JustPaste.it

كتاب: الحج بين الاسلام والمسلمين

يوضح كيفية الحج فى الاسلام وكيف زيفت قريش والمحمديون شعيرة الحج للبيت الحرام ، ويقع الكتاب فى ثلاثة أبواب تتضمن 34 فصلا .
الكاتب : الدكتور:آحمد صبحي منصور

http://ahl-alquran.com/arabic/book_main.php?main_id=60

 

الباب الأول : منهج القرآن الكريم فى التأكيد على التقوى غاية ومقصدا لفريضة الحج :

الفصل الأول : التقوى الاسلامية  فى فريضة الحج

 التقوى هى جوهر الاسلام

على اساسها قامت شريعة الاسلام الحقيقية المذكورة فى القرآن والتى طبقها خاتم الأنبياء محمد عليهم جميعا السلام. تاريخ المسلمين بفتوحاته وغزواته وامبراطورياته وتشريعاته وتراثه  يتناقض فى اغلبه مع جوهر الاسلام وبالتالى فان تشريعات المسلمين تتناقض مع تشريعات الاسلام الحقيقية. فى الدين السنى يقولون ( بنى الاسلام على خمسة : شهادة أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ، واقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا ). ويتعلم الطفل المسلم منذ نعومة أظفاره هذه الأركان الخمسة للاسلام عندهم. ومن أنكرها فهو عندهم كافرلأن هذه الأركان الخمسة هى جوهر ( اسلامهم ). وفى ضوء الاسلام الحقيقى فى القرآن فان التناقض بين الاسلام وبين أولئك المسلمين يبدأ بمقولة تلك الأركان الخمسة عندهم ، ليس فقط لأن للاسلام ركنا واحدا وجوهرا واحدا هو التقوى ولكن أيضا لأن الصيغة التى قيلت بها مفردات الاركان الخمسة عندهم تخالف الاسلام.

1 ـ فشهادة الاسلام واحدة وليست إثنتين ، فهى شهادة أنه لا اله الا الله فقط. ومن شهد بهذا فقد آمن بكل الأنبياء دون أن يفرق بينهم ، أو أن يرفع واحدا من بينهم فوق الآخرين. حين يضاف الشهادة بمحمد رسولا فهنا تفضيل له على غيره من الأنبياء وتمييز له عنهم ، وهذا كفر بالاسلام وفقا لما أكده الله تعالى فى القرآن ( البقرة 136  ، 285 ) ( آل عمران 84 ) ( النساء 150 : 152 ) ( الأحقاف 9 ) ولكن  العقيدة الأساسية لديهم إن محمدا هو سيد المرسلين ، وهذا تأليه للنبى محمد  يؤكده قيامهم بالحج الى قبره و الصلاة اليه بزعم الصلاة عليه ووضع اسمه الى جانب اسم الله تعالى فى المساجد وفى الأذان للصلاة و قراءة الفاتحة له ، والاعتقاد الجازم فى شفاعته كأنه المالك ليوم الدين . وكل ذلك كفر عقيدى بالاسلام.

2 ـ  : بعد الشهادتين يذكرون العبادات ( إقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصوم  رمضان  والحج ). هنا تناسوا فرائض اسلامية أخرى مثل التسبيح وذكر الله تعالى ، وله أوقاته اليومية ( طه 130 ـ الروم 17 : 18 ـ  ق 39 : 40 الطور 48 : 49  ) وله طريقته (آل عمران 191 : 194 ـ الأعراف 55 ـ 205  ) وتلاوة القرآن الكريم ( الاسراء 78 ـ  النمل 91 ـ 92 ـ   فاطر 29 ). ثم أنهم ذكروا إقامة الصلاة وايتاء الزكاة يريدون تأدية الصلاة وتقديم الصدقات. وعندهم فان تأدية الصلاة و تقديم الصدقة و الحج والصوم أهداف فى حد ذاتها ، ومن قام بها فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من معاص وآثام.

 وليس هذا هو مفهوم اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفقا للقرآن الكريم ، إذ تعنى الطهارة الخلقية و السمو فى التعامل مع الناس لأن مجرد تأدية الصلاة و الصدقة و الحج والصوم وكل العبادات ليست هدفا فى حد ذاتها ولكنها وسائل لهدف أعظم هو التقوى جوهر الاسلام . ولذلك فان  أكثر المسلمين تدينا هم أسوأهم خلقا و أشدهم تزمتا وأكثرهم تطرفا . لأنه تيقن عندهم أنهم طالما يؤدون العبادات فقد أصبحوا فوق القانون الالهى ، وبل أصبح لهم مهمة التسلط على الآخرين. ان للدين الالهى ثلاثة جوانب أساسية تمثل جوهره الأصيل ( التقوى ) وهى الايمان بالله وحده لا شريك له ولا مثيل ولا ولد ولا زوجة، وعبادته وحده و التمسك بالقيم العليا الأخلاقية من العدل و الرحمة و السلام و الكرم و التسامح والاحسان ..الخ. أو باختصار : ايمان حقيقى بالله تعالى وعمل صالح يشمل عبادة الله تعالى وحده و حسن التعامل مع الناس .أو باختصار أكثر تقوى الله تعالى بحيث لا تؤمن باله سوى الله تعالى و لا تعبد غيره و لا تظلم أحدا من الناس. وهذه هى التقوى التى غفل عنها معظم المسلمين ولا يزالون.هذه لمحة  تشير للتناقض بين الاسلام والمسلمين،نتوقف  بعدها مع التقوى جوهر الاسلام الدين السماوى لكل الرسالات السماوية .  التقوى جوهر الدين السماوى

الاسلام هو دين الله تعالى لكل البشر ، وبه نزلت كل الرسالات السماوية ونطق به كل نبى باللغة التى يتكلم بها قومه ( ابراهيم 4 ) الى أن نطق الاسلام أخيرا باللغة العربية فى القرآن الكريم (مريم 97 ) الذى حمل الرسالة السماوية النهائية للبشر الى قيام الساعة رحمة للعالمين ونذيرا لهم:(الأنبياء 107 )(الفرقان 1). والتقوى هى جوهر كل الرسالات السماوية ، جاءت فى خطاب الله تعالى لكل الرسل فقال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)( المؤمنون  ـ 52 ).  أى أمرهم بالتمسك بالتقوى والعمل الصالح.ولذلك  فكل نبى كان يأمر قومه بالتقوى،  وفى سورة الشعراء ـ التى قصّت سيرة كثير من الأنبياء ـ كان كل نبى منهم يقول لقومه : (أَلَا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) وتكرر هذا فى سور أخرى ، يقول تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ؟)   (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلاَ تَتَّقُونَ؟ ) (المؤمنون 23 ـ32 ) (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ؟ ) (الاعراف 65 ) (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ اِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ؟) (الصافات  ـ 124 ) (..ٍ وَاذكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (الاعراف171 ).

وخطاب القرآن بالتقوى لم يشر فقط الى الأمم السابقة وانما امتد به من عصره حتى قيام الساعة. فالنبى محمد  مأمور بالتقوى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ) ( الاحزاب 1 ) ،  وكذلك  الذين آمنوا معه وبعده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) ( التوبة 119 ) والصادقون هم مجموع الأنبياء , ويقول تعالى أيضا للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات 1) أى يحرم عليهم المزايدة على الله تعالى ورسوله ، ويحذرهم بأنه سميع عليم . ويقول لهم فى نفس السورة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )  (الحجرات 10 ) وفى التوصية لهم بالصدق يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) (الاحزاب70 ) وفى التوصية لهم بالصبر يعدهم بالأجر فى الدنيا والآخرة اذا كانوا متقين ، فيقول لهم (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر 10 )وفى الرسالة الخاتمة أكّد رب العزة أنه أمر المسلمين وأهل الكتاب بالتقوى فقال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ : أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ) (النساء131 ). وكرر خطابه لبنى اسرائيل يأمرهم بالتقوى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ , وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) ( البقرة ـ  41 ). وكان مشركو العرب يؤمنون بأن الله تعالى خالق السماوا ت والأرض وبيده ملكوت كل شىء ومع ذلك يتخذون معه آلهة أخرى ، وفى حوار القرآن معهم اتخذ من ايمانهم بالله تعالى الخالق حجة عليهم فدعاهم لتقوى الله (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) (المؤمنون 87 ). بل ان الأمر بالتقوى يتوجه لجميع الناس يذكرهم  بماضيهم حيث جاءوا من أصل واحد ولهم اله واحد يراقب أعمالهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (النساء 1 ـ ) أو يذكرهم بالمستقبل حين تأتى القيامة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) (الحج 1 ).

 ان أكرمكم عند الله أتقاكم :

ولأن التقوى هى جوهر الدين الالهى للبشر جميعا فان الله تعالى يخاطبهم قائلا ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ( الحجرات 13 ) أى انهم جميعا أخوة وابناء آدم وحواء ، وقد جعلهم شعوبا وقبائل مختلفى العنصر والثقافة ليتعارفوا لا ليتقاتلوا ، وهم جميعا متساوون فى نظر الرحمن ولكن الأفضل منهم يوم القيامة ليس هو الأغنى مالا أوالأكثر جاها وانما هو أتقاهم لله تعالى، وكل انسان يستطيع ـ إذا أراد أن يكون أتقى البشر ليصبح الأكرم عند الله مهما كان وضعه فى الدنيا. ولأن التقوى تعامل خاص ومباشر بين الانسان وربه جل وعلا فانه محرم التظاهر بالتقوى وتحويلها الى متاجرة بالدين وخداع للناس، ولذا فان الله تعالى يحرّم تزكية النفس بالتقوى، أى أن يمدح الانسان نفسه بالتقوى، يقول تعالى ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (النجم 32 ). وطالما أن الله وحده هو الأعلم بالسرائر والأعلم بما تخفيه الصدور والأعلم بالمتقين فلا مجال فى الاسلام لتأسيس كهنوت يزعم أنه المتحدث باسم الله تعالى ويتحكم فى الناس باسم الرحمن مغتصبا سلطة الله تعالى .

الجنة للمتقين فقط من عموم البشر

يوصف أصحاب الجنة بأنهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أى أن الإيمان وحده لا يكفى حتى لو كان إيمانا صحيحا بالله تعالى وحده لا شريك له ولا ولد ولا زوجة ، لا بد من اقتران الإيمان الصحيح بعمل صالح ينشغل به المؤمن بحيث لا يجد وقتا لإرتكاب المعاصى ،أى ان هذا الايمان مع العمل الصالح يساوى كلمة واحدة هى التقوى. وبالتالى فلا يدخل الجنة إلا المتقون. يقول تعالى ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة 212  ). أى ان الكفرة يسخرون فى الدنيا من الذين آمنوا ، وفى الرد على سخريتهم لم يقل تعالى ( والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة ) وإنما قال ( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) لأن المتقين فقط من أولئك المؤمنين هم الذين سيدخلون الجنة. وفى نهاية سورة الزمر عرض لمشاهد يوم القيامة ينتهى بدخول أهل النار للنار وأهل الجنة للجنة ، يقول تعالى عن أهل النار ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) وفى المقابل لم يقل ( وسيق الذين آمنوا الى الجنة ) وانما قال (  وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) ( الزمر ـ  73 ). وبهذا فانه بالتقوى ـ جوهر الاسلام ـ يفوز البشر بالجنة. وبدونها فهم أصحاب النار .

معنى التقوى :

ومن بعض الايات السابقة نفهم معنى التقوى ، فقوله تعالى لبنى اسرائيل (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) يفيد أن معنى التقوى هو الخوف من الله تعالى بحيث لا يقع الانسان فى معصية ، أو يتوب اذا وقع فى معصية. وتأتى بمعنى الخشية. وتعبير الخشية لا يدل على مجرد الخوف من الله ، ولكنه الخوف الممتزج بالخشوع لذا يأتى فى الأغلب مرتبطا بتقوى الله تعالى والخشية منه كقوله تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (النور 52 ). ان الخشية حالة خاصة من الخوف ينبغى أن يتوجه بها المؤمن التقى نحو الله تعالى فلا يخشى الا الله ، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى للنبى محمد فى معرض التأنيب الحاد (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ )( الأحزاب 37 ) وقوله تعالى لأهل التوراة  (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) ( المائدة 44 )  وقوله تعالى للمؤمنين (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ) ( التوبة 13 ) . وتاتى التقوى بمعنى التوبة: وهذا يستدعى من المؤمن التوبة فتأتى التوبة ضمن معانى التقوى وصفات المتقين ، فاذا أذنب  أحدهم بادر بالتوبة وعزم على ألاّ يعود الى العصيان ، يقول تعالى عن المتقين (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران  ـ 135). وهناك من هو أعلى درجة إذ يتذكر ربه قبل الوقوع فى المعصية وقبل ان يغويه الشيطان فيرفض الوقوع فى الذنب مستعيذا بالله تعالى من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (الأعراف 201  )

 التقوى أساس الإيمان والعمل الصالح فى الاسلام

1 ــ قد يقال ان تقوى الله تعنى الخوف منه و خشيته و العمل على الفوز برحمته وجنته. وليست هذه العبارة صحيحة بهذا الشكل لأن معظم الناس يقولون انهم يخافون الله تعالى ويخشونه ، ولكن يخشون و يتقون مع الله تعالى آلهة أخرى . لذا فالعبارة الصحيحة أن تتقى الله فقط ولا تخشى غيره. لقد كان العرب قبل نزول القرآن الكريم يؤدون الصلاة و الحج ويقوم القرشيون على رعاية البيت الحرام ، ولكنهم أضافوا الى ذلك الحج الى القبور المقدسة و الأوثان ، و ارتكبوا المذابح والغارات وكل الفواحش معتقدين أن من يؤدى العبادات فقد غفر الله تعالى له ، وهو نفس الحديث الكاذب الذى اخترعوه ونسبوه للنبى محمد فى الدين السنى والقائل ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) أى رجع بدون ذنوب. ردّ الله تعالى على العرب المشركين فقال (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ) أى ان العبرة ليست بالتدين السطحى المظهرى ومجرد تادية الحج و الصلاة فى المساجد مع الاستمرار فى الكفر العقيدى و الظلم أو الكفر السلوكى ، ولكن العبرة بالتقوى ، تقول الآية التالية (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )( التوبة: 17 ـ 18 ). فالمؤمن الحق بالله واليوم الاخر هو الذى يتحقق ايمانه باقامة الصلاة وايتاء الزكاة أى بالسمو الخلقى فى التعامل مع الناس ولا يخشى إلا الله تعالى.ولذا تأتى الصيغة بالأمر والنهى معا ، أى بخشية الله وعدم خشية غيره (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) ( المائدة 3 )( البقرة 150 ) أو تأتى باسلوب القصر والحصر كقوله تعالى (وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (النحل 52 ) أى هو وحده الذى نتقى ونخشى (  وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) (البقرة ـ 41 ).

ولتقرير أن الشفاعة لله وحده تقوم بها الملائكة حين تعرض أعمال الناس فان الأمر بالتقوى يأتى أحيانا ليؤكد نفى الشفاعة البشرية حتى ينهمك الناس فى العمل الصالح و يجتنبوا العمل السىء ، يقول تعالى عن القرآن الكريم و الانذار به ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الانعام 51 ـ ) فاذا تمسك المؤمن بالتقوى فى حياته فقد أصبح حسابه يوم القيامة يسيرا (الانشقاق 7 ، 8 ) لأنه حاسب نفسه فى الدنيا وتحكم فى غرائزها ، فاصبح حسابه فى الآخرة هينا :(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الانعام  69 ) أى لا بد أن يتمسك بالتقوى ليظل على تذكر بها طيلة حياته الدنيا فاذا جاء اليوم الآخر نجا.

ولأن الانذار والبيان لا يكون إلا بالقرآن الكريم المحفوظ بقدرة الله تعالى إلى يوم القيامة فإن هذا القرآن فيه الهدى للمتقين (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)(البقرة 2 ـ )(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ )(الحاقة 48).

لذا جاء بيان القرآن داخل القرآن نفسه بحيث لا يحتاج الى شروح بشرية تشوه حقائق القرآن كما فعل المسلمون فى تراثهم وتفاسيرهم التى أبعدت المسلمين عن التقوى جوهر الاسلام ، يقول تعالى عن بيان القرآن وتوضيحاته (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )( البقرة 187 )  وجاءت الوصية العاشرة فى القرآن الكريم تأمر باتباع القرآن وحده دون غيره أملا فى تحقيق التقوى (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (الانعام 153 ) وهذا ما لم يفعله المسلمون الذين ابتدعوا لهم أديانا أرضية كالسنة و التشيع والتصوف ، وجعلوا لها وحيا إلاهيا بالكذب والإفتراء . وأهملوا ما فى القرآن من وعيد يهدف الى تربية الاحساس بتقوى الله تعالى (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) (طه 113 ) وأهملوا ما فيه من أمثال وعظات جاءت بتناسق حتى يتقون (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الزمر ـ 28 ).

ومعلوم ارتباط التقوى بالإيمان الحقيقى بالله تعالى ، وهذه صفة أولياء الله تعالى من كل البشر الذين أمضوا حياتهم مؤمنين متقين (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ )(يونس ـ 63 )،لذا تبشرهم ملائكة الموت عند الاحتضار بالجنة : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)(فصلت) لذا فهم أصحاب الجنة ( وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ )(يوسف 57 )( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )(الجاثية 19). وقبل موت المؤمن فإنه حين يجاهد مخلصا فى سبيل الله يكون مواليا لله جل وعلا فيواليه الله جل وعلا ، لأنّ الله تعالى لا يوالى إلا المتقين ( إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ) (الانفال 34 )وقبل اليوم الآخر فان الله تعالى يشمل أولئك المتقين فى الدنيا بعنايته ورحمته ، وقد أنجى المتقين من الأمم السابقة بينما أهلك الظالمين الطغاة وأنجى المتقين (النمل 53 ) (فصلت 18 )

2 ــ وكما يتقى المؤمن ربه جل وعلا فى عقيدته وايمانه فانه يتقى الله تعالى تعامله مع الناس بحيث لا يظلم أحدا، و فى عبادته لتكون خالصة لله جل وعلا وحده . وهنا تأتى التقوى هدفا أساسيا للعبادات. التقوى هى الهدف الأساس من العبادات: 

ليس أعظم فى التشريع الاسلامى من أن تكون عبادة الله تعالى مجرد وسيلة للتقوى ، ومن التقوى حسن التعامل مع الناس. فالذى يصلى ويحج ويصوم ويتصدق ولكن يظلم الناس ويعتدى عليهم لا عبرة بعبادته طالما لم تنعكس عبادته خيرا و احسانا فى تعامله مع المجتمع. وقد جعل الله تعالى كل العبادات وسائل للتقوى وخاطب بذلك كل الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة21 ) فالصلاة ـ  مع قراءة القرآن وذكر الله تعالى ـ هدفها إجتناب الفحشاء والمنكر والبغى (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت 45)والصوم حتى نتعلم التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(البقرة  183 ).

 

 

لباب الأول : منهج القرآن الكريم فى التأكيد على التقوى غاية ومقصدا لفريضة الحج :

الفصل الثانى : التقوى والذّكر فى فريضة الحج 

مقدمة

1 ــ الحج مدرسة نتزود فيها بالتقوى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) (البقرة 197 ) ، الحج هو معسكر للتزوّد بالتقوى فى رحلة الحياة هذه. العادة للمسافر أن يأخذ معه زاد الرحلة. وفترة الحياة لكل منا هى رحلة سفر ، تركب فيه البشرية قطار الزمن المتحرك دائما الى الأمام لا يتوقف الى أن تأتى الساعة بتدمير هذا العالم. كل منا يركب قطار الحياة فى محطة خاصة به هى وقت الميلاد ، ويظل راكبا فى القطار الماضى الى أن تأتيه لحظة الرحيل فيهبط من القطار فى لحظة الموت. وما بين حياته وموته تكون رحلته الشخصية فى هذه الحياة الدنيا. والمؤمن هو الذى يتزوّد فى هذه الرحلة بالتقوى فهى رصيده لليوم الآخر ليفوز بالجنّة . والحج مناسبة فى العمر بمثابة معسكر يتدرب فيه ويتزود فيه بالتقوى .

2 ــ وفى التقوى لا عبرة بالشكليات السطحية فى تأدية مناسك الحج ، لذا قال جل وعلا ردّا على الجاهليين القرشيين الذين حوّلوا التقوى الى عبادة سطحية بأن يأتوا بيوتهم من الخلف:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(البقرة 189). وحتى حين التمتع بلحوم الأضحيات فلا بد من تعظيما على أنها من التقوى:(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج 32 ) وفى كل واجبات الحج لا بد من مراعاة التقوى وإلا فان الله تعالى شديد العقاب (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة196 ). لذا فان من يفكر مجرد تفكير بالعصيان فان الله تعالى يتولى الانتقام منه لأنه حوّل التقوى فى الحج الى عكس المراد منها .( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ( الحج 25 ). أى إنّ مجرد ( الإرادة القلبية ) بالإلحاد والظلم عقوبتها العذاب الأليم .

3 ـ و( ذكر الله جلّ وعلا ) فى المفهوم القرآنى هو تعظيمه وحده ، وتقديسه وحده ، وتسبيحه وحده ، وعبادته وحده . وشأن المشركين أن يذكروا بالتعظيم والتقديس أولياء مع الله جل وعلا ، يجعلونهم شركاء له جل وعلا فى (الذكر ) . وشأن المشركين إذا ( ذكرت ) الله جل وعلا وحده إشمأزّوا ، أما إذا ذكرت أولياؤهم وآلهتهم مع الله إستبشروا ، فهم يعتقدون فى هذه الآلهة النفع والضّر وقدرتها على الشفاعة فيهم يوم الدين ، مع إن هذه الآلهة المقدسة لا تشفع ولا تنفع ، يقول جل وعلا : (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43)فالشفاعة لله جل وعلا وحده لأنه وحده مالك السماوات والأرض ، واليه وحده مصيرنا يوم القيامة : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)( الزمر ). إلّا إن المشركين فى تقديسهم هؤلاء الشفعاء لا يذكرون الله جل وعلا وحده أبدا ، لا بد أن يذكروا معه هذه الآلهة البشرية ،ولو سمعوا شخصا يذكر الله وحده إشمأزّت قلوبهم ، فإذا ذكر هذا الشخص آلهتهم مع الله إستبشروا ، يقول جل وعلا :  (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)( الزمر ) .  هذا بالضبط ينطبق على أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين ، لا يمكن لأحدهم أن يخلص لله جل وعلا عبادته ، إنه يجعل النبى عليه السلام شريكا لله جل وعلا فى ذكر شهادة الاسلام ،فليست عندهم شهادة واحدة طبقا لما يعرف بالتوحيد الاسلامى :( لا اله إلّا الله ) بل هو مثناة يرفعون فيها محمدا فوق بقية الأنبياء والرسل ويضيفونه الى الله تعالى فى الشهادة ، يفرّقون بين الله ورسلة ويفرّقون بين الأنبياء ويعصون أوامر الله جل وعلا فى سورة البقرة ( 136 ، 285 )وسورة آل عمران ( 84 : 85) وسورة النساء ( 150 : 152) وسورة الأحقاف ( 9) ، ويجعلونه شريكا لله جل وعلا فى الصلاة والأذان بالصلاة وفى الحج ، وحتى فى الشعارات التى يزينون بها مساجدهم.ثم لا يكتفون بتقديس النبى بل يقدسون معه آلهة أخرى من الصحابة والأولياء والأئمة ، يذكرونهم مع الله . وقد قال جل وعلا عن وعظهم بالقرآن وكفرهم به : (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)( الاسراء ). ونتأمّل قوله جل وعلا : (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً)، يعنى لو ذكرت ربّك وحده فى القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا . وتخيل نفسك خطيبا فى صلاة الجمعة تعظ بهذا الاسلام الحقيقى ، ولا مرجع لك سوى القرآن ولا تذكر سوى إسم رب العزة ..سترى من يستمع اليك وقد إنطبق عليهم قوله جل وعلا : (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً )..وصدق الله العظيم ..!!

4 ـ و( ذكر الله وحده ) بهذا المفهوم القرآنى يغلّف العبادات الاسلامية ، من دعاء وصلاة و قراءة للقرآن وتفكّر فى خلق السماوات والأرض . فالصلاة هى ذكر منظم يتكرر خمس مرات فى اليوم، وممكن لمن يريد أن يكون من السابقين أن يضيف نافلة قيام الليل بالصلاة والتهجّد وقراءة القرآن،  وهناك مناسبة سنوية تستمر عاما هى صوم شهر رمضان ، وفيه ترتبط عبادة الصوم بالذكر وقيام الليل والدعاء والاعتكاف فى المسجد ليحقق الصوم هدفه الأساس وهو التقوى ( البقرة 183 : 187 ). ويرتبط الذكر بالحج مؤكدا على أن الهدف منه هو التقوى فى فرصة تتاح للمستطيع ولو مرة فى حياته .ثم يأتى الذكر وحده قولا وفعلا عبادة قائمة بذاتها . وبهذا الذكر اليومى بالصلاة والسنوى بالصوم وفى مناسبة الحج يتزكّى الانسان وتسمو نفسه ليكون صالحا لدخول الجنة . 

أولا : نوعا الذكر : الذكر العملى :

1 ـ الذكر العملى هو الأكثر صلة بالتقوى. وهو أن يذكر المؤمن ربّه جلّ وعلا حين يوسوس اليه الشيطان بالإثم فلا يقع فى المعصية . يقول جلّ وعلا لخاتم النبيين عليهم جميعا السلام:( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) الاعراف ) ثم يقول جلّ وعلا عن صفة المتقين:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) ، أى تذكّروا وذكروا إسم الله جلّ وعلا فانتبهواوأقلعوا وابتعدوا عن الوقوع فى الإثم .هذا بينما يسيطر الشيطان على أتباعه فيمدّ لهم حبال الغى فلا يقصّرون:(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) الاعراف). فالتذكّر هنا بمعنى التقوى والخشية قبل الوقوع فى المعصية.وهذا التذكّر فرصة لكل إنسان مهما بلغ طغيانه، حتى لو كان فرعون موسى . ولقد قال جل وعلا لموسى وهارون :(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ). أى (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )..

2 ـ والتذكّربالتوبة بعد الوقوع فى المعصية، فالمتقى هو ايضا من يتوب بعد الوقوع فى المعصية، فمن صفات المتقين الاستغفار من الذنب الذى وقعوا فيه وعدم العودة للوقوع فيه :( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) آل عمران ). 

أنواع الذكر القولى :

1 ـ عبادة التسبيح ، ليس بالرقص والغناء كما تفعل الصوفية ، ولكن بتضرّع المتّقى بصوت خافت ليل نهار:(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) الاعراف ).

ويرتبط ذكر الله وتسبيحه : بالدعاء ودوام التذكّر لرب العزّة جلّ وعلا حتى لا ينسى المؤمن ربه جل وعلا :(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) الكهف ).

ويرتبط بالتفكر فى عظمة الخالق جل وعلا:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)(آل عمران) .

كما يرتبط بالصبر (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) (طه ). ومواجهة الشدائد، إذ قال جلّ وعلا لموسى حين أرسله لفرعون: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) طه).

ولذا كان موسى عليه السلام يذكر الله جلّ وعلا كثيرا : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) طه ) وهوشأن المؤمن كما جاء فى سورة الأحزاب :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)،وفيه يستوى الرجال والنساء:(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)( الأحزاب ).

2 ــ ومنه عبادة الذكر بالقرآن الكريم :

2/ 1 : فالذكر من أوصاف القرآن الكريم : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)  يس ) ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)ص )، (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)الانبياء ).

2/ 2 : والناس بالنسبة للقرآن الكريم نوعان ، منهم من يتّعظ به ويتذكّر ويتّبع القرآن:(إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) يس ). والمؤمن هو الذى يتدبرالقرآن بعقله وقلبه ليزداد به إيمانا ، فمن صفات عباد الرحمن : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73 الفرقان)، ومن صفات المؤمنين حقا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)(الأنفال).

ومنهم من لا يتعظ ولا يتذكّر، يقول جل وعلا فى سورة ( طه ):( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100)، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126). ويقول جلّ وعلا فى سورة الكهف:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57). وفى إفتتاحية سورة الأنبياء :(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2). لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ). ويقول جلّ وعلا عن موقف أكثرية البشر من الوعظ القرآنى : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50 ). الفرقان).

 وذكر رب العزة الفريقين فى سورة السجدة : فى البداية يدعو الناس الى تذكّر الخالق جل وعلا بالكتاب الذى لا ريب فيه  :  (الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4). ثم بعد هذا الاستفهام الاستنكارى : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) يأتى فى منتصف السورة وصف المؤمنين حقا بأنّهم الذين يتذكّرون ويخشعون بالذكر القرآنى : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) ، وفى المقابل يوجد المجرمون أظلم الناس :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) السجدة ).

3 ـ الصلاة والذكر: الصلاة فى حقيقتها إستدامة ذكر الله بطريقة يومية منظمة من قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة الفاتحة وآية التشهد والتسبيح والحمد. إى هى إقامة الصلاة بهدف ذكر الرحمن جل وعلا بترسيخ التقوى فى النفس يوميا. ، وعلى هذا قامت فريضة الصلاة فى ملة ابراهيم عليه السلام التى توارثها العرب من ذرية اسماعيل (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55)مريم ) وتوارثتها بنو إسرائيل ، ولكن مع تضييع هدفها فى ترسيخ التقوى،لأن الخلف من الذرية لم يقيموا الصلاة فأضاعوا التقوى حين إتّبعوا الشهوات دون توبة ودون ذكر الرحمن خلاف ما كان عليه أسلافهم العظام الذين كانوا يخرون سجّدا وبكيا حين يسمعون آيات الله تتلى عليهم،يقول عنهم جلّ وعلا:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58) إختلف الوضع إذ أضاع الخلف مسيرة التقوى بتضييع الصلاة وإتّباع الشهوات : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59)(مريم ).أى أضاعوها بالمعاصى وعدم إقامة الصلاة لذكر الله جل وعلا تقوى وخشية . لذا قال جل وعلا لموسى عليه السلام فى أول وحى له بأن يقيم الصلاة وفق ملة ابراهيم الحقيقية لكى تكون الصلاة ذكرا للمولى جل وعلا:(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) طه).والصلاة لنا من وسائل التقوى مع تلاوة القرآن الكريم وذكر الله جل وعلا ، وهذا ما قاله رب العزة لخاتم المرسلين عليهم جميعا السلام :(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) العنكبوت ).

 ثانيا : مناسك الحج هى لذكر الله جل وعلا وحده أى تقوى الله جلّ وعلا وحده:

قلنا إنّ التقوى هي الهدف من فريضة الحج، كما هى المقصد لكل العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وذكر لله تعالى . ولكن موقع التقوى فريد في فريضة الحج . ومنهج القرآن هو التركيز على التقوى حتى لا تتحول مناسك الحج الى مجرد أداء سطحى ، أو أن تتحوّل المناسك الى مناسبات للإنحلال الخلقى والعصيان ، أو يتحوّل الحج الى مناسبة للإستغلال السياسى . وهذا ــ مع الأسف ـ ما وقعت فيه قريش والعرب قبل وأثناء نزول القرآن فى مكة ، ثم بعد موت خاتم النبيين عادوا الى نفس التحريف والانحلال والعصيان ، وتكفّل الدين السّنى بإعطاء مشروعية كاذبة باحاديثه وأحكامه الفقهية لهذه الافتراءات . وهو ما تطبّقه الآن دولة السعودية بدينها الوهابى التيمى الحنبلى السّنى. 

الذكر فى مناسك الحج

1 ـ من البداية ، من ملة ابراهيم ، يقول جلّ وعلا يربط الذكر بفريضة الحج :( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (28 ) ( الحج ) أى فالحج ومناسكه هو لذكر إسم الله جلّ وعلا فى أيام معلومات:( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (28 ) ( الحج ). أو أيام معدودات يتم التركيز فيها على التقوى :( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203).( البقرة)

2 ــ وتأتى تفصيلات فى سورة الحج تربط ذكر الله جل وعلا بمناسك الحج ، فتعظيم الشعائر من علامات التقوى :( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32). والتقوى من مرادفاتها الإخبات ، وقد وصف الله جل وعلا المخبتين فى هذا السياق فقال : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وحتى ( الهدى ) من الأنعام التى يتم نحرها لإطعام ضيوف الرحمن فى بيت الرحمن هى من شعائر الله جل وعلا ، لذا يجب ذكر إسم الله عليها وشكره جل وعلا ، وجعل التبرع بها وسيلة للتقوى (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ (37) الحج )

3 ــ وتترى التوصيات بذكر الله جلّ وعلا فى سورة البقرة فى سياق تشريع الحج، ومنه ذكر الله بعد طواف الافاضة من عرفات عند المشعر الحرام  (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198). وذكر الله جل وعلا بعد قضاء المناسك: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ). وبدلا من التفاخر بالأنساب والآباء فإنّ ذكر الله فى بيته الحرام هو الأولى .( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ). وبعض الناس تهمّه الدنيا ويريد متاعها فيدعو الله بالثراء والسعادة الدنيوية ناسيا الآخرة وهى الأبقى، لذا يأتى التنبيه بالدعاء الأفضل: ( فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)  . نقرأ الآيات بأكملها من سورة البقرة : ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) البقرة ).

أخيرا :

الحج مدرسة نتزود فيها بالتقوى. وذكر الله جل وعلا أهم ملامح التقوى . فلا ينبغى أن نذكر غير الله فى بيت الله وفى موسم الحج . هذا هو الحج فى الاسلام : يأتى المؤمن ليحج الى بيت الله الحرام قائلا : (لبيك اللهم لبيك ) ، ولا يصح أن يخلط هذا النداء وتلك الاستجابة بذكر غير الله ،أى لا تعظيم إلّا  لله جل وعلا  فى بيت الله .. جل وعلا .

 

الفصل الثالث :  التقوى أساس فى الدعوة للحج :

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ  )

 للقرآن الكريم أسلوب فريد في الدعوة للحج . هو اسلوب يعتمد على التقوى ، ورغبة المؤمن فى التطهّر إبتغاء مرضاة الله عزّ وجل . وهنا نتدبّر قول الله سبحانه وتعالى:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ(97)آل عمران).

أولا :  (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )                                                                              

1 ــ  لم تأت الدعوة للحج بصيغة الأمر ( : حُجُّوا للبيت )وانما جاءت بالأسلوب الخبري فتقول الآية الكريمة:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).الأسلوب الخبرى أشدّ إلزاما من صيغة الأمر المباشر ، لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام وليست مقيدة بزمن معين. عندما تقول ( أكل فلان الطعام ، يأكل فلان الطعام سيأكل فلان الطعام ) فإنّ (أكل الطعام ) فى هذه الجملة الفعلية مرتبط بوقت ما فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل، ولكن عندما تقول ( فلان آكل للطعام ) فهنا جملة إسمية تفيد الدوام والثبوت ، وانه آكل للطعام فى كل وقت . أى إنّ التعبير بالجملة الإسمية فى قوله جلّ وعلا:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) أكثر تشديدا فى صيغة الإلزام من الأمر المباشر العادى.

2 ـ  يؤكد هذا أن السياق هنا بدأ أيضا بجملة إسمية تؤكّد بأن الكعبة هى أول بيت وضعه الله للبشر ليكون مباركاً وهدى للعالمين وأن فيه آيات بينات ، وأنه آمن لمن يدخله . ثم تأت الجملة الخبرية الأخيرة :(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )  وفيها معنى الأمر اللازم لأي مؤمن يحرص فى قلبه على تقوى الله تعالى، لأنها تؤكد أن ( على ) البشر فريضة يؤدونها لله جل وعلا ، وأنها ( عليهم ) أى أنها ( دين ) عليهم ، وأنهم (مدينون ) لله جل وعلا بهذا ( الدّين ). وصياغة هذه الجملة الإسمية جاء محمّلا بكل أنواع الإلزام لقلب المؤمن التقى ، فلم يقل جل وعلا بالصيغة الإسمية (على الناس حج البيت )ولكن قال:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )، تقديم لفظ الجلالة هنا :(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) يفيد القصر والحصر ،أى هو لله جل وعلا وحده ، والمؤمن حقا ـ الذى إذا ذُكر الله جل وعلا وجل قلبه ـ عندما يتدبّر الآية ويجد لفظ الجلالة يتقدّم هذه الجملة :(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) فإنه يشعر بمدى الإلتزام هنا ، لأنّ الذى يناديه ويطالبه بتأدية هذه الفريضة هو رب العزة جل وعلا وحده لا شريك له .

 ثانيا :  (مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)

المؤمن غير المستطيع ليس مطالبا بهذا الأمر ، ولكنه يتحرّق شوقا لتلبية الأمر لو كان مستطيعا . لأن الحج فريضة لله جل وعلا على المستطيع من الناس. تقدير الاستطاعة بالمال والقوة الجسدية لا دخل فيه للفقهاء الذين حشوا مصنفاتهم الفقهية باللغو آلاف الصفحات فى تحديد المستطيع ومدى الاستطاعة . فأقحموا أنفسهم بين الله جل وعلا وعباده، وتدخّلوا فى شرع الله جل وعلا بما لم يأذن به الله جل وعلا جهلا منهم بتشريع الاسلام ومنهج القرآن فى جعل الحج وكل العبادات وسائل للتقوى.

إنّ تقدير الاستطاعة متروك لقلب المؤمن وحده ، هو الذى يقدّر وهو الذى يقرّر مدى إستطاعته المالية وظروفه الاجتماعية والجسدية ، وإذا كان متقيا فهو يعلم أن الله جلّ وعلا يعلم  سريرته وعلانيته ومدى إستطاعته. ولو خدع الناس جميعا فليس بأستطاعته أن يخفى عن رب العالمين سرّه. وبالتالى فإن لغو الفقهاء فى تحديد الاستطاعة والمستطيع ليس فقط جرأة على رب العزّة وثرثرة فى الممنوع وتشريعا لم يأذنه به جلّ وعلا بل هو أيضا تأليه لأنفسهم إذ نصبوا من أنفسهم متحدثين عن الرحمن فيمن يستطيع ومن لا يستطيع، وجعلوا من أنفسهم واسطة بين الله جل وعلا والناس.وهذا يتنافى مع الاسلام وعقيدته ، بل ويتنافى أيضا مع بدء الآية الكريم بلفظ الجلالة :(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) لتفيد القصر والحصر فى أن هذه الفريضة لله جل وعلا وحده وليس لبشر أن يقحم نفسه فيها بديلا عن رب العزّة.إن قوله جل وعلا :(مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) يجعل العلاقة مباشرة بين المؤمن وربّه جل وعلا ، لا مجال فيها للواسطة . وهذه هى التقوى. 

 ثالثا : ( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )  : (وَمَنْ كَفَرَ ) 

بعدها يقول جل وعلا فى صيغة إسمية أيضا ولكن صاعقة للقلب المؤمن :( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )،أى إنّ الذى يستطيع ولا يحج يكون كافرا،فيأتي التهديد صاعقا للمستطيع الرافض للحج بعد هذه الصيغة الاسمية بالغة الدلالة . هنا نتوقف مع نوع خاص من الكفر العقيدى يقع فيه ( المؤمن ). هو ليس كفرا بالله جلّ وعلا،ولكنه كفر بنعمته إذ مكّنه رب العزّة بالاستطاعة التى يقدر بها على تأدية فريضة الحج ، فكفر بالنعمة وجحدها ورفض تأدية حقّها ، رفض تأدية الفريضة. يؤيد هذا قوله جل وعلا بعدها إنه غنى عن العالمين ( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )، أى ليس جل وعلا محتاجا لاستطاعة هذا المستطيع ،ولكن المتقى يعلم إنه المحتاج لربه حتى ينجو من النار ويدخل الجنة ، فالتقوى هى الأساس وهى المبنى وهى المعنى .والتقوى بالنسبة للمستطيع أن يقدّم حق الله جل وعلا فى الصدقة والزكاة المالية والجهاد فى سبيله وفى الحج الى بيته الحرام . ومن يجحد نعمة الله ويقع فى ( كفران النعمة ) يصبح ضمن الذين يبخلون ، ومصيرهم النار ، قال عنهم رب العزّة : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) آل عمران) (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) ( النساء ).ويحذّر رب العزة المؤمنين من سوء هذا المصير فيأمرهم بالانفاق فى سبيل الله جل وعلا قبل أن يحلّ بهم الموت ومعه الندم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)( المنافقون ).

رابعا :( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )  : ( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )

التأكيد هنا بالجملة الاسمية أيضا بأنّ الله جلّ وعلا غنى عن العالمين: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )، أي فمن أعرض عن فريضة الحج مع أستطاعته فقد كفر وإن الله تعالى ليس محتاجاً لأحد من الخلق . نحن الذين نحتاج الى تزكية أنفسنا وتطهيرها بالتقوى،والحج أحد وسائل التقوى . وبالتقوى ننجو من النار والخلود فيها ، ونسعد بالخلود فى الجنّة. ونتوقف هنا مع قوله جل وعلا :( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ) وصلته بموضوع التقوى. ونبدأ بتقرير هذه الحقائق القرآنية :

 1 ــ الله جل وعلا يخاطب البشر بلسانهم ، واللسان البشرى يعرف ما يدركه ، ولا يستطيع التعبير عن الغيوب التى لا يدركها . وصفات ( الله ) جل وعلا ضمن ما لا يستطيع الادراك البشرى التعبير عنها ، لذا خاطب الله جل وعلا البشر بلسانهم ليقرّب لهم فهم صفاته ، ومن هنا ترى أوصافا لله جل وعلا تأتى بنفس أوصاف البشر ، مع التناقض الحقيقى بين صفات الله وصفات البشر . ولكنها طريقة لتقريب المعنى من أفهام البشر . لذا يستعمل رب العزة ( الكرسى ) و ( العرش ) ليدلّ على التحكم والسيطرة ، ويستعمل مصطلح الكيد ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) الطارق  ) ومصطلح (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) الانفال ) (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) النمل ) ليدل على إحباط كيد ومكر المعتدين المشركين . نفس الحال فى مصطلح الغنى ، يأتى وصفا للبشر ووصفا لرب البشر جلّ وعلا .

 2ـ جاء وصف البشر بالغنى فى قوله تعالى فى تشريع الوصىّ على مال اليتيم:( وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ )(النساء 6). الوصف بالغنى والفقر هما للوصى على مال اليتيم . وجاء وصف الأقارب بالغنى والفقر :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) ( النساء 135). وصف الغنى والفقر للبشر هو نتيجة للتفاوت فى الرزق الذى يتحكّم فيه رب العزّة : (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)( الرعد 26 )( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) ( النحل 71 ). كما أن لصفة الغنى والفقر فى نفسية البشر أبعادا أخرى لا تقتصر على وجود الثروة أو عدمها ، ونحن هنا نتحدث عن القناعة ، فهناك فقير فى ماله لكنه قانع راض لا يمتد بصره الى ما فى يد الغير. وهناك من هم على سنّة أبى لهب وحسنى مبارك وآل سعود ، مهما تضخمت ثرواتهم فهم لا يشبعون . هذا فى التعامل مع البشر فيما يخص صفة الغنى . ولكن فى كل الأحوال وفى تعامل البشر مع رب العزة فهم جميعا مفتقرون اليه ، وهو غنى عنهم : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )(فاطر 15).

3 ـ وجاء وصف البشر بالاستغناء عن دعوة الحق ، فالبخيل لا يحب الاسلام لأنّ الاسلام هو دين العطاء والزكاة ، لذا يستغنى عن الاسلام ويكذّب بالقرآن (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى )( الليل 8ـ ).وأحد أولئك المترفين الذين إستغنوا عن الاسلام حاول النبى دعوته للحق ، وأعرض النبى وعبس فى وجه فقير أعمى حتى لا يأنف المترف المستغنى من دين يدخله الفقراء والمستضعفون ، ونزل تأنيب النبى بسبب هذا الموقف: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ) ( عبس ـ 5 ـ ). ولكن تظل الحقيقة باقية ، وهى أن الله جل وعلا هو الذى يجعل هذا فقيرا ويجعل ذاك غنيا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) (النجم 48) ( وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) ( الضحى 8 ). ومن حمق الانسان الغنى أن يظنّ نفسه مستغنيا فيطغى بثروته:(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق 6: 7). نوجز القول بأن الفقر والغنى للبشر حالات عرضية وقتية ، وهم فقراء لله جل وعلا المتحكّم فى الرزق.

4 ـ لذا فإن الغنى الحقيقى هو رب العزة وحده ، وكلنا فقراء محتاجون له :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)(فاطر 15 :17 )، وهو الله الغنى عن الصدقة:(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (البقرة 263) (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(البقرة 267)، وهو الغنى عن جهاد المجاهدين: ( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (العنكبوت 6 )، وهو الغنى عن إيمان الناس به:( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً)(النساء 131)وعن شكرهم له:(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )(النمل 40 )، ولا يهتم إذا كفروا به :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )(الزمرِ 7)( ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(التغابن 6). هو جل وعلا يهتم بالناس لو إستغاثوا به ، عندها يعبأ بهم :( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ )(الفرقان 77).  

5 ـ ان الله الصمد جل وعلا قد قرّر حرية كل فرد فى الايمان والكفر،ومسئولية الفرد على عمله ، فمن يجاهد إنما يجاهد لنفسه ( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت 6 )،ومن يؤمن ويشكر فلنفسه( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )(النمل 40)،ومن أحسن فلنفسه ومن إهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعلى نفسه:(إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)(الاسراء 7 ، 15 ).ومن أدّى فريضة الحج فقد فعل لنفسه خيرا، ومن كفر وبخل مع إستطاعته فإن الله جلّ وعلا غنى عن العالمين :(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )(آل عمران 97).  ولذا فالمؤمن لا يمنّ على الله جل وعلا بإيمانه بل هو الذى يحمد ربه أن هداه الى الايمان :(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) ( الحجرات)، وبعض الحمقى يظنّ أنه لو أدّى بعض ركعات لله جل وعلا فقد أدّى خدمة لله تعالى . كلا إنه إذا إهتدى فقد أدى خدمة لنفسه ، وإذا تزكّى فقد تزكّى لنفسه:( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فاطر ). والنفس التى تتزكى بالعبادة والعمل الصالح هى التى تدخل الجنة . فلا يدخل الجنة إلا  المتقون. ومن هنا ترتبط الدعوة للحج بالتقوى .

وفى النهاية فهى حريتنا المطلقة فى الاختيار ؛ من يشاء أن يتقى ومن يشاء أن يعصى ، من يشاء أن يؤمن ومن يشاء أن يكفر،وما نختاره سنواجه عاقبته بالخلود فى الجنة أو الخلود فى النار:(وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)  ) ( الكهف ) ، المؤمن المتقى هو الذى يحتاج الى أن ينجو من النار و أن يتمتع بالجنة ، لذا يلتزم بالتقوى لصالح نفسه ، فالله جل وعلا ليس محتاجا لأن يعذّبنا طالما آمنّا وشكرنا :( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً)(النساء 147 ). 

 

 

الفصل الرابع : دور التقوى فى إتمام فريضة الحج

1 ــ للقرآن الكريم أيضا أسلوب فريد في الحثّ على إتمام فريضة الحج بمراعاة التقوى الى النهاية ، وتصحيح الخطأ الذى يقع فيه الحاج بدفع الفدية ، حتى يرجع من الحج فائزا بالثواب المراد. فقد( يؤدى ) الإنسان مناسك الحج بطريقة سطحية خالية من التقوى ، وقد يقع فى المحرمات المنهى عنها ، ويعود من فريضة الحج وقد إزداد من الله بُعداّ ، بعد ما تكلّفه من مشاق وأموال.!.

2 ــ إنّ الحج فريضة لها موسم سنوى يتكرر كل عام ، هو يشبه معسكرا للتقوى مثل المعسكرات التى تقام لتدريب الرياضيين ونقوية وتحصين أجسادهم . الحج هنا دورة تدريبية للنفس لتتعلم التطهر والسمو والتقوى ، وذلك بأن يعيش الحاج جواً مختلفاً في الزمان والمكان والمشاعر والحلال والحرام . ما يكون حلالاً في الأوقات العادية وفي الأماكن الأخرى ـ مثل الصيد والحلق والرفث مع الزوجة  ـ يكون حراماً وقت الاحرام ، وما يكون فيه ذنبا هيّنا مثل نيّة الالحاد والظلم يكون إثما عظيما مستوجبا للعقاب فى الحج .  لذا يستلزم الحج استعداداً نفسياً لتقبل مشاق التجربة من بدايتها إلى نهايتها ، ومن فشل فيها لم يتم الحج في ميزان رب العزة .  

3 ــ والحج هنا يشبه الصيام ، فالطعام والشراب والرفث مع الزوجة يكون حلالاً في ليل رمضان ولكنه حرام في نهار وصيام رمضان . والصائم والحاج رقيب على نفسه فى الصيام وفى الحج ، يخشى الله فى الغيب ، حيث لا يراه إلّا الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، أى يكون متأكّدا بأنّ الله جلّ وعلا مطّلع عليه فى سرّه وعلانيته . هذه تجربة لا بد أن تستمر ناجحة يوما بيوم الى نهاية رمضان أو نهاية الاحرام . شأنها شأن معسكر التدريب الرياضى . المهم هو النتيجة النهائية والنجاح الى النهاية ليفوز المؤمن الصائم أو المؤمن الحاج بدرجة التقوى فى ختام الفريضة. لذا فالنقوى اليومية ضرورية ، وفيها يكون تعداد شهر رمضان بالأيام ، وكذلك تعداد وقت فريضة الحج بالأيام،أى أيام معلومات وأيام معدودات ، وبهذا جاء وصف شهرررمضان ، مع أنه شهر زمنى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) ( البقرة 183 )،وبهذا جاء وصف العبادة والنسك فى موسم الحج ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)(البقرة 203 )،المؤمن عليه إذا اراد اتمام الصيام لله تعالى أن يأخذ نفسه على الإلتزام بأوامر الله إلى أن ينتهي النهار، فيكون قد اتم يوماً من التقوى فى صيام شهر رمضان وكذلك الحج ، وهكذا فى اليوم التالى حتى تنتهى الأيام المعدودات عدّا ، فالحج وصيام رمضان كلاهما فريضة سنوية تستمر التقوى فيها أياماً (معلومات) أو (معدودات) . لذا كان لابد من الحرص على اتمام هذه التجربة بنجاح إلى النهاية دون ان يسقط فيها الصائم والحاج.

من هنا نرى التعبير القرآنى عن النتيجة النهائية هو( بالإتمام ) بالحج والعمرة طاعة لأوامر الله جلّ وعلا :" وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ .. البقرة 196"ونفس التعبير بالإتمام يقوله جلّ وعلا عن الصيام  " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ"  البقرة 187" ، والأتمام هنا يعني أن تنهي الفريضة بنجاح لمن يؤديها إلى ان يفطر الصائم أو إلى أن يُحلّ المُحرم . واكثرية الناس تنسى اتمام الصيام واتمام الحج فلا يزدادون بهما إلا سخطا من الله تعالى لأن الشيطان سوّل لهم وأملى لهم وكان له عليهم سلطان.

وسوسة الشيطان

التقوى صفة تقبل الزيادة والنقص، أى ليست لازمة للمرء طيلة حياته، بل تتغير زيادة ونقصاً حسب الصراع القائم فى داخل الإنسان بين الخير والشر، بين الهوى والخشية، بين الشيطان والفطرة السليمة التى فطر الله الناس عليها، وقد خلق الله تعالى النفس البشرية وسواها على أساس الفجور والتقوى وقدم الفجور فيها على التقوى فقال ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس 7: 8). وصراع الشيطان مع الفطرة السليمة فى المؤمن مستمر باستمرار الحياة، وبينما تكون السيطرة الكاملة للشيطان على الكافر فإن المؤمن المتقى يظل فى صراع مع الشيطان فى داخل نفسه، وهذا الصراع قد ينجم عنه بعض زلات ومعاص فيسارع المؤمن بالاستغفار والتوبة، وقد يخرج منه منتصراً على هواه وغرائزه وحينئذ يكون تقياً.يقول سبحانه و تعالى عن سيطرة الشيطان على المشركين دون المؤمنين ﴿إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ. إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ (النحل 99،100)، ويقول ﴿إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر 42). ويزيد من حدة الصراع فى داخل المؤمن أنه متفاعل مع البيئة، مطالب ليس فقط بمراعاة التقوى فى نفسه أثناء تعامله مع خضم الحياة- ولكن مطالب أيضاً بأن يؤثر فى مجتمعه بالخير، ومن الطبيعى وهو بشر غير معصوم أن تؤثر فيه بعض المحن وأن يستسلم حيناً للهوى وحظ النفس وحيل الشيطان، وحين يقع فى حبائل الشيطان فلن يكون تقياً، وحين يسارع بالتوبة والندم يكون تائباً، وحين ينجح فى السيطرة على نفسه وغرائزه وينجو من الوقوع فى الإثم يكون تقياً نقياً، وتلك مجرد حالة من حالاته.وهكذا، فتقواه فى حالة تغير مستمر وارتفاع وانخفاض طالما بقى حياً. والمؤمن إذا وقع فى المعصية - ولابد أن يحدث هذا- فسارع بالتوبة وعزم على ألا يعود  فيكون حينئذ ضمن المتقين طالما بر بوعده وأقلع، يقول تعالى ﴿وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْملُونَ﴾(آل عمران 135). فجعل من صفات المتقين المسارعة بذكر الله إذا وقع فعلاً فى معصية والعزم الصادق على ألا يصر على فعل المعصية. فالتقوى حركة مستمرة باستمرار الحياة يقويها فى نفس المؤمن الاستمرار فى ذكر الله تعالى، ومعنى أن يداوم على ذكر الله أن يخشاه ﴿إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف 201).

وليس معنى ذلك أن المؤمن ملتزم تماماً بالتقوى، لذا شرع الله جلّ وعلا العبادات وسائل للتقوى تعين المؤمن على الاستغفار وتوثّق صلته بره جلّ وعلا .ومن العبادات ( ذكر الله ) الذى يتكرّر ساعات الليل والنهار، ومنها ما يتكرّر خمس مرات فى اليوم ( الصلاة )، ومنها ما يستمر شهرا فى العام كالصوم ، ومنها ما يكون عبادة مركّزة للسمو بالنفس بالحج الى بيت الله الحرام مرة أو أكثر فى العُمر للمستطيع.  ومن الضرورى أن ينجح المؤمن فى هذا الاختبار بأن يتمّ ( الحجّ ) لله ، أى يؤدّيه على أحسن ما يمكن إبتغاء مرضاة الله جلّ وعلا . وبهذا ينجو من حبائل الشيطان . فالشيطان توعّد بإضلال أبناء آدم فقال له جلّ وعلا : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) الحجر)(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) (الاسراء). وبإتمام الحج والصوم على أحسن ما ينبغى وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبإستدامة ذكر الله جل وعلا وبالتوبة والاستغفار لا يكون سلطان  للشيطان على المؤمن (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)(النحل ).

ويوم القيامة يقول رب العزة للغاوين من أبناء آدم (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64)( يس ). ويتم إلقاؤهم مع الشيطان فى جهنم ، حيث يتلاومون فيها: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)( الشعراء ) ويتبرأ منهم الشيطان : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)(ابراهيم) .من أولئك الغاوين الضالين من كان يحج ولكنّه لم ( يتم) الحج لله . كان يحج على الطريقة السعودية الوهابية ، يجعل الحج ليس مناسبة للتقوى ولكن للفجور والعصيان ..والبيزينس .!!

إتمام العمر بالطاعة :

1 ــ لقد أعطى رب العزة جلّ وعلا كل نفس بشرية مساحة زمنية ترتدى فيها جسدها وتعيش وقتها المحدد فى هذه الدنيا ، يبدأ الوقت المحدد بالميلاد وينتهى بالموت . وبالموت تفارق جسدها لتعود الى البرزخ الذى قدمت منه ، وقد وفّت عمرها ورزقها وكتاب أعمالها ، وتنتظر وقت البعث . إختبار النفس البشرية هو فى تلك الحياة الدنيا ، وقت حياتها فيها. ويوم القيامة تأتى توفية أخيرة بالحساب ، وبه تدخل النفس الجنة أو النار بعملها ، حيث لا يدخل الجنة إلا المتقون ، ونرجو أن نتدبر هنا قوله جل وعلا : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)( الزمر )

2 ـ لكى تكون النفس البشرية من أهل الجنة لا بد من أن ( تتم ) العمر فى تقوى ، أى لا بد أن تستمر فى التقوى الى موعد الاحتضار . أى لا بد من التوبة مبكرا ، وكلما كانت التوبة مبكرة كان أفضل ، إذ لا تنفع التوبة المتأخرة عند الاحتضار:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18)النساء ).   ولأنّ مجرد الايمان لا ينفع بل لا بد فيه من التقوى والتمسك بها حتى الموت فإن الله جل وعلا يقول لنا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) آل عمران)، لذا فإن يوسف عليه السلام يدعو ربّه جل وعلا أن يموت مسلما وأن يلحقه ربه بالصالحين فى الآخرة:(تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)   )( يوسف).

أى ليس النجاح فى إختبار هذه الحياة بإتمام الحج والعمر لله جل وعلا فقط ، ولكن إتمام العمر كله فى التقوى ، بأن يتمّ المؤمن كل عباداته وكل أعماله الصالحة ليكون بها صالحا لدخول الجنة .

 

الفصل الخامس  :  تشريعات الحج فى ضوء التقوى

 مقدمة

1 – مدارات التشريع الاسلامى فى القرآن الكريم ثلاثة: الفرض المكتوب او الاوامر ، ثم النواهى أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح. ومنهج القرآن فيها أن يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا ، واذا كان هناك تشريع سابق يحرم شيئا وجاء القرآن بتحليله مجددا يأتى ذلك فى القرآن فى سياق الحلال الجديد كقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) البقرة 187) .وجاء الدين السنى بغيّر ويضيف ويحلّ ويحرّم ، وجعل مدارت التشريع خمسة، انتزع من المباح الحلال ،درجتين : هما المكروه والمندوب او المحبّب المسنون . فالمكروه هومباح ينبغى تركه ودرجة اقل من الحرام، والمندوب اوالمسنون هو مباح ينبغى فعله وان لم يكن واجبا لأنه اقل من الفرض الواجب  .

وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعى الاسلامى القرآنى نتيجتان :* الاولى:-   اضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن وهى المكروه والمندوب ، وعلى سبيل المثال فإن المكروه فى مصطلحات القرآن ليس مباحا اقل درجة من الحرام كما يقولون بل هو اشد انواع الحرام تجريما، قال تعالى (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )(7) الحجرات 7) فالمحبّب عند الله جلّ وعلا هو الإيمان ، والمكروه هو الكفر والفسوق والعصيان . وبعد ان جاء تحريم الكفر وعقوق الوالدين والسرقة والقتل والزنا وأكل مال اليتيم فى سورة الاسراء قال تعالى عن هذه الكبائر:  (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) . * الثانية :-هى التضييق من دائرة الحلال المباح وتحويل المباح الحلال الى مكروه لا ينبغى العمل به، وهذا يعنى التدخل فى تشريع الله تعالى من حيث الدرجة ومن حيث التفصيلات.

2 ــ  بالنسبة للحج ففيه أوامر ونواهى ، وبينهما حلال مباح، والتقوى تغلّف كل هذا وتصاحب المؤمن فى تأديته المناسك . ونعطى التفاصيل هنا.

أولا : التقوى فى الأوامر والنواهى

1 ــ  فى سورة البقرة يقول جلّ وعلا:( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197). أى فالذى فرض على نفسه تأدية فريضة الحج عليه أن يجتنب الرفث ، وهو مجرد الكلام الجنسى مع الزوجة ، وما يوصّل اليه ، والفسوق أى عموم المعاصى ، والجدال . الرفث مع الزوجة مباح فى غير وقت الحج ، والجدال  مباح بشروطه خارج وقت الحج ، ولكنهما حرام فى الحج . والفسوق حرام فى كل وقت ، وفى وقت الحج يحرم مجرد النية وإرادة الظلم والإلحاد والفسوق : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ).

وبسبب هذا التشريع الخاص المشدّد يأتى التذكير بالتقوى صراحة فى إعتبار الحج وسيلة للتقوى ، وأنّ التقوى هى خير زاد يتزوّد به المؤمن فى رحلته فى هذه الدنيا قبل أن يموت : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ).

وتأتى الاشارة ضمنيا بالتقوى فى قوله جلّ وعلا :( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) فهنا هى المرة الوحيدة فى القرآن التى يأتى فيها لفظ ( الفرض) منسوبا للبشر وليس للخالق جل وعلا فيما يخص العبادات والتعامل مع رب العزّة . العادة أن يأتى الفرض من الله أمرا لازما لنا ، كقوله جل وعلا فى تشريع عقوبة الزنا : ( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) النور)وقوله جل وعلا لخاتم المرسلين : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)( القصص ) (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)الاحزاب ) وقوله عن المؤمنين:( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) ( الأحزاب) ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) التحريم ). فى حقوق الزوجة والتعامل بين البشر يأتى ( الفرض والفريضة) بمعنى الصداق :( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)النساء) ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)(237) البقرة ).

ولكنها المرة الوحيدة فى القرآن أن يأتى ( الفرض) منسوبا للشخص نفسه :(  فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) ، أى من أوجب على نفسه فريضة الحج إبتغاء مرضاة الله جل وعلا فعليه أن يتقى ربه فلا يرفث ولا يجادل ولا يعصى ولا يفسق . وهنا تعامل قلبى بين المؤمن الذى فرض على نفسه فريضة الحج وربّ العزّة . وهذا التعبير بالفرضية الذاتية أو الإلتزام الذاتى من أبلغ الدلالات الضمنية فى موضوع التقوى . وتتأكّد هذه الإشارة الضمنية بالتقوى فى أن هذا المؤمن التقى الذى فرض على نفسه فريضة الحج لا بد أن يبدأ بالتأكيد على نفسه بأن الله جل وعلا يعلم سريرته ومطلع على أعماله وتصرفاته ، وبالتالى عليه أن يتقى الله ، وهذا هو معنى قوله جل وعلا فى نفس الآية :  (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ).

2 ــ يقول جلّ وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ).المائدة 1 : 2 )

النواهى هنا هى (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )،(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ). والأوامر:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).وتأتى الأوامر والنواهى معا:(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )  والمباح (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ). والتقوى هى الأساس :(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ).

3 ــ ويقول جلّ وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ . أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )( المائدة 94 : 98 ).

النواهى هنا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )(  وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) والفرض الواجب هو بالفدية الواجبة على من يقتل الصيد فى حالة الإحرام (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً ) . والمباح الحلال هو صيد البحر (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) ومفهوم من قوله جل وعلا (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) أنه مباح وحلال صيد البر فى غير الاحرام .

والتقوى تغلّف هذا التشريع ، تأتى صراحة فى قوله جل وعلا:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )، وتأتى  ضمنا فى صور مختلفة : الاختبار لمدى خشية المؤمن فى الحج بأن يجعل الله حيوانات الصيد تقترب من الحجاج ليتبيّن المتقى من غيره :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ). أن يكون الحاج المؤمن رقيبا على نفسه وحكما على نفسه فى تطبيق التشريع ، فى قوله جلّ وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ  )، فموضوع التعمّد يرجع تقديره للشخص نفسه ، فالمؤمن الذى تعمّد قتل الصيد وهو فى حالة الإحرام هو الذى يبادر بنفسه بدفع الفدية خشية من ربه جل وعلا . ليس هنا ضبطية قضائية بشرية ، ولا تستطيع إمكانات السلطة البشرية تحديد هل هو متعمّد أم لا . هذا يرجع للمؤمن ومدى ما فى قلبه من تقوى ، أو بتعبير عصرنا يرجع الى ضمير المؤمن ، ونحن هنا فى تجربة وإختبار للتقوى فى ضمير المؤمن فى فريضة الحج. وتأنى التقوى ضمنا فى أسلوب الترهيب فى قوله جل وعلا :  ( فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) .(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

ثانيا : فى مستجدات التشريع فى الحج : الاحصار

1 ـ تشريع الحج للبيت الحرام جاء عاما لكل البشر فى الكرة الأرضية ، ليفدوا الى بيت الله الحرام : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج )، ولكنّ قريشا منعت النبى والمسلمين من الحج فقال جل وعلا فيهم :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج )، . وحين منعوا النبى والمؤمنين فعلا من دخول مكة قال جل وعلا : ( هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) الفتح ) .

2 ـ وفى هذا الوضع الجديد نزل تشريع جديد فى الحج هو ( الإحصار).يقول فيه جل وعلا: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196). البقرة )

الأوامر هنا متشابكة مع النواهى :( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ )، إى (يجب )على المحصور الممنوع من الحج لسبب خارج إرادته أن يرسل الهدى الى البيت الحرام ، وهو (منهى) عن حلق رأسه حتى يصل الهدى الى البيت الحرام :(وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)وهو (مأمور) بدفع الفدية لو اضطر لحلق رأسه :( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ). وفى حالة الأمن من الإحصار أو رفع الحصر فمن أراد التمتع بالعمرة الى الحج فهذا (مباح وحلال )ومتاح ، ولكن (يجب ) عليه تقديم ما يستطيع من الهدى : (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ )، فإن عجز عنه وجب عليه صوم عشرة أيام ؛ ثلاثة منها فى الحج ، وسبعة بعد الرجوع  . ويأتى تذييل التشريع بالتقوى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ).

ثالثا :  الرد بالتقوى على الابتداع والتحريف والتدين السطحى الظاهرى :

1 ـ  نزل تشريع القرآن يردّ على تحريف قريش فى ملة ابراهيم فيما يخصّ الحج ، فقد حوّلوا التقوى الى تدين سطحى إحترافى ، كان يعطى القرشيين لقب ( الحمس ) ، ويعطيهم طقوسا خاصة يتميّزون بها عن الحجّاج الوافدين من القبائل العربية ، منها أنهم وقت الاحرام لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكن من ظهورها ليظهروا بمظهر الأبرار المتقين ، فقال جل وعلا  ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) البقرة) ، أى فالتقوى داخل القلب وليس بالمظهر . (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).!!

2 ـ وإعتبر القرشيون أنفسهم أولياء الله بسبب قيامهم على رعاية البيت ورعاية الحجاج ، ومع تكذيبهم للقرآن الكريم فقد أعطوا أنفسهم الحق فى ملكية بيت الله الحرام ومنع خصومهم من الحج ، وجاء الردّ من ربّ العزة إنهم ليسوا أولياء الله جل وعلا ، فأولياؤه هم المتقون ، وليس كفار قريش من المتقين. قال جل وعلا عنهم : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)الأنفال)

 3 ـ وإعتبر القرشيون أنفسهم أفضل المؤمنين لأنهم القائمون بعمارة البيت الحرام وسقاية الحجاج ، وتناسوا أن التعمير الحقيقى هو بالتقوى وبالمتقين ، ولا يمكن للقلوب المشركة الكافرة أن تعمّر بيتا لله جل وعلا ، فالذى يعمّر بيوت الله هم المتقون الذين لا يخشون إلّا الله ، ولا وجه للمقارنة بينهم وبين الكافرين الظالمين ، يقول جل وعلا: ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) التوبة ). والتدبر فى هذه الآيات الكريمة يؤكد أنها تنطبق على آل سعود فى عصرنا.

4 ـ وتدخل القرشيون فى شرع الله فى الحج ، فأوجبوا السعى بين جبلى الصفا والمروة ، وهو تطوّع مباح وليس واجبا ، فنزل قوله جل وعلا : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة ). هنا يأتى التنبيه على الأهم وهو التطوّع القائم على التقوى .

5 ـ ولا جناح على من يستغل فريضة الحج فى التكسب بالمباحات ، بل يتحول هذا المباح الى حسنات وقربى الى الله جل وعلا لو إستشعر المؤمن فضل الله جل وعلا عليه ، يقول جلّ وعلا : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ):البقرة 198 ).

أخيرا : التقوى تغلّف مناسك الحج وأوامره ونواهيه ، وحتى المباح فيه . ولا مجال فى الحج للتدين الظاهرى السطحى المرائى المنافق ، كما يقع فيه عوام المسلمين ووعّاظهم وأئمة ديانهم أ أديانهم الأرضية ، ولقد ورثوا من أئمة أديانهم الأرضية تحويل المباح الى مكروه وحرام وواجب ومستحب مسنون مندوب . وسيأتى تفصيل ذلك فى الحديث عن الحج فى الدين السّنى حيث تفوّق السنيون على كفار قريش فى تقويض فريضة الحج الاسلامى ، ولكن إشتركوا معهم فى تجنب التقوى وتجاهلها . وهذا جعلهم لا يفهمون معنى الاحرام ، إذ جعلوه مجرد لباس معين يؤكّد على التدين السطحى المظهرى بديلا عن التقوى القلبية .  

 

 

 

الفصل السادس : الاحرام تجسيد للتقوى فى الحج : ( الحج هو الاحرام : الحج أشهر معلومات)

مقدمة :

1 ـ التقوى تتجسّد فى الحج بالاحرام . لا تتجسّد بالزى كما يفعل حجاج المسلمين اليوم حين يتحوّل الاحرام بالحج الى زىّ يكشف عورة الرجل ويعرقل حركته فى الطواف والصلاة وسائر المناسك . الإحرام بالحج يعنى أن تجتمع الحرمات الثلاث فى نفس الزمان ونفس المكان ومع خشوع قلب الانسان . هذه هى حكمة الحج الذى تجتمع فيه الحرمات الثلاثة :  الحرم المكانى وهو بيت الله الحرام ، والحرم المكانى هو الشهر الحرام ، والحرم الانسانى وهو القلب محل التقوى ، أو بالتعبير القرآنى ( تقوى القلوب ) وجاء هذا فى سياق تشريعات الحج فى سورة الحج (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32).

2 ـ و" حرم الإنسان " هو ما يحميه الإنسان وما يقاتل دفاعا عنه، و" الحُرمة " بضم الحاء مالا يحل انتهاكه، و" حرمك " بفتح الحاء أي نساؤك وما تحمي ، وهي (المحارم) ، والواحدة منها (محرمة) ، وكما للإنسان "حرم" يدافع عنه ويحميه فالله تعالى ثلاث من "الحرم ": زمانى ومكانى وقلبى إنسانى، وبالحج تجتمع الحرمات الثلاث فى الزمان والمكان والانسان.وهذا هو معنى (الاحرام )، إذ يؤدي الحاج مناسك الحج للبيت الحرام في الأشهر الحرم بقلب ملىء بالتقوى حيث الحرم الثالث داخل الإنسان. ومن هنا تأتى عالمية الحج ، فالدعوة من الله جل وعلا خالق الكون لكل البشر أن يقوموا بالحج في الأشهر الحرم إلى بيت الله العتيق أول بيت وضع للناس ببكة مباركاً وهدى للعالمين. ونتوقف مع بعض التفصيل.  أولا : الحرم الزمانى : الاحرام والأشهر الحرم:

 1 ـ حرم الله الزمانى وهو الأشهر الحرم الأربعة التي منع الله فيه الإنسان من أن يظلم أخاه ، وبالتالي فلا قتال إلا في حالة الدفاع . وهذا تشريع عام لكل البشر فى أى زمان وأى مكان:( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )(36) التوبة). والحج للبيت الحرام ( الحرم المكانى ) يكون خلال هذه الأشهر الحرام . ويأتى التعبير القرآنى عنها بالأشهر الحرم وبالشهر الحرام . ويتم الحج فى أى وقت خلال الأشهر الحرم الأربعة ، حيث يستمر حج الفرد بضعة أيام ، يقضى فيها المناسك ثم يعود الى بيته. ويظل موسم الحج مفتوحا من بداية إفتتاح موسم الحج فيما يعرف بالحج الأكبر فى الاسبوع الأول من شهر ذى الحجة الى أن تنتهى الأشهر الأربعة الحرم مع نهاية ربيع الأول . ثم يأتى التيسير الالهى بجواز البدء بالحج بيومين قبل بدء شهر ذى الحجة ،وجواز التأخر يومين بعد إنتهاء الأشهر الحرم الأربعة فى ربيع الأول ، أى أول يومين فى ربيع الثانى .

2 ـ عن الأشهر الحرم التي يجوز الحج خلالها يقول رب العزة: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ  )(البقرة /197 ) . إذن هناك أشهر معلومة للحج يعلمها العرب، ومن أدى فريضة الحج في هذه الأشهر فعليه ان يلتزم بواجبات الحج والإحرام عند بيت الله. ومدة الحج خلال هذه الأشهر تستغرق أياماً معدودات معلومات لمن ادى الفريضة فيهن. وهذه الأيام المعدودات تكفي كل مناسك الحج من طواف ووقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة وتقديم الهدي .والله تعالى يبيح للمضطر أن يبدأ الحج قبل بدايته بيومين او ان يتأخر بعده بيومين:( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.(203) البقرة). والشرط هنا هو مراعاة التقوى لمن يتقدم قبل الموعد ولمن يتأخّر بعده:( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) ( البقرة ). والتعبير عن الحج هنا بذكر الله ، وسبق التعرّض لارتباط ذكر الله بالتقوى فى فريضة الحج . والمدة التى تتم فيها مناسك الحج هى (أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) يتم فيها ( ذكر الله ) فى مناسك الحج ،و يكون فيها تنفيذ (الاحرام) فى الحج .هى معدودات لأنه يتم فيها حساب التقوى أو تطبيق الاحرام بالدقيقة والساعة واليوم ، أى معايشة للتقوى خلال أيام معدودات محسوبات يستيقظ فيها ( ضمير المؤمن ) ذاكرا الله جل وعلا مستشعرا تجربة التقوى، أو حسب التعبير المعاصر ( تجربة روحية ). فيها يجتمع الحرم الزمانى (الشهر الحرام) بالحرم المكانى (البيت الحرام) مع قلب المؤمن ( الحرم الانسانى) الذى يتنفس التقوى ويسمو بالنفس .

3 ـ والنسق القرآني يجمع بين الحرمات الثلاث في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)(2)المائدة). فالناس يحجون إلى البيت الحرام في الشهر الحرام. وقد نهى الله تعالى عن استحلال شعائر الله والشهر الحرام والهدي والقلائد وحجاج البيت الحرام . فجمع هنا بين الحرم الزماني والحرم المكاني وما يتصل بهما. والحرم الانسانى أى القلب مفهوم وجوده فى السياق ضمنا ، لأنّ الله جل وعلا يخاطب قلوب المؤمنين يأمرهم بعدم إستحلال شعائر الله والشهر الحرام والهدى المقدم للبيت الحرام ، وحتى القلائد التى يتم بها تزيين وتمييز الحيوانات المقدمة هديا للبيت الحرام ، وعدم إستحلال حقوق وحياة القادمين للحج الذين يؤمون أو يقصدون أو يسافرون للبيت الحرام ، وعدم الاعتداء على من كان عدوا فى الأشهر الحرم ، ويأتى ختم الآية الكريمة بالتقوى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2).وهنا أيضا إشارة للإحرام أو تجسيد وتطبيق التقوى وقت الاحرام الذى يختلف عن الأوقات الأخرى حين يكون ( الحلّ) ( بكسر الحاء وتشديد اللام )، أى بعد انتهاء فترة ( الاحرام ) يعود الانسان الى ( الحلّ) ، ويمكن له حينئذ أن يصطاد : (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ).

ويقول سبحانه وتعالى:( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )(97) المائدة) فالكعبة هي الحرم المكاني والشهر الحرام هو الحرم الزماني . وأيضا فالحرم الانسانى موجود هنا بالأمر بالتقوى وخشية الله جل وعلا :(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)المائدة ) .

وعن تحريم القتال في الشهر الحرام (الحرم الزمانى ) وعند البيت الحرام (الحرم المكانى ) يقول سبحانه وتعالى عن المشركين المعتدين البادئين بالعدوان على المسلمين المسالمين : ( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ )(191) البقرة ). وتأتى التقوى فى نهاية التشريع فى الحديث عن الحرم الزمانى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ)(194) البقرة )، ثم بعدها تفصيلات الحج:( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) إلى ان يقول الله جلّ وعلا :(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) (البقرة 196: 197 ).

4 ــ ويبدأ موسم الحج بشهر ذي الحجة. والقرآن يؤكد أن الأشهر الحرم أربعة:( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )(36) التوبة)، والآية التالية يبيّن فيها رب العزّة جل وعلا كيف حرّف العرب في الأشهر الحرم فقال: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) التوبة).

5 ـ وعاد التحريف في الأشهر الحرم بعد نزول القرآن ، فقد جعلوا شهر "رجب " أحد الأشهر الحرم ، وهو شهر منفصل عن بقية الأشهر التى إعتمدوها أشهرا حرما بالمخالفة لشرع الله جلّ وعلا. يروى البخارى حديث ابن عمر " أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذى الحج " وقال ابن عباس " ومن السنة أن لا يحرم بالحج إلا فى أشهر الحج " ( البخارى 2/173 ) .وأشهر الحج عند الشافعى هى شوال وذو القعدة وذوالحجة ( الأم 2/132 ) ويؤكد نفس المعنى ابن كثير بحديث يقول :( الحج أشهر معلومات : شوال وذوالقعدة وذوالحجة ).ويقول ابن كثير عن إختلاف المذاهب فى وقت الحج " بعضهم يرى بصحة الأحرام بالحج فى جميع شهور السنة ، وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة وابن حنبل وإسحق بن راحوين والنخعى والثورى والليث بن سعد . وذهب الشافعى إلى أنه لا يصح الحج إلا فى أشهره واستدل بقوله سبحانه وتعالى " الحج أشهر معلومات "وبحديث جابر" لا ينبغى لأحد أن يحرم بالحج إلا فى أشهر الحج " ( تفسير ابن كثير 1/236 ، 235 ) .هذا فى الدين الأرضى السّنى.

 6 ـ ومن خلال سورة التوبة نتعرف على الأشهر الحرم الحقيقية فى الاسلام . فالرسول حج حجة الوداع في شهر ذي الحجة الحرام سنة 10 هجرية وفيه نزل إعلان البراءة من كل المشركين المعتدين ناكثى العهود . وأذيع ذلك الاعلان يوم الحج الأكبر ـ أو بداية موسم الحج ـ وأعطى المشركين مهلة أربعة أشهر هي الأشهر الحرم ليدخلوا في السلام أو الاسلام السلوكى بالكف عن الاعتداء وحفظ المواثيق . يقول الله سبحانه وتعالى : ( بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) التوبة). إذن هو إعلان بمهلة أربعة أشهر.  فمتى تبدأ هذه المهلة ؟، يقول جلّ وعلا : ( وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) (3)  التوبة". إذن تبدأ المهلة من يوم الحج الأكبر في شهر ذي الحجة . واسمه الحج الأكبر لأنه إفتتاح موسم الحج .ويستمر موسم الحج طيلة الأشهر الأربعة التالية . والمفهوم أن يسرى ويستمر ويتتابع مفعول الآذان ـ او الانذار ـ في الشهور التالية لتكون الأشهر الحرم هي:( ذو الحجة ، محرم ، صفر ، ربيع أول ) فليس معقولاً ان ينذرهم الله بأشهر سابقة هي شوال وذو القعدة.! ثم يقول الله تعالى : (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ )(ٌ 5)التوبة). يقول سبحانه وتعالى:( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) والانسلاخ فى اللسان العربى وفى اللسان القرآنى يفيد التتابع، أي ان الأشهر الأربعة الحرم تأتي متتابعة متلاحقة . وعن مفهوم الانسلاخ بالتتابع يقول سبحانه وتعالى : ( وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)يس )، فالله سبحانه وتعالى يسلخ النهار عن الليل فيحل الظلام ،والنهار ينسلخ بالتتابع ومرة واحدة ،ولا تبقى أجزاء من النهار تأتي بعد الظلام. إذن كيف يكون رجب من الأشهر الحرم ؟وكيف يكون شوال وذو القعدة منهما ؟؟.

7 ــ ومن رحمة الله جلّ وعلا أن جعل مدة تأدية مناسك الحج أياما معدودات وقرنها بتيسير أكثر، فقال : (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)َ(203) البقرة) . أي ان الله تعالى أجاز لمن يبدأ المناسك قبل ذي الحجة بيومين أو بعد أنتهاء ربيع الأول بيومين طالما إتقى الله .وقد قال تعالى " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )( 197) البقرة )، ذلك يعني بوضوح ان للمسلم أن يؤدي مناسك الحج في أي وقت خلال الأشهر الحرم الأربعة التي تبدا بذي الحجة فالمحرم فصفر فربيع الأول ، وله أن يتعجل قبلها بيومين او يتاخر بعدها بيومين إذا اتقى الله .وهذا تيسير من الله جلّ وعلا ، علاوة على أنه يحقق الحكمة من الحج حين يقترن الشهر الحرام بالبيت الحرام بالاحرام القلبى في موسم الحج . ولكن الذي حدث أن الناس حصروا الحج في بداية ذي الحجة إلى يوم الحج الأكبر . أي أقتصروا في الحج على موسم الافتتاح وحده ، ونسوا الباقي ، وتناسوا قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ). وترتب عليه في عصرنا الراهن أن أصبح الحج عذاباً حين يتكدس الملايين في وقت واحد في مكان واحد يؤدون مشاعرهم معاً في وقت واحد ..

8 ـ هنا يبدو الفارق بين التيسير والتسهيل والتخفيف فى الدين الالهى عكس الدين الأرضى الذى يقوم دائما على التعسير والحظر والتعقيد والتزمت والتطرف . يقول جل وعلا عن رفع الحرج : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا (78) الحج ) (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (6) المائدة)، ويقول جل وعلا عن التخفيف ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28 )( النساء )ويقول:(ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ )(178) البقرة ) ويقول (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) (185) البقرة ).

ويتجلّى التيسير فى فى تشريع الحج أكثر، فهو على المستطيع فقط أى لمن إستطاع اليه سبيلا وخلال أربعة أشهروليس فى اسبوع واحد ، وتيسيرا على المحصور نزل له تشريع خاص. وبالتالى فإن تكدس الناس بالملايين فى اسبوع واحد يجعل الحج غير واجب فى هذا التكدس لأن فيه حرجا ومشقة وعدم إستطاعة ، وبالتالى أيضا فأمام الناس متسع لتأدية مناسك الحج فى أى اسبوع خلال الأشهر الحرم الأربعة من ذى الحجة الى نهاية ربيع الأول . بل يأتى التخفيف بيومين قبل وبعد الأشهر الحرم . وإذا منع آل سعود الحج فى هذه الأشهر الحرم فيمكن لمن يريد الحج تطبيق شريعة الاحصار ، أى يظل فى بيته ويرسل ما تيسّر من الهدى الى البيت الحرام ، ويلتزم الإحرام فى بيته ولا يحلق شعره الى أن ينتهى الوقت الذى حدده لأداء المناسك. والآن توجد الرفاهية مؤكدة فى الحرم ولم يعد يحتاج الناس هناك للذبائح كما كان من قبل، بل قد يصبح تكدس الذبائح مشكلة، وقد يتم إلقاء بعضها فى الزيالة كما يقال ، لذا يمكن للحاج المحصور أن يرسل بالهدى الى المناطق التى تعانى من المجاعات ، ويخلص لله جل وعلا قلبه وييعمّر قلبه بالتقوى ، فهذا هو الغرض الأسمى من الحج .

9 ـ ولكن كيف حدث أن نسى الناس الأشهر الحرم ونسوا الحج خلالها ؟ وكيف قصروا تأدية الحج فى اسبوع واحد هو أول اسبوع من ذى الحجة ؟ . السياسة هي السبب ، فقد أنتقلت حركة الأحداث بعد الخلفاء الراشدين إلى العواصم الجديدة في الكوفة ثم في دمشق ثم في بغداد والفسطاط والقاهرة وبالتدريج تحولت الجزيرة العربية منذ القرن الثالث إلى الجاهلية فبدأت الغارات على قوافل الحجاج، مما استلزم ـ منذ بداية عصر التدوين ـ ان يتجمع الحجاج في مسيرة واحدة في وقت واحد ويقوم على حمايتهم جيش يقوده أمير الحج . وبذلك كانت وفود الحجيج من كل مكان تأتي في شكل حملات عسكرية لتحمي الحجاج من غارات البدو ، خصوصاً حين كانت الغارات على الحجاج تأخذ تشريعا أرضيا كما كان يفعل الخوارج ثم فى حركة الزنج ثم القرامطة . كانت تلك الأديان الأرضية تنتشر بين قبائل العرب فى منطقة نجد وغيرها. ومعلوم ما فعله القرامطة بالحجاج وبيت الله الحرام ، وقفزت غارات القرامطة إلى سطور التاريخ لارتباطها بحركات سياسية ، اما الغارات العادية للقبائل فقد كانت من الأنشطة العادية ، مما استلزم تجميع الوفود القادمة للحج لتكون في موسم الأفتتاح فقط . ولأن ذلك حدث مواكباً لبداية التدوين المنظم منذ القرن الثالث فقد صار تشريعاً بالأحاديث التي راجت في العصر العباسي . ويضاف إلى ذلك أن الخلفاء الأمويين وغيرهم ـ حرصوا على استغلال موسم الحج للدعاية السياسية في عصر لم يكن الاتصال فيه بين الولايات ميسوراً لذا كان موسم الحج فرصة سياسية ودعائية للخليفة ، سرعان ما استثمره العباسيون ، وغيرهم ، وصار الحج من الأدوات السياسية التي تستلزم حشد الجماهير في وقت محدد . وبذلك ترسب في الشعور أن الحج هو في تلك الأيام القليلة في بداية شهر ذي الحجة فقط .

 ثانيا : الحرم المكانى والاحرام فى البيت الحرام " الكعبة ":

1 ـ تاريخ حرمتها مرتبط ببداية الوجود البشرى على هذه الأرض :(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) آل عمران)،فهي اول بيت لله في هذه الأرض ، وأول بيت وضعه الله جل وعلا للناس مذ كان على الأرض ناس ، لذا فهو البيت العتيق أى المغرق في القدم .وقد اظهر الله مكان البيت لإبراهيم وأمره بإقامة قواعده، أي كان البيت الحرام معروفاً قبل إبراهيم،ولكن أمر الله إبراهيم أن يطهره من مظاهر الشرك التي أقامها القدماء حول البيت:( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) الحج). وإستمرت حرمتها في الجاهلية فامتنّ الله جلّ وعلا على قريش أن عاشت آمنة منعّمة حول الكعبة فقال تعالى:( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش) وقال عنهم:( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا)(57) القصص).وقال جلّ وعلا:(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )(67) العنكبوت) وأمر الله جل وعلا رسوله الكريم أن يقول:( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا )(91) النمل).ولا تزال حرمتها قائمة برغم تحريف أديان المسلمين الأرضية .

 2 ـ ومن مظاهر حرمة (البيت الحرام ) أنّ من دخله كان آمنا ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )(97) آل عمران )، وهو مقصد ومثابة للناس وموضع الأمن لهم: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً )(125)  البقرة ). ومن قصد البيت حاجّا فلا بد أن يتمتع بالأمن ، ليس هو فقط ، بل يتمتع بالأمن ما يحمله الحجاج من حيوانات الهدي والقلائد التى تميّزها وترافقهم ليقدموها هديا وهم في طريقهم للبيت:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً )(2) المائدة ) . ويتمتع بالأمن الحيوان البرى والطير في داخل الحرم: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)(1) المائدة)،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )(95) المائدة )، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (96) المائدة ) . ويحرم قتل الأحياء من الهوام والحشرات حتى فى الرأس ، ولذا يجب الحلق والتقصير قبل الدخول فى الاحرام . ويحرم القتال في مكة إلا للدفاع عن النفس :( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) البقرة). قال (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ) ولم يقل فإن (قاتلوكم فقاتلوهم ) وهى تفيد القصاص العادل ،لأنّ (قاتلوهم) تفيد مواصلة القتل،ولكن (فَاقْتُلُوهُمْ) تحصر القتل فى المعتدين المهاجمين المصممين على القتال الى النهاية وتستثنى من يغيّر رأيه منهم ويكفّ عن القتال. ومع ذلك فقد أقتتل المسلمون حول البيت الحرام في ثورة ابن الزبير في القرن الأول الهجري واحترقت بينهم الكعبة وكل ذلك بسبب حطام الدنيا ..!! وسيأتى تفصيل ذلك فى أوانه .

 3 ــ وتحيط مكة بالكعبة أو الحرم الالهى المكانى . ومن الحرم المكاني خرجت الرسالة الخاتمة للعالم إلى قيام الساعة ، وإلى الحرم المكاني يتوجه المسلمون نحو الكعبة للصلاة خمس مرات كل يوم ، وإلى الحرم المكاني يتوجهون كل عام في الأشهر الحرم للحج .وإسم مكة في القرآن الكريم هو(أم القرى ) ، ويرتبط هذا الإسم بالحديث عن القرآن الذي جاء عاماً لكل البشر إلى قيام الساعة، وأشرق نوره من مكة أم القرى للعالم ليكون الرسالة الالهية العالمية الأخيرة للبشر جميعا قبيل قيام الساعة، والتى تنبع من مكة أم القرى (مركز العالم) :(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) (7) الشورى).إذن من مكة مركز الكرة الأرضية جاء الإنذار بالقرآن الرسالة الالهية الخاتمة إلى كل العالم : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) (92) الأنعام ). فأم القرى هى مكة مركز العالم ، وما حولها هو العالم كله شمالا وجنوبا وشرقا وغربا . ويقول سبحانه و تعالى عن عن العالم وما فيه من قرى وتجمعات بشرية:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)( (59) الأنعام ).

 إذن مكة التي هي حرم الله المكاني هي في  نفس الوقت أم القرى ، وإليها يتجه المسلمون في الصلاة وفي الحج ومنها خرج القرآن للعالم كله .. وفيها اول بيت وضع للناس منذ أن كان على الكوكب ناس ..

4 ــ وحوائط الكعبة ليست مقدسة فقد بنيت هذه الحوائط وهدمت أكثر من مرة ، بناها إبراهيم وإسماعيل وبنتها قريش في حياة النبي عليه السلام ، وبناها ابن الزبير وغيره، ولم تكن احجار الكعبة من السماء وإنما من الأحجار التي تغطي أرض مكة ، والتي لا تختلف عن أي أحجار أخرى ، والذي يطوف بالبيت يجب أن يعى هذا ،وأن يغمر قلبه بتقوى الله لا بتقديس الأحجار. فليس فى الاسلام تقديس لبشر أو حجر. إنّ الشيئ الهام في الكعبة هو ما تحيط به جدرانها الأربعة ، أى ذلك المكان الذي أرشد الله إبراهيم إليه ، وذلك المكان هو المهم ، إنّه الذي تحدده وتحيط به جدران الكعبة والذى هو نقطة الارتكاز لبيت الله الحرام أو المسجد الحرام والذى قامت حوله مكة أم القرى. ذلك المكان هو نقطة الارتكاز للكرة الأرضية الذى يقع فى منتصفها تماما وفق ما نفهمه من وصف مكة بأم القرى. والذي اختاره الله حرماً مكانياً له تعالى ، والذى يجب أن يتجه إليه البشر من كل انحاء العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في الصلاة والحج .

ثالثا : الحرم الانسانى : القلب المتقى الذى يمارس الإحرام فى الحج تقربا لله جل وعلا .

1 ـ  طبقا لنظرية النسبية فالمكان هو ( الكتلة) بأضلاعه الثلاثة ،والزمن هو البعد الرابع الذي يكمل الأضلاع الثلاثة للمكان ، ونحن نرى المكان ولا نرى الزمن الذي يغلّف المكان .والجسد الإنساني من نفس المواد التي تنتمي إليها كتلة الكون المادي، والزمن هو الذي يغلف جسد الانسان ويعيش من خلاله راكبا قطار الزمن الذى يسير بسرعة 60 ثانية فى الدقيقة و60 دقيقة فى الساعة و24 ساعة فى اليوم . تدخل النفس فى جسد الجنين الخاص بها وهو فى رحم الأم ، ويركب الانسان قطار الزمن  لحظة مولده ويغادره بالموت حين تفارق النفس جسدها . كتلة الانسان المادية تتخللها النفس التي تنتمي إلى عالم البرزخ الذي لا نراه ولا نراها، وأعمال النفس خلال حياتها فى هذا العالم يتم تسجيلها فى كتاب عملها، وعلى أساسه سيكون حسابها بعد البعث والنشور. ومن تلك الأعمال تأدية العبادات ـ وهى وسائل لتقوى النفوس، ومنها الحج . وبالاحرام فى الحج تتألّق التقوى،وبالتقوى يمكن للنفس أن تدخل الجنة .

2 ـ  والكعبة هي الحرم المكاني كما ان الأشهر الحرم هي الحرم الزماني،وذلك أمر مقرر سلفاً منذ خلق الله الكون، يقول جلّ وعلا:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ )(36) التوبة ). وموضوع الزمن من أشد موضوعات العلم تعقيداً . والله جلّ وعلا وحده هو الأعلم لماذا اختار الأربعة أشهر الحرم ( ذو الحجة محرم صفر  ربيع الأول ) من دون أشهر السنة القمرية ، وربما تكون السنة القمرية التي تحسب على أساسها الأشهر الحرم هي الأنسب حيث يتنوع المناخ خلال الفصول فلا يكون موسم الحج في خلال الصيف كل الأعوام. وعند الحج للبيت الحرام في الشهر الحرام ينبغي ان يتوحد الزمان الحرام والمكان الحرام في شخص الحاج الذى يتقى الله جل وعلا بالغيب . وشخص الحاج يتكون من جسد ونفس ، وعند الاحرام يتوحد الحرم المكاني والحرم الزماني في جسد الحاج ونفسه .  فلا حلق ولا تقصير في جسده ولا لغو ولا رفث ولا جدال في حواسه ولا على لسانه ولا إرادة للشرّ في قلبه . أي يكون ـ أو ينبغي أن يكون ـ في نفس المستوى اللائق أن يكون عليه وهو في بيت الله الحرام وشهر الله الحرام ، ما يكون حلالاً له في غير الإحرام يكون محظوراً عليه وهو محرم . وهذا هو معنى الاحرام .

3 ـ إن الذرة هي اصغر وحدة ـ معروفة ـ في المادة ، وهي تتكون من الكترونات " تطوف " حول النواة طوافاً أبدياً . وهي الطاعة التي ألزمها الله جلّ وعلا بها . ولكل كائن طريقته التي جبله الله عليها في التسبيح لله : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ )(44)  الإسراء ).والإلكترون مجبور على الطاعة . ولكن الإنسان لديه الحرية في ان يطيع وان يعصي ، وهو يختار إذا كان مؤمناَ ان يطيع الله بإرادته ، وحين الإحرام فى الحج وحين الطواف حول البيت ، فإنه ـ ذكرا كان أو أنثى ـ  يجب أن يكون محايدا كالإلكترون ، ينسى غرائز الجنس ويكون نقيا ساميا ، بلا شرور في قلبه ولا شهوة في جسده ولا آثام على جوارحه . وكما يطوف الإلكترون حول النواة في الذرة طاعة لله كذلك يطوف الحاج حول حرم الله في مكة ام القرى مركز الكرة الأرضية . فمكة بالنسبة للأرض كالنواة للذرة ، وهنا طواف وهناك طواف ، والدعوة في ذلك عامة لكل الناس في كل الكرة الأرضية . وكما ان لله جلّ وعلا حرماً مكانياً وحرماً زمانياً لا ينبغي ان يشاركه فيها احد ، فلله أيضا حرم في داخل كل إنسان، وهو القلب الذي لا يعلم ما فيه إلا علام الغيوب : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (19) غافر)، لا يستطيع بشر ان يعلم ما في سريرة الآخرين، ولقد قال الله تعالى لرسوله الكريم عن بعض الصحابة: ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )(101) التوبة). وهذا القلب الإنساني الذي لا يعلم ما فيه إلا الله ينبغي ان يكون في الحج خالصاً لله صافياً من نوازع السوء ، يتعامل مع الله جل وعلا مباشرة ، يخشاه وحده ويتقيه وحده . لذلك فإن الله تعالى يعاقب على إرادة السوء فى قلب الحاج وهو فى حالة الاحرام : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ). وإذا نجح المؤمن فى إختبار الاحرام فاز بالتقوى، وتحقّق هدف الحج.

أخيرا

 1 ـ في الإسلام إله واحد هو رب العزة سبحانه وتعالى  هو خالق المكان والزمان والانسان، وله جل وعلا حرم مكاني واحد هو الكعبة، وحرم زماني واحد هو الأشهر الحرم ، والله وحده هو الذي يعلم ما في القلوب، وهو الأعلم بمن إتّقى .ولكن فى أديان المسلمين تتعدّد الآلهة وتتكاثر من صحابة وأئمة وأولياء ، ومن هذا الرجس العقيدى ينبع رجس فى العبادة بتقديس هذه الآلهة الأرضية،من حج للأنصاب والأضرحة ، أشهرها ذلك الرجس المسمى بقبر النبى ، وهو رجس من عمل الشيطان،وقد إخترعوا له حديثا شيطانيا يزعم أنه ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى )( وما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة ).

2 ــ وحيث يوجد هذا الشرك العقيدى وهذا الرجس فى تقديس القبور فلا محلّ أصلا للإحرام ، فكيف يصلح قلب ملىء بالرجس لأن يطهر ويسمو ؟ إن هؤلاء الحجاج يطوفون بالبيت ـ وقلوبهم متعلقة بذلك الرجس المسمى بقبر النبى فى المدينة ، وهم أصلا يحجون على أمل الذهاب للتبرك بهذا الرجس والتمسّح به تبركا .  ولا يتصوّر أحدهم أن يحج الى بيت الله الحرام دون الحج الى ( الحرم الثانى ) أو الرجس الذى فى المدينة أو ما يعرف بالمسجد النبوى . ورئيس الكهنوت السّنى لقبه الرسمى ( خادم الحرمين ) أى حرم الله وبيته الحرام ، وحرم آخر لمن جعلوه الاها مع الله جل وعلا، ونسبوا ذلك ظلما وزورا لخاتم المرسلين وجعلوه سنّة ، كما لو أنّه عليه السلام كان يحج الى قبره فى حياته .!!. هذا هو الشأن فى أى دين أرضى يقوم على خرافات تكتسب تقديسا لأن أحدا لا يجرؤ على مناقشتها ، فإذا تجرأ مفكر مسلم ونقدها لاحقته الاتهامات بالكفر من كل الرعاع.!

3 ــ وبعد الرجس العقيدى نراهم قد غفلوا عن المعنى الحقيقى للإحرام ، والذى شرحنا حكمته هنا . إذ جعلوا الاحرام مظهرا سطحيا ، هو لباس ( الاحرام ) العارى الذى يعيد ما ساد فى الجاهلية من ( طواف العرى ) وهذا للتشجيع على الفسق . ( ولا ننسى شهرتهم فى مجال الشذوذ الجنسى والزنا ) .وموعدنا مع هذا فى الباب الخاص بالشرع السّنى الذى أضاع فريضة الحج الاسلامية .

 4 ـ ولكن علينا أن نتذكر : إنّ الاحرام ليس بهذا الزى المضحك الهزلى والذى يتكون من قطعتى قماش يكشفان العورة للرجل ، وفق ما كان البدو يلبسون . الاحرام هو إخلاص القلب لله جل وعلا فى تأدية مناسك الحج فى الحرم المكانى ( مكة ) وقت تأدية الحج فى الحرم الزمانى ( أيام معدودات خلال أشهر الحرم ). هذا الاخلاص محلّه الحرم الانسانى أى قلب الانسان ونفسه ، بطاعة اوامرالله جلّ وعلا حتى بالامتناع عن الحلال ( الرفث مع الزوجة ) و تصفية القلب من كل نوازع الشر فلا إرادة بالحاد أو ظلم ، والمحافظة التامة على كل كائن حىّ فى بيت الله الحرام حتى إن من يأتى للحج يحلق أو يقصّر شعر رأسه حتى لا يقتل القمل أو الحشرات فى رأسه . الاحرام هو تجربة للتطهر القلبى وممارسة أعلى درجات التقوى بالحج خلال الأشهر الحرم فى بيت الله الحرام . ويبدأ الحاج الاحرام بمجرد دخول الحرم المكانى   وهو يتزين بملابسه طاعة لقوله جل وعلا (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (31)( الاعراف ). وبالتالى فمن العبث تحديد أمكنة مختلفة لللحجاج القادمين لبدء الاحرام كما يقول الدين السنى حين يجعل المكان الفلانى لبدء إحرام أهل مصر والمكان الفلانى للحجاج القادمين من العراق ..الخ . والطريف أن أئمة الدين السّنى الذين حددوا هذه الأماكن للناس فى عصرهم  لم يحددوا أماكن للحجّاج القادمين من استراليا والامريكيتين وأوربا ، لأنهم صنعوا دينا على حسب مقاسهم ومدى معرفتهم . ويكفى أنهم تجاهلوا القرآن الكريم فجعلوا الحج فريضة محلية مقصورة على من جعلوهم من المسلمين فقط . 

 

 

 

الفصل السابع : التقوى وعمومية فريضة الحج على كل البشر

  مقدمة : كما إن الأمر بالتقوى يأتى عاما لكل البشر فإن عبادة الحج تأتى أيضا عامة لكل البشر ، فالحج من وسائل التقوى . ومن مظاهر التعصب لدى الدين السّنى إنهم قصروا الحج على المسلمين دون غيرهم من الناس . فأصبح من شروط الحج أن يكون الحاج مسلماً ، وأصبح من التقاليد المرعية منع غير المسلمين من دخول "الأماكن المقدسة ". هم بذلك حوّلوا الاسلام دين الله جل وعلا الى دين محلى لا يسع لغيرهم ، واحتكروه لأنفسهم ، وتناسوا عالمية فريضة الحج ، وعالمية الأشهر الحرم وعالمية البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس جميعا وامنا ، ومن دخله من الناس ـ أى ناس ـ كان آمنا .

أولا : القرآن الكريم يرفض ذلك .

1 ـ فالحج اوثق العبادات بملة إبراهيم ، ولم تكن ملة إبراهيم مقصورة على فئة معينة من الناس ، وإنما هي دعوة عامة لجميع الناس مهما اختلفت تسمياتهم ، يقول تعالى يخاطب جميع البشر: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) النساء)، ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) البقرة). ودعا الله تعالى اهل الكتاب لإتباع ملة إبراهيم ومنها الحج لبيت الله الحرام:( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) آل عمران).فالبيت الحرام هو أول بيت وضع للناس . وهو هدى للعالمين ، ومن دخله من كل الناس ينبغي ان يكون آمناً . ولله على الناس ـ جميعاً ـ حج البيت من استطاع إليه سبيلا.وهكذا فالنسق القرآني في الآيات يدل على عموم فرضية الحج على كل الناس .

ثانيا : كلمة الناس فى تشريع الحج تعنى البشر جميعا

1 ـ كلمة (الناس) قد تنحصر فى طائفة معينة محددة بالزمان والمكان مفهومة بالقرينة، كقوله تعالى عن قوم إبراهيم عليه السلام:(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)الأنبياء)،ومدين فى عهد موسى عليه السلام:(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ(23)القصص)، والمصريين في عهده أيضا : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) طه)،وحكام مصر في عصر يوسف عليه السلام: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) يوسف)، وأهل الكتاب: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) النحل)، وقد تفيد العرب في عهد محمدعليه السلام:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حولهم ) (67) العنكبوت ) . وقد تتكرر كلمة الناس لتدل على أناس مختلفين فى زمان معين ومكان معين وموقف معين :(الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً)(173)آل عمران).

2 ـ وقد تكون كلمة "الناس" عامة تشمل البشر في كل زمان ومكان ، والقرينة أيضاً تدل على ذلك ، مثل قوله تعالى عن يوم الدين :(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ َ)آل عمران: 9 )، (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُالنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)هود: 103 )(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج )،وقوله عن ذاته جل وعلا : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)). وتكررت في القرآن عبارات(ومن الناس) و(أكثر الناس)، ( يا أيها الناس)، وهي قرينة تدل على عمومية كلمة الناس وتحررها من الزمان والمكان.، مثل قوله جل وعلا : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )(165) البقرة )، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً )النساء:1 ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)الحجرات: 13 ).ومن الأوامر العامة التي جاءت للناس أو البشر جميعاً قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) البقرة)، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (168) البقرة )،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ً) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)النساء 170 ، 174 ). ومن ( كل الناس ) فى كل زمان ومكان يقول رب العزة عن ( بعض الناس ): (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يوسف : 103)( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)الرعد: 1 ).( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ)الحج: : 3 )

3 ـ ومن استقراء كلمة الناس في القرآن وجدنا النسق القرآني في الحج يدل على أنها تعني عموم البشر في كل زمان ومكان وهذه امثلة : ـ

ا ـ يقول تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) آل عمران). الفاظ : (العالمين) تفيد الشمول العمومية،والقرينة في:(أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) و(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )،(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) تفيد شمول الأمر كأنه جلّ وعلا قال:(يا أيها الناس).  ب ـ يقول تعالى:(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة). فالبيت مثابة للناس ـ كل الناس ـ وأمناً لهم.وما احوج البشر في هذه الغابة إلى مكان يكون لهم جميعاً مثابة وامناً. وأمر الله جلّ وعلا إبراهيم واسماعيل عليهما السلام أن يطهرا بيته لجميع الطائفين والعاكفين والركع السجود لكل الناس .

جـ  ـ ويقول سبحانه وتعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) (97)المائدة )، فالبيت الحرام جعله الله جلّ وعلا قياماً للناس جميعاً ، وكذلك الشهر الحرام للناس جميعاً ، والزمن عام للناس جميعاً والشهر الحرام يمر على الناس جميعاً وليس على طائفة دون أخرى ، فالحرم الزماني عام ومثله الحرم المكاني .

د ـ ويقول تعالى عن مشركي قريش حين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) (25) الحج ). فالله تعالى جعل المسجد الحرام لجميع الناس سواءاً، لا فرق بين من يقيم فى مكة أو من يقطع البوادي سفراً إليه .. والذى يصدّ الناس عن القدوم لبيت الله الحرام فقد وقع في جريمة الصّد عن سبيل الله ومسجد الله الحرام . والجريمة التى وقعت فيها قريش حين صدّت المسلمين المسالمين عن المسجد الحرام مالبث أن صارت تشريعا فى الدين السّنى تقوم السعودية على تطبيقه اليوم ، تجعل من بيت الله الحرام ملكية خاصة بآل سعود .!! .

أخيرا :

وقد نشرنا مقالا هنا يدعو الى تحرير البيت الحرام من سيطرة الأسرة السعودية . نعيد نشره للتذكير.

إلى متى يظل المسجد الحرام وفريضة الحج رهينة لدى السعوديين ؟ والى متى تستمر هذه المخالفة لشرع الله جل وعلا؟

أولا :

فى كل موسم حج تحدث وفيات بالمئات نظرا  لتكدس ملايين الحجاج فى أسبوع واحد لقضاء فريضة الحج ، و قد كتبنا فى تأكيد قوله جل وعلا (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ) ( البقرة 197) مقالا قلت فى بدايته :(يمكنك أن تحج خلال أربعة أشهر ، من أول ذى الحجة الى نهاية ربيع الأول.) . ومع أن هذا التيسيرالالهى القرآنى فى فريضة الحج أصبح ضرورة ملحة الآن إلا إنه من المستحيل على الدولة السعودية تطبيقه وجعل موسم الحج مفتوحا من بداية ذى الحجة الى نهاية ربيع الأول ، لأن الوهابية يقوم شرعها على التزمت و التعقيد عكس دين الاسلام القائم على التيسير والتسهيل و التخفيف ورفع الحرج ، ولأن الوهابية السلفية تقدس ما وجدنا عليه آباءنا وما تعارف عليه السلف ، وطالما إختار السلف لظروف سياسية تجميع كل الحجاج فى موسم واحد هو افتتاح موسم الحج لحراستهم من غارات القبائل النجدية وغيرها فلا بد ان يظل الوضع كما هو عليه . وبالتالى فإذا كانت القبائل النجدية ـ التى كانت تقطع الطريق على قوافل الحج لتسلبهم وتقتلهم ـ هى المسئولة فى الماضى عن تركيز الحجاج فى قوافل محمية بجيوش وأمير للحج ،فإن الوهابية النجدية الآن هى المسئولة عن نهب ملايين الحجاج سنويا بفرض تلك الرسوم الباهظة عليهم بزعم حراستهم وتذليل الصعاب ، بينما يحشرونهم بالملايين فى اسبوع واحد ، يموت فيه المئات إختناقا وتحت الأقدام . وكل ذلك بالمخالفة لدين الاسلام .

ثانيا :

ليست هذه هى المخالفة الوحيدة التى تقع فيها الوهابية السعودية فى فريضة الحج .

لقد كتبنا فى التسعينيات فى أن الحج فريضة مفتوحة لكل الناس ، وأن البيت الحرام ـ شأن الأشهر الحرم ـ لكل الناس ، فكما للناس رب واحد جل وعلا ، فإن له جل وعلا بيتا واحدا هو المسجد الحرام فى هذه الكرة الأرضية ، وله جل وعلا زمن حرام هو الأشهر الحرم ، ويجب على الناس أن يحجوا الى رب الناس فى بيته الحرام فى أشهره الحرم ، وعند البيت الحرام يجب أن تصفو النفس من كل الشرور ومن كل الأهواء ومن كل النوايا السيئة وتترفع عن الغرائز حتى لو كانت رفثا مع الزوجة ، وأن تتسامى عن الجدل ، وأن يتمتع بالأمن كل من فى الحرم وكل من يقصد الحرم مسافرا ( المائدة 2 ) ، يستوى فى ذلك الانسان مع الطير و الحيوان ، وهذا هو معنى الاحرام الذى حرفته أديان المسلمين الأرضية وحولته من التقوى الى لباس فاضح يكشف سوأة الرجال تشجيعا على الانحلال .!!وكالعادة لم يلتفت لنا وقتها ـ أحد . ولذا نعيد ونؤكد هنا :

1 ـ ليس البيت الحرام والحج اليه مقصورا على من يسمون بالمسلمين فقط . البيت الحرام هو أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس جميعا ، ومن دخله كان آمنا ، والحج لهذا البيت فريضة على المستطيع من الناس جميعا : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  ) ( آل عمران 96 ، 97 )

2 ـ البيت الحرام ـ بيت الله جل وعلا هو المكان الذى يأتى و يثوب اليه كل الناس ،ويجب أن يتمتع فيه الناس بالأمن ، وهذا هو موجز الأوامر التى جاءت لابراهيم واسماعيل عليهما السلام (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ) ( البقرة 125 ).

3 ـ كل البشر سواء وسواسية فى هذا المسجدالحرام ، يستوى فى ذلك المقيم فى مكة العاكف فى البيت الملازم له طيلة حياته بذلك الذى يقطع البوادى سفرا له . ولو جعل أحدهم لنفسه أو قومه أو دولته سلطة عليا يستطيل بها على المسجد الحرام وضيوف الرحمن بحيث يمنع الناس من دخوله أو يتحكم فيه بغير حق فهو ممن يصدّ عن المسجد الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس سواء ، يقول تعالى (  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الحج 25 ).ونلاحظ فى الاية الكريم استعمال صيغة المضارع ( ويصدون ) إشارة الى امكانية أن يأتى بعد نزول القرآن الكريم من يكرر جريمة قريش فى التحكم فى بيت الله الحرام وتحويل الحج الى تجارة. وهذا ما نشهده الان فى تحكم الدولة السعودية فى موسم الحج وفى بيت الله الحرام مخالفة لدين الاسلام .ونلاحظ أيضا أن الله جل وعلا يعاقب هنا على مجرد النيةالسيئة ـ أو إرادة السوء ـ فقال جل وعلا ( بتعبير المضارع أيضا ) : (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ).

4 ـ بعدها يقول جل وعلا عن صفة من يأتى للبيت الحرام :(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) ( الحج 26 ـ ) فالبيت الحرام هو لكل الناس ، من يرغب فى الطواف والصلاة ، ويأتى اليه من كل فج عميق من كل أنحاء الكرة الأرضية .

5 ـ ولأنه بيت الأمن والأمان و السلام لكل الناس وحتى الطير و الحيوانات بحيث يحرم الصيد فيه فلا مكان فيه للمعتدين الذين يعكرون أمن الناس و يعتدون عليهم ويهددون حياتهم .

إن للاسلام معنيين : معنى عقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد و الخضوع لله جل وعلا وحده لا شريك له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ( الأنعام 162). وهذا الجانب العقيدى خاص بعلاقة كل فرد من البشر بالله جل وعلا ، ويرجع لحريته فى الايمان و الكفر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذه العلاقة بين الانسان وربه ، وكل انسان مسئول عن اختياره أمام الواحد القهار يوم القيامة . أما المعنى السلوكى فالاسلام هو السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مسلم ظاهريا بغض النظر عن عقيدته و دينه الرسمى و مذهبه . وللناس هنا الحق فى الحكم علىأى إنسان طبقا لسلوكه ، هل هو مسالم أم معتد مجرم ، وهناك من القوانين الالهية و الوضعية التى تحافظ على حقوق الانسان من تعد يقع عليه من أخيه الانسان .

ولذلك فللكفر و الشرك أيضا معنيان ، فى التعامل مع الله تعالى هو تغطية الفطرة السليمة بالاعتقاد فى شريك مع الله جل وعلا واتخاذ أولياء و شركاء مع الله ، وتلك العلاقة مع الله تعالى فى العقيدة و العبادة مرجعها الىالله تعالى ليحكم فيها بين الناس لأن كلواحد من الناس يرى نفسه على الحق ويرى مخالفيه على الباطل . الذى يهمنا هو الكفر السلوكى بمعنى الاعتداءو الظلم الذى يقع من إنسان على أخيه الانسان . هذا الكفر السلوكى بالاعتداء والظلم و القتل للبشر حق الحكم عليه ومحاسبة الواقع فيه حفظا لحقوق الانسان وحق المجتمع .

 صلة هذا بموضوع الحج فى الآتى :

 إن كل إنسان مسالم  من حقه الحج بغض النظر عن دينه الرسمى ، ويمتنع على كل وافد للحج أن يحمل سلاحا ، ولا بد من توفير الأمن لضيوف الرحمن ، ومن هنا نفهم السياق الذى نزلفيه قوله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 28 ) ،فالحديث هنا عن مجرمين معتدين إعتادوا الهجوم على الحجاج ـ وأدمنوا نقض العهود فكان لا بد من مواجهة حازمة لهم بدأت باعلان البراءة منهم وإعطائهم مهلة للتوبة قدرها أربعة أشهر حرم ، وبهذا بدأت سورة التوبة ( التوبة :1ـ  ) ، ومنها قوله جل وعلا عن أولئك الكفار بالسلوك والاعتداء : (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ  ) فإن كفوا عن الاعتداء أصبحوا إخوة للمؤمنين :( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) وان عادوا للاعتداءونقض العهد فقد وجب قتالهم دفاعيا (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) ( التوبة 10 : 12 ) .وبالتالى لا بد من منعهم من الحج طالما يواصلون إعتداءاتهم على الحجاج وضيوف الرحمن ،بل لا بد من منعهم من الاقتراب من المسجد الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمنا ، من هنا نفهم قوله جل وعلا فى هذا السياق : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 28 ) .الحديث هنا عن المشرك الكافر بالاعتداء و القتل وسفك دماء الأبرياء .

ثالثا : نظام السعودية الوهابى يخالف الاسلام فى كل ما سبق .

1 ـ أجدادهم فى نجد إعتادوا قطع الطريق على الحجاج طوال التاريخ الأموى و العباسى والمملوكى ، فى حملات ( علمانية ) أى لا تستند الى تسويغ دينى . وحين كانت تستند الى تسويغ دينى تكون الكارثة أعظم إذ يتحول القتل وسفك الدماء و انتهاك الأعراض و سلب المال جهادا ، وهذا ما فعله أسلاف السعوديين تحت شعار القرامطة ، والقرامطة هم الذين لم يكتفوا بقطع الطريق على الحجاج بل هاجموا مكة وقتلوا من فيها و ألقوا بجثث الضحايا فى بئر زمزم ، واقتلعوا الحجر الأسود،وكل ذلك منشور و مشهور فى التاريخ . ثم بعد قرون تجددت النحلة القرمطية تحت إسم جديد هو الوهابية بزعامة الأسرة السعودية التى كررت جرائم القرامطة من حيث القتل و السلب و النهب و انتهاك الأعراض باسم الجهاد ، حدث هذا فى الدولة السعودية الأولى ( 1745 : 1818 ) والتى استولت على الحجاز والمسجد الحرام عام 1805 وقامت بنهب المدينة المنورة ومنع قوافل الحج  من المجى  فى عام 1806 ، مما دفع بالدولة العثمانية لاصدار أمر للوالى محمد على باشا فى مصر باستخلاص الحجاز والأماكن المقدسة عام 1807 ، ونهض محمد على للتنفيذ عام 1811 ، وانتهت الحرب بتدمير الدرعية عاصمة السعوديين وقتها فى سبتمبر 1818 . ثم أقام عبد العزيز آل سعود الدولة السعودية الثالثة الراهنة فيما بين عامى 1902 : 1932 . وفى سبيل إقامة دولته ارتكب مذابح هائلة فى الجزيرة العربية و العراق و الشام ، وكان جل الضحايا من المدنيين سكان القرى فى العراق والشام ، وتفانى الإخوان ( جنود عبد العزيز ) فى الاغارات على القرى العراقية و الشامية وقتل كل من يعثرون عليه ، فقتلوا ما يقرب من مليون إنسان على أقل تقدير. ولم ينج الحجاز من مذابحهم . فى طريقهم لغزو الحجاز ارتكبوا مذبحة تربة فى يونية عام 1919 حيث كانت دماء الضحايا من سكان تربة تجرى كالنهر بين أشجار النخيل حسبما يروى الشريف عون الذى فرّ من المعركة وكان وقتها صبيا فى الخامسة عشر من عمره . وتلتها مذبحة الطائف فى سبتمبر عام 1924 ، بقتل معظم أهل الطائف المدنيين من الرجال و النساء و الأطفال ، وأدت وحشية السعوديين الى تسليم أهل مكة و المدينة و جدة بعد اقل من شهر واحد .!!ولنتذكر  أن الاعتداء على البيت الحرام عام 1979 ارتكبه وهابى عريق هو جهيمان العتيبى وصحبه ، وهو أحد تلامذة الشيخ بن باز .أى إن كل ما فعلته قريش الكافرة والذى شجبه القرآن الكريم ليس بشىء مقارنة بما فعله السعوديون ..

2 ـ وبسيطرة السعوديين الوهابيين جرى تعذيب الناس وترويعهم ومطاردتهم عن طريق المطوعة ، ولا يزال هذا ساريا  فقد أصبح نمط الحياة اليومية  ، لا فارق بين سكان الحرم وضيوفه وبين بقية السكان فى المملكة . أما أفراد الأسرة السعودية فلا يجرؤ أعتى رجال الهيئة ( المطوعة ) من الاقتراب منه مهما بلغ انحلاله وفسوقه وعصيانه .

3 ـ بالنسبة للحج والحجاج ، فلا بد  للنظام السعودى أن يتثبت من إسلام  من يرغب فى الحج ، خصوصا إذا لم يكن عربيا  ، وهو بذلك يعطى نفسه سلطة الاهية حين يبيح لنفسه التفتيش على عقائد الناس . إن مناط  الإشراف على الحج ليس التفتيش على العقائد والدين ولكن التفتيش الأمنى الظاهرى كمايحدث فى أى مطار فى العالم ، لا شىء أكثر من ذلك .

4 ـ الأسوا فيما تفعله الدولةالسعودية فى السعى الى فرض دينهاالوهابى على الناس بما تقوم به من دعاية  ، ثم فى نفس الوقت تستغل سلطتها على الحج والبيت الحرام وغيره فى اضطهاد الحجاج الشيعة و الصوفية والأحمدية وغيرهم من غير الوهابيين . وتستغل الحج وسيلة للدعاية الهابطة و الفجة لبيت آل سعود تتحدث بالمنّ والأذى عما يقدمونه رياء للاسلام و المسلمين من مكرمات وتبرعات ، وهى أولا لا تساوى شيئا مقارنة بما تقدمه المؤسسات الغربية والكنسية لفقراء المسلمين ، وهى ثانيا لاتقارن بما يجب عليها أن تتبرع به من عوائد النفط تحت مسمى زكاة المال ، وهى ثالثا لا تقارن بما تحصل عليه سنويا من رسوم وضرائب على الحجاج،وأخيرا لا تقارن بما ألحقوه بالاسلام من خسائر و سمعة سيئة  فى العالم كله.

5 ـ  بهذا ينطبق على آل سعود قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الحج 25 ). ينطبق عليهم بأعمالهم ، ولا شأن لنا بعقائدهم .

6 ـ إن تاريخ آل سعود وسلوكياتهم الحالية ووهابيتهم تتناقض مع الاسلام ، فكيف يكونون أمناء على بيت الله الحرام وفريضة الحج ؟ والى متى يسكت أحرار المسلمين على هذا الوضع  المخالف للاسلام ؟وهل البيت الحرام حكر على الوهابيين السعوديين وحدهم ؟ وهل لديهم من دليل من القرآن ـ أو من حتى دينهم الأرضى الوهابى يعطيهم شرعية تحكمهم فى بيت الله الحرام ؟ أم أن استيلاءهم عليه بالقوة  عام 1924 يعطيهم حقا شرعيا فى ادارته و التحكم فيه وإدارة فريضة الحج وفق شريعتهم المخالفة للاسلام ؟ ألايكفى المذبحة الهائلة التى اقترفوها فى الطائف فى طريقهم للاستيلاءعلى مكة وقتها لارهاب أهل مكة وارغامهم على الاستسلام ؟  وهل يصح الاعتداء ليكون وسيلة شرعية اسلامية للتحكم فى بيت الله الحرام و التحكم فى ضيوف الرحمن . أم أن هذا الاعتداء لا بد من شجبه اسلاميا و المطالبة بالغاء كل ما ترتب عليه من تحكم أولئك الناس فى بيت رب الناس؟

أخيرا :

1 ـ إن تحرير المسجد الحرام من إحتلال آل سعود  هو جهاد لاعلاء دين الله جل وعلا الحق . ولنبدأ هذا الجهاد السلمى بتوعية المسلمين خلال مؤتمرات وندوات تحكى المسكوت عنه من التاريخ ومن حقائق الاسلام ... ).

انتهى المقال ، ولكن لم تنته المأساة ، فستظل جاثمة طالما ظل آل سعود محور الشّر فى العالم ..!!

 

 

 

الفصل الثامن : التقوى وعمومية تشريعات الحج للمرأة كالرجل

 أولا : ليس للمرأة تشريع خاص فى الحج .

1 ـ لو كان لها تشريع خاص فى مناسك الحج لنزل القرآن يوضّح ويبيّن . ولكن النسق القرآنى فى تشريعات الحج يأتى بصيغة العموم التى تشمل الرجل والمرأة . ومنها  كلمة ( الناس ). وهذا يذكرنا بقوله جل وعلا يخاطب البشر جميعا من ذكور وإناث (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)الحجرات: 13 )، فكلنا من ذكر وانثى أولاد لآدم وحواء ، كلنا أخوة وأخوات مهما إختلفت ألواننا وثقافاتنا ، واكرمنا عند الله جل وعلا هو أتقانا لله جل وعلا ، وهذا التقوى مأمور بها الرجل والمرأة من كل ذرية آدم : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ( النساء ).وكل البشر مأمور بعبادة الله جل وعلا وحده للوصول الى التقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة: 21).والحج من وسائل التقوى .

2 ـ عمومية مناسك الحج باستعمال كلمة ( الناس )

( الناس ) هم البشر من ذكر وأنثى . النسق القرآني في الحج يستعمل لفظ ( الناس ) ليشملهما معا : ـ

ا ـ يقول تعالى " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) آل عمران ) فالبيت الحرام أول بيت وضعه الله جل وعلا لكل الناس من الذكر والأنثى :( إنّ  أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ  ) ، ومفروض على كل الناس من ذكر وانثى الحج اليه لو استطاع ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )، والاستطاعة هنا ترتبط بحال الشخص ذكرا كان أو أنثى . والانثى المستطيعة واجب عليها بخلاف الذكر غير المستطيع . و( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) سواء كان ذكرا أو أنثى . 

ب ـ يقول تعالى " وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة ". فالبيت مثابة لكل الناس من ذكر أو إنثى ، لا فارق بين هذا وهذه.وامر الله تعالى إبراهيم واسماعيل ان يطهرا البيت لجميع الطائفين والعاكفين والركع السجود من الرجال والنساء .

جـ  ـ ويقول تعالى "  جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ .. (97)  المائدة".. فالبيت الحرام قياماً للناس جميعاً من ذكر وانثى ، وكذلك الشهر الحرام للناس جميعاً .

د ـ ويقول تعالى عن مشركي قريش حين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ )(25) الحج ) فالله تعالى جعل المسجد الحرام لجميع الناس سواءاً ، لا فرق بين من يقيم بجواره أو من يقطع البوادي سفراً إليه،ولا فارق بين ذكر أو انثى فى مكة أو خارجها . جميع الذكور والاناث على المستطيع منهم أن يحج .

3 ـ عمومية مناسك الحج بتعبيرات أخرى تشمل الرجل والمرأة كما جاء فى سورة البقرة :

يخاطب الله جل وعلا الناس جميعا ذكورا وإناثا فيقول لهم :( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) هذا فى الأوقات العادية . فإن جدّت ظروف منعت الحج للرجال والنساء ، هنا يكون تشريع الإحصار للرجل والمرأة على السواء : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196). وبنفس الطريقة يقول جل وعلا فى الآية التالية عن أشهر الحج :  ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) ، وعمّن نوى الحج واستعدّ له من رجل وامرأة فلا بد أن يلتزم بالاحرام فى الحج ، ومن واجباته التى ينبغى ان يلتزم بها الرجال والنساء : أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )وعلى الرجال والنساء معا وهم فى الاحرام أن يتقوا الله جل وعلا الذى يعلم ما يفعلون : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) وأن يجعلوا من فرصة الحج وسيلة يتزودون فيها بالتقوى فى رحلة هذه الحياة الدنيا،وهم فى قطار السفر  للآخرة ، وخير الزاد للآخرة هو التقوى(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) . وتتوالى الآيات تخاطب الرجال والنساء معا فى فريضة الحج :( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) البقرة ). ومن قبل قال جل وعلا يخاطب الرجال والنساء : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة )

ثانيا : تشريعات المرأة بين العمومية والخصوصية فى غير الحج

ولأن الحج مجرد شعيرة من شعائر الاسلام فإننا ـ لمزيد من التوضيح ـ نعطى لمحة سريعة عن عمومية التشريعات للرجل والمرأة ، وما تختص به المرأة من تشريعات .

1 ـ نماذج لعمومية العبادات للرجل والمرأة :

فى الوصايا العشر : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)   ) ( الأنعام )

فى الصلاة : الأمر العام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فى قوله جل وعلا :  (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) البقرة ) وفى صلاة التطوع وقيام الليل وقراءة القرآن الكريم ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) المزمل ) وفى صلاة الجمعة للرجال والنساء معا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) ( الجمعة ) ف ( الذين آمنوا ) تخاطب الرجال والنساء . وفى صلاة الخوف :(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(239)البقرة ). ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) النساء )

وفى تشريع الطهارة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) النساء )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المائدة )

والحيض لا يمنع أى عبادة من العبادات . لايمنع الصلاة لأنها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، لذا عليها أن تتطهر موضعيا وتغتسل أو تتوضأ وتصلى. والحيض لا يمنع قراءة القرآن ولا الصيام ولا الحج .الحيض يمنع فقط مباشرة الزوجة ، يقول جل وعلا :( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223) البقرة).

وفى الصيام ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183). والأعذار المبيحة للفطر هى عامة للرجال والنساء ( أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185).والاعتكاف فى المسجد للزوجين معا مع عدم ممارسة الجنس (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة )

وفى الهجرة ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97). والأعذار هنا عامة تشمل المستضعفين من الذكور والاناث معا ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99النساء ).

وفى القتال فى سبيل الله جلّ وعلا : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)  النساء ) الأمر هنا عام للرجال والنساء .  وهكذا فى كل الآيات التى تحضّ على القتال الدفاعى ، هى موجهة للرجال والنساء معا، وتأكيدا على ذلك يأتى العذر فى القتال عاما يشمل الرجال والنساء معا :( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) الفتح ).

وفى التفاعل الايجابى بالخير:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) المائدة ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) ( النساء ) ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) التوبة )

وفى العقوبات : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2) النور )(  وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)) ( المائدة )

من التشريعات الخاصة بالنساء :

1 ـ فى الميراث (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)(يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.. )(11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ(12) ( النساء )

3 ـ فى الأحوال الشخصية مثل فرضية الصداق للزوجة (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً(4)النساء) ومعاشرة الزوجة بالمعروف (وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)النساء )وحقها فى الرعاية والنفقة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (34)النساء) وحق المطلقة فى النفقة والسكنى:( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (6)الطلاق) وحق الأرملة فى المتعة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) ومتعة للمطلقة ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)البقرة )وعدّة المطلقة:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (228)(البقرة)(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ(4) الطلاق)،وعدة الأرملة:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (234) البقرة )

4 ـ وفى الزى والزينة: ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) ( النور ).

 

 

الفصل التاسع  : التقوى تنفى أكذوبة الحج عن الغير

أولا : لا إستنابة فى الحج

فى شرع الله جل وعلا لا يجوز أن يحُجّ أحد عن أحد ، فالمؤمن في مناسك الحج يقوم بها بنفسه ، فلا يصح الحج بالنيابة ، ولا تصح الاستنابة فى العبادات عموما وخصوصا  فى الحج ، فالحج تجربة شخصية على المستطيع بالنفس والمال ، لكى تتزكّى نفسه وتتطهّر . هذا التطهّر تجربة نفسية شخصية لا يصح أن يقوم بها أحد نيابة عن أحد . إنّ القائم بالحج يعيش جوا مختلفا فى الزمان والمكان والمشاعر والحلال والحرام ، ما يكون فيه حلالا فى الأوقات العادية وفى الأماكن الأخرى – مثل الصيد والحلق والرفث – يكون حراما . لذا يستلزم الحج إستعدادا نفسيا لتقبل مشاق التجربة من بدايتها إلى نهايتها ، ومن فشل فيها فإنه لم يتم الحج فى ميزان رب العزة . ولذا لا يجوز فيها أن يحج شخص عن آخر .  ودليلنا الآتى :

1 ـ يقول سبحانه وتعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )28 ) الحج) . قال: (يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ) ( رجالا ) أى (مترجلين )  ، وقال (يَأْتُوكَ) ولم يقل يرسلون من ينوب عنهم، وقال:( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )، والشاهد هو الذي يحضر بنفسه لا من ينيب عنه غيره .

2 ـ  ذلك الذي يحج عن غيره إذا وقع في المحظور ـ من رفث وفسوق وعصيان وجدال وحلق في الأحرام او قتل للصيد ـ فمن يكون عليه الآثم ؟ هل هو القائم بالحج نيابة عن الغير ؟ أم ذلك الغير القاعد بعيدا فى بيته لم يرتكب ما يستوجب الفدية ؟ ثم من الذي منهما يدفع الفدية ؟ ..

3 ـ و ذلك الذي يحج عن غيره إذا تاب وأناب وأتم فريضة الحج على أكمل وجه بينما القاعد فى بيته يلهو ويلعب .. من منهما ينال الثواب ؟

4 ـ ثم موضوع التعمد فى قتل الصيد ، كيف يؤاخذ الذى كلّف غيره بالحج عن نفسه إذا تعمد الأجير الذى يحج عن غيره قتل الصيد ؟ يقول جلّ وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) المائدة ) . أن التعمّد إرادة نفسية شخصية ترتبط بصاحبها ، ويتحمل هو مسئوليتها فى الدنيا والآخرة أمام الله العزيز المنتقم الجبّار، وهو وحده الذى يحاسب عليها ، فهو وحده الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (19) غافر)،وهذا مختصّ بالقائم بالحج . والله جل وعلا يعفو عن الخطأ غير العمد ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ (5) الأحزاب ). وهذه علاقة خاصة بين الفرد وربه جل وعلا ، لا مجال فيها لوسيط أو وكيل أو نائب عن الفرد ، أى لا تصح فيها الاستنابة .  ومثل التعمد فى قتل الصيد أن تمتلىء النفس بإرادة الالحاد والظلم فى الحج . لذلك فإن الله تعالى يعاقب على إرادة السوء فى قلب الحاج وهو فى حالة الاحرام : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ).فمن يقع عليه العقاب هنا : الذى يحج عن غيره ؟ أم الذى يحج عنه غيره ؟

 5 ـ وقد يقول قائل : فما الذي يفعله صاحب المال الراغب فى الحج ولكنه غير قادر عليه بنفسه بسبب ضعف أو عجز  جسدى ؟ . ونقول ان الأستطاعة شرط في وجوب الحج ،والأستطاعة تشمل عموم المعنى ،اى الاستطاعة بالجسد وبالمال معا . ويكفي قوله تعالى " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا) (97) آل عمران). ومن يمنعه عجزه الجسدي فليس عليه حج. اما إذا منعه مانع خارجي من الحج فقد دخلنا في موضوع الحصر في الحج .

6 ـ ويقولون انه يجوز للإنسان أن يحج عن الميت . وهذا خطأ فادح ، فالميت لم يعد له وجود فى هذه الدنيا ، وقد انتهى سعيه الدنيوى ـ إن خيرا أو شرا ـ بموته ، وسيراه يوم القيامة  (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)النجم ) ، وعند الاحتضار تأتيه ملائكة الموت تبشره بالجنة أو بالنار فقد تحدد مصيره :(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) ) (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) النحل ) (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)( الواقعة ). لقد تم طىّ كتاب اعمال الميت فلا يقبل زيادة او نقصاناً،ولن يستفيد الميت بسعي غيره كما لا يضره سعي غيره أيضاً ، ولم يعد للميت مال ، فقد أصبح المال ملكا للورثة ولمن أوصى لهم قبل موته من الوالدين والأقربين .

ثانيا : لا إستنابة فى العبادات عموما :

الاسلام يقوم على الحرية الدينية ومسئولية النفس البشرية على إختيارها يوم الحساب ، فإن تطهرت وتزكّت فلها ، وإن إختارت الفجور والعصيان فعليها ، ولا تتحمل نفس بشرية وزر أخرى ، ولا تجزى نفس بشرية عن أخرى ، وبالتالى فليس فى العبادات إستنابة ولا يجوز أن يحج شخص عن آخر.  هذه هى حقائق الاسلام التى يخالفها أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين . ولمجرد التذكير ، وتأكيدا على تناقض الاسلام مع الوهابية بالذات فنعطى لمحة عن حقائق الاسلام التى يكفر بها الوهابيون والسلفيون والاخوان المسلمون وغيرهم من أساطين الديانات الأرضية فى العالم . 

1ـ الحرية الدينية المطلقة لكل نفس بشرية ومسئوليتها يوم القيامة على إختيارها:(الكهف 29 : 31 ) وعن حرية البشر فى الايمان أو عدم الايمان بالقرآن الكريم ، إقرأ(الاسراء 107 ) ، وعن حرية البشر فى الالحاد فى القرآن وعلم الرحمن بذلك وتهديده لهم بعذاب يوم القيامة (فصلت  40 ) 

2 ـ لا تتحمل نفس وزر أخرى، ومصيرنا الى الله جل وعلا يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون   (فاطر 18 )(الأنعام:194 ) (لاسراء 15)( الزمر 7) (النجم 38 : 42 )

3 ـ الهداية والضلال إختيار شخصى ، وكل فرد مسئول عن نفسه ، إن إهتدى فلنفسه وإن ضلّ فعلى نفسه : (الإسراء: 15) (الجاثية:15 ) ، ولذا فلا ظلم يوم القيامة( فصلت:46 )، وكل نفس مؤاخذة بما كسبت بالحق كما خلق الله جل وعلا السماوات والأرض بالحق:( الجاثية:22 ) والتكليف على قدر الطاقة والاستطاعة: (البقرة:286 ).  والكافر عليه كفره والمؤمن يمهّد لنفسه مستقرا فى الجنة:( الروم:44 ) لذا فإن من يشكر الله جل وعلا مؤمنا به خاشعا له إنما يفعل ذلك خيرا لنفسه وستلقى نفسه ثواب ذلك فى الجنة ونجاة من النار ، ومن يكفر فإنّ الله جل وعلا غنى عنه وعن العالمين:( لقمان:12 )،( النمل:40 ). وثواب الحج هو لمن أدّى المناسك متقيا ربه جل وعلا، وليس الله جل وعلا محتاجا لحجّه لأنه جل وعلا غنى عن العالمين: (97) آل عمران ).

 4 ـ وتزكية النفس أيضا مسئولية شخصية . فقد خلق الله جل وعلا النفس البشرية وقد الهمها الفجور والتقوى، والفجور فيها مقدم على التقوى:(الشمس7 : 10)،والفلاح فى تزكية النفس  يعنى الدرجات العلا يوم القيامة: ( طه 76) .وعملية التزكية هى إرادة ذاتية يتم بها تحكم الفرد فى نفسه وأن يلزمها بالتقوى إبتغاء مرضاة الله جل وعلا.هنا نتحدث عن ( الأنا العليا ) أو الضمير اليقظ فى داخل كل إنسان الذى ينهى النفس عن الهوى (النازعات :40 : 41)،وهو عكس الذى يكون عبدا لهواه وغرائزه ونزواته :( فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)النازعات ).وهناك وسائل كثيرة للتزكى ، أو السمو بالنفس حتى تكون متقية لله جل وعلا ، منها ذكر الله جل وعلا:(آل عمران: 135 )(الأعراف :205 )،والصلاة:(الأعلى14 : 15). والزكاة المالية (الليل 17 : 21 ).

 5 ـ والمتقى يعلم بأن الله جل وعلا يراه،ويؤمن بأن الله جل وعلا قائم على كل نفس بما كسبت  (الرعد :33 :42)،)ق (45)  لذا فإن المؤمن يخشى ربه جل وعلا فى سرّه قبل علانيته، يخشاه فى خلوته أو يخشاه بالغيب: (الملك  12 : 14). أولئك هم المتقون : (الأنبياء 50)، وهم من يقومون بتزكية أنفسهم ويحتاجون للوعظ المستمر حتى تستمر عملية التزكية والاصلاح ( فاطر 18 )( يس 11 ). هذه التزكية عملية ذاتية شخصية ، هى تعامل شديد الخصوصية بين الفرد وربّه جل وعلا ، بمحض إرادة المتقى دون فرض خارجى عليه من سلطة سياسية أو إجتماعية ، وبالتالى فلا مجال هنا لأن يقوم بها أو بوسائلها من الصلاة والحج شخص آخر .  

6 ـ آلية المساءلة يوم الحساب تنفى الاستنابة فى العبادة : فكل ما تفعله النفس يتم تسجيله عن طريق الملائكة الحافظين الذين يحفظون العمل ، يقول جل وعلا عن تسجيل العمل لكل نفس بذاتها : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)الطارق:4 )، وبالتالى تكون كل نفس فى الآخرة رهينة وأسيرة بما عملت فى الدنيا : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)المدثر:38 ). ويوم الحساب لا تنفع شفاعات البشر لبعضهم، ولا ينوب بعضهم عن بعض ولا تنفع نفس نفسا : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)الإنفطار:19 )، ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) البقرة  48) ، بل تأتى كل نفس تدافع عن نفسها : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)النحل:111 ) عندئذ لا تستطيع نفس بشرية ـ تقية أو عاصية ـ أن تتكلم إلا بإذن الرحمن:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) هود:105 ) (رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)( النبأ ).

يوم الحساب تأخذ كل نفس حقها بالعدل وفق عملها المسجّل لها او عليها والذى عملته بجسدها المادى وقت حياتها فى هذه الدنيا ، وتكرّر هذا فى القرآن الكريم بصيغ مختلفة منها : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)الزمر:70 )(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)إبراهيم:51 ) (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)آل عمران:25 ). لذا يقول جل وعلا يحذّرنا مقدما (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) البقرة:281 ).

وبالتالى لا ظلم يوم الحساب فهو بميزان دقيق للأعمال الى قامت بها النفس وقت تحكمها فى جسدها الدنيوى :(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)الأنبياء )، وبهذا الميزان الدقيق لعمل كل نفس سيكون هناك نفس خاسرة ظلمت نفسها بأن تظل خالدة فى النار أبد الآبدين : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)المؤمنون:103 ). الخسارة فى الدنيا هيّنة لأن الدنيا نفسها زائلة ووقتية ، والأحوال تتقلب فيها بين ربح يأتى بعد خسارة وخسارة تأتى بعد ربح ، وفى النهاية يأتى الموت. أما الخسارة الحقيقية فهى للنفس ذاتها حين تقضى حياتها الأبدية فى جحيم خالد ، يقول جل وعلا عن هذه الخسارة الحقيقية لأصحاب الجحيم:( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)الزمر:15 )،( وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)الشورى:45 ). والخاسرون فى النار نوعان حسب ظلمهم لأنفسهم ، فأكثرهم خسارة أو (الأخسرون ) هم ( رجال الدين ) والمتاجرون بالدين والذين يفترون على الله جل وعلا كذبا بأحاديث وأقاويل وتشريعات ، ويشترون بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا ، ويستخدمون دين الله جل وعلا فى الوصول الى حطام الدنيا، يقول جل وعلا عنهم وعن إفتراءتهم :(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)هود:21 ).هذا هو مصير الوهابيين والاخوان والسلفيين وكافة رجال الدين الأرضى إذا ماتوا دون توبة . عندها تكون خسارتهم الحقيقية ، خسروا أنفسهم لأنهم ظلموا أنفسهم ، فالخسران هو عكس التزكية للنفس بالتقوى .

ويوم القيامة سيلقى من ظلم نفسه العذاب بعمله السىء الذى عمله بنفسه . اى سيتحول العمل الظالم الى عذاب لصاحبه، وهذا ما نفهمه من قوله جل وعلا : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)غافر:17 )، فالجزاء هو بنفس العمل السىء : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)يس:54 )، ويشرح هذا قوله جل وعلا عن تعذيب من يكنز الأموال ولا ينفقها فى سبيل الله ، إذ تتحول هذه الأموال الى نار تكويه : (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة  )( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)آل عمران ). هذا فيمن يبخل بماله .. فكيف بمن ينهب أموال الآخرين ويكتنزها لنفسه ؟ وكيف بمن ينهب موارد شعب بأكمله ويكتنزها لنفسه ؟ وكيف بمن يسرق موارد شعب بأكمله ويكتنزها لنفسه ثم يزعم أن ذلك هو الاسلام ؟ وكيف بمن يفرض ضريبة على حجاج بيت الله الحرام متحكّما فيهم وفى بيت الله الحرام ويكتنز الأموال السحت مما يأخذه من الحجاج ومعظمهم فقراء ؟ نتحدث عن الأسرة السعودية محور الشّر فى العالم ..ونبشرهم مقدما بالخسران العظيم طالما هم على هذا الشّر قائمون ..

إن الله جل وعلا قد أوجز فى سورة ( ق ) مراحل البشر بين الدنيا وألآخرة تأكيدا على المسئولية الفردية لكل نفس . فعن تسجيل عمل كل نفس يقول جل وعلا : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18). وعن الموت لكل نفس والذى تتحاشاه وتتناساه كل نفس : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19). وبعد موت الأنفس كلها يتم تدمير هذا العالم ويأتى اليوم الآخر ويكون البعث بعد إنفجار البعث ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20). وفى الحشر يرى كل منا ( رقيب وعتيد ) اللذين كانا يسجلان أعماله فى الدنيا، وقد تحولا الى سائق وشهيد؛ أحدهما يقبض عليه ويسوقه والآخر يشهد عليه ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) . لم يكن يراهما فى الدنيا وهو فى جسده الترابى ، ولكن فنى جسده الترابى وأصبح فى عالم جديد إنكشف فيه عنه الغطاء:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) . ويرى الخاسر قرينه الشيطانى الذى كان يلازمه فى الدنيا يزين له الباطل حقا والحق باطلا ، ويتنازع مع قرينه الشيطانى  يتبرأ كل منهما من الأخر : ( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27).  وردا على هذا التخاصم يأتى ردّ رب العزّة بأنه لا تبديل لحكم اله جل وعلا فمن حكم الله جل وعلا بدخوله النار فلن يخرج منها فهذا هو العدل الالهى :(قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) . وبعد أن تمتلىء جهنم بأهلها يظل فيها متسع : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30). هذا هو مصير الذين ظلموا أنفسهم .  أما المتقون فتأتى لهم الجنة : ( وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31). ويقال لهم ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)أى إن الجنّة تنتظر كل أوّاب تائب توّاب ، وسيدخلونها بسلام حيث كانوا فى الدنيا منحازين للسلام ومنقادين للرحمن . وتنتهى السورة بقوله جل وعلا لخاتم النبييّن:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45). فهو عليه السلام تنحصر وظيفته فى التذكير والتبليغ . أما الهداية فهى مسئولية شخصية . هذا فى الاسلام . أما فى الأديان الأرضية فهى تجارة يتم فيها بيع صكوك الغفران وتداول أساطير الشفاعات البشرية ، وتتحول فيها العبادات الى تجارة ينوب فيها فلان عن عن فلان ، ويحج فيها فلان عن فلان ، بل تتحول العبادات من سائل للتقوى الى تشجيع للإجرام ، فيظل أحدهم معظم العام سادرا فى الفسوق والعصيان ثم يقوم بالحج بضعة أيام ليرجع من الحج ( كمن ولدته أمه ) ..فلا ولدته أمّه ..!!

أخيرا :

الذى يحج الى بيت الله دون رغبة فى التقوى لن ينفعه حجّه . والذى يستأجر من يحج عنه لا ينفعه حج الغير عنه . والذى يحج عن ميت لا طائل من حجّه لهذا الميّت. والذى يحج وقلبه ملىء بالشرك سيحبط عمله بالشرك ، والذى يحج وهو مدمن للمعصية سيتضاعف نصيبه من المعصية ، والذى يحج الى البيت الحرام وقلبه معلّق ( بزيارة النبى ) هو عدو للنبى .  

 

 

 

 الفصل العاشر : منهج القرآن الكريم فى تشريع الحج  

1 ــ  الحج أكثر العبادات أرتباطاً بملة إبراهيم . فإبراهيم هو الذي هداه الله إلى مكان البيت وامره بتطهيره من الأوثان ومعالم الشرك فى مناسك الحج ورفع قواعد البيت:(وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) الحج )، ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة )،( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة ). وإبراهيم هو الذي دعا الناس إلى الحج لبيت الله فأقام فريضة الحج بالعبادة الخالصة لله جل وعلا وحده : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ .. (27) الحج ). وابراهيم هو الذي ترك أبنه إسماعيل وذريته في ذلك الموضع الذي كان قفراً فما لبث أن أصبح عامراً بالناس ، ثم أصبح هذا الفرع من ذرية ابراهيم أُمة هي العرب المستعربة ، وتحقق جانب من دعوة ابراهيم : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) إبراهيم ) ..

2 ــ وكان من دعوة إبراهيم وإسماعيل أن يأتى من ذريتهما رسول يواصل مسيرتهما : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) البقرة .). وحين بعث الله تعالى خاتم النبيين عليهم السلام كان العرب قد حرّفوا مناسك الحج ، فنزل القرآن يوضح الحق .؛ يأمر بإتّباع ملة ابراهيم ويصحح ويعالج التحريف الذى أحدثه القرشيون فى فريضة الحج . توارث الجيل القرشى الذى عاصر نزول القرآن ملة ابراهيم بالتحريف الذى جاء فيها من الأجيال السابقة .أى كان من هذا المتوارث بعض الصحيح وبعض الفاسد المبتدع.

3 ـ نزل القرآن ليس تشريعا جديدا فى كل شىء ، بل فى إتّباع ملة ابراهيم الحنيفية التى تعنى التقوى وإخلاص العبادة والحج لله جل وعلا ، مع التنبيه على الفاسد ، ثم التأكيد على عنصر التقوى التى تخالف ما درج عليه الجاهليون من الاحتراف الدينى والتدين السطحى . ونعطى بعض التفصيل :

أولا :  خاتم النبيين عليهم جميعا السلام متبع لملة ابراهيم حنيفا :

على عكس ما يشيع أصحاب الديانات الأرضية من سنيين وشيعة وصوفية فإن خاتم النبييين كان مأمورا بإتّباع ملة ابراهيم ، والتى تزل القرآن ليعيد أصولها ويصحح ما لحقها من تحريف. أمره رب العزة جل وعلا أن يعلن وأن يقول : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ )( الانعام ). ومدح رب العزة جل وعلا خليله ابراهيم عليه السلام فقال فيه ما لم يقله جل وعلا فى القرآن عن غيره : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122). وبعدها قال لخاتم النبيين :( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123) النحل). ومن هنا تواتر فى القرآن الكريم الدعوة الى إتباع ملة ابراهيم ( حنيفا ) أى بإخ">  1 ـ نزل القرآن وفي مناسك الحج عند العرب الصحيح والفاسد فقام القرآن بتصحيح الخلل واقرار الصحيح في إطار نسيجه العام في الحديث عن الحج ، ثم نزل تشريع قرآنى جديد  لما استحدثته الظروف ، ثم لإنه تعالى يعلم ما سيكون من خلل في المستقبل فإن تفصيلات القرآن تحوي الرد على كل ما يستجد من تحريف ولا يستلزم الأمر إلا التدبر في كتاب الله .

2 ـ وكانت قريش تقوم على رعاية البيت وعمارته وسقاية الحاج ، ولكنهم حرفوا في مناسك الحج ، وكفر الملأ منهم بالقرآن ، فقال فيهم تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) التوبة).

3 ــ صحح القرآن الخلل الذي احدثه الحمس في المناسك.والحمس هم المتطرفون المتزمتون من قريش الذين جعلوا من أنفسهم مصدرا للتشريع فى مناسك الحج باعتبارهم القائمين على رعاية البيت الحرام وتعليم  الحجيج المناسك . لذا إختصّوا أنفسهم بطقوس معينة : كان الحمس لا يدخلون البيوت من أبوابها إذ كانوا مُحرمين ويعتبرون ذلك تمام الورع، فقال فيهم سبحانه وتعالى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ )189) البقرة ). وحرّم الحمس على الحجاج القادمين أن يطوفوا في ملابسهم بل لا بد أن يشتروا ملابس للإحرام من متاجر قريش وإلّا طافوا عراة ، وحرّموا عليهم أن يأكلوا من طعام استقدموه معهم أو ان يتزينوا بزينة ، فنزل قوله تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ .)32 الأعراف ). وكان الحمس لا يقفون بعرفة مثل باقي الحجاج ولا يفيضون منها فقال  جل وعلا لهم : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ )(199) البقرة). وأغوى ابليس قريش فانتشر الانحلال الخلقى فى الحرم وقت الحج مصاحبا لطواف العري،وكان لابد أن يتكاثر الفسوق مصحوبا بالرفث والجدال ، لذا قال تعالى : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة ). وقال تعالى يحذرهم : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ". وكانوا يقعون في مفسدات اخرى مثل الحلق أثناء الإحرام وقتل الصيد ففرض الله على من يقع في ذلك أن يدفع فدية ( 2 / 196 ، 5 / 94 : 96 ) .وكانوا ـ في اجتماعهم ـ ينزعون للفخر بالآباء والأنساب فى حفلات لإنشاد الشعر بالفخر بعد أداء المناسك ، فدعاهم الله لأن يذكروا الله أكثر من ذكرهم اباءهم:( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً )(200) البقرة )، وكانوا يقيمون الأسواق للبيع والشراء وخصوصا بيع ماشية وحيوانات الهدى ، وأباح لهم التجارة وتبادل المنافع:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ )(198) البقرة ) ، ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)(28) الحج "  .

4 : ونفهم من قوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) (198) البقرة) أن حواراً دار حول مشروعية التجارة في الحج فنزل الأمر بإباحته.  ونفهم أيضا أن حوارا دار حول مشروعية الطواف بين الصفا والمروة بعد أداء مناسك الحج ، فنزل قوله جل وعلا : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة ). أى كان تشريع القرآن ينزل يصحّح ويعلّق ، ويحرّم وينصح .

5 : وطرأت أحوال جديدة استدعت تشريعاً جديداً جاء في القرآن مفصلاً ، وذلك أن قريش صدت المسلمين عن الحج لبيت الله الحرام ، ثم منعت النبي والمسلمين من دخول مكة ، فنزل تشريع الإحصار في الحج مفصلاً في أطول آية عن الحج ( 2 / 169 ).

6 : وفيما بين تصحيح الخلل والتشريع الجديد المفصل مرّ القرآن الكريم سريعاً على المناسك المعروفة للحج والتي يمارسها العرب بلا تحريف مثل الطواف بالبيت والوقوف بعرفة وتقديم الهدي والحلق والتقصير ، وذلك أثناء الدعوة لتطهير مناسك الحج من الوقوع في الشرك وإلى الأكثار من ذكر الله تعالى ( 2 / 198 : 208 ، 22 / 25 : 37 ) .

 7 ـ  وبعد نزول القرآن وموت خاتم النبيين عليهم جميعا السلام مالبث أن عاد التحريف لمناسك الحج برعاية الدين السّنى ، وهو نفس التحريف الذى كان قبل القرآن فيما أحدثته قريش فى ملة ابراهيم . ومنه زى الاحرام ، الذى أعاد به الدين السّنى طواف العرى ، لذا فإنّ من تصحيحات القرآن التي نزلت على خاتم النبيين ما يصلح تصحيحاً للبدع التي طرأت بعد موت النبي ( ص ) كما جاء في زي الإحرام .

8 : وتفصيلات القرآن فيها الرد على كل ما يستحدث من تحريف في مناسك الحج يأتي بعد نزول القرآن ، مثل ابتداع الحج إلى المدينة ، او تقديم القرابين والهدي إلى غير بيت الله الحرام او الرمي بالجمار . 

 

 

 

  الفصل الحادى عشر : مناسك الحج الحقيقية فى الاسلام : 

أولا : رحلة ومناسك الحج الاسلامى فى السياق القرآنى

مقدمة : فى مواضع مختلفة نزل السياق القرآنى فى إصلاح شعيرة الحج المتوارثة من ملة ابراهيم ، بعد تعرضها للتحريف . وعلى هامش هذا الاصلاح ومواجهة التحريف أشار رب العزة الى مناسك الحج كلها.  ونعرض هنا لرحلة ومناسك الحج القرآنية  .

 قبل السفر للحج : الاستعداد المادى للحج : أو ( الاستطاعة ):

1 ـ يقول جل وعلا (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(97)( آل عمران ). أى يجب الحج للبيت الحرام على كل من إستطاع بكل السّبل الوصول اليه . أى من بداية بيتك الذى تعيش فيه الى بيت الله الحرام . أى لا بد أن تكون مستطيعا بذاتك ، بمالك وصحتك وجهدك .

وحدود الاستطاعة فى الاسلام سقفها الأعلى عدم تكليف النفس فوق طاقتها :(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ) (233) ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا  ) (286) البقرة ) ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا (7)  الطلاق )( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (152) الانعام )( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (42) الاعراف )( وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (62) المؤمنون). فتشريعات الاسلام مؤسسة على اليسر والتخفيف:( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ (185) البقرة )( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ (28) النساء) وعلى رفع الحرج والمشقة:( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (6)المائدة )( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ )(78)الحج ) . والتقوى هى التى تغلّف هذا التشريع ، والمتقى هو الذى يقدّر مدى إستطاعته المالية والجسدية عالما بأنّ الله جل وعلا :( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) غافر ).

2 ـ ليس من الاستطاعة المالية أن تحجّ بمال الغير ، أو بالصدقات والتبرعات أو القروض والديون ، أو أن تكون مدينا فتؤجل سداد الديون وتحج بمال هوللغير، بل الأحق أن تسدد ما عليك . أو أن تكون عليك إلتزامات واجبة نحو بيتك وولدك ووالديك فتفرّط فيها لتقوم بالحج . وليس على الأم أو الأب أن يحج من مال الابن والأبناء . ولا أن يؤجر الابن مساعدا للأب أو الأم فى رحلة الحج لأن عدم الاستطاعة الجسدية لا توجب الحج على كبار السّن أصلا .

3 ـ ولا يصح الحج بمال حرام أو مشبوه ، أو لم تخرج منه حقوق الزكاة والصدقات . لا بد من إخراج حقوق المستحقين أولا من الفقراء والساكين وذوى القربى واليتامى . ثم بالفائض يمكن الحج .

( عدم الاستطاعة لسبب خارجى )

ليس لعدم وجود الاستطاعة المالية أو الجسدية، ولكن لسبب خارجى ، وهو نوعان :

  1 :الاحصار بمنع الوصول للكعبة أثناء الطريق اليها:  

أى تكون مستطيعا وتسافر للحج مستعدا لتأدية الفريضة ، وتسافر ،ثم يطرأ طارىء يمنع وصولك الى البيت الحرام  مثل مرض قاهر أوغارات على القوافل أو حرب نشبت،أو قرار سياسى صدر أثناء الرحلة يمنع وصولكم للبيت الحرام .هنا تشريع الاحصار فى الحج ، والذى نزل بعد أن صدّ كفار قريش النبي وأصحابه عن بلوغ البيت الحرام:( هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ )(الحج 25 ). يقول جل وعلا فى تشريع الاحصار :( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )(196)البقرة ). قوله جل وعلا : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أى إذا وصلتم بسلام للبيت الحرام فأتموا الحج والعمرة لله جل وعلا، فإن حدث إحصار يحيل بينكم وبين الوصول للبيت الحرام فيجب ارسال الهدى الى الكعبة حسبما تيسّر :(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ).

أنزل الله جل وعلا هذا التشريع الجديد حكماً عاماً يسري على أي حالة احصار بحرب أومرض عارض أو غيرها ، وفيها يقدم المحصور هدياً لله ولا يحلق رأسه حتي يبلغ الهدي محله الى البيت الحرام، وإذا حلق رأسه كانت عليه فدية . وإذا وصل الهدي إلى محله فقد قام بأداء الفريضة. وقد يتعذّر إيصال الهدي إلى بيت الله وحينئذٍ ينحر الهدي في موضع الإحصار بين ضيوف الرحمن القادمين للحج المحصورين . ويمكن إرسال الهدى الى الفقراء المستحقين حسبما يتيسر . أما إذا إستطاع في حالة الإحصار إرسال الهدي إلى الحرم فلابد من إرساله إلى محله بالغ البيت العتيق ، ويحلق رأسه بعدها، ويكون قد أدى الفريضة. وحينئذٍ لا ضرورة لموضوع الحج بالنيابة أو عن الغير .

 2 : الاحصار من البداية ،أى المنع من المنبع :

بصدور قرار بمنع طائفة معينة من الحج ، مثل منع السعودية الطائفة الأحمدية من الحج ، أو الخوف من القتل عند دخول مملكة آل سعود ، كما يحدث لأهل القرآن . هنا يكون الحكم الأصلى هو عدم الاستطاعة من الأساس . عدم الاستطاعة هنا لا يوجب الحج أصلا على المستطيع . ولكنه لو أراد أن يعايش مشاعر الحج بقلبه وجوارحه فيمكنه تطبيق تشريع الاحصار فى الحج ،أى يظل فى بيته ويرسل ما تيسّر من الهدى الى البيت الحرام، ويلتزم الإحرام فى بيته ولا يحلق شعره الى أن ينتهى الوقت الذى حدده لأداء المناسك. والآن توجد الرفاهية مؤكدة فى الحرم ولم يعد يحتاج الناس هناك للذبائح كما كان من قبل، بل قد يصبح تكدس الذبائح مشكلة، وقد يتم إلقاء بعضها فى الزبالة كما يقال ، لذا يمكن للممنوع من الحج أن يرسل بالهدى الى المناطق التى تعانى من المجاعات ، ويخلص لله جل وعلا قلبه ويعمّر قلبه بالتقوى. فهذا هو الغرض الأسمى من الحج .

الاستعداد القلبى للحج قبل الاحرام :

قبل دخول الحرم المكانى وقت الحرم الزمانى لا بد من تطهير القلب والجسد ليستعد لمعايشة الاحرام ، و ليكون الحرم الانسانى فتكتمل الحرمات الثلاث ،أى بالنية الصادقة الخلصة بإتخاذ مناسبة الحج فرصة للتقوى والتوبة والسمو الخلقى وتنقية العقيدة . ويصحب ذلك النية بالحج فقط أو بالحج والعمرة معا .

 بين الحج والعمرة :

 يشير القرآن إلى ان العمرة يمكن آداؤها في اشهر الحج وفي غيرهن ، يقول تعالى عن تشريع الحج فى أوقات الأمان وعدم الاحصار:( فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ)(البقرة 196 )، ثم قال جلّ وعلا في الآية التالية: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)( البقرة 197). وكانت أشهر الحج معلومات للعرب ، وكانوا يعرفون أيضاً تأدية العمرة في غير أشهر الحج ، ولكن التشريع في الآية يوجب على من تمتع بالعمرة مع الحج أن يقدم ما تيسر من الهدي .

الاستعداد المادى للحج باستحضار الهدى

كما يشمل الاستعداد اصطحاب الهدى أو الاستعداد لشرائه وذبحه فى الحرم لاطعام ضيوف الرحمن . ويشير رب العزّة إلى الاستعداد للحج بإحضار الهدىفي قوله تعالى : ( هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) 25 الفتح )، فالمسلمون قدموا للحج ومعهم الهدي الذي سينحرونه في الحج . وهذا الهدى من الأنعام كانت العادة تمييزها عن غيرها  بقلائد . والله جل وعلا يجعل من المحرمات التعرض لهذه الحيوانات وللقلائد التى تميزها عن غيرها حتى تظل معروفة ومصانة الى محطة وصولها الى البيت الحرام ، كما يحرّم رب العزة التعرّض لقوافل الحج ومن فيها وما فيها :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )(2) المائدة ). والمفهوم هنا أن العرب إعتادوا إستحضار الهدى معهم فى طريقهم الى مكة. ومن هنا جاء التحريم المشدّد لأى إعتداء على هذه القوافل ، الى درجة أن يمتد ( الحرم والاحرام ) من الحرم المكانى ( الكعبة ) ليصحب هذه القوافل من خروجها من وطنها حتى وصولها الى ( الحرم ).

ونوعية الهدى وعددها متروك لامكانات الحاج وتقواه ، أى هو حسبما إستيسر من الهدى :( فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ) البقرة 196 ).أى ترك رب العزّة جل وعلا تحديد الهدي مفتوحاً ما بين شاه إلى بقرة او ناقة ..

الاستعداد المادى للحج بالحلق والتقصيرقبل الاحرام :

والحلق والتقصير ـ قبيل دخول الحرم هو لتأكيد الصدق فى المسالمة والسلام والأمن والأمان .يقول جلّ وعلا عن الحلق والتقصير قبيل الدخول في الأحرام: ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ )( 27 الفتح ). أي انهم دخلوا المسجد الحرام وكانوا قبلها محلقين رءوسهم ومقصرين حتى لا يضطروا إلى حلق رءوسهم اثناء الإحرام وهو محظور إلا عند العذر وحينئذٍ تجب الفدية. فالحلق قبل الإحرام وليس خلال الإحرام.. والحلق مرتبط بشعر الرأس حسب التعبير القرآنى ، سواء الحلق أم التقصير ، وهو للرجل والمرأة معا . والتقصير هو للتيسير على المرأة .

تطبيق الاحرام :

1 ـ بدخول الحرم بنية الحج يبدأ الاحرام . ويبدأ تطبيق الاحرام قلبيا وماديا وسلوكيا . وهنا يبدو الفارق بين تشريع الاسلام فى الاخلاص القلبى والتشريع السّنى فى التدين السطحى ؛ ففى الاسلام ينبغى أن يكون الاحرام تقوى قلبية يعبّر عنها سلوك خلقى راق وإخلاص فى تأدية مناسك الحج لله جل وعلا وحده، والتقرّب لله جل وعلا باستدامة ذكره جل وعلا ، ومعايشة للسلام والأمان والرحمة والتسامح والاحسان وغسل القلب من الشرور والاحقاد فى التعامل مع الناس . أما فى الدين السنى فالاحرام هو مجرد زى صحراوى بدوى من قطعتين يكشف العورة للرجل فى الصلاة ويعيق حركته.

2 ـ أتاح لنا ربّ العزة الاحرام فرصة لنبذ عاداتنا السيئة التى ينهى عنها حين قال جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)الحجرات).  ليس فى الحج أن يسخر قوم من قوم ، ولا تلامز ولا تنابز بالألقاب ولا فسوق ولا ظن بالسوء ولا ظلم ولا إغتياب ولا تجسّس ، بل الحج هو التوبة عن كل ذلك ، الاحرام هو فرصة للتوبة والكف عن كل هذه الموبقات.

3 ـ  وفى هذا الجو السامى يمكن للحجاج التعارف السلمى طبقا لما جاء فى قوله جل وعلا فى الآية التالية يخاطب البشر جميعا:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)  الحجرات ). هنا يكون الاحرام فرصة لمعايشة الأخوة بين البشر ، فكلنا ـ من ذكور وإناث ـ أخوة من أب واحد وأم واحدة مهما إختلفت ألواننا وثقافاتنا وطبقاتنا الاجتماعية ومستوياتنا العلمية . ومهما تباعدت أوطاننا فنحن نأتى الى مركز هذه الكرة الأرضية ( مكة ) حول البيت الحرام ، الحرم المكانى لربنا جل وعلا ، وفى خلال الأشهر الحرم الأربعة (الحو الزمانى ) لنتعرّف ببعضنا ونمارس هذه الأخوّة فى مناخ من السلام والشعور بالمساوة المطلقة بين كل بنى آدم. هذا مع التأكيد على أن معيار التفاضل بيننا هو التقوى بالسمو الخلقى وإخلاص القلب والعقيدة لله جل وعلا ، وهذا ما سيحكم به رب العزة بيننا يوم القيامة . أما فى هذه الدنيا فليجمعنا الاسلام بمعناه السلوكى ( اى السلام ) وليكون بيت الله الحرام مثابة لكل البشر وأمنا ، ومن دخله كان آمنا مهما كان معتقده ومهما كانت عقيدته . الحكم هنا بالأمن الظاهرى والاسلام السلوكى بمعنى السلام وإيثار الأمن والأمان .

  4 ـ تطبيق الاحرام فى الاسلام يتجلّى فى المبالغة فى الابتعاد عن المعاصى ( الفسوق ) ( تحريم نية أو إرادة الالحاد والظلم ) ( تحريم الجدال تأكيدا على المسالمة ونبذ الخلاف والشقاق )( التأكيد على حرمة الحياة لكل الكائنات الحية حتى الحشرات وحيوانات الصيد ) ، إجتناب الشهوات المباحة أوالرفث مع الزوجة. إنّه يعني الإلتزام بأوامر الله بالإمتناع عن المحرمات، وبعضها كان حلالاً قبل الإحرام وبعضها حرام في كل وقت وهو في الإحرام اشد تحريماً : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )( 197 البقرة )، (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ) ،وعدم قتل الصيد : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) 95 )المائدة )( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )( 196البقرة ).الرفث حلال مع الزوجة في كل وقت ما عدا نهار رمضان وأيام الإحرام ـ ويحرم إذا كان مباشرة في حالة الحيض في أي وقت .. والفسوق حرام في كل وقت ، والجدال جائز بالتي هي أحسن ولكنه حرام في الإحرام والله يعاقب من ينوي الإلحاد والظلم في الحرم ، مجرد النية يعاقب عليها عذاباً أليماً . وذلك يعني أن من يقع فعلاً في المعاصي السابقة فالله يتولى عذابه عذاباً شديداً . وينبغي الحفاظ على كل كائن في الحرم ووقت الإحرام ، ولذلك فمن اضطر لأن يحلق رأسه عليه فدية ومن يرتكب قتل الصيد وهو محرم فعليه أن يقدم فدية تعادل الصيد المقتول أو ما يماثله من طعام للمساكين أو صوم : ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )( المائدة 5 )، وقد كانوا يقعون في الصيد البري في الحرم فأنذرهم الله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) المائدة). وبعد فرض الفدية على من يقتل الصيد وهو محرم قال تعالى : (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) المائدة).

العقوبات لمن ينتهك الاحرام

 1 ـ  والفدية ـ حسب تشريع القرآن ـ جاءت لتجبر المحظور في شيئين : الإضطرار لحلق الرأس بسبب مرض أو أذى في الرأس ، وفي قتل الصيد . وما عداهما فلا فدية على المحرم اذا وقع في المحظورات الأخرى من الرفث والفسوق والعصيان وارادة الظلم والإلحاد . إذ أن العقوبة عليها عند الله لا يجدي فيها تقديم هدي او فدية .

2 ـ تقدير  فدية قتل الصيد :  والفدية التي يدفعها من يحنث في يمينه هى إطعام عشرة مساكين أو ما يساوي صوم ثلاثة ايام:( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ )(89 ) المائدة).وبهذا التقدير يُحكم على من يقتل الصيد وهو مُحرم :( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً )(95  )، فعلى قدر الصيد يكون الهدي المقدم فدية فإن لم يجد هدياً ينحره فدية يقدم ما يساويه طعاماً للمساكين ، فإن لم يجد المال كان عليه أن يصوم ثلاثة أيام في مقابل ما يساوي أطعام عشرة مساكين . وعلى سبيل المثال : إذا قتل بقرة وحشية كان عليه أن يقدم هدياً مقابلها بقرة ، فإن لم يجدها دفع ثمنها اطعاماً للمساكين أي أشترى طعاماً بـ 1500 جنيه حسب الأسعار في الحرم . وفرّق الطعام على المساكين في الحرم ، فيطعم بذلك نحو 150 مسكيناً . فإن لم يجد المال كان عليه أن يصوم ثلاثة أيام في مقابل أطعام عشرة مساكين أي صيام 50 يوماً .

والمحرم في كل ذلك يبتغي التكفير عن ذنبه والافلات من عقوبة مولاه العظيم ، لذلك كانت الفدية على من يقتل الصيد وهو متعمد لذلك : ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً )، وتقدير التعمد أو غيره أمر يرجع إلى ضمير المحرم نفسه وإلى تقواه ،فإذا خشي الله قام بالفدية إذا كان متعمداً قتل الصيد ،ودرجات الفدية على حسب الأحوال ومن لم يستطع الوفاء بها مالياً كان عليه أن يصوم. والهدف من هذه المحظورات والتشديد عليها والتحذير منها هو ان تكون فترة الإحرام درساً في تعليم المؤمن السمو بغرائزه وتزكية نفسه وتعليمها الصبر والتقوى والمعايشة مع الله في بيت الله .وفي خلال هذه الفترة يقوم المحرم بمناسك الحج والعمرة ، وبعدها تنتهي فترة الإحرام ويحل له الصيد: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) 2 المائدة).ويحل له باقي الحلال .

3 ـ والفدية عن الحلق للمحرم جعلها القرآن فدية من صيام أو صدقة اونسك ، وتركها مفتوحة حسب مكانات الحاج وحسب تقواه ، وقد تكون صوما أو اطعام مساكين أو تقديم ذبائح . وهو نفس الحال فى تقديم الهدى عند الاحصار وعند الأمن ، يقول تعالى:( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ )البقرة 196) . وترك تحديد الهدي مفتوحاً ما بين شاه إلى بقرة او ناقة ..

مناسك الحج وقت الاحرام 

1 ـ ذكر الله جل وعلا : استغراق القلب فى ذكر الله جل وعلا وقت تأدية المناسك وفيما بينها، وعدم ذكر غيره ، حتى عدم ذكر الآباء . وقد عقدنا فصلا عن الحج وذكر الله جل وعلا . لكن نؤكد هنا على أمرين. الأول : شمولية الذكر للصلاة فى مقام ابراهيم ،والاعتكاف ودوام الركوع والسجود :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة )( وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) الحج ). الثانى : الالتزام بتشريع الذكر والدعاء فى الاسلام ، وهو أن يكون الذكر والدعاء بتضرع وخشوع وخفوت فى الصوت :( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) ...( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً (56)، ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (205) الاعراف ). وبالتالى فإن رفع الصوت بالتكبير والتلبية فى الحج ليست من الاسلام فى شىء . يجب أن تقال فى تضرع وخفوت صوت، وإلّا كانت إعتداءا لا يحبّه رب العزّة : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ).

 2 ـ  والطواف بالبيت أول وأبرز مناسك الحج . ومع الطواف بالبيت يكون الاعتكاف عنده والصلاة فيه. طبقا لملّة إبراهيم عليه السلام: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة )،(وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) الحج ). وبعد القيام بالمناسك يطوفون بالبيت طواف الوداع : ( ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الحج  ) .الطواف واجب مرة واحدة ، ولكن يمكن القيام به مرات عديدة  خلال فترة الحج ، ومنها الطواف الأخير الوداع . والله جل وعلا ترك هذا مفتوحا ، ضمن الصلاة والركوع والسجود وذكر الله جل وعلا ، وايضا عدم تحديد مرات التطوع أو نوعيته فى الهدى . فالحج مناسبة لعمل اصالحات والتطهر القلبى.

ليس لمس الحجر الأسود أو تعظيمه أو تقديسه من الاسلام فى شىء . هو مجرد حجر لتعيين بداية الطواف ونهايته . وسبق لنا نشر مقال فى هذا الموضوع . كما إنه يحرم لمس بناء الكعبة نفسها ، فالطواف هو مجرد سبع دورات من الطواف يمتنع فيها لمس بناء الكعبة حتى لا تتحول الى وثن وعبادة للأحجار. الكعبة هى بناء من أحجار يحدد مركز الكرة الأرضية . والطواف سبعا هو حول هذا المكان المحدد بجدران الكعبة ، طاعة لأمر الله جل وعلا . وهذا الطواف مرتبط بقلب ينبض بطاعة الآمر جل وعلا ، كما فعلت الملائكة حين أمرها الله جل وعلا بالسجود لآدم فبادرت دون إعتراض أو تساؤل بينما شذّ عنها ابليس فلعنه الله جل وعلا وطرده من عالم الملائكة فأصبح من الجّن.

 3 ـ ويشير القرآن إلى الوقوف بعرفات والأفاضة منه وذكر الله عند المشعر الحرام الذي يعني عرفة وما حوله من مواقف يقول تعالى ينبه على ذكره تعالى " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) البقرة " .

4 ـ الهدي : سبق أن قلنا أن الله جل وعلا أوجب تقديم ما تيسر من الهدي على من حصره مانع من الحج : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ)، واوجبه على من أراد الجمع بين الحج والعمرة : ( فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (196) البقرة.).وأوجبه الله على من قتل الصيد وهو محرم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ )(95 المائدة ).

وما عدا ذلك فالهدي يقدمه المحرم لله تعالى تطوعاَ ، وقلنا إنه كانت العادة أن تزين الأنعام المقدمة هدياً لبيت الله بما يعرف بالقلائد ، وتكتسب تلك الأنعام حصانة فلا يتعرض لها أحد في طريقها للحرم ، شأنها في ذلك شأن زوار بيت الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )(2)  المائدة )، ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )(97) المائدة ). 

وشراء وبيع الانعام فيه منافع للناس فى موسم الحج وشهوره الحرم الأربع ، لذا يذكر رب العزة جل وعلا الأنعام مرتبطة بالمنافع وبذكر إسم الله عليها حين تزكيتها بالذبح وتفرقتها على الفقراء السائلين وغير السائلين المتعففين ، يقول جل وعلا :( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) الحج ) بل يجعلها رب العزة مرتبطة بشعائر الله جل وعلا وحرماته فى الشهر الحرام ، يقول جل وعلا : ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )(30) الحج )،( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ )(34 ) ، (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) الحج ).

الأنعام الهدى فى الحج لها رمز خاص فى الإحرام المؤسّس على الطاعة المطلقة والمباشرة وعدم الجدال فى اوامر الله جل وعلا . فذبح أنعام الهدى المميزة بقلائدها وقت الاحرام هو قربة وطاعة لله جل وعلا، وفى نفس الوقت يكون التحريم الكامل لقتل أى كائن حىّ وتحريم قتل الصيد، وفرض عقوبة أو فدية على من يتعمّد ذلك . هنا تكون الطاعة فى تنفيذ الأمر ( ذبح الهدى ) وتكون الطاعة فى الابتعاد عن المنهى عنه ( قتل الصيد ). هنا تكون المبادرة بالطاعة تكرارا لما فعلته الملائكة حين أمرها الله جل وعلا بالسجود لآدم فأطاعت مباشرة ، وعصى ابليس وجادل فأصبح ملعونا .

ومن هنا أيضا يرتبط تقديم الهدى بالتقوى فى أروع معانيها ، فالحجّاج ضيوف الرحمن فى بيته الحرام ، وقد ضمن لهم فى هذا الوادى المفتقر للزرع عين ماء لا تنضب يشرب منها ضيوف الرحمن فى بيته الحرام ، ولكن يبقى لهم توفير أطيب الطعام من القادرين من الحجاج ، أى أن يطعمم الحجاج بعضهم بعضا من هذا الهدى ، سواء من يطلب أو من يتعفف ( القانع والمعترّ ). اى إنه للجميع؛ يأكل من الهدى صاحب الهدى والآخرون على السواء ، وجميعهم ضيوف الرحمن ، يأكلون من نعم الرحمن حيث جعلها من شعائره فى بيته الحرام : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) الحج ) . لذا يقول ربّ العزة باسلوب بالغ الدلالة فى الآية التالية:( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ (37) الحج ). الله جل وعلا لا يناله شىء من لحوم الهدى ولا من دمائها ، ولكن ينال التقوى التى تصاحب تقديم الهدى. وهنا الموضع الوحيد فى القرآن الكريم الذى يشير الى أن الله جل وعلا ينال شيئا من البشر ، وهو جل وعلا الغنى عن العالمين ، حتى أنه الغنى عن حجّهم الى بيته : (آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97)( آل عمران ). لو شاء رب العزّة لأنزل على الحجّاج رزقا من السماء كما أنزل على بنى إسرائيل المنّ والسلوى ، ولكن شاء أن يختبر عباده فى بيته الحرام وهم ضيوفه ، ضمن لهم الماء الزلال من بئر زمزم ، وأمرهم بتقديم الهدى لتكون من شعائر الحج ، وجعل تقديمها تعظيما لشعائره ، وذكر جل وعلا إنه يناله التقوى ممّن يقدم هذا الهدى . وكفى بهذا فخرا لمن يقيم الاحرام فى بيت الله الحرام طاعة لله جل وعلا وخشوعا وتقوى .!!

8 ـ وينتهي الحج بعد الوقوف بعرفات وتقديم الهدي .. ومن أراد التطوع طاف بين الصفا والمروة بعد أكمال الحج أو العمرة وذلك ما نفهمه من قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة ). قال تعالى : ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ )، أي ان الطواف بالصفا والمروة بعد الانتهاء من الحج أو العمرة . ومع أنهما من شعائر الله إلا ان الطواف بهما تطوعي وليس فرضا أو إلزاماً : ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم ) .

ثم يكون طواف الوداع للكعبة قبل المغادرة .

أخيرا : ليس من مناسك الحج :

  ليس من مناسك الحج تلك العادات الجاهلية التى توجب المبيت بمنى قبل الوقوف بعرفة ثم الذهاب الى المزدلفة بعد الوقوف بعرفة . وما إبتدعوه فيهما من طقوس وقصر للصلاة  بلا داع ، تأثرت كلها ببدعة وفرية كبرى هى حصر تأدية الحج خلال اسبوع الافتتاح فقط ، وتجاهل مشروعية الحج خلال الأشهر الحرم الأربعة كلها من بداية شهر ذى الحجة الى نهاية شهر ربيع الأول .  ثم أضافوا لشعائر ومناسك الحج رمى الجمرات ، وهذا إفك عظيم .  وسنعرض لمبتدعات الدين السّنى بالتفصيل فى الباب التالى .