302، تحفة الأحباب440، 441.

[8]الكواكب السيارة 148،180،تحفة الأحباب 356.

[9]الكواكب السيارة 287، 288.

[10]الكواكب السيارة 122.      

[11]تحفة الأحباب 487.

 

الفصل العاشر : الكعبات الصوفية المشهورة بالحج إليها فى مصر المملوكية  

أولا : الحج لأنصاب مقدسة ولشخصيات حيّة مقدسة  

1 ـ كما كانت للعرب فى الجاهلية كعبات يحجون إليها بالإضافة إلى كعبة بيت الله الحرام فإن مصر المملوكية تناثرت فيها القبور المقدسة التى تضاهىء الكعبات الجاهلية ، وقصدها الناس بالتقديس والحج.

ولكن إزداد ضلال التصوف عن الجاهليين بتقديس الأحياء وليس فقط الأولياء الموتى . وقد شارك بعض الصوفية الأحياء فى استقطاب الناس فتوافدوا عليهم ، ووصف الشعرانى أحدهم فيقول: ( كان الناس يزدحمون على الشيخ شمس الدين الدمياطى لتقبيل يده، ومن لم يستطع يلقى عليه بردائه ثم يقبل ذلك الرداء، كما يفعل الناس بكسوة الكعبة .)[1].  

ولم يكن بعض الصوفية يحظى بهذا التقديس ورأى انصراف الناس عنه إلى الأولياء الموتى فقال مغتاظاً مقالة أبى العباس المرسى : ( يكون الرجل بين أظهرهم فلا يلقون إليه بالاً حتى إذا مات قالوا كان فلان، وربما دخل فى طريق الرجل بعد وفاته أكثر مما دخل فيها فى حياته"[2].) أى كان يشتهر بعضهم أكثر بعد موته وتحوله الى قبر ، والسبب هنا فى نجاح سدنة الضريح فى الدعاية لتنهال عليهم النذور بكل أنواعها ، فيأكلونها ويشربونها ( فى صحة الولى المقبور ).

2 ـ والواقع أن الإحتفال بالأضرحة والحج إليها كان ظاهرة تتجلى بين سطور الحوليات التاريخية للعصر المملوكى فضلاً عن كتب الصوفية،  فدائماً تتكرر عبارات (وقبره ظاهر يزار)، ( يقصد للزيارة والتبرك)، ( معروف بإجابة الدعاء ). وفى فتنة البقاعى وصراعه مع خصومه الصوفية بسبب تكفيره لابن عربى وابن الفارض، كان البقاعى وفقا لما جاء فى تاريخه المخطوط ، يصف خصومه الصوفية بأنه : ( كان معهم كثير من الجند ممن يُحسّن له أتباعه زيارة الأموات، ويوقع فى قلبه أن بيدهم الإسعاد والإشقاء )[3].  . كان تأثير شيوخ التصوف هائلا على العسكر المملوكى ، فانحازوا لهم فى صراعهم ضد البقاعى ، مع وضوح الحق الى جانب البقاعى . أى أقنع شيوخ التصوف العسكر المملوكى بأن الأولياء الموتى لديهم كرامات وتصريف فى الناس بالإسعاد والإشقاء .

ثانيا : تفضيل ضريح البدوى على ( الحرمين )

ومع التشابه فى الحج بين الجاهلية العربية والجاهلية الصوفية فإننا نلمح بين السطور أحيانا إشارات لتفضيل الحج للبدوى على الحج للبيت الحرام والقبر المنسوب للنبى فى المدينة ، ربما لأن الحج الى مكة والمدينة كان وقتها مثقلا بالمتاعب وإحتمالات الإغارة من الأعراب فى الطريق ، بينما كان الحج لضريح السيد البدوى فى طنطا نزهة بحرية برية رائعة عبر البحر المتوسط والنيل وفروعه وحقول الدلتا ، وحيث تتوسط طنطا الدلتا وتقع فى منتصف الطريق بين القاهرة والاسكندرية . من هنا تعاظم التوافد على طنطا حجّا للسيد البدوى ، وكان يحلو للعامة المقارنة بين الحج للبدوى والحج لبيت الله وتكون النتيجة طبعاً فى صالح البدوى ، يقول السخاوى المؤرخ المحدّث الفقيه فى تاريخه ( التبر المسبوك ) : ( قال الغوغاء فى مولد البدوى : جاء الزوار لسيدى أحمد من الشام وحلب ومكة والحجاز فى المحاير والماورديات أكثر من حجاج  الحرمين )[4]. والسخاوى الفقيه المحدّث هنا غير السخاوى الصوفى صاحب ( تحفة الأحباب فى المزارات ) . لذا نرى السخاوى المؤرخ الذى كان مشهورا بسلاطة اللسان يصف صوفية عصره بالغوغاء :( قال الغوغاء ) ، ولم يقل ( سيدى أحمد البدوى ) بل قال ( فى مولد البدوى ) ثم أورد كلامهم فى تقديس سيدهم البدوى (جاء الزوار لسيدى أحمد ) ونعرف أن من الحجّاج من أتى لطنطا حتى من الشام ومكة والحجاز ، وأن منهم من ركب السفن النيلية أو (المحاير والماورديات ).

ثالثا : عالمية الأنصاب المقدسة فى مصر  

1 ـ والواقع أن الحج للانصاب المصرية الصوفية كان عالميا حسب ظروف الوقت ، يأتى الحجاج للبدوى وغيره من خارج مصر . حتى أصبحت موردا سياحيا بتعبير عصرنا ، وصناعة قامت عليها أرزاق شيوخ الصوفية وأعوانهم ، من سدنة الأضرحة وشيوخ الزيارة ، علاوة على الأسواق التى كانت تزدهر فى الموالد . وأدى غرام الصوفية المصريين بتقديس الأضرحة وحرصهم على تحويلها الى مصدر رزق جعلهم يؤسسون أضرحة ترضى الجميع للصوفية ولغير الصوفية ، ليجتذبوا لهم الزبائن من ( كل فج عميق ) ومن كل الملل والنحل .  فبعض الأضرحة التى تشد إليها الرحال أقيمت على أسماء كثيرة لأنبياء وصحابة وزهّاد وعلماء من عصور سابقة كالعباسى والأموى ، بعضهم لم يأت أحدهم لمصر ولم يمت بها ، وبعضها لأشخاص وهميين لا وجود لهم فى الحقيقة ، هذا بالإضافة للصوفية والأشخاص العاديين. كما تنوعت فيها الجنسيات من مصريين وعرب ومغاربة وفرس ورجال ونساء وصبيان. ولاجتذاب الشيعة تم تشييد أضرحة مزورة منسوب لذرية على بن أبى طالب . وتكاثرت الأضرحة المزورة الى درجة أن شيوخ الزيارة أنفسهم كانوا يعترفون بذلك ، ولكن يوصون بزيارتها تمسكا بحُسن النية وسلامة الاعتقاد بزعمهم .

2 ـ وفى كتاب زبدة الممالك وهو كتاب ( محايد )  فى الجغرافيا أو علم ( المسالك والممالك )فى مصطلح العصر المملوكى ، عدّ المؤلف طائفة من الأماكن المقصودة بالحج منها :( مشهد زنبور، ومشهد التبرك، ومشهد القصر، يقال أن بهؤلاء رأس الحسن والحسين، ومشهد به صخرة موسى،ومشهد السيدة نفيسة، ومشهد فاطمة بنت إسماعيل بن جعفر الصادق، ومشهد أمينة بنت محمد الباقر، ومشهد رقية بنت على بن أبى طالب، ومشهد الشافعى، ومشهدعلى بن حسين بن على زين العابدين، ومشهد الكيزانى،ومشهد آل البيت، ومشهد على بن عبد الله بن القاسم، ومشهد ابنه موسى الكاظم، ومشهد يحيى ابن الحسين بن زيد بن الحسن بن على . ) ، ويستمر فى سرد المشاهد المنسوبةلآل البيت ، إلى أن يذكر بعدهم  مشاهد لأنبياء وأولاد الأنبياء، ومنها ( قبر روبيل بن يعقوب، ويهوذا أخيه ، وذو اليسع، وقبر خال النبى أخى حليمة السعدية . ). ثم يورد قبور صحابة وتابعين: ( ومشهد عمرو بن العاص، وقبر عبد الله بن الحارث، وقبر كعب الأحبار، ومقام موسى، ومعبده، ومقام ابراهيم، ومكان يعرف بصالح العزيز، والمطرية مكان مبارك يستخرج من بئر فيه دهن البلسم، وهناك عين شمس، وبالصعيد جبل الطير .. والجبل الساحرة وهو جبل مبارك يُنذر له، وفى غرب الحسينية قرية تعرف ببهدال به مشهد ينزل عليه النور، وهناك مساجد كثيرة تعرف بيوسف الصديق، والمسيح بن مريم، ويقال أن بالصعيد قبر ارسطاطاليس" [5].

أى أن المصريين فى العصر المملوكى أقاموا أضرحة تذكارية لأكثرالشخصيات المشهورة فى التراث السابق، ولأديان السّنة والتشيع والتصوف والأقباط ، بل للحيوانات أيضاً مثل بقرة موسى، كما أعادوا تقديس الأماكن الفرعونية والقبطية فى المطرية وعين شمس والصعيد.. وهنا تسامح دينى يتميز به دين التصوف خلافا لتزمت الدين السّنى !!. ومبعث هذا التسامح إقتصادى ، فعيونهم كانت ولا تزال على النذور.

رابعا : الاختلاف فى تحديد الكعبات الأكثر قداسة فى مصر المملوكية

1 ـ لم  يهتم كاتب ( زبدة الممالك ) بتحديد القبور الأكثر تقديسا والمشهورة بأن الدعاء عندها مستجاب . ولكن  إهتمت كتب المزارات الصوفية بأشهر الأضرحة بالبركة والدعاء المستجاب فى إعتقاد الناس .

2 ـ ويتفق ابن الزيات وتلميذه السخاوى الصوفى فى تعيين تلك الأضرحة ، يقول ابن الزيات : ( وهى بالترتيب : أبو الحسن الدينورى، ثم عبد الصمد البغدادى، ثم اسماعيل المزنى، ثم المفضل بن فضالة، ثم أبوبكر القمنى، ثم ذو النون المصرى، ثم يختم ببكار . )[6].

أما السخاوى فيقول عنهم: (  إن من زارهم زار القرافة بأكملها، ويبدأ بالدينورى، فالبغدادى، فالمزنى، فبكار،فالمفضل بن فضالة،ثم القمنى، ثم ذو النون " [7]. ) أى اختلف السخاوى مع استاذه فى ترتيب الزيارة وإن اتفق معه فى تحديد الأضرحة السبعة .

والرحالة المغربى ابن ظهيرة زار مصر المملوكية ، وكتب فيها (  المحاسن الباهرة فى فضائل مصر والقاهرة ) ، وقد زار القرافة وتجول فى طرقها وشاهد أضرحتها ، واستمع الى شيوخ الزيارة فيها ، وأورد ما شاهد وما سمع فى كتابه . وهو يختلف مع ابن الزيات والسخاوى  فى تحديد تلك الأضرحة السبعة المشهورة يقول: ( اشتهر عند المصريين أن بالقرافة سبعة قبور الدعاء عندها مستجاب مجرب لقضاء الحوائج ،وأن من زارها يوم السبت وسأل الله حاجته قضيت، وهى : قبر ذو النون المصرى، وقبر أبى الخير الأقطع، وقبر الربيع المالق، وقبر القاضى بكار، وقبر القاضى كنانة،وقبر أبى بكر المازنى، وقبر أبى الحسن الدينورى "[8]. ). وطبعا لا نعرف من أين عرفوا بأن الدعاء مستجاب عند هذه الأماكن ، وما هو المقياس فى تحديد هذه الأضرحة بالذات ، وما هو المعيار فى الترتيب . وبدلا من أن نرهق انفسنا فى التفكير علينا أن نتذكّر أنه دين أرضى يملك ويصنعه أصحابه، ولهم فيه سلطة التشريع في العقيدة وفى الطقوس . وحيث أننا هنا فى مجال المزارات المقدسة فأصحاب التشريع هنا ههم شيوخ الزيارة.

3 ـ ولأنه دين أرضى قائم على الاختلاف والشقاق والهوى فمن الطبيعى أن يكون ثمة اختلاف فى تحديد الأضرحة الهامة ، تبعاً لأهواء السادة الأشياخ الذين يشرعون للناس الأماكن التى يستجاب فيها الدعاء، وكيفية القدوم وترتيب الزيارة.

4 ـ  بل أن بعضهم قد يختلف مع نفسه فالسخاوى الذى رأيناه يحدد القبور السبعة بالإسم والترتيب فى المناسك نجده يذكر قبورا أخرى مستجاب عندها الدعاء ، يتحدث عن مسجد الأقدام، فيقول" وذكر جماعة من المصريين أن الدعاء به مستجاب، وهذا أحد المساجد السبعة الذين بالقرافة  المجاب عندهم الدعاء"[9]. المضحك أن مسجد الأقدام هذا لم يذكره السخاوى ضمن المساجد السبعة . وهذا المسجد كان بزعمهم يضم ( أرجل وأقدام ) بعض الأولياء أو الآلهة الصوفية، على نسق ( أضرحة الرءوس ) ، فرأس الحسين لها عدة أضرحة، تحظى كلها بالتقديس والحج اليها ، مع أنه كانت للحسين رأس واحدة لا غير ..اليس كذلك ؟

5 ـ نعود للسخاوى. وهو يعد  الأضرحة التى يستجاب عندها الدعاء، إلا أن حديثه عن بعضها يضعه فى تناقض مع تحديده للأضرحة السبعة سالفة الذكر، فهو يقول عن جامع الأولياء : ( وهذا الجامع مبارك لم يزل الناس يضرعون إليه فى أيام الشدائد للتضرع إلى الله تعالى ، وهو موضع شريف ، مجاب الدعاء فيه ، وما زال أهل الخير والصلاة يتبركون بهذا المكان إلى الآن، ولهذا اشتهر بجامع الأولياء"[10]. ) .. وإذا كان الأمر كذلك فلم لم يعده بين الأضرحة السبعة ؟

ويذكر السخاوى وابن الزيات أن المشايخ كانوا يقفون بين ضريحى ابن شقران وذى العقلين ويبتهلون فيستجاب لهم[11]. فهنا مكان آخر عندهما يتفقان على أنه مستجاب عنده الدعاء .!!.

ويقول السخاوى: (  وقيل أن بأرض مصر أربعة أماكن الدعاء فيها مستجاب : سجن يوسف عليه السلام، ومسجد موسى عليه السلام الذى بطرا، ومشهد السيدة نفيسة، والمخدع المذكور فى الجامع المؤيد"[12]. ) وهو هنا ينقل عن غيره ، يقول ( وقيل ..) أى هناك آراء أخرى لمشرّعين آخرين فى تحديد الكعبات المستجاب عندها الدعاء . ويلمح السخاوى إلى وجود اختلافات فى الأضرحة الهامة التى يزعمون استجابة الدعاء عندهم، فيقول عن قبر عقبة بن عامر الجهنى ت58 : ( الدعاء عنده مجاب وليس فى ذلك اختلاف" [13].  )أى أن هناك خلافاً فى غيره .

خامسا : أضرحة مقدسة خاصة بالنساء

1 ـ وهناك أضرحة للنساء مشهورة بالزيارة والحج ومعروفة لدى الناس بالدعاء المستجاب ، ولم يرد ذكرها ضمن السبعة ، مثل مشهد السيدة نفيسة ت208 ، يقول عنه السخاوى "قبرها معروف بإجابة الدعاء،[14].

2 ـ ويقول السخاوى عن مشهد لسيدة أخرى من العلويين : (  مشهد السيدة زينب معروف بإجابة الدعاء، إذا دخل الزائر إلى المشهد المذكور وجد أنساً عظيماً ، وكان أهل مصر يأتون إلى زيارتها. ).ويقول عن صاحبة المشهد : (  وهى السيدة زينب بنت يحيى المتوج بن الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن حسن بن على ت240 . ) ، ويذكر بعض الكرامات  الشائعة عنها : (  وقيل أن النيل توقف فى بعض السنين فجاء أهل مصر إلى هذا المشهد يستسقون فجرى النيل، وفى مشهدها ضريح السيدة فاطمة العيناء من نسل الحسين والدعاء فى محرابها مجاب، وكان المصريون يعظمون هذا المشهد لما رأوا من عظيم بركته" [15]. ).

أى هى غير السيدة ( زينب بنت على ) صاحبة ( جامع السيدة زينب ) المشهور حاليا ، والمنسوب لها ( حى السيدة زينب ). إنّ مشهد السيدة زينب الحالى  لم يكن موجودا فى عصر السخاوى فى القرن التاسع الهجرى ، وإنما تم إختراعه فى القرن العاشر سنة 955 هجريه. بعد موت هذا السخاوى ب55 عاما . المسجد القديم الذى كان لتلك السيدة زينب فى عصر السخاوى لم يلبث أن اندثر ، وتناساه المصريون بعد إنشاء مسجد السيدة زينب القائم الآن ، إثر رؤيا منامية زعم صاحبها أنه رأى روح السيدة زينب تحطّ فى هذا المكان فسارع الكتخدا العثمانى الى تأسيس مسجد فى هذا المكان ، وأصبح من وقتها من أشهر الكعبات فى تاريخ مصر العثمانية و الحالية .. والجنون .. فنون ..!!.

3 ـ وعدَ ابن الزيات أضرحة للسيدات أثناء حديثه عن الأماكن التى تستجاب فيها الدعوات، منها أضرحة لنساء من آل البيت الهاشمى، مثل مشهد السيدة كلثم، وقبر الشريفتين فاطمة الكبرى وفاطمة الصغرى، وأضرحة لنساء عربيات مثل عاتكة بنت عيسى، وفاطمة بنت الأشعث، أو من بنات الأمراء والملوك مثل قطر الندى ، أو واحدة من بنات الشعب مثل عروسة الصحراء[16].

4 ـ ويبدو أن هناك معايير محددة فى الأساطير التى تضاف للقبور، فالقبر المنسوب لامرأة هاشمية لا يحتاج إلى تزكية كبيرة ليشتهر، فيكفى نسبها الشريف شفيعا لها فى شهرتها وتقديسها .  أما إذا كانت عربية غير هاشمية فلا بد من تزكيتها بالصلاة والزهد وقضاء الحاجات كما يقول السخاوى عن ضريح : ( المرأة الصالحة العابدة الناسكة فاطمة بنت الحسين من ولد الأشعث بن قيس كانت من الناسكات المعروفات بقضاء الحاجات وإجابة الدعوات وإغاثة الملهوف، والشهرة فى قومها بالصلاح والبركة وترك الدنيا.. إلخ)[17].وعلى نفس المنوال يقول عن إحدى نساء بنى أمية: (  مشهد السيدة أسماء بنت عبد العزيز بن مروان المعروفة بصاحبة المصحف، كان أهل مصر إذا نزل بهم فتحوا مصحفها بالنهار. ) ، ( ومن نساء التابعين فى وظيفتها رقية بنت عقبة بن نافع المستجاب الدعاء عند قبرها[18].)

أما إذا كانت المرأة مصرية لا نسب لها ولاحسب إحتيج إلى الكرامات لكى تسد النقص ليعلو شأن القبر ويتعاظم التوافد إليه وتتكاثر الأموال لدى سدنة الضريح، يقول السخاوى عن قبر عروس الصحراء أنها( ماتت بكراً من خجلها ليلة عرسها حين استحيت حياء عظيماً فعمت بالعرق، ثم قالت اللهم لا تهتكنى على يد أحد،فاستجاب الله دعائها وماتت، فأظهر هذا السر على قبرها، حتى إن الإنسان إذا وضع يده على قبرها فى زمن الشتاء، يجدها عرقانة . !.. والتربة معروفة بإجابة الدعاء " [19]. ) ، أى أنها استحيت ليلة زفافها فاستحقت أن يرتفع لها ضريح بكرامات مستمرة إلى جانب أضرحة نساء الأشراف اللائى لم يستحيين ليلة الزفاف!!

سادسا : مشهد الحسين ( الرجس الأكبر فى مصر).!! 

1 ـ والتزوير لم يكن فى سبك الكرامات حول الضريح وصاحبه فحسب ،  بل كان أيضاً فى نسبة الضريح إلى صاحبه، فأغلبية تلك الأضرحة كانت مزورة، وعلى رأسها بالطبع كان ضريح الحسين الذى أنشأته الدولة الفاطمية فى مصر فى أواخر عهدها حين احتاجت إلى تأييد المصريين بعد أن انفضوا عنها، يقول ابن تيمية عن ضريح الحسين : ( لم يُحمل رأس الحسين إلى القاهرة، فقد دفنت جثته حيث قتل ، وروى البخارى فى تاريخه أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن فى البقيع عند قبر أمه فاطمة .. فبين مقتل الحسين وبناء القاهرة نحو مائتين وخمسين سنة، وقد بنى الفاطميون مشهد الحسين فى أواخر سنة 550 هجريه وانقرضت دولتهم بعد هذا البناء بنحو أربع عشرة سنة، وهذا مشهد الكذب"[20]. )

ولو كان لرأس الحسين تصريف فى ملك الله لدافعت عن نفسها ولم تسمح لسيف الأمويين بقطعها، والله جل وعلا  قال لجد الحسين ( محمد رسول الله) : (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)(128)( آل عمران ) فهل يكون للحسين أو غيره تصريف فى ملك الرحمن جل وعلا ؟ .ولكن المصريين أقاموا ضريحاً مزوراً على ذكرى رأس غير موجودة، وحتى لو كانت موجودة فهى لم تغن عن صاحبها شيئاً .

2 ـ وبعد انشاء ضريح الحسين بنحو ربع قرن زار مصر الرحالة ابن جبير فى عصر الناصر صلاح الدين الأيوبى، وكعادة الرحالة المسلمين حج إلى المشاهد، وكان ضريح الحسين أول مشهد زاره يقول " فأول ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التى ببركتها يمسكها الله عز وجل، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذى بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن على بن أبى طالب، وهو فى تابوت فضة مدفون تحت الأرض، وقد بنى عليه بنيان طفيل يقصر الوصف عنه" وأسهب فى وصف الضريح والمسجد إلى أن يقول " ومن أعجب ما شاهدناه فى دخولنا إلى هذا المسجدا المبارك حجر موضوع فى الجدار الذى يستقبل الداخل شديد السواد والبصيص" أى وضعوا الحجر الأسود لتتم معالم البيت المقدس.

3 ـ ويصف ابن جبير مناسك الحج فى عهده لضريح الحسين " وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، وإحداقهم به، وإنكبابهم عليه، وتمسحهم بالكسوة التى عليه وطوافهم حوله مزدحمين داعين باكين متوسلين ببركة التربة المقدسة ومتضرعين، ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم،وإنما وقع الإلماع بنبذه من صفته مستدلاًعلى ما وراء ذلك، إذ لا ينبغى لعاقل أن يتصدى لوصفه، لأنه يقف موقف التقصير والعجز وبالجملة فما أظن فى الوجود كله مصنعاً أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع، قدس الله العضو الكريم الذى فيه"[21]. ) وما يقوله ابن جبير يعبّر عن تقديس يعكس كفرا هائلا بالله جل وعلا . وتزايد تقديس مشهد الحسين فى العصر المملوكى ، يقول ابن تيمية فى العصر المملوكى (وأعظم المشاهد بالقاهرة مشهد الحسين فإن أمره عظيم. حتى إذا غلظ أحد اليمين على الحالف يحلفه عند مشهد الحسين ) [22].

سابعا : فنّ التزوير فى أضرحة المشاهير

1 ـ ونعود إلى الرحالة ابن جبيرالذى ألمح إلى شكّه فى الأضرحة فى القرافة وحقيقة انتمائها لأصحابها يقول : ( وأسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة إنما تلقيناها من التواريخ الثابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحة ذلك،والله أعلم بها" وحين تكلم عن مشاهد الصحابة والتابعين يقول فى البداية " والمقيد يبرأ من القطع بصحة ذلك، وإنما رسم من أسمائهم ما وجده مرسوماً فى تواريخها، وبالجملة فالصحة غالية لا يشك فيها أن شاء الله عز وجل"[23].

2 ـ وبعد ابن جبير وفى عصرنا المملوكى تكاثرت الأضرحة المزورة التى تنتسب إلى أنبياء وصحابة حتى اضطر كتاب المزارات أنفسهم إلى التنبيه على زيفها، وإن حرصوا فى نفس الوقت على الدعوة لزيارتها بإخلاص النية. فهناك فى القرافة مشهد لبلال مؤذن الرسول، ويعترف السخاوى بأنه لا أصل له،إلا أنه يقرر وجوب زيارته للتبرك[24]. ويؤكد السخاوى على كذب المشهد المنسوب إلى روبيل بن يعقوب إلا أنه يقول بناء على رؤيا منامية " فالمكان مبارك يزار بحسن النية"[25]. أما ابن الزيات فهو يعد مشهد اليسع ومشهد روبيل من الأضرحة المزورة، وفى نفس الوقت يجعلها من الأماكن التى تستجاب فيها الدعاء[26].

وفى بداية العصر العثمانى – فى القرن العاشر الهجرى- اخترع ضريح جديد نسبوه لزينب بنت على وتمت له الشهرة حتى لقد سميت المنطقة باسمه(السيدة زينب) وأضيفت لها الكرامات والمعجزات التى أضافها المصريين فى العصر القبطى للسيدة مريم وأضافوها من قبل لإيزيس .. أقاموا ضريح (السيدة زينب) سنة 955هجرية 1173م وسرعان ما أصبح مع ضريح الحسين أشهر المزارات فى القاهرة ومصر وأكبر شاهد على التزوير فى التاريخ ،  فلم تأت السيدة زينب بنت على لمصر إطلاقا فى حياتها ، ولم تمت فيها ، ولم تكن القاهرة قد بنيت فى عصرها ، ولم يكن لها قبر حقيقى أو مزور فى مصر حتى نهاية العصر المملوكى. وهو أيضا تزوير ورجس فى العقائد،وصدق الله العظيم : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) ( الحج)." .

ثامنا : الرحالة والحج للأنصاب فى  القاهرة ومصر

واجتذبت الأضرحة أهواء الرحالة القادمين لمصر كما اجتذبت المقيمين فيها، ورأينا كيف بدأ ابن جبير رحلته لمصر فى العصر الأيوبى بزيارة ضريح الحسين وغيره .وفى العصر المملوكى توافد الرحالة من المشرق والمغرب، وكان الحج للأماكن المقدسة أبرز نشاط يحرصون عليه ، كذلك فعل ابن ظهيرة فى كتابه " المحاسن الباهرة" وفعل ابن بطوطة فى رحلته المشهورة، وفعل العلوى فى مخطوطة رحلته.وفيها يقول العلوى عن الإسكندرية" وفى الاسكندرية تربة لبعض الأنبياء وتربة لبعض التابعين" ويقول" استوفيت زيارتهم أجمعين وترددت إلى مبارك نفعهم".ويقول عن قرافة مصر " وهى إحدى العجائب بما تحتوى عليه من  مشاهد الأنبياء وأهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوى الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة، وقد رأيت فيها أثر النبى صالح وقبر روبيل بن يعقوب أخى يوسف وقبر آسية وقبور جماعة من أهل البيت .. على كل واحد منها بناء جميل بديع الإتقان عجيب البنيان.[27].  ).

أخيرا :

وفى كل عصر يتجلى ابليس يخدع كل جيل ، يجعلهم يعبدون الأضرحة ، وهو الصانع الحقيقى لهذا الإفك ، فقد وصفها رب العزة أنها رجس من عمل الشيطان ، وحذّر المؤمنين منها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) ( المائدة )

ودائما .. صدق الله العظيم .!!



[1]
تنبيه المغترين 93، 94.

[2]لطائف المنن لابن عطاء 55.

[3]تاريخ البقاعى .مخطوط 59.

[4]السخاوى ..التبر المسبوك 176.

[5]زبدة كشف المماليك.

[6]الكواكب السيارة 321.

[7]تحفة الأحباب 485.

[8]المحاسن الباهرة 193، 194.

[9]تحفة الأحباب 167.

[10]تحفة الأحباب 309.

[11]تحفة الأحباب 364، الكواكب السيارة 240.

[12]تحفة الأحباب 79.

[13]تحفة الأحباب 366.

[14]تحفة الأحباب 107.

[15]تحفة الأحباب جـ4/225، 226.

[16]الكواكب السيارة 96، 156، 43 ،155، 143.

[17]تحفة الحباب جـ4/ 200.

[18]تحفة الأحباب جـ4 /236

[19]تحفة الحباب 279: 280.

[20]تكسير الأحجار 146.

[21]رحلة ابن جبير 48. دار الكتاب اللبنانى – المصرى .

[22]تكسير الحجار 146.

[23]رحلة ابن جبير 49، 50.

[24]تحفة الأحباب 139.

[25]تحفة الأحباب 415.

[26]الكواكب السيارة 283.

[27]رحلة العلوى .مخطوط. ورقة 42أ، 59، 60.

 

الفصل الحادى عشر :( تحويل الصوفية للكعبة مقرا لآلهتهم المزعومة )

 أولا : أصنام الصوفية في الكعبة :

1 ـ أعاد التصوف تواتر الجاهلية التى ملأت الحرم بالأصنام فجعل الصوفية الكعبة مكاناً مختاراً لآلهتهم من القطب والخضر والأولياء لتزاحم وتشارك التقديس الذى للبيت الحرام . 

2 ـ نظرا لحساسية المسلمين من الأصنام ـ وهى تماثيل تجسّم البشر ـ فقد بالغوا فى تحريمها الى درجة تحريم التصوير ، والتماثيل العادية ، فى نفس الوقت الذى عاد فيه بقوّة تقديس القبور خصوصا فى دينى التصوف والتشيع . إنمحى تقديس الأصنام والتماثيل المقدسة والصور المقدسة والأيقونات لدى المسلمين ، وحل بدله التركيز على عبادة الأولياء ( الأحياء ) والقبور المقدسة التى تنسب لأولئك الأولياء وغيرهم سواء كانوا مدفونين فيها حقيقة ، أو بزعم إن رأسه أو بعض أعضائه مدفون تحت ذلك الضريح ، أو مجرد الاسم والذكرى. 

3 ـ ولأن من المستحيل بناء قبر مقدس داخل الحرم المكى وبجانب الكعبة فقد تسلل الصوفية بعقائدهم الشركية لتحوّل بناء الكعبة نفسها الى حجر مقدس ، يشبه الضريح المقدس ، ثم جعلوها مقرا تجتمع فيه وفوق سطحها أولياء الصوفية ، وصار هذا من معالم تصنيع الكرامات لديهم فيما يخصّ الكعبة . أى إنمحى وجود الأصنام العادية والأنصاب العادية حول الكعبة ، وأصبح كافيا وجودها معنى واعتقاداً.

ثانيا : آلهة الصوفية الوهميون يجتمعون فى الكعبة

1 ـ هناك فى عقائد الصوفية ( مملكة صوفية غيبية ) تتكون من آلهة تقوم بتدبير أمور العالم ، والأغلب لديهم جعل ( الخضر) على رأس هذا الترتيب ، ثم هناك القطب الغوث،أو قطب الأقطاب ،والأقطاب الأربعة، والأبدال والأوتاد وأصحاب النوبة.وجعلوا الكعبة مكانهم المفضل لاجتماعهم وأجتماع أتباعهم بهم حسب زعمهم .

2 ـ ونستشهد بما جاء فى ( طبقات الشرنوبى ) . والمؤلف متاّثر بكتاب ابراهيم الدسوقى ( الجوهرة ) ينقل منه ما زعمه ابراهيم الدسوقى عن مكانته الالهية وتحكّمه فى ملكوت السماوات والأرض وفى الدنيا والآخرة وكونه من الأقطاب الأربعة طبقا لعقيدة الحقيقة المحمدية فى التصوف الشيعى . يقول فى مقمة الكتاب : (هذه طبقات العلامة الشيخ أحمد الشرنوبي ،نفعنا الله ببركاته يذكر فيها مناقب الأولياء الأربعة وكرامات أصحاب الأشاير الأربع رضي الله تعالي عنهم أجمعين . آمين . بســـم اللــــه الرحمــن الرحــيم . الحمد لله الذي احل أولياءه دار المقامة ،وحلّي أحبابه حلل الكرامة ، فقام قائمهم الليالي الطوال فلم يخيب مقامه ، وصام صائمهم الهجير فصان له صيامه ، فهم الذين يتجلى لهم علي القلوب ، ويطلعهم علي الغيوب ، ويعجل لهم الكرامة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من خلص من شرايب الشرك  إسلامه . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا صلي الله عليه وسلم عبده ورسوله الذي نشرت من الملأ الاعلي أعلامه ، وزاد إلي الأبد مقامه ، صلي الله عليه وعلي آله وأصحابه إلي يوم القيامة " أما بعد" فيقول العبد الفقير إلي الله تعالي محمد البلقيني ،أنه أراد الله تعالي ومنًّ وتفضّل عليّ بأخذ العهد علي القطب الغوث سيدي أحمد بن عثمان الشرنوبي ، وسألته عن فروع الشريعة فأفادنيها ، ثم قال لي : يا مريدي وأفيدك علم الطريقة والحقيقة ، فأفادنيها . فقلت له يا سيدي : أخبرني عن كرامات السادات الأربع أصحاب الأشاير، وما سبب قسمتهم الأرض بينهم دون غيرهم ؟  فقال : يا مريدي أما كرماتهم لا تحصي . ولكن يا مريدي سأذكر لك بعضا منها . ثم قال : والله ثم والله ، اطّلعت علي اللوح المحفوظ فرأيت فيه أن أحمد الشرنوبي تابع لإبراهيم الدسوقي . وأخبرك يا مريدي إنه لما خلقت روح سيدي إبراهيم اطلع علي اللوح المحفوظ وفك طلاسمه جميعا . فقلت له يا سيدي ومن أخبرك بذلك ؟ فقال : لما منَّ الله سبحانه وتعالي علي الفقير بالقطبانية وأذن لي بالكلام اجتمعت بسيدي إبراهيم وقال لي : يا وزيري سنخبرك بكراماتنا وكرامات سيدي أحمد وسيدي عبد القادر وسيدي أحمد الرفاعي ، فأخبرني بذلك . وكنا علي سطح الكعبة المشرفة . قال  فقال لي يا أحمد اسمع فقلت حبا وكرامة فقال من كراماتنا : قال لي ربي أنت من نوريتي يا إبراهيم ، ولك البشري . ومن كراماتنا أني أُعطيت الحكم علي الحور العين . ومن كراماتنا أني لما وردت علي النيران هربت خوفا مني ، فرفصتها برجلي فصارت رمادا ، وصرخت عليها فغلقت أبوابها السبع . ومنها قال لي ربي : لك البشري أنت وأتباعك . ومنها تكرّم ربي عليّ أنا وأتباعي بدخولهم الجنة كرامة لأجلي . ومنها فتح أبواب الخير لأهل الطرق الأربع . ومنها أني أعطيت سجادة من نور ليست تعطي لأحد غيري إلي يوم القيامة . ومنها أني سددت أبواب جهنم السبع بفوطتى ، وفتحتها لأعدائي ، وأدخلتهم فيها . ومنها أني فتحت أبواب الجنة الثمانية بيدي ، وأدخلت أمة محمد صلي الله عليه وسلم فيها . ومنها أن صنج الميزان بيدي أصيّر حسنات مريدي أثقل من سيئاته ، ومسّيت عليها بيدي فصارت سيئات المنكرين عليً  أثقل من حسناتهم ولو كانوا مطيعين .ومنها أنه إذا دعاني مريدي أجبته ولو خلف قاف . ومنها أني أدخل أتباعي يوم الحشر أعلا  مرتبة من أتباع غيري. ومنها أن أول من نطق بكلمة التوحيد رسول الله صلي الله عليه وسلم والصحابة  ثم أنا . ومنها أن الله تعالي سكّن في  قلبي التوحيد قبل آدم وحوي وقبل العرش والكرسي واللوح والقلم والسماوات والأرض وقبل الماء والطين . ومنها أن جعلني ربي قطبا قبل بناء البيت الحرام وأعطاني علوما ليس يحصيها إلا هو . ومنها أن الله تعالي أجري لساني علي طلاسم القرآن العظيم . ومنها أن وهب لي علم الدنيا والآخرة وعلم الغيب وعلم النور وعلم سدرة المنتهي وعلم الساعة وحفظني طلاسم الغيوب وطلاسم اللوح المحفوظ . ومنها معرفة اسم من ينكر عليً إلي يوم القيامة . ومنها معرفة ما تحت الثري . ومنها أني حفظت علم القدرة الأبدية . ومنها أني حفظت علم الموت الذي يقبض به عزرائيل الأرواح . ومنها أني عرفت جميع الأسماء المكتوبة علي شجرة المنتهي . ومنها أني حفظت العلم الذى يسير به السحاب والعلم الذي ينزل به الغيث والعلم الذي يصعدون به الملائكة إلي السماء وهو الاسم الأعظم . ومنها أني حفظت الاسم الذي ينزلون به إلي الأرض والاسم الذي يأتي به الليل والاسم الذي يأتي به النهار. ومنها أنه لا يفرغ أجل  مؤمن حتي نعرف فروغ أجله ولا يموت أحد في ليل أو نهار حتي تأتيني روحه إن شئت رددتها إليه وإن كان فرغ أجله أجمعها من حينئذ فيموت .ومنها  أنه أذن لي ربي أن أتكلم وأقول أنا الله فقال لي قل أنا الله ولا تبالي ) .

3 ـ إضطررنا الى الاتيان بكل هذا الهُراء للإستدلال ليس فقط على مدى كُفر أولئك الصوفية ، ولكن أيضا استخدامهم الكعبة فى خيالاتهم مركزا لاجتماع الأولياء الأحياء بالأقطاب الأربعة الذين ماتوا من قبل . ونعيد التأكيد بأن هذه الخرافات مع أكاذيبها وفُجرها فهى صادقة فى تصوير عقائد الدين الصوفى وسيطرته على الحياة الدينية فى العصرين المملوكى والعثمانى . فلا يجرؤ إنسان فى عصرنا مهما بلغ كفره على ان يقول هذا ، لأنه لم يعد عصر تسلط الدين الصوفى .

ثالثا : الخضر والكعبة والحجاج الى الكعبة

1 ـ فى العصر المملوكى جعل الصوفية من الكعبة – خصوصاً وقت الحج – مكاناً لإجتماع لخضر والقطب وكبار الأولياء ، والخضر عند الصوفية ولي أزلي لا يموت ، وأنه هو الذى قابل موسى عليه السلام.

2 ـ والعبد الصالح المذكور في سورة الكهف كان نبياً، فقد وصفه الله تعالى بما يصف به الأنبياء عادة. وصفه بالعلم الالهى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65 )الكهف ).  والأنبياء وحدهم هم محل العلم الإلهي تمكيناً لهم من آداء الرسالة المنوطة بهم، يقول تعالى عن رسوله الخاتم : (  وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) (113)   النساء ). وبعض هذا العلم ما يكون مختصاً ببعض نواحي الغيب لبعض الأنبياء. يقول تعالى مخاطباً المؤمنين ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ  (179).آل عمران ). وقد ظهر في قصة العبد الصالح مع موسى عليهما السلام ان موسى كان يجهل بعض الغيب الذي أعلمه الله جل وعلا للعبد الصالح ، فالعبد الصالح نبي يأتيه الوحى يأمره بملاقاة موسى ليتعلّم منه موسى كيف يضبط إنفعالاته ويهدّىء من سرعة ردود أفعاله . يقول العبد الصالح نبى الله لرفيقه موسى عليهما السلام : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الكهف ).  لا نعرف اسم ذلك النبى العبد الصالح ، ولا يقدح ذلك في نبوته، فنحن لا نعلم أسماء كل الأنبياء ، والقرآن الكريم لم يقص علينا كل قصص الأنبياء :( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ )(164) النساء )، وحتى فى القصص القرآنى فقد عرض رب العزّة لبعضهم  بالوصف دون الإسم ، كأن يقول سبحانه وتعالى مثلاً عن واحد من أنبياء بنى اسرائيل :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )البقرة 246 )، ويذكر قصة أنبياء ثلاثة دون ذكر أسمائهم : (  وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)) ( يس ) . 

فالعبد الصالح نبى من أنبياء الله جل وعلا صاحب علم لدني واعلمه الله ببعض الغيب . إلا أن الصوفية اعتبروا ذلك العبد الصالح فى قصة موسى وليا صوفيا ، وأسموه الخضر ، ليجعلوا الولى الصوفى أعلى قدرا من النبى ، فالخضر يعلم علما لدنّيا يفوق علم النبى موسى ويقوم بتعليم النبى موسى ، وبحثوا لنحلتهم عن سند يؤيدها فكان السند بتأويل الآيات القرآنية ، وبوضع أحاديث باطلة في حياة الخضر الخالدة ولقائه بالرسول عليه السلام .

3 ـ ونرجع إلى موضوعنا فنجد أن الخضر عند الصوفية مع تجوله الأزلي في العالم إلا أنه يكون حاضراً وقت اللزوم عند الكعبة ، أو في طريق الحجاج . فإذا إحتاج الصوفي شيئأً أو وقع في ورطة ، فالخضر يحضر ويجيبه ويغيثه ، يقول بعضهم ( بقيت في برية الحجاز أياماً لم آكل، فاشتهيت باقلاء حارا وخبزاً من باب الطاق .. فلم أتم خاطري حتى نادى إعرابي من بعيد: باقلاء حاراً وخبزاً، فتقدمت إليه ، فبسط مئزراً كان عليه ، وأخرج خبزاً وباقلاء حاراً وقال لي : كل فأكلت.. وقلت : بحق الذي بعثك في هذه البرية ألا ما قلت لي من أنت ؟ فقال : أنا الخضر.! ،وغاب عني فلم أره ، سلام عليه ورضوان )[1]. فالصوفي حين يسعى للحج فى الصحراء متوكلاً – أى بلا زاد – فإنه يعتقد أنه سيلقى الخضر في الطريق يحمل له الباقلاء الحار والخبز من باب الطاق ..

وعن اجتماع الخضر وإلياس – وهو نبي افترى عليه الصوفية وجعلوه يحيا خالداً – يقول الغزالي قبل العصر المملوكي (يقال أن الخضر وإلياس إذا التقيا من كل موسم – أى في الحج ـ لم يفترقا إلا عن هذه الكلمات : بسم الله ما شاء الله كل نعمة من الله ..)[2].

4 ـ ويجعلون  من الخضر رأساً للملكة الصوفية الوهمية المكونة من الأقطاب والأبدال وهم الذين يحكمون العالم ويسيرون دفته ، ومركز حكمهم مكة .. وقد نقل ابن حجر في العصر المملوكي عن الصوفي ابن أبي فارس قوله (إن الأقطاب سبعة والأبدال والأعين، وهم النجباء كذلك ،والغوث – أى القطب الغوث – يجمعهم  وهو مقيم بمكة .. والخضر يجول ولا حكم له إلا على أربعة أشياء: إغاثة ملهوف أو إرشاد ضال ، أو بسط سجادة شيخ ، أو تولية الغوث إذا مات. والغوث يحكم على الأقطاب ، والأقطاب على الأبدال ، والأبدال على الأوتاد ، فإذا مات الغوث ولَّى الخضر من يكون قطباً بمكة غوثاً، وجعل بدل مكة قطباً،وعين مكة بدلاً،و بدل مكة رشيداً.. وهكذا).. أى أجرى الخضر بينهم حركة ترقيات (فإن مات الخضر صلى الغوث في حجر اسماعيل تحت الميزان فتسقط عليه ورقة باسمه فيصير خضراً، ويصير قطب مكة غوثاً.. وهكذا قال الخضر في هذا الزمان وهو حسن بن يوسف الزبيدي اليمني )[3]..

رابعا : الكعبة والأقطاب

1 ـ جعلوا الكعبة مكة مركز الآلهة الصوفية التي تتحكم في العالم على مستوياتها المختلفة من خضر وقطب وغوث وقطب عادي وابدال وأوتاد .. ألخ . ومعلوم أن الصوفي الذي يحج إلى مكة يعي هذا جيدا ويتمنى أن يلقى فيها الخضر أو القطب ،وهى آلهة مزعومة لا تختلف عن هبل والعزى ومناة وغيرها التي كان الجاهليون يحجون إليها مع الكعبة . بل أن تقديس الصوفية للأقطاب أكبر من تقديس الجاهليين لآلهتهم ، يقول بعضهم عن القطب : ( القطب هو الذي تدور عليه الرحا والبكرة ، وقطب الكون هو الرجل الذي لأجله وجد الكون ،وعليه مدار الكونية للدارين ، ولكل عصر قطب وهو صاحب الوقت ، وقطب الأقطاب هو الذى لم يكن قبله ولا بعده مثله..)[4].                                                                               

2 ـ  يقول اليافعى أن أحدهم رأى بمكة القطب الغوث (على عجلة من ذهب، والملائكة يجرون العجلة فى الهواء بسلاسل من ذهب ، فسأله إلى أين ؟ قال إلى أخ من إخوانى إشتقت إليه، فقال :لو سألت الله تعالى أن يسوقه إليك فقال : وأين ثواب الزيارة )[5]وقيل نحو ذلك على ابى العباس المرسى (كان هو القطب، وقد رؤى فى مكة على كرسى بين السماء والأرض)[6].

3 ـ ولقد سئل الخواص (عن القطب الغوث هل هو دائماً مقيم بمكة كما قيل؟ فقال رضى الله عنه : قلب القطب دائماً طواف بالحق الذى و سعه ، كما يطوف الناس بالبيت فهو يرى وجه الحق في كل وجهة ، كما يستقبل الناس البيت ويرونه من كل وجهة ، إذ مرتبته رضى الله عنه التلقي عن الحق تعالى جميع ما يفضيه على الخلق، وهو بجسده حيث شاء الله من الأرض ..)[7].   

أخيرا : الحج ليس للبيت الحرام فقط ولكن لآلهة الصوفية

1ـ وفي أواخر العصر المملوكي اشتهر أن الأقطاب الأربعة هم البدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني، وقد ألف فيهم البلقيني طبقات الشرنوبي ، يقول أنه اجتمع بهم بعد موتهم بثلاثة قرون على سطح الكعبة. وكل منهم حكي له مناقبه وكراماته.ونعيد بعض ما قاله في مقدمة كتابه:( اجتمعت بسيدي ابراهيم (الدسوقي ) وقال له وزيري سنخبرك بكراماتنا وكرامات سيدي أحمد وسيدي عبد القادر وسيدي أحمد الرفاعي ، فأخبرني بذلك وكنا على سطح الكعبة المشرفة ، فقال من كراماتنا: قال لي ربي أنت من نوريتي يا ابراهيم، ولك البشرى ، ومن كراماتنا أني أُعطيت الحكم على الحور العين ،ومن كراماتنا أني لما وردت على النيران هربت خوفاً مني ، فرفصتها برجلي فصارت رماداً،وصرخت عليها فغلقت أبوابها السبع)[8]. . أى إن الكعبة صارت مصطبة يتسامر عليها آلهة الصوفية المزعومة، ويحكون افتراءاتهم فوق سطحها..

2 ـ  لذا لم يكن غريباً أن يسعى الصوفية للكعبة والحج أملاً في مقابلة الأقطاب والأولياء ، فيقول اليافعى، أن بعضهم ترك بضاعته وسافر للحج ( فقيل له في ذلك فقال : والله لو حصلت لي الدنيا كلها ما اخترتها على الحج ورؤية من يشهده من أولياء الله تعالى بعد أن رأيت ما رأيت وحكى كرامة صوفية حدثت في الحج عند الكعبة ثم قال (فهل يسمح بفوت مشهد يشهده مثل هؤلاء القوم ؟). ويقول اليافعي إن بعضهم أطال الإقامة في مكة فقيل له في ذلك فقال : ( ما من ولي لله تعالى صحّت ولايته إلا وهو يحضر هذا البلد في كل ليلة جمعة لا يتأخر عنه ،فمقامي هنا  لأجل من أراه منهم .. وقد أخبرني بعضهم أنه يرى حول الكعبة الملائكة والأنبياء والأولياء عليهم السلام ، وأكثر ما يراهم ليلة الجمعة وكذلك ليلة الإثنين وليلة الخميس ، وعد لي جماعة كثيرة من الأنبياء والأولياء، وذكر انه يرى كل واحد منهم في موضع معين يجلس فيه حول الكعبة) [9].

أى جعلوا من آلهتهم أصناماً لكل منها مكانا معينا حول الكعبة، وإليهم يتجهون بزعم الحج .. والهدف واضح : أن ينعم الأولياء بقدر من التقديس الذي يتوجه به الحجاج للكعبة والحرم، وفي نفس الوقت فإنهم يحتكرون لأضرحتهم وأشخاصهم في شتى أنحاء مصر  حق شد الرحال إليهم واستقدام الحجيج لهم من كل فج عميق ، وفق تشريع الحج الصوفي .



[1]
روض الرياحين 59.

[2]الأحياء جـ1/285..

[3]الدرر الكامنة جـ2/483: 484.

[4]الإلمام للنويرى جـ1/178.

[5]روض الرياحين 187.

[6]المناوى. الطبقات الكبرى مخطوط 341(ب).

[7]الشعرانى الطبقات الكبرى جـ2/145.

[8]مقدمة طبقات الشرنوبى .مخطوط.

[9]روض الرياحين 53، 54.

 

الفصل الثانى عشر والأخير : إفساد فريضة الحج الإسلامية بالحج لقبر النبى

مقدمة

1 ـ بدأ الدين السنى بهذا الإفك متابعة للتواتر القرشى الجاهلى الباطل ، ومالبث أن وضعوا له إطارا عقيديا بتقديس المدينة واعتبارها حرما تاليا للبيت الحرام فى مكة ، ثم بتقديس موضع قالوا إنه قبر النبى محمد ، وجعلوه أكبر نُصب مقدس ، ومع إنه رجس من عمل الشيطان وفقا لما جاء فى القرآن فإنهم ما لبث ان شرعوا الحج الى هذا النّصب الرجسى ، الذى زعموا أنه روضة من رياض الجنة ، وزعموا فى أحاديثهم أنه ( حىّ ) فى قبره يرى ويسمع من يزوره ، ويشفع فيمن يتوسل به ويجيب من يدعوه ويجير من يحتمى بأعتابه ، وأنه يرد السلام على من يسلّم عليه ، وأنه وهو فى القبر تعرض عليها أعمال الناس ، ليقول رأيه فيها فيستغفر لمن يشاء ، ويهمل من يشاء ..الى آخر هذا الهراء ..!!. 

وقد تحرّجوا من القول بالحج اليه فجعلوها ( زيارة ) ، وأوجبوها على كل من يحج الى البيت الحرام ، وإلا فقد ( جفا ) النبى ، ولم يتم حجه . وبتوالى القرون أصبح الهدف الأول للعوام المسلمين ليس الحج للبيت الحرام بل ( زيارة الحبيب ) و ( التمسح بشباك قبره ) ، أما الحج للبيت الحرام فهو مجرد خطوة فى سبيل زيارة الحبيب إلتماسا لشفاعته والتبرك بقبره .

2 ـ نسى هؤلاء مئات الآيات القرآنية التى تنهى عن تقديس البشر والحجر ، بل تناسوا أنهم ـ  بكل غباء ـ وضعوا النبى محمدا فى موضع التحقير ، فهم بزعمهم حياة النبى فى هذا القبر قد حكموا عليه أن يظل سجينا فى حفرة  تحت الأرض الى قيام الساعة ، ثم هم يقفون بأقدامهم فوق رأسه. وبقولهم أن جسده لا يزال دون تحلّل فقد جعلوه فى مكانة فرعون موسى الذى عوقب بأن يظل جسده باقيا ليكون لمن خلفه آية ..!!، فمن إكرام الله جل وعلا لابن آدم أن تتحلّل سوأته ـ أى جيفته بعد موته ـ ليعود الى الأرض وعناصرها . ولقد حرم الله جل وعلا فرعون موسى من هذا التكريم . ويأتى  حمقى الأديان الأرضية من المسلمين ليجعلوا النبى وأوليائهم المقبورين فى مكانة فرعون ، بزعم أنهم أحياء فى قبورهم .

3 ـ بدأ الدين السّنى بهذا الإفك ،وتابعه الشيعة ثم الصوفية .

أولا : إفساد فريضة الحج الإسلامية بالحج لقبر النبى فى الدين السّنى

 1 ـ بدأ الأمر باعتبار المدينة حرماً يضاهى حرم الله فى مكة .

2 ـ وقد ترادف وضع الأحاديث التى ترفع من شأن المدينة فى كتب الدين السّنى المقدسة لدى المسلمين مثل صحيح البخارى ، ومنها حديث أنس "اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما جعلت بمكة من البركة". وحديث أبى هريرة " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال".. وأحاديث تحريم المدينة جاءت فى روايات لأنس" اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنى أحرم المدينة ما بين لابتيها" وقد روى ذلك الحديث بطرق متعددة ويحظى بالإحترام لدى أتباع الدين السّنى . 3 ـ لم يناقش أحد مناقضة تلك الأحاديث للقرآن الكريم . فإبراهيم عليه السلام لم يكن هو الذى يملك ( تحريم مكة ) ، وإنما الذى حرم مكة هو الله جل وعلا ، ففيها بيته الحرام، والله سبحانه وتعالى أمر ابراهيم عليه السلام فقال له:( وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (26) الحج ) ، ولم يقل له وطهر بيتك يا ابراهيم، ومحمد عليه السلام لا يملك حق التحريم وإلا فكيف يقول له ربه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) التحريم ) وأعلنها عليه السلام فقال ما جاء فى القرآن الكريم أنه يعبد رب العزة الذى حرّم مكّة البلد الحرام : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) النمل ) . فلله جلّ وعلا وحده حق التشريع. وكما أنه لا إله إلا الله فليس لله من حرم مكانى إلا حرم واحد هو الذى بمكة،وإليه يكون الحج والقصد،وكذلك فعل الرسول حين حج بأصحابه من المدينة إلى مكة، وبعد موت الرسول وإنتهاء التشريع فلا مجال للزيادة فى شرع الله باختراع حرم جدبد يقصده المسلمين وينسبونه للرسول. 

3 ـ وتسلل الشرك إلى عقائد الناس منذ القرن الثانى فتحول تقدير النبى إلى تقديس له ، وغدا مسجد المدينة مساوياً عند المسلمين للحرم، وأصبح قبر الرسول كالكعبة ،وصيغ ذلك  بأحاديث  شكّلت فيما بعد عقائد الأجيال اللاحقة وزادتها تلوثاً ،ففي البخاري " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " ، وفيما بعد روى الحديث على أنه " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" ولا فارق بينهما في المعنى إذ أنه مدفون في بيته ، وكيف يتحدث عن قبره وهو لا يعلم اين سيموت : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) لقمان 34).

4 ـ وإنعكس الوضع الجديد على فريضة الحج الإسلامي ..

فبعد أن كان القدوم لمكة فحسب أضحى للمدينة بل وللقدس ، وأصبح لكل مسجد درجته كما يظهر من هذه الأحاديث التي رواها البخاري " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى" أى أصبح التوحيد ثالوثاً . وهناك حديث فاضح يقول : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سوى المسجد الحرام). هو حديث فاضح لأنه تشويه لشخص النبى ولدين الله جل وعلا . إنّ الرسول كان متبعا للوحي ، وقد قرّر  ربه جل وعلا أن المساجد يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا وحده:( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن ) (( الجن 18) ، وقد قام عليه السلام وهو فى مكة يعلن هذا فى مساجد قريش التى أقاموا فيها القبور المقدسة، وجعلوا أولياءهم أصحاب تلك القبور تشارك رب العزة فى الأذان للصلاة وفى الصلاة ، فأمره ربه جل وعلا أن يعلن أن المساجد يجب أن تكون لله جل وعلا وحده : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن )، فلا تعظيم فيها لغير الله . وأعلن عليه السلام ذلك فى مساجد قريش فكادوا أن يفتكوا به : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) الجن). فأمره ربه جل وعلا أن يقول لهم أنه يقوم بتبليغ الرسالة وجوهر الاسلام لينجو من عذاب الرحمن ، وأنه لا يملك لهم ضرا ولا رشدا : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) الجن ). فإذا قال جل وعلا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن )، فكيف يعصي ربه ويقول "مسجدي .." . المؤسف أن هذا كان بداية لتأسيس مساجد بأسماء البشر ، فى أديان السنة والتشيع والتصوف .!!

ثانيا : دور التصوف السّنى فى تطوير هذا الافك

1 ـ قام القشيرى ثم الغزالى بتضييق الفجوة بين دينى السّنة والتصوف لصالح التصوف ،فيما   يعرف بالتصوف السّنى ، وكان التركيز فيه على المشترك وهو تقديس النبى والحج الى قبره . لذا إشتهر حديث  "من حج ولم يزرني فقد جفاني ".ولا ندري متى قال الرسول ذلك؟ أقاله قبل موته أم بعده؟ والإجابة تقطع بتزوير ذلك الحديث .

2 ـ والأفظع من ذلك انهم شرّعوا مناسك الحج إلى المدينة ، وقد فصَل فيها الغزالي في الاحياء ، فيما يخص النية وما يخص الأفعال والأقوال[1]، وكان فيها رائدا لصوفية عصرنا المملوكي وللمسلمين في عصرنا الراهن.

3 ـ وفي العصر المملوكي حيث ساد التصوف السّنى و حيث يقدس الناس أى شيء أصبح الحج لقبر الرسول من المعلوم من الدين بالضرورة عندهم . وذلك مما لا يستحق عناء إثباته، ولكن نكتفي بما ألفه فقيه صوفى مشهور هو" العلامة شيخ الإسلام والمسلمين ، تقي الدين السبكي "وهو كتاب " شفاء السقام في زيارة خير الأنام[2].

وقد قسمه إلى أبواب الأول في الأحاديث الواردة في الزيارة نصاً .الثاني : فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالاً على فضل الزيارة وإن لم يكن فيه لفظ الزيارة الثالث : فيما ورد في السفر إلى زيارته(ص) صريحا الرابع : في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين، الخامس : تقرير كون الزيارة قربة، السادس : في كون السفر إليها قربة السابع :في دفع شبه الخصم ، الثامن : في التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبيى (ص) التاسع : في حياة الأنبياء ".

وواضح أنه اعتمد على الأحاديث وآراء العلماء المتأثرين بها. وهو صادق فيما ينقل عن دين التصوف السّنى . ولكن الإسلام هو دين الله الذي فصله في القرآن ولا معقب لكلمات الله ولكل انسان الحرية في التمسك بكتاب الله أو الإعراض عنه ، وفي النهاية سيلقى جزاءه في الآخرة : ( وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) الكهف ).

ثالثا  : الأساس العقيدي فى دين التصوف لتقديس قبر النبي:

1 ـ وأدت عقيدة الحقيقة المحمدية إلى تأكيد تقديس قبر النبي وتأكيد الحث على زيارته بحيث صارت أهم معالم النسك في الحج. والحقيقة المحمدية تعني تأليه النبي محمد واعتباره نورا إلهياً أزليا انبثق عن نور الله(تعالى الله عن لك علواً كبيراً)،وأن الله تعالى خلق الكون لأجل هذا النور المحمدي. وقد صيغت في ذلك أحاديث رددها الفقهاء السّنة  والصوفية مثل حديث " اول ما خلق الله  نور نبيك يا جابر " " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين،و كنت نبيا و آدم لا ماء ولا طين".

2 ـ وفي هذه العقيدة المخالفة للإسلام اتفق الصوفية والفقهاء برغم الصراع الذي دار بينهما ، إذ كانت عقائد الصوفية من الإتحاد والحلول ووحدة الوجود هى أساس ذلك الصراع ،حيث كان ينقم الفقهاء السنيون على الصوفية تلك العقائد، ولكنهم كانوا يوافقونهم الإعتقاد في تقديس وتأليه النبي محمد انطلاقا من " الحقيقة المحمدية".

3 ـ بيد أن الصوفية طبقا لنزعتهم في تأليه أنفسهم وأشياخهم أحدثوا تطورا في الحقيقة المحمدية ، فبينما حصرها الفقهاء في النبي محمد و قصروها عليه وحده ، فإن أرباب التصوف الشيعى جعلوا ذلك النور الإلهي يتنقل بعد محمد عليه السلام إلى علىٍ وذريته، ثم يتنقّل فى  الأقطاب الصوفية، حسب زعمهم  أنهم من ( الأشراف ). الجدير بالذكر أن الفقهاء السنيين لم ينكروا على الصوفية هذا الإدعاء خوفا من المساس بعقيدة الحقيقة المحمدية ذاتها..

4- وقد ساد الاعتقاد في الحقيقة المحمدية خصوصا في القرن العاشر الهجري ، حتى لقد صارت بعض الكتب والمراسلات تفتتح بها بدلا عن الصيغ المعروفة بالصلاة على النبي. والغريب أن السلطان سليم العثماني بعث برسالة إلى طومان باي – بعد مقتل السلطان الغوري في مرج دابق يدعوه فيها إلى الطاعة ،ويقول فيها إن الله " مهًد أول قواعد النبوة بكنت نبياً وآدم بين الماء والطين"[3]. أى يشير إلى حديث الحقيقة المحمدية" كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". وذلك اعتراف رسمي بالحقبقة المحمدية عقيدة للمسلمين حينئذٍ.

ويقول عبد الصمد الأحمدي في مقدمة كتابه (الجواهر السنية) عن مناقب أحمد البدوي عندما أخذ في التسليم والصلاة على النبي " واشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وعبده ورسوله وخليله الأول في الإيجاد والوجود والمستغرقة حقيقته الآحاد والأنواع والأجناس والعقود [4]. والحقيقة المحمدية عندهم تعني أن محمداً أول الموجودات ومنه جاءت الأكوان..

وفي كتاب" النورالسافر" الذى يؤرخ للقرن العاشر يقول المؤلف العيدروس في مقدمة الكتاب " أعلم ان الله سبحانه لما أراد إيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره الصمدية  في حضرته الأحمدية، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها على ما اقتضاه كمال حكمته وسبق في علمه وإرادته ، ثم أعلمه تعالى بكماله ونبوته ، وبشره بعموم دعوته ورسالته وبأنه نبي الأنبياء وواسطة جميع الأصفياء وأبوه آدم بين الروح والجسد ، ثم انبجست منه عيون الأرواح، فظهر ممدَا لها في عالمها المتقدم على عالم الأشياخ، وكان هو الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس ، فهو وإن تأخر وجود جسمه متميز على العوالم كلها برفعته وتقدمه ، إذ هو خزانة السر الصمداني ومحتد تفرد الإمداد الرحماني ."[5]. والمؤرخ العيدروس كان فقيها ، ولم يكن شيخا صوفيا .

ومثله كان كاتب مجالس الغوري " نفائس المجالس السلطانية" وهويقول في بداية كتابه " والصلاة والسلام على شفيع المدنيين وسلطان الأنبياء والمرسلين الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين .."[6].

ويقول فقيه القرن العاشر ابن جعفر الهيثمي في مقدمة كتابه (مولد النبي) نفس ما قاله المؤرخ العيدروس مع تغيير طفيف في بعض الألفاظ : " شرف الله نبيه بسبق نبوته في سابق أزليته وذلك أنه تعالى لما تعلقت إرادته بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة المحمدية من محض نوره المشار إليه بقوله تعالى ونفخت فيه من روحي، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها على ما سبق في سابق إرادته، ثم أعلمه تعالى بنبوته وبشره برسالته ،هذا وآدم لم يكن إلا كما قال فيما يأتي بين الروح والجسد، ثم انبجست فيه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح كلها، فظهر في الملاْء الأعلى أصلاً للعوالم كلها ، حتى انتهى الزمان بالإسم الباطن فى حقه صلى الله عليه وسلم إلى وجود جسمه وارتباط الروح به،انتقل حكم الزمان إلى الإسم الظاهر فظهر صلى الله عليه وسلم بكليته جسماً وروحاً، فهو –وإن تأخر وجوده – هو خزانة السر،فلا ينعقد أمرً إلا منه ولا ينقل خبرً إلا عنه..[7].

5- وشيوخ الصوفية من ناحيتهم حرصوا على الإستفادة من عقيدة الحقيقة المحمدية، بأن جعلوها تنتقل من محمد إليهم عبر سلاسل مثل سلاسل الخرقة والنسب، وشيوخ الصوفية المشهورين فى العصر المملوكى كل منهم حرص على ترصيع أوراده أو أشعاره بعبارات الحقيقة المحمدية، وبما يؤكد تمتعه بها وتقلبه فيها قبل وجوده فى الحياة.

فأحمد البدوى يقول فى صلواته " اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد شجرة الأصل النورانية، ومعدن الأسرار الربانية وخزائن العلوم الإصطفائية .."[8].

وفى أشعاره يحرص البدوى على التأكيد بأنه –من خلال الحيقة المحمدية – كان قطباً وإماماً يقول:

أنا من قبل وجودى فى الورى

                              كنت قطباً وإماماً وأصلاً

 

ويقول مؤكداً وجوده من خلال الحقيقة فى شخصية الأنبياء السابقين :

 

فقرأت من توراة موسى تسعة

                              تليت على موسى لها لم يثبت

وقرأت من انجيل عيسى عشرة

                              تُليت على عيسى فزادت رفعتى[9]

 

أى أن موسى لم يثبت عندما تليت عليه التوراة، أما السيد(افندى) البدوى فقد قرأها فى ثبات وثقة !!

ولكن ابراهيم الدسوقى قام بالمزايدة على رفيقه أحمد البدوى فى هذا المجال، نثراً وشعراً. يقول الدسوقى فى الجوهرة عن نفسه" أنا موسى فى مناجاته، أنا" على" فى حملاته، أنا كل ولى فى الأرض.. كنت وأولياء الله أشياخاً فى الأزل، فإن الله عز وجل خلقنى من نور رسول الله، فنظر إلى الرسول فقال يا ابراهيم تقدم فتقدمت.. " ويقول أنه عرف التوحيد قبل آدم وحواء وقبل العرش والكرسى واللوح والقلم والسموات والأرض والماء والطين، وقد ردد أقوال الدسوقى عنه الشعرانى فى الطبقات الكبرى فى ترجمته لابراهيم الدسوقى، والشرنوبى فى طبقاته[10].

وترددت الحقيقة المحمدية فى أدبيات الشاذلية:

يقولون فى صلاة ابن بشيش" اللهم صلَ على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وله تضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق .. ولا شئ إلا وهو به منوط".  ويقول البوصيرى شاعر الشاذلية :

أنت مصباح كل فضـل

                     فما تصدر إلا عن ضوئك الأضواء

لم تزل فى ضمائر الكون

                      تُختار لك الأمهات والآباء

ويقول البوصيرى :

محمد سيد الكونين والثقلين

                       والفريقين من عرب ومن عجم[11].

 

والشيخ أبو المواهب الشاذلى لم يسترح إلى قول البوصيرى يمدح النبى :

فمبلغ العلم فيه أنه بشر

                      وأنه خير خلق الله كلهم

لأن البوصيرى صرح فى شعره ببشرية النبى وأن ذلك هو مبلغ ما يعرفه عنه، ورغم العبارة تحتوى تأليهاً ضمنياً للنبى يخفى –بزعمه- عن علم البشر، إلا أن أبا المواهب الشاذلى زعم أنه رأى النبى فى المنام وعرف المعنى الحقيقى، وهو أن من لاعلم له بحقيقة النبى يظنه بشراً، ولكن الحقيقة أنه غير ذلك " وإلا فهو وراء ذلك كله بروح القدس " [12].

ويقول على وفا الشاذلى يمدح النبى:

لو أبصر الشيطان طلعة نوره

                             فى وجه آدم كان أول من سجد

أو لو رأى النمرود نور جماله

                             عبد الجليل مع الخليل وما عَنَد

لكن جمال الله جلَ فلا يُرى

                             إلا بتخصيص من الله الصمد

 

وقال على وفا فى حديث اسرائه يستعير الحقيقة المحمدية لنفسه "..فدخلت فإذا أنا بآدم، أى فإذا أنا فى صورة حقيقة آدم وناطق بناطقته"[13].

والشعرانى  ردد عقيدة الحقيقة المحمدية في بعض مؤلفاته الصوفية ،يقول في " اليواقيت والجواهر"  إن  " جميع الأنبياء والأولياء مستمدون من محمد عليه السلام" ويرى أن روح محمد عليه السلام هو القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من حيث النشأة الإنسانية إلى قيام الساعة[14]..

6-  وذلك الإعتقاد الراسخ في أُلوهية النبي والذي شمل الصوفية وغيرهم كان الأساس العقيدي للجميع في تقديس ما يعرف بقبر النبي، والحج إليه، وتشريع المناسك له، وتجلت تفصيلاته في كتاب الفقيه تقي الدين السبكي" شفاء السقام في زيارة خيرالأنام".

رابعا : شخصيتان متناقضتان للنبى محمد عليه السلام

1- المحصّلة النهائية أنهم خلقوا من أهوائهم شخصية الاهية للنبى محمد جعلوه فيها متحكما فى الدنيا والآخرة ، وبالغوا فى تأليهه فرفعوه احيانا فوق رب العزة ، بل ورفعوه فى التأليه فوق تأليه المسحيين للمسيح . وهذه الشخصية المزعومة للنبى محمد تناقض شخصيته الحقيقية التى أكّدها رب العزة فى القرآن  الكريم

2 ـ  فرب العزة يؤكد على بشرية النبي ، وأنه بشر مثلنا ولكن يوحى اليه ، يقول تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)الكهف  ). هو بشر يوحى اليه ، ولكن هذا الوحي لا يصعد بالنبي فوق مستوى البشر. فكل ما عليه هو تبليغ الوحي : ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)    المائدة ). ثم هو اول من يتبع الوحي : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) الأحزاب )،  وعليه كالآخرين من قومه مسئولية التمسك بهذا الوحي: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) الزخرف )، وسيكون مثلهم مساءلا يوم القيامة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف ).

أى هى مساواة بين النبي وقومه في المسئولية وفي الحساب.  بل أنها مساواة بينه وبين خصومه فى استحقاق الموت وفى التخاصم يوم الحساب أمام الله تعالى، يقول سبحانه وتعالى له :(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)الزمر)، وهناك مساواة بينه وبين المؤمنين معه يوم الحساب، لن يحملوا عنه حسابه ولن يحمل عنهم حسابهم :( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) الأنعام )، و فى الآخرة  لن يستطيع إنقاذ أحد من النار:( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ )(19)الزمر ) فليس له من الأمر شىء، طبقا لقوله جل وعلا له:( لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)(128)آل عمران ) ، فهو لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً:(  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الأعراف)، ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ) (49) يونس ).

3 ـ هذا هو كلام رب العزة فى القرآن الكريم ، فأيهما نصدق؟ كتاب الله العزيز؟ أم هراء الصوفية والفقهاء ؟ !

أخيرا

معظم ما ذكرناه عن الحج الصوفى يتشابه بل ويتطابق مع الحج الشيعى . وهناك خصوصيات للحج الشيعى فى التطبير وغيره من طقوس يوم عاشوراء فى ذكرى مقتل الحسين . وهذا يحتاج الى باحث مسلم متخصص فى الدين الشيعى ليوضّح وليحلّل التناقض بين دين التشيع الأرضى وبين الاسم بنفس ما نفعله مع دينى السّنة والتصوف .

 

خاتمة الكتاب  : نصف كلمة .!!

المحمديون بأديانهم الأرضية زيفوا فريضة الحج الاسلامية .

والكتاب القادم سيعرض بعون الله جل وعلا لانتهاكهم حرمة البيت الحرام والشهر الحرام والآمّين ( القاصدين ) للبيت الحرام .

 



[1]
الإحياء جـ1/232، 243.

[2]طبع صبيح.

[3] أحمد فؤاد متولى : عن كتابه الفتح العثمانى لمصر ص 170 نقلا عن ترجمته للمراسلات بين سليم وطومان باى .

[4]الجواهر السنية 2 .

[5]العيدروس :النور السافر 2مخطوط.

[6]نفائس المجالس السلطانية،تحقيق عبد الوهاب عزام ص1 .

[7]ابن حجر الهيثمى :مولد النبي ص7.مخطوط.

[8]الخفاجى:النفحات الأحمدية 130: 149.

[9]عبد الصمد : الجواهر السنية 133 ، 89، 91: 92 .

[10]جوهرة الدسوقى 98: 102 ،الشعرانى، الطبقات الكبرى جـ1/ 153 ، 154،طبقات الشرنوبى مخطوط7، 2، 1.

[11]ديوان البوصيرى 2، 192.

[12]ترجمة أبو المواهب الشاذلى في الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/66.

[13]ترجمة على وفا في الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/20.

[14]اليواقيت والجواهرجـ2/73، 83. الكبريت الأحمر 10.