JustPaste.it

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

كتاب كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

د. احمد صبحي منصور


في السبت 16 ابريل 2016

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل الأول : التواتر بين الدين الالهى والأديان الأرضية

أولا : نوعان من التواتر 

1 ـ تعارف البشر ـ أو تواتر لديهم ـ أنّ من القيم العليا : الشجاعة والكرم والصدق والأمانة والرحمة والعدل ونجدة المظلوم ..الخ. وتعارف البشر ـ أو تواتر لديهم ـ أن من الأخلاق الشريرة المذمومة الكذب والخيانة والظلم والجبن والبخل والنذالة والغلظة والقسوة ..الخ . وتعارف البشر أن الانسان فى داخله الخير والشّر ، وأنه يختار بين هذا وذاك ، وأنه خليط من هذا وذاك ، وأنه ليس شيطانا مائة فى المائة وليس ملاكا مائة فى المائة . وبالتالى فإن المتواتر لدى البشر نوعان : تواتر بالخير ، وتواتر بالشّر والسّوء .

2 ـ ومن القرآن نعرف تقسيم البشر الى نوعين ، فمن الناس من يفعل  (كذا )، وبالتالى فإنّ من الناس من لا يفعل هذا ( الكذا ) . ويتكرّر التعبير القرآني ( ومن الناس ) ليؤكّد أنه طالما يوجد ( ناس ) فإنّ منهم من يفعل هذا ، أى هى ظاهرة فى أى مجتمع وأى ناس . ونكتفى بأمثلة من سورة البقرة : يقول جل وعلا : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)) هذا الصنف المخادع الذى يستخدم الدين فى الخداع موجود فى كل زمان ومكان . ونعانى منه حتى الآن . وهنا نتأّمّل قوله جل وعلا فى أولئك المفسدين المخادعين المتسترين بالدين: ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206).  هذه الآيات الكريمة تفضح كثيرا من المشاهير فى عصرنا ، بمجرد أن تقول لأحدهم ( إتّق الله ) ينقلب شيطانا مريدا تأخذه العزّة بالاثم .!.. وفى المقابل فهناك من الناس مخلصون لله جل وعلا قد أسلموا أنفسهم لله جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207). ويقول جل وعلا عن الذين يقدسون البشر ويرفعونهم الى مستوى الالوهية يحبونهم حبّ تقديس مثل حبهم لله جل وعلا : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )(165) ( البقرة ).وهى تنطبق على من يقدّس  البشر من الأنبياء ( محمدا والمسيح ) وأصحابهم ( الصحابة و الحواريين ) والأحبار والرهبان والبابوات والأئمة والأولياء. 

ثانيا : التواتر الحق فى الرسالات السماوية والتواتر الباطل لدى المشركين 

1 ـ القرآن الكريم كتاب ( مثانى ) يفسّر بعضه بعضا ، إذ يأتى المعنى موجزا ، ثم تأتى وتترى آيات كثيرة تشرح هذا المعنى الموجز . وينطبق هذا على نوعى التواتر لدى البشر.

فى عبارة قرآنية غاية فى الايجاز والإعجاز والإحكام يقول جل وعلا يخاطب خاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام :( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) (43) فصلت). أى ما يقال لك يامحمد قد سبق قوله لجميع الأنبياء والرسل من قبلك . والذى قيل ويقال له ولهم نوعان : وحى برسالة سماوية ، وتكذيب واتهامات من المشركين . وهذان النوعان من الأقوال قيلت لكل الأنبياء والرسل ، من نوح الى خاتم النبيين عليهم جميعا السلام .

2 ـ فالوحى واحد لهم جميعا:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ )النساء). والتشريع واحد لهم جميعا فى أساساته ، وهو إقامة الدين الحق سلوكا وتطبيقا، وعدم التفرق الى مذاهب وطوائف وأديان أرضية ، يقول جلّ وعلا:( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(13) الشورى). ويشمل هذا الوحى الواحد كل التفصيلات الأساس الخاصة بالعقيدة مثل ( لا اله إلّا الله ) وعبادة رب العزّة وحده : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) الأنبياء ) والتحذير لكل الأنبياء من الوقوع فى الشرك حتى لا يحبط عملهم ويضيع : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) الزمر ). كل هذا الوحى المشترك جاء لكل نبى بلسان قومه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )(4)( ابراهيم )، الى إن نطق القرآن باللسان العربى:(  فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (97) مريم) (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)( الدخان ). هذا هو التواتر فى الحق ممثّلا فى وحدة الوحى الالهى لكل الرسل والأنبياء .

3 ـ يقابله تواتر باطل فى الوحى الشيطانى . وفى القصص القرآنى فى سور ( الأعراف ) و ( هود ) و ( المؤمنون ) مثلا ، تجد الأنبياء يقولون نفس الدعوة لأقوامهم فى ( تواتر ) أنه لا اله إلا الله ، ويقابله تواتر مضاد من الملأ المستكبر بالرفض . وفى سورة الشعراء  تفصيل لهذين النوعين من التواتر ، الى أن يقول جل وعلا فى أواخر السورة عن القرآن الكريم :( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195). أى فالقرآن الكريم نزل به جبريل باللسان العربى مصدقا لما سبقه من كتب سماوية ، أو هو موجود فى ( كتب ) أو ( زبر الأولين ): ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ (196) ، ولهذا كان يعلمه من قبل علماء بنى اسرائيل، وهذا كان فى حدّ ذاته كافيا لقريش لأن تؤمن بالقرآن  وتعتبره آية من الله جلّ وعلا : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) (الشعراء). ثم ، يقول رب العزة إن القرآن لم تنزل به الشياطين : (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212). ثم يخبرنا عن الوحى الآخر النقيض ، وهو وحى الشياطين وأوليائهم الأفّاكين الكاذبين :( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) الشعراء ). أى لدينا نوعان من الوحى : وحى الاهى بالرسالات السماوية ، وهذا قد انقطع وانتهى بانتهاء القرآن الكريم نزولا وموت خاتم النبيين عليهم السلام ، ثم هناك وحى الشيطان الذى لا يزال مستمرا . وبينما يعبر القرآن الكريم المحفوظ من لدن الله جل وعلا عن التواتر الحق فإنّ الوحى الشيطانى المستمر والمؤسس للأديان الأرضية والمنتج لها هو التواتر الشرير المناقض للتواتر الحق.

4 ـ وهذا التناقض بين التواتر الحق والتواتر الباطل يعنى (عداء) أصحاب الوحى الشيطانى للأنبياء . فأولئك الرواة للأحاديث هم الأعداء الحقيقيون لخاتم المرسلين . هم متبعون لأسلافهم من الأفّاكين من شياطين الإنس الذين يذيعون وينشرون الباطل وينسبونه وحيا لله جل وعلا ورسوله، وبهم يتم التكذيب للقرآن وهجره ، ممّا سيجعل النبى محمدا عليه السلام يأتى يوم القيامة يتبرأ من أولئك الاعداء : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) الفرقان ). هنا حديث عن وجود عدو لكل نبى . أى تواتر بالعداء لكل نبى الى خاتم النبيين. وأولئك الأعداء الذين يتواترون فى كل عصر حتى عصرنا يحترفون تصنيع أحاديث شيطانية ، ولكى يخدعوا الناس ينسبونها الى الوحى الالهى ، للنبى ولرب العزّة ، ومن ينكرها ـ مثلنا ـ يكون كافرا متهما بإنكار السّنة .!!.

5 ـ ويقول جل وعلا  أيضا عن أولئك الاعداء للأنبياء ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) (114) الأنعام ). التعبير هنا بالماضى فى جعل أعداء لكل نبى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً )، ثم يأتى التعبير بالمضارع فى استمرار تواترهم بصناعة الكذب وترويج الوحى الشيطانى (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)، والتعبير بالمضارع فى أستجابة العوام الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وعلى أساس هذا الوحى الكاذب يقترفون الاثام (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113).

والله جل وعلا يسمح بوجود هذا الوحى الشيطانى وترويجه إختبارا للناس ، وبدأ هذا منذ أن طرد ابليس : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) ( الأعراف )، لذا فإن ابليس وذريته من الشياطين يجدون الأعوان من شياطين الانس والجن ، ويتعاونون معا فى تصنيع الأحاديث الكاذبة وينسبونها للوحى الالهى ويؤسسون على أساسها أديانا أرضية تصبح بالتواترـ  أيضا ـ نقيضا للقرآن الكريم الذى حوى فى داخله أسس كل ما قيل للأنبياء السابقين من عقائد وتشريعات.

ولأنه باطل متواتر قد تسلح كذبا ياسم الله جل وعلا ، وتسلّح كذبا بدين الله فإن أمنية كل نبى فى هداية كل قومه لا تتحقّق بسبب هذا التلاعب الشيطانى ، يقول جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )، ويسمح الله جل وعلا بنسخ أى تسجيل وكتابة هذا الزيف وأحاديثه الشيطانية ، وفى نفس الوقت ( يُحكم ) الله جل وعلا آياته ، ليظل نوعا التواتر ، تواتر الحق مقابل تواتر الزيف : (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52). وهنا يكون الاختبار، فكتب الأحاديث الضالة تملأ الآفاق ، يضل بها الناس ، وأيضا يمكن لمن أراد الهدى أن يتعظ فيزداد هدى ، فالمؤمن يزداد إيمانا والظالم الذى فى قلبه مرض يزداد كفرا : (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) الحج ).

5 ـ ولهذا يؤكّد رب العزّة أنّ أظلم الناس هم محترفو الكذب على الله جل وعلا المكذّبون لآياته ، يقول جل وعلا :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(68)) وفى المقابل هناك المهتدون الباحثون عن الحق باخلاص (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)العنكبوت ). وهنا ـ  أيضا ـ تواتر فى وجود الفريقين النقيضين .

6 ـ  والتواتر الكاذب هو الأكثر رواجا والأكثر انتشارا وجاذبية لأن أكثرية البشر ضالة مضلة لا تؤمن بالآخرة ولا تعمل لها ، لذا ترى فى الأحاديث الضالة راحة لها فى أن تعصى وتدخل الجنة بالشفاعات ، وتبرر جرائمها وموبقاتها . يقول جل وعلا لخاتم النبيين عليهم السلام : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الأنعام )، وجاء هذا تعليقا على الوحى الكاذب لشياطين الإنس والجن :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الأنعام ).

ولا يوجد فى الاسلام رجال دين على الاطلاق . ولكن هذه النوعية تتكاثر وتتسلّط على أكثرية المجتمع من الأغلبية الصامتة و العوام، يستعين المترفون المستبدون برجال الدين ، ليصبحوا معا ( أكابر المجرمين) الذين يستخدمون الدين الأرضى فى تدعيم سلطانهم. هى عادة سيئة للبشر فى كل زمان ومكان ، حيث ينتشر وباء التقديس لرجال الدين الأرضى وكهنته، بدءا من الساحر فى أدغال أفريقيا إلى بابوات الكنائس وشيوخ الصوفية وأئمة الشيعة والسّنة . وبالتحالف  بين أكابر المجرمين السياسيين والدينيين تتكون أقلية حاكمة فى كل مجتمع ، أو (كل قرية ) بالتعبير القرآنى ، وتتواتر هذه العادة السيئة لتصبح عارا فى تاريخنا البشرى الماضى والحاضر ، يقول جل وعلا يقرّر هذه الحقيقة :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام). تراهم يحترفون المكر حتى ببعضهم البعض ، ويزايد بعضهم على بعض تنافسا فيكون بأسهم بينهم شديدا،أى يمكرون بأنفسهم وما يشعرون. وسبحان الله جل وعلا ، كأن هذه الآية الكريمة نزلت تعلّق على الاخوان والسلفيين والوهابيين فى عصرنا .!. هؤلاء المجرمون هم ايضا أعداء للأنبياء فى عصور الأنبياء ، يقول جل وعلا عنهم فى الآية التالية: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) الأنعام ).

 وبعد عصر الأنبياء يظلون يسخرون من أتباع الحق فى تواتر مستمر ، يقول جل وعلا عن هؤلاء المجرمين : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30))، ولأنه تواتر سيظل مستمرا الى نهاية العالم فسيكون مصر أولئك المجرمين شائنا يوم القيامة ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) المطففين). يقول جل وعلا عنهم يوم القيامة:( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110 ).الى أن يقول لهم رب العزّة (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)( المؤمنون).

7 ـ ويتواتر تكذيبهم للرسالة السماوية فى كل زمان ومكان فى عصور الأنبياء ، وهذا نقرؤه فى قصص الأنبياء فى القرآن ، ومثلا كانوا يتهمون الأنبياء بالسحر والجنون ، كأنما تواصوا على ذلك ، يقول جل وعلا يعلّق على اتهام مشركى قريش لخاتم النبيين بالسحر والجنون :( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) الذاريات ). وكلهم طلب من النبى معجزة حسية ، فقال جلّ وعلا : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (118) البقرة). وكلهم إحترف تكذيب الحق لأنه يتبع ( المتواتر الباطل ) الذى توارثه من الآباء والأسلاف:( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)الزخرف).

8 ـ ما سبق هو بعض التفصيلات القرآنية التى تشرح قوله جل وعلا :( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) (43) فصلت). وهى تأكيد على وجود نوعين من التواتر ، تواتر بالباطل وتواتر بالحق .

ثالثا : التحاكم الى القرآن الكريم لنعرف التواتر الحق من التواتر الباطل :

1ـ تراثنا خليط من تواتر بالحق وتواتر بالباطل ، أى فيه لقرآن ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )(32)( فاطر) وفيه من العبادات ما يتفق  مع القرآن ولا يعارضه، وفيه المناقض المخالف المعادى للقرآن . وبالتحاكم للقرآن الكريم نعرف هذا من ذاك، فالقرآن الكريم هو الحكم على التواتر ، بل هو الحكم على كل ما عداه . والتحاكم للقرآن الكريم فريضة أساسية مستمرة الى الاصلاح . وهذا ما أمرنا به رب العزّة جل وعلا ، فقال عن تلك الأحاديث الشيطانية ونسبتها كذبا للوحى الالهى:( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) (114)الأنعام ). كان هذا تعقيبا على قوله جل وعلا:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الانعام ). ويقول جل وعلا عن الهدى القرآنى: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) الفرقان).جاء هذا تعقيبا على أعداء النبى الذين اتخذوا القرآن مهجورا ، أى موجودا ولكن ( تنسخه) أى تبطله وتلغيه سنتهم الكاذبة: ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) الفرقان ).

2 ـ وعموما يقول جل وعلا فى الاحتكام للقرآن الكريم (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ  (10) الشورى ) . والتحاكم الى الله جل وعلا يعنى التحاكم الى الرسالة الالهية ، وهى الرسول بعد موت رسول الله محمد عليه السلام : (  فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ( النساء ). أى إنّ الشرط هو أن يكون هذا التحاكم ناشئا عن إيمان حقيقى بالله جل وعلا وباليوم الآخر لدى الطرفين معا ، وإلّا كان إستخداما لدين الله جل وعلا فى الخداع ، كما فعل عمرو بن العاص فى التحكيم .

3 ـ بالاحتكام للقرآن نعرف إن الحديث الوحيد الذى نؤمن به هو القرآن الكريم فقط ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)( المرسلات 50)،( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الأعراف ) (تلك آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) ( الجاثية ).ونعرف أن النبى محمدا عليه السلام لم يتقوّل على الله جل وعلا شيئا فى الدين وينسبه لله تعالى (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) ( الحاقة ) ، ونعرف أن الاسلام قد اكتمل وتمّ بانتهاء الوحى القرآنى نزولا ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً (3)( المائدة ) .وبالتالى نعرف أنّ كتب الأحاديث لدى السنيين والشيعة والصوفية هى أساطير شيطانية تناقض الاسلام . بل ونعرف إن حديث القرآن الكريم على تواتر قريش ينطبق على عصرنا لأنّ التواتر الباطل الأفاك الأفاّق لا يزال مستمرا قبل وبعد نزول القرآن الكريم مناقضا للتواتر الحق الذى جاء محفوظا فى القرآن الكريم . 

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل الثانى  : التواتروملة ابراهيم   

أولا : ملة ابراهيم بين السلف والخلف

1 ـ  ملّة ابراهيم تعنى فى التعامل مع الله جل وعلا أن تعبد الله جل وعلا مُسلما له وحده نفسك ومخلصا له الدين (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3))،(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)الزمر). وفى التعامل مع الناس هى التنافس فى الخيرات والمسالمة، وعدم الوقوع فى الفحشاء والمنكر . 

2 ـ وكل تواتر له بداية ، ثم يأتى التتابع والتواتر . والتواتر الحق فى دعوة ابراهيم عليه السلام بدأ حين كان يتذكر كيف ترك عند المسجد الحرام ابنه اسماعيل وذريته : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)ابراهيم ). وعند المسجد الحرام وفى أداء فريضة الحج تأتى الفرصة لتطبيق ملة ابراهيم .

ثم تتابع هذا التواتر الحق فى ذرية ابراهيم ؛ فى اسماعيل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55)مريم ) ، وفى اسحاق ويعقوب:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)الأنبياء ) .

3 ـ ومع هذا ظهر الانحراف فى ذرية ابراهيم من بنى اسماعيل وبنى يعقوب (أو اسرائيل) . ثم تواتر هذا الباطل ، متتبعا خطوات الشيطان، بجعل الصلاة مجرد طقوس شكلية مع تقديس البشر والحجر والوقوع  فى الفسوق والعصيان . يقول جل وعلا عن نوعى التواتر : التواتر الحق لدى الأنبياء والمؤمنين:( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)ثم يقول جل وعلا فى الآية التالية عن التواتر الباطل لدى الخلف :(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59)) أى اضاعوا الصلاة باتباع الشهوات ولم يقيموها بالتقوى ، ومع هذا فلديهم فرصة التوبة باتباع التواتر الحق : ( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)مريم ).

4 ـ وهذه التوبة نوعان ، فى التعامل مع الله جل وعلا تكون بتنظيف القلب من تقديس البشر والحجر وبإخلاص العبادة لله جل وعلا وحده وعدم الفسوق. وهنا تكون الإقامة القلبية للصلاة وإيتاء الزكاة . وفى التعامل مع الناس تكون بكفّ الأذى وعدم الظلم وعدم الاعتداء، وهنا تكون الإقامة السلوكية للصلاة وإيتاء الزكاة  . والمؤمن الحقيقى هو الذى يجمع بين إسلام العقيدة ( الانقياد والتسليم لله جل وعلا ) وإسلام السلوكى ( المسالمة وعدم الظلم والاعتداء على الناس ) . والتائب الحق هو من يتوب من الكفر العقيدى القلبى والكفر السلوكى . وأعطى رب العزة للكافرين المعتدين سلوكيا فرصة التوبة إن إنتهوا عن الاعتداء والهجوم على المسلمين فى المدينة فلا مجال للحرب معهم : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) الأنفال ). وعندما قاموا بنقض العهود والهجوم على مكة بعد دخولها طوعا فى الاسلام نزلت سورة براءة ، تعطيهم مهلة للتوبة، فإن تابوا ظاهريا وكفّوا عن الاعتداء وإلتزموا السلم فقد أصبحوا أخوة للمؤمنين طبقا للاسلام السلوكى بمعنى السلام ، فقد حققوا الإقامة الظاهرية للصلاة  وإيتاء الزكاة :( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)،( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)التوبة ). والتوبة بابها مفتوح ليعود كل من يريد للصواب . والحج مناسبة مثالية للتوبة الحقيقية .

5 ـ  وفى ذرية يعقوب أو بنى اسرائيل تتابع الرسل والرسالات السماوية بالتواتر الحق ، كما تواتر وجود عصاة فاسقين وتواتر وجود مؤمنين منهم حتى عصر نزول القرآن الكريم ، فقل جل وعلا :( لَيْسُوا سَوَاءً ) أى ليس كل أهل الكتاب عصاة بل منهم من اتبع التواتر الحق فى ملة ابراهيم ( لَيْسُوا سَوَاءًمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) أى قائمة ومقيمة على التواتر الحق بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أو السمو الخلقى : (لَيْسُوا سَوَاءًمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌيَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ  وينْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)آل عمران ). هنا يبدو واضحا أنهم كانوا مثل أسلافهم يسارعون فى الخيرات ضمن ملامح التواتر الحق فى ملة ابراهيم . وكان الحج للبيت الحرام الذى بناه ابوهم ابراهيم هو الفرصة الحقيقية للمسارعة فى الخيرات.

6 ـ وعاش فى الجزيرة العربية العرب العاربة القحطانية والعرب المستعربة من ذرية اسماعيل ، بالاضافة الى سكان من اهل الكتاب من ذرية يعقوب أو بنى اسرائيل . الفارق بينهم أن العرب كانوا أميين لم يأتهم رسول قبل خاتم المرسلين بينما تواتر الأنبياء فى بنى اسرائيل وأهل الكتاب ، فكان مصطلح ( الأميين ) يقابل مصطلح ( أهل الكتاب ) : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)) (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )(75) (آل عمران ). وكان العرب الأميون الذين هم بلا كتاب سماوى يتمنون مبعث رسول من بينهم أسوة بأهل الكتاب ليصيروا مثلهم ( أهل كتاب ) فلما أرسل الله جل وعلا لهم خاتم النبيين بالرسالة الخاتمة إستجابة لدعوة ابراهيم كفروا بها ، يقول جل وعلا لهم : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)الأنعام ) . هذا مع أن خاتم النبيين كان مأمورا باتباع ملة ابراهيم حنيفا ، طبقا لما جاء فى نفس السورة بعد ألايات السابقة : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)( الأنعام ). والحج هو الفرصة المثالية لتطبيق ملة ابراهيم .

7 ـ نزل القرآن الكريم يؤكّد المعالم الحقيقية لملة ابراهيم فى العقيدة الايمانية وفى السلوك لدى المؤمنين الحقيقيين الذين يسارعون فى الخيرات :(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)  المؤمنون ). ويحثّ على المسارعة فى الخيرات :( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )(148) البقرة ). وبدلا من وجود التعصّب بين ( أهل القرآن ) و ( أهل الكتاب ) فلا بد من التسابق فى الخيرات:( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (المائدة 48 ). والحج هو الفرصة المثالية للتسابق فى الخيرات .

8 ـ والتواتر الحق فى الرسالات السماوية وملة ابراهيم الحقيقية لا يلبث أن يتلاعب به الشيطان بخداعه ووحيه الضال . لذا كان أهل الكتاب ثلاث درجات ،منهم سابقون:(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)( المائدة ). ومنهم مقتصدون ، وأغلبية ظالمة فاسقة (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) ( المائدة ) .

ونفس التقسيم الثلاثى لأهل القرآن ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم :( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)، ثم يقول عن ( أهل القرآن ): (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)فاطر). وبالتالى فاهل القرآن هم كأهل الكتاب ثلاث درجات: منهم السابقون ومنهم المقتصدون والعصاة الظالمون . وأولئك العصاة الظالمون يرفضون الاحتكام الى القرآن الكريم فيما وجدوا عليه آباءهم من الموروث والتواتر . هم يتبعون بالضبط ما كانت تفعله قريش فى رفضها القرآن الكريم وفى تفضيلها للمتواتر الباطل الذى يخالف القرآن الكريم .

9 ـ وهكذا ، قوبلت دعوة رب العزّة الى التحاكم الى القرآن برفض مستميت من قريش . قريش كانت قد توارثت ملة ابراهيم ، وقد لحقها التحريف ، والتحريف لايعنى  التغيير الكامل أوالتبديل التام ، ولكن وجود اباطيل تداخلت مع الحقائق . وهذا التحريف والتضليل يصاحب مسيرة البشر . لهذا حفظ الله جل وعلا الرسالة الخاتمة لتكون حجة على البشر الى قيام الساعة ، حتى يرجع اليها ويحتكم اليها كل من يبغى الهداية مخلصا لله جل وعلا الدين .

10 ـ وطلبا للإصلاح ولترسيخ الاجتهاد فإن قانون الأزهر يجعل مهمة المدرس فى جامعة الأزهر ( تجلية حقائق الاسلام ) أى يعترف القانون بأن هناك حقائق اسلامية تم إخفاؤها وتجاهلها والتعمية عليها ، وهناك أباطيل تحولت بالسكوت عليها وعدم مناقشتها الى حقائق مقدسة ، ووظيفة عالم الأزهر أن يجلّى حقائق الاسلام مستعينا بالقرآن الكريم ،وبالتالى يفضح بالقرآن أكاذيب الاديان الأرضية التى حلّت محل الحقائق الغائبة والمنسية . وقد قمنا بهذه الوظيفة تنفيذا لقانون الأزهر حين كنا فى جامعة الأزهر فكوفئنا من الشيوخ الجهلة بالعزل والسجن فى عصر مبارك. وهم الآن يدفعون الثمن.

ثانيا : التواتر الباطل من صنع الشيطان ـ حتى الآن وفى كل آن .

1 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه ، ولأنه يتسلل بخطواته خداعا للناس حيث يخلط الحق بالباطل وينسب ذلك الباطل وحيا الاهيا لرب العزّة فقد حذّر ربّ العزة البشر جميعا من هذا التواتر المزخرف المغرى الذى يصغى اليه العوام ويرتضونه:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)(الأنعام).  

2 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه  فقد حذّرهم رب العزّة من إتّباع خطوات الشيطان ووسوسته وخداعه فقال جل وعلا:( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)  البقرة ). وهذا الشيطان العدو المبين ينشر عن طريق أتباعه وأوليائه وحيا مزيفا ينسبونه لله جل وعلا ورسوله يحضّ على السوء والفحشاء بزعم الشفاعات ، ويشجع على التقوّل على الله وتأسيس ديانات أرضية، يقول جل وعلا فى الآية التالية عن الشيطان :( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة ). كان هذا فى الأصل خطابا للعرب وللبشر جميعا ، وجاءت الآية التالية ، وفيها يأمرهم رب العزة بالاحتكام الى القرآن الكريم إتّباعا له ضد هذا التواتر الباطل المناقض للقرآن ، ولكنهم تمسكوا بالتواتر الباطل و ما وجدوا عليه آباءهم، يقول رب العزة :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ(170)البقرة ).

3 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه فإن الله جل وعلا يجعلها دعوة شيطانية ويجعل مصير أتباعها عذاب السعير:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)  لقمان ) . وهذا فى مقابل من يتمسك بملة ابراهيم الحقيقية ويُسلم لله جل وعلا وجهه :(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (22) لقمان ). فالبشر قسمان : قسم يسلم وجهه لله جل وعلا متبعا ملة ابراهيم ، وقسم يتبع التواتر الشيطانى الباطل.

4 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه فقد تطرفوا بالتمسك به ، وبدلا من الاكتفاء بالقرآن الكريم :(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)( العنكبوت ) فقد إكتفوا بتواترهم الباطل رفضا للقرآن الكريم، أو الرسالة الالهية :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) المائدة ) كانوا يقولون (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) مع إن آباءهم كانوا مثلهم فى الجهل . بل كانوا يتعجبون من هذا ( التطاول ) على ما وجدوا عليه آباءهم ، ويقولون إنهم ما سمعوا بهذا التطاول من قبل من شيوخهم وآبائهم السابقين : (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)ص ). أى يصفون القرآن بأنه إختلاق .

5 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه، ولأن الشيطان يصاحب كل جيل من البشر يخدعه ويضله بنفس الطريقة فإن التمسك بما وجدنا عيه آباءنا ورفض الاحتكام فيه الى كتاب الله هو عادة سيئة تصاحب البشر فى سقوطهم وضلالهم حين يتحكم المترفون فى مجتمع ما ويتمسكون بالمتوارث الذى بنوا عليه مجدهم وتسلطهم ووضعهم المميز، يقول جل وعلا  عن قريش :( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) الزخرف) .هذا ما كانت قريش تقوله ، وهو نفس ما إعتادت الأمم الظالمة قوله:( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )(23 ) ( الزخرف)  . وهذا ما يعتاد الوهابيون السلفيون قوله فى عصرنا البائس. هنا يتجلّى إعجاز القرآن حين يرفض السلفيون الاحتكام للقرآن الكريم تمسكا منهم بما ( أجمعت عليه الأمة ). مع إن هذه ( الأمّة ) لم تُجمع فى أديانها الأرضية وفى مذاهبها وطوائفها ومللها ونحلها إلّا على إتّخاذ القرآن مهجورا تمسكا بالمتواتر الباطل . وهم فى إتخاذهم القرآن مهجورا وفى إتخاذهم شعار السلف وفخرهم به لا يعلمون أن مصطلح  (السلف ) يأتى مذموما فى القرآن الكريم ، يقول جل وعلا عن فرعون وآله:( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56)الزخرف ). ولكنها خديعة الشيطان لهذا الجيل المعاصر كما خدع أجيالا من قبلهم وأضلهم ، ويوم القيامة سيقول رب العزة للخاسرين من أبناء آدم  يذكّرهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64)) ( يس ). الواقع المؤسف إنهم أتبعوا كالخراف أسلافهم بلا وعى وبلا عقل ، أو كما قال جل وعلا : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) الصافات ) . وفى الآيات السابقة يقول رب العزة عن عذابهم :( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ (68)( الصافات ). هل يستحق الشيطان وطاعة الشيطان كل هذا العذاب وكل هذا العناء ؟

6 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه، ولأن الشيطان يأمر أتباعه بالسوء والفحشاء والتقول على الله جل وعلا : ( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة )ولأنه يعدهم بالفقر ويأمرهم بالفحشاء ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)البقرة )ـ لذا فإن التواتر السىء الشرير حين يصبح دينا متسلطا فإنّه يجعل ممارسة الفحشاء فريضة دينية يأمر بها الله جل وعلا  ودينا متواترا وجدوا عليها آباءهم:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الاعراف ).

7 ـ وهذا ما كانت عليه قريش ، وما كانت تمارسه فى ( الاحرام ) فى الحج ، طبقا للتواتر السىء الذى تمسكوا به فى تحريفهم لمناسك الحج فى ملة ابراهيم . ومن أجل هذا التحريف رفضوا القرآن الكريم . 

الفصل الثالث : الملكية أساس التواتر فى الحج  

مقدمة : 

الشيطان هو المؤسس الحقيقى للتواتر الباطل المناقض للتواتر الحق الذى نزلت به الرسالات السماوية  والتى طبّقها الأنبياء والمؤمنون. يسرى هذا على التواتر الحق فى ملة ابراهيم ، كما يسرى على التواتر الباطل الذى قام بتحريف ملة ابراهيم . وتشريع الحج كان فيه التواتر الحق واختلط به تواتر باطل  أحدثته قريش طبقا لمصالحها . ونبع هذا التحريف وتواتر من بؤرة أنهم ( يملكون ) البيت الحرام. هذا مع إنّ مفهوم ( الاحرام ) فى الحج أن يعايش الانسان الشعور بأنه ( مملوك ) لله جل وعلا ، إختار العبودية الكاملة للخالق جل وعلا فى بيته الحرام فى  آيام الحج فى الأشهر الحرم . وهكذا تكون ( الملكية ) هى الأساس والمنبع للتواتر الحق فى ( الاحرام ) كما تكون الملكية فى زعم بعضهم ملكية البيت الحرام هى اساس التواتر الباطل . وهذا هو موضوعنا . ونبدأ القصة من أولها .

أولا : المُلك الخالد غريزة الانسان وسبب شقائه

1 ـ البداية تأتى ـ كالعادة أيضا ـ من الشيطان . حين كان أبونا آدم فى الجنة يتمتع بها مع زوجه حواء خدعهما الشيطان وجعلهما يأكلان من الشجرة المحرمة . اساس الخداع الشيطانى عنصران ممتزجان هما ( الملكية و الخلود ). وسوس الشيطان لآدم يحثه على الأكل من الشجرة المحرمة ليحصل على الخلود والملك الذى لا يبلى ولا يفنى :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) طه ) . أكل آدم وحواء منها فهبطا الى الأرض وهبط معهما فى ذريتهما نفس الطمع فى ( الخلد والملك الذى لا يبلى ) . وفى سبيل هذا ( الخلد والملك الذى لا يبلى ) تثور العداوات والحروب بين أبناء آدم لأن حب الخلود والتملك غريزة اساس فينا ، وقد عاش معنا فى الأرض تاريخا من العداء والحروب والدماء:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة) (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) الاعراف ).

2 ـ إنّ كل إنسان يعرف إن مصيره الى الموت شأن كل من سبق من البشر ، وبالتالى فلو عقل لأيقن عبثية التصارع حول ( أشياء ) لا بد أن يتركها بالموت . ولكن غريزة الطمع فى التملك والمّلك الذى لا يفنى يجعله ينسى الموت الذى ينتظره ، فيظل يتصارع من أجل ( ملكية) الأشياء ، الى أن ينتبه عند الاحتضار ويجد أمامه صفرا كبيرا هو حصيلة نضاله الدنيوى ، فلا يأخذ من هذه الدنيا إلا الكفن .!

ومهما قيل فى الوعظ فى المآتم وسرادقات العزاء فإن الشيطان ينجح فى إذكاء غريزة التملك وحب الخلود فى الدنيا فيجعل الانسان ينسى الموت ، بل يضحى بحياته موتا فى سبيل الثروة وهو يعرف أن الثروة لو دامت لغيره ما وصلت اليه . يتصارع فى سبيل السلطة والثروة ويتناسى أن هذا الكرسى لو دام لغيره ما وصل اليه ، هذا التناسى للموت يبدو معه الانسان كما لو اقسم إنه لن يموت ، ولهذا فإن الله جل وعلا سيقول لأصحاب النار يوم القيامة ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) ابراهيم ) . ويقول إنهم سكنوا فى مساكن من سبقهم من الظالمين ، وإنخدعوا مثلهم بنفس الغرور ، غرور التملك والخلود فى السلطة والثروة ، الى أن انتهى بهم الحال للموت مثل السابقين ، ثم ينتظرهم عذاب الجحيم :( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45)( ابراهيم). فى سبيل المُلك الذى لا يفنى ولا يبلى يتصارع الانسان فى سبيل الاستحواذ على الذهب والفضة والأرض والمتاع والرياش ، ويموت فى سبيل هذا التملك وتبقى بعده تلك الأشياء تغرى وتغوى آخرين بالتصارع والموت فى سبيلها. وتخيل قطعة جواهر من العصر الفرعونى وظلت تنتقل من يد الى يد طيلة عشرات القرون ، تبقى وتسيل حولها دماء بنى آدم ، وهنا تواتر بشع وشرير سببه تلك الغريزة الحمقاء التى يستغلها الشيطان فى غواية وإضلال وتدمير بنى آدم ، إنتقاما من أبيهم آدم .

ثانيا : غريزة التملّك أساس التواتر الحق وأساس التواتر الباطل الشرير

1 ـ حضيض غريزة التملك حين ينزع فريق من بنى آدم الى ( تملك بيت الله الحرام ).

2 ـ  إن كل ما فى هذه الأرض مسخّر للإنسان ، وقد وجّه له رب العزة الدعوة ليسعى فى الأرض طلبا للرزق : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)(الملك )، وهذا يعنى التملك الوقتى لأى مكان فى الأرض ، عدا الموضع الوحيد الذى لا مجال فيه لملكية البشر. إنّه مركز هذه الكرة الأرضية ، حيث الحرم المكانى لرب العزة ، وحيث تقام الكعبة بناء يحدد مركز الأرض ، ويحيط بالكعبة بيت الله الحرام الذى جعله للبشر جميعا مثابة وأمنا ، وجعله للبشر جميعا سواء ، العاكف المقيم فيه ، والذى يقطع البوادى سفرا اليه . ولأنه مكان مخصص لملكية لله جل وعلا ، ولأنه ( بيت الله الحرام ) فهو ( محرم ) على أن يملكه شخص أو قبيلة أو جماعة أو دولة.

3 ـ  ولأنه ( بيت الله الحرام ) الذى هو ( محرم ) على أن يملكه شخص أو قبيلة أو جماعة أو دولة فليس فى هذه المنطقة موارد زراعية أو صناعية تغرى بالتملك أو تغرى بالصراع من أجلها ، إنها منطقة جبلية لا زرع فيها ولا ضرع ، وصفها ابراهيم عليه السلام بأنها واد غير ذى زرع وبلا وجود لبشر فيه ، لذا دعا ابراهيم ربه جل وعلا أن يجعل البشر يسكنون هذا المكان ويعمرونه : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ابراهيم )، لذا فإنّ من رحمة الله جل وعلا أن جعل الثمرات تأتى الي هذا الوادى القفر من الخارج ، بأن هدى الناس الى الحج ، فجاءوا ومعهم الثمرات. 

4ـ لقد أجرى رب العزة فى بيته الحرام فى هذا الوادى الصخرى الجبلى عين ماء مستمرة . وجعله مثابة للناس وأمنا . وبعد توفير الماء العذب يبقى الطعام والثمرات ، وهذا يتكفل به  الزوّار أنفسهم ، يأتى بعضهم بالهدى ، حيوانات لاطعام أنفسهم والآخرين ، ويأتى آخرون بحيوانات زيادة لبيعها لمن أراد ان يقدم هديا ، ومعه المال فقط ليشترى به ، ثم يأتى تجّار يبيعون الثمرات والملابس والمصنوعات ، ويقام على هامش فريضة الحج والعمرة ـ طوال العام ـ سوق رائجة ، ويصبح من أنشطة الحج أن يبتغى الناس من فضل الله جل وعلا ، وهذا تكرر فى سياق الحديث عن مناسك الحج :( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) البقرة ) وتأتى الإشارة الى شهود وحضور الناس منافع لهم من بيع وشراء فى سياق الحديث عن القادمين للحج يركبون الابل ، وعن أنعام الهدى فى الحرم:( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) الحج ). وفى الاشارة القادمين الى الحرم فى الطريق ومعم أنعام الهدى بقلائدها ، وغيرها من أنعام معدة للبيع ، حيث يبتغى أصحابها فضلا من الله جل وعلا ورضوانا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً )(المائدة 2 ).

5 ـ هنا لا مجال لبشر أن يتملك شيئا، فالماء اصل الحياة قد ضمن الله جل وعلا جريانه فى بئر ( زمرم ) ، وهى ملك لله جل وعلا . والأنعام والثمرات يؤتى بها للبيع والشراء والاستهلاك الوقتى المستمر. إذن هى  بضائع ليست للتملك ولكن للإستهلاك السريع والمستمر طيلة العام .

6 ـ ليس المطلوب هنا دولة تزعم ملكية البيت الحرام وتتحكم فيه وفى القادمين اليه ، بل المطلوب إسلاميا هو قيام هيئة متخصصة فى الخدمات للتنظيم والاشراف والتسهيلات وخدمة ضيوف الرحمن تستقبلهم وترعاهم وتقوم بحمايتهم وضمان أمنهم ليستمر أداء مناسك الحج والعمرة فى أمن ، وليستمر التعارف والتبادل التجارى آمنا طيلة العام مع الحج والعمرة ، وليستمر الاحساس لدى ضيوف الرحمن بأنهم ضيوف الرحمن فى بيته الحرام ، وليسوا مالكين للبيت الحرام ـ بل إنهم فى الاحرام ينبغى أن يشعروا بأنهم مملوكون للرحمن .  هذا هو أساس التواتر الحق الصحيح والشريف الذى قام به ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ، ومن تبعهما فى تطبيق ملة ابراهيم فى عبادة الحج .

7ـ ولكن إزدهر التواتر الشرير الباطل بتزعم قريش لمكة وتحكمها فى الحرم . لقد تمتعت قريش بالأمن وبالثمرات معا ،: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)( القصص ). وإنهمرت عليهم خيرات العالم عن طريق قيادتهم لرحلة الشتاء والصيف ، فنعموا بالرخاء والأمن بينما عانى من حولهم من الجوع والخوف :: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش). وكفرت قريش بهذه النعمة ، فتوعدهم رب العزّة ـ هم ومن يسير على طريقهم ـ بالبوار فى الدنيا وبالعذاب فى الآخرة ـ : (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) ابراهيم ). وجعلهم الله جل وعلا مثلا وعبرة لغيرهم: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)( النحل ).

ولم تتعظ السعودية بهذه العبرة . فقد ابتلاهم الله جل وعلا بنعمة البترول وجعل الثمرات تنهال عليهم من كل الدنيا بلا تعب ، فبدّلوا نعمة الله كفرا ، وتحكموا فى بيته الحرام بأشد مما كانت تفعله قريش . ومصيرهم فى الاهلاك قادم بعونه جلّ وعلا .

8 ـ ووصلت بكفرها الى الحضيض لأنها إعتقدت أنها ( تمتلك ) بيت الله الحرام ،ولذا كانت تتحكّم فى الحجّاج ، وتمنع أعداءها من دخول مكة والحرم ومن تأدية فريضة الحج . وهم بذلك يخالفون ملة أبيهم ابراهيم:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ).حضيض الفسوق والعصيان والعداء للرحمن أن ينزع فريق من بنى آدم الى ( تملك بيت الله الحرام ).

9 ـ المقابل لذلك هو قمة التقوى فى ( الاحرام ) الذى يعنى أن يختار المؤمن ( الحاج ) وقت الاحرام أن يكون ( مملوكا ) أو ( ملكية ) للرحمن فى البيت الحرام فى الشهر الحرام وقت الحج .

هناك حتميات أربع مكتوبة لا مفر لأى إنسان من مواجهتها فى هذا العالم . ليس له دخل فى إختيارها ، ولن يكون مساءلا عنها يوم الحساب، وهى تخصّ الميلاد والوفاة والمصائب والرزق . المؤمن يتعامل مع هذه الحتميات بالصبر والرضى والحمد والشكر والتسليم بقضاء الله جل وعلا وقدره . وما عدا هذه الحتميات الأربع فكل منّا يتمتع بحريته الكاملة فى الايمان والكفر والطاعة والعصيان . ممكن أن يختار أحطّ درجات العصيان بأن يتحكّم فى بيت الله الحرام وفى ضيوف البيت الحرام ، كما كانت تفعل قريش قديما ، وكما تفعل السعودية حاليا . ومن الممكن أيضا أن يختار الانسان بكامل حريته أن يمارس العبودية التامة لرب العزة  بتطبيق الاحرام فى الحج بحذافيره طاعة لله جل وعلا . التطبيق الحرفى للإحرام هو أن تكون باختيارك الحرّ مملوكا لله جل وعلا. أن تختار بمشيئتك الحرة أن تتنازل عن حريتك طاعة لله جل وعلا ، أن تختار بارادتك الحرة أن تمتنع عن الحلال وهو الرفث مع الزوجة ، وأن تمتنع عن إرادة السوء فى قلبك ، وأن يتطهّر قلبك ويتفرّغ لذكر الله جل وعلا وحده . أن تشعر طيلة الاحرام أنك مملوك لله جل وعلا شأنك شأن البيت الحرام نفسه وفى الشهر الحرام . كونك مملوكا لله جل وعلا بلا إرادة سوى ما يريده الله يعنى أن تكون باختيارك الحرّ مثل الاليكترون الذى يطوف حول نواة الذرة . هذا الاليكترون محايد مطيع لأمر الله جل وعلا بلا إرادة ، أسلم لله كرها بلا إرادة . أما أنت لو كنت محرما فى الحج ، تؤدى الاحرام على حقيقته فأنت باختيارك تطوف حول مركز الأرض مستمتعا بكونك مملوكا لرب العزة . فارق هائل بين شعورك بأنك مملوك لله فى بيت الله الحرام وبين شعورك وأنت تعتقد بملكيتك لبيت الله الحرام وأنت تتحكّم فى ضيوف الرحمن فى بيت الرحمن .

بؤرة الموضوع هنا هو ( الملكية ) وتطبيقها هو فى البيت الحرام والحج للبيت الحرام . ومن هذه البؤرة نبع وينبع التواتر الحق ، كما طرأ وتواتر التواتر البشع .

ثالثا : قريش إختارت حضيض الضلالة  : الزعم بتملّك البيت الحرام

1 ـ الدليل أنها تحكّمت فيه وفى القادمين الحجّاج اليه ، وأنها قاموا بصدّ المؤمنين وخاتم المرسلين عن المسجد الحرام ، فتوعّدهم الله جل وعلا بالعذاب ، فقال:( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ )(34) الانفال). نتوقف هنا مع قوله جلّ وعلا تعقيبا على جريمتهم بالصّد عن المسجد الحرام : (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ). هى المرة الوحيدة فى القرآن أن تأتى الولاية ـ أى الموالاة ـ للمسجد للحرام. العادة أن تنقسم الولاية أوالموالاة الى نوعين فقط : إمّا موالاة المؤمنين لله جل وعلا تقوى وجهادا فى سبيله، وإمّا موالاة وولاء الكفار للشيطان والطاغوت . وبالتالى فهذه الولاية من المؤمنين للمسجد الحرام هى موالاة لمالك البيت الحرام ـ رب العزّة جل وعلا . وبالتالى أيضا فهذه الموالاة لله جل وعلا ولبيته الحرام تعنى أن يختار المؤمنون أن يكونوا بإرادتهم الحرّة ( مماليك ) و ( مملوكين ) لله جل وعلا فيما يخص التعامل مع البيت الحرام.وهذا يعنى ايضا أن من يختار العكس ، وهو ( ملكية البيت الحرام ) يكون أبعد الناس عن ولاية الرحمن وموالاة البيت الحرام ؛ يكون وليا للشيطان . ولقد سارت قريش فى هذا الطريق الشائك الى نهايته ، فواصلت الاعتداء على المسلمين فى المدينة بعد طردهم من مكة ، فقال فيهم رب العزة يؤكّد ولاءهم للشيطان والطاغوت : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76)  النساء )

 2 ـ  ولأن قريش إختارت تملّك البيت الحرام فقد أحدثت تشريعات جديدة ، مالبث أن تحولت بالتواتر والتعود وعدم الاعتراض والنقد والنقاش الى دين أرضى . وأول هذه التشريعات التحكم فيمن يأتى ومن لا يأتى للحج . وحين نزل القرآن الكريم بتصحيح الانحراف عن ملة ابراهيم فقد إعترفوا بأنه ( هدى ) ولكن إتّباعهم لهذا الهدى يجلب لهم الخسائر ، ويثير عليهم القبائل. وجاء الردّ عليهم بقوله جل وعلا :( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)( القصص). وفى سبيل زعمهم بتملك البيت الحرام فقد كفروا بنعمة الله وأعلنوا إيمانهم بالباطل :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) العنكبوت ). ومن أجل تملكهم للبيت الحرام تمسكوا بما وجدوا عليه آباءهم ورفضوا القرآن الكريم .

3 ـ ولكن لماذا إختارت قريش هذه الدرجة المنحطّة من الضلال ( تملك البيت الحرام )؟ والى أى حدّ تأثر التشريع القرشى فى تحريف ملة ابراهيم فى شعائر الحج وفيما يحدث فى بيت الله الحرام ؟

انتظرونا .. 

الفصل الرابع  :تواتر العالمية فى تشريع الحج قبل الفتوحات العربية

أولا : عالمية الحج للبيت الحرام قبل ابراهيم عليه السلام

1 ـ منذ البداية ارتبطت العالمية بالبيت الحرام والحج اليه ، فهو أول بيت وضعه رب العزة للناس مذ كان على هذا الكوكب بشر وناس:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96)آل عمران). وحيث أن كل الرسالات السماوية تتضمن أسس الدين الالهى من عبادة وإخلاص الايمان بالله جل وعلا  فإن الحج الى البيت الحرام كان ضمن العبادات فى كل الرسالات السماوية لكل الناس.

2 ـ ونحن لا نعرف كل رسل الله جلّ وعلا ، فلم يذكرهم القرآن الكريم جميعا:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (164) النساء)، ولكن نعرف أنه ما من أمة إلّا جاءهم نذير:( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) فاطر ). و( النذير) قد يكون مرسلا من الله جل وعلا:(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)(سبأ )،وقد يكون  النذير متبعا للرسول :(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي )(108)( يوسف) ومن النذر ذلك الرجل الصالح فى سورة ( يس ) (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِاتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)( يس ). وبالتالى فإن العلم بالبيت الحرام والحج اليه جاء فى كل الرسالات ، وقال به كل المنذرين فى كل الأمم .

3 ـ والبشرية كانت فى البداية أمما وتجمعات متفرقة فى شتى أنحاء الكرة الأرضية ،من المناطق المأهولة المعروفة فى ( العالم القديم ) فى آسيا وأفريقيا وأوربا الى سكان الأمريكيتين ونيوزلندة واستراليا وجزر المحيط الهادى الشرقية فى أقصى العالم. ومع قلة عدد السكان فى العصور السحيقة إلّا إن البشر انتشروا فى كل الكرة الأرضية ، وخلفوا آثارا تنطق بحضارات قديمة فى الزمن السحيق تم إكتشاف بعضها حديثا. والذى يؤمن بالقرآن يؤمن أيضا بأن فى كل هذه التجمعات السكانية القديمة جاء منذرون:( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24)فاطر ). وبهذا فإن العلم بالبيت الحرام شمل كل الناس حيث كان أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس .

4 ـ  ولا تزال هناك ملامح مشتركة وألفاظ مشتركة لدى البشر فيما يخصّ تراثهم الدينى بما يؤكّد وجود وحى الاهى وكتب سماوية أى تواتر حق لكم ما لبث أن حرّفه وأضاع ملامحه تواتر باطل.

5 ـ والبشرية فى تاريخها مع الرسالات السماوية تنقسم قسمين : أمم بائدة أهلكها الله جل وعلا ، وذكر رب العزة منهم أقواما عاشوا فى الجزيرة العربية والشام ومصر، مثل قوم نوح وعاد وثمود ومدين وقوم لوط وقوم فرعون . ومنهم من إستمر بقاؤه بلا تدمير كامل . وبالتالى فإن قوم نوح ومن جاء بعدهم من الأمم البائدة كانت تعلم الحج الى البيت الحرام . وأن الحج للبيت الحرام عرف نوعين من التواتر ؛ تواتر بالحق وتواتر بالباطل .

ثانيا : ابراهيم عليه السلام وعالمية الحج للبيت الحرام

1 ـ بدأ فى عصر ابراهيم عليه السلام دخول جماعات وأمم البشرية فى التعارف والتواصل . ونفهم هذا من سيرة ابراهيم عليه السلام نفسه ، فقد تنقل من العراق الى الشام والى مصر والى الجزيرة العربية ، وترك قبائل من نسله هنا وهناك . من الطبيعى أنه عليه السلام لم يخترع هذا التواصل ولم يبتدعه ولم يبدأ به ، ولكنه كان يتحرك وسط ثقافة موجودة تعرف التواصل بين جماعات البشر الساكنة بين العراق والشام ومصر بلا حاجز صارم من اللغات ، والحدود السياسية . بهذا يحتل ابراهيم عليه السلام مرحلة هامة فى تاريخ الأنبياء وفى تاريخ المسجد الحرام ، إذ دخلت به عالمية الحج الى البيت الحرام الى مرحلة مميّزة .

2 ـ ونفهم تقسيم تاريخ البيت الحرام الى مرحلتين من قوله جلّ وعلا:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ )(97)آل عمران ). فالبيت الحرام قبل ابراهيم عليه السلام هو أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس فى مكة التى كان إسمها ( بكّة )، ثم هو بابراهيم أصبح فيه آيات بينات مقام ابراهيم.

 3 ـ ونفهم نوعي التواتر فى قوله جل وعلا ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)الحج )، أى جاء ابراهيم عليه السلام من الشام الى الجزيرة العربية بأمر الاهى ، وبهذا الوحى الالهى عرف ابراهيم طريقه الى مكة والبيت الحرام ـ أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس ، وكان البيت الحرام تطغى عليه الأوثان برجسها طبقا للتواتر السيىّء ، فقام ابراهيم عليه السلام بتطهيره منها مطبقا التواتر الصحيح ، وأعاد مع ابنه اسماعيل بناء الكعبة . جاء ابراهيم فأعاد التواتر الشريف الصحيح وقام بتطهير البيت الحرام للطائفين والعابدين. وبعد تطهير البيت الحرام من رجس الأوثان أمر الله جل وعلا ابراهيم عليه السلام أن يطوف العالم المعروف وقتها يدعو الناس الى الحج ، يأتون الى مكة من أقصى البلاد ومن كل فجّ عميق، يقطعون الطريق الطويل يركبون الابل فتصبح   بطول المسافة الى إبل ضامرة نحيفة :( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ). وفود الحجاج من كل ( فج عميق ) أكبر دليل على عالمية الحج ، ودور ابراهيم فى هذه العالمية .

4 ـ  كما نفهم إن مناسك الحج الحقيقية كان التواتر الشرير قد أضاعها، لذا دعا ابراهيم عليه السلام ربه جل وعلا  وهو يرفع قواعد الكعبة أن يعرف مناسك الحج الصحيحة ، يقول جل وعلا:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا )(128)البقرة). وأراه رب العزّة المناسك الحقيقية ، وهى المعروفة بملة ابراهيم فى الحج .

5 ـ ومن قوله جل وعلا :( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )(28) الحج ) نفهم أن البيت الحرام فى عهد ابراهيم عليه السلام قد أصبح ملتقى عالميا للناس على اختلاف أوطانهم وعناصرهم ، حيث يتوافدون فى موسم الحج والعمرة يشهدون منافع لهم، يتبادلون التجارة والمعارف والخبرات والأدوات والسلع والبيع والشراء.

6 ـ وساعد على عالمية الحج فى حياة ابراهيم عليه السلام عدّة عوامل :

6/ 1 : إن الله جل وعلا كافأه على نجاحه فى الاختبارات والابتلاءات بأن جعله إماما للناس فى عهده ، أى إماما لكل الناس الذين يستطيع الوصول اليهم والتواصل معهم:( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) البقرة ). وارتبطت هذه الإمامة بالبيت الحرام ومسئولية ابراهيم واسماعيل عن إعداده لاستقبال الحجيج ، لذا يقول جل وعلا فى الآية التالية :(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)البقرة ) . كانت هذه الامامة بعد   نضال ابراهيم ومعاناته من أبيه وقومه الى وصلت الى محاولة حرقه بالنار ، ثم بعد الهجرة من العراق الى الشام تعرض لاختبار أقسى ونجح فيه ، وهو أمره بذبح ابنه الوحيد وقتها ( اسماعيل ) . أى كانت هذه الامامة تتويجا لنضال سابق استغرق شباب ابراهيم وكهولته . ثم أصبحت هذه الامامة وسيلة للدعوة للحج وعالمية البيت الحرام فيما تبقى له من عُمر . وكان عمرا طويلا .

6/ 2 : ولقد عاش وعمّر طويلا ، أى ظل إماما مدة طويلة يدعو للحج ويعلم الناس المناسك ، أوالتواتر الصحيح الذى تسمى فيما بعد بملة ابراهيم بعد موت ابراهيم . ظل ابراهيم بلا ولد من زوجه سارة ، فتزوج وأنجب اسماعيل من السيدة هاجر . ثم أقامهما فى مكة حول الحرم ، وعاد لزوجته سارة . وعندما كبر اسماعيل وأصبح فتيا شابا شارك مع أبيه فى إعادة بناء الكعبة . وبالتالى كان ابراهيم يزور ابنه يقطع المسافة من الشام الى مكة ، وعندما بلغ من الكبر عتيا جاءته البشرى بأنّ زوجه سارة ستلد له إسحاق ـ وهى عجوز عقيم ، بل وجاءت البشرى بيعقوب الحفيد بعد اسحاق الابن ،أى سيعيش ابراهيم ليرى حفيده يعقوب وقد أصبح نبيا :(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)هود).

ونفهم أن ابراهيم عاش طويلا من قوله جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)( ابراهيم ) نفهم : أنّ ابراهيم عليه السلام رأى فى حياته ذريته وقد تكاثرت من ولديه اسماعيل واسحق ، وهو يدعو الله جل وعلا أن يتطهّر هو وبنوه من عبادة الأصنام ، وأن يجعله وذريته ممّن يقيم الصلاة ، وأن يتقبّل دعاءهم ، ونفهم أن جزءا من ذريته ( اسماعيل وابناؤه ) يعيشون عند البيت الحرام وقد أصبحوا جماعة من الناس ، ويدعو ابراهيم أن يعيش معهم أناس آخرون لتعمير المنطقة ، وأنه يحمد الله جلّ وعلا أن وهبه ـ على الكبر وفى الشيخوخة ـ اسماعيل واسحاق .

6/ 3 ـ كما تمتع ابراهيم وقتها بالثروة والجاه ، ونفهم هذا مما جاء فى التوراة  فى سفر التكوين ، ومن  إشارت قرآنية . فعندما جاءته الملائكة فى هيئة بشر تبشّره باسحاق ويعقوب ـ بادر بأن قدّم لهم عجلا مشويا ، أى لديه زرع وضرع وخدم ، برغم انه كان يعيش وقتها بعيدا عن ابنه الوحيد اسماعيل : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)هود). وفى الجزء الأخير من حياته عاش ابراهيم سعيدا برفقة إبنه اسحاق ثم أحفاده من يعقوب وذريتهم حوله، وتمتع أيضا بمزيد من الثروة والجاه أجرا من الله جل وعلا على جهاده :(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (27)) ( العنكبوت )، ويقول رب العزة عن نعيم ابراهيم فى دنياه قبل الآخرة ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122) ( النحل ). أى كان إماما للناس وقد إجتمع له النبوة والثروة والجاه والذرية الصالحة وعاش ليرى منهم اسماعيل واسحاق ويعقوب أنبياء . وهؤلاء الأنبياء كانوا مبعوثين فى حياة ابراهيم لمن حولهم من الأمم. وكان الحج للبيت الحرام من معالم الرسالات السماوية لابراهيم واسملعيل واسحاق ويعقوب . وبهم صار الحج عالميا لكل الناس تطبيقا للأمر الالهى :( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ). 

 ثالثا : عالمية الحج فى ذرية ابراهيم عليهم السلام ( أهل الكتاب والعرب وقريش )

1 ـ عاش ابراهيم عليه السلام ليرى بوادر تكوين أمم من ذريته ، فقد تكاثر ابناء اسماعيل حول البيت الحرام ، وتكاثر ابناء اسحاق وأحفادهم ، كما تكاثر أحفاد اسحاق من ابنه يعقوب ( اسرائيل ) فأصبحوا 12 قبيلة فى مصر بعد أن هاجروا اليها فى ظل تمكين يوسف بن يعقوب عليهما السلام فى مصر . وبالتالى أصبح ابناء ابراهيم قوة هائلة وقائدة ورائدة فيما بين العراق والشام والجزيرة العربية ، ولانتمائهم الى أصل واحد هو ابراهيم ولأنهم يحملون نفس الرسالة وهى ( ملة ابراهيم ) فقد إزدهرت عالمية الحج فى ظلّ هذا الجاه وذلك المُلك لآل ابراهيم ، يقول جل وعلا عنهم : (..فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)النساء ).

2 ـ. ولقد كان البحر الأحمر ـ ولا يزال ـ وسيلة تواصل بين مكة وصعيد مصر ، وشهد عبور قبائل عربية الى الصعيد ، وشهد إزدهارا للحج عن هذا الطريق . ومذكور فى الروايات أن مهندسا قبطيا قام ببناء الكعبة لقريش فى العصر الجاهلى ، وهذا يعزّز التواصل بين مكة القرشية والمصريين الأقباط قبل البعثة . وقد كان صعيد مصر محور الحضارة المصرية قديما وموطن الديانة المصرية . ومنه إنتقلت عبادة ( ايزيس ) الى قريش (ايزيس هى عزى ، أى العزّى ) والمرجح أن بنى اسرائيل وهم فى مصر كانوا من نقل هذه العقائد الفرعونية الى بنى عمومتهم القرشيين ، بدليل إن اليهود كانوا يعبدون ( عزير ) وهو نفسه ( أوزير) . أوزير بالمصرية هو (عزير) اله الموت فى الفرعونية ، ثم أصبح فى أساطير الدين السّنى المتأثر بالاسرائيليات ( عزرائيل ) ملك الموت . ولقد كان تأثر بنى اسرائيل بالديانة الفرعونية عميقا ، من عبادة العجل الى غيرها .

3 ـ وفى الشمال تأكّد هذا التواصل أكثر بين ابناء ابراهيم فى الشام والجزيرة العربية حيث الصحراء الممتدة بلا عوائق والتى تخترقها طرق القوافل . وتأكّد هذا التواصل أيضا فى الجنوب حيث نشاط أهل اليمن البحرى واتصالاتهم البحرية بفارس والخليج والبحر الاحمر ، وهجرات أهل اليمن المستمرة خصوصا بعد انهيار سد مأرب الى يثرب والشام و الخليج فأقاموا إمارات الغساسنة على تخوم الدولة الرومانية فى الشام و دولة المناذرة جنوب الدولة الفارسية وتحكمت قبائل ( كلب ) اليمنية المسيحية فى طرق القوافل فى الشام . وأسفر هذا التلاقى والتواصل عن نشر اليهودية ثم النصرانية فى اليمن نفسه . مما أوجد طوائف من أهل الكتاب فى جنوب الجزيرة العربية كان لهم تأثير ملموس فى تاريخ المسلمين المبكّر .

4 ـ ومنذ عصر يوسف عليه السلام استقر بنو اسرائيل فى مصر خصوصا فى الدلتا البعيدة عن البحر الأحمر ، إلا أن البحر الأحمر لم يكن عائقا بين بنى اسماعيل فى مكة وبنى اسرائيل فى مصر. والدليل إن بنى إسرائيل فى عهد موسى عندما عوقبوا بالتيه فى صحراء سيناء أربعين عاما وجدوا ضالتهم فى السير جنوبا الى مكة ، فجاء موسى بقومه الى البيت الحرام وقت أن كانت قريش تتحكم فى مكة والحج . وفى مكة دعا موسى وهارون عليهما السلام قريش الى اصلاح التواتر الباطل الذى أحدثوه فى ملة ابيهم ابراهيم ، فرفضت قريش واتهمت موسى وهارون بالسحر . وفيما بعد كرّرت قريش نفس الاتهام لخاتم النبيين عليهم السلام لنفس السبب.  وكانت قريش تتمنى مبعث رسول منهم بمثل ما تواترت به الرسل والمعجزات فى بنى عمومتهم بنى اسرائيل ، فلما بعث الله جل وعلا خاتم النبيين بالقرآن كفروا وطلبوا معجزة حسية مثل التى كانت لموسى ، وجاء الردّ من رب العزّة عليهم بذكّرهم بأنهم من قبل كفروا بدعوة موسى واتهموه وأخاه هارون بالسحر :( فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) القصص ).

5 ـ على إن الجزيرة العربية كانت فى عصر سلطة قريش كانت تموج بحضور قوى ومؤثر من أبناء ابراهيم ممّن اطلق عليهم ( أهل الكتاب )، كانوا عنصرا مؤثرا فى الحياة الدينية للناس وقتها ، وبالتالى كانوا من حجاج البيت الحرام تبعا لملة ابيهم ابراهيم ـ حتى مع التحريف فيها. ومن مظاهر هذا الحضور :

5/ 1 : تقسيم سكان الجزيرة العربية الى قسمين : ( أهل الكتاب ) من بنى اسرائيل ومعتنقى الانجيل و ( الأميين ) أى العرب من ذرية اسماعيل الذين لم يأتهم رسول .

5/ 2 ،وبسبب تميّز أهل الكتاب فقد كانت قريش والعرب المستعربة تتمنى مبعث رسول منهم أسوة ببنى اسرائيل ، بل كانوا يقسمون بالله جل وعلا جهد أيمانهم لو جاءهم رسول لاتبعوه وكانوا خيرا من بنى اسرائيل ، فلما جاءهم خاتم النبيين بالقرآن الكريم كفروا به : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) فاطر ) لماذا كفروا ؟، يقول جل وعلا فى الآية التالية :( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ )(43) ( فاطر ). وما هو مبعث الاستكبار فى الأرض ؟ هو تحكمهم فى البيت الحرام وفى الحجاج وتزعمهم قبائل العرب .

5/ 3 : وبينما ساد الضلال أهل الكتاب خارج الجزيرة العربية حتى لقد أخفت كنيسة روما الانجيل الحقيقى وقامت بتحريمه وفرضت كتابات متى ولوقا ..على أنها الاناجيل المعتمدة فإن الجزيرة العربية عرفت الانجيل الحقيقى الذى نزل على عيسى ، لذا قال جل وعلا عن عيسى وأتباع عيسى فى الجزيرة العربية حيث كان معهم الانجيل الحقيقى (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)( المائدة). ويقول جل وعلا عن التوراة وأتباعها من النبيين والمؤمنين:(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ )(44)المائدة ) ويقول جل وعلا عن القرآن الذى نزل مصدّقا للتوراة والانجيل : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ)(4) آل عمران ). وعندما طلب بعضهم الاحتكام للرسول قال جل وعلا : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ) (43)المائدة ).

5/ 4 : كثرة الحديث عن أهل الكتاب وبنى اسرائيل وقصصهم فى القرآن الكريم المماثل لمعظم ما جاء فى العهد القديم، والملاحظ أيضا كثرة الحوار معهم، ودعوتهم للإحتكام للقرآن الكريم : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)( النمل ) بل إن الله جل وعلا يشيد بالمؤمنين منهم ( القصص 52 : 55) ( آل عمران  113 : 116 ،  199 : 200) ( النساء 162)( الاسراء 107 : 109 )، ويدعو المؤمنين للتسابق معهم فى الخيرات: ( المائدة 48 ) .

5 / 5 : كما جاء حوار مع المشركين من اهل الكتاب القائمين بتحريف ملة ابراهيم. وجاء هذا مثلا  فى الجزء الأول من سورة البقرة ( 40 : 141 ) وفيه موضوع الحج ، ونفس الحال فى سورة آل عمران ، وفيها يتحدّاهم رب العزة بالاحتكام للتوراة التى فى أيديهم ثم يدعوهم الى إتباع ملة ابراهيم حنيفا والى الحج للبيت الحرام : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) آل عمران ).

5/ 6 : ومنه نستشف وجود علاقة بين مشركى قريش وكفار أهل الكتاب ، إذ عانى المؤمنون منهم ابتلاءات ومؤامرات فقال جل وعلا يخاطب المؤمنين يأمرهم بالصبر على مكائد الكفار من أهل الكتاب وقريش : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران ) . وكان أئمة الكفر من أهل الكتاب يصدرون فتاوى لقريش بأن دينهم أوتواترهم الباطل لملة ابراهيم أفضل من دين محمد ، فقال جل وعلا يلعنهم :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) النساء). ونعرف أن يهود بنى قريظة قاموا بنقض التحالف مع النبى وغدروا بالمؤمنين فى حصار الأحزاب تعاونا مع قريش وأبى سفيان . وبإجلاء اليهود المعتدين ناكثى العهد من المدينة تعاظم تحالفهم مع قريش فى مكة ، وفى الوقت الذى فتحت فيه قريش أبواب مكة والحرم للحجاج من أهل الكتاب ومن كل إتّجاه فقد صدّت النبى عليه السلام والمؤمنين عن الحج .

أخيرا

هذا الوجود المكثف لأهل الكتاب فى الجزيرة العربية وخارجها إزدهرت معه عالمية الحج بعد أن دخلت فى دور جديد بابراهيم عليه السلام ، ثم أستفادت قريش من هذه العالمية وقامت بتطويرها تبعا لمصالحها التجارية ، فى رحلة الشتاء والصيف ، تلك المصالح التى نجم عنها تغيير وتحريف فى ملة ابراهيم ، ولكن هذا التحريف شجع على عالمية الحج لأنّ فيه فائدة إقتصادية لقريش وقوافلها التجارية ، ومن أجل هذه الفائدة الاقتصادية حاربت قريش الاسلام والمسلمين ومنعتهم من الحج ، ومن اجل إستمرار هذه الفائدة الاقتصادية اضطرت قريش لدخول الاسلام مؤخرا ، ثم ركبت ظهور العرب المسلمين بعد موت خاتم النبيين ، وبالفتوحات دخلت بالعرب بل والعالم كله فى تاريخ جديد ، يهمنا منه هنا أنه أعاق الاصلاح القرآنى لمناسك الحج ، فما لبث أن عاد التواتر الباطل الجاهلى القديم لمناسك الحج مضافا اليه منع أهل الكتاب من الحج للبيت الحرام . وموعدنا مع التفصيل لكل هذا . 

الفصل الخامس : التواتر وإستغلال قريش للبيت الحرام تجاريا

 أولا : تميز قريش وزعامتها بسبب البيت الحرام

1 ـ قبل البعثة المحمدية كانت قريش تتميز عن بقية العرب من أبناء اسماعيل باستغلالها البيت الحرام وفريضة الحج لمصلحتها التجارية . وبهذا صارت الأكثر ثروة والأكبر قوة ، وتباهوا بقوتهم وأخذهم الزهو زالغرور بثرواتهم فاستكبروا وصدّوا عن سبيل الله جلّ وعلا الى درجة أن رب العزة كان يذكّرهم بأن بعض الأمم البائدة كان أكثر منهم قوة وأن آثار هذه الأمم البائدة تنطق بعظمتهم التى تفوق عظمة قريش فى صحرائها . لذا أمرهم رب العزّة مرارا أن يسيروا فى الأرض ليروا عظمة آثار السابقين ومدى قوتهم وكيف انتهوا بالاستكبار الى الهلاك والدمار. يقول جل وعلا :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)(الروم ) (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)،(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)(غافر ).

2 ـ كان أمام قريش أن تختار بين طريقين : ملة ابراهيم ، ومنها أن يكون البيت الحرام للناس كافة ، العاكف فيه والبادى القادم اليه ، وبذلك تكون قريش مملوكة لله جل وعلا وخدما لبيته الحرام . وإمّا أن تتملك قريش البيت الحرام وتستغله والحجاج لمصلحتها. إختارت قريش أن تتملك البيت الحرام كفرا بملة ابراهيم وبرب العزة الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .

ثانيا : أستغلال قريش للبيت الحرام فى رحلة الشتاء والصيف

1 ـ عندما إستولى ( قصى بن كلاب ) على مكة ، وأسّس تحكم قريش فى البيت الحرام وفريضة الحج ، كانت عالمية الحج قد وصلت الآفاق ، وتزامن هذا مع تسارع الاتصال التجارى بين الشرق والغرب ، بين كتلة فارس والهند والصين فى الشرق وأوربا ( الامبراطورية الرومانية ) فى الغرب . وتلامست تخوم الشرق والغرب فيما بين الرافدين ( سوريا والعراق ) حيث دار الصراع بين الامبراطوريتين الفارسية الكسروية والرومانية البيزنطية . وكان هذا الصراع معيقا للتبادل التجارى العالمى ، لذا جدّت الحاجة الى طريق آخر أكثر أمنا . فى هذا الوقت تمّ ترويض الابل على قطع المسافات الصحراوية الطويلة ، ووصلت قبائل اليمن المهاجرة الى الاستقرار بين جنوب الشام وجنوب العراق ، وبسبب معرفتهم بالطرق البحرية من اليمن الى الهند وما بعدها ، ومعرفتهم البرية بطرق الصحراء جاء البديل التجارى بأن تنقل سفن اليمن التجارة الشرقية من الهند والصين الى  اليمن لتحملها الابل عبر الصحراء الى الشام الذى يسيطر عليه الروم ، ويتم نقلها من الشام الى اوربا . ثم تعود تنقل بضائع أوربا والروم من الشام عبر الصحراء الى اليمن لتحملها سفن اليمن الى الشرق ( الهند والصين ). وبهذا تتفادى التجارة العالمية الطرق غير الأمنة فى مناطق الحروب بين الفرس والروم . كان هناك عائق وحيد ، هو أن القبائل العربية كانت تحترف الإغارة على بعضها ، وبالتالى ستتخذ من قوافل التجارة العالمية صيدا سهلا لها . كان البيت الحرام هو الحل . هذه القبائل العربية تقدّس البيت الحرام ، وتحج اليه، وبهذا يمكن التأثير عليهم بتأمين القوافل التجارية عن طريق قريش المسيطرة على البيت الحرام ، بأن تتولى قريش الوساطة فى هذه التجارة العالمية مستغلة التقديس للبيت الحرام ، أى تتولى شراء هذه البضائع من اليمن ، وتحملها بقوافلها على الابل الى الشام حيث تبادلها بتجارة أوربا وتحملها فى العودة الى اليمن لتبيعها هناك ليحملها اليمنيون الى الشرق . وتمّ هذا بالايلاف الذى صارت به قريش الأثرى والأقوى بين قبائل العرب. 

2 ـ  والايلاف فى علاقة قريش الخارجية يعنى أن تعقد قريش معاهدات مع القبائل الصحراوية تقوم بها هذه القبائل بتأمين رحلتى الشتاء والصيف ،مقابل أن تتيح قريش لهذه القبائل أن تنصب أصنامها وأوثانها فى الحرم لتنال جانبا من قدسية الحرم وشهرته ، أى تقوم قريش بتأمين أصنام القبائل أو تتّخذ من هذه الأصنام رهينة حتى تلتزم تلك القبائل بحماية رحلتى الشتاء والصيف، أى تتقاتل تلك القبائل فيما بينها ولكن تتفانى فى ضمان أمن القوافل التجارية القرشية . والايلاف فى علاقة قريش الداخلية أن تجمع قريش من داخلها رأسمال تجارتها ، بتقسيم رأس المال على أسهم، ولكل فرد من قريش أن يشترى ما يشاء من الأسهم ، ثم يتم حساب الأرباح عن كل سهم . وعلى هامش الربح تقام فى مكة أسواق تبيع بعض منتجات الشرق والغرب للحجاج والوافدين .

3 ـ وبهذا استغلت قريش البيت الحرام فى تأمين تجارتها العالمية ، واستخدمت فريضة الحج فى بيع جزء من هذه التجارة بأن ترغم الحجاج على شرائه من أسواق مكة ، وجعلته من مناسك الحج . وبالتالى فقد حرّفت قريش ملة ابراهيم ، فى إعادة الرجس الوثنى الى البيت الحرام بعد ان قام أبوهم ابراهيم بتطهيره من هذا الرجس ، ثم تلاعبوا فى المناسك بابتداع طواف العرى وفرض شراء الملابس والطعام من أسواق قريش وتحريم أن يحج الحجاج فى ملابسهم القادمين بها أو أن يحملوا معهم طعاما . بل ساعدت على نشر الانحلال الخلقى في الحرم بابتداع طواف العرى للنساء ،وأقامت فى البيت الحرام وثنا للشيطان بزعم رجمه ، وجعلت من مناسك الحج رمى الجمرات . وسيأتى تفصيل ذلك .

4 ـ وكانت قريش ترى أن ما تفعله من تحريف لملة ابراهيم هو ( تعمير للبيت الحرام ) خصوصا قيامهم بسقاية الحاج وتنظيم الشرب من بئر زمزم . فقال جل وعلا يرد عليهم بأن هذا ليس تعميرا لمساجد الله جلّ وعلا : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) ) وأنّ التعمير الحقيقى للبيت الحرام وللمساجد هو بالايمان الصادق والعمل الصالح : ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (18)التوبة) .ثم يقول جل وعلا لهم :( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) التوبة ).

ثالثا : عرض موجز لحرب قريش للاسلام حرصا على استغلال البيت الحرام

1 ـ عندما نزلت الرسالة الخاتمة على خاتم المرسلين باصلاح ملة ابراهيم وأن يكون البيت الحرام للناس كافة وحظر التجارة بالدين وعبثية تقديس البشر والحجر ، رأت قريش فى الاسلام الخطر الأعظم على مكانتها وثروتها فاضطهدت النبى والمسلمين حتى أرغمتهم على الهجرة . وفى عنفوان استكبارها رأت إفلات النبى والمسلمين من قبضتها ممّا يجرح كبرياءها ومكانتها بين القبائل ، ممّا قد يؤثر على تأمين قوافلها إذا إستخفّت بها القبائل ، لذا تابعت المسلمين بالغارات الحربية تقتلهم وهم فى المدينة ، حين كان المسلمون مأمورين بكف اليد وعدم رد العدوان . ثم نزل الإذن للمسلمين بالقتال الدفاعى ورد العدوان ، ففوجئت قريش بالمسلمين يتعرضون لقوافلها المحصّنة من الاعتداء . كانت أموال المسلمين المهاجرين  قد صودرت وبيعت أملاكهم وعقاراتهم وصارت جزءا من رأسمال هذه القوافل ، ومن حقهم أن يستعيدوا أموالهم المغتصبة . ونشبت معركة بدر ، وفوجىء العرب بإنتصار المسلمين على قريش ، لذا صممت قريش على الثأر فى ( أحد ) وانتصرت ، ورأت أن تعزّز إنتصارها وتستعيد هيبتها بإجتثاث المسلمين ، فقامت بتجميع القبائل وحاصرت المدينة فى غزوة الأحزاب ، وبفشل ( الاحزاب ) تحطّمت صورة قريش وبدأ العرب يراجعون الموقف برمّته.

2 ـ هنا يأتى دور القرآن الكريم بدعوته العقلية ، والتى سبقت هذه الحروب بين النبى وقريش . ومن البداية بدأ العرب يستمعون الى القرآن منبهرين بفصاحته ، وعلى هامش هذا الانبهار بدأ الاقتناع بالاسلام يسرى فى قلوبهم شيئا فشيئا الى أن دخلوا فى النهاية فى دين الله افواجا .أحدث القرآن بينهم وعيا بعبثية تقديس الأصنام والأحجار ، كما أبان لهم كيف إن قريش خالفت ملة ابراهيم باحتكارها السيطرة على البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة ، وإتّضح للعرب أن قريش إستغلتهم فى الايلاف وفى الحج أسوأ إستغلال . فبدأ الاسلام ينتشر بين القبائل طوعا ،خصوصا وأن هيبة قريش أضاعتها جرأة المسلمين فى مواجهة بالحرب الدفاعية ، وزاد هذا أن الحرب صارت سجالا بينهم وبين المسلمين .وبفشل الأحزاب فى إستئصال المسلمين وضح للعرب أن المسلمين هم المنتصرون وأن قوتهم فى تزايد مع دعوة القرآن السلمية . وبتزايد دخول القبائل فى الاسلام رأت تلك القبائل أن من مصلحتها عدم الالتزام بحماية قوافل قريش ، وأن قريش أعجز من أن تحاربهم وتحارب المسلمين فى نفس الوقت ، والأهم من ذلك أنه لم تعد لدى العرب قيمة أو قدسية لأصنامهم التى تحتجزها قريش فى البيت الحرام . وبالتالى كان من مصلحة تلك القبائل أن تغير على قوافل قريش بمثل ما فعل المسلمون فى معركة بدر .

3 ـ وبهذا حوصرت قريش فى مكة ، وتهددت تجارتها منبع قوتها وعنجهيتها ، وتبين لقريش أن مكانتها ستضيع لو ظلت على عدائها للاسلام الآخذ فى الانتشار ، فاضطرت للدخول فى الاسلام أخيرا حرصا على مكانتها وتملكها للبيت الحرام .

4 ـ ولكن لم يكن تسليم قريش مكة للنبى عليه السلام سهلا إذ سرعان ما قام متطرفو قريش بحركة إسترداد للبيت الحرام ، ونكثوا العهود التى أبرموها مع النبى والمسلمين ، فنزلت سورة براءة تعطيهم مهلة الأشهر الحرم ليتوبوا عن الاعتداء ، وإن لم يتوبوا فعلى المسلمين أن يشنوا عليهم حربا شاملة ليكفوا عن نكث العهود ويعود البيت الحرام مثابة للناس جميعا وأمنا.

5 ـ وإنصاع قادة قريش مؤقتا ،وانتظروا الى أن مات النبى ، فتحالف الأمويون ( قادة الكفر القرشى السابقين الذين أسلموا بعد طول عداء للاسلام ) مع المهاجرين القرشيين ، وبدأ عهد تحكّم جديد لقريش المتّحدة فى عهد ( الخلفاء الراشدين )، أسفر عن تهميش الأنصار ، وحرب الردة ، ومن ثمّ الفتوحات ـ وبهذا إستخدمت قريش الاسلام ليس فقط فى إعادة السيطرة عى البيت الحرام بل فى تكوين امبراطورية عظمى على حساب الفرس والروم ..وقبل ذلك وبعده على ( حساب الاسلام ). ثم ورث الأمويون سريعا هذه الامبراطورية وطوّروها بالفتوحات لتصل بين حدود الهند والصين الى جنوب فرنسا . أى قبل البعثة المحمدية كانت قريش تتميز عن بقية العرب من أبناء اسماعيل بتملك البيت الحرام فأصبحت بعد موت النبى تتميّز عن بقية العرب والعالم بتملك البيت الحرام وبأنّ منها جاء خاتم النبيين . واستخدمت هذا وذاك سياسيا فى تجارتها السياسية بالدين .

6 ـ وفى خضم هذا الصراع لم يكن متاحا الوقت الكافى لاصلاح ملة ابراهيم فيما يخص الحج . صحيح أنه تم تطهير البيت الحرام من الأوثان التى أصبح تقديسها مثارا للسخرية ، ولكن لم يحن للخلفاء الراشدين الوقت الكافى لاصلاح بقية المناسك ، فقد إنشغلوا بعيدا عن مكة بحروب الردة ثم الفتوحات وتوطيدها ثم الحروب الأهلية . وتركوا مكة والبيت الحرام بدون إصلاح حقيقى مما أسهم فيما بعد ـ فى العصر الأموى ـ فى عودة المناسك الجاهلية فى الزى ورمى الجمرات والانحلال الخلقى . ثم تمّ تشريعها بأحاديث مزورة فى العصر العباسى الذى شهد تأسيس الديانات الأرضية الكبرى للمسلمين والتى لا تزال سائدة ، وهى السنة و التشيع والتصوف .

 رابعا : تكذيب قريش القرآن وجحدهم الحق حرصا على ملكيتهم للبيت الحرام

1 ـ  آمنوا بأن القرآن هدى ، ولكن زعموا أن إتباعهم لهذا الهدى سيجعل العرب تحاربهم وتهدد تجارتهم ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا )(57)( القصص ). أى إنهم كانوا يكذّبون بالقرآن بدافع إقتصادى:(أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)(الواقعة). كانوا يعرفون الحق ولكن يجحدونه ظلما وعدوانا ، وكانت إتهاماتهم للنبى تسبب حُزنا له عليه السلام ، فقال له ربّه جل وعلا إنهم فى الحقيقة لا يكذّبونه ولكن يجحدون الحق الذى يعرفونه : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33 )(الانعام). فلماذا جحدوا بالحق القرآنى ؟

خامسا : جحدوا بالقرآن إستكبارا بسبب ملكيتهم للبيت الحرام :

1 ـ سيطرتهم على البيت الحرام وإعتقادهم بملكيتهم له أسّس لدى قريش شعورا طاغيا بالاستكبار، لذا واجهوا القرآن الكريم بالتكذيب إستكبارا ، هذا مع أنهم كانوا من قبل يقسمون بالله جلّ وعلا ـ جهد أيمانهم لو جاءهم رسول سيهتدون به :( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ)(43) فاطر). أى كفروا إستكبار فى الأرض ، إذ كيف سيكونون أتباعا لمحمد ، وكيف سيتنازلون عن مكانتهم بين القبائل وسمعتهم التجارية العالمية فى الأرض: (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ فى الأرض). هم يرون أن هذا قد تحقّق لهم    بسيطرتهم على البيت الحرام .

2 ـ وبينما آمن بالقرآن بعض بنى أسرائيل فقد ظل أئمة قريش على عنادهم وإستكبارهم ، يقول جل وعلا : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) الأحقاف:10 ). آمن بعض أهل الكتاب لأن القرآن نزل مصدقا لما سبقه من كتب سماوية ، ولأنهم كانوا يعرفون من كتبهم بقرب مبعث خاتم النبيين ، ولأن الرسالة الخاتمة نزلت بأسس التشريع التى جاءت من قبل فى رسالة نوح وابراهيم وموسى وعيسى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ )الشورى:13 ). آمن بعض أهل الكتاب ولكن إستكبرت قريش أنفة واستعلاءا :( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ).

3 ـ وبإستكبارهم أخذتهم حمية الجاهلية حين عزم النبى عليه السلام والمؤمنون على القدوم للحج رفضا للحصار القرشى . ( هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) (25) الفتح ). كان هذا الصّد مدفوعا بالحمية الجاهلية والأنفة والاستكبار : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ )(26) (الفتح).

4 ـ ووصل بهم الاستكبار الى طلبهم أن تنزل عليهم الملائكة كما نزلت على النبى ، بل تطرفوا فى الاستكبار وطلبوا أن يروا الله جل وعلا :(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً)الفرقان:21 ).أى وصل بقريش الاستكبار الى أن عتوا عتوا كبيرا .!!

5 ـ لذا سيكون موقفهم عسيرا يوم القيامة : فقد إستكبروا ورفضوا الايمان بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة التى نزل القرآن مصدقا لها : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )، ويأتى الرد فى نفس الآية ينبىء مقدما بحقارتهم أمام رب العزّة يوم الحساب ، وهم يتجادلون فيما بينهم ، يلوم الأتباع المستضعفون قادتهم المستكبرين، وفى الحوار بينهما يفضح رب العزة مكر المستكبرين قادة قريش المتحكمين فى البيت الحرام : (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ  قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ  وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)سبأ:31 : 33 ).  وسينبئهم الله جل وعلا يوم القيامة وهم فى النار بما كانوا يفعلونه فى مكة حين كانوا يرفضون القرآن إستكبارا وحين كانوا يعقدون مجالس للسمر يستهزئون فيها بالقرآن :( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَبِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) المؤمنون). وأن إستكبارهم هذا أورثهم عذاب الذل والهوان:(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)الأحقاف:20 ).

6 ـ وأئمة الضلال فيهم كانوا الأكثر إستكبارا . منهم من كان يشترى ( لهو الحديث ) ليضلّ الناس عن ( أحسن الحديث ) القرآن الكريم ويتخذه هزوا ، فإذا تلا بعضهم عليه آيات القرآن ولّى مستكبرا :( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) (لقمان). ولأن الحديث الوحيد الذى يجب الايمان به هو حديث الله جل وعلا فى القرآن الكريم فإن الله جل وعلا يصف هذا الصنف من البشر (ممّن يتخذ حديثا آخر يؤمن به ) بأنه أفّاك أثيم ، وأنه يصمم على رفض القرآن الكريم إستكبارا وعنادا ، فهذا كانت تفعله أئمة قريش، وهذا ما يفعله السلفيون الذين يتبعون السلف القرشى :( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) الجاثية ). ومن هذا السلف القرشى من كان يجادل فى القرآن بكل ما أوتى من جهل ومن إستكبار ، وعلى ( سُنّته ) يسير السلفيون ، يقول جل علا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) الحج ). ولنتأمل قوله جل وعلا : (ثَانِيَ عِطْفِهِ)، فهو وصف ناطق بحركة المستكبر.

7 ـ وبعضهم غلبه الانبهار بالقرآن وفصاحته فكاد أن يؤمن ، ثم سرعان ما غلبه الاستكبار فعاد يتهم القرآن بالسحر ، فقال جل وعلا عنه يتوعّده : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)المدثر ). أى (أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) منهما القرآن  ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)) ومصيره (سَقَرَ (26)).

8 ـ وقد استمرت عنجهية قريش قرونا ، حيث أمتد سلطانها فى معظم العالم ، فهى التى حكمت فيما بعد خلال الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين . لذا فقد راج حديث ( الأئمة من قريش ) وراج معه تقديس قريش فى العصور الأموية والعباسية . ولهذا يزعم كثيرون النسب القرشى طمعا فى الوصول للحكم .

9 ـ على إن هذه العنجهية القرشية عبّرت عن نفسها فى الصّدّ عن الاسلام وعن المسجد الحرام .

 

الفصل السادس : قريش تصدّ عن سبيل الله والمسجد الحرام

أولا : مفهوم الصّد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بين الاسلام والكفر

1 ـ للدفاع عن ملكيتها للبيت الحرام وسيطرتها على فريضة الحج مارست قريش منع النبى والمؤمنين من أداء فريضة الحج ، ومنعتهم من دخول مكة . والسبب هو أن القرآن الكريم أكّد أن البيت الحرام للناس كافة ودعا الى نبذ عبادة الأصنام بما يهدّد تجارة قريش بالدين . لذا قامت قريش بعملين معا : حاربت الاسلام والمسلمين ومنعت المسلمين من الحج ،أى قامت قريش بالصّد عن المسجد الحرام و بالصّد عن سبيل الله . عن صدّهم عن سبيل الله ( القرآن الكريم ) مع علمهم بأن القرآن هدى يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) محمد ) ، ويتوعدهم رب العزة بتضييع أعمالهم الصالحة فيقول:( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)(محمد). وعن صدّهم عن المسجد الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة يقول جل وعلا :(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) (الحج ).

2 ـ ولقد سبق القول بأن كلمة ( الناس ) بمعنى جميع البشر قد تكررت فى تشريع الحج وفى الحديث عن البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمنا ، وفرض الحج اليه على المستطيع من الناس ، مهما كانت عقيدته وملته ودينه ، طالما كان مسالما ، بينما يحرّم رب العزة على المشركين المحاربين المعتدين مجرد الإقتراب من المسجد الحرام ، يقول جل وعلا للمؤمنين المسالمين :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 28 ) .

الحديث هنا عن المشرك الكافر بالاعتداء و القتل وسفك دماء الأبرياء .وقد قلنا ـ ونعيد القول للتذكير و التأكيد ـأنّ للكفر و الشرك معنيين : فى التعامل مع الله تعالى هو تغطية الفطرة السليمة بالاعتقاد فى شريك مع الله جل وعلا واتخاذ أولياء و شركاء مع الله ، وتلك العلاقة مع الله تعالى فى العقيدة و العبادة مرجعها الىالله تعالى ليحكم فيها بين الناس لأن كلواحد من الناس يرى نفسه على الحق ويرى مخالفيه على الباطل . الذى يهمنا هو الكفر السلوكى بمعنى إستخدام الدين فى الاعتداء والظلم، أى الإكراه فى الدين أوالاضطهاد الدينى أو الفتنة بالمفهوم القرآنى ، والتى تصل الى الحروب والتهجير القسرى والتعذيب ومحاكم التفتيش ، والصّد عن سبيل الله والصّد عن المسجد الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة وعلى قاعدة المساواة.

 3 ـ لا يقع فى الصّد عن سبيل الله الشخص المسالم المؤمن بحرية الدين له ولغيره على حدّ سواء . سواء كان هذا الشخص مؤمنا بالله جل وحده لا شريك له أم كان ممّن يقدس البشر والحجر ، المهم أنه يحترم حق كل إنسان فى حريته الدينية . هذا هو المسلم من حيث السلوك المسالم . وقد قلنا ـ ونعيد القول للتذكير و التأكيد ـ إن للاسلام معنيين : معنى عقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد و الخضوع لله جل وعلا وحده لا شريك له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ( الأنعام 162). وهذا الجانب العقيدى خاص بعلاقة كل فرد من البشر بالله جل وعلا ، ويرجع لحريته فى الايمان و الكفر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذه العلاقة بين الانسان وربه ، وكل انسان مسئول عن اختياره أمام الواحد القهار يوم القيامة . أما المعنى السلوكى فالاسلام هو السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مسلم ظاهريا بغض النظر عن عقيدته و دينه الرسمى و مذهبه . وللناس هنا الحق فى الحكم علىأى إنسان طبقا لسلوكه ، هل هو مسالم أم معتد مجرم ، وهناك من القوانين الالهية و الوضعية التى تحافظ على حقوق الانسان من تعد يقع عليه من أخيه الانسان .

4 ـ. ( الصّد ) هو تطرف زائد على الكفر ، كما قال جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) ) النساء ) ، أى كفروا قلبيا ولم يكتفوا بهذا ، بل قاموا بالصد عن سبيل الله بالاكراه للغير فى الدين، هنا يكون ضلالهم عظيما ، ولن يغفر الله جل وعلا لهم لو ماتوا بلا توبة: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168))، ومصيرهم جهنم :( إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)(النساء ).

5 ـ وتتدرّج أنوّع ( الصّد ) من أيسرها ، وهو ( الصّد بالدعوة سلميا فقط ) الى أبشع أنواع الصّد ( الصّد بالقتال والفتنة فى الدين ). يبدأ الصّد عن سبيل الله بالدعوة. ومن حق كل صاحب نحلة أن يمارس حريته فى الدعوة الى ما يعتقده ، ولكنه بمجرد أن يدعو الى دين أرضى يقدّس فيه البشر والحج فإنه يقوم بالصّد عن سبيل الله قوليا ، لأنه بذلك يدعو الى النار . وهنا يكون مشركا بدعوته ، ويحرم تزويجه أو تزويجها تنفيذا لقوله جل وعلا : ( وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)( البقرة ). فالسبب فى منع الزواج والتزويج هنا هو الدعوة الى النار . وهذا الداعية الى الشرك بالله جل وعلا وتقديس البشر والحجر يعلن عقيدته ويدعو اليها ، وبالتالى فلا تستقيم الحياة الزوجية بينه وبين شريك حياة يخالفه فى دينه ومعتقده ، إذ يتحول فراش الزوجية من سكن ومودة ورحمة الى ساحة معارك . ولكن تحريم الزواج هنا لا ينفى حق هذا الداعية للشرك فى أن نتعامل معه بالبرّ والقسط ، طالما لم يقم بالاعتداء العملى بالقتال وطرد السملمين المسالمين ، وطالما لم يقم بالتحريض على الاعتداء والطرد ،يقول جل وعلا:( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة ) .

6 ـ يصل الصّد عن سبيل الله الى أحطّ درجاته بالكفر السلوكى . وهنا يكون النهى عن (موالاة ) المشركين الكافرين المعتدين الذين أخرجوا المظلومين المسالمين من ديارهم أو ساعدوا على إخراجهم بالتحريض والدعم المالى والمادى : (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة)،هنا النهى عن موالاة المعتدين أى التحالف معهم ضد المظلومين، فالموالاة والبراء بمعنى التحالف عند الحرب وليس فى أوقات السّلم . وبالتالى ففى حالة الحرب والطرد والتهجير القسرى الظالم يكون واجبا شرعا قطع الصلة الزوجية بين زوجين أحدهما مسلم مهاجر بسبب الاضطهاد والآخر كافر فاجر معتد يمارس الاضطهاد الدينى ، وجاء هذا التشريع فى الآية التالية من سورة الممتحنة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)( الممتحنة ). والتفصيل فى بحث لنا منشور هنا عن البراء والولاء.

ثانيا الجمع بين نوعى الصّد ( عن سبيل الله والمسجد الحرام )

1 ـ الصّد عن سبيل الله يشمل الصّد عن المسجد الحرام وعن سبيل الله وهو القرآن ، الرسالة الالهية الأخيرة ، وفيها إصلاح ملة ابراهيم ، ومن ملامح الاصلاح هذا إصلاح فريضة الحج وألا يكون البيت الحرام ملكا لطائفة من الناس . وبهذا يتداخل الصد عن المسجد الحرام مع الصّد عن القرآن أو الاسلام أو سبيل الله.

2 ـ ومن هنا يقترن نوعا الصّد فى حالة قريش . يقول جل وعلا :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا )(217)(البقرة ). هنا ( الصد عن سبيل الله ، والكفر بالله ) و ( الصد عن المسجد الحرام ، وإخراج أهله منه ) وملاحقة المؤمنين بالهجوم الحربى لإرجاعهم الى دين الأسلاف والردة عن الاسلام ، أى الفتنة فى الدين أو الإكراه فى الدين ، وهو بتعبير ربّ العزة أكبر من القتل . وهذا الصّد بكل أنواعه ارتكبته قريش مع النبى عليه السلام والمؤمنين . وعلى سنّة القرشيين يسير الوهابيون السلفيون. وعن صدّهم عن المسجد الحرام يقول جل وعلا: ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) (الأنفال).ثم يقول رب العزة عن صّدهم عن سبيل الله :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(36) الأنفال ).

ثالثا : تحالف قريش مع الضالين من أهل الكتاب فى الصّد عن سبيل الله 

1 ـ فى ضوء مصلحتها التجارية أفسحت قريش لأهل الكتاب الحج بينما منعت المسلمين . كان هناك تحالف بين قريش وقبائل كلب المسيحية المتحكمة فى طرق التجارة فى الشام ، وتحالفات أخرى مع قبائل عربية مسيحية ، علاوة على تحالفات وعلاقات بين قريش وأحبار ورهبان معادين للاسلام داخل الجزيرة العربية أشار اليها القرآن الكريم . وأولئك شاركوا قريش فى الصّد عن سبيل الله ، فواجههم رب العزة بالتأنب والتحذير: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)آل عمران ).

2 ـ وعملت قريش كل وسعها لتصدّ النور القرآنى فلم تفلح ، فإنتشر القرآن الذى يكرهونه ـ رغم أنوفهم ـ يقول جل وعلا عنهم : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) الصّف). وعمل حلفاؤهم من أهل الكتاب كل وسعهم فى الصّد عن القرآن الكريم ففشلوا ، وقال جل وعلا يكرر نفس الحقيقة فى سياق الحديث عن أعداء القرآن من أهل الكتاب : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)( التوبة ). وبعد الآية الكريمة أكّد رب العزة جل وعلا أن كثيرا من الأحبار والرهبان يحترفون التجارة بالدين خداعا للناس وصدّا عن سبيل الله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(34)التوبة).

رابعا  : استخدام المال فى الصّد عن سبيل الله 

1 ـ قوله جل وعلا : :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(34) التوبة) يدخل بنا الى إستخدام المال فى الصّد عن سبيل الله.

2 ـ إستخدام المال أو التجارة بالدين هى عادة سيئة لم تبدأ بها قريش ، ولم تتوقف بعد قريش فلا يزال دور المال قويا فى الصّد عن سبيل الله ، وفى اكل أموال الناس بالباطل باستغلال دين الله جلّ وعلا.  ومنشور ومشهور أن السعودية ( التى تزعم إمتلاك البيت الحرام وتتحكم فى الحج اليه وفى الحجاج فى البيت الحرام ) أنفقت 50 بليون دولار فى نشر الوهابية ، مع وجود فقراء فيها أكلت الأسرة السعودية حقوقهم كى تنشر الوهابية خارج حدودها بتزمتها وارهابها وتطرفها. ولقد تخلص الغرب بنظمه العلمانية من مهمة نشر المسيحية ، ولا تنفق أمريكا ربع دولار فى نشر المسيحية ، وحتى الكنائس الغربية مع قيامها بمهمة التبشير فإنها على هامش التبشير تنفق البلايين فى عمليات الاغاثة والتعليم ورعاية المرضى والاعانات الانسانية . ولكن لا تزال السعودية ـ محور الشّر ـ تسير على سنّة قريش وثقافة التعصب فى العصور الوسطى .

3 ـ ونعود لقريش وصدّهم عن المسجد الحرام ، يقول جل وعلا: ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)(الأنفال). بعدها يقول رب العزّة عن إنفاقهم المال فى الصّد عن سبيل الله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(36) الأنفال ). فهم ينفقون اموالهم للصّد عن سبيل الله .

4 ـ وقد أخذ الله جل وعلا الميثاق على أهل الكتاب ، ومنه ألا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ،أى ألّا يتاجروا بالدين ، فعصى معظمهم : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) آل عمران )، وتكرر نفس الأمر لهم فى القرآن الكريم ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) البقرة )( فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) المائدة )، وبعض أهل الكتاب أطاع وامتنع عن التجارة بالدين : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)( آل عمران ). ونفس النهى نزل   (لأهل القرآن ):( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) النحل ).

5 ـ ولكن أئمة الكفر من قريش أدمنوا حتى النهاية الصد عن سبيل الله والتجارة بالدين ، وأن تشترى بآيات الله ثمنا قليلا ، إحترف بعضهم شراء الأساطير لشغل الناس عن الانتباه للقرآن صدّا عن سبيل الله: ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) لقمان)، ثم تطور الصّد ( الثقافى ) ليصبح صدّا باستعمال السلاح ، فعن غزوة بدر يصف رب العزة خروج قريش للحرب بخيلائها وبطرها وصدها عن سبيل الله جل وعلا :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الانفال )، وفى آخر ما نزل من القرآن الكريم  يقول جل وعلا عن نقضهم للعهود وإعتدائهم : ( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) التوبة ).

خامسا : العقوبة فى الدنيا والآخرة على من يصدّ عن سبيل الله

1 ـ تنتظره عقوبة فى الدنيا ، وعقوبة الجحيم فى الآخرة ، وقد عوقبت قريش فى الدنيا ، وينتظر الكفار منهم الذين ماتوا وهم كفار عقوبة الخلود فى النار . يقول جلّ وعلا  عنهم : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) الانفال ) . هنا البدء بالتكذيب والاصرار عليه الى درجة أنهم يدعون الله جل وعلا أن ينزل بهم العذاب لو كان القرآن حقا . وتأتى إشارة بتعذيب دنيوى قادم لقريش عقابا لهم على صدّهم عن المسجد الحرام :( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) الانفال).

وهذا العذاب وقع فعلا بهم ، واشار اليه رب العزّة بينما تجاهلته روايات السيرة . وقد نبّه عنه مقدما ربّ العزة حين يقول جل وعلا عن قريش :(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) الدخان )، ثم يقول للنبى عليه السلام أن ينتظر ليرى عذابهم الدنيوى ينزل من السماء بدخان يغشاهم ، ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) الدخان )، وتضرعوا لله جل وعلا أن يكشف عنهم العذاب معلنين إيمانهم بعد أن كفروا بالرسول واتهموه بالجنون : ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)، وكشف الله جل وعلا عنهم العذاب عالما جل وعلا إن توبتهم مزيفة، وعندها سيأتيهم عذاب ببطشة كبرى :  (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)(الدخان).

ونزلت بهم البطشة الكبرى  بعذاب أقسى ، يقول رب العزة يخاطب النبى عليه السلام عن صدّ قريش عن سبيل الله: ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) المؤمنون )، ثم يقول جل وعلا عن تعذيب دنيوى عوقبت به قريش فلم ترتعد : (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) المؤمنون).

ونعود الى آيات سورة الأنفال عن الجمع بين العقوبتين ، يقول جل وعلا عن كفار قريش :(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال ) أى ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، وأنبأ رب العزة إنهم سينفقونها ، ثم يكون عقابهم الدنيوى بالهزيمة والحسرة ، وهذا فعلا ما حدث ، ومن مات منهم على كفره سيكون مصيره الى جهنم .

2 ـ ويقول جل وعلا فى عقوبة الخلود فى النار لمّن يرتكب الصّد عن سبيل الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) النساء )، فهم لم يكتفوا بالكفر ، بل زادوا عليه الصّد والاعتداء ، زادوا على الكفر العقيدى الكفر السلوكى ، فسيزيدهم الله جل وعلا عذابا :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)النحل ).

3 ـ وفى مجال الصّد عن سبيل الله فإنّ اشدهم عذابا هم أئمة و علماء وشيوخ الضلال ممّن يكتمون الحق ويتاجرون بالدين ، وسيكون الله جل وعلا لهم خصما يوم القيامة ، وسيلاقون عذابا يستحق ـ صبرهم عليه ـ  العجب ، يقول جل وعلا :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة )( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)  ( آل عمران )

سادسا : التوبة

ومجال التوبة مفتوح ، حتى لمن يصدّ عن سبيل الله بالحرب ، فإن كفّ وامتنع عن الاضطهاد والفتنة فى الدين والإكراه فى الدين فيجب التوقف عن حربه : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) (الانفال )، وهذا قانون تكرر فى سياق إعتداء قريش الأخير قبيل موت النبى على المؤمنين فى المسجد الحرام ونقضهم للعهود ، مما أسفر عنه نزول البراءة منهم إن لن لم يتوبوا فى مهلة الأربعة أشهر الحرم . وإن لم يتوبوا خلالها ويحفظوا العهود فقد أمر الله جل وعلا رسوله الكريم بإعلان حرب شاملة عليهم ، فإن تابوا وكفّوا عن القتال ونقض العهود أصبحوا أخوة للمؤمنين :( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) التوبة ).

هذه هى التوبة الظاهرية بالمسالمة والكف عن الاعتداء . أما التوبة القلبية الحقيقية فأمرها لله جل وعلا يوم القيامة ، ولن تكون هناك توبة لمن يموت على كفره وصدّه عن سبيل الله ، يقول جل وعلا عن التوبة فى الآخرة : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)محمد ).

أخيرا :

إحترفت قريش الصّد عن سبيل الله والمسجد الحرام تمسكا بتواترها الباطل ، وحفاظا على مكانتها وتجارتها بالدين . وتنوع الصّد من شراء لهو الحديث واستخدام المال  الى الحرب الهجومية ونقض العهود. وعوقبت قريش فى الدنيا بالهزيمة فى حياة النبى عليه السلام ، ولكن سرعان ما استعادت نفوذها وهيمنتها بعد موته عليه السلام ، فقد سيطر الأمويون . وانتصرت بهم قريش الباغية لسببين : العصبية القبلية المحلية و التوافق مع ثقافة العصور الوسطى التى تخالف الاسلام بقدر ما تتفق مع ثقافة قريش فى الاستعباد والاستبداد والظلم والتجارة بالدين . وتأثر الحج بهذا الانتصار القرشى فعاد التواتر القرشى فى المناسك الجاهلية تتمسح باسم الاسلام ، بل جدّ تواتر أسوأ فى مناسك الحج ، لا يزال ساريا . وستأتى التفاصيل بعونه جل وعلا . 

 

الفصل السابع :  لماذا إنتصر التواتر القرشى فى الحج ؟

أولا : ( لولا ..!! )

1 ـ كان دعوة الاسلام فرصة هائلة للمستضعفين المهمّشين فى مكة ، أعطاهم الاسلام فكرة الأمل فى العدل والمساواة وحرية الدين طالما يلتزم الفرد بالسلام والمسالمة ، لهذا دخل معظمهم الى الاسلام وهم فى مكة ، وقد ظنّوا أن سلبيتهم ومسالمتهم وهامشية وضعهم فى مجتمع قريش سيجعل قريش تستهين بهم .. لولا ..

2 ـ لولا أن العنجهية القرشية إستكثرت على هؤلاء الأتباع وسقط المتاع أن يكون لهم دين يخالف ما وجدت عليه قريش أسلافها ، فاضطهدت قريش أولئك المستضعفين والنبى عليه السلام ، وأجبرتهم على الهجرة للمدينة ، وفيها تمتع أولئك المستضعفون بحريتهم الدينية. فى بداية إستقرارهم فى المدينة أدمنوا عصيان الرسول والاعراض عنه تهاونا بشأنه لأنه ليست هناك عقوبة على عصيان الرسول بمثل ما كانت تفعل بهم قريش فى مكة ، لذا لم يأبهوا بقوله جل وعلا لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)( الأنفال ). أى وقعوا فى العصيان والخيانة ، وكل ما هنالك أن جاء لهم التحذير من عذاب الله جل وعلا  ، فقد كان الأمر لهم بالتقوى والطاعة لله جل وعلا يأتى مشفوعا بالتحذير من عذاب الآخرة ، ولم يكونوا ـ فى معظمهم يؤمنون بالآخرة ، لذا ظلوا متبعين لعقائدهم المشركة متمتعين بالحرية الدينية فى الاسلام لكل مسلم مسالم . ظلوا على تقديسهم للأوثان والأنصاب ، الى درجة أن من أواخر ما نزل من القرآن كان نصيحة لهم بالانتهاء عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام لأنها رجس من عمل الشيطان . هكذا قال لهم رب العزة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)( المائدة ) ثم يأمرهم بالطاعة ويقرّر لهم إن مسئولية الرسول هى فى مجرد التبليغ وليس الإكراه فى الدين : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)( المائدة ).

هم الذين ( أمنوا ) سلوكيا فقط ، أى بمعنى ( الأمن والأمان )، أو ( أسلموا ) سلوكيا بمعنى (المسالمة ) وقد عصوا أمر الله جل وعلا لهم وظلوا يعكفون على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، ولم يضيفوا الى الايمان السلوكى الظاهرى الايمان القلبى بالله وحده لا شريك له ، وبما أنزل فى كتابه الحكيم وما سبقه من كتب، ولقد قال لهم رب العزة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) ( النساء). هؤلاء الصحابة ( الذين آمنوا ) بمعنى ( الايمان الظاهرى بالتزام الأمن والسلام ) لم يؤمنوا الايمان القلبى ، ولم يأبهوا بتحذير رب العزّة لهم فى أنّ من يكفر قلبيا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالا بعيدا . هؤلاء الصحابة راهنوا على السلام والمسالمة ، وأحبوا أن يعيشوا فى المدينة فى أمن وأمان متمتعين بعقائدهم الشركية والحرية الدينية التى كفلها الاسلام لكل مسالم ..لولا ..

3 ـ لولا .. إن قريش لم تتركهم ينعمون بحريتهم الدينية وحياتهم المسالمة فى المدينة ، إذ تابعت قريش هجومها الحربى على المسلمين فى المدينة بعد هجرة النبى والمسلمين اليها، وركن أولئك المسلمون المهاجرون الى السلبية والسكون متمتعين بالأمر الالهى لهم بالكفّ عن ردّ العدوان ..لولا  ..

4 ـ لولا .. أن نزل الأمر الالهى يأذن لهم بالقتال الدفاعى ضد أولئك الذين يقاتلونهم ، والذين قاموا من قبل بطرد المسلمين المسالمين من ديارهم وصادروا أموالهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )(40) (الحج ).. عندها علا صوت أولئك الصحابة بالاحتجاج على فرضية القتال الدفاعى. ثم طلبوا مهلة ليستوعبوا الأمر، وجاء الرد الالهى على خوفهم من قريش ومن الموت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )(78) النساء ). كرهوا القتال الدفاعى ، ..لولا ..

5 ـ لولا ..إنه فرض مكتوب ، فهو خير لهم من أن تقتلهم قريش بلا مقاومة:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (216) البقرة ). لو لم يهبوا للقتال دفاعا عن أنفسهم ستبيدهم قريش . أى تحتّم عليهم القتال الدفاعى ..لولا ..

6 ـ لولا ..إنها قريش.. أى سيحاربون أهلهم وعشيرتهم وقومهم وأصل حسبهم ونسبهم ..أى بالحرب الحتمية ( تحتّم عليهم الاختيار بين نوعين من الانتماء : الانتماء للإسلام بما يعنيه من حرية وعدل ومساواة وكرامة إنسانية ، أو الانتماء للقبيلة ( قريش ) بكل ما يعتيه هذا من فخر وتميز على بقية القبائل . الحرب هنا تعنى الموالاة والتحالف إمّا مع الاسلام والمسلمين المحاربين للدفاع عن النفس ضد عدو مهاجم ، وإمّا أن توالى وتحالف هذا العدو المهاجم المعتدى لأنك تنتسب اليه بصلة الدم والقبيلة . كان ممكنا تجاهل موضوع الولاء الذى يقدح فى إكذوبة عصمة الصحابة ..لولا ..

7 ـ لولا ..أن القرآن الكريم ذكره وأكّده بما يوجب عدم كتمانه ، خصوصا ولأن موضوع الانتماء القبلى وموالاة المهاجرين فى المدينة لأهلهم القرشيين فى مكة هو السبب الأصيل فى إنتصار قريش وفرض تواترها الباطل فى الحج بعد موت النبى عليه السلام .

ثانيا : الصحابة المهاجرون ومحنة الولاء

1 ـ هنا نقرر أن الولاء والموالاة لا تكون إلا فى حالة الحرب . أى أن توالى وتتحالف مع هذا ضد ذاك .

2 ـ ولا يكون هناك مشكلة إلّا إذا تعارضت الولاءات كما هو الحال هنا . فالثقافة العربية ـ وخصوصا الجاهلية ـ مؤسسة على التعصب القبلى ( نسبة للقبيلة ) ، فالقبيلة كانت دولة بأفرادها ومواردها وقادتها وجيشها ، والانتماء للقبيلة يعطى الأمن لأفرادها ، والفخر بالقبيلة دليل الولاء لها ، لذا كان شعر الفخر والتفاخر بالأنساب ثقافة عربية ـ ولا تزال .. وإذا كان هذا ثقافة عربية لكل القبائل فكيف بقريش بعظمتها وعنجهيتها وإستكبارها ؟ !.

3 ـ زاد من حدّة المشكلة عدة عوامل أنّ الاغتراب كان عن الوطن ( مكة ) . فقبيلة قريش ليست من القبائل التى تحترف الرعى وتسير بإبلها خلف الكلأ والمرعى ، حيث تكون القبيلة دولة متحركة لا تعرف الانتماء لوطن معين . إستقرّت قريش فى مكة قرونا جيلا بعد جيل ، أى ( مكة ) هى وطن الأجداد  . ثم هى ( مكة ) حيث البيت الحرام الذى تهوى اليه أفئدة الناس . المهاجرون تركوا مكة وعاشوا يعانون الغربة عن الوطن فى بلد لم يألفوه من قبل. أى جمعوا شعورا مزدوجا بالغربة عن الوطن والأهل والعشيرة . وتناسوا بهذه المعاناة ظلم اهلهم القرشيين فى مكة، وهبط بهم  الحنين الى الوطن والأهل الى موالاة بعضهم لقريش ، وهى التى تشنّ عليهم حربا عدوانية تسلزم مواجهتها بالعداء وليس بالولاء . وخلاف الثقافة القرشية وغلظتها وتجبرها فلا توجد فى شريعة الاسلام عقوبة دنيوية على من يرتكب هذه الموالاة ، طالما لم تتحول الموالاة الى مشاركة فعلية تحمل السلاح وتقاتل .

4 ـ ونجرؤ على القول بأن هذا الولاء لقريش كان لدى جميع المهاجرين ، ولكن بمستويات مختلفة . كان ـ كأى حالة إنسانية  ـ حنينا كامنا فى القلب وحنايا الضلوع مترسبا فى الشعور ، يرتقب الفرصة للظهور . كل ما هنالك أن المؤمن لو زاد إيمانه فإنّه بتغلب على هذا الحنين . أما لو كان ضعيف الايمان فإن حنينه يغلبه. ومثلا ، فإن كبار الصحابة المهاجرين لم يظهر ولاؤهم لأهلهم من قريش طالما كانت قريش فى كفرها وحربها ضد النبى الاسلام ، فلما دخلت قريش فى الاسلام ومات النبى تحالف أولئك الكبار مع أعيان قريش من الأمويين ، وبهم أصبحت قريش كتلة واحدة بمهاجريها و(الطلقاء) منها الذين أسلموا بعد طول حرب للاسلام . وهنا دخلت قريش الموحّدة فى مواجهة ( سياسية) مع الأنصار ، أسفرت عن تهميش الأنصار بعد بيعة السقيفة ، ثم دخلت فى مواجهة عسكرية مع قبائل العرب فى حرب الردّة أسفرت عن فوز قريش الموحّدة ، ثم تولى ( الطلقاء الأمويون ) حرب الفتوحات التى أسّست إمبراطورية قريش ، وأرست تناقضها العملى السلوكى مع الاسلام .   

ثالثا : معالجة القرآن الكريم لمحنة الموالاة والولاء

التفاصيل فى بحث منشور هنا عن إنتماء المسلم ، وفى بحث آخر عن الولاء والبراء فى سورة الممتحنة . ولكن نعطى بعض ملاحظات سريعة فيما يخص موضوعنا :

1 ـ إن تقاعس المؤمنين المهاجرين عن الحرب كان يوازيه أمر للنبى عليه السلام بتحريضهم على الحرب الدفاعية مع تحريض الاهى لهم أيضا . يقول جل وعلا : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) النساء ). هنا وعد الاهى لهم بالنصر والأجر العظيم . ثم يأتى التحريض الالهى لهم بالتذكير بظلم  قريش وأضطهادها لهم فى مكة ، واستمرار هذا الاضطهاد لمن بقى من المؤمنين عاجزين ممنوعين من الهجرة ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء ). ثم التأكيد بأن المؤمن الحقيقى هو من يقاتل فى سبيل الله جل وعلا ، والكافر المعتدى هو الذى يقاتل فى سبيل الطاغوت ، وهو ولى للشيطان : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) النساء ).

ويأتى الأمر للنبى عليه السلام بأن يقاتل فى سبيل الله بنفسه ، وأن يقوم بتحريض المؤمنين على القتال لمواجهة العدوان :( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) النساء ).

وفى سورة الأنفال يأتى تحريض مزدوج للنبى والمؤمنين بالقتال الدفاعى حتى لو كانوا قلة عددية :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) الانفال ).

2 ـ وخلال سنوات لم يُجد نفعا هذا التحريض ، فتحوّل التحريض فى النهاية الى تأنيب فى آخر ما نزل من القرآن ، يقول جلّ وعلا : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) التوبة )، وبعد التأنيب يأتى التحذير والوعيد ( إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) التوبة )

3 ـ بالتوازى مع التقاعس عن القتال كان المهاجرون متهمين قرآنيا بموالاة عشيرتهم المعادية ، وهذا  بثقافة عصرنا ( خيانة عظمى ) وقت الحرب . والغريب أن هذه الموالاة من المهاجرين لأهاليهم القرشيين المعتدين بدأت مباشرة بعد الهجرة ومعاناة المهاجرين للغربة ، وتحولت هذه المعاناة الى موالاة للخصم الظالم ، واستمرت هذه الموالاة الى النهاية .

4 ـ فى مطلع سورة الممتحنة التى نزلت مباشرة بعد الهجرة مباشرة  يوجّه رب العزّة عتابا للمؤمنين الذين يوالون أعداء الله ويبادرون بالقاء المودة اليهم ، مع إن أولئك القرشيين الظالمين قد جمعوا بين الكفر القلبى العقيدى ( الكفر بالقرآن ) والكفر السلوكى بإخراج النبى والمؤمنين بسبب أنهم آمنوا بالله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )، فإن كان المؤمنون قد هاجروا جهادا فى سبيل الله جل وعلا فلا يصح أن يلقوا بالمودة سرّا لأولئك الكفار المعتدين  (إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) ، ويحذّرهم رب العزة بأنه يعلم سرائرهم وعلانيتهم ، وأن من يفعل ذلك منهم فقد ضلّ سواء السبيل: (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) الممتحنة ). ويؤكّد رب العزة لهم مقدما بأن العداوة الحقيقية ستظهر عندما يهاجم أولئك المعتدون المؤمنين بالسيف واللسان لارجاع المؤمنين للكفر:( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2). ويأمرهم رب العزة بالتأسّى بابراهيم ومن معه حين تبرءوا من قومهم :( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )(4). ثم يوضّح رب العزة إن هذه الموالاة الممنوعة مرتبطة فقط بمن يبدأ بالظلم والعدوان بإخراج المؤمنين من ديارهم والهجوم عليهم بالقتال ، ولكن يجب البر والعدل والاحسان بالمسالمين مهما كان ضلالهم الدينى :( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(9)الممتحنة ).

5 ـ وعصى الصحابة المهاجرون هذا التوجيه الالهى ، فنزل قوله جل وعلا ينفى الايمان الحقيقى بالله جل وعلا واليوم الآخر عن أولئك الذين يوادّون أقاربهم الذين أظهروا عداءهم لله جل وعل بكفرهم السلوكى وبإعتدائهم وظلمهم وطردهم للمؤمنين : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )(22) المجادلة ). 

6 ـ وظل عصيان المهاجرين الى النهاية . كما جاء فى سورة التوبة . وقد بدأت السورة بإعلان البراءة من القرشيين ناقضى العهود ، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر حتى يركنوا للسلم ، فإن لم يتوبوا ويكفوا عن الاعتداء فيجب شنّ حرب شاملة عليهم  : ( بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) .... ) التوبة ).

والواضح أن هذه الآيات بنبرتها العالية وتفصيلاتها تشير الى حركة ردّة كبرى قامت بها قريش ، فنقضت العهد مع النبى ونجحت فى طرد المسلمين مؤقتا من مكة وإسترداد البيت الحرام والتحكم فيه .

والملاحظ هنا أوّلا : تقاعس المؤمنين المهاجرين عن حرب أولئك القرشيين المعتدين ناكثى العهود ، لذا يأتيهم التحريض مقترنا بالتأنيب فى قوله جل وعلا لهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة).ولأن أولئك المعتدين من قريش قد جاوزوا الحد فى الاعتداء فإن الله جل وعلا يقول فى التحريض على قتالهم يذكّر بتطرفهم فى العدوان : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) التوبة ). ومن أسف فإن السيرة لم تسجل وقائع تلك الحرب الى شنّها القرشيون واستردوا بها مؤقتا البيت الحرام على غفلة من المؤمنين بعد نقضهم العهد وأخذهم المؤمنين فى الحرم على حين غفلة . ولقد كان الرواة الأوائل للسيرة فى الفترة الشفوية من أبناء الصحابة من المهاجرين والأنصار ، لذا تحرّجوا من رواية الأحداث التى تشين أجدادهم ، ومنها تلك الأحداث التى نزل القرآن يعلّق عليها ، ويضع لها تشريعات خاصة مثل هذه الآيات من سورة التوبة .

والملاحظ  هنا ثانيا : أن تأنيب الصحابة المهاجرين عن تقاعسهم عن القتال الدفاعى إرتبط بتأنيب آخر بسبب موالاتهم لعشيرتهم القرشيين المعتدين ، لذا قال جل وعلا لهم مؤنبا محذّرا مهدّدا يصفهم بالظلم والفسق : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) التوبة ). أى استمر عصيانهم وموالاتهم الاعداء المعتدين الى آخر ما نزل من القرآن ، وفى ظروف غاية فى الدقة والحرج حين قامت قريش بحركة ردة كبرى نقضت فيها العهد .

والملاحظ ثالثا : إن حركة الردة هذه تمت وقت أن كان النبى فى مكة ، لذا همّوا بإخراج الرسول من مكة والحرم ، ولم يتمكنوا، ولولا أن الله جل وعلا سجّل هذا فى كتابه المحفوظ ما عرفنا هذه الحقيقة التاريخية المنسية ، يقول جل وعلا فى سياق التحريض على قتالهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ). فهم الذين بدءوا بالحرب على حين غفلة بنقض العهد ورفع السلاح فى بيت الله الحرام ، وكان النبى وقتها فى الحرم ، فعصمه الله جل وعلا منهم ، وفى النهاية كانت هزيمتهم ونزل منع المعتدين من دخول البيت الحرام ، ووصفهم بأصل النجاسة تحقيرا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) التوبة ).

والملاحظ أخيرا : هذا التشابه الواضح بين تأنيب الصحابة المهاجرين بسبب موالاتهم لكفار قريش بعد الهجرة كما جاء فى سورة الممتحنة ثم بعدها فى أواخر ما نزل فى سورة التوبة :( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ).( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ). فى الحالتين أخرجت قريش المعتدية النبى أو حاولت إخراجه ، وفى الحالتين بدأت قريش بالعدوان ، وفى الحالتين ظل ـ مكتوما أو معلنا ـ ولاء المهاجرين لقريش برغم ما فعلته .

رابعا : إستخدام قريش الموحدة الاسلام لمصلحتها وإعادة تواترها الباطل فى الحج

1 ـ فى حياة النبى عليه السلام إنقسمت قريش الى قسمين : قسم إحترف الاعتداء والبغى وتمسك بالتواتر الباطل وعاش فى مكة متحكما فى البيت الحرام والحج اليه ، وقسم هاجر الى المدينة ، ولكن ظل ولاؤه صريحا أو مكتوما للقسم الباغى المعتدى . وبموت النبى إتّحدت قريش كلها فى إطار البغى والاعتداء ( الفتوحات )، وبالتالى تأكّد الولاء لقريش على حساب الاسلام والتواتر الحقّ.

2 ـ ودخلت قريش بالفتوحات فى دور جديد عاد به التواتر الباطل أقوى مما كان ـ بل أضافت اليه الفتوحات القرشية العربية أباطيل جديدة منها :

2/ 1 : منع أهل الكتاب من الحج بعد أن قام عمر بن الخطاب فى خلافته بتهجيرهم من الجزيرة العربية وإخراجهم من ديارهم دون أن يرتكبوا إثما . وأسفرت الفتوحات عن تكوين الامبراطورية العربية وتقسيم العالم الى معسكرين متحاربين : معسكر قريش الذى يحمل شعارالاسلام ، ومعسكر الصليب الذى تحملة الامبراطورية البيزنطية. والحرب بين المعسكرين أسفر عنها التأكيد على تحريم البيت الحرام على أهل الكتاب .

2/ 2 : ومنها حصر الحج فى اسبوع واحد بسبب تهديد القبائل العربية والخوارج لقوافل الحج .

2/ 3 : تجاهل ثم نسيان حرمة الأشهر الحرم فى خضم الحروب الأهلية بين الأمويين وخصومهم من الزبيريين والخوارج والشيعة والعلويين والأقباط والبربر والموالى ..الخ ..

3 ـ إذ أنّه بعد الوعى الذى أحدثه الاسلام والقرآن لدى القبائل العربية فلم يعد مقبولا  لديهم عودة الهيمنة القرشية، لذا ثارت القبائل العربية فيما يعرف بحرب الردّة التى كانت إحتجاجا ضد قريش ، عبّر عنه مسيلمة الكذاب بقوله ( لقريش نصف الأرض ولنا نصفها ) . وبإخماد حركة الردة رأت قريش أن توجّه شوكة القبائل العربية للفتوحات الخارجية ، بعد أن أقنعت كبار المهاجرين بأن الجهاد هو قتال غير العرب المسالمين ، بحجة تخييرهم بين واحد من ثلاث ( الاسلام ، الجزية ، الحرب ) . وبالانتصار تم الإحتلال والاستعمار والاستيطان والاستعباد والاسترقاق والسلب والنهب والسبى باسم الاسلام . وإحتكرت قريش خيرات الأمم المفتوحة فثارت الحرب الأهلية بقتل عثمان مما أسفر فى النهاية عن تأسيس ملك الأمويين الذين يعبرون عن التواتر الباطل القرشى . وتحوّل الأعراب الثائرون على قريش الى ما يسمى بالخوارج ، وقد أرهقوا الدولة الأموية فى حروب مستمرة ، وبهم إستمرت الغارات على قوافل الحج مما إستدعى حصر الحج فى اسبوع واحد هو بداية الموسم فى الاسبوع الأول من ذى الحجة .

4 ـ وإذا كانت  المبادرة القرشية بالفتوحات قد أدّت الى تعطيل الاصلاحات القرآنية فى ملة ابراهيم فإن العصر الأموى أعاد التواتر القرشى الباطل فى مناسك الحج .

5 ـ كما إن تهميش الأنصار ثم إنتقال عاصمة المسلمين من المدينة الى الكوفة ثم الى دمشق ثم بغداد ، وإنحسار الأضواء عن المدينة بعد أن كانت مهد الاسلام ـ كل ذلك أدّى الى رد فعل عكسى لدى أهل المدينة ، عبّر عنه الامام مالك فى أول تأليف فقهى إعتمد على الأحاديث المنسوبة للنبى وللصحابة والتابعين وعمل أهل المدينة . وبدأ به تقديس المدينة وتحويلها الى ( حرم ) يضاهىء الحرم المكّى ، وتحول مسجد المدينة الى مزار مقصود بالحج ، وتحول ( قبر النبى ) الى وثن مقدس ، لا يتم الحج للبيت الحرام بدون زيارته .

وهذا يحتاج تفصيلا .   

 

الفصل الثامن  : تواتر الانحلال الخلقى الجاهلى  فى مكة وخارجها

مقدمة : كان الانحلال الخلقى فى الجاهلية هو الأرضية الاجتماعية التى تأسس عليها تواتر قريش الباطل فى مناسك الحج . وقد استمر هذا الانحلال الخلقى بعد الاسلام بانتصار قريش ، مما ساعد على استمرار التواتر القرشى فى الحج . لذا نعطى فكرة سريعة عن هذا الانحلال الخلقى الذى كان تمهيدا لعودة التواتر الباطل فى مناسك الحج بعد موت النبى عليه السلام .   

 أولا : الانحلال الخلقى فى العصر الجاهلى 

1 ـ لا يخلو أى مجتمع من وجود الفواحش . ولكن قد تتحول من ظاهرة إنسانية عادية الى حالة مرضية ( من المرض ) عندما تسود وتصبح عادة إجتماعية ودينا. وهذا ما ساد فى مكة وكان لبّ التواتر القرشى فى الحج كما سنعرض له فى الفصل القادم .

2 ـ ثقافة الانحلال الخلقى فى العصر الجاهلى تعتبر المرأة سلعة بشرية للمُتعة، وهذا أساس التشريع السّنّى الوهابى نحو المرأة والمتاُثّر بالثقافة العربية الجاهلية. وهذه الثقافة نتاج للحياة الصحراوية ، حيث لا إستقرار ينشىء دولة كالبيئة النهرية ، حيث يتعاون الرجل والمرأة فى البيت والحقل ، بل قبيلة أشبه بدولة متحركة يتسيدها الذكور ، وتتعيش فيها القبيلة على تتبع مواطن العُشب والكلأ ، وتتقاتل مع القبائل الأخرى حول الماء والعشب ، وبالتالى فالرجل هو يتكفّل بالانفاق على المرأة والدفاع عنها  . وفى مجتمع يتعيش على الاغارات كان السلب والنهب للابل والمال والمتاع مقترنا بسبى النساء ، ولم يكن عيبا أن تستسلم المرأة لمن يسبيها طالما عجز زوجها عن حمايتها ، فهى مملوكة لمن يقدر على حمايتها . وفى سيرة مشاهير الفوارس العرب نجد تفاخرهم بسبى العشرات من النساء، وطال السبى أمهات كثيرات بلا عيب ولا حرج . هذا الى ما عرفه العرب من أنواع مختلفة من الزواج ، كان بعضها تقنينا للزنا مثل زواج الاستبضاع ، أى يرسل الزوج زوجته لتعاشر رجلا آخر وسيما أوقويا لتنجب منه إبنا يشبهه، أو يتزوج عدة رجال إمرأة واحدة يتبادلون الزنا بها فإذا حملت تلصق الوليد بمن تشاء منهم . الى جانب ذلك عرف العرب ( أصحاب الرايات الحمر ) أو ( إحتراف البغى ) ، وكان تجارة يمتهنها الأشراف والملأ من القوم بلا عيب ولا حرج . وهذا مفهوم فى مجتمع صحراوى ذىطبيعة متحررة يعيش فى مناخ حار وسط فراغ ويحتاج الى التسلية ، ولم يمتلك من ترف التسلية إلا القليل ، فكان الزنا وسيلة المتعة .

3 ـ ولشيوع الزنا وإدمانه بين الأشراف بلا نكير فقد لحق التحسين اللغوى كلمة (الزنا ) فتحول فى لسانهم الى ( بغاء) من (إبتغى وبغى واشتهى ورغب فى ). وحتى الآن يقال فى الجزيرة العربية ( أبغى ) أى أريد وابتغى . وكان يقال فى الجاهلية ( أبتغى بغيا ).

ولم يكن الزنا عارا يحمله أبناء العاهرات ، فقد كانت النابغة ام (عمرو بن العاص)( بغيا ) أشهر (عاهرة) فى مكة وأرخصهن أجرة،(. . فوقع عليها أبو لهب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة  وأبو سفيان والعاص بن وائل السهمي .. فولدت " عمرا ... فأدعاه كل منهم ، فحكمت أمه فيه فقالت : هو من العاص . فقال أبو سفيان : . اما أني لا اشك أني وضعته في رحم أمه . فأبت الا العاص .).!!.

ومشهور إستلحاق زياد بن ابيه بأبى سفيان، لارتباطه بأحداث تاريخية فارقة ، وقد تعرضنا لهذا بالتفصيل فى سلسلة مقالات ( وعظ السلاطين ) ، وفى عام 42 تم الاستلحاق، إذ عقد الخليفة معاوية مجلسا أحضر اليه وجوه الناس ، وأحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي.(.. فقال له معاوية‏:‏ بم تشهد يا أبا مريم ؟ فقال‏:‏ أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيًا ، فقلت له‏:‏ ليس عندي إلا سمية، فقال‏:‏ إيتني بها على قذرها ووضرها ، فأتيته بها ، فخلا معها ، ثم خرجت من عنده ، وإن إسكتيها لتقطران منيًا‏ ..).

4 ـ وهذا الانحلال الشائع المتعارف عليه بلا إنكار أوجد ما يعرف بطبقة ( أولاد الزنا ) ، واشتهر من هذه الطبقة الشاعر ( الحطيئة )، وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية وعاش حتى خلافة ( عمر ) ، وقد أسلم ثم ارتدّ وهجا أبا بكر ، ثم عاد الى الاسلام .  قالوا عنه : ( إنه كان من أولاد الزنا الذين شرفوا .ونسبه متدافع بين القبائل . (أى كانت علاقات أمه على مستوى القبائل).  وامّه كان اسمها الضرّاء ، وقد سالها من أبوه ؟ فخلطت عليه فقال :

تقول لى الضراء لست لواحد   ولا اثنين فانظر كيف شرك أولئكما

وأنت أمرؤ تبغى أبا قد ضللته     هبلت ، ألمّا تستفق من ضلالكا

وكان الذى تزوج أمه من ولد الزنا أيضا ، واسمه الكلب بن كنيس ، أى كان معروف الأب .

 ثانيا : موقف الاسلام فى مواجهة هذا الانحلال الخلقى

1 ـ  ولم تكن يثرب ( المدينة ) بمعزل عن هذا الانحلال الخلقى ، وبعد هجرة النبى عليه السلام والمسلمين اليها نزلت تشريعات القرآن فى الاصلاح الدينى والأخلاقى ، ومنها مواجهة هذا الانحلال .

2 ـ وبعض هذه التشريعات نزلت تعلّق على ما يحدث فى المدينة مثل غيرها، مثل تحريم زواج الاستبضاع ( الممتحنة 12 )، وكان من حق مالك الجارية أن يضاجعها فنزلت تشريعات الاسلام تجعل للجارية مهرا، ولا يضاجعها مالكها إلا بعقد زواج ومهر ، كما حرّم رب العزة زواج السفاح وزواج الأخدان وجعل عقوبة المملوكة نصف عقوبة الحرّة فى الزنا المثبت :( النساء 24 : 25) بعدها قال جل وعلا للمؤمنين:( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)(النساء). وواضح أن الذين يتبعون الشهوات هم ارباب الانحلال الخلقى. وردّا على إستنكافهم من الزواج بالجوارى المملوكات نزل القرآن يشجّع على الزواج بالصالحين والصالحات من الرقيق مع وعد بأن يغنيهم الله جل وعلا من فضله::(وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) النور) ويحضّ على العفّة الجنسية ويشجع على تحرير الرقيق بالمكاتبة ، ويحرّم إكراه الجارية على احتراف الزنا ، ولا يجعل عليها عقوبة بسببب الإكراه : ( وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور).وبعدها يقول جل وعلا للمؤمنين :( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34).( النور).

3 ـ وحيث تكاثرت أعداد أبناء الزنا فقد شاع التبنى وأصبح للأبن بالتبنى نفس حقوق الابن الحقيقى ، فنزل تشريع القرآن يمنع هذا ، ويأمر بأن يحمل الابن المتبنى إسم أبيه الحقيقى إن كان معروفا ، وإلا فهو أخّ فى الدين لكل المسلمين: ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)( الاحزاب ).

4 ـ وكان للمنافقين فى المدينة دور سىء سلبى فى الحض على المنكر وتشجيعه ، وقام بهذا الدور الرجال منهم والنساء يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فتوعّدهم الله جل وعلا بالعذاب : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)(التوبة). كانوا( يحبّون) أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، وتوعّد رب العزة بعقوبة دنيوية وأخروية من ( يحب) أن تشيع الفاحشة فى المؤمنين:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) النور) .على أنهم لم يكتفوا بالأمنيات ، بل قرنوها بالعمل ، فقد كان فى المدينة نساء متبرجات يتتبعهن الزناة فنزل تشريع خاص فى الزى المحتشم للإفلات من مطاردة أولئك الزناة :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )( الاحزاب 59 ).

5 ـ ولقطع الطريق على الزنا فقد إتّخذ التشريع الاسلامى تدابير إستثنائية لتجفيف مقدماته ووسائله ، منها آداب الاستئذان من الخارج (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27: 29 ) النور ) وفى الداخل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ..) (58: 59) وأمر النساء المتقدمات فى السّن بالعفة والاقتصاد فى الزينة:( وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّوَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)( النور)، ونزل تشريع الزى والزينة وتحريم مقدمات الزنا كالنظرة الشهوانية والأمر بالعفة عن الزنا :( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا )،وتنتهى الآية بالأمر للمؤمنين بالتوبة أملا فى الفلاح يوم القيامة:(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)  )(النور 30 : 31 )..ونزلت عقوبة مائة جلدة فى الزنا المثبت بالدليل عند الاصرار عليه وعدم التوبة منه ، ومنع الزواج من الزانى والزانية ، وثمانين جلدة عقوبة من يقذف المحصنات العفيفات بلا دليل، وعقوبة الحرابة لمن يقطع الطريق يقتل ويسبى ويغتصب.

ثالثا : الفتوحات أعادت الانحلال الخلقى فى عصر الراشدين بسلب ثروات الأمم المفتوحة

1 ـ على إن الاسلام لم يحتل سوى فترة زمنية قصيرة فى خضم هذا التواتر الجاهلى فى الانحلال الخلقى ، ومنتظر أن لا تجد تعاليمه الإصلاحية وحربه للزنا والفواحش أذنا صاغية فاستمرت مع الصحابة فى عهد الخلفاء الراشدين والأمويين وهم الأقرب الى عهد النبوة المُضىء، وعزّزها الدور السلبى للفتوحات التى  أعادت الثقافة الجاهلية فى السلب والنهب والسبى تحت شعار الجهاد الاسلامى ، وهذا التضليل الذى تم إرتكابه واقعيا ما لبث أن قام الدين السّنى بتشريعه وجعله فريضة ، ويمارسها الآن الوهابيون وينسبونها للاسلام .!!.

2 ـ وفي تاريخ الطبري مئاتالصفحات عن القتل والسلب والسبي فى الفتوحات ، نقتطف هذه الاسطر التي يحكيها احد الجنود العربوهو " محفز" الذي شارك في موقعة جلولاء سنة 16 هـ ، في ايران ، يقول ( ودخلواالمدائن ، ولقد اصبت بها تمثالا لو قسم في بكر بن وائل لسد منهم مسدا ، عليه جوهرفأديته ) أي سلمه للجيش .. الي ان يقول ( فاذا امرأة كالغزال في حسن الشمس فأخذتهاوثيابها ، فأديت الثياب ، وطلبت في الجارية حتي صارت لي ، فاتخذتها ام ولد : الطبري  [4/ 26 : 27 ) ويذكر الطبري عن غنائم العرب بعد فتح المدائن ما يفوق الخيال ، منالذهب والجواهر وكنوز كسري وعرشه ، حتي كانوا يجدون بعض البيوت مليئة بالذهبوالجواهر ، وجمعوا اطنانا من عطر الكافور وحسبوه ملحا فخلطوه بالطعام فأصبح شديدالمرارة ( تاريخ الطبري 3/19 :20 ، تاريخ ابن كثير 7/ 66 : 67  [.

3 ـ وأصبح كبار الصحابة بليونيرات بمفهوم عصرنا : (عثمان ) مع شدة كرمهوكثرة عطاياه كان له يوم مقتله ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ومائة الفدينار ، وقد نهبها الثوار الذين قتلوه ، بالاضافة الي ما قيمته مائتا الف دينار منالاصول.(الزبير ابن العوام) : كانلديه  35 الف الف درهم ومائتا الف دينار ، ويقال 51 الف الف درهم او 52 الف الفدرهم ، بالاضافة الي مساكن وعقارات وخطط في الفسطاط والاسكندرية والبصرة والكوفة ،كما ترك غابة او بستانا هائلا بيع بـ الف الف وستمائة الف.(عبد الرحمن بن عوف) : مات سنة 32 هـ قبيل عثمان ، ترك ذهبا كانوا يقطعونه بالفئوس حتي محلت ايدي الرجالمنه.( سعد ابن ابي وقاص) : ترك 250الف درهم ، ( ابن مسعود) : توفي 32 هـ وكان من ضحايا عثمان وقد حرمه عثمان من عطائهسنتين ومع ذلك ترك 90 الف درهم.(طلحة بن عبيد الله ): كان فييده خاتم من ذهب فيه ياقوته حمراء ، وكان ايراده من ارضه في العراق الف درهم يوميااو ما بين 400 الي 500 الف درهم سنويا في رواية اخري ، وترك بعد موته الفي الف درهمومائتي الف درهم ، و مائتي الف دينار ، وترك اصولا وعقارات بثلاثين الف الف درهم.وترك مائة بهار مليئة بالذهب في كل بهار ثلاثة قناطير او اثنين من الارادب ، أيترك 300 اردبا ذهبا او 200 قنطار ذهبا ( طبقات ابن سعد 3/ 53 ، 76 ، 77، 157) ( المسعودي مروج الذهب 1/ 544 : 545[.( عمرو بن العاص ): ترك عندموته سبعين بهارا من الذهب ، أي 210 قنطارا او 140 اردبا من الذهب ، واثناء موتهعرض هذه الاموال علي اولاده فرفضوا وقالوا : حتي تعطي كل ذي حق حقه ، أي اعتبروهاسحتا ، فلما مات عمرو صادر معاوية هذا المال وقال ( نحن نأخذه بما فيه ) أي بما فيهمن سحت وظلم ( خطط المقريزي 1/ 140 ، 564 ).  ويذكر المسعودي في مروج الذهب ( 1/ 544) ان زيد بن ثابت حين مات ترك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفئوس سوي الاموالوالضياع ، ومات يعلي بن امية وخلف خمسمائة الف دينار وديونا علي الناس وعقارات تبلغ300 الف دينار[..

4 ـ هذا بالاضافة الى الضرائب ( الخراج ) و الجزية . يقول  ابن سعد  عن ( عمر بن الخطاب ) : ( وضع الخراج علي الاراضين ، والجزية علي جماجم اهل الذمة فيما فتح منالبلدان ، ووضع علي الغني ثمانية واربعين درهما ، وعلي الوسط اربعة وعشرين درهما ،وعلي الفقير اثني عشر درهما ، وقال : لا يعوز " أي لا يرهق" رجل منهم " أي الفقراء" درهم في الشهر : الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 202 ).

أى إنّ الفقراء المعدمين في البلاد المفتوحة كانت تؤخذ منهم الاموال لاثرياء العرب الذينتكدست لديهم الاموال من الغنائم والخراج والجزية . ذلك ان كل كنوز وثروات الفرسوالمصريين وثروات وكنوز الروم التي تركوها في الشام ومصر ، كل ذلك سلبه العرب فيالفتوحات ، واقتسموه فيما بينهم ، فأصبحوا وقتها اثرى اثرياء العالم ، ومع ذلك لميتورعوا عن اخذ الجزية حتي من الفقراء المعدمين لتصب في جيوب اولئك الاثرياءالمتخمين بالكنوز . وذلك ليس مجرد تخمين ولكنه استنتاج لما جاء في تاريخ ابن سعد عنعمر ، فأبو هريرة جاء لعمر بخمسمائة الف درهم فوزعه علي الناس ، وجاء الي عمر كل منعثمان وابن عباس فأعطاهما مالا كثيرا ، يقول ابن عباس معبرا عن كثرة ذلك المال (اماعثمان فحثا ، واما انا فجثيت لركبتي ) أي كانوا يعبئون المال بكل ما يستطيعون ، وفيموقف اخر يقول ابن عباس ( دعاني عمر بن الخطاب فأتيته فاذا بين يديه نطع عليه الذهبمنثور حثا ، قال : هلم فاقسم هذا بين قومك ) وبعث عمر الي ام المؤمنين زينب بنت جحشبكومة ذهب ، فلما رأتها فزعت منها واستترت منها ، ثم القت عليها ثوبا ، وقالتلخادمتها ( اقبضي منه واذهبي به الي بني فلان ، وما زالت توزعه حتي نفذ ) ، واستمرعمر يوزع هذه الكنوز والاموال وهو يقول : لأزيدنهم ما زاد المال ، لأعدنه لهم عدا ،فأن اعياني لأكيلنه لهم كيلا ، فأن اعياني حثوته بغير حساب ) ويقول في موقف اخر] واني لأرجو ان اكيل لهم المال بالصاع ) : ( الطبقات الكبري لابن سعد 3 / 207 ، 215:[ 218 ) أي ان الذهب اصبح لديهم اكواما يوزعه عمر كما يوزع القمح والشعير ، بينمايأخذون الجزية والضريبة من فقراء مصر والعراق والشام وفارس ، وهمأيالفقراء- مستحقون للزكاة اصلا في شريعة الاسلام التي تنهي عن اكتناز الذهب والفضة ،فضلا عن سلبها من اصحابها ظلما وعدوانا.وهذه الأموال الضخمة توارثها الأبناء والأحفاد فى العصر الأموى وأعانتهم على الترف والمجون على نحو ما سنذكره بعد قليل .

رابعا : الفتوحات أعادت الانحلال الخلقى فى عصر الراشدين بسبى نساء الأمم المفتوحة

1 ـ بالفتوحات إمتلأت الجزيرة العربية وعواصم المسلمين فى دمشق والكوفة والبصرة والفسطاط بنساء السبى  من أجمل الجميلات العالم، وأصبحن سلعة رخيصة للمتعة الحرام . وبسرعة تناسى الصحابة شرع الله جل وعلا، لأن ثقافتهم المتوارثة فى السلب والنهب والسبى عادت أقوى وتحت شعار الجهاد الاسلامى الذى أرساه أبو بكر وعمر بتشجيع وتعضيد من الأمويين الذين ورثوا كل هذا فى النهاية .

2 ـ لقد عرفت الجاهلية تشريع السبي والاسترقاق على نطاق ضيّق وبسيط مقارنة بالفتوحات . وقلنا إنّ الجاهلية  كانتتستحل الاموال والاعراض في الغارات المتبادلة بين القبائل ، ولم يكن عيبا سبيالنساء العربيات وتداولهن بين ايدي الغزاة حسب الاكثر قوة . وقد أعيد هذا فى الفتوحات فى التعامل مع الأمم المفتوحة التى لم تبدأ العرب المسلمين بالعدوان . وبهذا أعيد إنتاج ثقافة السبى والاسترقاق على أوسع نطاق . لقد كان فارس الجاهليةاثناء ظهور الاسلام هو عمرو بن معدي يكرب اشهر من سبي السبايا في الجاهلية ، ثماسلم ثم ارتد ثم عاد الي الاسلام ، وعاد معه طليحة بن خويلد الذي ادعي النبوة فيحركة الردة ثم عاد الي الاسلام ، وقد بعث عمر بطليحة بن خويلد وعمرو بن معدي يكربللمشاركة في فتوحات فارس وليمارسا نفس ما كانا يفعلان في الجاهلية من سبى وسلب ، وكان عمرو بن معدي يكرب يروي لعمر بن الخطاب مآثره فيسبي النساء في الجاهلية ( مروج الذهب : 1/ 538 : 541 ). وبنفس العقلية توجه عمرو بن معدي يكرب للفتوحاتيقتل ويسلب ويسبي . وذكر ابن حجر بلاءه في الفتوحات في ( الاصابة 3/ 18 ).

3 ـ وفى الوقت الذى تمتع فيه الرجال بالسبايا فقد عانت نساؤهم من الحرائر ممن الاهمال والجوع الجنسى ممّا شجع على الانحلال . كما أدى غياب الرجال فى الغزوات والفتوحات الى شيوع الفاحشة فى مجتمع المدينة، وكانت مشكلة عانى منها (عمر)  فكان يسير ليلا يتجسّس على البيوت ومعه ( الدرة ) المشهورة ليؤدب بها من يستحق ، واثناء طوافه الليلي بالمدينة سمع امرأة تنشدشعرا:

تطاول هذا الليل تسريكواكبه               وارقني ، ألا ضجيع  ألاعبه ؟!!

فسأل عنها عمر فعرف انزوجها غائب في الغزو منذ عدة اشهر ، فكتب الي امراء الجيش الا يغيب زوج عن اهلهاكثر من اربعة اشهر) . وعن سيره يتجسس على الناس ليلا يقول ابن سعد عن ( عمر ): ( وهو أول من عسّ في عمله بالمدينة وحمل الدرة وأدّب بها .). ويروى ابن سعد : ( بينما عمر بن الخطاب يعسّ ذات ليلة إذا امرأة تقول‏:‏ ( هل من سبيل إلى خمرفأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج ) فلما أصبح سأل عنه فإذا هو من بني سليم فأرسلإليه فأتاه ، فإذا هو من أحسن الناس شعرا وأصبحهم وجها ، فأمره عمر أن يطمّ شعره ، ففعل،فخرجت جبهته فازداد حسنا ، فأمره عمر أن يعتمّ ،  ففعل ، فازداد حسنا ، فقال عمر : لا والذينفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها ،  فأمر له بما يصلحه وسيرّه إلى البصرة .) أى نفاه الى البصرة لأن النساء فى المدينة إفتتنّ به . ولكن هل بذلك تم ّ حل المشكلة ؟ وماذا عن نساء البصرة ..والكوفة ومكة ؟ .

ويروى ابن سعد : ( خرج عمر بن الخطاب يعس ذات ليلة ، فإذا هو بنسوة يتحدثن ، فإذا هن يقلن : أيأهل المدينة أصبح ؟ ( أى أجمل ) فقالت امرأة منهن : أبو ذئب . فلما أصبح سأل عنه ، فإذا هو من بني سليم، فلما نظر إليه عمر إذا هو من أجمل الناس ، فقال له عمر : أنت والله ذئبهن . مرتين أوثلاثا ، والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها . قال : فإن كنت لا بد مسيّرني فسيرنيحيث سيّرت إبن عمي ، يعني نصر بن حجاج السلمي. فأمر له بما يصلحه وسيّره إلى البصرة .) أى كانت البصرة منفى للرجال الذين يخشى عمر من إفتتان النساء بهم . ولا ذنب لهؤلاء الرجال ، وإنما هو الاشتهاء والحرمان الجنسى لدى نساء غاب عنهن أزواجهن فى مجتمع لا يعرف سوى الجنس متعة حسّية .

على أن بعض من بقى فى المدينة من الشباب فارغا بعيدا عن المشاركة فى الغزو قد وجد فى أولئك النسوة الجائعات شغلا ، وكانت الأخبار تصل الى أزواجهن فى الغزو. ومع إن أولئك الزواج كانوا يتمتعون بنساء السبى فى البلاد التى يفتحونها فقد كان بعضهم يحتج على زوجته لو جاءته أخبار بعلاقتها مع فلان من الشباب ، وبعضهم كان يرسل الى ( عمر ) يشكو له . يروى ابن سعد ( أن بريدا قدم على عمر، فنثركنانته ، فبدرت صحيفة ، فأخذها فقرأها ، فإذا فيها‏ شعرا فيه يشكو مرسل الرسالة من رجل إسمه ( جعدة ) يعاشر النساء المغيبات ، اى اللاتى غاب عنهن أزواجهن . وتنتهى الرواية وقد استدعى عمر هذا الجعدة وجلده مائة جلدة ( ..  ونهاه أن يدخل على امرأة مغيبة .).

وتطرّف ( عمر ) فى عقوبة الخمر ومطاردة أهل المجون العلنى  ، يقول ابن سعد : ( وهو أول من ضرب في الخمر ثمانين ، واشتد على أهل الريب والتهم وأحرق بيت رويشد الثقفيوكان حانوتا )، ( وغرّب ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ، وكان صاحب شراب فدخل أرض الرومفارتد) .

ولم يمنع هذا من تكاثر الانحلال فى المدينة بدليل كثرة عدد اللقطاء فى المدينة، ويذكر ابن سعد عناية عمر  باللقطاء :( وكانإذا أتي باللقيط فرض له مائة درهم وفرض له رزقا يأخذه وليه كل شهر ما يصلحه ثمينقله من سنة إلى سنة وكان يوصي بهم خيرا ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال ) . أى أن ظاهرة اللقطاء كانت هائلة إستوجبت من عمر أن يجعل لهم نصيبا فى بيت المال ، ويفرض لهم مرتبات وعطايا لهم ولمن يقوم بشأنهم . فإذا كان هذا فى المدينة تحت ذقن ( عمر ) ولحيته وفى وجود درّته وقسوته وتجسّسه وتحرّزه فكيف بالحال فى بقية المدن وفى الصحراء العربية حيث الانطلاق والحرية ؟.جدير بالذكر ، أنّه بعد عمر لم ترد هذه الأخبار عن شيوع الانحلال الخلقى فقد أصبح ظاهرة مسكوتا عنها لا تستحق ّ التسجيل ، فهناك ما هو الأهمّ ، وهو أحداث الفتنة الكبرى.

4 ـ وبالانحلال الخلقى الشائع والمعتاد اشتهر بعض كبار الصحابة فى خلافة عمر ، ومنهم المغيرة بن أبى شعبة الذى كان ( زير نساء ) يهوى الزنا مع كثرة جواريه وكثرة زيجاته . فى شهرته النسائية تقول الروايات أنه لما كان يوم القادسية طعن المغيرة بن شعبة في بطنه فجئ بامرأة من طيئ تخيط بطنه فجعلت تخيطه فلما نظر إليها وهي تخيط قال : ألك زوج؟  قالت : وما يشغلك ما أنت فيه من سؤالك إياي؟!!. و يعترف المغيرة أنه رجل مطلاق يكثر من طلاق النساء دون مبرر ، قال : لقد تزوجت سبعين امرأة أو أكثر ..وكان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة ، فصفّهن بين يديه وقال : أنتن حسنات الأخلاق طويلات الأعناق ، ولكني رجل مطلاق ، فأنتن طالقات.وكان ينكح أربعاً جميعاً ويطلقهن جميعاً.  
واشتهرت واقعة زنا المغيرة بن شعبة في البصرة . ورويت هذه الواقعة على ألسن المحدثين و أصحاب السير و السنن ، واشتهرت فلا مجال لإنكار أصلها ، و إنما خلط الرواة في بعض تفاصيلها . ومجمل القصّة أنّ المغيرة بن شعبة وهو أمير البصرة فى خلافة عمر كان يذهب سراً ليزنى بامرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء ولها زوج من ثقيف يقال له الحجاج بن عتيك ، فلقيه أبو بكرة يوماً فقال : أين تريد ؟ قال : أزور آل فلان ، فأخذ [أبو بكرة] بتلابيبه و قال : إن الأمير يُزار ولا يزور.وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة . فبينما أبو بكرة في غرفة له مع أخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له شبل بن معبد ، وكانت غرفة جارته تلك محاذية غرفة أبي بكرة ، فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها ، فقال أبو بكرة : هذه بلية قد ابتليتم فانظروا . فنظروا حتى أثبتوا ، فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة ، فقال له أبو بكرة : إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا ، فذهب المغيرة وجاء ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة وقال : لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت ، فقال الناس : دعوه فليصل إنه الأمير.! فقال : اكتبوا إلى عمر فكتبوا إليه .... وسار المغيرة ، حتى قدم على عمر ، فجلس له عمر ودعا به وبالشهود . وشهد ثلاثة على المغيرة بن شعبة بالزنا بالتفصيل   وهم أبو بكرة ، ونافع ، ونفيع ، وزياد ،   فأما زياد فقال : رأيت نفساً تعلو ، و استاً تنبو ، ورأيت رجليها على عنقه كأنهما أذنا حمار ، ولا أدري يا أمير المؤمنين ما وراء ذلك ، فأسقط عمر الشهادة ولم يرها تامة .

خامسا : لمحة سريعة عن الانحلال فى العصر الأموى   

1 ـ كان هذا فى عصر عمر . وتفاقم الأمر فى العصر الأموى ، فبعد  مأساة الحسين وأقتحام المدينة ومكة وثورة ابن الزبير عمل الأمويون على شغل أبناء المهاجرين والأنصار باللهو والمجون ، وأغدقوا عليهم بألأموال  حتى لا ينشغلوا بالسياسة ، وهم أصلا قد ورثوا ثروات آبائهم الصحابة التى جاءت من الفتوحات . وبهذه الأموال والفراغ وكثرة الجوارى المجلوبات من الخارج من شتى أنحاء العالم  تحولت المدينة ومكة الى ماخور كبير.  واشتهر فيها أرباب الغناء من الرجال والنساء والمخنثين . ومنهم سلاّمة ومعبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح.

ومن مشاهير الزناة الشاعر العرجى حفيد الخليفة عثمان ، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف مالك المغنية سلّامة التى عشقها عبد الرحمن القس ّ ، وقد انتشرت قصة سلّامة وغرام العابد الناسك بها ، ووصلت إلى دمشق حيث كان الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك مشهوراً بالمجون باحثاً عن الجديد من المتع ، وعرف أن سلامة وحبابة قد وصلتا إلى النهاية في الشهرة فبعث من اشتراهما له ، وسافرت سلامة إلى دمشق وحظيت مع حبابة لدى الخليفة الماجن . ولعلنا نذكر فيلم أم كلثوم ( سلّامة ).

ومن المشاهير من أبناء الزنا فى العصر الأموى كان المغنى ( محمد إبن عائشة ) الذى لم يكن يعرف له أب ، فكان ينسب الى أمه . ولقّبه أعداؤه بابن عاهرة الدار . وكانوا إذا استحسنوا صوته قالوا ( أحسن ابن المرأة ) .واشتهر بجودة الغناء و الغرور الشديد . وقالوا عنه إنه كان يفتن من يسمعه يغنى ، وأنه أفسد بغنائه فتيان المدينة . وكان أشهر المعجبين بصوته الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب والخليفة الوليد بن يزيد الأموى .

كل هؤلاء اشتهروا وذكرهم التاريخ بسبب صفاتهم الشخصية ، ولكن الالاف من أبناء الزنا أهملهم التاريخ الذى لا يذكر سوى الزعماء والقادة و النابغين .

 وبعض الخلفاء الأمويين كان متهما بالفواحش وترك الصلاة ومنهم يزيد بن معاوية ، صاحب الفواجع الثلاث : قتل الحسين وآله فى كربلاء ، وانتهاك حرمة مكة والمدينة .وحين ثارت المدينة على يزيد وخلعت طاعته كان زعيم الثوار عبدالله بن حنظلة الإنصارى الذى خطب فى قومه قبيل موقعة الحرة قائلا عن يزيد ( إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معى أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا )  ( الطبقات الكبرى لأبن سعد ج5 ، 47 – تاريخ المنتظم ج6، 19 ) وقد وقعت موقعة الحرة سنة 63 هــ وفيها انتهكت حرمة المدينة وإغتصب جنود الأمويين نساء المدينة وافتضّوا أبكارها . وكان من القتلى زعيم الأنصار يومئذ ابن حنظلة . وتكرر نفس الإتهام للخلفاء الأمويين فى عهد عبد الملك بن مروان ، قاله سعيد بن جبير فى موقعة دير الجماجم ، قال  (قاتلوهم على جورهم فى الحكم وخروجهم من الدين وإماتتهم الصلاة ) ( طبقات ابن سعد ج6، 185 ) .

 وأتيح للخليفة يزيد بن عبد الملك أن يتفرغ للهو والخمر والمجون حتى مات شابا بسبب الانحلال الخلقى. إذ  مات حزنا على مغنيته حبابة ، ظل شاردا بجانب جثتها لا يريد دفنها ، فلما أرغموه على دفنها لبث بعدها قليلا ثم مات .!

بعده كان ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك أكثر منه إنحلالا.  قال ابن كثير فى تاريخه ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/3‏)‏  : إن عمه الخليفة هشام بن عبد الملك أراده أن يقلع عن الخمر ليؤهله للحكم من بعده فجعله أميرا على الحج سنة 116 فما كان منه إلا أن (أخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال‏:‏إنه جعلها في صناديق ..قالوا‏:‏ واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلكالقبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهيوغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه من الجلوسفوق ظهر الكعبة خوفاً من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك،).

 وتولى هذا االوليد بن يزيد بن عبد الملك الخلافة فانطلق فى مجونه للنهاية ، حسبما يقول المؤرخون ((تاريخ الكامل لابن الأثير 4/ 486 ، المنتظم لابن الجوزى 7/236 -248 ). قالوا : (ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنوالوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه وباللواط وغيره )، (وكان هذا الرجل مجاهراً بالفواحش مصرّاً عليها، منتهكاً محارم الله عزوجل، لا يتحاشى من معصية‏.‏وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال‏:‏ أشهدأنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً، ولقد أرادني على نفسي الفاسق !!. ) وقالوا فيه  )كان مشهورا بالالحاد مشتغلا باللعب واللهو والشراب ) . وقد ثار عليه ابن عمه يزيد بن الوليد وقتله وتولى بعده.  وفى أول خطبة لابن عمه يزيد بن الوليد الذى قتله وتولى الخلافة بعده قال عنه (كان جبارا مستحلا للحرم ..ما كان يصدق بالكتاب ولا يؤمن بيوم الحساب ).  ورووا أنه فتح المصحف يوما يستفتح به ـ أى يرى حظه في أول آية يقرؤها ـ  فرأى فيه قوله تعالى " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " فألقى المصحف ورماه بالسهام وهو يقول:

تهددنى بجبار عنيد            فها أنا ذاك جبار عنيد

اذا ما جئت ربك يوم حشر     فقل يارب خرقنى الوليد

أخيرا

فى هذا العصر هل نطمع فى وجود إصلاح لمناسك الحج فى مكة ؟ وإذا كان الأمويون أرباب الفسوق والعصيان قبل وبعد النبى عليه السلام ، فهل ننتظر منهم إصلاحا ؟ 

 

الفصل التاسع :  قريش تجعل الانحلال الخلقى دينا

أولا : الدين الأرضى مؤسس على الهوى

1 ـ إن العادة السيئة للناس أنهم يُخضعون دين الله جل وعلا لأهوائهم فى تقديس البشر والحجر وفى غرائزهم الجنسية ، وإذا عبدوا ربهم جل وعلا عبدوه حسب الهوى ، يجعلون دينهم لهوا ولعبا وغرورا بالحياة الدنيا ، ويقومون بتشريعه بوحى مزيف تتحوّل به هذه الأهواء الى دين أرضى ، يسود ويقود الى التهلكة ، حيث يتدين الناس بدين مزيف مغشوش ، يموتون عليه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا كما يقول عنهم رب العزّة : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)( الكهف ). أعمالهم التى ضاع ثوابها سيرونها حسرات عليهم وهم مخلدون فى النار: ( كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ (167)( البقرة ).   

2 ـ يجب أن نعبد الله جل وعلا وفق ما شرع الله جلّ وعلا لكي يقبل عبادتنا . وإذا عبدنا الله بغير ما شرع الله جلّ وعلا فقد حاق بنا غضب الله في الوقت الذي نظن فيه أّنّنا نرضيه ، وحين نقوم بالحج إلى بيت الله فلا بد من تحري مرضاة الله وإلا أحبط الله أعمالنا . هذه تذكرة لنا قبل أن نصمم على مناسك فى الحج ليس لها أصل في كتاب الله ـ بل لها نصيب في تواتر قريش المخالف لملة ابراهيم عليه السلام .

3 ـ والتواتر القرشى الباطل فى الحج تركّز حول الاستغلال القرشى للبيت الحرام واستغلال الحجاج ، لذا إمتلأ بيت الله الحرام بالأوثان والأصنام ، وساد الانحلال الخلقى مناسك الحج ، وحرّفت قريش فى المناسك لتتيح لها أكبر قدر من استنزاف الحجاج ماليا، وتضمن توافدهم حيث يجدون المتعة الحرام والغفران معا.  

4 ـ وبعد موت النبى عليه السلام دخلت قريش بالعرب والعالم أحداثا هائلة متتابعة ، نتخيل فيها العالم وقتها وقد كتم أنفاسه وهو يرى هذا التتابع المذهل فى الأحداث المحلية والعالمية ؛من حرب الردة الى حروب الفتوحات وتوسعها فى قارات العالم الثلاث ( آسيا وأفريقيا وأوربا ) حتى تصل من تخوم الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا ، وفيها تمّ تدمير الامبراطورية الفارسية وتجاوزها شرقا فى أواسط آسيا ، وفى نفس الوقت هزيمة الامبراطورية الرومانية برا وبحرا ومحاولة غزو القسطنطينية واحتلال جزر البحر المتوسط ، واحتلال الاندلس ،أى غزو أوربا شرقا وجنوبا وغربا. وخلالها مقتل عمر ثم مقتل عثمان ثم الحرب الأهلية ومقتل على ثم مقتل الحسين وانتهاك المدينة ومكة والبيت الحرام ، ثم الصراع بين الأمويين والزبيريين فى موجة ثانية من الحروب الأهلية ، مع تتابع الثورات من الخوارج العرب والشيعة والموالى والأقباط والأمازيغ. وسط هذا الضجيج الهائل لم يحدث إلا تغيير طفيف فى مناسك الحج ( القرشى ) تركز فى هدم الأوثان وإلغاء طواف العُرى ، وإن لم يقض هذا على الانحلال الخلقى داخل وخارج الحرم لأنه كان ثقافة سائدة ، لذا ما لبث التواتر القرشى أن أعاد رمى الجمرات وزى الاحرام المفضوح بديلا عن طواف العُرى . ثم ما لبث أن عادت الأوثان للبيت الحرام بتقديس الحجر الأسود وإعتبار جدران الكعبة نفسها مقدسة. ثم تأكد الشرك بتقديس ما يعرف بقبر النبى والحج اليه واعتبار المدينة حرما يضاهىء بيت الله الحرام طبقا لطقوس تأليه النبى.  إنّ تأليه شخص النبى محمد هو عداء للنبى محمد والاسلام ، فهو مأمور بأن يعلن بأنّه بشر يوحى اليه بأنه لا اله إلا الله :(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)الكهف )، ويستحيل أن يزعم لنفسه تقديسا: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَإِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)(آل عمران). ولكنّ أعداء النبى هم الذين قدّسوه وعبدوه عصيانا لله جل وعلا ولرسوله .

5 ـ ـوقد تركّز فى مكة الجاه والثروة حيث كانت مركز التجارة العالمية ورحلة الشتاء والصيف التى من أجلها إمتلكت قريش البيت الحرام وتحكمت فى الحجّاج . ولأنّ قريش كانت تحترف التجارة بالدين فقد تمسحت بالدين لتبرّر به سلوكها . وهى العادة فى أى مجتمع يسيطر عليه الدين الأرضى ، إذ يتحول القتل والقتال العادى الى جهاد ، ويتحوّل الزنا الى طقس دينى ، والاغتصاب الى سبى مشروع ويتحوّل التسلط على الناس بالظلم الى ( أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ) . والانحلال الخلقى فى مكة إزدهر بكونها عاصمة عالمية للتجارة العالمية تفتح أبوابها للتجارة والتجّار كما تفتح أبوابها للحجّاج ، وللجميع تعطى تسهيلات المتعة الحرام بأن تجعلها ( ليس فقط حلالا ) بل فرضا دينيا . وردّا على هذا التواتر القرشى الباطل المتأثر بالانحلال الخلقى نتذكر أن رب العزة يحرّم مجرد الرفث مع الزوجة على من يقوم بالاحرام: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة)، كما يحرّم جلّ وعلا مجرد النيّة والارادة بالظلم والالحاد فى الحرم (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)(الحج ) ،  كما أنه جل وعلا يتوعّد أيضا بعذاب أليم فى الدنيا والآخرة ذلك الذى ( يحب ) أن تشيع الفاحشة فى مجتمع مؤمن: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) النور) . ، فكيف بمن يحب أن يشيع ذلك فى البيت الحرام ؟؟!!

6 ـ وتعرضنا للإنحلال الخلقى فى مجتمع الجزيرة العربية قبل وبعد موت النبى عليه السلام ، وهذه الأرضية الاجتماعية للإنحلال الخلقى أضفت عليها قريش تشريعا دينيا يخدم مصالحها التجارية بما ترتب عليه التحريف فى مناسك الحج ، ولأن الانحلال الخلقى إستمر فقد أعاد التحريف بصورة أبشع لأنه هنا ظل محميا باسم الاسلام مع مخالفته للاسلام .  وهو ما فعلته قريش حين جعلت الانحلال الخلقى دينا .!

ثانيا  : الأسس الدينية للإنحلال الخلقى لدى قريش

إتّخاذه دينا أرضيا بأحاديث شيطانية منسوبة كذبا لله جل وعلا :

1 ـ  نكتشف من خلال القرآن الكريم أن قريش قد جعلت الفاحشة دينا وعادة اجتماعية متوارثة ونزل القرآن الكريم يردّ عليهم يندّد بتشريع هذه الفاحشة والتشويه لدين الله والافتراء عليه ، يقول جل وعلا عنهم : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) ويرد عليهم : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الأعراف )

2 ـ ويلفت النظر قوله جل وعلا فى الرد عليهم : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون ). أى كانوا يتقوّلون على الله جل وعلا ( أحاديث ) تفترى بأن الله جل وعلا أمرهم بالفاحشة ، وأن هذه الفاحشة هى تراث ( سلفى ) وجدوا عليه آباءهم . لذا يكمل رب العزة الرد عليهم بالتوضيح لحقائق الاسلام :( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. )(29)، ومع وجود مهتدين فقد ضلّ آخرون بالأحاديث الشيطانية ، وبسببها كانوا يحسبون أنهم مهتدون ،بينما هم أولياء الشيطان :( فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الاعراف ). فالشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر لذا تكرّر تحذير المؤمنين من مكره وخطواته وسوسته : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (21) النور) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)  إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة )، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)( البقرة ).

دور الأولياء فى الشفاعة :

1 ـ جدير بالذكر أن سورة الأعراف التى جاء فيها الرد على إتّخاذ قريش الفاحشة دينا ، قد بدأت بالتحذير من عبادة الأولياء فقال جل وعلا  يخاطب النبى والمؤمنين : (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2))أى لا يتحرّج هو والمؤمنون من الدعوة بالقرآن . ثم قال جل وعلا فى الآية التالية :(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)الاعراف ) ،  فهنا أمر باتباع القرآن وحده ، يعزّزه نهى عن إتّباع غير القرآن من أحاديث إفتراها أولياء الشيطان بزعم أنها وحى الاهى . وهو التى تأسست عليها أديان المسلمين الأرضية من أحاديث شيطانية . ولذا قال جل وعلا فى ختام الآية (قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ). وفعلا ..سرعان ما نسى الصحابة ، وعادوا لملة قريش .

2 ـ والمُعادل الموضوعى لدي قريش فى تشريع الانحلال الخلقى هو شفاعة الأولياء لهم عند الله جل وعلا ، أى ينغمسون فى العصيان ويتكفّل الأولياء بالشفاعة فيهم، ومن هنا كانت عبادتهم للأولياء وقبورهم المقدسة ، أو ( الأنصاب أو النّصُب ) فى اللسان القرآنى . وهذا ينافى إخلاص الدين عقيدة وعبادة لله جل وعلا وحده القائل للنبى عليه السلام :( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) ثم قال بعدها عن قومه من قريش وغيرهم : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ )(3) الزمر).كان دور الأولياء أن تقرّبهم لله زلفى مهما أرتكبوا من عصيان، وبالتالى يضمنون تحقيق هواهم ، وهو الجمع بين العصيان ودخول الجنة، ويأتى الرد الالهى عليهم (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) ( الزمر )

3 ـ ولنشر هذا الإفك صنعت قريش أحاديث فى الشفاعة تفترى بها على الله جل وعلا كذبا ، ومن أجلها رفضوا القرآن الكريم وطالبوا بتبديله ليوافق أحاديثهم الضالة المفتراة : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) فأمر الله جل وعلا رسوله أن يقول لهم : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) يونس) ويعلّق  رب العزة يصفهم بالظلم العظيم وبالاجرام والافتراء وعدم الفلاح:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) يونس) . وكان ضمن تلك الأحاديث المفتراة أحاديث الشفاعة للبشر الذين كانت قريش تحيطهم بالعبادة والتقديس، لذا قال جل وعلا فى الآية التالية عنهم: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ). ولأن هذا إفتراء على الله جل وعلا ، فإنه جل وعلا ـ وهو صاحب الشأن هنا ـ يأمر النبى بأن يقول مندّدا بافترائهم : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِوَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)( يونس).

 حقيقة الأمر أنهم هم الذين إختاروا بأنفسهم أشخاصا من البشر جعلوهم (الأولياء )، وبعد إتّخاذهم هؤلاء الأولياء قرّروا أن يكون أولياؤهم شفعاء عند الله جل وعلا إفتراءا عليه جلّ وعلا ، لذا يرد عليهم رب العزة بأنهم لا يملكون شيئا فى ملك الله جل وعلا ، وهم أيضا لا يعقلون:(أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) الزمر ) وأن الشفاعة هى لله جل وعلا وحده وليست لبشر : ( قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) ( الزمر )، فهو وحده الولى المقصود وحده بالتقديس والعبادة ، وهو وحده الشفيع لأنه وحده خالق السماوات والأرض وما بينهما من مجرات ونجوم وكواكب وثقوب سوداء وبيضاء يحار فيها عقل الانسان :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)(السجدة ) . وقاله ربّ العزّة جل وعلا للنبى عليه السلام  فى تعامله مع عصره ومع المؤمنين أنه لا شفيع ولا ولىّ سواه جل وعلا : (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ..)(51)، ونرجو تدبّر الآية التالية التى تساوى بين النبى وأصحابه فى المساءلة يوم الحساب ( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) الانعام ).

ليس هناك بشر يشفع فى بشر، لأنّ الشفاعة يوم القيامة لملائكة حفظ الأعمال ، أى أن صاحب العمل الصالح يكون عمله الصالح شفيعا له يوم القيامة ، يحمله الملكان اللذان كانا يسجلان عمله فى الدنيا، وذلك بعد إذن الرحمن ورضاه:( يونس 3)( طه 108 : 110)( مريم 87 )( الأنبياء 27 : 28 )(النجم  26) ( الزخرف 86 )( ق  17 : 22). وبمكر الشيطان فإنّ أديان المسلمين الأرضية أعادت نفس ضلالات الشفاعة البشرية عبر أحاديث كاذبة تضيف الشفاعات للنبى وللأولياء والأئمة،وبنفس الهدف القرشى ؛أن تشجّع هذه الشفاعة على الانحلال الخلقى. 

 التمسح بالمشيئة الالهية

1 ـ راج فى العصر الأموى ـ حيث حكمت قريش بدينها وثقافتها الجاهلية ـ عقيدة الجبرية السياسية ، أى إن ما يقع من شرور وظلم إنّما هو إرادة الله جل وعلا ومن يعترض على الظلم فقد إعترض على مشيئة الرحمن ، وواجه الثوار الأحرار المسلمون هذا الإفك بما كان يعرف ب ( القدرية ) أى قالوا ( لا قدر وإنّما الأمر أنف ) أى إن الظلم ليس قدرا الاهيا لا فكاك منه ولا إعتراض عليه ، بل هو فعل بشرى يجرى رغم أنوف الناس وبقهرالظالمين لهم  . وفيما بعد قام الغزالى فى ( إحياء علوم الدين ) بتقعيد هذا الإفك القرشى الأموى تحت عنوان ( وحدة الفاعل ) حيث زعم أن الله جل وعلا هو الفاعل الحقيقى لكل أفعال البشر من ظلم وعدل ومعصية وطاعة . وقد قلنا بأن هناك حتميات أربع هى مجال القضاء والقدر الالهى ، وهذه الحتميات لا مفر لكل إنسان من مواجهتها وليس مسئولا عنها يوم القيامة ، وهى تخصّ الميلاد والموت والرزق والمصائب،  . وما عداها فهو مجال حرية البشر المطلقة فى الايمان والكفر والطاعة والمعصية والرضى أو العصيان والحب والكراهية ، وسيكون كل بشرى مسئولا عن هذا يوم الحساب .

2 ـ وقد بررت قريش وقوعها فى الشرك وتحريف ملة ابراهيم والانحلال الخلقى والعصيان بأنه مشيئة الله جل وعلا ، وردّ رب العزة إفتراء قريش ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)( النحل ). أى إنها عادة سيئة للمشركين فى كل عصر قبل وبعد نزول القرآن الكريم .

3 ـ بل نبّأ رب العزة مقدما بما سيقوله الغزالى وغيره من التحجّج بالمشيئة الالهية فى تبرير العصيان والشّرك ، كما قال السابقون الضّالون ، فقال جلّ وعلا :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) الأنعام). نلاحظ قوله جل وعلا بصيغة المضارع التى تدل على الحاضر والمستقبل :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) لذا ردّ عليهم رب العزة يتحداهم مقدما : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)الأنعام ) ثم أورد رب العزة بعدها الوصايا العشر لتكون حجة على البشر بعد نزول القرآن الكريم : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الانعام ) . جدير بالذكر أن المسلمين فى أديانهم الأرضية عصوا كل تلك الوصايا ، وكان ذللك منهم إتّباعا منهم لسنّة قريش فى تمسحها فى المشية الالهية تشريعا للإنحلال داخل مكة وخارجها . وبهذا رجعت مناسك الحج الجاهلية بعد موت النبى عليه السلام .

 

 الفصل العاشر :عودة التواتر الباطل فى مناسك الحج بعد موت النبى عليه السلام     

 أولا : إستغلال الحرم وفريضة الحج فى الترويج للأنحلال و للتجارة القرشية( طواف العرى )

1 ـ بكل دهاء التجّار ومكر المتاجرين بالدين قامت قريش بإستغلال الحرم وفريضة الحج فى الترويج للإنحلال الخلقى خدمة للتجارة القرشية حيث يتحول الحج الى ( سياحة جنسية ) بتعبير عصرنا والى رواج تجارى للبضائع القرشية . ويمكن تلخيص هذه ( الوصفة ) القرشية فى الجمع بين التوسل بالأولياء والأوثان ورمى الجمرات ولعن ابليس ، ضمانا مقدما للغفران من أى ذنب ، والتشجيع على الوقوع فى الفواحش بالذات لأنها عندهم دين ، وشفاعة الأولياء جاهزة لتقربهم الى الله جل وعلا زلفى مهما عصوا ، لذا كان  طواف العرى فى الحرم أهم وسيلة لعرض للأجساد والتعرف على ( البضاعة ) ، أى جعلوا البيت الحرام للعرض ، أما الممارسة فهى خارج الحرم ، فى حانات مكة وأسواقها ، حتى لا يصيبهم ما أصاب ( أساف ونائلة ) التى زعمت أساطيرهم أنهما رجل وامرأة زنيا فى الحرم فمسخهما الله جل وعلا ، فأصبحا وثنين يمثلان الشيطان ، ومن مناسك الحج رجمهما بالجمرات . فالرجم هنا لعن للشيطان عندهم ، وتذكير لهم بالابتعاد عن الزنا فى الحرم ، فيكفى فيه طواف العرى ، ولكن أسواق مكة ومواخيرها هى التى تستقبل الزبائن ، وأبواب الغفران مفتوحة لهم مقدما .

لم تكن مكة مركزا لأى إنتاج زراعى أو حيوانى أوصناعى ، فهى فى واد جبلى بلا زرع ولا ضرع . ولكن كانت خيرات العالم تأتى اليها ـ ولا تزال . أو كما قال جل وعلا بالتعبير بالمضارع  ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا (57) ( القصص )، أى يتم فى كل وقت الإتيان بكل أنواع الثمرات الى مكة ، وهذا يحدث الآن ، ففى مكة كل بضائع العالم من الشرق والغرب ، وهكذا كان الحال تقريبا فى عصر نزول القرآن حيث تكفلت بذلك رحلة الشتاء والصيف بالتجارة العالمية بين الهندوالصين شرقا ، وأوربا غربا ، فعلى هامش هذه التجارة وتبادلها كان هناك جزء يتم تسويقه داخل مكة بإرغام الحجّاج على شرائه . لذا كانت قريش تمنع الحجاج القادمين من المجىء بطعام معهم ليشتروا طعامهم من أسواق مكة ، والطعام المشترى من أسواق مكة، لا بد من استهلاكه فيها ، ورمى الباقى فيها . وكانت تمنعهم من الطواف بملابسهم ، وتجبرهم على شراء ملابس الحرم من ثياب من متاجرها بزعم أنها ثياب ( أهل الحرم ) أو (الحمس من قريش ) وهى وحدها التى يجوز الطواف بها . ومن يمتنع يتعين عليه أن يطوف بالبيت عاريا ، وبعد الطواف يلقى بتلك الثياب ولا يجوز استعمالها أو بيعها وشراؤها حتى يستمر شراء الحجاج ملابس الاحرام من تجار مكة..  وأجبرت قريش بكل سطوتها العرب على هذا فطاف العرب عراة بالبيت ‏‏.‏‏ وكانت المرأة تستر عورتها بقطعة قماش ، بعد أن تخلع كل ثيابها ، فقالت امرأة من العرب ، وهي كذلك تطوف بالبيت ‏‏:‏‏ (اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله )

2 ـ هذا هو المفهوم مما قاله ابن هشام فى السيرة ، قال : (  إبتدعت قريش رأي الحمس ( الأحمس هو المتشدد في الدين ) فتركوا الوقوف بعرفة والأفاضة منها وهم يعرفون ويقرّون انها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها ، إلا انهم قالوا نحن اهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما يعظمها نحن الحمس .. " ثم أبتدعوا في ذلك أموراً لم تكن لهم ، حتى قالوا لا ينبغي للحمس ان يأتقطوا الأقط ( نوع من الطعام من لبن الغنم ) ولا يسلئوا السمن ( أي لا يطبخون بالسمن ) وهم حرم ولا يدخلون بيتاً من شعر ولا يستطيلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرماُ ، ثم رفعوا في ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجاً او عماراً (أي معتمرين ) ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عراة ، فإن تكرم منهم متكرم من رجل او إمرأة ولم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل القاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا احداً غيره أبداً ، فكانت العرب تسمي تلك الثياب ( اللقى ) فحملوا على ذلك العرب ، فدانت به ، ووقفوا على عرفات وافاضوا منها ، وطافوا بالبيت عراة،  اما الرجال فيطوفون عراة ، واما النساء فتضع احداهن ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً عليها ( المفرج هو المشقوق من قدام ومن خلف ) ثم تطوف فيه ، فقالت أمرأة من العرب وهي كذلك تطوف بالبيت : ـ

اليوم يبدو بعضه أو كله    وما بدا منه فلا أحله

فكانوا كذلك حتى بعث الله محمداً (ص) فأنزل عليهم حين احكم له دينه وشرع له سنن حجه "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) البقرة . " يعني قريشاً ، والناس العرب فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والأفاضة منها . وأنزل الله عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت حين طافوا عراة وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ .. (32) الأعراف  " فوضع الله ( أى أبطل ) امر الحمس وما كانت قريش أبتدعت منه على الناس بالإسلام حين بعث الله به رسوله ( ص )( سيرة ابن هشام 1 / 199 ، 202 : 203 ).

ومن النص السابق نفهم ان قريش فرضت تحريفها على العرب ، ورفعوا انفسهم فوق الآخرين بأعتبارهم أهل الحرم ، وذلك بدافع أقتصادي في أجبار الحجاج على أرتداء ثياب الحمس من قريش ، ونفهم سبباً من أسباب وقوف تجار قريش ضد الدعوة الإسلامية وذلك ما جاء صريحاً في القرآن "وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) الواقعة " فقد كانوا يجعلون من موسم الحج تجارة يبيعون فيها ثيابهم للحجاج ويبيعون لهم الطعام إذ كانوا يحرمون على الحجاج أن ياتوا معهم بطعام من خارج مكة .. ثم في النهاية كشفوا عورة الحجاج من رجال ونساء ليشجعوا على الانحلال بعد تقديم هذا العرض الحىّ العارى فى البيت الحرام . إذن هي عنجهية ارتبطت باطماع أقتصادية .

3  ـ وما ذكره ابن هشام في السيرة رددته كتب الحديث .ينقل مسلم في صحيحه " كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت ، كانوا يطوفون عراة إلا ان يعطيهم الحمس ثياباً فيعطي الرجال الرجال و النساء النساء ، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة وكان الناس كلهم يبلغون عرفات ، قال هشام فحدثني أبي عن عائشة قالت : الحمس هم الذين أنزل الله فيهم " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (199)البقرة" قالت : كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة يقولون : لا نفيض إلا من الحرم . فلما نزل : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ..(199) .. رجعوا إلى عرفات " وفي رواية أخرى لعائشة " كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه (ص) أن ياتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله عز وجل : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ )( مسلم 4 / 43 : 44 ). ويروي البخاري : ( كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت يحتسبون على الناس ، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها ، وتعطي المرأة المراة الثياب تطوف فيها ، فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عرياناً.. وقد  استمر طواف العري إلى أن حظره الرسول حين نادى أبو بكر في الناس :ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان )(البخاري 2 / 188 ، 200 ).

ننقل هذا على أنها أخبار تاريخية تحكى واقع الجاهلية القرشية فى إستغلال الحرم وفريضة الحج فى الترويج للإنحلال و التجارة القرشية ، تأكيدا لما أورده القرآن الكريم .

4 ـ ونعود للقرآن الكريم : يقول سبحانه وتعالى يخاطب البشر جميعا بنفس الخطاب العام فى موضوع الحج للناس جميعا : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ..)(31) الأعراف )، ويقول ردأ على قريش ومن يسير على تواترها وسنّتها فى تحريم الحلال : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ (32) الأعراف ) ، وتأتى الآية التالية تؤكّد المحرّمات فى شرع الله جل وعلا  والتى جعلتها قريش دينا ، وهى الفواحش العلنية والسّرية وتسلطها على الناس إثما وبغيا ووقوعها فى الشّرك ، ثم التقوّل بالافتراء على الله جلّ وعلا  فى تشريع هذا الفسوق والعصيان:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)(الاعراف ). ونلاحظ أنّ قوله جل وعلا :( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ..)(31) الأعراف ) جاء بدون كلمة ( قل ) المعتادة فى التشريع ، أى هو خطاب مباشر من رب العزّة الى جميع بنى آدم  بأن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد . والمسجد الحرام أولى بإن يتخذ المسلم عنده كامل زينته في لباسه وفي هيئته . ولكنهم اخترعوا زياً للإحرام يزري بمن يرتديه ويكشف عورته جزئياً وربما أكثر . والمؤسف : أن يحدث ذلك في بيت الله الحرام .  

ثانيا  : عودة طواف العُرى فى التشريع السّنى

1 ـ رجع في صورة جزئية فيما يعرف بزي الإحرام حيث يتجرد المحرم من المخيط فلا يلبس ثوباً ولا قميصاً ولا بُرنساً ولا يغطي رأسه ولا يلبس خفاً ولا حذاء . وإذا فعل أوجبوا عليه فدية .. وذلك كله لا أصل له في الإسلام ، بل هو ردة إلى طواف العري الجاهلي . عاد طواف العري فيما عرف بالأضطباع أو الطريقة التي احدثوها في ارتداء زي محدد للأحرام. بدأ بها شباب قريش فى العصر الأموى مخالفين للاصلاح الذى حدث فى عهد الرسول عليه السلام . لذا كان طاووس الفقيه العابد يقول محتجّا على فتية من قريش يطوفون بالكعبة : ( إنكم تلبسون لبوسا ما كان آباؤكم يلبسونها، وتمشون مشية ما يحس الزفانون أن يمشوها )(طبقات ابن سعد 5 / 395 ).اذن أعادت العنجهية القرشية تواترها بالأبتداع في الزي .

2 ـ ثم ما لبث ذلك الأبتداع في الزي أن وجد مسوغاً شرعياً بالأحاديث التي راجت ثم تم تدوينها في العصر العباسي . وسنعرض لها فى المقال القادم .

ثالثا  : في رمي الجمرات : ـ

1 ـ لم يرد في القرآن أدنى إشارة لما يعرف برمي الجمرات، بل وردت في القرآن الطريقة المثلى في التعامل مع الشيطان وهي الأستعاذة بالله من شره ، ولكن يبدو أن الشيطان يصمم على أن يذكره الناس وهم يؤدون فريضة الحج ، وعلى أن يكون له نُصُب في بيت الله الحرام بأي شكل كان .

إن ذكر الله في الحرم من أهداف الحج العظيمة ، ولذلك فإن الله تعالى يدعو الحجاج الذين تركوا خلفهم الأهل والوطن إلى أن يذكروا الله أكثر من ذكرهم آباءهم وذلك بعد أن ينتهوا من مناسكهم ، يقول سبحانه وتعالى : ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً )(200 البقرة ) ولكن الذي حدث ان الشيطان اوعز اليهم  قبل وبعد نزول القرآن أن يضيفوا بعد انتهاء المناسك وبعد الوقوف بعرفة ( رجم ) مشهد إبليس.

2 ـ لقد كانوا في الجاهلية يقدسون صنمين لأساف ونائلة ويرمونهما بالجمرات وينحرون عندهما ، يقول ابن هشام : ( وأتخذوا أساف ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما ، وكان أساف ونائلة رجلاً وامراة من جرهم فوقع أساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين . قالت عائشة : ما زلنا نسمع أن اساف ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين.)( سيرة ابن هشام 1 / 82 : 83 ).ويقول ابن عباس: ( ان أسافا رجل من جرهم يقال له أساف بن يعلي ، ونائلة بنت زيد من جرهم كان يتعشقها في أرض اليمن فاقبلوا حجاجاً فدخلا الكعبة .. فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت ففجر بها في البيت فمسخا حجرين فاصبحوا فوجدوهما مسخين فاخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج من العرب )( ابن القيم : أغاثة اللهفان 2 / 215 .)

كانت قريش فى تواترها الباطل ترى فى رجم صنمى أساف ونائلة نوعا من التطهير السطحى والتشجيع على ممارسة الفجور. أى رجم رمز الانحلال داخل الحرم وجعله من مناسك الحج تكفيرا عما يحدث من إنحلال فى أسواق مكة . وجاء الإسلام وفتح الرسول عليه السلام مكة وحطم الأصنام التي حول الكعبة . ومنها صنما اساف ونائلة ولكن عادت إلى رسوم الحج رمي الجمرات على موضع أساف ونائلة . خصوصا وأنه فى العصر الأموى عاد الانحلال الخلقى حتى داخل الحرم وأثناء الطواف .

 رابعا : لمحة عن الانحلال الخلقى فى مكة والحرم فى العصر الأموى

1 ـ يكفينا هنا قراءة سيرة الشاعر القرشى المكّى عمر بن أبى ربيعة ت 93 ، وقد عرضنا له فى حلقة خاصة فى برنامج ( فضح السلفية ) ضمن حلقات خاصة عن زىّ المرأة وزينتها.

2 ـ (عمر بن أبى ربيعة )هو أشهر شعراء الغزل والمجون فى العصر الأموى ، عاش فى مكة يلهو بالنساء القادمات للحج ، يستعد للقائهن بأن يلبس لهن لباسا خاصا ويلتزم بطقوس معينة فى استقبالهن قبل مكة ثم يصطحبهنّ الى مكة ، ثم عند البيت كان يطارد الحسناوات حتى اللائى لهن أزواج ، وكان يسعى للقاء المشهورات من النساء من البيت الأموى والهاشمى ، وكنّ يسعين للقائه ليذكرهنّ فى شعره ، حيث كان الشعر وسيلة إعلامية هائلة وقتها. وفى سبيل هذه الشهرة تمت التضحية بقدسية البيت الحرام والحج اليه ، خصوصا وأن الدولة الأموية شجعت الانحلال الخلقى فى مكة والمدينة لشغل أبناء المهاجرين والأنصار عن الطموح السياسى ، وللهدف نفسه شجعت الشعراء فى أغراض المدح والهجاء والفخر والتفاخر والتعصّب القبلى ..والمجون . وجمع ابن أبى ربيعة بين الشعر والمجون لذا تمتع باحترام قريش أحبّه الناقمون منهم على الأمويين كابن عباس الذى كان معجبا بشعر ابن أبى ربيعة الماجن ، و أحبّه الأمويون وتغاضوا عن غزله أو تشبيبه بأميرات البيت الأموى .

3 ـ ـ : ومثلا ، يقول عمر بن أبى ربيعة متفاخرا بلقائه بمحبوبته فى الطواف حول الكعبة :

أبصرتها ليلة ونسوتها  يمشين بين المقام والحجر

ما إن طمعنا بها ولا طمعت حتى التقينا يوما على قدر

بيضا حسانا خرائدا قطفا يمشين هونا كمشية البقر

قد فزن بالحسن والجمال معا وفزن رسلا بالدل والخفر

ينصتن يوما لها اذا نطقت كيما يشرفنها على البشر

قالت لترب لها تحدثها لنفسدن الطواف فى عمر

قومى تصدى له ليعرفنا ثم اغمزيه يا اخت فى خفر

قالت لها قد غمزته فأبى ثم اسبطرت تسعى على اثرى

من يسق بعد المنام ريقتها يسق بمسك وبارد خضر )

4 ـ وقد أصبح الطواف بالبيت وسيلة للإحتكاك بالنساء ، فقال شاعر :

ياحبذا الموسم من موقف   وحبذا الكعبة من مسجد

وحبذا اللاتى تزاحمننا      عند استلام الحجر الأسود

فقال خالد القسرى والى مكة فى العصر الأموى : أما إنهن لا يزاحمنك بعدها أبدا . ثم أمر بالتفريق بين الرجال والنساء فى الطواف .( مروج الذهب للمسعودى ج 2 136 ).

خامسا : في الحج إلى المدينة :

1 ـ أوجبوا زيارة ما يعرف بقبر الرسول في المدينة . وجعلوا المدينة حرماً يضاهئون به حرم الله في مكة .. ومعلوم أن ذلك لا يمكن أن يكون من شعائر الحج التي عملها الرسول في حياته . فليس معقولاً أن يكون الرسول قد حج إلى المدينة ، او أن يكون قد زار قبره .. بل أنه عليه السلام لم يكن ليعرف أين سيكون مدفنه لأن الله سبحانه وتعالى يقول : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ )(34) لقمان ". ومع ذلك وضعوا حديثاً يقول " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة "ولا ندري متى قال ذلك ؟ أقاله بعد موته أم قبل موته ؟؟ .

2  ـ ولم يعرف الصحابة الحج إلا إلى الكعبة حرم الله في مكة . ولم يحدث ان قاموا بزيارة ما يعرف بقبر النبي  بعد موت النبى عليه السلام ، لأن هذا القبر لم يكن موجودا ، حيث تم دفنه عليه السلام فى حجرة عائشة كما يقولون ، وظلت تعيش فيها الى أن ماتت فى خلافة معاوية ، ولا يقال إن السيدة عائشة كانت تعيش فى قبر النبى ، فلم يكن ثمّة قبر للنبى بل حجرة تعيش فيها السيدة عائشة . وعندما هدم الخليفة الوليد بن عبد الملك مسجد المدينة والبيوت المحيطة به ومنها حجرات أمهات المؤمنين وأعاد بناء المسجد على مساحة كبرى ، لم يعد أحد يعرف اين هو بالتحديد الموضع الذى كانت فيه حجرة عائشة ضمن المساحة الكبرى لمسجد المدينة الجديد . ثم طرأت تحسينات وإضافات وتوسعات إستحال معها معرفة مكان حجرة السيدة عائشة .

3 ـ لذا فإن أقدم كتاب في الفقه وفي الأحاديث وهو (موطا مالك ) لم يرد به أدنى ذكر لزيارة المدينة أو القبر ضمن مناسك الحج . بل ان الشافعي فى تفصيلات كتابه ( الأمّ ) لم يذكر شيئا عن مناسك زيارة القبر في المدينة . والشافعى هو المؤسس الحقيقى للدين السّنى والذى بدأ بتقعيده فى ( الرسالة ) ووضع تفصيلاته شرحا لموطأ مالك ، فى كتاب ( الأم ) .

4 ـ ولكن لأن السّنة دين ارضى يصنعه أئمته لتلبية أهواء الناس وتعبيرا عن ثقافتهم فإنّ ماكينة إنتاج الأحاديث وتصنيعها أستمرّت بعد الشافعى تنتج آلاف الأحاديث ، وتضيف المزيد من تفصيلات الفقه السّنى وشرائعه ، ومنها ما يخصّ الحج الى قبر النبى ، بعد أن قام أهل المدينة فى القرن الثالث الهجرى بتحديد موضع قالوا إنه قبر النبى . وكان هذا تلبية ( لحاجة السوق ) ولانعاش المدينة إقتصاديا ، إذ كان الناس متشوقين لمعايشة ورؤية ولمس ومعاينة أى شىء مادى ملموس منسوب للنبى. فصنعوا لهم وثنا يأتون اليه بالنذور والقرابين ، ومن وقتها صار الحج لهذا الوثن ضمن معالم الحج ( للمسلمين ). !! . وبالتالى بدأت كتب الأحاديث فى البخارى ومسلم وغيرهما تتحدث عن فضائل المدينة واتخاذها حرماً ثم فضيلة الزيارة لقبر الرسول وشد الرحال إليه .

5 ـ  ثم عمّت البلوى بإنتشار التصوف والتشيع ، وهما يقومان على تقديس الأحجار والقبور ، فبدأت كتب التصوف والفقه والتشيع تتحدث عن رسوم وطقوس في زيارة قبر النبي وقبور الصحابة وآل البيت .هذا مع انهم يرددون الحديث القائل " من أحدث في ديننا شيئاً فهو عليه رد " وزيارة القبر والمدينة على أنها مناسك دينية تعتبر ابتداعاً في دين الله لم يعرفه الرسول في حياته ولا يمكن أن يكون من أصول الدين السّنى وفق المقاييس المعروفة لديهم ، ولم يعرفه الخلفاء الراشدون وأعلام الصحابة والتابعيون لهم في القرن الأول الهجري . ومن الطريف أن عمر بن الخطاب كان يقول " ولا تشد الرحال إلا إلى البيت العتيق " وذلك ما كان أبو الهذيل يسمعه من عمر:(البخاري 3 / 19 : 29 ، مسلم 4/ 112 : 127 ،طبقات ابن سعد 6 / 79 ). ولكنهم جعلوه حديثاً نبوياً بعد ان أضافوا مسجد المدينة والمسجد الأقصى ...

6 ـ وقبل الإسلام كان العرب يعرفون الحج للأنصاب والقبور المقدسة والتى حرّم رب العزة الأكل مما يقدّم لها من ذبائح . وبعض هذه الأنصاب كانوا يسمونها ( كعبات ) تشبيها لها بالكعبة ، وكانوا يحجّون إلى تلك الكعبات بجانب حجهم الى الكعبة ، وكان لتلك الأنصاب والكعبات حمى أو حرم ، بل كانت مراسيم الحج لتلك الأنصاب تماثل الحج لبيت الله من الذبائح أو الهدى الى الطواف .يقول ابن القيّم : ( وكانت العرب قد أتخذت من الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاج ، وتهدى لها كما تهدى للكعبة ، وتطوف بها كما تطوف بالكعبة وتنحر عندها كما تنحر عند الكعبة ، وكان لبني الحارث ابن كعب كعبة بنجران يعظمونها وهى التي ذكرها الأعشى في قوله :

وكعبة نجران ختم عليك      حتى تناخي بأبوابها ..) ( أغاثة اللهفان 2 / 219 ).

كما يقول ابن هشام فى السيرة عن ( ذي الكعبات ) : (أنه كان لبكر وتغلب ابني وائل واياد بسندان وفيه يقول الأعشى : ـ

بين الخوريق   والسدير وبارق    والبيت ذو الكعبات من سندان "  ( سيرة ابن هشام 1 / 88 .)

7 ـ والحج للأولياء والأضرحة أو المشاهد أى ( الأنصاب )أبرز طقوس الدين الصوفى والدين الشيعى حتى اليوم . بل تتعدّد الأوثان أو الأنصاب المقدسة لنفس الشخص ، ويتشارك الشيعة والصوفية فى تقديسها مثل مشاهد الحسين ومشاهد السيدة زينب . ولكن يظل القبر المنسوب للنبى عليه السلام هو الأكثر تقديسا ، ولذا جعلوا زيارته أو الحج اليه ضمن معالم فريضة الحج .. يشترك فى ذلك كل أتباع الديانات الأرضية من سنّة وشيعة وصوفية ،هذا مع أنه طبقا للقرآن الكريم هو رجس من عمل الشيطان ، بما يدلّ على التناقض الهائل بين الاسلام والمسلمين فى عقيدة ( لا إله إلّا الله )، كما يدُلّ على العداء الهائل بين أولئك المسلمين والنبى عليه السلام الذى كانت دعوته أنه لا اله إلا الله :(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ  ) (19) ( محمد )ولهذا جاهد وعانى وأوذى عليه السلام ، فجاء هؤلاء يجعلونه هو شريكا مع الله جل وعلا فى الصلاة  والأذان والذّكر وفى الحج بل وفى شهادة الوحدانية الاسلامية ( لا إله ألّا الله ).

 

 الفصل الحادى عشر والأخير :  لمحة عن إختلافات الدين السّنى فى مناسك الحج

 أوّلا  ـ  إختلافات فى الحجّ السّنى ومحاولات التوفيق والتلفيق 

1ـ الأختلافات هي السمة البارزة في فقه المناسك ورواياتها . فعن أركان الحج نجد اختلافاً بين المذاهب . فعند الأحناف هناك ركنان فقط للحج هما طواف الأفاضة والوقوف بعرفة ،أمّا الشافعية والمالكية والحنابلة فقد قالوا بالأركان الأربعة للحج وهي الأحرام وطواف الأفاضة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة . وزاد الشافعية الحلق أو التقصير وترتيب معظم الأركان . ويرى صاحب تفسير المنار ان أركان الحج خمسة هي الأحرام من الميقات ،والوقوف بعرفة ،والطواف بالكعبة ،والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير للشعر:( تفسير المنار 2/177 ). ثم هناك اختلافات فرعية في تفصيلات المناسك .

2 ـ ولأن الحج عبادة عملية يؤديها المسلمون معاً من كل ملّة برغم إختلاف أديانهم الأرضية فقد بدأت مؤلفات سنيّة حديثة تحاول تجميع الآراء الفقهية المذهبية في رأي واحد ، فما كان فيه بعض إتّفاق في الألتزام به جعلوه ركناً واجباً ، وما كان فيه أختلاف جعلوه مندوبا مستحباً ، وما كان فيه اختلاف في تحريمه جعلوه مكروهاً . وأبرز الكتب في هذا المجال هو " منهاج المسلم " لأبى بكر الجزائرى . وهذا الكتاب  يعبر عن الحج العملي السلفى الملتزم بالوهابية التى تسيطر على فريضة الحج ومناسك الحج وعلى البيت الحرام، وبالتالى فما ذكره الوهابى صاحب " منهاج المسلم " هو ــ فى أغلبه ـــ الذي يؤديه المسلمون اليوم . ومحاولة التجميع والتوفيق والتلفيق هذه تخفى إختلافات أساس بين صنّاع الدين السّنى فى مناسك الحج.   

ثانيا : إختلافات عامة في الحج

1 ـ طبقا لروايات العصر العباسى لأئمة الدين السّنى فإن أعلام الصحابة المتفقهين كانوا اول من بدأ الأختلاف في فقه المناسك في الحج . ولا نرى هذا ، بل نعتقد أن أولئك الفقهاء إختلفوا فيما بينهم فحاول كل منهم تعزيز رأيه ليس بالاستشهاد بالقرآن الكريم والاحتكام اليه، ولكن بأسهل طريق وهو الكذب ونسبة آرائه الى النبى عليه السلام والصحابة لتكتسب قدسية وتتحصّن من النقد والنقاش . ولكن لأنهم جميعا إحترفوا هذا الكذب على النبى الصحابة فقد تعارضت تلك الأحاديث وتناقضت مع بعضها ، لذا نرى شيوع الاختلاف بين أولئك الفقهاء ـ صُنّاع الدين السّنى ـ ليس فقط أختلافهم فيما بينهم ولكن تناقضهم مع أنفسهم . هذه لمحة تفسر ما سنورده هنا .

2 ـ يروي مسلم حديث انس انه رأي النبي جمع بين الحج والعمرة وقال الراوي : فسألت ابن عمر فقال : اهللنا بالحج فرجعت إلى انس فأخبرته ما قال ابن عمر فقال كأنما كنا صبياناً"  ( مسلم 4/53 ). أي أن أنس يعرض بابن عمر الذي كان صبياً في حياة النبي ، ويروي ابن سعد ان أنس بن مالك أحرم " فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى حل وقال : با ابن أخي هكذا كان الإحرام. "( تفسير ابن كثير1/237 ) فهنا تعريض خفي من أنس بما يفعله الآخرون في الإحرام .

وقد نفهم من يقصده أنس بن مالك بالتعريض إذا قرأنا ما نقله ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس وهو يرى أن الرفث المحظور في الحج هو ما يقال فقط عند النساء ، أمّا ما يقال عن النساء بعيدا عنهن فليس من الرفث مهما كان الكلام فاحشا وبذيئا . ولذلك كان يرتجز وهو في الإحرام بألفاظ فاحشة ، فيروى أبوالعالية الرياحى عن ابن عباس أنه كان يحدو ـ أى يغنى ـ وهو محرم فيقول عن الابل التى يركبها:

وهن يمشين بنا هميسا                             ان تصدق الطير ننك لميسا

فقال أبو العالية : تكلم بالرفث وأنت محرم ؟ قال ما أنما الرفث ما قيل عند النساء.

وهناك رواية أخرى تقول أن أبا حصين بن قيس قال : أصعدت مع ابن عباس فى الحاج ، وكنت خليلا له ، فلما كان بعد احرامنا قام ابن عباس فأخذ بذنب بعيره ، فجعل يلويه ويرتجز ، ويقول

وهنا يمشين بنا هميسا                    أن تصدق الطير ننك لميسا

قال : قلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال أنما الرفث ما قيل عن النساء ( تفسير ابن كثير 1/237 ) والمعروف أن الرفث هو الجماع وما دونه من قول الفحشاء مع النساء أو بدونهن، ولميس هى جارية ابن عباس ، وهو يريد انه سيعود ليمارس معها الجنس،واستعمل لفظا نابيا ( ننك ) من كلمة ( نيك).

3 ـ وفي رواية أخرى في صحيح مسلم ترى إختلافاً في الرأي بين ابن عمر وابن عباس . يروي مسلم حديث وبرة " كنت جالساً عند ابن عمر، فجاءه رجل فقال أيصلح لي ان اطوف بالبيت قبل ان آتي الموقف ؟ فقال : نعم فقال : أن ابن عباس يقول : لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف. فقال ابن عمر : فقد حج رسول الله (ص) فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فيقول رسول الله أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس ان كنت صادقاً ..". ويأتي مسلم برواية أخرى " سأل رجل بن عمر : أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج ؟ فقال : وما يمنعك ؟ قال : اني رأيت أن فلاناً يكرهه وانت أحب إلينا منه  ، رأيناه قد فتنته الدنيا . فقال : وأينا وأيكم لم تفتنه الدنيا . ثم قال : رأينا رسول الله أحرم بالحج وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فسنة الله ورسوله أحق ان تتبع من سنة فلان إن كنت صادقا . " . ( صحيح مسلم 4/53 ).

ثالثا : إختلافات في المواقيت التى إبتدعوها فى الاحرام :

1 ـ إبتدعوا للإحرام مواقيت ثم إختلفوا فيها . قالوا إنّه يبدأ الأحرام من الميقات أو المكان الذي زعموا أن النبى قام بتوقيته أو ( وقّته ) للحجّاج القادمين من هذا المكان أو ذاك ، وأنه ينبغي عليهم الأحرام عنده وبحيث إذا تعداه بلا إحرام وجب ان يعود إليه ليحرم عنده،وهذا إبتداع لم يأت ذلك في كتاب الله جلّ وعلا .ولكن أوجبت الميقات كتب الفقه وصنعت  له الروايات .

2 ـ وحديث الميقات للحج جاء منسوباً لعبد الله بن عمر، أى جعلوا إبن عمر مشرّعا له ، يقول إبن عمر : ( يهلّ اهل المدينة من ذي الحليفة ويهلّ أهل الشام  من الجحفة ويهلّ اهل نجد من قرن )، ثم قال إبن عمر : (ويزعمون أنه ـ أي النبي ـ قال : ويهل اهل اليمن من يلملم ).( الموطأ 133 ، صحيح البخارى ، 2/165 صحيح مسلم 4/6:7 ) . ولكن الحديث يعنى أن أهل الشام كانوا يؤدون الحج في عهد النبي ، وليس لذلك سند في التاريخ لأن الفتوحات العربية توطّدت في أواخر عهد عمر في الشام والعراق.

3 ـ ورويت أحاديث تجعل ميقات العراق والمشرق في ذات عرق . ويروي البخاري حديثاً لابن عمر يقول فيه أنه لما فُتح المصران يعني الشام والعراق : ( أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين ان رسول الله حدَ لأهل نجد قرناً وهو جور عن طريقنا وانا إن أردنا قرنا شق علينا . قال : فأنظروا خذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق . )..  إذن فالميقات ليس تشريعاً إلهياً وإنما تشريع سنّى مصنوع صنعه عمر تارة ، وصنعه ابن عمر تارة أخرى .!.

4 ـ وشكّك الشافعي في " الأم " فيما نسبوه للنبي من توقيت ذات عرق لأهل المشرق بحجة أنه :( لم يكن أهل المشرق حينئذِ )، يعني لم يكن هناك إسلام وقتها في المشرق في عصر النبي ، وقال : (سمعنا أنه وقّت ذات عرق أو العقيق  لأهل المشرق قال ولم يكن عراق ) أى لم يكن العراق قد تمّ فتحه فى عهد النبى . وقال : ( لم يوقّت النبي ذات عرق ولم يكن حينئذِ أهل مشرق ، فوقّت الناس ذات عرق .)،وقال : ( لم يوقّت النبي( ص ) لأهل المشرق شيئاً فأتخذ الناس بجبال قرن ذات عرق .). أي ان الناس هم الذين أختاروا ذلك المكان وليس النبى عليه السلام . ويروي الشافعي أيضاً عن ابن سيرين أن الخليفة عمر هو الذي وقّت ذات عرق لأهل المشرق ، ثم يخلص الشافعي من ذلك إلى أن الحاجّ : ( لا يضيق عليه أن يبتدىء الاحرام قبل الميقات ، كما لا يضيق عليه لو احرم من أهله ، فلم يأت الميقات إلا وقد تقدم بإحرامه . ). والشافعي هنا اوسع عقلاً من غيره لأنه ألمح إلى عدم الأعتداد بالميقات في الأحرام بالكلية . إلا أنه عاد إلى تحفظه فقال : ( ومن سلك بحراً او براً من غير وجه المواقيت  أهلّ بالحج اذا حاذى المواقيت ) ثم إستمر فى إبداء رأيه فقال : ( وأحبٌ إلى أن يحتاط فيحرم من وراء ذلك ).( الشافعى الأم 2/118 ).

5 ـ والشافعى فيما ( يحبّ ) نراه متأثرا برأي الفقيه التابعى عطاء القائل : ( من سلك بحراً أو براً من غير جهة المواقيت أحرم إذا حاذى المواقيت ).أى إذا كان فى سفينة فى عرض البحر وحاذت السفينة الميقات فعليه أن يبدأ الإحرام والاهلال قائلا :( لبيك اللهم لبيك ) . فكيف يعرف وهو فى السفينة أنه حاذى الميقات ؟ هل كان لديه فى عصر الشافعى بوصلة أو خريطة من جوجل .؟ أو BJS؟.وما الذي يفعله الحجاج القادمون من شتى بلاد العالم من آسيا وأفريقيا واستراليا والأمريكيتين ؟. ثم ، ما الداعي إلى تشريع لم يأت في كتاب الله ولم نستفد منه إلا الإختلاف .؟ واضح أن هؤلاء قاموا بالتشريع بقدر ما تصل اليه مداركهم ، وصنعوا دينا سنيّا خاطوه ثوبا على قدر حجمهم ، ثم إختلفوا ونسبوا للنبى عليه السلام المتناقض من التشريعات .  وبدلا من هذا التخبّط والاختلاف ، لماذا لا نرجع الى كتاب الله جلّ وعلا ، والمفهوم منه أنّ المحرم يبدأ إحرامه إذا دخل الحرم. 

رابعا : إختلافات فى محظورات الاحرام  

1 ـ وقد إبتدعوا من محظورات الأحرام استعمال الطيب ، أي العطور. وكالعادة إختلف أئمة الدين السّنى فى هذا ، وتبارزوا بالأحاديث كعادتهم .  يروي الشافعي في ( الأم ) أن عمر قال : ( اذا رميتم الجمرة فقد حُلّ لكم ما حُرّم عليكم إلا النساء والطيب ):( الشافعى 2/128: 129 ). وردّ آخرون على الشافعى بوضع حديث نسبوه للسيدة  عائشة يزعمون أنها قالت :( كنت اطيّب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحلّه قبل ان يطوف بالبيت ). أي أن عائشة في هذه الرواية المصنوعة لا ترى إستعمال الطيب للمحرم حراماً .  

2 ـ وفي صحيح مسلم رواية أخرى تحرّم إستعمال العطور والطيب ، يرويها عن ابن المنتشر عن أبيه قال : ( سألت عبدالله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرماُ فقال : ما أحبّ ان أصبح محرماً أنضح طيباً ، لأن أطلى بقطران أحب إلى من أن أفعل ذلك .!!). ويقول الراوي فدخلت علي عائشة فأخبرتها ،فقالت : ( أنا طيّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احرامه ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرماً ).( صحيح مسلم 4/12 :13 ). 

3 ـ وليس محظورا في كتاب الله استعمال الطيب في الإحرام .بل إنه من الممنوع فى شرع الله تحريم ما أحلّه الله جل وعلا من الطيبات : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32). بل إن من أشد المحرّمات الافتراء على الله جلّ وعلا : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)( الاعراف ).

4 ـ إن المحظورات في الحج هي الرفث والفسوق والجدال وقتل الصيد وحلق الرأس أثناء الإحرام ـ حتى لا يقتل المحرم ما قد يكون في رأسه من حشرات ـ وقد جعل الله فدية على من يحلق رأسه وهو محرم أو من يقتل الصيد البري .يقول سبحانه وتعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (196)البقرة ) . ولكنهم ـ في التشريع السّنى أوجبوا الفدية على كل المحظورات التي ابتدعوها. وقد رددت كتب الأحاديث حديث كعب بن عجرة وزعموا فيه أنّ النبى مرّ به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة،والقمل يتهافت على وجهه فقال له النبى بزعمهم  : أيؤذيك هوامّك ؟ قال : نعم . قال : فأحلق رأسك واطعم فرقاً بين ستة مساكين ( والفرق ثلاثة أصع )أو صم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكة ، قال بن أبي نجيح أو ذبح شاة .). هذا القول الذى زعموه يتفق مع كتاب الله ، ويتفق مع المفهوم من الحج ومعنى حرم الله الآمن الذي يأمن فيه كل مخلوق من الحشرة إلى الإنسان، والذى لا يحلّ فيه قتل أى دابة.  ولكن زعموا حديثاً آخر يبيح قتل  خمس فواسق في الحرم: (وهن الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العقور.)(صحيح مسلم 4/18 ، موطأ مالك 147 ) .

خامسا : اختلافات في الطواف بالبيت والحجر الأسود :

1ـ الأصل في الطواف ألا يلمس الطائف بالبيت جدار الكعبة حتى لا يتحوّل بناء الكعبة الحجرى الى وثن مقدّس، وهكذا كانوا يفعلون إلا إذا تعوذ احدهم ببيت الله عندئذ يتعلق بأستار الكعبة ، يروي ابن سعد عن الحارث بن عبدالله بن ربيعة قوله :( طُفت مع عبدالملك بن مروان بالبيت فلما كان الشوط السابع دنا من البيت يتعوذ، فجذبته فقال : مالك يا جابر ؟ قلت يا أمير المؤمنين : أتدري أول من فعل هذا ؟ عجوز من عجائز قومك قال : فمضى عبدالملك ولم يتعوذ..).( طبقات ابن سعد 5/171 ). لم تكن مبتدعات الدين السّنى قد استشرت في القرن الأول الهجري، إلا انها في العصر العباسي ازدادت واحتاجت إلى تسويغ شرعي كاذب ، فتكفلت بذلك أحاديث منسوبة للنبي ولكبار الصحابة بعد موتهم بقرنين وأكثر، ثم إختلفوا فيها كالعادة .

2 ــ ومن ذلك أنهم جعلوا من استلام الحجر الأسود والركن اليماني أهم ما يحرص عليه الطائفون.والحجر الأسود هو علامة لابتداء الطواف، ولكن ما لبثوا أن جعلوه حجراً مقدساً يتبرك به المسلمون ويتصارعون للوصول إليه مع أنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ومع انه لا تقديس لأي حجر في الإسلام . ومشهور ذلك الحديث الذي يقول أن عمر قال للركن ـ أو الحجر الأسود ، أما والله اني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا اني رأيت رسول الله ( ص ) استلمك ما استلمتك .)( البخارى 2/185، وبلوغ المرام لأبن حجر 72 ).ويعارضه حديث آخر يزعم أن ابن عباس كان يقبّل الحجر الأسود ويسجد عليه ، وقد رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً . ( بلوغ المرام لأبن حجر 698 ).وأتى مسلم بأقاويل منسوبة لابن عمر يقول فيها أنه لم ير النبي يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين.). ( صحيح مسلم 4 / 65 : 66 )

3 ــ وقد اورد الشافعي هذه الروايات عن الحجر الأسود واستلامه وتقبيله هو والركن اليماني ثم قال يعبّر عن وجهة نظره : ( وإذا ترك استلام الركن لم أُحبّ ذلك له ولا شيئ عليه ، اخبرنا سعيد ابن سالم عن إبراهيم بن نافع قال : طفت مع طاوس فلم يستلم شيئاً من الأركان حتى فرغ من طوافه.).( الأم 2/145 : 146 ). وطاووس هذا من التابعين ، وقد جعلوه مصدرا للتشريع .!!. وإذا كان النبي قد فعل ذلك فعلاً فهو من شعائر الطواف التي ينبغي التمسك بها ـ ولكن لأنّ الشافعي ليس متأكداً منها لذلك لم يجعل استلام الركن وتقبيل الحجر الأسود واجباً ولم يجعل شيئاً على الذي لا يفعل ذلك ، واستدل بإن طاوس ـ العابد ـ  كان لا يستلم شيئاً من الأركان ، والواقع أن عصر طاوس في القرن الأول الهجري لم يعرف ذلك التقديس لأركان الكعبة والحجر الأسود ، ولم يذكر مالك في الموطأ تقبيل عمر للحجر الأسود ،وذكر فقط ان ابن عمر كان يمسّ الركنين اليمانيين: ( الموطأ 161 ) .و يقول الشافعي لا اختلاف في ان حدّ مدخل الطواف من الركن الأسود وأن كمال الطواف إليه.. 

سادسا : أختلافهم فى زى الاحرام

1 ـ وقلنا إن طواف العرى " رجع في صورة جزئية فيما يعرف بزي الإحرام حيث يتجرد المحرم من المخيط فلا يلبس ثوباً ولا قميصاً ولا بُرنساً ولا يغطي رأسه ولا يلبس خفاً ولا حذاء .. وإذا فعل أوجبوا عليه فدية .. وذلك كله لا أصل له في الإسلام ، بل هو ردة إلى طواف العري الجاهلي . عاد طواف العري فيما عرف بالأضطباع أو الطريقة التي احدثوها في ارتداء زي محدد للأحرام. بدأ بها شباب قريش فى العصر الأموى مخالفين للغصلاح الذى حدث فى عهد الرسول عليه السلام . لذا كان طاووس الفقيه العابد يقول محتجّا على فتية من قريش يطوفون بالكعبة : ( إنكم تلبسون لبوسا ما كان آباؤكم يلبسونها، وتمشون مشية ما يحس الزفانون أن يمشوها )(طبقات ابن سعد 5 / 395 ).اذن أعادت العنجهية القرشية تواترها بالأبتداع في الزي . ثم ما لبث ذلك الأبتداع في الزي أن وجد مسوغاً شرعياً بالأحاديث التي راجت ثم تم تدوينها في العصر العباسي .

2 ـ ولأنه ابتداع لا أصل له في الدين فقد اختلفت فيه الأحاديث وتناقضت ..هناك حديث ابن عمر " لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويل ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين  " وهناك رواية أخرى لمسلم يزعم فيها ان النبي نهى أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بزعفران أو ورس)  ( مسلم 4 / 2 : 3 ، البخاري 3 / 19 الأم للشافعي 2 / 125 ، الموطأ 145 ). ثم نرى أحاديث أخرى تناقض ما سبق ،  فابن عباس فيما يزعمه مسلم ـ يبيح السراويل لمن لا يجد الأزار والخفاف لمن لم يجد النعلين ،وحديث جابر " من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد ازاراً فليلبس سراويل)( مسلم 4 / 2 :3 ،الأم للشافعي 2 / 125 )،ثم حديث البخاري  الذى يزعم أنه (..وانطلق النبي من المدينة بعدما ترجل وأدهن ولبس أزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيئ من الاردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تزرع على الجلد )( البخاري 2 / 169 .) إذن لا نهي هنا عن القمص والعمائم والسراويل والبرانس .. الخ .

3 ـ . ثم نأتي إلى طريقة أرتداء ذلك الزي وهي ما يعرف بالأضطباع ، وهو ليس من مصطلحات القرآن أو من مفرداته ، وهو تعرية المنكب الأيمن مع جزء من أعلى الجسم والصدر ، والأصل فيه كما يزعم الشافعي ان أبن جريح بلغه أن رسول الله ( ص ) اضطبع بردائه حين طاف "  (الأم 2 / 148  ) .وكيف يعرف جريح بذلك وهو من التابعين ؟ ، فهذا الجريج ( جورج الصغير ) لم ير النبى عليه السلام لأنه من أبناء الموالى بعد الفتوحات. !! وبعد الشافعي زعمت كتب الأحاديث حديث يعلي بن أمية أن النبي طاف مضطبعاً ببرداً اخضراً ، وقد رواه الخمسة إلا النسائي :( الصنعاني سبل السلام 2 / 384 .)

4 ـ ونعود للشافعي وهو يزعم أن عمر بن الخطاب استلم الركن ليسعى ثم قال عمر متسائلا :( لمن نبدي الآن مناكبنا ومن نرائى وقد أظهر الله الإسلام ؟ ):( الأم 2 / 148 .)، ومعناه ان الأضطباع ـ أو أظهار المناكب في الطواف كان طريقة أظهر بها النبي للمشركين قوته وهو يطوف بأصحابه أمامهم . ولا يبدو الشافعي مقتنعاً بوجوب زي محدد للإحرام ولا يوجب الأضطباع ، فهو يقول : ( ومن لم يجد أزاراً لبس سراويل ، فهما سواء .)، ويرد من طرف خفي على تحريم الثوب المصبوغ فيورد رواية تقول أن أسماء بنت أبي بكر كانت تلبس المعصفرات المشبعات وهي محرمة ، ويقول أن عمر بن الخطاب أبصر على عبدالله بن جعفر  ثوبين مضرجين وهو محرم فقال ما هذه الثياب ؟ فقال علي بن أبي طالب : ما اخال أحداً يعلمنا السنة فسكت عمر.)(نفس المرجع 2 / 148)(وحديث في نفس المعنى في الموطأ 146) . ثم يقول الشافعي عن الزي والأضطباع معاً : ( والأضطباع ان يشتمل بردائه على منكبه الأيسر ومن تحت منكبه الأيمن حتى يكون منكبه الأيمن بارزاً حتى يكمل سبعة . وأن كان في ازار و عمامة أحببت أن يدخلها تحت منكبه الأيمن وكذلك إن كان مرتدياً بقميص او سراويل أو غيره . وان كان مؤتزراً لا شيئ على منكبيه فهو بادي المنكبين لا ثوب عليه يضطبع فيه ثم يرمل حين يفتح الطواف ، فإن ترك الأضطباع في بعض السبع اضطبع فيما بقى منه ، وإن لم يضطبع بحال كرهته له كما اكره له ترك الرمل في الأطواف الثلاثة . ولا فدية عليه ولا اعادة.)( الأم 2 / 148). والشافعى يجعل من نفسه مصدرا للتشريع ، فهو يكرّر فى كتابه ( الأم ):( أحبّ أن يفعل كذا أو أحببت أن يفعل كذا أو من السّنة كذا ، وأكره له كذا ..).والمقصد هنا أن الشافعي لا يرى بأساً إذا طاف المحرم في ازار وعمامة وقميص وسراويل وغيره .. ولا يرى بأساً إذا ترك الأضطباع ولا فدية عليه .اما نحن فنرى باساً وحرجاً في أن يكشف الرجل عن جسده وهو يطوف ببيت الله وحوله نساء ، ونرى انه خروج عن امر الله تعالى حين قال : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (31) الأعراف)، وأمر الله أولى بالطاعة . وطالما نحن في بيت الله فلابد أن نطيع صاحب البيت ولا نعصي امره ولا نكرر قصة الجاهلية في طواف العرى الكلّى أو الجزئى .

سابعا : إختلافهم فى ( الرمل )

1 ـ  وهناك إختلاف فى (الرمل) في الطواف ثلاث مرات ثم المشي أربعة. والرمل هو ان يسارع الطائف في مشيه مع تقارب خطاه . وهو طريقة في الطواف زعموا أن النبي بدأها وشرعها ليُري المشركين في مكة قوته وقوة أصحابه . ويزعم البخاري أن عمر إعترض عليها وقال :( فما لنا وللرمل ؟ انما كنا رائينا به المشركين وقد أهلكهم الله ، ثم قال : شيئ صنعه النبي فلا نحب ان نتركه ).(البخارى 2/185 )، وهنا تناقض فى حديث البخارى ، فقد جعل عمر يعترض على الرمل فى الطواف لأنه كان فى ظروف محددة إنتهت ، ثم يختم الحديث بألّا يتركوا شيئا عمله النبى .! .

2 ـ ويروي مسلم ان أحدهم سأل ابن عباس:( أرأيت هذا الرمل بالبيت... أسنُة هو ؟ فإن قومك يزعمون انه سنُة ؟ قال صدقوا وكذبوا..إن رسول الله ( ص ) قدم مكة فقال المشركون أن محمداً وأصحابه لا يستطيعون ان يطوفوا بالبيت من الهزال ، وكانوا يحسدونه ، فأراهم  رسول الله أن يرملوا ثلاثة ويمشوا أربعة.). ويؤكّد مسلم هذا الحديث بحديث آخر لابن عباس: ( إنما سعى رسول الله ( ص ) ورمل بالبيت ليري المشركون قوته.)(مسلم 4/64: 65 ).

3 ـ وبالتالى فإن طريقة الطواف بالرمل فى نظرهم شريعة إنتهى مفعولها ولم يعد لها محل من الاعراب ، وإذن فما الداعى للإختلاف حولها طالما أنه لا تقدّم ولا تؤخّر ؟  لذا لا نعجب إذا قال الشافعي: ( وترك الرمل عامداً ذاكراً وساهياً وجاهلاً سواء ، لا يعيد ولا يفتدى من تركه . ) وهنا يكون كلامه مقبولا . إلّا إن الشافعى كعادته يستدرك على نفسه ليقول لنا ما يحبّه وما يكرهه جاعلا نفسه مصدرا للتشريع ، يقول عن الرمل : ( غير أني أكرهه للعامد ولا مكروه فيه على ساهِ ولا جاهل ، وسواء في ذلك كله طواف نسك قبل عرفه وبعدها في كل حج وعمرة .) ( الأم 2/149 ).وقلنا إنّ منهج الشافعى فى كتابه ( الأم ) أن يكرّر كلمة ( أحبّ كذا ، وأكره كذا ) أى يعطى وجهة نظره الشخصية فيما يحبّ وفيما يكره. أى قال الشافعي هنا (إني أكرهه للعابد ) فجاء الفقهاء بعده يقولون إنه مكروه .. وأصبح المكروه حكماً فقهياً ، طالما كرهه الشافعى .!!.

ثامنا : اختلافات في السعي بين الصفا والمروة :

1 ـ لم يتحدث القرآن الكريم عن ( وجوب السعي ) بين الصفا والمروة  وإنما قال جلّ وعلا : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة ) إذن هو طواف وليس سعياً. وقد ذكر القرآن أنه تطوع يثيب الله جلّ وعلا فاعله ، وبالتالي فليس فرضا واجبا يأثم تاركه . 

2 ـ ولكن الاختلاف ما لبث أن لحق بذلك الأمروتشعّب مع وضوحه. وقد ذكر ابن كثير بعض هذه الخلافات فى حديث صفية بنت شيبة أن إمرأة أخبرتها أنها سمعت النبي يقول : "كتب عليكم السعي فاسعوا ". فهل يقول النبى عليه السلام حكما يخالف قوله جلّ وعلا : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ )؟.

ولكن هذا الحديث الباطل قد استدل به من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج . ويقول إبن كثيرعمّن جعل السعى بين الصفا والمروة ركنا من أركان الحج ومن إختلف معهم : ( كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ،ورواية عن أحمد ،وهو المشهور عن مالك . وقيل انه واجب وليس بركن فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة ، وقيل بل هو مستحب وإليه ذهب ابوحنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس،وحُكي عن مالك .).( تفسير ابن كثير 1/199) .

3 ـ وقد إختلفوا فى عدد مرات الطواف أو السعى بين الصفا والمروة ، فأوجب الشافعي أن يكون الطواف بين الصفا والمروة سبعاً وقال : ( فلو صدر ولم يكمله سبعا فإن ترك من السابع ذراعاً كان كهيئة لو لم يطف ورجع حتى يبتدئ طوافاً. ) . ( الأم 2/178 ) هذا مع ان مسلم يروي عن جابر: ( ولم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً.). ( مسلم 4 / 70 ).

4 ـ والمفهوم من قوله سبحانه وتعالى : ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) أنه أستعمل الفعل مضعفا " يَطَّوَّفَ " ليدل على الزيادة ولم يقل ( يطوف ) بدون تضعيف ، ويلفت النظر ان القرآن العزيز استعمل نفس اللفظ في الطواف في البيت فقال (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الحج ).إذن هو سبعة أشواط كالطواف بالبيت. مع كونه تطوعاً وليس ركناً يسقط الحج بتركه .

تاسعا : أختلافات في مناسك المرأة في الحج  

1 ـ ليس فى القرآن الكريم أحكام خاصة بالمرأة فيما يخصّ الحج . فالحج هو على المستطيع رجلا كان أم إمرأة . وكل مناسك الحج والأوامر الخاصة به تأتى للجميع رجالا ونساءا. ولا يمنع الحيض المرأة من الطواف وبقية المناسك . ولكن الذكور أئمة وصنّاع الدين السّنى المصنوع جعلوا التشريع السّنى يخالف ذلك لأنه يزدرى المرأة ويجعلها ناقصة عقل ودين. وهذا أيضا لم ينج من الخلافات بينهم ، وهم كالعادة تبارزوا بالأحاديث ـ كل منهم يصيغ وجهة نظره فى صيغة حديث ، فيردّ عليه الآخر بحديث ، وهى  أحاديث متعارضة لم يسمع بها الصحابة الذين إنشغل معظمهم بالفتوحات والفتنة الكبرى ، والسياحة فى البلاد المفتوحة والتزوج من بناتها والتسرى بالسبايا ، وجمع الأموال والضياع .

2 ـ صنع أئمة الدين السّنى أحاديث تفيد بإن المرأة تشارك في مناسك الحج من طواف وسعي . منها   حديث السيدة عائشة ( خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً ، قالت : فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك لرسول الله فقال أنفقي رأسك وامتشطي واهلي بالحج ودعي العمرة ، قالت ففعلت فلما قضينا الحج  ارسلني رسول الله مع عبدالرحمن ابن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت .).وهناك رواية أخرى تزعم أنها  ( قالت خرجنا مع النبي (ص ) ولا نرى إلا الحج حتى إذا كنا بسرف أو قريباً منها  حضت ،  فدخل علي النبي وأنا ابكي فقال : أنفست ؟ ( يعني الحيضة ) قلت نعم قال إن هذا شيئ كتبه الله على بنات آدم فأقضي ما يقضى غير ان لا تطوفي بالبت حتى تغتسلي . ) وفي رواية جابر في نفس الحديث تقول : ( وكان رسول الله (ص) رجلاً سهلاً إذا هويت الشيئ تابعها عليه فأرسلها مع عبدالرحمن ابن أبي بكر فأهلت بعمرة من التنعيم . .. فكانت عائشة ‘ذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله ..) ( مسلم 4/27، 30، 35:36) . أى رأى فريق من صانعى الدين السّنى منع الحائض من الطواف فقط  مع تأديتها بقية المناسك .

 إلا أن الشافعي يتطرف فيحكم بمنع المرأة من السعى والطواف جميعا ، ويزعم أن هذا قول ابن عمر :( وليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة )، ويقول : ( وسئل عطاء " أتسعى النساء ؟" فأنكره نكرة شديدة " وروى مجاهد : رأت عائشة النساء يسعين بالبيت فقالت أما لكن فينا أسوة ؟ فما عليكن سعي .). ( الأم 2/ 150 ) .

ويزداد التناقض برواية البخاري أن الخليفة الأموى هشام ابن عبد الملك منع النساء فى عهده من الطواف مع الرجال فاعترض عليه عطاء :( .. فقال عطاء : كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي مع الرجال ؟ )(البخارى 2/187). فهنا تناقض عجيب فى الأقاويل المنسوبة لعطاء. وهو من فقهاء التابعين فى العصر الأموى . نراه هنا  يعترض على منع النساء من الطواف مع الرجال ، أى يؤيد حقهنّ فى الطواف والسعى ، ثم نرى عطاء نفسه في رواية الشافعي يحتج على أن تسعى النساء مطلقاً وحدهن او مع الرجال ، ثم حديث آخر تحتج فيه عائشة على النساء سعيهن بالبيت ، وحديث سابق عن أداء عائشة للمناسك مع النبي والمؤمنين في حجة الوداع . نحن هنا أمام آراء متعارضة لبشر مختلفين فيما بينهم ، ولكن هؤلاء البشر هم صنّاع الدين السنّى الأرضى ، وهذا يؤكّد أنها شريعة بشرية ليست عالية الجودة ن بل متناقضة ومتخلّفة . ثم يأتى الوهابيون الأفّاقون فى عصرنا يزعمون بأن تلك الشريعة السّنية البشرية هى شريعة الله .!!

3 ـ ومن أسباب ذلك التناقض هو ذلك الانحلال الخلقى الذى كان يحدث في العصرالأموي وإستمر بعده ، ووصل الى الطواف حول البيت وقت إختلاط الرجال بالنساء مما ادى إلى ذلك التحذير الموجه للنساء ، وذلك أستدعى من الشافعي أن يقول : ( لا رمل على النساء ولا سعي بين الصفا والمروة ولا اضطباع .. وذلك انهن مأمورات بالأستتار ، والأضطباع والرمل مفارقان للأستتار.). ( الأم 150 ) .

4 ــ وقلنا إنه حين أنتقلت أضواء السياسة إلى دمشق عمد الأمويون إلى اغراق مكة والمدينة بالترف والجوارى والغناء والمجون والشعر الاباحى لينشغل أحفاد الصحابة عن مناوئتهم سياسيا، وبذلك برز بين صفحات الأدب أعلام من شعراء الماجنين والمعجبون بهم أمثال ابن عتيق ـ حفيد أبي بكر الصديق ، والعرجي ـ حفيد عثمان ، وسكينة بنت الحسين .. وقد عاشوا عصر الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي أشتهر في مكة وغيرها بمجونه وتعرضه للنساء في الطواف وفي الحرم ، ويقول الأصفهاني عنه " كان عمر بن أبي ربيعة يقدم فيعتمر في ذي القعدة ، ويحل ويلبس تلك الحلل والوشي .. ويلقى العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدينيات إلى مر ، ويتلقى الشاميات إلى الكديد .. " أى كان يتلقى النساء القادمات للحج ، ويطاردهن ويلاحقهنّ ويقول فى الحسناوات منهن شعرا. والمشهورات منهن كنّ يحرصن على الخلوة به فى مكة وقت الاحرام ، وكنّ لا يتورعن عن مغازلته وقت الطواف . والعجيب إن مجون عمر بن ربيعة لم يستجلب الانكار عليه ، بل على العكس كان إبن عباس من المعجبين بشعره ، ويحرص على أن يسمعه منه ، ويقول المؤرخ القرشى  الزبير بن بكار " أدركت مشيخة من قريش لا يزنون بعمر بن ربيعة شاعراً من أهل دهره في النسيب.( أى الغزل ).( الأغانى للأصفهانى : ط . دار الكتب 1/103 / 118 ، 221 وعن تعرضه للنساء فى الحرم وفى الطواف : 1/159 ، 160 ، 166-167 ، 169 ، 172 ، 176 ، 190 ، 199 ، 207 ، 247 ). . على أن عمر بن ربيعة لم يكن بدعا فى ملاحقة النساء فى الطواف بالكعبة ، فقد شاع هذا وذاع حتى لقد قال شاعر فى العصر الأموى :

ياحبذا الموسم من موقف   وحبذا الكعبة من مسجد

وحبذا اللاتى تزاحمننا      عند استلام الحجر الأسود

فقال خالد القسرى والى مكة فى العصر الأموى : أما إنهن لا يزاحمنك بعدها أبدا . ثم أمر بالتفريق بين الرجال والنساء فى الطواف . ( مروج الذهب للمسعودى: ج 2 ص 136 )

 وفى المقابل تطرّف زهاد مكة والمدينة والعراق فى الحظر والتحريم ، وعكسته فتاويهم بالحظر على النساء من الطواف والسعي خشية من اولئك المنحلّين خلقيا . والطريف أنّ الشافعي بعد أن قال أنه ليس على النساء سعي بين الصفا والمروة إستدرك على نفسه كعادته ، وقرّر ما ( يحبّه) ويهواه ، فعاد يقول : ( وأحبُ للمشهورة بالجمال أن تطوف وتسعى ليلاً ، وأن طافت بالنهار سدلت ثوبها على وجهها ، أو طافت في ستر ). ( الأم 178 ). ونتساءل :كيف يمكن تحديد المشهورة بالجمال ؟ هل نقيم حفلا لاختيار ملكات الجمال فى الحرم ومستويات الجمال للنساء لتحديد من تطوف نهارا أو ليلا ؟ والفائزات منهن عليها تطبيق ما ( يحبّه الشافعى )؟،ثمّ  إذا كان هذا هو الذى يحبّه الشافعى ، فهل ما يحبّه الشافعى وما يهواه بمزاجه الشخصى يكون لنا تشريعا ويصبح لنا .. دينا ؟ .  

5 ـ واقع الأمر إنّ المرأة فى الفقه السّنى ضحية .!. ثم جاء الوهابيون فأصبحوا هم الضحية للمرأة .. المرأة هى وسواسهم القهرى ، هى لهم الولع والجزع والهاجس والوجع ، هى لهم الجمر الذى عليه يجلسون والعذاب الذى به يحلمون .. ونخشى من فرط جنونهم بالمرأة أن يصدروا فتوى بإلغاء المرأة.!

فهل نصحو يوما لنجد العالم بلا مرأة ؟!!

يانهار إسود .!!