JustPaste.it

كتاب: السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة

هذا الكتاب يعتبر أهم الكتب التي صدرت في العصر الحديث عن السيد البدوي وأتباعه.
ويعكس الكتاب عقلية أحمد صبحي منصور في اواخر سبعينات القرن الماضي وأوائل الثمانينات ،وكيف كان المؤلف بهذا النضوح الفكري في حقبة السبعينات .
المحرر

 

فكرة عامة عن الكتاب

1 ـ هو أول كتاب منشور ، بدأت نشره على حسابى الخاص بامكانات متواضعة ، اضطررت فيها لبيع حلىّ زوجتى. واستمر طبع الكتاب عاما بأكمله فى مطبعة يدوية فى حىّ شعبى بالقاهرة  القصيّرين ) ، وكنت أضطر للذهاب اليهم أقطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام لمراجعة الطباعة . ومع هذا إمتلأ الكتاب بأخطاء لا حصر لها. وفى النهاية تم الطبع ، وقمت بنفسى بتوزيعه بالاتفاق مع مؤسسة أخبار اليوم . وصدرت الطبعة الأولى 1403هـ-1982م ، و&ag;&sg;كان ثمنه يسيرا لا يتعدى جنيهين . وبيع منه مائتا نسخة فقط فى أول طرحة للبيع من جملة 5 آلاف نسخة . وواجهت معضلة تخزين الباقى ، فاضطررت الى تخزينه فى المركز العام لجماعة دعوة الحق الاسلامية ، فى ميدان بابل بالدقى ، حيث كنت الأمين العام لها ، ونائب رئيس تحرير مجلتها ( الهدى النبوى ).

2 ـ وقتها كنت مدرسا فى قسم التاريخ والحضارة جامعة الأزهر من حيث الوظيفة ، أما من حيث الاعتقاد فقد كنت خصما عنيدا للتصوف ، وقد أحرزت نصرا مؤزرا على الصوفية باصرارى على تمرير رسالتى للدكتوراة ، والتى تطعن التصوف فى الصميم ، وكانت بعنوان (أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى ). وقتها كانت للصوفية سطوتهم مع وجود شيخ الأزهر عبد الحليم محمود ، وبعد موته كان لا يزال أتباعه يسيطرون على جامعة الأزهر ، وكنت أواجههم منفردا و بكل حسم ودون أنصاف الحلول ، مما جعل زعماء السلفية يحتفون بى ، من داخل (أنصار السّنة ) ومجموعات مسجد العزيز بالله فى حىّ الزيتون وشيخهم د . جميل غازى ، ولكن إخترت الانضمام لجماعة (دعوة الحق الاسلامية ) لأن رئيسها (  د سيد رزق الطويل ) كان معنا استاذا مساعدا وقتها فى جامعة الأزهر( كلية الدراسات الاسلامية).  وأتاحت إعارته للسعودية لى فرصة أن أقوم بمعظم مهامه وبمساعدة من شقيقه د . عبد القادر الطويل ، وكان صديقا عزيزا لى .

3 ـ وحين كتبت هذا الكتاب كنت اعتقد أنه لا بأس بالحديث طالما لا يخالف القرآن ، وكنت أستشهد بها على أضيق نطاق ، فعلت ذلك فى رسالة الدكتوراة ، وفى كتبى التالية ، وفى بدايتها هذا الكتاب الى عام 1985 ، حين وصلت بالبحث والدراسة الى نقطة الحسم فى نفى الحديث تماما كمصدر للتشريع وجزء من الاسلام .ولم يكن هذا سهلا بالنسبة لى على أية حال ، إلا إن عقلية الباحث وهدف الاصلاح قاما بتسهيل الأمر ، فبدأت داخل السلفية بالاصلاح الجزئى فى موضوعات يشترك فيها التصوف و السّنة فى تقديس  الأولياء والأئمة والنبى محمد مثل العصمة والشفاعة ، وكلها تعتمد على احاديث ، وقمت بنفى تلك الأحاديث من خلال الجرح والتعديل فى رسالة الدكتوراة فيما يخص التصوف ، وكان لا بد أن استمر فى الطريق فى المرحلة التالية ـ المرحلة السلفية ـ وهى التى تعتمد أساسا على الحديث وتقدّس رواته وأعلامه . ومن هنا بدأت علنا وفى خطب الجمعة و المقالات والندوات الطعن فى تلك الأحاديث نافيا الشفاعة و عصمة المطلقة للنبى ، وتوالت الموضوعات ، وتوالى الجدل والصراع داخل الأزهر وداخل جماعة دعوة الحق الاسلامية ، وانتهى الأمر بانفصالى عنهم ، وخرج معى كثيرون كانوا النواة الأولى لأهل القرآن ، ودخل معى كبارهم السجن عام 1987 .

4 ـ فى عام 1981 كنت أعمل فى تجهيز كتاب يتكون من الأبواب الثلاثة التى حذفتها من رسالة الدكتوراة ، وكانت عن التناقض بين الاسلام والتصوف فى العقيدة و العبادات والأخلاق . وكنت عازما على نشره فى ثلاثة أجزاء . وبسبب ضخامة التكاليف اضطررت الى البدء بكتاب ( السيد البدوى ) ، وهو فى الأصل كان بحثا ضمن أحد فصول رسالة الدكتوراة التى تم مناقشتها ـ أى لم يحذفوه . وكان هذا تنفيذا لصديق عزيز ـ رحمه الله جل وعلا ـ هو الاستاذ كمال فرغلى الصحفى بدار التعاون . وفى شهرين قمت  بتجهيز الفصل ليكون كتابا مستقلا حمل وقتها عقيدتى ومستوى تفكيرى منذ حوالى ثلاثين عاما . ومن الطبيعى ونحن نعيد نشره أن ننقحه ليعبر عن الاتجاه القرآن الصافى ، أى قمت بحذف بضعة أحاديث فقط لا غير. وجدير بالذكر أن هذا الكتاب فى طبعته الأصلية تمت إعادة طبعه مرات عديدة دون علمى ، وهو موجود بنفس الطبعة القديمة متاحا على الانترنت لمن يريد أن يعرف الفارق بين الطبعة القديمة والتنقيح البسيط فى هذه النسخة.

5 ـ أتذكر أنه بعد نشر الكتاب قمت مع صديقى د عبد القادر الطويل بمقابلة صحفى نافذ فى جريدة الجمهورية ليكتب مقالا عن الكتاب ليساعد فى تسويقه ، ففوجئنا بالصحفى يقول لنا : لستم فى حاجة لنا فقد نشر د . حسين مؤنس مقالا هاما فى مجلة اكتوبر يشيد فيها بهذا الكتاب . خرجنا و اشتريت نسخة من اكتوبر وقرأت الموضوع ووجدت د  حسين مؤنس يقدم عرضا للكتاب ويصفه بأنه أفضل ما كتب عن السيد البدوى ، فى إشارة لكتاب عن السيد البدوى كتبه د عبد الحليم محمود ، كان عارا على مؤلفه . وارجو ان اعثر على هذا المقال و انشره لمجرد الذكرى. وبعدها كان لى شرف التعرف باستاذنا د مؤنس الى أن توفى 1996 .

أترككم مع كتاب(السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) الصادر عام 1982 .

 

تمهيد- منهج البحث ومصادره-دراسات حديثة

 

جاء فى ( سيرة ابن هشام ) أن اشراف مكة اجتمعوا يوما عند الكعبة فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقالوا : " ما رأينا مثل صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط . سفه احلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ".[1]
 
ولقد صدق أئمة الكفر من قريش ، وقد كذبوا ..
 
 صدقوا فى وصفهم للرسول عليه السلام بأنه سفه أحلامهم – أى عقولهم – وعاب دينهم .. فعقول تعبد الأنصاب ودين يقدس الأحجار لا تستحق تلك العقول وذلك الدين إلا أن يوصف بالسفه والعيب .
 
وقد كذبوا حين وصفوه عليه السلام بأنه يسب ويشتم فما كان عليه السلام سبابا ولا فحاشا و لا عيابا ..وكل ما هنالك أنه قال حقا .. وصف آلهة قريش بما تستحقه من أنها لا تنفع ولا تضر ولا تحس ولا تشعر ولا تملك لنفسها أو غيرها موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولكن هذا الحق الذى  نطق به محمد صلى الله عليه وسلم يعتبره كفار قريش عيبا لا عيب بعده .فأشد الزيغ عندهم أن توصف آلهتهم بصفات البشر من العجز والاحتياج ، فهم يضعون تلك الآلهة فوق مستوى البشر وما يجوز على البشر لا شأن لهم به ، وإذا فكر البعض مجرد تفكير فى وصف هذه الآلهة بصفات البشر لاعتبروه صابئا خارجا على الدين .
 
وتلك إحدى سمات الشرك .. أن تضاف خرافات التقديس والتمجيد إلى شخص ما من بنى الإنسان لترتفع به إلى مستوى الإله ، حتى إذا حاول  باحث أن يظهره على حقيقته التاريخية كإنسان عادى له محاسن ومساوىء قامت عليه الدنيا ولم تقعد .. وكل ما اقترفه الباحث المسكين أنه قال حقاً،  أى وصف ذلك الشخص المقدس عند اتباعه بصفات البشر العاديين ..إلا أنه لم يدر أنه بذلك أنزل ذلك الإله  المقدس من عليائه وجعله إنسانا لا يختلف  فى شىء عن باقى أتباعه ،  فطعن الأتباع فى أقدس عقائدهم فاظهر أن عقولهم خرافة ودينهم لا يستحق إلا العيب ،ومما لا شك فيه أنهم سيعتبرون ذلك سبا فى آلهتهم وذما فى عقولهم وعيبا فيما اعتاده أسلافهم . بذلك نطق كفار قريش، ومن هذا الموقع نفسه سينظر أتباع البدوى لهذا الكتاب الذى يتعرض لحقيقة البدوى التاريخية وصورته الخرافية التى ملأت عقول أتباعه.
 
ومع أن هذا الكتاب لا يقول إلا الحقيقة المستمدة من كتابات الصوفية  أنفسهم أو من كتاب الله العزيز والمصادر  التاريخية الموثوق بها – مع ذلك فإن هذه الحقيقة لن تكون أمام أتباع البدوى إلا السباب والشتم والعيب، لأنهم لا يرون الحقيقة إلا فيما يؤمنون به ولو كان خرافة وفيما يعتقدونه ولو كان أفكاً وفيما نشأوا عليه ولو كان بهتاناً .
 
ولا أدل على تأليههم للبدوى وأعتباره شيئا مقدسا فوق مستوى البشر من اعتبار تاريخه حرما مقدسا لا يدنو منه المؤرخ إلا وفى نيته أن يكيل له الحمد والتقديس فقط ، أما إذا تجرأ وعامل البدوى كبشر يؤرخ له كما نؤرخ لسائر الناس  فإن القيامة تقوم عليه وترتفع صيحات الغضب لإن " الحمى المقدس " قد تجرأ عليه البعض " سباً وشتماً وعيباً " مع أن الحقيقة لا يمكن أن تكون سباً أو عيباً بأى حال.
 
ومن عجب أن للمؤرخ الحق أن يتعرض لتاريخ صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول ما لهم وما عليهم ، ومن منا من لم  يعرف بالخلاف بين أبى بكر وعلى وبين على وعثمان وبين على وعائشة وبين على ومعاوية ،وموقعة الجمل و موقعة صفين ومصرع الحسين ، تاريخ لا يخلو من دماء ، والدماء تعنى أن هناك ظالما ومظلوم ، ومع أن أولئك هم رءوس الصحابة إلا أن للباحث التاريخى أن يلوم هذا أو ذاك ولا حرج عليه .أما حين يصل الأمر للتأريخ لشيخ صوفى – والبدوى بالذات – فان الأقلام تتوقف والقلوب تترتجف ، ويختلف المنهج فاما أن يكال الحمد والتقديس وإلا فلا.
 
لماذا ؟
 
لأن البدوى والصوفية آلهة ويمتازون عن جميع البشر بطريقة خاصة فى التعامل، ولابد للمؤرخ  إذا اراد النجاة من الأتباع الصوفية أن يعامل البدوى كإله معصوم منزه عن ضعف البشر ومساوئ بنى آدم.أما إذا تجرأ ولم يأبه بمشاعر الأتباع الصوفية وقال الحق ، فإن هذا الحق سيعتبر(عيبا فى الذات المقدسة ) ولا يستغرب حينئذ أن يعقدوا إجتماعا فى ضريح الحسين فيتذكروا الأمر ويقولوا مقالة القرشيين " ما رأينا مثل صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ".
 
منهج البحث ومصادره
 
1 ـ وهذا الكتاب عن البدوى وعنوانه " السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" :
 
* أى يبحث حقيقة البدوى  : كداعية شيعى استغل التصوف ستارا لإرجاع الحكم الشيعى الذى إنقرض بزوال الدولة الفاطمية فى مصر على يد صلاح الدين الأيوبى ، وحين ضعفت الدولة الأيوبية إنتهز الشيعة الفرصة فأعادوا دعوتهم  المتسترة بالتصوف لإرجاع الملك الزائل ،إلا أن الدولة المملوكية قامت اثر الحكم الأيوبى فأضاعت آمال الشيعة المتسترين بالتصوف فاضطروا إلى تمثيل دور المتصوفة إلى نهايته .
 
* ثم يبحث فى خرافة البدوى :-
 
فنظرا لكثرة الأتباع السريين للبدوى وزملائه فى هذه الحركة السرية المتسترة بالتصوف فإن الدعاية للبدوى بعد موته ملأت جميع الأنحاء فى مصر، ووقع عليهم عبء التأريخ للبدوى ، فحولوه من شخص إلى اسطورة ومن واقع الى خرافة ، وذلك ليجتذبوا إليهم أفواج  البشر إلى مثوى البدوى فى طنطا فى (مولد البدوى ) ، أملا فى الرزق الوفير والجاه بين الناس . وأدى ذلك بالطبع إلى تأليه البدوى ورفعه فوق مستوى البشر واضفاء صفات الله عليه من تصريف فى الخلق وعلم بالغيب ، مع التقرب إليه بالتوسل والزيارة ، وكل ذلك خروج عن الإسلام الذى ينهى عن تقديس البشر حتى ولو كانوا من الرسل المقربين.
 
ذلكم بإختصار هو موضوع الكتاب ، وقد ظهر فيه أنه ينقسم إلى فصلين  ، يبحث الأول فى حقيقة البدوى أو نشاطه السياسى السرى المتستر بالتصوف ، ويبحث الفصل الثانى عن خرافة البدوى ، أو ما قام به المتصوفة من تأليه للبدوى وتقديس له .
 
2 ـ والواقع أن حركة البدوى السياسية كانت نهاية المطاف فى مخطط محكم شمل  أفريقيا ""شمال افريقيا" ومصر والحجاز والعراق والشام ، بدأ فى أفريقيا والمغرب ومر بالحجاز وأقام بالعراق ثم إنتقل إلى مصر ، كان رواده الأوائل والد البدوى ووالد الرفاعى وسائر الشيعة الذين هربوا من المغرب ، وعقدوا مؤتمراً بالحجاز وضعوا فيه الخطط ، ثم أقاموا  أول خلية لهم فى العراق ، ما لبثت أن تطورت ونمت على يد أحمد الرفاعي فى القرن السادس الذى أرسل البعوث السرية إلى الشرق والغرب من موطنه (أم عبيدة فى واسط بالعراق) ..وكان من بين أتباعه أبو الفتح الواسطى فى مصر،والذى جاء البدوى ليخلفه فى الدعوة بعد موته فى القرن السابع ..وبفشل البدوى فى الدعوة السرية تحولت بعد موته إلى تصوف بحت رفع البدوى إلى مصاف التأليه وتحول الطموح السياسى إلى مولد وضريح ودعاية وخرافة اتسع لها الفصل الثانى.
 
3 ـ ولأن البدوى (قضية) مثارة على الدوام تحظى باهتمام الكثيرين على اختلاف المستوى الثقافى والعلم  بالتاريخ الإسلامى ، ولأن حركة البدوى مزجت بين التشيع السياسى السرى والتصوف المعلن ، ولأن الشيعة اشتهروا بالسرية والالتواء والألغاز والمعميات ، ولأن الصوفية  اشتهروا مثلهم بالرموز والتأويلات والأساطير والخرافات ، لذلك كله فإن تلمس حقيقة البدوى السياسية وسط هذه الظروف وتقريبه لغير المتخصصين فى التاريخ والتصوف والتشيع يعتبر أمرا شاقا ، أرجو أن أكون قد وفقنى الله إليه..
 
3 / 1 : فالكتاب فى فصله الأول يبحث قضية علمية تاريخية على أرفع مستوى من التخصص ، وهى استغلال التصوف بيد طائفة من الشيعة لغرض سياسى هو التآمر لاسقاط العروش  الحاكمة فى المنطقة فى القرنين السادس والسابع الهجريين . ثم هو مطالب بعدها أن يقدم هذا البحث العلمى بصورة سهلة يستطيع القارىء غير المتخصص أن يستوعبها . وإذا كان صعبا أن نتعرف على الحقيقة التاريخية من خلال أكوام الرموز والأساطير والخرافات والحوادث التاريخية المختلفة زمنا بين القرنيين السادس والسابع والمختلفة فى المكان بين المغرب ومصر والحجاز والعراق ..إذا كان هذا صعبا من الناحية العلمية فإن الأصعب هو  تقديم ذلك فى صورة سهلة مبسطة ..خدمة للقراء الذين يهمهم التعرف على حقيقة البدوى وخرافته.
 
3 / 2 : ويزيد من الصعوبة أن حركة التشيع السرية تلك قد نبتت على مسرح سياسى معقدة ظروفه ، أثرت فيه وأثر فيها . فالحركة حين بدأت فى المغرب تأثرت بدولة الموحدين ثم إذا انتشرت فى العراق حيث مدرسة أحمد الرفاعى كان لابد أن تتأثر بظروف الخلافة العباسية وتطورات الأمور فى المشرق الإسلامى الذى وجهت نحوه مبعوثيها.ثم إذا انتقلت الى مصر فى شخص أبى الفتح الواسطى ثم البدوى كان لابد أن تتفاعل بظروف مصر يومئذ وهى تودع الدولة الأيوبية وتتهيأ لزعامة المنطقة تحت قيادة الدولةالمملوكية.
 
3 / 3 : وفى نهاية الأمر فإن تلك الحركة الشيعية السرية فى القرنيين السادس والسابع والتى كان البدوى نهاية المطاف فيها – هذه الحركة الشيعية لم تكن الأولى أو الأخيرة فى جهد الشيعة السياسى السرى الذى استغل كل الظروف للكيد للدولة العباسية منذ بدايتها وحتى بعد أفول شمسها وقيام الدولة المملوكية والقوى الأخرى التى ورثت العراق والمشرق . وإن كانت الحركة الشيعية التى نحن بصدد البحث فيها لم تنجح فإن الحركات السابقة وبعض الحركات اللاحقة أفلحت فى  إنشاء دول وممالك ، وهى لم تغفل عن الاستفادة بالتستر بالزهد والتصوف لتكسب بها المزيد من الأنصار والأتباع..
 
 4 ـ لذا  بدأ الفصل الأول بإشارة عامة للحركات الشيعية فى القرون الثالث والرابع والخامس من الهجرة ، وكيف استفادت بالتستر بالزهد والتصوف فى حركاتها الموجهة ضد الدولة العباسية كحركة الزنج وحركة القرامطة ، ثم قيام الدولة الفاطمية باستغلال إدعاء الزهد والتصوف أثناء قيامها  بعد أن استقرت أمورها فى مصر لم تترك استغلال التصوف فى نشر مذهبا بين المصريين . وقد استفاد صلاح الدين الأيوبى من أعدائه الشيعة فحاربهم بمثل سلاحهم أى بالتصوف الموالى له.
 
5 ـ ثم بحثنا جذور حركة البدوى السياسية فى القرنيين السادس والسابع ودور مدرسة المغرب فى بداية الدعوة الشيعية ومساندتها حين انتقلت الدعوة للمشرق ، ودور مدرسة الرفاعى فى أم عبيدة بالعراق وسياسته مع الأتباع والمريدين وعلاقته بالخلافة العباسية وبعوثه للمشرق ثم بعوثه إلى مصر بعد انتهاء الخلافة الفاطمية الشيعية فيها.. ثم كان البدوى مبعوثا ليخلف أبا الفتح الواسطى أبرز دعاة الرفاعى فى مصر الأيوبية . وبيّنا كيف أعدّ الشيعة فى مصر المسرح وهيأوه للبدوى فاختاروا له قرية مجهولة ذات موقع هام هى طنطا ، وإليها توافد الشيعة فأخذوا العهد على البدوى منذ بدايته ، وكيف أن الأدوار توزعت على الجميع بين الشاذلى فى الأسكندرية والدسوقى فى دسوق ومدرسة أبى الفتح الواسطى فيما بين طنطا والقاهرة والأسكندرية.
 
6 ـ وتحدثنا عن جهود البدوى فى المرحلة الأولى ، حيث كان الاضطراب السياسى ملائما لإنجاح الدعوة ، فعرضنا لسياسة البدوى مع مريديه والآخرين ، وبعوثه الى داخل مصر وخارجها. ثم أوضحنا فى المرحلة الثانية كيف تغير المسرح السياسى فى مصر، فقد استقرت الأمور بعد توطيد الظاهر بيبرس للدولة المملوكية ، وقد كان بيبرس خبيرا بفن المؤامرات والتخفى ، وقد واجه فى بداية حكمه ثورة صوفية شيعية فى القاهرة تزعمها الكورانى ، وبعد اخمادها التفت بيبرس لخطورة الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف ، وكان أن أحس البدوى بالخناق يضيق حوله فاضطر لتجميد دعوته السياسية والاقتصار على التصوف الذى يتستر به ، وظل هكذا إلى أن مات سنة 675 هجرية.
 
7 ـ ثم ختمت الفصل بتعليل فشل البدوى سياسيا، وتبيين الآثار السياسية لدعوته ، والعناصرية التآمرية فى حركته .. وتتبعت فى إيجاز الحركات الشيعية السرية بعد البدوى ، وأبرزها الحركة التى أقامت الدولة الصفوية فى المشرق (فارس والعراق) والتى استطاع زعيمها الشاه إسماعيل الصفوى أن يتسبب فى انهيار الدولة المملوكية وقتل السلطان الغورى فى مرج دابق على يد العثمانيين الذين احتلوا مصر وحولوها إلى مجرد ولاية عثمانية بعد أن كانت  زعيمة المنطقة.
 
المصادر التاريخية عن البدوى:
 
1 ـ وقد اعتمد البحث فى هذا الفصل على المصادر التاريخية المعروفة بكتب( الحوليات)   أى التى تؤرخ للحوادث التاريخية لكل (حول) أو لكل سنة . بل لكل يوم أو شهر . والعادة فى كتب الحوليات أن تهتم بالأعلام الظاهرين وتتبع أخبارهم على مدار السنين الى أن يموت أحدهم فتسجل موته فى العام الذى مات فيه وتذكر بعض سيرته . والملوك والولاة ومشاهير العلماء والصوفية هم النجوم التى تهتم بها عادة كتب الحوليات بالاضافة للحوادث الغريبة التى تحدث فى حياة الناس وتستحق أن تسمو الى مستوى الذكر فتسجلها الحوليات التاريخية فى أوانها، إلى جانب أخبار السلاطين وتحركاتهم السياسية والحربية .
 
ومن عجب أن البدوى صاحب الصيت الذائع كان مجهولا فى عصره ، فلم يحظ بترجمة أو أدنى إشارة فى كتب الحوليات التاريخية التى عاصرت حياته ومماته ، مع أن البدوى عاش فى فترة تاريخية هامة شهدت أحداثا مؤثرة كحملة لويس التاسع وقيام الدولة المملوكية على أشلاء الدولة الأيوبية وانتصار المماليك على المغول فى عين جالوت وغزوات الظاهر بيبرس ضد المغول والصليبيين والأرمن .. كما شهدت حياة البدوى ظهور الكثير من الأعلام العلماء كابن دقيق العيد وابن بنت الأعز وعز الدين بن عبد السلام وأبى شامة وابن عدلان وابن عصفور النحوى وابن جماعة ومحيى الدين النووى وابن ميسر المؤرخ وابن خلكان . وبرز من الصوفية فى الحوليات التاريخية الشاذلى والمرسى والتلمسانى وخضر العدوى والدسوقى والدرينى والقبارى وغيرهم..
 
وأولئك جميعا من علماء وصوفية أقل شهرة الآن من البدوى إلا أن الحوليات التاريخية المعاصرة لهم اهتمت بتحركاتهم ورددت أخبارهم ، أما أحمد البدوى فإذا راجعت أى مصدر تاريخى معاصر لحياته فلن تجد فيه أدنى إشارة عنه ،وإذا راجعت وفيات عام 675 وهو العام الذى توفى البدوى لم تجد فيه  ذكرا لوفاة البدوى ..
 
فإذا تركت القرن السابع الذى عاش فيه البدوى ومات والتفت للقرن الثامن وحولياته التاريخية ألفيت صمتا تاما عن البدوى مع أن الأحمدية أتباع البدوى صارت لهم قوة فى هذا القرن حتى اتعبوا الامام ابن تيمية فى الشام.. ولعل صدامهم مع ابن تيمية أوسع لهم مجالا فى المصادر التاريخية التى تهتم بالأعلام الظاهرين .. وقد كان ابن تيمية أظهر الأعلام فى القرن الثامن . وبينما أوردت الحوليات التاريخية للقرن الثامن أن هناك طائفة تسمى الأحمدية فإن البدوى نفسه حرم من التأريخ له فى هذا القرن أسوة بسابقه.
 
ولا بد لذلك من سبب. فكيف يكون البدوى مجهولا فى العصر الذى عاش فيه وهو القرن السابع ؟..
 
والجواب واضح .. لقد كان البدوى مجهولا فى عصره لأنه كان يقوم بدعوة سياسية سرية مناوئة لنظام الحكم السائد يريد بها إرجاع الملك الشيعى ، وقد اتخذ لدعوته مركزا سريا بعيدا عن الانظار هو (طندتا) (طنطا) ومنه كان يرسل البعوث يزرع بهم المدن والقرى ( وهم السطوحية) فى مصر وخارجها.. ولأنه كان مستترا فى قرية بعيدة عن الاضواء فقد خفى شأنه عن مؤرخى القرن السابع المعاصرين له. وشأن المؤرخين أن يهتموا بالنجوم الظاهرة فى سماء المجتمع كالسلطان وحاشيته وأبرز العلماء وأشهر الصوفية ممن هم فى دائرة الضوء. ثم مات البدوى وفشلت حركته السرية وتحولت الى تصوف بحت بأتباع منتشرين فى كل بقعة فبدأت الدعاية للبدوى كشيخ صوفى حسبما تظاهر بذلك . وبمرور الزمن وكثرة الأتباع وتفرع السطوحية الأحمدية إلى طرق وتغلغلها فى القرى والنجوع ازدادت الدعاية للبدوى واحاطته الأساطير ورويت عنه الكرامات الخرافية وكلها تومىء بالدافع السياسى فى دعوته وتفصح عن غرضه من عكوفه فى طنطا منزويا عن أولى الأمر.
 
والطريف أن الدعاية للبدوى اختلطت بالدعاية  لمولده وما يعنيه المولد الأحمدي من رزق وفير للصوفية الأحمدية من سدنة القبر المقدس فى طنطا ، فترجمة البدوى فى الطبقات الكبرى للشعرانى  فى القرن العاشر الهجرى كان فيها الاهتمام الزائد بالمولد والدعاية له وما يفعله البدوى فيه من كرامات .
 
والمهم أن القرن التاسع شهد نمو الدعاية للبدوى ومولده فسجلت الحوليات التاريخية كيف عطل السلطان جقمق المولد الأحمدى سنة  852 وكيف توقف بعض القضاه فى الأفتاء بابطال المولد خوفا من تصريف البدوى ، ثم كيف انخرط بعض المماليك فى الطريقة الأحمدية ، وكيف زارت زوجة السلطان حشقدم المولد وكيف انتظمت فى الطريقة الأحمدية .
 
ومع أن التأريخ الفعلى لم يبدأ للبدوى إلا فى القرن العاشر على يد الشعرانى فى طبقاته.
 
إلا أن بعض ترجمات البدوى فى العصر العثمانى أسندت للمقريزى وابن حجر ، وادعت أنها نقلت عنهما أنهما قالا عن البدوى كذا و كذا ، مع أن المقريزى وابن حجر لم يذكرا شيئا فى حولياتهما التاريخية عن البدوى ، وتلك الحوليات المشهورة منشورة كالسلوك وإنباء الغمر والدرر الكامنة. وربمانقل عنهما الناقلون تلك الرويات عن البدوى بالطريقة الشفهية . وهذا هو الأرجح ، فمن نقل عن المقريزى وابن حجر لم يذكر كتابا نقل عنه ، ولعل المقريزى وابن حجر تحرجا من التأريخ للبدوى تحريريا فى كتبهما ، فالبدوى مات فى القرن السابع أى قبلهما نحو قرنين ، وقد تابعا فى كتبهم التأريخ  للقرن السابع بالنقل عن مؤرخى القرن السابع نفسه وهم قد أغفلوا  ذكر البدوى ، حتى إذا أرخ المقريزى وابن حجر للقرن التاسع الذى هم شهود عليه كان البدوى قد تحول إلى اسطورة وخرافة ودعاية ، ولم يعد واقعا تاريخيا يستحق التسجيل فى الحولياتالتاريخية التى تهتم بما يحدث فعلا فى الحياة العلمية والحوادث الجارية كل يوم.
 
وقد تم الفتح العثمانى لمصر سنة 923 أى فى نهاية الربع الأول من القرن العاشر الهجرى ، وقد شهد هذا القرن العاشر بداية التأريخ الفعلى للبدوى،على يد علمين كبيرين هما السيوطى والشعرانى .
 
فالسيوطى عرض لترجمة البدوى فى كتابه(حسن المحاضرة) ولم يذكر فيها مصدرا استقى منه الترجمة ، ورصعها  بكرامة ادعى حدوثها له مع البدوى .
 
والشعرانى ترجم للبدوى فى كتابة ( الطبقات الكبرى ) وصرح فى مقدمتها بأن سيرته – أى البدوى - شاعت على الألسنة وأنه إنما يذكر ترجمته لمجردالتبرك.
 
أى أصبح البدوى فى القرن العاشر تراثا شعبيا يتناقله الناس جميعاً جيلاً عن جيل مختلطا بالكرامات ، ويتحرز عن الترجمة العلمية له كبار المؤرخين ، وحتى إذا اضطر أحدهم كالسيوطى للترجمة له فى(حسن المحاضرة) فإنه لا يجد مصدرا تاريخيا ينقل عنه. بل أن السيوطى نفسه حين أرخ للقرن السابع الذى عاش فيه البدوى فى كتابة (تاريخ الخلفاء) ذكر  فى ختام ترجمته للخليفة العباسى الحاكم المتوفى بمصر 701 كثيرا من الأعيان المعاصرين للبدوى والذين توفوا فى عهد ذلك الخليفة ، وكان البدوى هو الشخصية التاريخية الوحيدة التى أغفل السيوطى ذكرها ، وذلك لأن السيوطى ينقل عن المؤرخين المعاصرين للقرن السابع ، وأولئك جهلوا البدوى ولم يعرفوه، فاضطر السيوطى وهو ينقل عنهم إلى أن ينقل عنهم باخلاص فيسجل ما سجلوه ويتجاهل ما تجاهلوه..
 
وإذا كان البدوى قد حرم من الترجمة التاريخية العلمية فى العصر المملوكى فإن العصر العثمانى قام بسد النقص ، فترجم للبدوى ترجمة صوفية مختلطة بالكرمات. فقد تابع العصر العثمانى ما كتبه الشعرانى فى طبقاته عن البدوى فاوسع للبدوى تراجم خاصة فى مناقبه مليئة بالأساطير والخرافات وتقديس الاتباع له ، وهكذا قامت كتب ( المناقب) بتعويض ما أغفلته كتب الحوليات التاريخية ، وأهم كتب المناقب ما كتبه عبد الصمد الأحمدى فى" الجواهر السنية والكرامات الأحمدية " وهو مطبوع ، والحلبى فى " النصيحة العلوية" ولا يزال مخطوطا.
 
وكتاب عبد الصمد " الجواهر السنية" هو العمدة الذى نعول عليه فى هذا الكتاب ، فقد ضم بين دفتيه كل ما كتب عن البدوى من طبقات الشعرانى الكبرى والصغرى وما كتبه السيوطى فى "حسن المحاضرة " بالإضافة إلى ما كتبه الآخرون عن البدوى وقد ضاع ولم يصل إلينا مثل " طبقات محمد الحنفى " و" تاريخ القدس للمقدسى"  وكتاب أزبك الصوفى الذى نقل أجزاء طويلة منه.
 
ثم إن كتاب عبدالصمد هو العمدة الذى إعتمد عليه من أرخ للبدوى بعد عبدالصمد كالخفاجى والحلبى ، ثم إن هذا الكتاب " الجواهر " هو العمدة أيضا لكل من يكتب  فى عصرنا عن البدوى إعتمد عليه عبدالحليم محمود وسعيد عاشور وحجاب وفهمى عبداللطيف . ثم هو- أى الكتاب – مطبوع ومتداول ، وهناك طبعة حديثة له فى مكتبة صبيح وهى التى اعتمدنا عليها .
 
وكتاب الجواهر لعبدالصمد يعتمد أساساً على ما نقله من كتاب أزبك الصوفى الذى أرخ لرحلة آل البدوى من المغرب للحجاز ثم رحلة البدوى للعراق ثم إلى طنطا وعلاقته بأتباعه .
 
وإن كان كتاب أزبك الصوفى فى عداد المفقودات فقد عثرت على مخطوط مصور بالميكروفيلم فى
 
معهد المخطوطات ، عنوانه ( قصة القطب أحمد البدوى ) لمؤلف مجهول إسمه عمر بن عثمان الماردانى الحلبى ، قال أنه فرغ من كتابه فى رمضان 863 أى فى النصف الثانى من القرن التاسع ، وقد بدأ فيه بقصة البدوى بنفس العبارات التى حكاها أزبك الصوفى فى العصر العثمانى ، مما يقطع بأن أزبك الصوفى قد نقل عن هذا المؤلف المجهول المكتوب فى القرن التاسع ما كتبه عن البدوى وإن كان قد تجاهل ما أورده الماردانى عن سيرة الرفاعى.
 
ومهما يكن من أمر فإن مشكلة التأريخ للبدوى تكمن فى أن المصادر التاريخية التى تؤرخ لكل حول قد تجاهلته  لأنه فى عصره – فى القرن السابع – لم يكن شيئا مذكورا ، ثم جاءت كتب المناقب الصوفية لتحول المجهول إلى اسطورة وخرافة. والباحث فى تاريخ البدوى الحقيقى يعيش بين  " التجاهل " و " التخريف"، أى  بين" تجاهل" معاصرى البدوى له و "تخريف" اتباعه فيما بعد  فى مناقبه وتغاليهم فى تأليهه.
 
 على أن البحث العلمى التاريخى كفيل بحل المشكلة ، ( فالحوليات التاريخية ) وإن خلت من ذكر البدوى فانها تلقى الأضواء الكاشفة على المسرح الذى عاش فيه البدوى ، و( المناقب الصوفية ) وإن إستغرقت فى الأساطير والخرافات فإن ملامح الحركة السرية تكاد تظهر واضحة من خلال أكوام الأساطير والمنامات ، وكلها تنبئ عن مخطط  شامل واع لا يمكن أن تكون حركاته كلها مصادفة أو عشوائية وخصوصا وإننا نتعامل مع الشيعة أساطين الدهاء وأساتذة التستر وملوك الباطن.
 
ولم يكن أمامنا إلا أن نزاوج فى الاعتماد على المصادر الصوفيه (المناقب) والتاريخية (كتب الحوليات) لنتتبع منهما آثار حركة سرية ضاعت معالمها ولم يبق منها إلا أقاصيص مروية تومىء ولا توضح ، تشى ولا تشرح ، إلا أن ملامح التآمر فيها واضحة. ويزيد فى وضوحها أن أساطينه لاقوا العنت والأذى من السلطات الحاكمة ، وإن ذلك التراث عن البدوى بالذات مختلف عن التراث المدون لباقى الأشياخ الصوفية ، فنبرة الطموح السياسى فيه واضحة عالية تتردد خلف كل كرامة ووراء كل منام.
 
لقد أخذنا بمنهج المؤرخ فى بحث حقيقة البدوى ، فتتبعنا المسرح التاريخى وفحصنا الأساطير الصوفية ، واستعنا بهذه على تلك ، فاهتدينا لحركة سرية محكمة التخطيط متسقة الحركات متحدة الأسلوب على كثره الأتباع وتتابع الأشياخ واختلاف الموطن ، وهنا تتضح الأمور وتنكشف الأسرار فما دام هيكل التخطيط قد وضح وبان فان من السهل على كثير من الجزيئات أن تنتظم فى مكانها فى كل عضو وفرع للهيكل العام.
 
 
 
2 ـ وفى الفصل الثانى كان الحديث عن خرافة البدوى أو علاقة البدوى بالتصوف وما أضفاه التصوف على شخصية البدوى من خرافات التقديس وأوهام التأليه . وتخفيفاً على القارىء فقد أعرضنا عن الايغال والتعمق فى الصلات العقائدية بين التصوف الذى استتر به البدوى والتشيع الذى قامت على أساسه حركته وما يبدو فى تراث أشياخ الدعوة من آثار شيعية تفضح مذهبهم الحقيقى ، وتركنا ذلك كله رحمة بالقارىء وركزنا على عنوان الفصل وهو "خرافة البدوى" أو ما أشاعه التصوف عنه من مفتريات ارتفعت به فوق مستوى البشر.
 
وأولى هذه الخرافات هى اعتبار البدوى وليا لله عند أتباعه الذين نشروا هذا الاعتقاد بين الناس ، وقد أثبتنا أن ولى الله تعالى لا يمكن أن يكون شخصا معروفا مقصودا وإنما الولاية لله هى صفات عامة للجميع تتركز فى الإيمان والتقوى وهى كصفات بشرية تقبل الزيادة والنقص حسب مجاهدة الهوى والشيطان وأن المعرفة بدرجة الإيمان والتقوى فى كل نفس فى أى وقت لا تكون إلا لله علام الغيوب ، وأن الولى إن كان معروفا مقصودا للتوسل والتبرك فلا يكون إلا الله تعالى وهو الولى الحميد.
 
ثم التفتنا لعقيدة الصوفية فى ولاية البدوى فاثبتنا خروجها عن الإسلام وأفردنا لذلك بحثا كاملا عن عناصر تأليه البدوى وعبادته ، وكيف أضفوا على البدوى الصفات الالهية من الأسماء الحسنى والحياة الأزلية والتصريف بأنواعه فى الإنسان والحيوان والأرض والسماء والكون فى الدنيا والآخرة وكيف أسندوا له علم الغيب مع أنه لا يعلم  الغيب إلا الله.
 
وعن عبادة البدوى تحدثنا عن قيامهم بالصلاة له ركوعاً وسجوداً وتوسلاً ودعاء ثم قصدوه بالحج واعتبروا ضريحه كالكعبة وأن عناصر الحج الإسلامى للكعبة قد توافرت بالكامل فى الحج للبدوى فى مولده.
 
ثم أشرنا إلى ما وقع فيه الأحمدية السطوحية من تفضيل للبدوى على الله تعالى وقد فصلنا الشرح فى هذا المنزلق الخطير ، وبعده عرضنا للانحلال الخلقى الذى نشره الصوفية الأحمدية فى موالدهم وكيف كانوا الرواد فى هذا المجال . وفى نهاية الفصل تحدثنا عن مسئولية البدوى فى هذا الانحراف ومبيناً أنه يتحمل المسئولية فيه أمام الله ، فالبدوى لم يعبد رغم أنفه وإنما كان  داعية يجمع حوله الأتباع لهدف معين ويلقنهم أساس دعوته الشيعية الصوفية، والشيعة يؤمنون بعصمة الإمام وتقديسه والصوفية يؤلهون الولى، وبين أولئك وأولئك كان البدوى ، فإذا نجا من تهمة التشيع فلن ينجو من جريمة التصوف . ثم إن ما  وصل إلينا من أشعار البدوى تفضح عقيدته بما أضفى على نفسه من خصوصيات إلهية لا يمكن أن يقولها مسلم ،بل إن المسلم منهي عن تزكية النفس بمجردالصلاح والتقوى،لا أن يعلن نفسه إلهاً متصرفاً فى ملكوت الله ويزعم أن الله تعالى هو الذى صرح له بهذا....
 
 وفى هذا الفصل أخذنا بمنهج دارس العقيدة حيث الحقيقة مطلقة لا نسبية ،ومن منطلق التخفيف عن القارىء فقد جعلنا الأساس الذى نحاسب به الصوفية والبدوى هو كتاب عبد الصمد الأحمدى . ومن حسن حظهم أنه أكثر كتب المناقب اعتدالاً ، ثم هو مشهور منشور متدوال. بالأضافة إلى ترجمة البدوى فى الطبقات الكبرى للشعرانى وهو كتاب مشهور أيضا..ثم قارنا أقاويل الصوفية بكتاب الله العزيز وهو الحكم والفيصل فى الأمور العقائدية ، فظهر لنا إعجاز القرآن الكريم حيث أن القرآن الكريم سجل قبل عشرة قرون ما يقوله المشركون فى كل عصر وأوان فجاء الصوفية الأحمدية يكررون مقالة الشرك بعينها ويسجلون إعجازاً للقرآن الكريم وهو الحجة على المشركين فى كل عصر مهما تستروا وراء أسماء وألقاب من تصوف أو تشيع أو سنية أو نصرانية أو قبطية أويهودية..
 
الدراسات الحديثة عن البدوى:
 
ومع أن شهرة البدوى لا تزال قائمة فى عصرنا فإن حظه من البحث العلمى لا يعدل مكانتة فى أفئدة الناس ، وذلك بسبب غموض سيرته الحقيقة وحشوها بالكرامات التى تتطلب مناقشة علمية ، والمناقشة العلمية تتطلب بدورها جرأة وشجاعة على مواجهة أتباع البدوى ومحبيه، ثم إن البدوى على عظم مكانته فليس له مذهب صوفى معين كابن عربى أو ابن سبعين وهما من معاصريه ، فالبدوى شأن أصحاب التصوف العملى الطرقى ( نسبة إلى الطرق الصوفية ) يركز على التربية العملية دون الفلسفة النظرية ، زد على ذلك ما نذر نفسه له من هدف سياسى مستتر مع ثقافة ضحلة رشيقة..
 
والمهم أن البحوث الحديثة فى شخصية البدوى يمكن أن تنقسم إلى نوعين، شأن كل البحوث التى تتخذ التصوف مجالا ، فأما أن تجامله على طول الخط ، وهى بالعادة كتب الأتباع فى أشياخهم ، وهذه الكتب تقرأبالاعتقاد والتسليم ، أى ما على القارىء إلا أن يسلم بما فيها ويبتلع ما تحويهمن كرامات ومنامات ويجعل عقله تحت قدميه ، وغنى عن البيان أن تلك الكتب لا تسمى بحوثا من الناحية العلمية إلا تجاوزاً.
 
والاتجاه الآخر هو البحث المجرد بالعقل والمنطق ،  وهو طريق صعب ولكن يهون الصعب فى رضا الله تعالى الذى يوصى باتباع الحق والصبر عليه (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))..العصر
 
وقد بدأ اتجاه العقل والمنطق فيما كتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق فى مجلة السياسة الأسبوعية عام 1927 تحت عنوان ( المولدان الأحمدي والدسوقي) وقد ذكر أنه رجع إلى مخطوطة مغربية ينكر صاحبها أن أحمد البدوى كان صوفيا فقط ويثبت أنه فى الحقيقة كان علوياً طموحاً يهدف لإرجاع الملك الفاطمى ، وكان المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق يدرك تأثير هذه المقالات فلم يشأ أن يوقعها باسمه بل وقع تحتها بـ ( عالم كبير وكاتب معروف)..
 
وقد سار على نهجه الأستاذ محمد فهمى عبد اللطيف فى كتابه ( السيد البدوى ودولة الدراويش فى مصر ) سنة 1948 . فتابع ما ذكرته مجلة السياسة فى حركة البدوى السياسية وأضاف بعض المصادر الصوفية وألحق بعض الفصول عن الموالد الصوفية وأثر المتصوفة فى المجتمع المصرى ثقافياً ودينياً وفنياً. وكوفىء على كتابه القيم بالاتهام بالالحاد والمروق من خطيب الجامع الأحمدى بطنطا..
 
وظهر اتجاه متحفظ من بعض دارسى التاريخ كما فعل الأستاذ إبراهيم نور الدين فى كتابه ( حياة السيد البدوى بحث فى التاريخ والتصوف الإسلامى ) سنة 1950 وقد اعتمد على مصادر تاريخية وصوفية وحاول  أن ينفى عن البدوى جهده السياسى . ثم جاء بعده الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور فى كتابه (السيد البدوى ) سنة 1967وقد كتب دراسة ممتعة عن شخصية البدوى فى اعتقاد مريدية وكيف أنهم وصلوا به للألوهية والتشبه بالرسول وقرر أن البدوى برئ من تلك المغالاة ،وكان مرجعه الأساسى كتب عبد الصمدى والخفاجى والشعرانى والحلبى ، ولأنه أهمل العامل السياسى فى  تاريخ البدوى فقد أخفق فى تفسير السبب الحقيقى لرحلة البدوى للعراق أو لمصر ،ويبدو أنه تحرج من الايغال فى هذا الموضوع  خوفا من نقمة البعض ،ومع ذلك فقد واجة هجوما صوفيا ،  وإن كان ذلك لا ينقص من مكانته ومكانة أبحاثه.
 
 ثم اضطر الصوفية المعاصرون للرد فكان أن كتب الشيخ احمد حجاب (العظة والاعتبار .آراء فى حياة السيد البدوى الدنيوية  وحياتة البرزخية ) وقد بين أن السبب فى تأليفه هو الرد على كتاب (السيد البدوى ) للأستاذ (محمود أبو ريه )لأنه ينكر فيه على البدوى تلقيبه بالسيد ...إلخ[2] وقد بدأ كتاب الشيخ حجاب بصورة شخصية له يقول تحتها:
 
تأمل صورتى توحى بصدق            بــأن الحق مشربها الصــريح
 
أقول الحق لا أبغى سواه              ويملأ قلبى النصح الصحيح
 
وبعد أن وصف صورته ونعت نفسه بالصدق والصراحة وأسبغ على ذاته ما يريد من فضائل ـ كشأن الصوفية فى تزكية أنفسهم أفرد أكثر من صفحة يقدم فيها نفسه للقارئ باعتباره إبنا روحيا للبدوى ، ويقول فيها عن نفسه أنه لم يبارز ربه بمعصية واحدة [3].أى يصف نفسه بالعصمة الكاملة. وفى هذا الكتاب يدافع عن التصوف والموالد والأضرحة والتوسل ، ولم ينس أن يرصع كتابه بكرامات ذكر أنها وقعت له مع البدوى (أبوه الروحي) .
 
ثم عنّ للدكتور عبد الحليم محمود أن يضيف إلى تراثه الصوفي كتاباعن البدوي بدأه بأكذوبة كبرى وضعها في عنوان يقول (ليس للصوفية تاريخ شخصي )، وإذن فيم نسمي كتب المناقب التى تتعدد في ذكر محاسن شيخ صوفي بعينه تتبع حياته وتملأها كرامات ومنامات ،ثم يقول (ولم ابتدىء في كتابة شئ من الكتاب حتى ذهبت متعمدا إلى طنطا استأذن السيد في الكتابة عنه ، وفي المقصورة المباركة بدأت الكتابة [4])أى جاءه الإذن من القبر المقدس بالكتابة فكتب.وكتاب عبد الحليم محمود عن البدوي لا يختلف في شئ عن كتب الصوفية الأخرى ، يدور حول نفسه ينتقل من موضوع لم يكمل إلى موضوع آخر لم يتم ليسارع بتركه إلى تعليق فآخر ، يحاول بذلك كله أن يدافع ، وفي يقيني أنه أسوأ من يدافع عن الصوفية والتصوف.
 
وبعد
 
فهذه أهم الأبحاث والكتابات الحديثة عن شخصية البدوي. وقد وضح الاتجاه الذي يسير عليه هذا الكتاب (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة )، فهو يتابع الطريق العلمي الموضوعي أسوة بما كتبه الشيخ مصطفى عبدالرازق والأستاذ  فهمى عبد اللطيف ، ثم يضيف فصلا كاملاً عن خرافة البدوي وكيف حوله التصوف الى إله ونشر تقديسه والحج إليه بين الناس طيلة ستة قرون ، وآن لنا بعدها أن نبدد تلك الخرافة بالحقيقة القرآنية والتاريخية.
 
ومن الطبيعي أن ما جاء بهذا الكتاب لن يعجب الكثيرين ممن يعيشون على أوهام الماضي  ويحسبون الخرافة ديناً يجب التمسك به والدفاع عنه والحج إليه ، وأولئك لا أمل فى إقناعهم بأى دليل من قرآن أو تاريخ أو عقل ،ومع ذلك فلا نعلن عليهم حربا .فالإسلام كفل حرية العقيدة لكل إنسان (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) وهم وما اختاروه لأنفسهم وآخرتهم ،وحسابنا وحسابهم عند ربنا يوم القيامة ،وسيحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون بشأن البدوى وغيره من الآلهة الأولياء.
 
لقد فعلنا ما في وسعنا فى هذا الكتاب،أوضحنا زيف المعتقدات وبطلان الخرافات بالأدلة والبرهان وبأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة خدمة لدين الله تعالى وأملا فى أن تتخلص عقيدة المسلمين من شوائب التخريف والأباطيل. وبعدها ، لا يزال فى الصدر رحابة لتحمل الأذى وتقبل الشتائم والسباب ممن لا يعجبهم قول الحق ويعتبرون الحق ماساً بآلهتهم  المعبودة.
 
ولا نملك فى نهاية الأمر إلا أن نقول لهم ما قالة خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام لقومه.
 
                  " اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون" 

 

 

الفصل الأول

حقيقة البدوي أو البدوي كداعية سياسى سري

تمهيد( استغلال الشيعة للزهد والتصوف ضد الدولة العباسية فى: حركة القرامطة ، وحركة الزنج ، وقيام الدولة الفاطمية، نشأة التصوف فى احضان التشيع معروف الكرخى والحلاج ، استغلال الدولة الفاطمية للتصوف حين ضعفت، صلاح الدين الأيوبى يحارب التشيع بالتصوف السنى.)

 

فى بداية أى حركة تكمن فكرة معينة وأصحاب الدعوات هم بالضرورة أ&OEacute; أصحاب ( أفكار) يبغون ترويجها فى سبيل هدف معين ،ودعوة البدوى أو حركته السرية سلسلة من مخطط طويل قام على أساس ربط التشيع بالتصوف أملا فى إنشاء حكم شيعى يعيد سطوة الدولة الفاطمية ،

ثم هو حلقة فى كتاب التآمر الشيعى ضد الدولة العباسية التى انفردت دونهم بالحكم والسيطرة.

وقد استغل الشيعة  سلاح الزهدوالتصوف فى الكيد للدولة العباسية، فحركة (الزنج) قام بها شيعى طموح انتحل النسب العلوى وجمع الزنوج وهم أدنى طبقات المجتمع فى العصر العباسى فثار بهم على الخلافة العباسية واستمرت ثورته من سنة 255 : 270 هجرية.

ولم تنته مؤامرات الشيعة ضد العباسيين فبعد ثمانى سنوات بدأت حركة "القرامطة" سنة 278 على يد حميد قرمط الذى " أظهر الزهد والتقشف" [1]على حد قول المؤرخ ابن الأثير ، وتطورت  قوة القرامطة فقطعوا الطريق على الحجاج وهاجموا الكعبة وأخذوا الحجر الأسود سنة 317 واستمر أمرهم إلى مابعد منتصف القرن الرابع .

وباظهار الزهد والتستر به نجح أبو عبد الله الشيعى فى استمالة البربر وتكوين الدولة الفاطمية فى المغرب فقيل عنه أنه أظهر لكبار  البربر (العبادة والزهد[2]  ) أثناء الحج فى مكة حتى تمسكوا به وصحبوه إلى بلادهم وآزروه فى دعوته حتى تم قيام الدولة الفاطمية.

والطريف أن أعداء الشيعة تعلموا منهم استغلال الزهد فى إقامة الدول،فقامت فى المغرب  دولة المرابطين الملثمين(448 : 553هجرية)بدعوة (الزاهد)عبد الله بن ياسين الكرولى ،ثم قامت هناك دولة الموحدين على يد الداعية (الزاهد)محمد بن تومرت سنة 514.

بل أن بعض أعداء الشيعة استغل الزهد فى الثورة على الفاطميين الشيعة كما فعل أبو ركوة الذى ثار على الخليفة الفاطمى  الحاكم بأمر الله سنة317،وكان أبو ركوة أمويا إلا أنه تستر بالزهد أوحسب تعبير ابن الأثير (تظاهر بالدين والنسك )[3]، وكان يجعل فى أسفاره ركوة كالصوفية فكنى بها.

ولم يكن الزهد السلاح الوحيد الذى استغله الشيعة سياسيا بل تستروا إلى جانبه بالتصوف ، بل أن التصوف فى حقيقته ابن شرعى للتشيع فلا خلاف فى أن " معروف الكرخى " هو أقدم الرواد الصوفيين.

ومعروف هذا كان من موالى على بن موسى الرضا رأس الشيعة فى عهد الخليفةالمأمون ،  وقد عهد الخليفة المأمون لعلى بن موسى الرضا بولاية العهد إلا أن الأمر لم يتم له . وبالطبع فإن شهرة على بن موسى الرضا ومكانته لدى الخليفة المأمون أتاحت القدر الأكبر للشيعة لنشر دعوتهم ، وبداية الطريق الجديد هو التصوف الذى يتغلغل الشيعة من خلاله سرا إلى شتى المجتمعات والأجتماعات .                                                                                                                          وكان معروف الكرخى وسيلتهم فى نشر التصوف، فمعروف تنتهى إليه كل ( خرقة )أو سلسلة صوفية ، وهو أستاذ سرى السقطى ، والسقطى هو شيخ الجنيد ، والجنيد هو" سيد الطائفة " فى تعبير الصوفية . أى أن معروف الكرخى نجح منذ بداية التصوف فى تكوين خلايا وتجمعات حوله حتى أنه لا يزال يحتل رأس القائمة حتى الآن فى كل سلسلة صوفية.

وإذا عرفنا الوجه الصوفى لمعروف الكرخى كالشيخ الأقدم لكل الطرق الصوفية،فإن الوجه الشيعى يظهر فى تاريخه ،فقد كان معروف هذا نصرانيا فأسلم (أو تصوف )على يد (مولاه) على بن موسى الرضا ، ولازم خدمته ، يقول عن نفسه " تركت ما كنت عليه إلا خدمة مولاي على بن موسى الرضا" [4]. وظل ارتباط معروف بسيده الرضا حتى إنه مات على أبوابه حين كان يعمل حاجبا لديه، فقد ازدحم الشيعة يوما بباب الرضا ( فكسروا اضلع معروف فمات) [5].

والآثار الشيعية تظهر جلية فى صوفى شهير أشتهر بالصراحة هو الحلاج، وقد كانت العوامل السياسية هى السبب الخفى وراء محاكمته الطويلة التى انتهت بقتله سنة 309. فقد ظهر الحلاج فى عصر يموج بتيارات التشيع وتحركاته السياسية فى الشرق والغرب ، ففى الشرق استولى الحسن بن على الأطروش الشيعى على طبرستان ، وفى الغرب تم قيام الدولة الفاطمية فى المغرب واتجهت بحركات عسكرية للاستيلاء على مصر ، وفى المنطقة الوسطى كان القرامطة الشيعة يعيثون فى الأرض فسادا فيما بين العراق والشام والحجاز.

ونلاحظ نوعا من التوافق الزمني بين التحركات الشيعية السابقة وشكوك  العباسيين فى الحلاج وهو تحت أيديهم وفى قبضتهم ، ففى العام الذى أعتقل فيه الحلاج وهو 301 كان الفاطميون يستولون على الاسكندرية والحسن الأطروش يستولى على طبرستان. وربما بدأت شكوك العباسيين فى الحلاج بعد قيام الدولة الفاطمية فى المغرب سنة 296، ولعلهم عرفوا بالصلة بين الحلاج والفاطميين فقد كتب الحلاج إلى بعض دعاته بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الفاطمية الزهراء[6]. وحدث بعدها قيام الدولة الفاطمية فى المغرب ، وقد ذكر الخطيب البغدادى أن أهل فارس كانوا يكاتبون الحلاج باسم ( أبى عبد الله الزاهد)[7].

وهو نفس ما يطلقه الشيعة على أبى  عبد الله الشيعى صاحب الدعوة الفاطمية فى المغرب ، أى كان للشيعة داعيتان بلقب واحد فى المشرق والمغرب وكلاهما تستر بالتصوف والزهد.

وهناك توافق بين مصرع الحلاج والتحركات المجنونة التى قام بهاالقرامطة، فقد قتل الحلاج سنة 309 ،وقد أنتقم له القرامطة بالهجوم على البصرة سنة 311 ثم الكوفة سنة 312 ، وفى نفس العام هاجموا الحجاج ثم عاودوا الهجوم على الكوفة سنة 351 وعاثوا فى العراق فساداً [8].

يؤكد ذلك أن الحلاج حين صلبه العباسيون اتهموه بأنه أحد القرامطة،ففى حوادث سنة 309 " أدخل الحسين الحلاج مشهورا على جمل على بغداد فصلب حيا ونودى عليه " هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ، ثم حبس إلى أن قتل سنة 309 ، وأشيع عنه أنه ادعى الألوهية وأنه يقول بحلول اللاهوت فى الأشراف [9]فالحلاج على هذا شيعى قرمطي يقول بتأليه الأئمة من الأشراف حسب عقائد الشيعة. ومع صراحة الحلاج إلا أنه لجأ للتقية حين حوكم ، والتقية مبدأ شيعى يعنى نفاق الحاكم حين الضرورة والتستر باظهار عكس ما فى الباطن للنجاة، وذلك ما فعل الحلاج حين أحاطت به أدلة الاتهام فكان لا يظهر منه ما تكرهه الشريعة حتى إن القضاة احتاروا فى سبب موجب لقتله ثم عثروا فى أوراقه على آراء له فى الحج تفيد أن الإنسان إذا أراد الحج يمكنه أن يحج فى بيته بطريقة معينة ذكرها ابن الأثير فى تفصيل الحكم بقتل الحلاج[10] . ويلاحظ الاتفاق بين الحلاج والقرامطة بالنسبة للكعبة والحج إليها ، إذ أن القرامطة حققوا عمليا ما ارتآه الحلاج نظريا ، إذ أن القرمطى أسس دارا أسماها ( دار الهجرة) ودعا أصحابه للحج إليها ، ثم فى العام التالى سنة  317 هجم على مكة فقتل الحجاج فيها حول الكعبة والقاهم فى بئر زمزم وضرب الحجر الأسود فكسره واقتلعه وحمله إلى(دار الهجرة) وظل فى حوزتهم أكثر من عشرين سنة [11].

ومع التيارات السياسية المتعارضة بين القرامطة والفاطميين – وهما أصدقاء الحلاج ورفاقه فى الدعوة . فإن الصلات العقائدية بينهما متينة ، وقد ذكر ابن الأثير إن المعز لدين الله الفاطمى أرسل لمقدم القرامطة كتابا يذكر فيه أن الدعوة واحدة وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه وإلى آبائه من قبله [12].

ولا شك أن مصرع الحلاج قد كشف الأصل الشيعى للتصوف لذا اضطر الصوفية المعاصرون للحلاج لإعلان التبرؤ منه، فافتى الشبلي بقتله ، وأفتى الحريري بضربه وإطالة سجنه [13]وخاصمه الجنيد رأس الصوفية واتهمه بالسحروالشعوزة[14].على أن ذلك كله لم يغن عنهم نفعاً إذ لاحقتهم السلطة العباسية بالمحاكمات والاضطهاد حتى اضطر الجنيد- وهو اكثرهم نفاقاً وتقية  إلى التستر بالفقه والاختفاء عملا بالتقية الشيعية ، حتى أنه (كان لا يتكلم إلا في قعر داره بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت فخذه ويقول:أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى ويرمونهم بالزندقة و الكفر)[15].

بقى أن نذكر أن الشيعة عجلوا باستغلال التصوف عسكريا في حركة  ابن الصوفي الذى ثار على ابن طولون في مصر سنه 256 منتهزا فرصة الصراع بين ابن طولون والخلافة العباسية .يقول ابن الأثير : (ظهر بصعيد مصر إنسان علوي ذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيي بن عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ويعرف بابن الصوفي ، وملك مدينة إسنا ونهبها وعم شره البلاد ، فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فهزمه العلوي)[16].

وهكذا ..استغل الشيعة الزهد في حركة القرامطة والزنج كما استغلوا التصوف مع الزهد في إقامة الدولة الفاطمية في المغرب ،وساعدهم على انجاح حركاتهم ما عانته الدولة العباسية من ضعف بعد أن تحكم الموالي الأتراك في شئون الخلافة والخلفاء حتى أن الولايات المستقلة قامت في مصر والشام ممثلة الدولتين الطولونية والاخشيدية.وصارت أفريقيا (المغرب) تحت تحكم الدولة الفاطمية بخلافة شيعية مستقلة تتطلع للزحف شرقاً ،وتم لها النصر بفتح مصر سنه 358.

وكما قامت الدولة الفاطمية على استغلال الزهد والتستر به كما فعل أبو عبد الله الشيعى فإنها بعد استقرارها فى مصر لم تغفل عن استغلال التصوف، فكان خلفاء الفاطميين يطلقون على أنفسهم لقب الصوفية فى فاتحة رسائلهم ،وحين تمهدت الأ مور تماما أعلن الخلفية  الحاكم الفاطمى الألوهية تشبها بالحلاج الصوفى, وتجسيدا لآرائه  التى تقول بحلول اللاهوت فى الأشراف .

ثم ازدادت حاجة الفاطميين للتصوف فى القرن السادس الهجرى ،فقد ضعفت الدولة وتحكم الوزراء العظام فى الخلفاء الفاطميين وانفض المصريون عن الدعوة الاسماعيلية الشيعية أساس الدولة الفاطمية، فى نفس الوقت الذى ازداد فيه تيار التصوف بعد ما قام به الغزالى زعيم الفقهاء والصوفية من عقد الصلح بين الإسلام والتصوف وإعطاء التصوف مسحة إسلامية ومحاولة التقريب بينهما، لذا اضطر الفاطميون فى القرن السادس للتركيز على تيار التصوف الآخذ فى الانتشار باعتبار أن التصوف فى الأصل وليد للتشيع والشيعة أخبر بالتصوف وأدرى باستغلاله والاستفادة به. والفاطميون بالذات لاتزال دولتهم قائمة ودعاتهم موجودون وهم أحوج لاستغلال التصوف فى وقت ضعفهم .

ومع الأسف فإن طبيعة الاستغلال الشيعى للتصوف فى القرن السادس على يد الفاطميين كانت غامضة شأن النشاط الشيعى القائم دائما على التستر والتخفى ، ومع ذلك  فإن هناك إشارات تنبئ عنه وتشير إليه، فالمقريزى يروى أن(الخليفة الآمر فى 524 جدد قصر القرافة  واتخذ تحته مصطبة للصوفية ، فكان يجلس بالطابق الأعلى بالقصر ويرقص الصوفية أمامه بالمجامر والألويه)[17].

ويلفت النظر هنا أن الصوفية مغرمون دائما بالقرافة وما فيها من مشاهد ولذلك اضطر الفاطميون إلى (تجديد ) قصر القرافة ،وجعل الآمر منه مسرحا لأوباش الصوفية يرقصون أمامه ، ومن خلال الرقص يكون التشاور واللقاء فى ذلك المكان القصي البعيد .

ويذكر الشعرانى فى ترجمة الصوفى ابن مرزوق القرشى 564( انتهت إليه  تربية المريدين الصادقين بمصر وأعمالها وانعقد إجماع المشايخ عليه بالتعظيم والتبجيل والاحترام وحكموه فيما اختلفوا فيه ورجعوا إلى قوله)[18]معنى ذلك أن هناك طرقاً صوفية لم نسمع بها باتباع ومريدين بمصر  وأعمالها وانتهت بمشايخ كانوا يرجعون فى كل شئونهم إلى ابن مرزوق القرشى الشيخ الأكبر لهم ..

 وفى هذا العصر المتقدم لم تكن الطرق الصوفية معروفة أو مألوفة مما يدل على تفكير عملى وتخطيط ناضج يحظى بتأييد الدولة الفاطمية التى لابد أن تكون مستفيدة من هذا النشاط الصوفى المتشعب فى كل البلاد. ويلفت النظر أن ابن مرزوق القرشى لم يتعرض لنقمة الحكام شأن أغلب الصوفية فى عهده ولم يرد فى ترجمته  ما يدل على كراهيته لأولى الأمر ،بل على العكس ورد فى تاريخه ما ينبئ عن تمكنه من فنون التستر والتقية الشيعية ،يقول الشعرانى عنه (حكى أن أصحابه قالوا يوما: لم لا تحدثنا بشئ من الحقائق! فقال لهم :كم أصحابى اليوم؟ قالوا :ستمائة .فقال استخلصوا منهم مائة ثم استخلصوا من المائة عشرين ،ثم استخلصوا من العشرين أربعة ،فكان الأربعة ابن القسطلانى وأبا الطاهر وابن الصابونى وأباعبد الله القرطبى فقال الشيخ :لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رءوس الاشهاد لكان أول من يفتى بقتلى هؤلاء الأربعة [19]) . وتقسيم الدعاة إلى درجات هرمية ، وإعطاء الأسرار بقدر وحساب وكون الإمام سراً مغلقاً دائماً حتى عن كبار أتباعه، كل ذلك من أسس الدعوة الشيعية الى تظهر فى النص  السابق عن ابن مرزوق القرشى. ومع ما يظهر من كثرة أتباع ابن مرزوق القرشى وانتظامهم طوائف وطرقا منظمة موزعة إلا أن هذه الطرق المتشعبة لم يعد لها وجود بعدالعصر الفاطمى ، مع أن الطرق الصوفية التى أسست فيما بعد لا تزال بيننا فى اتساع وتشعب وتفرع ,والتعليل واضح،أن الطرق التى أسسها ابن مرزوق أسست لغرض معين هو نشر الدعوة الشيعية أثناء الدولة الفاطمية خدمة لها فلما انهارت الدولة الفاطمية انهارت معها كل تنظيماتها العلنية والسرية .

ويتضح مما سبق أن الدولة الفاطمية أبان ضعفها استغلت التصوف المعلن فى نشر عقائدها الشيعية بين طوائف المصريين مستغلة الصلات العقائدية بين التصوف والتشيع وانتشار التصوف وانخراط الكثيرين فى صفوفه . وقد فطن لهذه الحقيقة باحث متخصص فى أساليب الشيعه فقال أن الفاطميين استعملوا صنفاً من الدعاة تستر بالتصوف وأظهر الزهد، وسبّب وجود هذا الصوفى الظاهر صعوبة التفريق بينهم وبين الدعاة الشيعة العاديين[20]، بل بينهم وبين الصوفية العاديين من أوباش الصوفية الراقصين أمام الخليفة الآمر فى قصر القرافة .

بيد أن ذلك كله لم يجد نفعا ، فازداد إعراض المصريين عن الدعوة الشيعية الفاطمية لأنهم رأوا ( الإمام المعصوم ) أو الخليفة الفاطمى ألعوبة فى أيدى الخصيان والجوارى والوزراء ، ولم يستطع الفاطميون بسبب التردي السياسي والضعف الذى وقعوا فيه أن يمنعوا الكيزاني ت 560 من نشر دعوته السنية التى تعارض التشيع . والكيزاني شاعر زاهد سنى أخذ يحارب الدعاية الشيعية الفاطمية بأشعاره السنية فالتفت إليه الكثير من المصريين وانضموا لدعوته ، وظلت طريقته حتى القرن التاسع فى عصر المقريزى، فنقم عليه المقريزى لميل المقريزى للفاطميين ، فيقول عن الكيزاني ( ابتدع مقالة أضل بها اعتقاده ، والطائفة الكيزانية على هذه البدعة مقيمون) [21].

ووجد الفاطميون أنفسهم فى موقف حرج ، فسلطتهم السياسية آخذة فى الضعف والوهن وعقيدتهم الشيعية الاسماعيلية تواجه الدعاية الكيزانية السنية المستترة هى الأخرى بالتصوف ، ولأن الفاطميون أقدر على استغلال التصوف وأدرى بنفسية الصوفية وأخبرهم بأهوائهم وأذواقهم فقد لعبوا بالوجدان الصوفي وعواطف المصريين حين أنشأوا مقبرة للحسين ادعوا أنها تضم رأس الحسين ،وقصدوا بهذا الفعل أن يستردوا ما خسروه سياسيا ودعائيا أمام كل أعدائهم ومنافسيهم .

والحق.. أن إنشاء المشهد الحسينى فى أواخر العهد الفاطمى ليدل على مهارة فائقة للفاطميين فى أستغلالهم للتصوف وفهمهم لنفسية الصوفية والعامة،فالحسين يحتل مكانة خطيرة فى العقيدة الشيعية والوجدان الصوفى والشعبى ،فهو كبير الأئمة عند الشيعة وسيد الأولياء عند الصوفية وصاحب الخطوة وسيد شباب أهل الجنة عند العامة والخاصة فى هذا العصر وما تلاه. ومنذ القرن الثانى للهجرة  صيّر الشيعة من كربلاء مشهداً ومزاراً للحسين واحتلت كربلاء مكانتها فى الوجدان الشيعى ، ثم إذا ضعف الشيعة الفاطمية فى مصر التفتوا إلى استعارة قبس من كربلاء تلاعباً بعواطف المصريين المحبين لآل البيت، وتقربا للصوفية، وغرامهم بالأضرحة والمزارات معلوم ومعروف، فالصوفية إلى الأضرحة يحجون وعليها يعكفون ، والحسين أولى عندهم وأعظم شأنا ، فعند الحسين وضريحه يلتقى الصوفى السنى والشيعى ، وحتى من أعرض عن التشيع الفاطمى وانضم إلى الكيزانى الصوفى فلن يستطيع أن يمنع نفسه من تقديس مشهد الحسين.

يقول ابن تيمية: ( لم يحمل رأس الحسين إلى القاهرة فقد دفنت جثته حيث قتل ، وروى البخارى فى تاريخه أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن فى البقيع عند قبر أمه فاطمة ، وبعض العلماء يقول إنه حمل إلى دمشق ودفن بها . فبين مقتل الحسين وبناء القاهرة نحو مائتين وخمسين سنه، وقد بنى الفاطميون مشهد الحسين فى أواخر سنة 550هجرية ، وانقرضت دولتهم بعد هذا البناء بنحو أربع عشرة سنة ، وهذا مشهد الكذب )[22]وما يقوله ابن تيمية لا غبار عليه من الناحية التاريخية ،فلا علاقة للحسين بمصر فقد قتل فى العراق سنه 62هجرية وفى ثورته تلك كان اهتمامه وأتباعه واعداؤه  بين الحجاز والعراق والشام ، ولا مكان لمصر يومئذ ، حتى إن الدولة الفاطمية حين انتقلت لمصر قوية متماسكة لم تفكر فى الحسين ولا فى رأسه وأغفلته تماما فيما شيدت من قصور ومساجد ، فقد أقامت مدينة كاملة هى القاهرة وجامعاً ضخماً – بدون ضريح - هو الأزهر وشيدت قصورا للخلافة والحاشية وخلت منشآتهم الأولى من أى مشهد علوى للحسين أو غيره. ثم  إذا ضعفت الدولة الفاطمية وتحكم فيها الوزراء والخصيان وصار الخليفة (المعصوم) ألعوبة لا يستحق الاحترام - حينئذ اضطر الفاطميون لاكتساب ما فقدوه من تأييد فادعوا العثور على رأس الحسين بعد قتلهبخمسة قرون دون أى سند من عقل أو منطق أوعلم، اللهم إلا خرافات التضليل الصوفية والشيعية التى أحاطوا بها ذلك المشهد المقدس والرأس المزعوم فيه.

إلا أن تلاحق الأحداث فى نهاية الدولة الفاطمية لم يمكنهم من استثمار ذلك المشهد سياسيا، فقد تنازع على الوزارة الفاطمية شاور وضرغام ، وسرعان ما تدخل فى النزاع قوى خارجية ممثلة فى الصليبيين ونور الدين زنكى وقواده شيركوه وصلاح الدين ، وانتهى الأمر بعلو شأن صلاح الدين وتأسيسه الدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الفاطمية وتحول مشهد الحسين إلى ( ضريح صوفى) خال من أى رتوش شيعية سياسية.

وقد كان صلاح الدين الأيوبى بعيد النظر ، إذ أدرك أن الدولة الفاطمية دولة ( إيدلوجية) تقوم على دعوة وعقيدة لها اتباع ودعاة ، لذا فإن القضاءعليها لا يتم بمجرد موت (العاضد) آخر خليفة فاطمى أو قتل الحاشية الفاطمية من الأرمن والسودانيين ، وإنما القضاء الحقيقى على الدولة لا  يكون إلا بحرب الفكرة الشيعية ، وقد استفاد من خصومه فاستغل مثلهم سلاح التصوف الموالي له، يدل على ذلك أن صلاح الدين بادر حين استتب له الامر بنقل قبر الكيزاني إلى مكان آخر [23]اهتماماً به كرفيق له فى الدعوة ضد التشيع وكأستاذ له فى حرب التشيع الفاطمى بالتصوف المستتر بالسنة.، ثم استورد صلاح الدين صوفية من المشرق وعمر لهم خانقاه( سعيد السعداء) ، وكانت لهم طقوسهم فى تأدية صلاة الجمعة ، فاكتسبوا إعجاب المصريين حتى كانوا يخرجون للفرجة عليهم [24]، وسرعان ما ارتفعت الخوانق للصوفية العاملين فى خدمة الدولة الأيوبية ومذهبها السنى المناوىء للتشيع الفاطمى .  ولم يكتف بذلك صلاح الدين بل أرسل من لدنه صوفية إلى الصعيد مركز التشيع الفاطمى ، وكان من مبعوثيه عبد الرحيم بن حجون أو عبد الرحيم القنائي الذى استقر فى قنا ، وكوّن فيها مدرسة لحرب التشيع باسم التصوف الرسمى السنى ، وكان من تلامذته أبوالحسن الصباغ ثم ابن دقيق العيد، وسنعرض لهذه الشخصيات فى أوانها.

والمهم أن عبد الرحيم القنائي كان صوفياً شيعياً سابقاً إلا أنه انقلب على رفاقه وانضم إلى السلطات الأيوبية وتأرجح بعض تلامذة مدرسته بين حرب التشيع الظاهر والمستتر والتعاطف مع بعض الشيعة الصوفية كما فعل ابن دقيق العيد الذى كانت له جولات فى حروب الشيعة فى الصعيد أشار إليها الأدفوي في كتابه ( الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد) [25]ثم فى ختام حياته سلّم لبعض المستترين بالتصوف أو انخدع لهم كما سيأتى فى علاقته بالبدوي وأبى العباس الملثم.

والآن فقد وصل بنا ( التمهيد) إلى الحركة الشيعية المستترة بالتصوف فى القرنيين السادس والسابع الهجريين والتى كان البدوى خاتمة المطاف فيها .

وقبل أن نغرق فى هذه الدعوة السرية وظروفها المعقدة المتشابكة نلخص الحركات الشيعية السابقة لها والتى أشرنا إليها فى هذا التمهيد على النحو التالى:

1ـ - إن الشيعة بعد أن خدعهم العباسيون واستأثروا من دونهم بالسلطة لم يغفلوا عن الاستفادة بكل جديد فى الكيد للعباسيين ، استغلوا  ترف العباسيين فأثاروا عليهم الطبقات الفقيرة فى حركة الزنج ، وحين قويت حركة الزهد الذى يعنى الاحتجاج السلبى على الترف العباسى فانهم حولوا الزهد السلبى إلى حركات ثورية تستر أصحابها بالزهد والتقشف لاستمالة الطبقات الفقيرة المحرومة ولاستقطاب الإعجاب الذى يكنه الناس للزهاد وتحويله إلى تأييد لهم فى ثورتهم ضد العباسيين كما فى حركة القرامطة  وبداية الدولة الفاطمية فى المغرب.

2ـ - ثم إذا انحسرت الأضواء عن الزهد نوعا ما اخترع الشيعة إلى جانبه(التصوف) الذى بدأ متداخلاً مع الزهد – وإن كانت الفروق بينهما أساسية – ( فمعروف الكرخي) الرائد الصوفى الأول كان خادما ومولى للرضا كبير الشيعة فى عصر المأمون ، و( الحلاج) أشهر الصوفية كانت ميوله الشيعية أقوى من الكتمان .. وتحركاته ومحاكماته تتوافق مع تحركات الشيعة ضد الدولة العباسية ، ثم يثور شيعي في مصر ويلقب نفسه (بابن الصوفي ) وينتحل التصوف مع النسب العلوي .

وكما قامت الدولة الفاطمية بدعوى الزهد والتصوف فإنها لم تغفل عن الاستفادة بالتصوف في مصر فكونت طرقا صوفية فى الظاهر شيعية فى الباطن كما حدث مع ( ابن مرزوق القرشى ) واجتذبت لها الصوفية ، ثم إذا ازداد ضعفها ركزت على التصوف فأقامت قبر الحسين ليكون واجهة صوفية للدعوة الشيعية إلى جانب الأزهر الذى أقاموه مدرسة للتشيع الصريح من قبل .

3 - وظهر أن الآخرين استفادوا من مبتكرات الشيعة ، بل أن أعداءهم حاربوهم بنفس السلاح الذى اخترعوه، ( فأبو ركوه) تظاهر بالزهد والتصوف حين ثار على الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي و(الكيزاني ) حارب التشيع المستتر بالتصوف ، بالتصوف المستتر بالسنة، و(صلاح الدين) سار على نهج الكيزانى فأقام الخوانق للصوفية الرسميين على حساب الدولة وتكفل باطعامهم والانفاق عليهم ثم أرسل بعوثا باسم التصوف لحرب التشيع فى الصعيد ، وازدادت الخوانق فى مصر الأيوبية ونعم الصوفية الرسميون بعطف الحكام الأيوبيين والمماليك فيما بعد ، بينما حرم من هذا العطف الصوفية الآخرون الذين كونوا لأنفسهم جماعات سرية بعيدة عن الدولة وخوانقها وأموالها ، وأولئك لاحقتهم الدولة بالشكوك والاضطهاد.

4ـ - ومن خلال هذه الحرب السرية بين الجانبيين اللذين انتحلا التصوف جعلاه مسرحاً للحرب بينهما سنعرض للحركة الصوفية الشعية فى القرنيين السادس والسابع ، تلك الحركة التى نفهم من خلالها حقيقة البدوى كداعية شيعى سرى مستتر بالتصوف ..

ولأن البدوى كان خاتمة المطاف فى هذه الحركة السرية فإننا سنبدأ ببحث جذور هذه الحركة فى المغرب ثم ننتقل معها إلى العراق حيث مدرسة أحمد الرفاعى الذى أسس شجرة الدعوة فى أم عبيدة بواسط .. وأثمرت هذه الشجرة دعاة ملأت بهم الأقطار فى الشرق ( فارس والتركستان) والغرب.. إلا أن الخطر المغولي والخوارزمي فى الشرق جعلهم يركزون على مصر فى الغرب خصوصا بعد انهيار الحكم الشيعى الفاطمى فيها، فكان البدوى فى مصر الحلقة الأخيرة من هذا المخطط الشيعى الذى بدأ ( بذرة و جذورا ) فى المغرب ثم ( استوى على سوقه) فى العراق ثم (أثمر) البدوى فى مصر.

 


[1]تاريخ ابن الأثير 7

 

[2]تاريخ ابن الأثير 8

[3]تاريخ ابن الأثير 982 و(الركوة) هى قرية الماء.

[4]الرسالة القشيرية 15: 16 ط صبيح

[5]السلمى . طبقات الصوفية 85 ط 1953

[6]التنوخى . نشورا المحاضرة 186 : تحقيق مارجليوت .

[7]تاريخ بغداد 8K ط . دمشق .

[8]تاريخ ابن الأثير 8 ، 53 ، 54 ، 58 ،62

[9]السيوطى تاريخ الخلفاء 606: 607

[10]تاريخ ابن الاثير8/47

[11] تاريخ ابن الأثير 8? ،وتاريخ الخلفاء611..

[12]ابن الأثير 8ھ  

[13]مزروق الفاسي :قواعد الصوفية 51

[14]أخبار الحلاج61

[15]الشعراني: الطبقات الكبرى 1   

[16]تاريخ ابن الأثير 795 

[22] تكسير الأحجار. مخطوط بدار الكتب ورقة 146 ،147

[23]الصفدى : الوافى بالوفيات 1ç

[24]خطط المقريزى 4¼

[25]   الطالع 230

 

ف1 : الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع قبل البدوى

أولا : بذور الحركة الشيعية فى المغرب

-----------------------

ظروف المشرق السياسية فى القرنين السادس والسابع

فتح القرن السادس الهجرى عينيه على تطورات جديدة فى العراق والشام ومصر،وكان الشيعة على إدراك بهذه التطورات بحكم توزيعهم فى هذه المناطق وغيرها، واستمرار الاتصال بينهم وترقبهم الدائم للاستفادة من كل جديد فى حربهم السرية والعلنية ضد الدولة &Ccedicute; العباسية. وأبرز التحولات الجديدة فى القرن السادس ما يلى :

أولا: بالنسبة للدولة العباسية : كان يتحكم فيهم بنوبويه الديالمة وهم شيعة أرهقوا الخلفاء العباسيين بالقتل والعزل والسمل ( أى إحراق العيون بالحديدالمحمى) ثم حل السلاجقة محل البويهين الديالمة ، ومع أن السلاجقة كانوا سنيين يدينون ببعض الولاء للخليفة العباسى وهو الزعيم الروحى للسنيين فى العالم الإسلامى ضد الشيعة الفاطميين فى مصر ، إلا أن تحكمهم- أى السلاجقة- فى الخلفاء العباسيين استمر والنزاع بينهم اشتد ، وانتهى الأمربتقلص نفوذ السلاجقة وأن يحكم الخليفة العباسى الناصر منفرداً . إلا أن ضعف الدولةالعباسية استعصى على العلاج وترتب عليه أن انتقلت مراكز التحكم والسيطرة  والأضواء إلى الدولة الأيوبية التى قامت على انقاض الدولة الفاطمية.

ثانيا : ولم يكن الفاطميون فى مصربأسعد حالاً ، فالخليفة الفاطمى ضعيف مقهور أمام سطوة الوزراء العظام ، بل إن الدعوة الفاطمية الإسماعيلية تعانى انقساماً داخلياً حين انفصل عنها تيار الباطنية. وينتمى ( الباطنية) إلى الحسن بن الصباح الذى كان يؤيد الخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر، وقد قتل نزار فانفصل الحسن بن الصباح عن الدولة الفاطمية بأتباعه الذين عرفوا بأسماء شتى من الباطنية أو(الاسماعيلية ) نسبة للعقيدة الاسماعيلية أو (النزارية) نسبة للخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر الذى كانوا يؤيدونه أو ( الحشيشة) نسبة لتعاطيهم الحشيش أو الملاحدة ..إلخ .وقد تملك ابن الصباح قلعة (الموت) وجمع الأنصار واتخذ من الاغتيال السياسى وسيلة للتخلص من خصومه من الحكام والعلماء والقواد ، وافزع الناس فى المنطقة بفدائييه المستميتين فى تنفيذ أوامره بالقتل مهما تكن الظروف ، وظل خطرهم ماثلا حتى قضى عليهم هولاكو سنة 654.

ثالثا: ومع وجود ذلك الضعف فى الصف الشيعي كان الشيعة ينتشرون فى كل صقع ، إما بصورة علنية كالفاطميين فى مصر وفارس وإما فى صورة سرية كالتجمعات الشيعية فى المغرب وأفريقيا .. أو فى طوائف المتصوفة التى تنتحل التصوف وتميل للتجمعات الشيعية وتبتعد عن الخوانق الصوفية الرسمية المتعاونة مع الحكام السنيين.

رابعا: ثم حل بالمنطقة خطر جديد تمثل فى الحروب الصليبية التى كونتممالك لها فى الرها وانطاكية وبيت المقدس سنة 492 . وتوالت بعدها الحملات الصليبية التى اتخذت لها مساراً جديداً تمثل فى الهجوم على مصر بعد أن اخذت على عاتقها فى الدولة الأيوبية الجهاد ضد الصليبيين . ومع ضعف الحكام  السلاجقة فى الدولة العباسية والاضطراب الصليبى والمؤامراتبين صغار الحكام انشغل الحكام الأقوياء بمواجهة الخطر الصليبى كعماد الدين زنكى وإبنه نور الدين زنكى وتلميذه صلاح الدين الأيوبى ، وفى هذه الظروف المتداخلة المتشعبة غرق الشيعة فى الشرق إما بالدفاع عن وجودهم المنهار كما فى مصر الفاطمية أو بتدبير مؤامرات القتل كما فعل الباطنية فى الشرق الفارسى..

وفى هذه الظروف المتدهورة حيث صغار الحكام وظلمهم ومؤامراتهم والمذابح الصليبية انتشر التصوف بين العامة وحظى بمكانة عالية بين الحكام والمحكومين ، إذ وجد فيه الحكام الظلمة المتنافسون وسيلة لتبرير الظلمواستجلاب الدعوات أو حرب الخصوم ، بينما وجد المظلمون فيه وسيلة للهروب من المظالم والحظوة  لدى الحاكم والمحكوم ودنيا من الأحلام الوردية التى تعوض عجز الواقع وقسوته بالتحليق فى سماء أحلام اليقظة بالتصريف فى الكون بدعوى الكرامات والمنامات للهروب من واقع بائس لا سبيل للخلاص منه إلا بالخيال والأحلام.

وفى حين انشغل الشيعة فى الشرق بالأحداث الملتهبة وغرقوا فيها فإن شيعة المغرب توفر لهم قدر من الهدوء مكنهم من التفكير فى مخطط جديد واسع يشمل المنطقة بأسرها ليقوض العروش الهزيلة التى تتعاقب على البلاد بشخصية قوية يتبعها الأبناء الضعاف، كالشأن فى الدولة الزنكية التى ورثت الدولة السلجوقية ثم الدولة الأيوبية التى ورثت الدولة الزنكية، فالدولة السلجوقية قامت على أكتاف قادة عظام وما لبث أن وقع أبناؤهم فى الضعف والأختلاف فتمكن عماد الدين زنكى وهو أحد أتباعهم من أن يرث سلطانهم ، وبعد نور الدين زنكى كان الاختلاف بين الورثة من آل زنكى فتمكن التابع صلاح الدين الأيوبى من أن يستأثر دونهم بالدولة فضم إليهأملاك سادته آل زنكى ، وبعد موت صلاح الدين تنازع أبناؤه فورثهم أخوه العادل الأيوبى ثم وقع أبناء العادل فى خلاف وشقاق أضاع ما أكتسبه صلاح الدين من انتصارات على  الصليبيين ..وعظمت فائدة الصلبيين بهذا الخلاف الأيوبى فاكثروا من الحملات الصليبية وادخلوا أنفسهم فى تحالف بين الأمراء الأيوبيين.

 لم يكن شيعة المغرب بعيدين عما يجرى على الساحة فى مصر والشرق ، بل إن بعدهم المناسب وعدم استغراقهم فى بؤرة الصراع فى الشرق مكنهم من تقييم الموقف بدقة فأدركوا أن المنطقة تحتاج إلى تخطيط جديد يعيد توحيدها فى ظل حكم شيعى يجدد شباب الدولة الفاطمية فى مصر الآخذة فى الذبول ويمنع عنها الموت الآتى لها حتما ويقيم  صرح الخلافة الشيعية فى المشرق والعراق ، ولن يكون ذلك إلا بالتستر بالتصوف الآخذ فى الانتشار فى المشرق على الخصوص ،وهم كأسلافهم أدرى بالتصوف واستغلاله،وهكذا ،ولدت الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف فى المغرب واتجهت بنظرها للمشرق ..

(ب)مدرسة المغرب :

وقد كان المغرب ـ ونقصد به غرب مصر إلى ساحل الأطلنطى ـ مسرح النشاط الشيعى ،ففيه بدأت الدولة الفاطمية الشيعية على أساس المذهب الاسماعيلى وانتقلت إلى مصر مؤثرة فى المشرق ، ثم قامت فيه دولة الملثمين المرابطين ثم الموحدين،فقد كان من السهل أن تقوم فيه الدولة وأن تسقط أيضا، فالبربر رجال حرب بطبيعتهم،والحرب إحدى أنشطتهم الضرورية، وإذا كان الموحدون قد أقاموا دولتهم على أنقاض الملثمين فإن الموحدين من جانبهم خشوا من مجاورة الشيعة لهم فى بلادهم ، فبدأ الاضطهاد التقليدى يأخذ مجراه ، ولم تعد أفريقيا أمنا للشيعة فتحركوا عنها إلى مكة حيث الأمن والأمان.وفى هجرة جماعية تحرك الشيعة من أرجاء المغرب وغيرها إلى مكة مستترين بالحج ليبدأ الإعداد للمخطط الجديد مستغلين الظروف الجديدة التى أتى بها القرن السادس وأهمها التصوف المتشيع وانهماك حكام المشرق إما فى الحرب ضد الصليبيين أو ضد بعضهم البعض .وكان منطقيا أن يكون مسرح عملهم فى المشرق الذى أتوا منه قبلا .

يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق فى مجلة السياسة الأسبوعية أن الشيعة عقدوا مؤتمراً فى مكة بحثوا فيه حال الأمصار وكيف تغلب عليها الاغراب من ترك وسلاجقة وأكراد ، وعملوا على قلب تلك العروش وإعادة الدولة الإسلامية علوية قرشية [1].ويقول:( وكان السيد على البدرى والد أحمد البدوى أحد أولئك العلويين الذين نزحوا من المغرب إلى مكة بقضهم وقضيضهم ، وبين افرادها أحمد البدوى ، وهو لم يتجاوز الحادية عشر من عمره، وكان نزوح السيد على البدرى إلى مكة عام 603)[2].

ويقول عبدالصمد فى نفس الموضوع على طريقة الصوفية فى المنامات (لما أذن للشريف على بن إبراهيم أن يسير إلى مكة أهله وأولاده ويخلى دوره وأملاكه بمدينة فاس بزقاق الحجر البلاط ، رأى هاتفا يقول له فى منامه:   يا على استيقظ من منامك يا غافل ، وكن بأهلك وأولادك إلى ناحية مكة راحل ، فإن لنا فى ذلك سراً ولترى من آياتنا عجباً . قال الشريف على : فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وأخبرت أهلي وأصحابي ، وذلك فى ليلة الإثنين سنة ثلاث وستمائة ، وأصبحنا فى ذلك اليوم مسافرين ) [3].

ويقول الحلبي أن والد البدوي انتقل إلى مكة سنة 603 ( وفى مكة أكرمهم الأشراف)[4].

وقيل فى نسب أحمد الرفاعى أن أباه هو على بن يحيى المكي المغربي[5].

 أى هاجر جده من المغرب إلى مكة فاكتسب لقب المكي المغربي ، ويقول العيدروس أن جد أحمد الرفاعى الأعلى وهو الحسن رفاعة نزيل المغرب هاجر من مكة إلى المغرب سنة 317 وبقيت ذريته بالمغرب إلى عهد يحيى جد أحمد الرفاعى الذى عاد إلى مكة،ومنها إلى العراق حيث سكن إبنه على (والد أحمد الرفاعى) أم عبيدة وأصهر إلى بنت يحيى البخاري فأولدها أحمد الرفاعي .

فاعمدة الحركة الشيعية الصوفية ينتمون لأصل مغربى هاجر إلى مكة حيث لا حرج فى التلاقى فى موسم الحج ثم توطن العراق وانطلق منها إلى بقية الأمصار وبخاصة مصر بعد سقوط الدولة الفاطمية فيها .

وواضح أن المغرب ليس هدفا فى حد ذاته يسعى الشيعة لإقامة الحكم الشيعي فيه،فأساطين الدعوة السرية فى اضطهاد ،وأعين السلاطين الموحدين مسلطة عليهم، وهم يعلمون طريقة الشيعة فى التستر بالتصوف والزهد ، وقد تعلموا أنفسهم هذه الطريقة فى إقامة الدولة الموحدة .

 ولكن لا يعنى هذا أن يطرح المغرب جملة وتفصيلا من التخطيط الشيعى ، فلهم فى المغرب عصبية لا تزال  قائمة وأتباع لا يزالون منتشرين ، إن عرف السلطان بعضهم فلن يعرف البعض الآخر .

وهكذا تمخص التخطيط الشيعى الصوفى على التركيز على المشرق ، فرحل إليه اساطين الدعوة بدعوى الحج ، وعقدوا مؤتمرهم السابق فى مكة الذى وضعوا فيه الخطط. وفى هذا الوقت تركز دور مدرسة المغرب ـ بعد رحيل الأعيان والكبار ـ في المساندة والتعضيد ، وكونه عمقا للدعوة وقد تزعم هذا الدور في المغرب أبو مدين الغوث ومدرسته.

(جـ)مدرسة أبي مدين المغربية:

وأبو مدين وثيق الصلة بعبد القادر الجيلاني أحد أساطين الدعوة الشيعية الصوفية في العراق ، ثم طوف بين(مكة)عصب التحرك الشيعي و(بجاية) و(فاس) في المغرب وتتلمذ على أبى يعزي أحد كبار الصوفية المتشيعين في فاس ، وقد وصف الشعراني أبا يعزي بأنه ( انتهت إليه تربية الصادقين بالمغرب وتخرج بصحبته جماعة من أكابر مشايخها وأعلام زهادها)[6].

وبعد أن تم إعداد أبي مدين بين المغرب ومكة عاد إلي ( بجاية ) فاتخذ منها مركزاً بعيداً عن أنظار السلطات الحاكمة، إلا أن العيون لاحقته وتعرض لكثير من الاضطهاد الذي هو سمة الدعاة المتخفين بالتصوف.

وتحاول الروايات الصوفية أن تطلق الدخان للتعمية عن الاسباب الحقيقية للاضطهاد المزمن الذي عانى منه أبومدين طيلة حياته في المغرب ،من ذلك مايرويه تلميذه ابن عربي القائل (ذهبت أنا وبعض الأبدال إلى جبل قاف فمررنا بالحيّة المحدقة به، فقال لي البدل :سلم عليها فإنها سترد عليك السلام ، فسلمنا عليها فردت ثم قالت: من أي البلاد ؟ فقلنا : من بجاية . فقالت : ما حال إبي مدين مع أهلها ؟ فقلنا لها: يرمونه بالزندقة، فقالت: عجبا والله لبني آدم ..)[7]فابن عربي نسج هذه الأسطورة عن أحد الأبدال الصوفية وجبل قاف والحية المحيطة بجبل قاف ، ودفاع الحية عن أبي مدين ، وكل ذلك ليوحي بالأسلوب الصوفي إلى الظلم الذي يتعرض له أبو مدين ، ويحصر القضية في اتهامه بالكفر وأنه مظلوم وأن أهل بجاية لا يقدرون أبا مدين حق قدره. وإذا استغرق القارىء في عصر ابن عربي في هذه الأسطورة انمحى من ذهنه أى خاطر عن دعوة أبى مدين السياسية أو أنها السبب الحقيقى فى اضطهاده، فالقارىء فى هذا العصر يتقبل بكل سهولة أى حديث عن جبل قاف والأبدال والحية المحيطة بقاف، يأخذ هذه الخرافات مأخذ التسليم والاعتقاد، وحينئذ فلن يتساءل لماذا يضطهد أبو مدين وحده مع أن كل الصوفية يحظون بالاحترام؟

 وفى القرن العاشر بعد أبي مدين بأربعة قرون حاول الشعرانى فى (الطبقات الكبرى ) أن يتجاهل السبب الحقيقى فى اضطهاد أبي مدين فأخفق ، فالشعرانى يقول فى مقدمة كتابه ( وأخرجوا أبا مدين من بجاية كما سيأتى فى ترجمته) [8]وحين نأتى إلى ترجمة أبى مدين نجد الشعرانى يحاول أن يرسم صورة وردية لاعتقال السلطات لأبى مدين فيذكر رواية ابن عربى السابقة ثم يقول( وكان سبب دخوله تلمسان أن أمير المؤمنين ( أى سلطان الموحدين ) لما بلغه خبره أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به فلما وصل إلى تلمسان قال : وما لنا وللسلطان ، الليلة نزور الاخوان ، ثم نزل واستقبل القبلة  وتشهد وقال : وعجلت إليك ربى لترضى ، وفاضت روحه) [9]فهنا تناقض وقع فيه الشعرانى بين ذكره للاضطهاد الذى وقع على أبى مدين واعتقاله الأخير الذى مات فيه ، مع أن العبارات التى ذكرها الشعرانى نفسه تنبىء بالاضطهاد رغم أنف الشعرانى نفسه .. فهو يقول أن السلطان لما بلغه خبر أبى مدين ( أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به) مع أن العادة أن السلطان هو الذى يسعى للصوفي ليتبرك به  لا أن يأمر باحضاره من مسافة بعيدة، ثم يروى  الشعرانى أن أبا مدين لم يكن راغباً فى السفر للسلطان معرضاً عن هذه المهمة .. مع أن الشأن فى الصوفى أن يسعد بالصلة بالحكام ، ثم يختم الأسطورة  بأن أبا مدين  مات أو فضل الموت على لقاء السلطان ونطق بآية يفضل تلاوتها  الثوار على الحكام حين الموت والاستقتال : آية ( وعجلت إليك ربى لترضى).

وبعد موت أبى مدين سنة 580 لم ينقطع الاضطهاد عن خليفته ابن بشيس فدفع ابن بشيس حياته ثمناً لتفانيه فى الدعوة ، فقد قتله ابن أبى الطواجن [10]،ومع خطورة هذا الحدث فإن المصادر الصوفية تسكت عن الخوض فيه ، مع أن ابن بشيس هو شيخ الشاذلى وهو الذى أمر الشاذلى بالتوجه للاسكندرية لملء الفراغ فيها بعد موت أبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الأسكندرية كما سيأتى ..

ومع كثرة القلاقل والمحن التى تعرضت لها مدرسة أبي مدين فلم ينقطع دورها فى الاسهام فى تعضيد الحركة السرية فى المشرق .. فأبو مدين كان يؤازر الرفاعى ، وابن بشيس يعضد مدرسة الرفاعى ومبعوثيه فى مصر ..ثم أمر الشاذلى بالهجرة إلى الاسكندرية ليكون فى خدمة البدوى الذى سيحتل مكانه فيما بعد فى طنطا ، وسنعرض لذلك فى أوانه ، إلا أن الدور الهام الذى قامت به مدرسة المغرب تمثل فى الدعاية لفكرة ( المهدى المنتظر) الشيعية لتهيئة الأذهان وخلق جو عام يساعد على إنجاح المخطط الشيعى دون أن يضرّ به أو يكشفه ، وهذا ما قام به ابن عربى تلميذ ابي مدين ..

(هـ)   مدرسة ابن عربى والدعاية للمهدى المنتظر:

نشأ ابن عربى فى الأندلس ثم تتلمذ لأبى مدين فى بجاية وقد عدد كثيراً من آرائه ومناقبه فى ( الفتوحات المكية) [11]أكبر ما خلفه ابن عربي من كتب ، وبعد موت أبى مدين ذهب ابن عربي إلى (فاس) المركز الشيعي وتردد عليها حتى أن السلطان الموحدي يعقوب شك فيه وضاق به فتركها خشية أن يلحق به ما لحق بشيخه أبى مدين . ثم طوّف ابن عربى بمراكز الدعوة الصوفية الشيعية فزار تونس حيث ابن بشيس ثم عرج إلى مكة بؤرة التحرك الشيعي الصوفي سنة598 فظل فيها عامين، وكان منتظراً منه بعدها أن يذهب للعراق حيث المدرسة الرفاعية ، ثم أنتقل بعدئذ إلى مصر ، فزار الاسكندرية وفيها مدرسة أبى الفتح الواسطى المبعوث من لدن الرفاعى..

ونشاط ابن عربى جعل الشكوك تحيط به حيث الدولة الأيوبية تتخوف من الشيعة المستترين بالتصوف، فيذكر أنهم سعوا به إلى السلطان العادل الأيوبى ، وقد سجل ابن عربى الكثير من نشاطه السابق فى كتابه الضخم ( الفتوحات المكية) [12].

وأثناء تجوال ابن عربي كوّن مدرسة فلسفية تخلط التشيع بالتصوف وبهما تبث دعوتها للمهدى المنتظر الذى يخلص الناس من ظلم الحكام وضعفهم وتنازعهم وتقاعسهم وصغارهم أمام الغزو الصليبى المستمر. واحاط ابن عربي آراءه تلك بالرمز الصوفي والتأويل الشيعي  وحشا بذلك كتبه ( عنقاء مغرب) و( شجرة الكون) ومواضع كثيرة فى ( الفتوحات المكية) ..

وفى حياة ابن عربى وبعد مماته استمرت مدرسته تردد آراءه الشيعية ، وابرز أتباعه ابن سبعين وعفيف الدين التلمساني والقونوي وغيرهم ،وبهم وباتباعهم استمرت الدعاية الصوفية الشيعية تتردد حول الفاطمي المهدي المنتظر حتى بعد فشل الدعوة السياسية وتحولها إلى تصوف بحت ، إلى درجة أن ابن خلدون فى القرن الثامن عقد فصلاً فى المقدمة بعنوان (فى أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس فى شأنه ) وقد قرر فى هذا الفصل بأن المتصوفة المتأخرين كابن عربي وابن سبعين وغيرهما تأثروا بمذهب الشيعة فى الحلول والاتحاد وتأليه الأئمة والأولياء والقطب والأوتاد والإمام والنقباء ،ويقول (وامتلأت كتب الاسماعيلية من الرافضة ـ أى الشيعة ـوكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك فى الفاطمي المنتظر، وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم عن بعض ،وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين فى شأن الفاطمى المنتظر ابن العربى الحاتمى فى كتاب عنقاء مغرب وعبد الحق ابن سبعين)[13]أى أن ابن عربى مزج عقائد الفاطميين الاسماعيلية الشيعية بصبغة صوفية وكل ذلك للدعاية للفاطمي المنتظر، وهى الفكرة السياسية التى يدعو إليها ،وأن (بعضهم يمليه عن بعض ويلقنه بعضهم عن بعض).أى كانت لهم اجتماعات ولقاءات لبث الأفكار ونشر الدعاية،وأن هذا النشاط استمر بعد ابن عربى نفسه بأكثر من قرن حتى استحق أن ينهض ابن خلدون للرد عليه. وابن خلدون فقيه مغربى ينتمى لنفس الموطن الذى جاء منه ابن عربى والعفيف التلمسانى وابومدين ، ولابن خلدون تاريخ طويل فى الشئون السياسية لإمارات الموحدين فى المغرب والأندلس ، وله العلم الكافى بالنشاط الشيعى هناك وبآثاره وجذوره ، وقد غلب ذلك على انتباهه فعمد للهجوم على ابن عربى والمدرسة المغربية واتهمهم بالحلول والاتحاد بل عمم الحكم فاتهم به كل المتصوفة المتأخرين وجعلهم من الشيعة المغالين ولم يستثن منهم أحداً، مع أن الحلاج سبق فى القرن الثالث بمقالة الحلول والاتحاد وكانت له آثاره الشيعية ، ولكن ابن خلدون المغربى الأصل والذى يعمل فى خدمة السلطة المملوكية فى مصر استغرق فى مواجهة الدعاية الشيعية التى استمرت طالما استمرت كتب ابن عربى بعد موته، وفى هذا الدليل على عمق التأثر بالدعاية السياسية التى قامت بها مدرسة أبى مدين ومدرسة أبن عربي وتلامذتهما.

وقبل أن نترك مدرسة المغرب ونتوجه للعراق نقرر أن الاتصال قائم ونشط بين دعاة المغرب والعراق إلى درجة أن القيادة موحدة، والاتصال بينهما (أى المدرستين) على قدم وساق ، ومكة هى مكان اللقاء السنوي فى موعد الحج ، علاوة على ما يتيحه التصوف من حرية الحركة بدعوى الرحلة أو السياحة الصوفية أو أخذ العهد ، لذا لا نعجب إذا رأينا داعية كبيراً كابن بشيس زعيم المدرسة المغربية بعد أبى مدين يأخذ العهد على الشيخ بري العراقي[14]فى مدرسة أحمد الرفاعي ، ولا نعجب إذا رأينا ابن عربي فى قمة شهرته العلمية يذهب للعراق ليأخذ العهد على داعية مجهول فى المدرسة العراقية هو ابن سيدبونه الخزاعى تلميذ أحمد الرفاعى[15].

فبالتظاهر بالسياحة والرحلة وأخذ العهد كان اللقاء يتم بين أساطين الدعوة فى العراق والمغرب ، وفى اللقاء يتم التخطيط وتبحث الظروف الجديدة فى أوانها ويبتكر الشيعة كل جديد من فنون التستر والرمز واستمالة الاتباع وتكوين الخلايا، وتتوزع الأدوار وينتقل الاتباع من مكان إلى مكان وفق الخطط الموضوعة.

لقد كان أساطين الدعوة فى المغرب يذهبون للعراق فى نشاطهم المؤيد لمدرسة الرفاعى ، فإلى مدرسة الرفاعى نتجه ونتعرف.

 

ثانيا:شجرة الدعوة في العراق

مدرسة أحمد الرفاعى

فى أم عبيدة – واسط – العراق

  1. أم عبيدة:

1ـ من عادة الشيعة المتصوفة أختيار المكان المناسب (الأستراتيجي ) ليكون مركزاً لدعوتهم السرية . وقد كانت مدن العراق الشهيرة تموج بالفتن السياسية وشغب العيارين ـ أو اهل الفتوة من أصحاب الحرف ـ مع سطوة اللصوص والصراع الذي لا يهدأ بين السكان الشيعة والسنة ، والحنابلة والمعتزلة ، يزيد في ذلك كله الأغتيالات المستمرة التي يقوم بها الحشاشون اتباع أبي الحسن الصباح الباطني وقد شملت هذه المؤامرات خصومة من العلماء والوزراء والحكام .

وقد وقع أختيار العلويين على منطقة واسط وهى مع شهرتها القديمة منذ الدولة الأموية فقد تمتعت بهدوء وسكون حرمت منه بغداد وما يليها من مدن ..ومع ذلك فإن (واسط) تتميز بموقع (وسط) بين البصرة والكوفة وقريب إلى حد معقول من العاصمة بغداد.

 ولم تكن مدينة واسط هى المركز الأساسى للدعوة السرية بل اكتفى الشيعة بتواجد بعضهم فيها وظهورهم فيها كواجهة ترقب الأحداث من موقع متقدم بينما تركزت الدعوة السرية فى قرية (أم عبيدة) وفيها عصبية الشيعة وتجمعهم وقرابتهم بحيث لا ينفذ إلى هذه القرية غريب إلا بعلمهم وتحت أنظارهم ، فإذا أستطاع أن يمر من( واسط) وفيها الواجهة الشيعية فلن يمكنه التخفى فى (أم عبيدة).

والصوفية العاديون فى الأغلب يميلون لمجاورة الحاكم والمدن الشهيرة ،أما إذا تعلق الأمر بدعوة سرية فالاقتراب من الحاكم لا يكون إلا بالعيون والواجهات الشهيرة من الأعلام المرموقين، أما مركز الدعوة فلابد أن يتخير موقعاً (استراتيجياً) سهل الاتصال هادئاً ساكناً تتركز فيه العصبية أو القرابة ، وينطبق ذلك على ( أم عبيدة ) ثم (طنطا) فيما بعد.

ولقد أمر أحمد الرفاعي ـ حين تلقى العهد ـ بالمقام فى أم عبيدة ـ وفيها أخواله بنو النجار ( وفيها رواقهم المبارك المدفون فيه جد السيد أحمد الرفاعى لأمه الشيخ يحيى البخاري الأنصاري والد الشيخ منصور)[16].

(ب) نشأة الرفاعي واعداده:

وأحمد الرفاعى ( 512- 578 ) توفى أبوه وهو جنين أو طفل فى السابعة على أختلاف الروايات فكفله خاله منصور البطائحي الأنصاري، وتنفيذاً لرؤيا منامية نقله خاله إلى واسط ، وفيها أخذ التصوف وأصول الدعوة على يد أبي الفضل الواسطي مع رعاية خاله الأكبر أبى بكر الواسطى شقيق أمه واستغرقت هذه المرحلة عشرين عاماً [17].

وأبو الفضل الواسطي ـ شيخ أحمد الرفاعي ـــ هو ما يعرف فى مصادر أخرى باسم ابن القارىء [18]وكان من أعيان الشيعة الصوفية وكانوا يدققون فى إختيار من يتتلمذ على يديه  يقول صاحب طبقات الرفاعية ( وكان السيد أحمد رضى الله عنه قد أكمل قراءة القرآن العظيم حفظاً بقرية (حسن) على الشيخ الورع المقري الصالح عبد السميع الحربوني ، فلما صار فى كنف خاله أخذه إلى واسط بأمر سبق له من النبي صلى الله عليه وسلم فى منامه وأدخله على الإمام العلامة المقري الحجة الشيخ على أبى الفضل الواسطى قدس سره فتولى أمر تربيته وتعليمه وتأديبه أمتثالاً للأمر النبوى ) [19].

وفى نفس الوقت كان الرفاعي يتمتع برعاية خاله الاكبر أبي بكر الواسطى ويلازم درسه (وهو المشار إليه فى وقته بين الشيوخ والعلماء ) ،( وكان مع إشتغاله بالدروس والتعليم ملازماً خدمة خاله سلطان الرجال،الشيخ منصور [20].وواضح أن أبناء يحيى البخاري (أبوبكر ومنصور ) قد توليا معاً مهمة الدعوة فى هذه الفترة فأشرف(سلطان الرجال الشيخ منصور ) على الإشراف الإداري وكان صاحب الخرقة بينما تمكن أخوه الأكبر أبوبكر بما أوتى من علم أن يهيمن على الإعداد العلمى للدعاة ، وقد حظى ابن أختهما ـ أحمد الرفاعي ـ برعايتهما  معاً فكان يلازم درس خاله أبى بكر ويلتزم بخدمة خاله منصور ويحضر مجالسه وطريقته فى الإشراف على الدعوة .

ويذكر العيدروس شيخاً آخر لأحمد الرفاعى هو أبو الليث الحراني (وكان معروفا بالصلاح والتقوى بين الناس وكان والده أمير حران فترك طريق الإمارة التى كانت شأن والده وتبع طريق الفقر ) [21]ورائحة السياسة واضحة فى أبى الليث الحراني هذا .فلو صح أن أباه كان أميراً لحران  فإن  الاضطراب السياسى وكان السائد فى هذه الآونة كفيل بأن يثبت لأبى الليث أن حصوله على ملك أبيه لا يكون إلا بالغلبة وهى عنه بعيدة فليس أمامه بعدها الا التصوف الشيعى فلعل وعسى..!!

والزهد والتصوف كانا دائما يعبران عن رغبة دفينة فى النفس لاسترجاع ملك ضائع أو جاه بائد أو كتعبير عن النقص الذى يحس به المحكوم الطموح للحكم ،ولذا فان الصوفية لهم دولتهم الباطنية المستمدة عن أخيلة الشيعة والقائمة على القطب وأعوانه ؛وذلك كتعبير عما يعتمل فى نفوسهم من رغبة مدفونة فى التحكم والسيطرة لم تجد لها مجالاً إلا فى أحلام اليقظة وفى التحكم فى المريدين والأتباع .

ونعود لأحمد الرفاعى ، وقد بز أقرانه (ولا زال يعظم أمره وينمو علمه حتى تفرد فى زمانه )[22].

فأجازه شيخه ابن القارئ (اجازة عامة بجميع علوم الشريعة والطريقة فلما بلغ هذه المرتبة العلية أجازه خاله الشيخ منصور وألبسه خرقته وأمره بالمقام فى أم عبيدة )[23].

(جـ) تولى الرفاعى المشيخة:

يلفت النظر أن وراثة الطريق الصوفي العادي تكون دائما للابن،ولو كان منصور البطائحي  صوفيا عاديا لخص إبنه بالخرقة كما هو الشأن فى الطرق الصوفية ،إلا أننا هنا أمام مسئولية ضخمة  لا يستطيع تحملها إلا الكفء ، ولسنا أمام صوفية عاديين حياتهم الولائم والجاه بين الخلق ويحرصون على أن يرث أبناؤهم النعيم الذى يرتعون فيه.

ثم إن الاختيار دقيق بين شباب الشيعة الصوفية وقد أثبت الرفاعي جدارته في الطريقين :(الشيعي العلمي ) باجازة شيخه ابن القارئ إجازة عامة و(العملي ) حين أثبت لخاله منصور شيخ الخرقة مهارته وهو يلازمه خادماً يتعرف على أسلوبه فى إدارة الدعوة والسيطرة على الأتباع.

وقد عهد منصور البطائحى لإبن أخته أحمد وعين له قرية أم عبيدة مركزاً جديداً للدعوة وفيها أسرة منصور وعصبيته، وكانت وفاة منصور فى عام  540 . وقد عهد للرفاعي بالمشيخة قبل موته بعام ، مما يدلنا على ثقته فى كفاءة ابن أخته أو لعله أراد أن يستوثق من هذه الكفاءة وهو حى يرزق، وربما تدهورت صحته فى العام الأخير لحياته فعهد للرفاعى بأعباء المسئولية تحت رعايتة ونظره ،وكان للرفاعى وقتها ثمان وعشرون سنة شاباً فتياً وكان ذلك فى زمن الخليفة المقتفى العباسي [24].

والمصادر الصوفية المتأخرة واجهت مشكلة العهد بالخرقة للرفاعى من خاله باضفاء المزيد من الكرامات والخصوصيات على الرفاعى لتبرز اختياره من دون أبناء خاله،يقول العيدروس أنه كان لمنصور البطائحي خال أحمد الرفاعى ولدان (وكان تقيد سيدى منصور بسيدى أحمد ولد أخته أكثر من تقيده بولديه ،وكان مراد الشيخ منصور أن يجعل سيدى أحمد قائماً مقامه فى السجادة فيكون شيخ الشيوخ أيضاً . فقال له أولاده وبعض محبيه: أن ميراث الأب لا يكون إلا للإبن ولا يكون لإبن الأخت فقال لهم إنى رأيت منه شيئاً اقتضى ذلك ) وقص كرامة كان النجيل يسبح فيها بحمد الله أمام الرفاعي [25]، وردد الشعراني ذلك فى ترجمته للرفاعى وزاد فجعل منصور البطائحي يقوم إجلالاً للرفاعي وهو جنين فى بطن أمه [26].

والمهم أن الرفاعي عهد إليه خاله ( قبل وفاته بمشيخة الشيوخ والأروقة المباركة ، فتصدر على سجادة الارشاد العام ) [27]. وكان الرفاعي عند حسن الظن به وأثبت أن ما تعلمه على يد ابن القارئ وما خبره من أسلوب خاله حين خدمه عشرين عاما لم يذهب هباء. 

(د) تضخم أتباع الرفاعي :

نجح الرفاعي فى استغلال التصوف فكثر أتباعه وزادت شهرته (وشاع إسمه ورسمه فى آفاق الدنيا وكان كل من رآه يعتقد فيه بالقلب)[28]، 

( وتتلمذ له خلائق لا يحصون فى كل بلد وقطر منهم الرائحة والأكبار والأعيان ولم يكن فى مدن المسلمين مكان يخلو من زواية أو موضع برسمهم ) [29].

وقد رددت المصادر التاريخية والصوفية كثرة أتباع الرفاعى، وقد جمعها أبو الهدى الصيادي فى كتابه طبقات الرفاعية. يقول ( قال الحافظ تقي الدين الواسطي فى كتابه ترياق المحبين ما ملخصه: أحصيت الرقاع التى وردت للسيد أحمد الرفاعىٍ فى السنة السابعة من تصدره على بساط المشيخة بعد خاله الشيخ منصور فبلغت سبعمائة ألف رقعة كلها من مريديه. وذكر الأمام ابن الجوزى فى تاريخه أنه كان عند السيد أحمد ليلة نصف شعبان وعنده أكثر من مائة ألف إنسان من الزائرين. وذكر الأمام الشعراني فى طبقاته والمناوي فى الكواكب الدرية إن مريدي سيدنا السيد أحمد الذى يحضرون مجلس درسه وورده المعتاد كل يوم فى رواقه العالى ستة عشر ألفا يمد لهم السماط صباحاً ومساءاً.. وقال العلامة ابن الأثير فى تاريخه إن له من التلامذة ما لا يحصى ، ومثله قال القاضى الوليد بن الشحنة . وقال الإمام الذهبى فى مختصره وفى كتابه دول الإسلام أن أتباعه لا يحصى عددهم. وقال شمس الدين أبو المظفر فى تاريخه إنه كان يجتمع عنده كل سنة فى الموسم خلق عظيم لا يحصى عددهم، وقال الواسطي فى خلاصة الأكسير: كان رجال العصر يسمون السيد أحمد الرفاعي قبلة القلوب لشدة ارتباط قلوب الناس به ومحبتهم له ) [30].

ولا ريب أن الرفاعي استفاد من إنتشار التصوف منذ بداية القرن السادس، وقد أصبح قبلة "rtl">ووصفه خليفته عز الدين الصياد بأنه (كان قليل الضحك ذا هيبة عظيمة لا يتمكن جليسه من إباحة النظر إليه ) [32].وكان يتعهد مريديه بالحزم الزائد وقد سمع فى الرواق بعضهم يضحك فأرسل يقول لهم (إن كنتم اقتديتم بأحمد الرفاعى فإن أحمد الرفاعى لا يضحك )[33]ويبدو أنه أنشأ مريديه على نوع من الاستعداد العسكري فى الصحاري والبراري المحيطة بواسط تحسباً لأى طارئ ،يفهم ذلك من قول العيدروس (ونقل عن سيدي كنز العارفين قال : من عادة الفقراء أن خيولهم كلها سائبة فى الصحاري والبراري مجردات من آلاتها وعددها فإذا أراد أحد التوجه إلى جانب أحضروها وأسرجوها وساروا عليها ،إلا الشيخ مجرد الأكبر فإن حصانه كان دائماً معداً متهيئاً للركوب مسروجاً ملجوماً وصاحبه مجرد يلقب عندهم بفارس ميدان التوحيد وغازى الفقراء )[34]

 وقد كان (مجرد )هذا ملازماً للرفاعي لم يرسله إلى مصر من الأمصار ، ويتردد فى كرامة صوفية [35]أنه أنقذ مريداً رفاعياً فى طريق الحج استغاث بالرفاعي فسمع مجرد صوته ، وكان الرفاعي نائماً فى الخلوة فأنقذه ، ويوحى ذلك بأن مجــــــرد الأكبر- وإسمه يدل تجرده للحرب والقتــــال ـــــــــ  كان  يتولى الجانب الحربى حماية للفقراء الأحمدية الرفاعية ، وفرسه جاهز على أهبة الاستعداد لأى طارىء ، وإذا نام الرفاعي فهو لا ينام..

 ولم يكن لشهرة الرفاعي التى ملأت العراق أن تنجو من حسد الفقهاء وهم أعوان السلاجقة ، وأولئك خفض لهم الرفاعي جناح الذل سياسة ونفاقاً ليستميلهم وقد نجح. يقول العيدروس " وحكى أن علماء بغداد وجميع أئمة العراق كانوا يحسدون السيد الكبير لأنهم علموا زيادة رفعته وأن تزايدها فى كل يوم وكل عصر، وانتشار صيته لا ينقطع ، فكاد يهلكهم الحسد وعجزوا عن الصبر عنه، وشرعوا معه فى كلام السفاهة ، فكان السيد إذا سفهوا عليه يدعو لهم بالخير ويكلمهم بالكلام الطيب، ومع أذيتهم له وشدتها يعاملهم بالإحسان ويرتب لهم الوظائف، وإذا لقيهم بطريق يتواضع لهم غاية التواضع . فلما رأوا منه ما رأوا من هذه الأخلاق الحميدة عملوا معه التواضع الزائد وصاروا يرعونه مراعاة تامة ورجعوا أجمعين مريدين ، واعترفوا بالحق وأوصوا أولادهم وأهلهم وأتباعهم باتباع السيد الكبير وصاروا من مريديه "[36].

ويذكر الشعراني أن بعضهم لقى الرفاعي فسبوه " وقالوا له يا أعور يا دجال يا من يستحل المحرمات يا من يبدل القرآن يا ملحد يا كلب. فكشف سيدى أحمد رأسه وقبل الأرض وقال: يا أسيادي اجعلوا عبدكم فى حلّ ،  وصار يقبل أيديهم وأرجلهم ، ويقول ارضوا عني وحلمكم يسعني.. وأرسل إليه الشيخ إبراهيم السبتي كتاباً يحط عليه فيه .. فإذا فيه: أى أعور أى دجال أى مبتدع يا من تجمع بين الرجال والنساء حتى ذكر الكلب وابن الكلب وذكر أشياء تغيظ، فقال الرسول اكتب إليه الجواب: من هذا اللاش حميد إلى سيدى الشيخ إبراهيم السبتي أما قولك الذى ذكرته فإن الله تعالى خلقني كما يشاء، وأنى أريد من صدقاتك أن تدعو لى.. فلما وصل الكتاب إلى السبتي هام على وجهه.. وكان لسيدى أحمد شخص ينكر عليه وينقّصه فى نواحى أم عبيدة ، فكان كلما لقى فقيرا من جماعة سيدي أحمد يقول له خذ هذا الكتاب إلى شيخك فيفتحه سيدي أحمد فيجد فيه: أى ملحد أى باطلي أى زنديق وأمثال ذلك من الكلام القبيح.. فلما طال الأمر على ذلك الرجل وعجز عن سيدى أحمد مضى إليه فلما قرب أم عبيدة كشف رأسه وأخذ مئزره وجعله فى وسطه وأمسكه إنسان وجعل يقوده حتى دخل على سيدى أحمد. ثم طلب منه أخذ العهد فأخذه عليه وصار من جملة أصحابه إلى أن مات)[37]

ويبدو مما سبق أن أم عبيدة قد صارت فى عهد الرفاعى حصناً له ولأنصاره لا يمكن لمنكر عليه أن يدخلها إلا مستسلما..

(و) الرفاعى والخلافة العباسية:

عاصر تولى الرفاعى المشيخة سنة 540 بداية خلافة المقتفى العباسى ، وقد كان زاهداً أشيع أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فى المنام يأمره بأقتفاء أمر الله فلقب بالمقتفي لذلك، وقد وصف بالنسك والعبادة وقاسى الكثير من تسلط مسعود السلجوقى المتغلب على بغداد ، وقد أكثر من الاساءة إليه فلم يجد الخليفة طريقاً للتغلب عليه إلا بأن يتفق مع أصحابه بالدعاء عليه شهراً وفى سرية، ويقال أن مسعود السلجوقي مات بعد تمام هذا الشهر سنة 547 فتمتع الخليفة ببعض النفوذ، استخدمه فى إقامة العدل وفعل الخير [38].

ولا ريب أن الرفاعى استفاد بوجود المقتفى كخليفة ناسك محب لمن يتظاهر بالزهد والعبادة، ويتضح ذلك من الصورة الصوفية التى غلف بها تاريخ المقتفى، فعن طريق المنامات كان تعليل تلقبه بالمقتفى، مع أن لقب المقتفى كالمهتدى والمتقى والمسترشد والراشد والطائع والمطيع وكلها مترادفات سمى بها الخلفاء العباسيون قبل المقتفي ولكن لم يحظ أحدهم باختراع منام للرسول صلى الله عليه وسلم يزكى توليه وتلقبه.. ثم كان تفسير موت السلطان مسعود السلجوقى خصم المقتفى بما يوحى بالكرامة الصوفية وأنه كان استجابة لحملة مركزة من الدعاء عليه تمت سرا وكان فيها موته, فالمقتفى قريب من الصوفية ومنطقي أن يعظم إستفادة الرفاعي بوجوده فيكثر أتباعه وتنهال عليه رقاع المريدين دون تدخل من الخليفة الناسك.

 بل إن تلك البداية الموفقة للرفاعي مع خلافة المقتفى استمرت بعد موت المقتفى وتولى إبنه المستنجد سنة 555، وفى هذه السنة حج الرفاعى وزار القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام ، وأشيع أنه يد النبى خرجت له من الضريح وأنه قبّل  يد النبى عليه السلام ، وسارت الركبان بذكر ذلك وكيف أن اليد الشريفة خرجت من الضريح ، واستثمرت الدعاية الشيعية الصوفية هذه الاشاعة فى اجتذاب الأنصار فبدأت تصل إلى أسماع الخليفة الجديد الصورة التى أرادها الشيعة ، وكان الخليفة المستنجد كأبيه المقتفى موصوفاً بالعدل والرفق والفضل [39]فلم يكن ذلك الخليفة عائقاً أمام مدرسة الرفاعى، بل على العكس ورد فى مناقب الرفاعى ما يفيد أن المستنجد أرسل للرفاعى يطلب منه النصح فوعظه[40].

ومات المستنجد سنة 566 وتولى إبنه المستضىء ، وفى عهده أنهى صلاح الدين الدولة الفاطمية وأعاد مصر للخلافة العباسية وخطب فيها للمستضىء بأمر الله سنة 567، واعتبر ذلك نصرا على الشيعة أدى لصدام بين طوائف الشيعة والسنة فى بغداد واشتعل الصدام بين الكرخ ـ وهو حىّ الشيعة فى بغداد ـ والبصرة وهم سنيون ، وأيد الخليفة البصريين ، ونشط الباطنية فى عمليات الاغتيال فهاجمهم صلاح الدين فى حصنهم الموت ، وحدث صدام فى مكة بين أميرهم الشيعى ومقدم الحجاج السلجوقى فعزل أمير مكة [41].

وفى غمرة هذا الاضطراب وتتبع الشيعة وشى بالرفاعي لدى المستضىء فأرسل حاجبه عماد الدين الزنجي وهو من واسط ليستطلع حقيقة الرفاعى ، وتمكن الرفاعي من استمالة الزنجي فصار من أصحابه، وصورت كتب المناقب هذا الحدث بما تعودت من اضفاء الكرامات وعلم الغيب أى الكشف[42]  ،

وتصور كتب المناقب أن عماد الدين الزنجي أحرز مكانة رفيعة لدى الرفاعي( وقد حصل بخدمة السيد الكبير مقاماً جليلاً حتى صار خليفة الخلفاء ) [43]، . ولا يستبعد أن يكون عماد الدين الزنجي  ـ وهو سياسي عباسي مدرك للاضطراب الذى يحيق بالخلافة العباسية – طامعاً فى جاه مرتقب فى ظل الدعوة الجديدة . وتصور ذلك كتب المناقب فتروي أن الشيخ الزنجي ( طلب من سيدى أحمد الرفاعي ملكاً يتصرف فيه فقال له سيدى أحمد : أعلم أن ملك العرب والعجم نصفه لنا من إحسان الله تعالى ونصفه الآخر لسائر المشايخ ولكن أنا قد وهبت لك قيراطاً ونصف قيراط يا زنجي )[44].

ومات المستضىء وتولى إبنه الناصر العباسى 575 هجرية، واستمر يحكم سبعاً وأربعين سنة، وعرف الناصر بالسطوة والدهاء والتفنن فى المكائد والتجسس، وكان منتظراً أن ينال الرفاعى منه ضرر كبير لولا أن الناصر كان يتشيع على مذهب الإمامية، ولم يعش الرفاعى كثيرا فى خلافة الناصر فمات سنة 578 أى بعد ثلاث سنوات من توليه الخلافة بينما ظل الناصر حتى توفى سنة 622 [45].

وما كان الناصر ليشك فى أحمد الرفاعى الذى ظل نحو أربعين عاماً علماً صوفياً شهيراً يرحل إليه الآلاف مجمعين على زهده ونسكه ، وقد ولد الناصر قبيل تولى الرفاعية المشيخة أى أنه نشأ على شهرة الرفاعى ورأى جده المستنجد يطلب منه النصح والوعظ ، حتى إذا تولى الناصر كانت شهرة الرفاعى قد طبقت الآفاق ، إلى درجة أنه بعد تولى الناصر الخلافة بعامين وقبل موت الرفاعى بعام أى فى سنة 577 فى الثالث من رجب ">لقد أحسن الرفاعى فى سياسته مع مريديه فكانوا طوع بنانه، وأحسن سياسته مع خصومه فصاروا من جملة أعوانه، وأحسن سياسته مع العباسيين وجماهير العراق فأعظموا من قدره وشانه..

ولم تدر تلك الجماهير المحتشدة أنه يخفى خلف تصوفه حركة منظمة دقيقة، ولم يعرف العباسيون أن ذلك الزاهد الصوفي المتخاشع هو القائل " الميل إلى الحكام يستعبد العبد من الله عز وجل ، والرجوع إليهم كالرجوع إلى النار ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" [49]

 ولم يعرف العباسيون أن طموح الرفاعي السياسي جعله يتنبأ بقرب تحقيق أمله فى قيام حكم شيعي  بالفاطمي المنتظر . يقول الرفاعي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح باب الارشاد وسلمه إليّ ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها . واليوم ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية[50]"

 ثم لم يعرف الجميع من عامة وحكام بأمر البعوث التى كانت تفد للرفاعى ويرسلها إلى الشرق والشمال والشمال الشرقي ..

 

(ز) بعوث الرفاعي للشرق :

يقول العيدروس " ونقل أنه كان من جملة عبيد سيدي أحمد الرفاعي ومحبيه سيدي محمود الحيراني الرومي ، وكان من قصته ، أنه كان فى عصر الشيخ.. وكان أميراً كبيراً حاكماً جليلاً متعيناً مشهوراً. فلما شاع ذكر الشيخ فى الآفاق، وكان من جملة من سمع طيب أثره سيدي محمود الحيراني هذا فعشقته أذنه على السماع واشتد حبه للشيخ.. فعزم على زيارته والتوجه إليه فترك الديار والعشيرة والأمارة والحكومات وما كان فيه من التخول فى النعيم والمباهاه.. وسار إلى الشيخ ، وأخذ عليه العهد ولزم خدمة أعتابه إثنى عشر سنة، ثم أذن له الشيخ فى السفر فتوادع معه فى أم عبيدة ، وتوجه إلى الروم من حيث أتى، فلما وصل البلاد فوافى محلاً وهو سائر فرأى جماعة جالسين فى الحضرة يتحادثون وكان منهم شخص يسمى "صاري صاليق" أمين ملك الروم ، فلما أن وقع بصره على سيدى محمود الحيراني وهو مار بهم قام إليه من بين الجماعة واستقبله وصافحه، قال سيدى محمود:افتح فمك ففتحه فوضع يده عليه فصار بذلك " صاري صاليق" حيران سكران ،لأن نفس سيدى محمود الحيراني نفس سيدي أحمد الرفاعي ، وصار صاري فى بلاده الروم من أهل الإشارة والتسليك وبه يحصل الفتح للمريدين ، كل ذلك من بركة السيد الكبير سيدي أحمد الرفاعي. وبقى سيدى محمود الحيراني فى بلاد الروم قاطناً شهراً ، وصار " صاليق" بنواحي بلاد الافرنج. ونقل أن شخصاً يدعى (براق)كان من أكابر الروم فلما سمع بأخبار الشيخ الحسنة أعنى سيدي أحمد الرفاعي ، عزم على زيارته وتوجه من الروم ، وسار إلي أن وصل إلى سيدي أحمد الكبير فاندرج فى سلك خدمته اثنى عشر سنة خدمة خالصة بالقلب ، فعند ذلك نظر إليه الشيخ بعين الرحمة والعطف وأذن له فى التوجه إلى بلاده معمراً مسلكاً، فامتثل أمر الشيخ ،  فقبل يديه ورجليه واستأذنه فى السفر فأجازه ، وأذن له فيه وتوجه إلى بلاده.

ونقل أن من جملة من وفد على سيدى أحمد الرفاعى الشيخ أحمد اليسوى ،جاء إلى خدمة الشيخ ومعه من المريدين أربعمائة درويش ، وألبسه سيدى أحمد الرفاعي خرقة الفقر وصار من بعض مريديه، وجعله من جملة الخلفاء المتعينين وأذن له فى السفر وعينه هو وتلامذته فى نواحي التركستان فأمتثل أمر الشيخ وأخذ خاطره هو ومريديه وتوجهوا الى الأماكن التى أشار إليها الشيخ ، فلما أن وصلوا اليها تعطرت بأنفاسهم بقاعها..ووصلت عدة تلامذة الشيخ اليسوي ومريديه نحو التسعين ألفا وصار صاحب الوسم والرسم فى ذلك العصر بتلك الأقاليم , وكل ذلك ببركة سيدى أحمد الرفاعى.

ونقل أن الشيخ أبا بدر العاقولي سار إلى خدمة سيدي أحمد الرفاعي فى بعض دراويشه من أطراف بلاد واسط يريد زيارة السيد الكبير واجتمع به وتقيد هو ومن كان معه من الدراويش بخدمة الشيخ مدة طويلة..وأمرهم الشيخ بالسير الى بلادهم فتوجهوا إليها وصاروا من أهل الإشارة والتسليك.

ونقل إن الشيخ مسعود كان من أبدال الأتراك وقد اشتد شوقه وحبه للشيخ السيد أحمد الرفاعى فجاء إليه حافياً عرياناً قاصداً خدمة عتبة الشيخ ، ولازم الشيخ أربعين يوماً وبايعه .. وصار مريداً معتقداً ، وألبسه السيد الكبير من ملبوساته وجعله من جملة المقربين عنده..وهو الآن مدفون فى موضع يافث)[51]

فالحيراني وهو من ذوى المكانة وفد لأم عبيدة من بلاده فقضى فيها اثنى عشرة سنة يخدم الرفاعي ويتعلم بالضرورة أصول الدعوة وبعدها بعث به الرفاعي لبلاده داعية فتمكن من استمالة (صارى صاليق) فصيره داعية هو الآخر ووجهه إلى مكان آخر.

و"براق" كالحيراني تماما.. والشيخ "اليسوي" وفد للرفاعي بأتباعه فجعله من خلفائه وسيره داعية فى التركستان فأصبح أتباعه فيها نحو التسعين ألفا. ومن وسط العراق وفد أبو بدر العاقولي مع أنصاره فتعلم من الرفاعى وخدمه وبعثهم إلى بلادهم دعاة، ومثله الشيخ مسعود التركي . وعلى عادة كتب المناقب فى هذا الشأن فقد عرضت لبعوث الرفاعي فى صورة رمزية لم تشف الغليل عن أماكنهم الحقيقية أو جهودهم فى بلادهم أو ما تعلموه فى أم عبيدة وما انتهى إليه أمرهم . ولكن يستفاد مما سبق أنهم نجحوا كدعاة صوفيين وهو ما استتروا وراءه ولكن لم يظهر لهم أثر سياسي وهو المأمول من جهدهم الذى قصروا حياتهم عليه ، فلم يرد أن بعض أولئك المبعوثين ترك مكانه الذى أوفد إليه وعاد لأم عبيدة ، بل يظل أحدهم فيه إلى أن يموت،  وتلك سمة أساسية فى تاريخ الدعاة الشيعة ستؤكدها الأحداث التالية ، ولا ريب أن سبل الإتصال بين الرفاعى وبعوثه كانت قائمة ومستمرة ، ينطبق ذلك على بعوثه فى المشرق و المغرب ، وإلا ما أحس الرفاعى بمزيد التفاؤل وأيقن بقرب (ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية ). وإذا عرفنا أنه مات عن ست وستين عاما فى سنة 578 أيقنا أنه كان يأمل أن يمتد به العمر ليرى هدفه قد تحقق على رأس القرن السابع، فقد قال: (إن رسول الله فتح باب الإرشاد وسلمه إلى ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها ، واليوم ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية).

 

بيد أن الظروف لم تعد فى صالح الدعوة فى العراق، فقد وطد الناصر العباسى ملكه وملأ العراق بجواسيسه وكون لنفسه عصبة من العيارين أهل الفتوة  ينقلون إليه الأخبار، وفى نفس الوقت مات الرفاعي (السيد الكبير) ولم يخلفه بعده من يطاوله فى شهرته أو سياسته، فكان التركيز السياسي على مصر بعد انهيار الحكم الفاطمي فيها وانشغال الأيوبيين بعد صلاح الدين بالتنازع فيما بينهم أو مع الصليبيين.                                                                                                

( حـ) خلفاء الرفاعي:

خلفه إبن أخته وزوج إبنته " مهذب الدولة " على بن عثمان الرفاعي، قيل فيه " صار شيخ الرواق بعد خاله" " وكان يقدمه على غيره من أهل بيته وأصحابه" [52]ومع ما يوحى به لقبه " مهذب الدولة" من أن الطريقة الرفاعية صارت دولة بأتباعها ونفوذها ومع ما يوصف به مهذب الدولة من تحكم وهيبة إلا أن أوصافه فى المناقب لم تخل مما يشي بضعفه واضطرابه ، فيقال فيه " وكان قوياً فى الله متمكناً بأمر الله ما خالف أمره أحد إلا قتله الله، وكان له غيرة غريبة وهمه عالية وهيبة عجيبة وسطوة غريبة لا يقدر أحد يقابله لخشيته ولا أن يدانيه لهيبته ولا يخالفه " وإلى هنا وملامح سياسته واضحة ،ولكن يقال فيه بعدها " وكان دائم الهم والغم والفكر والحزن والاضطراب له قلب رحماني.. وكان سريع الغضب والرضا "[53]

وقد ورد فى منام صوفى أن مهذب الدولة أعطى سيفاً من السماء ، ويفسر ذلك كيف أن من يخالفه كان يقتله الله، ومع شدته تلك كان سريع الغضب والرضا..وإذا جاز استعمال القتل فى الدعوات السرية فلا يكون ذلك إلا سراً وبمؤامرة تبدو ككرامة ، أما أن تتضح الأمور ثم يكون التناقض من القتل إلى الرضا فذلك قد يغتفر فى حاكم بين جنده وملكه لا فى داعية لا يزال فى طور الأعداد لدولة ، وإذا استكان الاتباع للرفاعى بشخصيته وشهرته فلن يكون هذا حالهم مع صهره وخليفته ، ولم يعمر " مهذب الدولة" فى خلافته فمات سنة 584 .ودفن إلى جانب خاله.

وتولى بعده أخوه (ممهد الدولة) وكان صهرا للرفاعي هو الآخر فقد تزوج البنت الثانية من بناته ، ولم يبد فى سيرته أية ملامح سياسية سوى لقبه ومات سنة 604 وازدحمت سيرته بالكرامات الصوفية كدليل على أن ( أم عبيدة)  قد أقفرت سياسياً وظلت مركزاً روحياً للدعوة بينما تحول عنها النشاط السياسي الى مصر بالذات .

ويتضح ذلك فى تاريخ ( ابراهيم الأعزب) بن ( ممهد الدولة) وأقاويل الصوفية وكراماته التى لا تختلف عن أى صوفي عادى ، وقد كان ابراهيم الأعزب مقيماً بأم عبيدة [54].

أما أخوه عز الدين الصياد الرفاعي فيمثل التطور الجديد فى السياسة الشيعية.

(ط) عز الدين الصياد الرفاعى ( 574-670) .

تحول عن العراق سنة 622 , ويعلل ذلك بأنه ( خاف على نفسه من آفة الشهيرة!!)[55]والواقع أن العراق لم يعد الموضع المناسب سياسياً فقد اجتذبت الدولة الأيوبية الأضواء من العراق والخلافة العباسية ، وبعد موت صلاح الدين كان تنازع أولاده فى مصر والشام واستغل أخوه السلطان العادل ذلك التنازع فى الاستئثار بملك صلاح الدين دون أولاده ، وفى هذا الوقت كان العراق مهدداً من الشرق من قبل جلال الدين منكبرتى الخوارزمى الناقم على الخلافة العباسية تعاونها مع التتار أعدائه حينئذ.

والشيعة بما لهم من خبرة بأوضاع المنطقة أقدر على تقييم الأمور والاستفادة منها ، وقد رأوا أن الشرق لم يعد المكان المناسب لهم بعد ظهور قوة التتار والخوارزمية ولا بد لأحدهما أن تقضى على الأخرى . وكلتاهما قوة شابة، والمنتظر من المنتصرة منهما أن تسيطر على العراق ، فالحاضرة العباسية ( بغداد ) تستهوى دائما المغامرين من الشرق من الأتراك والسلاجقة والديالمة . وبالنسبة للتتار والخوارزمية فهم أشد عتواً وأعظم خطراً ..لأن السلاجقة والديالمة كانوا عصبات قبلية لم تتكون لهم دولة ثابتة فى آسيا، أما التتار والخوارزمية فلهم سلطان قائم فى قراقورم وغزنة فكلاهما ينشد التوسع والاحتلال، ووسيلته الإبادة والقهر ، وقد رأى الشيعة الصوفية أن الوضع الجديد فى الشرق قد أجهض مجهوداتهم التى قام بها الدعاة أمثال براق وصارى صاليق والحيراني واليسوي ومسعود التركي فكانوا على حذر مما يخبئه لهم الشرق من أخطار، فاستبقوا فى (أم عبيدة) مدرسة صوفية روحية فى الظاهر مثلها إبراهيم الأعزب بينما طوف أخوه ( عز الدين الصياد) فى مراكز الدعوة فى الحجاز والشام ومصر

وقد أحسن الشيعة بابقاء ( الأعزب ) فى (أم عبيدة) ممثلاً للدعوة الصوفي مستترا بها، فالصوفية محل رعاية حكام العصر ولا يشك فيهم أحد، وللصوفية مقدرة هائلة على التكيف مع كل حاكم جديد ، واستمالته، ونقطة الضعف لدى أى حاكم تتمثل فى اعتقاده فيهم وحفاوته بهم ، لأنهم معه طالما ظل فى سلطانه فإذا تولى قبلوا له ظهر المجن ، ولقد استطاع الرفاعية فى (أم عبيدة) استمالة غازان المغولي بعد أن قضى المغول على الخلافة العباسية وتملكوا العراق ، وكانت لخليفة الرفاعية أحمد بن عبد الرحيم الرفاعي ( 604-711) صلات بالسلطان أبي سعيد المغولي وأسلم ( أو تصوف) على يديه غازان وأتباعه سنة 694 [56].

ونعود إلى عز الدين الصياد الرفاعى (ت670) وما يمثله من تحول للنشاط السياسي إلى الغرب فنقول أنه تحول من العراق إلى الحجاز فقصد (مكة) بؤرة الدعوة ثم ذهب للمدينة فاستمال حاكمها ابن نميلة وظل يرعى الدعوة فيها تسع سنين وبنى بالمدينة رباطاً للرفاعية ، وكوّن فيها مدرسة سياسية كان عن أعلامها الأبيوردى والسخاوى وعبد الكريم القزوينى .

وقد دخل عز الدين مصر سنة636 ـ قبل استقرار البدوي فى طنطاـ ( فأقام فى المسجد الحسيني وأقبل عليه الناس وتلمذ له العلماء والشيوخ وأكابر الرجال ..إلخ ) ثم طاف باليمن ونزل الشام ، وعمّر زاوية رفاعية فى دمشق وحمص ( وقصده الناس من العراق والمغرب والحجاز واليمن )أى كانت الشيعة على إتصال به أينما حل وأقام .إلى أن مات سنة 670. والطريف أن الصياد الرفاعي وصف بالهيبة شأن من أهتم  بالسياسة من أجداده- كالرفاعي ومهذب الدولة  –  فوصف الصياد بأنه كان (ذا هيبة وسكينة ووقار لا يتمكن الإنسان من إباحة النظر إليه لجلالة قدره ) بينما لم يوصف شقيقه إبراهيم الأعزب بمثل ذلك.

وثمة ناحية أخرى فى حياه الصياد تنم على أسلوب من أساليب الشيعة المتصوفة وهى المصاهرة السياسية .وقد سبق أن والد الرفاعي قد أصهر للشيخ يحيى النجاري وأنجب أحمد الرفاعى ، وكان خاله منصور البطائحى صاحب الخرقة فعهد إليه..وتكررت القصة مع أحمد الرفاعي فقد زوج أخته من ابن عمه عثمان الرفاعي, فأنجب عثمان منها مهذب الدولة وممهد الدولة. وأصهر أحمد الرفاعي إلى إبني أخته..فتزوج مهذب الدولة فاطمة بنت الرفاعي وتزوج أخوه ممهد الدولة زينب بنت الرفاعي.وقد أنجبت زينب من ممهد الدولة عز الدين الصياد..

وقد اتبع الصياد هذه الطريقة فى تطوافه بمراكز الدعوة .فكان يمارس (الزواج السياسى ) فحين جاء إلى مصر الأيوبية (تزوج بدرية خاتون من آل الملك الأفضل وأقام بمصر سنين وهاجر منها وترك زوجته بدرية حاملا فولدت له السيد علياً المعروف بالشباك الرفاعى فى تلك السنة ، وبقى ولده عند أخواله آل الملك الأفضل )[57]. ودخل الصياد معزة النعمان فاصهر للشيخ الصوفي الشهير عبد الرحمن بن علوان وتزوج أخته وأنجب منها ذرية.

 وأسلوب المصاهرة هذا ينم على ما أعتاده الشيعة فى دعواتهم من استعمال النفس الطويل فى الدعوة وإنتظار نتائجها على مهل، وحين تتم – حسبما يأملون – تكون من نصيب ذرياتهم فى المستقبل. ولذا فإن التزاوج كان يتم بين أنصار الدعوة ويولد الطفل بين أخواله وأتباع أبيه وعصبيته.

لقد كان عز الدين الصياد تطوراً هاماً فى الحركة الشيعية الصوفية ورث عن جده أحمد الرفاعي الكثير من الحنكة السياسية فأكمل طريقه، ذلك أن الرفاعي اهتم فى أخريات عمره بمصر بعد إنهيار الحكم الشيعي فأرسل لها البعوث السياسية المستترة بالتصوف.

 

ثالثا: بعوث المدرسة الرفاعية فى مصر الأيوبية

وطد صلاح الدين نفوذه فى مصر ابتداء من سنة 564هجرية. وانفرد بها بعد موت آخر الخلفاء الفاطميين سنة 567. واهتم صلاح الدين بحرب التشيع فى دولته الأيوبية الوليدة. ولم يكن للرفاعي وهو فى قمة شهرته وتضخم أتباعه أن يسكت عن التطورات الأخيرة فى مصر بعد انهيار الحكم الفاطمي فيها، ولعله أدرك الخطر فى طموح صلاح الدين وتواجده المستمر فى الشام وخشى أن يحكم صلاح الدين قبضته على الشام والعراق وينقل إليها حربه ضد التشيع فبادر الرفاعي بإرسال البعوث إلى مصر الأيوبية. وعلى نفس السياسة سار خلفاؤه من بعده خصوصا وأن خلفاء صلاح الدين كانوا بعده أقل شأناً وأكثر ضعفاً.

ومع حدب الأيوبيين بالصوفية فإن رائحة الاضطهاد تغلف تاريخ الصوفية المتشيعين من أصحابنا فى هذه الحركة ، والنفور بينهم وبين الحكام مستحكم كما يبدو فى ترجمة أبى العباس الملثم وأبى الفتح الواسطى. وهناك ناحية أخرى تتجلى فى التعاون القائم بين مدرسة الرفاعي العراقية ومدرسة أبى مدين المغربية . وتمثلها العلاقات الغامضة بين أبى السعود الواسطى مبعوث الرفاعى وأبى العباس البصير المغربي .

 

 أبو العباس الملثم:

نظرا لكونه مبعوثاً سرياً يتستر بالتصوف فى دولة تحارب دعوته فإن الرمز والأساطير تغلف تاريخه وتجعله أقرب للأسطورة .. أو أقرب للبدوى فكلاهما ملثم وهم رفاق دعوة ، إلا أن أبا العباس قفز إلى اهتمام المؤرخين فكتبوا عنه ، ولتستره وغموضه فلم يكن فى تاريخه إلا الغموض والرمز .

وحين نقرأ ترجمته فى طبقات الشعرانى نحس بأن الرمز فى ترجمته كان مقصوداً ومتعمداً لإخفاء دعوته السرية التى جاء على أساسها مصر ، وأول ما يقول الشعراني[58]  فى تاريخه ( وكان أبوه ملكا بالمشرق ) ومعلوم أن ملوك المشرق فى هذه الفترة كانوا معروفين تكتب الحوليات التاريخية فى صراعهم وتقلباتهم ، ولكن الذى توحى به كذبة ( كون أبائه من المشرق) أنه وفد من المشرق رسولاً لدعوة سرية تحيطها الأسرار والألغاز وتهدف لأمر سياسي يتعلق بالحكم والملك ،وليس هناك من تعارض بين تلقبه بالملثم وكونه مشرقيا ، إذ عرفنا أن ( سلاطين الدعوة الشيعية فى المشرق) أتوا إليها من المغرب ووصفوا كآبائهم باللثام والملثمين ، بهذا وصف أحمد البدوي وأحمد الرفاعي ومنصور البطائحي ثم أبو العباس الملثم.. فكلهم ملثمون مغربيون فى الأصل مشرقيون فى النشأة.

ثم يزداد الغموض المتعمد حين يأتى الشعراني بالراويات التى حكيت عن عمره. يقول ( وكان الناس مختلفين فى عمره فمنهم من يقول : هذا من يونس عليه السلام ، ومنهم من يقول : أنه رأى الإمام الشافعي وصلّى خلفه ومنهم من يقول أنه رأى القاهرة وهى أخصاص ، وقال الشيخ عبد الغفار القوصي : فسألته عن ذلك فقال : عمرى الآن نحو أربعمائة سنة ) ونحن هنا أمام مؤامرة واضحة تتعمد إضفاء الغموض على تاريخ الرجل وعمره وتغلفه بالأساطير ، ويشارك فى هذه المؤامرة ويقودها عبد الغفار القوصي كبير الأتباع لأبى العباس الملثم .. ولكن هذه الأساطير تصله بالمشرق مركز الدعوة السرية، فيونس عليه السلام من العراق ، والشافعي تجول بين مكة والعراق ومصر.. والاضطهاد هو السبب الحقيقي فى غموض هذا الرجل ، وإن غلف الشعراني هذا الاضطهاد بالكرامات.

يقول الشعراني " وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه فى الرؤية والخلوة فأنكر عليه بعض الفقهاء فقال : يا فقيه اشتغل بنفسك فإنه بقى من عمرك سبعة أيام وتموت فكان كما قال.. وأنكر عليه مرة قاض وكتب فيه محضرا بتكفيره ووضع القاضي المحضر فى صندوقه إلى بكرة النهار يدعوه للشرع فجاء بكرة النهار فلم يجد المحضر ومفتاح الصندوق معه، فأخرج الشيخ المحضر و قال : الذى قدر على أخذ المحضر من صندوقك قادر على أخذ إيمانك من قلبك ، فتاب القاضي ورجع عما كان أراده ، وسمّوه ثلاث مرات ليموت فعافاه الله تعالى منه وذلك لشدة ما كانوا ينكرون عليه" .

وإذا رجعنا بالذاكرة إلى أحمد الرفاعي والإنكار عليه نجد أن أتباعه يعترفون بأن أساس الإنكار على الرفاعي هو فى جمعه بين النساء والرجال، ونسترجع بعض هذه الاتهامات التى ووجه بها الرفاعي شتما وتقرعيا كقولهم له " يا من يستحل المحرمات ، يا من جمع بين النساء والرجال" [59]. وحين وشوا بالرفاعي عند الخليفة المستضىء العباسي قالوا عنه للخلفية " يا مولانا هذا المجلس يشتمل على مفاسد كثيرة منها الجمع بين النساء والرجال " [60].. ونحن لا نتهم الرفاعي بهذه التهم .. ولكننا نعتبرها دليلا على الدافع السياسى ، فالرضى بهذا الاتهام البشع الذى يمس الخلق لا يكون إلا للتغطية عن إتهام أخطر فيه القضاء على الدعوة وربما أصحابها. وجدير بالذكر أن كتب المناقب التى أوردت هذه الاتهامات لم تذكر أن الرفاعي نفى هذه الاتهامات أو دافع عن نفسه ، بل ركزت على التخاشع وتطيب نفوس المنكرين عليه واستمالتهم ..

وعلى ذلك فاتهام أبى العباسى الملثم بنفس تهمة الرفاعى كانت غطاء مقصودا يحجب الصراع بينه وبين أنصار الدولة الذين يتتبعون دعاة الشيعة ويلاحقونهم بعقد المجالس للتكفير والاعتقال . ويلفت النظر أن الرواية لم يذكر فيها أن أبا العباس الملثم أنكر هذه التهمة عن نفسه كشأن الرفاعي تماما حين اتهم بها..

وورد فى ترجمته أن خصومه حاولوا قتله بالسم ثلاث مرات ( لشدة ما كانوا ينكرون عليه) وهذا الإصرار على ملاحقته واغتياله لا يمكن أن يكون لمجرد الإنكار على رؤيته النساء والخلوة بهن ، ولو صح هذا لكان منع النساء عنه ومنعه عنهن أيسر من تتبعه بمحاولات الاغتيال السرية. ويبدو من سيرة أبى العباس الملثم أنه تجول بين القاهرة والصعيد ، فقد التقى بعبد الغفار القوصي، وقوص من مراكز التشيع فى الصعيد ، ودفن فى القاهرة بالحسينية أو فى قوص – على إختلاف فى  الروايات ..

بقى أن نعرف شيخ أبى العباس الملثم الذى يقاسى كل هذا من أجله .. يقول أبو العباس الملثم :( بلغني عن سيدي أحمد الرفاعي أنه كان يقول : إذا استولى الحق سبحانه على قلب عبد ذهب ما من العبد وبقى ما من الله ..) وبغض النظر عن مقالة الرفاعي الموحية بالاتحاد – مذهب الصوفية – فإن الملثم اعترف بتبعيته للرفاعى المقيم فى أم عبيدة ، وأنه كان على صلة بمدرسته وإلا ما قال ( بلغني عن سيدي أحمد بن الرفاعي..) .

ثم أليس غريبا أن تخلو ترجمة أبى العباس الملثم من ذكر لأى من الشيوخ الذين أخذ عنهم الخرقة ؟ مع أن المتبع فى ترجمة الصوفية ذكر الأشياخ والتلاميذ. أما صاحبنا فلم تكن فى ترجمته إلا قوله " بلغنى عن سيدى أحمد بن الرفاعي " ، والرفاعي لا حرج على تصوفه . أما الحرج فهو على تشيعه السرى وتلميذه الغامض فى مصر الأيوبية والمملوكية التى تحارب التشيع الصوفى.

أبو السعود بن أبى العشائر الواسطي:

ينتمى إلى واسط مركز تجمع شيعة الرفاعي ، وأبوه أبو العشائر الحسني من كبار أصحاب الرفاعي [61]، وقد وفد إلى مصر ومات بالمقطم سنة 644، وتحيط( الكرامات السياسية) بتاريخ أبي السعود ، منها أن له نوبة كاسات تضرب له فى الأرض وفى كل سماء، وأنه كان أحد الملوك السبعة وأن السلطان كان يمشي إلى زيارته[62]، وهذا ما لم يثبت فى المصادر التاريخية المعاصرة للقرن السابع ، أما الشعراني والزيات – فقد كتبا عنه ذلك من أفواه مريديه حافظي سيرته ، وأولئك خلطوا سيرة الرجل بعد موته بثلاثة قرون بما يشى بالدافع السياسى والنشاط السرى وغلفوه بالكرامات فجعلوه ملكاً فى الأرض والسماء يخضع له السلطان الذى لا نعرف إسمه.

وقد كوّن أبو السعود مدرسة صوفية شيعية كان من أعيانها أبو الغنائم ت695 الذى ( قدم القاهرة مع أبيه فاجتمعا بالعارف القدوة أبى السعود ابن أبى العشائر الواسطى واقتديا بطريقته) وشرف الدين الكردي المدفون بالحسينية – حيث دفن أبو العباس الملثم – وبدر الدين الجاكي الكردي ، وقد وشوا به للسلطان ، وعقدوا له مجلسا لمنعه من الوعظ[63].

ثم كان أهم أصحاب أبى السعود هو الشيخ خضر العدوى وكان له شأن مع الظاهر بيبرس وقت أن كان البدوي يمارس دعوته فى طنطا .

ويلاحظ أن مدرسة أبى السعود كلها كانت من الوافدين عليه من الأكراد والمشارقة وأولئك جاءوا مصر فقصدوا الشيخ وصاروا من أخصائه، ولو كان الأمر طبيعيا فما كان أسهل عليهم اللقاء فى بلادهم.

وهناك ناحية أخرى فى تاريخ أبى السعود الواسطي تتمثل فى علاقته الغامضة بأبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الإسكندرية ، يروى بعض مريدى أبى السعود عنه( لم يمش لبيت أحد قط إلا لبيتي بمصر مرة، ومرة زار فيها الشيخ أبا الفتح الواسطي لما ورد القاهرة  بسبب علم له فيه ، ولم يجتمع به بعد ذلك)[64] . ووجه الغرابة أن أبا السعود التزم بالعزلة حتى كان لا يخرج من زاويته إلا للجمعة أو الحج[65]، ومع ذلك فقد اجتمع – على غير عادته – بأبى الفتح الواسطى – الذى سعى للقائه فى القاهرة آتيا له من الإسكندرية ( بسبب علم له فيه) ثم كان التحرز من اجتماعهما بعد ذلك ( ولم يجتمع به بعد ذلك) .

فلعل أمرا خطيراً سرياً أوجب هذا الإجتماع الطارىء ، ثم لم يكن بعده احتماع فى مصر .

ومعلوم أن الحج إلى مكة كان ستاراً يجتمع فيه أساطين الدعوة المنتشرون فى العراق والشام ومصر ويتداولون فيه الآراء ويرسمون فيه الخطط مع أساتذتهم فى مكة .

 وأبو السعود كان داهية ، أدرك ما يعانيه أبو الفتح من اضطهاد فى الاسكندرية فتحرز من الاجتماع به فى القاهرة . ويكفى فى إدراك نجاح أبى السعود أن تاريخه خلا من أى إشارة لاضطهاد الحكام له ، بل على العكس ورد أن السلطان – ولا نعرف من هو ذلك السلطان- كان يسعى للقائه دليلاً على أن مظهره الصوفى العادى خدع السلطات الحاكمة ، بينما أخفق بعده تلميذه بدر الدين الجاكي فافتضح أمره فعقدوا له مجلسا ومنعوه من الوعظ.

أبو الفتح الواسطي :

فى الوقت الذى استقر فيه أبوالسعود الواسطي فى القاهرة واجهه صوفية ترقب العاصمة ، وفى الوقت الذى تجول فيه أبو العباس الملثم بين القاهرة والصعيد كان أبو الفتح الواسطي يحتل قبلهم مكانه فى الاسكندرية مبعوثا من لدن الرفاعى .. شيخ الجميع.. وقد ختمنا به لأن البدوى خلفه بعد موته . يقول الشعرانى عن أبى الفتح ( شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر المحروسة ، وكان من أصحاب سيدى أحمد بن الرفاعي فأشار إليه بالسفر إلى مدينة الإسكندرية فسافر إليها )[66] . ويروى المناوي أن الرفاعي أرسل الواسطي للاسكندرية وقال له ( إقامتك ووفاتك  بها،)[67]. وهذا أسلوب الشيعة فى دعوتهم ، فمنصور البطائحي خال الرفاعي ألزمه بالبقاء فى أم عبيدة حتى مات فيها ، والرفاعي ألزم خليفته بالبقاء فى أم عبيدة حتى دفن بها ، وألزم مبعوثه الواسطي بالبقاء فى الإسكندرية حتى مات بها . وينطبق ذلك على مبعوثيه الآخرين أبى السعود الواسطي وأبى العباس الملثم .

على أن أبا الفتح واجه معارضة عنيفة فى الإسكندرية ، وهذا أمر متوقع بحكم موقعها الساحلي ويقظة الأيوبيين لما يجري فيها خوف الإغارات الصليبية وقد كانت الحملات الصليبية تأتى لمصر الأيوبية عن طريق البحر المتوسط وتتخذ من قبرص نقطة ارتكاز للتآمر على الثغور المصرية ، ولأن أعين الأيوبيين تترصد كل تحرك فى الاسكندرية فقد تتبع أعوانهم من القضاة والفقهاء أبا الفتح بالمحاكمات والاتهامات حتى أصابة القنوط فخالف أمر شيخه الرفاعي وعاد إلى أم عبيدة.

يقول المناوى أن الواسطي أقام فى الإسكندرية مدة ثم عاد لشيخه الرفاعي ( لأنه لم ير فى الإسكندرية إقبالا ) ثم أمره الرفاعي بالعودة إلى الإسكندرية وأنشده:

                أيها  السائر سر  فى  دعــــة                أينما كنت فما عنك خلف

                إنما  أنت  سحاب   ممــــــــطر               أينما صرفه الله انصـــــرف

                ليت شعرى أى أرض أملحت               واعيــت بك من بعد التلف

               أرسلك  الله  إليها   رحمــــــــــــــــة                وعدمناك لذنب قد ســــلف

يقول المناوي : فسافر الواسطي للإسكندرية [68]، ويقول الشعراني عنه ( وكان مبتلى بالإنكار عليه وعقدوا له المجالس بالإسكندرية وهو يقطعهم بالحجة ) [69].

ولا ريب أن دعوة الواسطي للأسكندرية ونجاحه فى مجابهة خصومه يرجع إلى توجيهات الرفاعي حين عاد إليه بخفى حنين ، فرجع بعدها الواسطى شخصا جديدا يقابل خصومه و( يقطعهم بالحجة ) ويجتذب الأنصار ويكون الخلايا السرية ، وأبرزهم أتباعه المقربون ( كالقليبي والبلتاجي والدنوشري والمليجي وعبد العزيز الدريني ..) وأولئك لهم شأن مع البدوي الذى جاء ليخلف الواسطي حين مات سنة 635 .

ونجاح الواسطي يرجع لسبب آخر يتمثل فى الاضطراب الذى حاق بالأيوبيين ابتداء من مطلع القرن السابع حيث عمّ الخلاف بين أبناء العادل الأيوبي واشتدت بينهم المؤامرات والحروب فى نفس الوقت الذى آمنوا فيه للصليبيين وادخلوهم فى منازعتهم الأسرية حتى أن الكامل الأيوبي تنازل عن بيت المقدس للأمبراطور فريدريك الثاني الألماني بدون حرب فى مقابل أن يؤيد أطماعه فى دمشق. وإذ تقرر التحالف بين الكامل والصليبيين فقد أمن من ناحيتهم وانشغل عن المؤامرات الداخلية بما يجابهه من خطر أخوته فى الشام والعراق.

وهذا الحال المتردى الذى صار إليه حال الأيوبيين من أبناء العادل قد شجع مدرسة المغرب التى كونها أبو مدين فى بجاية وقام على رعايتها ابن بشيش، وقد تم التعاون بين مدرستي العراق والمغرب فى مصر التى تتوسط الشرق والغرب .

وإنصافاً للحق فإن بعوث المدرسة المغربية قد تلمست طريقها  لمصر منذ سقوط الحكم الشيعى الفاطمى فيها وحرب صلاح الدين للدعوة الشيعية ثم زاد دورها أبان ضعف خلفائه .

بعوث المدرسة المغربية إلى مصر:

1-اتخذت بعوثها من الأسكندرية القريبة للغرب نقطة ارتكاز تنطلق منها للقاهرة – العاصمة – والصعيد موطن التشيع . وأبرز الأشياخ فى هذه المدرسة أبو الحجاج الأقصري ت 642 وقد ورد للاسكندرية من المغرب ، وفيها أخذ عن داعية مجهول من تلامذة أبي مدين ،يقول الشعراني فى ترجمة أبى الحجاج " وكان شيخه الشيخ عبد الرازق الذى بالإسكندرية قبره من أجل أصحاب سيدى الشيخ أبى مدين المغربي " [70]  ، وتتلمذ على هذا الشيخ المجهول أبو الحجاج الأقصري وابن الصائغ، يقول أبو الحجاج " كنت أجىء أنا وأخى أبو الحسين بن الصائغ بإسكندرية إلى شيخنا " [71]، وانتقل أبو الحجاج إلى قوص – وهى مركز كبير للتشيع الإسماعيلي – وكون فيها مدرسة كان من أعيانها كمال الدين بن عبد الظاهر يقول الشعراني فى ترجمة ابن عبد الظاهر " صحب الشيخ أبا الحجاج الأقصرى رضى الله عنه حين كان بقوص" [72].ثم استقر أبو الحجاج فى الأقصر حيث مات واكتسب لقب الأقصري ..

2- وكعادة دعاة الشيعة المتسترين بالتصوف فقد واجه أبو الحجاج عنتاً من الأمراء ، ويقول الشعرانى " إن شخصاً من الأمراء المشهورين فى عصره أنكر عليه" [73]، ولم تنقطع المؤامرات الخفية ضده تنشد قتله يقول خادمه زكريا التميمى " طلب شخص من مريدي أبى الحجاج الأقصري قتل شيخه مرات فلم يقدر" [74]، أى اندس بعضهم ضمن مريدى الشيخ محاولاً قتله فلم يستطع رغم تكرار المحاولة ، ليقظة الشيخ وتحرزه.

 

 

الاتصال بين المدرستين:

وقد أبقى الشيعة الصوفية من مدرستى الرفاعي وأبى مدين الصلات بينهما فى طى الكتمان وغلفوها بالكرامات والأساطير إذا جد ما يستدعي اتصالاً بينهما كما حدث بين أبى العباس البصير الوافد من المغرب ت623، وأبى السعود بن أبو العشائر الوافد من العراق ، يقول الشعراني فى ترجمة أبو العباس البصير " كان من معاصري الشيخ أبو السعود بن أبى العشائر ، وكان سيدي أبو السعود فى زاويته بباب القنطرة يراسله بالأوراق فى أيام خليج النيل الحاكمي إلى باب الخرق بزاوية الشيخ أبو العباس ، فكانت ورقة أبو السعود تقلع ورقة أبو العباس ولا تبتل "[75].

وفى مناسبة الحج كان يتم بحث شتى التفصيلات بين الأشياخ ..وسبق القول بأن أبا السعود ابن أبى العشائر كان لا يخرج من داره إلا للحج أو لصلاة الجماعة .. يروى الشعراني عن خادم أبي السعود قوله" خدمت سيدى أبا السعود عشرين سنة وأنا أسأله أن يأخذ على العهد فيقول : لست من أولادي أنت من أولاد أخي أبي العباس البصير سيأتى من أرض المغرب، فلما قدم إلى مصر أرسل سيدى  أبو السعود إلى سيدى حاتم- الخادم وقال له : شيخك  قدم الليلة فاذهب إلى ملاقاته فى بولاق ، فأول من اجتمع به من أهل مصر سيدي حاتم ، فلما وضع يده فى يده قال : أهلا بولدي حاتم ، جزى الله أخى أبا السعود خيرا فى حفظك إلى أن قدمنا" [76].

ومنطقي أن يجد أبو العباس البصير حين يقدم إلى مصر خادماً يمهد له سبل الاتصال بينه وبين أبى السعود . وكل شىء متفق عليه سلفاً ، ويحكى فى صورة كرامة تستغل ما شاع فى العصر من اعتقاد فى علم الصوفية بالغيب، مع أنه لا يعلم الغيب إلا الله.

هذا.. وجدير بالذكر أن أبا العباس البصير المغربي تعلم أصول الدعوة على يد الداعية العراقي الرفاعي السري ابن سيدبونه الخزاعي " ثم سافر للصعيد وأقام بالقاهرة" [77].

وهناك اتصالات مجهولة لم يكشف عنها الستار تمت بين الشيعة المتصوفة من مدرستي العراق والمغرب ، إلا أننا يمكن أن نترصدها من تحركات الفريقين ، فأبو العباس الملثم طوف بالصعيد وأقام مدة فى "قوص" وله علاقة بالشيخ عبد الغفار القوصي[78]، والملثم موفد من قبل الرفاعي ، وفى " قوص" أقام أبو الحجاج المغربي الأقصري مدرسة كان من تلامذته فيها ابن عبد الظاهر[79]،  ولعل المؤامرات التى حكيت ضد أبي الحجاج تمت فى " قوص" الشهيرة بالتشيع لدى السلطات مما جعل أبا الحجاج يرحل عنها إلى الأقصر لينشىء مدرسة جديدة غير معلومة.

وفى " قوص" نشأ "عبد الغفار القوصي " وتنقل بينها وبين القاهرة، وفى شخصيته تبدو ثورية وعنف وميل للتآمر ، وهى صفات أبعد ما تكون عن التصوف العادى ..فقد" كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يبيع نفسه فى طاعة الله تعالى " " وكان يقول : كلام المنكرين على أهل الله تعالى كنفخة ناموسه"[80].

ولعله كان صلة بين أبى الحجاج وأبى العباس الملثم ، ونشأ فى جو التآمر هذا حتى إذا فشلت الدعوة الصوفية لم يجد مجالاً لتآمره إلا الكنائس، فقام بمؤامرة واسعة سنة 721 أحرق فيها الكنائس المصرية فى وقت واحد بين الإسكندرية والقاهرة والصعيد ، ورددت المراجع التاريخية هذا الحدث الفريد من نوعه فى حوادث سنة 721 [81]، ولا يمكن لمؤامرة على هذا المستوى أن تتم إلا بخبرة تامة فى التآمر وتطواف مستمر بمدن مصر ومعرفة بكنائسها وتنظيم محكم بأتباع منتشرين ووسائل اتصال على مستوى عال.

ولا بد أن يكون عبد الغفار القوصي  قد استثمر أدوات الدعوة الشيعية الصوفية بعد فشلها فى إحراقه العام للكنائس المصرية فى الإسكندرية والقاهرة والصعيد ففى هذه المناطق تتركز الخلايا الشيعية الصوفية بلا عمل، وربما رأت فى هذه المؤامرة وسيلة لإفساد الأمر على السلطة المملوكية وذلك ما فطن إليه الناصر محمد بن قلاوون وسنتعرض لذلك فى أوانه.

وجدير بالذكر أن خضر العدوي – وهو عضو هام فى الخلايا الشيعية الصوفية – كانت له تحركاته المعادية للمسيحيين وكنائسهم  [82]– وقد ذكرنا ذلك كدليل على وحدة الاتجاه لدى المدرسة الشيعية الصوفية.

ونعود للشيعة المتصوفة والكتمان الذى يسود العلاقات بينهم ، ونذكر أن أخوف ما كانوا يخافونه هو أن يتسلل إلى خلاياهم عميل للأيوبيين أو المماليك . وقد سبق أن بعض العملاء تسلل إلى جماعة أبى الحجاج الأقصري كأحد مريديه وحاول قتله ثلاث مرات فلم يفلح ، وللشيعة العذر فى هذا التحوط فقد استغل صلاح الدين أسلوب التسلل للخلايا الشيعية الصوفية حين استمال عبد الرحيم القنائي وأوفده للصعيد فتمركز فى "قنا" حربا على زملائه القدامى ، وهو بهم أدرى ، وقد استطاع استمالة ابن الصائغ السكندرى زميل أبى الحجاج الأقصري فى الإسكندرية ، وصار ابن الصائغ من جملة أتباع عبد الرحيم القنائى..

وعبد الرحيم القنائي من الأتباع الأوائل للشيخ أبى مدين الغوث إلا أنه انقلب على الدعوة وتعاون مع صلاح الدين الأيوبي ، ولم ينس له الشيعة المغاربة هذا الموقف . وتلمح إلى هذا رواية صوفية نسبت للشيخ أبى العباس البصير المغربي ، يقول الشعراني أنه ( قدم شخص من مريدي الشيخ أبى العباس البصير على سيدي عبد الرحيم القناوي بعد وفاة الشيخ أبى العباس ، وكان الشيخ يأخذ العهد على جماعة من الحاضرين فمد يده ليد فقير أبى العباس وهو فى المحراب فخرجت يد أبى العباس من الحائط فمنعت يد الشيخ عبد الرحيم فقال : رحم الله أبا العباس يغير على أولاده حياً وميتاً ) [83]والثابت أن أبا العباس توفى بعد عبد الرحيم بمدة طويلة ، فعبد الرحيم توفى سنة 592، وأبو العباس كان معاصراً لأبى السعود وتوفى سنة 623 ، ولكن صياغة هذه الكرامة توحى بالصراع الخفي بين القناوي وبقية الشيعة الذين انشق عليهم فحقدوا عليه حتى بعد موته..

ثم نعود لأبى الفتح الواسطي وقد استفاد من الاضطراب السياسي فى مصر فكوّن مدرسة قدر لها أن تنمو وأن تلعب دوراً هاماً فيما بعد ، وصار كما يقول الشعرانى ( شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر المحروسة . وأخذ عنهم خلائق لا يحصون .)[84]إلا أن موته آذن بانهيار جهوده.

 فسارع الشيعة حين بلغتهم وفاته سنة 635 بإرسال أحمد البدوى ليحل محله فى مصر وليتزعم بشبابه وحيويته الدعاة فى مكانه البعيد الخفى عن الأنظار فى "طنتدا" .

يقول باحث عن أبى الفتح الواسطي " كانت له مكانة بين أتباع الرفاعي فلقد أرسلوه إلى مصر ليبشر بطريقتهم ويتزعم الأتباع فوصل الإسكندرية سنة 620 وأقام بها داعيا ، ولقى هناك عنتا كبيرا من شيوخ الشرع والفقهاء وتوفى سنة 632 ، ولما وصل خبر وفاته إلى خلفاء الرفاعي بالعراق مركز الدعوة والطريقة الرفاعية وقع إختيارهم على السيد البدوي ليخلفه فى زعامة الإخوان وأتباع الرفاعي بمصر .[85].

 ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق فى مجلة السياسة " دوهم العلويون فى مكة بنبأ وفاة أبى الفتح الواسطي داعيتهم فى مصر ، ذلك الرجل المدهش الذى استطاع فى سنين قلائل أن يجمع إلى رايته أجل أرباب النفوذ من علماء مصر وأعيانها ، فلم يجدوا أكفأ من السيد أحمد البدوي لهذه المهمة فوجهوه إلى الديار المصرية فنزح إليها من مكة عام 637 هجرية وسكن بطنتدا)[86].

وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى البدوي كمبعوث سياسي سري للصوفية المتشيعين .

وقد عشنا مع المراحل السابقة من مراحل الدعوة وأشياخها ومواطنها ابتداء بالمغرب ومرورا بالحجاز والعراق ثم نحط الرحال فى طنطا لنري ماذا سيفعل البدوى بالدعوة وعلام ينتهى أمره..

وقبل أن نستغرق مع البدوى فى مشاكله فى طنطا نستعرض الخطوط العريضة لكثير من التفصيلات التى سبقت فى توضيح الجهد الذى قامت به مدرسة الرفاعي فى العراق ، باعتبار أن هذه المدرسة هى الأم التى أنجبت أساطين الدعوة فى مصر والشام والعراق واليمن ، فنلاحظ الآتى :

  • نجح الرفاعي تماما فى استغلال التصوف كساتر لحركته الشيعية السرية . ظهر كصوفي أمام العامة والحكام فازداد أتباعه فى نفس الوقت الذى قرب إليه خواصه من مريديه المقيمين معه فى أم عبيدة ، وقد جعلها قلعة لأتباعه يرسل منها سراً البعوث إلى الشرق والشمال ، وكانت له سياستان  حسب الظروف ، فساس أتباعه بالحزم والصرامة،  وعلى العكس من ذلك صابر أعداءه ولاطفهم حتى استطاع النجاة من مكائدهم واكتسبهم أنصاراً ومريدين.

2- لم يكن خلفاء الرفاعي فى مستواه السياسي ، بينما تغيرت الظروف السياسية إلى غير صالح الدعوة ، فالناصر العباسى أحكم سيطرته على العراق والتحركات المغولية والخوارزمية فى أواسط آسيا وشمالها أجهضت الدعوة الناشئة فى هذه المناطق ، فيمم الشيعة وجههم شطر مصر التى كانت تعاني من الاضطراب السياسى تحت حكم أبناء العادل الأيوبي .

ولأنه لم يوجد من خلفاء الرفاعي من يدانيه مقدرة ودهاءاً فقد توزعت مهامه بين خلفاءه ، فظلت ( أم عبيدة) مركزاً صوفياً فى الظاهر شيعياً فى الباطن يتعلم فيه المبعوثون أساليب الشيعة فى الدعوة، بينما انتقل النشاط السياسى إلى خارج العراق ممثلاً فى عز الدين الرفاعى الذى طوف بالحجاز ومصر والشام واليمن يكون فيها الخلايا وينشىء فيها الزوايا .

  • ـ سبق الرفاعي خلفاءه فى الاهتمام بمصر بعد سقوط الدولة الفاطمية الشيعية فأرسل أبا السعود بن أبى العشائر وأبا الفتح الواسطي وقد احتل كل منهم مكانه بين الاسكندرية والقاهرة .
  • ـ فى مصر نجح أبو السعود الواسطي فى استغلال الاضطراب الذى حاق بالأيوبيين بسبب تنازعهم العائلى المستمر فأكثر من أتباعه وانتشروا فى مصر إلا إن موته حدا بالعلويين إلى إرسال من يحل محله ، فكان "البدوي".

5- بقى أن نقول أن اتجاه العلويين إلى مصر مكنهم من الاستفادة بإخوانهم أتباع مدرسة المغرب وبتنسيق سرى منتظم ، كما حدث من أبى الحجاج الأقصري وأبى العباس البصير،  وكما سنراه مع الشاذلي والبدوي. والمنتظر منهم أن يجهزوا للقادم الجديد "البدوي" عرشه فى طنطا ،  فلابد أن يستفيد مما زرعه السابقون.                        

 



[1]
مجلة السياسة : 10 عدد  89    

[2]مجلة السياسة : 10 عدد  89    

[3]الجواهر السنية :16

[4]النصيحة العلوية : مخطوط ورقة 17

[5]العيدورس : النجم فى مناقب القطب الرفاعى :75 ، طبقات الرفاعية لأبى الهدى الصيادى 4.

 

[6]الطبقات الكبرى للشعراني 1/14، 133.

[7]الطبقات الكبرى للشعراني 1/14، 133.

[8]الطبقات الكبرى 1، 133

[9]الطبقات الكبرى 1، 133

[10])   الطبقات الكبرى 2 تعطير الانفاس مخطوط 234

[11]  الفتوحات المكية : 188، 318 ، 330، 838

[12]1•، 838 ، 2/  20 ، 242 – 4/ 701

[13]المقدمة 322 ، 323

[14]الطبقات الرفاعية 27.

[15]الطبقات الرفاعية 27.

[16]أبو الهدى الصيادى .طبقات الرفاعية 6         

[17]نفس المرجع :5

[18]البكرى : تراجم صوفية .مخطوط ورقة21

[19]طبقات الرفاعية:5

[20]طبقات الرفاعية  :5،6

[21]ا لنجم الساعى :13.

[22]طبقات الرفاعية 5،6

[23]طبقات الرفاعية 5،6

[24] طبقات الرفاعية 6

[25]النجم الساعى :14

[26] الطبقات الكبرى 1/115، 116.

[27]طبقات الرفاعية:6

[28]النجم الساعى 15

[29]البكرى: تراجم صوفية23

[30]طبقات الرفاعية 7 ونحو ذلك ص 8، 14 ،18 -  وانظر الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 121 وتاريخ ابن الأثير 11 / 222.  

 

[31] النجم الساعى 46

[32] طبقات الرفاعية 7  

[33]النجم الساعى72

[34] النجم الساعى 56

[35]النجم الساعى 16:17

[36]النجم الساعى 52

[37]الطبقات الكبرى 1/ 124  

[38]تاريخ الخلفاء للسيوطى 696 :107

[39] تاريخ الخلفاء للسيوطى 704

[40]البكرى .تراجم صوفية 24   

[41]تاريخ ابن الأثير 11/164 ،177 ،185 ، 195 ،197

[42]النجم الساعى 17 :19     

[43]النجم الساعى17 : 19، 30

[44]النجم الساعى17 : 19، 30

[45]تاريخ ابن الأثير 12/202 وتاريخ الخلفاء للسيوطى 713 ،717.

[46]طبقات الرفاعية 14، 18      

[47]طبقات الرفاعية22

[48]عبد الصمد: الحواهر السنية 52: 53

[49] النجم الساعى 68

[50]النجم الساعى 73

[51]النجم الساعى 19 :24 ،32،33

[52]طبقات الرفاعية :30      

[53]طبقات الفاعية 30 ،31

[54]طبقات الرفاعية33 وما بعدها.

[55]طبقات الرفاعية 47

[56]طبقات الرفاعية.39.

[57]ترجمة الصياد فى طبقات الرفاعية 46 وما بعدها، ومخطوط البكرى 31، 32.هذا..ويقول عبد الصمد أن أم البدوى هى(فاطمة بنت محمد بن عبد الله ابن مدين بن شعيب من مدينة فاس بالمغرب، الجواهرالسنية 19 الطبقات الكبرى للشعرانى 1/ 133 ) وعليه فالأرجح أن أبا مدين الغوث وإسمه شعيب هو جد البدوى لأمه وهذه صورة أخرى من التزاوج السياسى بين أصحاب الدعوة.

 

 

 

[58]الطبقات الكبرى 1] ،136.

[59] الطبقات الكبرى للشعرانى : ترجمة الرفاعى 124.

 

[60]النجم الساعى 17

[61]طبقات الرفاعية : 25.

[62]الزيات : الكواكب السيارة : 316، 317 .

الشعرانى : الطبقات الكبرى 1/ 140

[63]السخاوى : تحفة الاحباب 21، 22.

الشعرانى : المرجع السابق 2/2، 3

[64]الكواكب السيارة 316, 317

[65]الكواكب السيارة 316, 317

[66]الطبقات الكبرى 1~.

[67]) الطبقات الصغرى للمناوى مخطوط ورقة 89

[68]نفس المرجع والورقة             

[69]الطبقات الكبرى 1~

[70]طبقات الكبرى 1^                                   

[71]نفس المرجع ،1/136

[72]نفس المرجع ، 1/137

[73]نفس المرجع ،1/ 136

[74]نفس المرجع  ،   ^  

[75]نفس المرجع ،  2/3

[76]نفس المرجع ، 2/3

[77]السيوطى : حسن المحاضرة 1O

[78]الطبقات الكبرى للشعرانى 1^، الطالع السعيد 131

[79] نفس المرجع 1_

[80]نفس المرجع 19     

[81] عقد الجمان مخطوط ، نهاية الأرب مخطوط 31، 4 ، 7 ، 8 ، الطالع السعيد 172 : 173 ، زبدة الفكرة لبيبرس الداودار 91 474 : 475 ، السلوك 2(.

[82]) تاريخ ابن كثير13-165 ، النجوم الزاهرة 7-162                

[83]الطبقات الكبرى 2

[84]نفس المرجع 1~

[85]على سالم عمار: أبو الحسن الشاذلى 1?              

         

[86]مجلة السياسة 11

 

 قبيل جهودالبدوي فى الدعوة السرية

نشأته وإعداده:

1 ـ نشأ البدوي بمكة مركز الدعوة "وكان حفظ شيئاً من القرآن وقرأ شيئا من الفقه على مذهب الإمام الشافعي " . ومعنى أنه حفظ "شيئا من القرآن" وقرأ "شيئاً من الفقه "إن الجانب الأكبر من نشأته انصب على ناحية أخرى يفسرها ما قاله عبدالصمد بعدها "واشتهر بالعطاب لكثرة ما كان يقع لمن يؤذية من الناس "[1].

والواقع إن البدوي اشتهر فى بدايته بالفروسية يقول عنه الشعراني "لم يكن فى فرسان مكة أشجع منه ،و،وكانوا يسمونه فى مكة العطاب "[2]وهذا اللقب أطلقه عليه  أخوه الحسن الذى تولى إعداده ونشأته ، يقول الحسن مفتخراً بصنيعه "ولم يكن فى مكة والمدينة من الفرسان أشجع ولا أفرس من أخي أحمد فسميته العطاب محرش الحرب "[3].

ويبدوأن فروسية البدوي أتت بعد مران عنيف بدأ منذ صغره ،فقد وصف فى رجولته بأنه  "كان بين عينيه جرح جرحه ولد أخيه الحسين بالأبطح حين كان بمكة "[4]. وتفوق البدوي في هذا المضمار فلم يكن فى مكة والمدينة من يدانيه فروسية وشجاعة ، وحق له أن يفخر بذلك على عادة الشعراء الفرسان فيقول[5] 

أنـا أحـمد البـــــــدوي فــــارس مــــــــــــــــــــــكة            وساكن طــــنت فى الملوك  لى العزل

أنا الأسد للقتــــال فى حومة الوغــــــــى           إذا جلـــــت فى الأعــــداء ينهزم الكــــــــــل

أنا صاحب الرمحين فى أرض مكة           لى البأس فى الهيجا إذا حصل الخبل

2 ـ وإلى جانب الفروسية تميز البدوي بالدهاء والنجابة فلفت له أنظار الكبار من أسرته المنهمكين فى التخطيط للدعوة.  وفى هذه الأثناء كان بمكة والمدينة عز الدين الصياد الرفاعي الذى غادر العراق سنة 622 ثم استقر بالمدينة تسع سنوات أحدث  فيها تغييراً هاماً حيث انتقل بالدعوة إلى المدينة وضم إليها حاكمها ابن نميلة وكوّن فيها مدرسة للدعاة تخرج فيها القزويني والسخاوي والأبيدري ،وأنشأ بها زاوية للرفاعية [6].

وعلى ذلك فالمرجح أن يكون عز الدين الصياد الرفاعي هو الذى أشار على الحسن باصطحاب أخيه البدوي ليتعلم أصول الدعوة فى (أم عبيدة ) فى واسط العراق، وكان ذلك سنة 633 أى أثناء وجود عز الدين فى مكة ، لأنه استقر بالمدينة تسع سنوات أى إلى سنة631 . ثم أقام بمكة إلى أن انتقل منها إلى مصر سنة 637 ، فلا شك أن البدوى جذب انتباهه فى مكة وربما بالمدينة قبل ذلك حيث تفوق البدوي فى الفروسية على شباب مكة والمدينة معا .

3 ـ وتغلف الأساطير رحلة البدوى للعراق وفيها ما يرمز للطموح السياسي ..من ذلك ما ورد فى الجواهر السنية "قال سيدي أحمد البدوي .بينما أنا نائم بجوار الكعبة وإذا أنا بهاتف يقول لى فى المنام : استيقظ من نومك يا همام ،ووحّد الملك العلام ..ولا تنم فمن طلب المعالي لا ينام ، فو حق أبائك سيكون لك حال ومقام :واطلب مطلع الشمس..لتحظى بزيارة الأبطال والرجال الكرام ..فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وكانت ليلة الأحد عاشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة،وأخبرت أخي الحسين بذلك ،وكان أخي الحسن أكبرنا سناً وأرفعنا قدراً ...وكان هو الخليفة علينا بعد والدنا ، فقال يا أخى أكتم سرك ولا تبح به ..واعلم يا أخى أحمد إن كل بلاد لها رجال ولكل رجال قطب يحكم عليهم بمشيئة الله تعالى ،وإذا دخل بلادهم أحد من الرجال من أرباب الأحوال أمرهم قطبهم بالرواح إليه فإن كانوا أقوى منه رجّعوه ، وإن لم يتأدب معهم قتلوه وسلبوه ،وإن كان أقوى منهم زجرهم وبددهم ومزق شملهم .ويقع بينهم الحرب والطعن والضرب "[7]فالأسطورة ترمز إلى ما آل إليه العراق فى هذه الآونة ..تلك الحال التى أخرجت عز الدين الصياد عنه ..وحين أرسل البدوي للعراق ليتعلم الدعوة فى أم عبيدة لم يفارقه الخوف الذى تعبر عنه بقية الأسطورة مع أن البدوي كان فارس وطنه ولم يذهب فى رحلته منفردا بل صحبه أخوه الأكبر مرشداً.

وفى الأسطورة كان الرفاعى يأتى للبدوى فى منامه مرشداً سياحياً فى مسالك العراق إلى أن وصلوا أم عبيدة : "وإذا بالخيام قد لاحت وأعلام أم عبيدة قد بانت، فقلت لأخى الشريف حسن : يا أخي كأن هذا ملك من بعض ملوك العرب نزل فى هذا المكان ونصب خيامه ونشر أعلامه. فقال لى : يا أخي هذه أم عبيدة ،وهذه الخيام خيام السيد أحمد بن الرفاعي وليس يكشف هذا السر إلا القليل من الناس ، وهذه الخيام والأعلام لرجال تحتها قيام قد سهروا الليل فى الظلام وجاهدوا أنفسهم بالصيام والقيام " . وتمضى الأسطورة  فتصور تكليف البدوي من قبل القائمين على الأمور فى ام عبيدة بأن يذهب للقاء بنت بري ,وتفصل صراعه معها[8].

4 ـ ويقيني أن أسطورة فاطمة بنت بري  ــــــــ التى لامحل لها من الأعراب ــــــ قد حيكت للتعمية على التعليم السري الذى يتلقاه البدوي فى أم عبيدة، التى كانت وقتها تحاول أن تبدو تصوفاً بحتاً لا شائبة فيه من تشيع أو دعوة سرية . وكان أنسب الأساليب هو التلهية بقصة فاطمة بنت بري التى تحاول إغراء البدوى (وسلب حاله )،ومع ما فى قصة البدوي وبنت بري من شكوك حول علاقة ما بينهما ،فإن هذه الشكوك مقصودة ليستغرق فيها الخصوم وينسوا الطابع السياسى للرحلة.  وقد مر بنا أن الرفاعي والملثم تطوعا بقبول الاتهام الخلقى لستر الدافع السياسى .

5 ـ وإلى ما قبل رحلة البدوى للعراق كان يبدو أبعد الناس عن أن يكون صوفياً، فقد بز أقرانه بفروسيته واشتهر بدهائه فرأى أولو الأمر أن يذهب إلى العراق ليكتسب مسحة تصوف يتخفى تحتها حين يكلف بأمر من أمور الدعوة.وفى العراق اكتمل إعداد البدوى على يدى الصوفى الشيعى ابن عرب تلميذ الرفاعي وشقيق أبى الفتح الواسطي [9]،

وعاد البدوى  لمكه شخصا مختلفا.وتصور الكتابة الصوفية ذلك بقولها : (ولما حدث له حادث الوله – الجذب – تغيرت سائر أحواله واعتزل الناس وكان لا يتكلم إلا بالإشارة لمن يحبه ، فامسكنا معه الأدب) [10].وبهذه الصورة الجديدة التى عاد بها من العراق توجه البدوي لمصر وقد اتخذ مظهر المجذوب .

6 ـ وبموت أبى الفتح الواسطي سنة 635 وقع الاختيار على البدوي ليخلفه فى مصر ،ورتب عز الدين الصياد الامور للداعية الجديد ،فاختار له المكان ،ووزع الأدوار المساندة للبدوي على بقية الدعاة من مصر والعراق والمغرب .

الاعداد لدعوة البدوي فى مصر :

وصلها سنة 637[11]. وقبل وصوله بعام كان عز الدين الصياد قد دخل القاهرة . يقول البكري عنه:( ثم أنه- أى عز الدين- دخل مصر سنة ست وثلاثين وستمائة وأقام بالمسجد الحسينى وأقبل عليه الناس وتلمذ له العلماء والشيوخ مثل جمال الدين بن الحاجب وغيره وأقام بمصر سنتين )[12]، وفى المدة التى قضاها عز الدين بمصر( 636-638) كان قد وصل للبدوى فوجد الأمور معدة له على النحو التالى :

  1. إختيار طنطا كمكان للدعوة السرية

1 ـ كان إختيار طنطا مركزا للبدوي فى هذه الفترة عملاً صائباً دل على معرفة بأهميتها وظروفها المواتية للهدف الذى اختيرت من أجله.وواضح إن عز الدين الصياد قد إستشار أولى الأمر من مدرسته التى كونها بالقاهرة ، وهم أدرى ببلادهم والأعرف بأصلح مكان للدعوة ، فطنطا تتوسط الطريق بين العاصمة (القاهرة ) و(الإسكندرية ) مركز اتباع الواسطي ، ويمكن  بتوسطها للدلتا أن تكون مركزاً هاماً للدعوة فى مصر يسهل اتصالهم بها ، ثم إن بعدها عن القاهرة مناسب يتيح لمن بها أن يكون يقظاً لما يحدث فى العاصمة من تطورات يأتيه بها أعوانه فيها . ومحاولة الابتعاد عن السلطة وأعوانها كان عاملاً هاماً فى اختيار طنطا فإن (سخا ) شاركت طنطا موقعها الاستراتيجي وكمركز للمواصلات والطرق البرية ، إلا أن سخا فى عهد البدوى كانت أكبر مدن الغربية وبها دار الوالي كما ذكر ياقوت الحموي[13]فابتعد عنها مخططو الدعوة وآثروا طنطا التى وصفها ياقوت بأنها (من كورة الغربية وبينها وبين المحلة ثمانية أميال[14]) أى كانت طنطا فى ذلك العهد مجرد قرية صغيرة تعرف بالمسافة بينها وبين المحلة التى كانت أكثر شهرة فكانت عاصمة للغربية ، ويكفى ذلك للابتعاد عنها .

وهناك عامل تاريخى خاص بالشيعة ، فقد اتخذ الفاطميون من (طنطا ) عاصمة لأحد أقاليم مصر السفلى فى عهد الخلفية المستنصر (427-487) وعرف إقاليمها باسم الطندتاوية ، وقد انحسرت أهميتها بانحسار الحكم الفاطمى عن  مصر ومجئ أعدائه ..إلا أن الشيعه كانوا لا يزالون يحتفظون لطنطا بالذكريات وعرفوا أهميه موقعها فأعادوها مكاناً لدعوتهم السرية. وحرص البدوي وهو فى طنطا على الخلوة بمسجد البوصه المعروف الأن بأسم مسجد البهي: ( وتدل حالته على أنه أقدم المساجد  بطنطا لأنه بنى بربوة عالية ولأن مئذنته ذات أضلاع وعليها برج مغلق على نظام مئذنة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي )[15]، فالبدوي اختار مسجداً فاطمياً للعزلة فيه ، وربما كان يفكر فى أسلافه الشيعة الفاطمية وهو يرتب لدعوته السرية لإعادة ملكهم الضائع .

2 ـ وفى داخل طنطا تم ترتيب آخر لإستقبال البدوي؛ فتعيّن المنزل الذى سيقيم فيه والرجل الذى سيساعده ،بحيث أن البدوي قدم من مكة على طنطا مباشرة فدخل المكان مباشرة ووجد صاحبه على استعداد وترقب وانتظار ،ـوذلك ما نلمحه من خلال السطور فيما يقوله عبد الصمد ( كان بطندتا رجل من أولياء الله تعالى يسمى الشيخ سالم ، وهو المبشر بقدوم سيدى أحمد البدوي ، وذكر أنه استدعى الشيخ ركين وقال له :اعلم أنه يقدم عليك رجل يسمى أحمد البدوي وينزل بطندتا فى بيتك يا ركين .وبعد مدة قدم سيدي أحمد البدوي ضارب اللثامين - وكان من عادة الشيخ ركين أنه يصنع طعاماً فى بيته فى كل أسبوع ويجتمع فيه أقاربه  من النساء والرجال فيطعمهم ويكرمهم ، فبينما هم مجتمعون فى مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم سيدي أحمد البدوي ، فلما تأملوه فإذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين ، فصاحت النساء فى وجهه ، فلما علت أصواتهن دخل عليهن الشيخ ركين ، فإذا هو رجل مجذوب وإمارة الولاية لائحة فاقعة على وجهه ، ووقع فى قلبه أنه البدوي الذى بشّره به الشيخ سالم .فأقبل عليه بكليته وقبل يديه و رجليه وجثا على ركبته..الخ )[16]

ولم يكن عسيراً أن يستقطب الشيعة أعواناً لهم داخل قرية طنطا بحكم أنها كانت مركزاً هاما فى الدولة الفاطمية قبل قرنين من الزمان .ومن المعقول أن يحتفظ بعض الأثرياء فيها بذكريات عن ثراء أسلافهم وبلدهم فى ظل الفاطميين الشيعه ويأملون أن تستعيد هذا المجد بالتعاون مع الدعوة الشيعية الجديدة ،والمنتظر أن تظل فى طنطا جذوة من التشيع  تحت الرماد .

ونتوقف مع الشيخ سالم ذلك الذى بشر بقدوم البدوي .ويبدو من حديث عبد الصمد عنه أنه كان ذا مكانة فى البلدة بحيث أنه استدعى ثريا كالشيخ ركين وأخبره بمجئ البدوي وألزمه بضيافته . ويتبادر للذهن أن ذلك المبشر بقدوم البدوي كان ضالعا فى التخطيط الشيعي ، وهذا ما حدث فعلا فسالم ينتمى للمغرب موطن المدرسة المغربية المساندة لمدرسة العراق ،يقول عبد الصمد عن موقف البدوي من أولياء طنطا حين استقر بها (وأما سيدي سالم المغربي فأنه أقام بطنتدا ودخل تحت حكم الأستاذ وسلم الأمر إليه إلى أن مات[17]). وبسبب الدور السياسي الذى قام به سالم المغربي فى تأييد البدوي ضد خصومه من الصوفية الآخرين  ،وما سبق ذلك فى تمهيد الأمور له قبل قدومه ، بسبب هذا الدور فإن هناك اضطراباً – أظنه مقصوداً – فى سيرة ذلك الرجل وتاريخه ،فبينما يقول عبد الصمد أنه (دخل تحت حكم الأستاذ وسلم الأمر إليه إلى أن مات ) يقول فى موضع آخر أنه مات قبل دخول البدوى طنطا[18].

وسالم المغربى يذكرنا بصوفى آخر أكثر شهرة أتى من المغرب ليساند الدعوة السرية ،إنه أبو الحسن الشاذلى ت 656. 

(ب) أبو الحسن الشاذلي يحتل مكانة الواسطي فى الاسكندرية :

بعد موت الواسطي فى الاسكندرية بادرت مدرسة المغرب بزعامة ابن بشيش بإيفاد الشاذلي ليحل محل الواسطي ويرث دعوته. وتم ذلك بتخطيط وتنسيق مع المدرسة العراقية وشيخها الذى أقام بالقاهرة عامين يرتب فيها أمور الدعوة للبدوي الوافد الجديد الذى سيحتل مكاناً آخر سرياً بعيداً عن الأنظار هو طنطا بينما ينفرد  الشاذلى بالإسكندرية .

 ويقول المناوى فى ترجمة أبى الفتح الواسطى مبعوث الرفاعى فى الإسكندرية (ولم يزل مقيماً بالإسكندرية والناس يقبلون عليه حتى مات ، وأذن للشاذلى بالدخول قبل موته فصلى عليه )[19]والمناوى يوحى بأن الشاذلى لم يدخل الإسكندرية – بلد الواسطي – إلا بإذن ورضى من أولى الأمر ، وقد قام بالصلاة عليه حين دفن ، فمعنى ذلك أنه خليفته القائم بالأمر من بعده . وظهر أن مهام أبى الفتح الواسطى قد توزعت بعد موته بين الشاذلي فى الإسكندرية والبدوى فى طنطا ، فتلاميذ الواسطي عملوا فى خدمة البدوي وحلقات اتصال بينه وبين أعوان الدعوة فى الدلتا والقاهرة ، أما الشاذلي فى الإسكندرية  فقد كان واجهة صوفية تطمئن اولي الأمر على خلو المدرسة الواسطية فى الإسكندرية من طموحها السياسي ولتشغلهم بالتصوف عن البدوي القابع فى طنطا .ثم إن الإسكندرية نقطة الاتصال البحري بين الشام والعراق والحجاز من جهة و( شمال )أفريقيا والمغرب من جهة ..وفى نفس الوقت فاتصالها ميسر بطنطا والقاهرة ،ووجود طريقة صوفية بالإسكندرية يجعل منها حلقة اتصال أساسية بين المدرستين العراقية والمغربية وتكون غطاء مناسباً للبدوى فى طنطا . ثم إن الفراغ الذى حل بالإسكندرية بوفاة الواسطي لابد أن يتداركه أساطين الدعوة بملئه بتصوف شيعي من داخل الدعوة حتى لا يحتل الإسكندرية من لا تؤمن بوائقه من المتصوفة المتعاونين مع السلطة وما أكثرهم .

وانتماء الشاذلي للمدرسة المغربية وشيخها وشيخه ابن بشيش أمر معروف غير منكور ، ولكن الذى نحققه هنا هو انتماؤه للمدرسة العراقية الذى يربطه بالدعوة السرية وأصحابها ويجعله من ضمن العاملين فى إطارها مهما تضاءل الدور المسنود إليه. والواقع أن الشاذلي كغيره من أساطين المدرسة المغربية لهم انتماء سري بالمدرسة العراقية اتخذ صورة العهد والخرقة وهو نفس الطريق الذى اتخذه الشيعة المتسترون بالتصوف غطاء للتقابل وجمع الأنصار ووضع الخطط . وهناك أكثر من حلقة تربط الشاذلي المغربي بالمدرسة العراقية ، فالشاذلي ينتمى لشيخه ابن بشيش ت 626 ،وابن بشيش أخذ الخرقة عن الشيخ بري العراقي تلميذ الرفاعي وداعيته السري ،وهو نفسه – أى الشيخ بري – هو الأستاذ الذى أخذ عنه البدوي ،وليس غريبا أن يتطامن شيخ كبير فى موطنه كإبن بشيش ليأخذ العهد على تلميذ سري للرفاعي ،وذلك أن أخذ العهد كان طريقة سرية للتلاقى وترتيب الخطط.فالشاذلي ينتمي للمدرسة العراقية بطريقة غير مباشرة بالتبع لشيخه ابن بشيش الآخذ عن المدرسة العراقية . يقول صاحب الطبقات الرفاعيه أن الشاذلي أخذ الخرقة عن ابن بشيش عن الشيخ بري العراقي عن الشيخ أحمد الرفاعي [20].

وبعد ابن بشيش كان اتصال الشاذلي المباشر بالمدرسة العراقية ,واتخذ نفس الصورة ، صورة إعطاء العهد ،مع أن الشاذلي بعد موت ابن بشيش لم يعد مريداً صغيراً فى بداية الطريق ،ولكنه الأسلوب الذى يتستر به أساطين الدعوة السرية ،وبه اتخذ الشاذلي لنفسه خرقة رفاعية بالطريق المباشر ، فأخذ العهد على تلميذ لابن سيدبونه الخزاعى هو عبد الرحمن العطار ،وقد مر بنا أن ابن سيدبونه الخزاعي كان داعية سرياً للمدرسة العراقية ومع أنه مجهول منكور إلا أن علماً كبيراً من المدرسة المغربية – هو ابن عربى   - أخذ على يديه العهد ،ثم جاء عبد الرحمن العطار يجدد مسيرة شيخه ابن سيدبونه كما جاء الشاذلى يأخذ العهد على العطار أسوة بابن عربي مع ابن سيدبونه . والشاذلي على هذا أخذ الخرقة الرفاعية عن عبدالرحمن العطار عن ابن سيدبونه عن الرفاعي ..

ولم تنقطع صلة الشاذلي بالمدرسة العراقية فاتخذ لنفسه صاحباً منهم هو نجم الدين الأصفهاني [21]مستشاره فى الدعوة ،وقد كان الاصفهاني فيما بعد شيخاً للدسوقي الذى تابع مسيرة الشاذلي بعد موته .

وقد تجلت وحدة التخطيط بين المدرستين العراقية و المغربية  فى ارتحال الشاذلي للأسكندرية ليخلف أبا الفتح الواسطي العراقي فيها . وصدر الأمر للشاذلي من شيخه ابن بشيش بالسفر للأسكندريه [22]فى نفس الوقت الذى يمرض فيه أبو الفتح الواسطى ويموت ، وابن بشيش ومدرسته المغربية أقرب للإسكندرية وأدرى بظروفها وأكثر اطلاعا على مجريات الأمور والدعوة فيها .

  وقد كان ابن بشيش يعانى من عنت السلطات المحلية فى دولة الموحدين التى تتعقب مدرسة ابن مدين وتلميذه ابن بشيش ، ودفع ابن بشيش حياته ثمنا لهذا الا ضطهاد .

وبعد مقتله كان على الشاذلي تلميذه الأول أن يتحمل نصيبه من العنت والاضطهاد قبيل رحيله الإسكندرية ،وقد أوردت الكتابات الصوفية فى  ترجمة الشاذلي بعض الأخبار عن الاضطهاد الذى قاساه الشاذلي قبيل سفره للإسكندرية ، وإن أضفت عليه – كالعادة – أساطير الكرامات لتستر السبب السياسي فى الاضطهاد والمحاكمات ، ومع ذلك فإن رائحة السياسة تظهر من خلال الحوار وبين السطور، كأن يقال أن خصم الشاذلي وشى به عند السلطان فى تونس وقال عن الشاذلي (أن هاهنا رجل من أهل شاذلة سواق الحمير يدعي الشرف وقد اجتمع عليه خلق كثير ويدعى أنه الفاطمي ويشوش عليك فى بلادك [23]) ويلاحظ أن دعوة الفاطمي المنتظر قد روجتها مدرسة أبى مدين وتلميذه ابن عربي فى كتبه وابن بشيش فى دعوته ،وقد استمرت هذه الدعوة إلى القرن الثامن حتى أن ابن خلدون فيما بعد هاجم هذه الفكرة فى مقدمته ،وابن خلدون كما نعرف فقيه مغربي خدم سلاطين الموحدين وهو أعرف بجذور النشاط الشيعي وقد أرجع هذه الفكرة إلى ابن عربي ومدرسته كما أوضحنا سابقاً .

والمهم أن الشاذلي اتهم عند السلطان المغربي بأنه (يدعى الشرف ) و(يدعي أنه الفاطمي ) أى الفاطمي المنتظر ، وإن كثيرين أجمعوا عليه (وقد اجتمع عليه خلق كثير ) وأنه أحدث هزة سياسية أخافت أولي الأمر ، أو أنه (يشوش ) على السلطان فى بلاده ، وكان منتظرا أن يهرب الشاذلى من صميم الاضطهاد وخصوصا وأن أبا الفتح الواسطي فى الإسكندرية يعيش أيامه الأخيرة.

وتحاول أساطير الكرامات أن تموه على الدوافع السياسية وأن ترفع من شأن الشاذلي وهو يقاسي الاضطهاد من السلطان فتروي أن السلطان عقد مجلسا لمحاكمة الشاذلي ( وتحدثوا فى العلوم المكتسبة والعلوم الوهبية )أى اللدنية ، ولا بد أن ينتصر الشاذلى فى الأسطورة على خصومه أمام  السلطان كنوع من التعويض عما يلاقيه من اضطهاد ،ثم تقول الرواية

أن ابن عبد البر قاضى القضاة للسلطان والخصم الأكبر للشاذلي يقول عنه للسلطان (والله لئن خرج فى هذه الساعة ليدخلن عليك أهل تونس ويخرج من بين أظهرهم فإنهم مجتمعون على بابك ..وكان ابن عبد البر ما أراد بذلك إلا حبس الشاذلي )[24]. فالرواية تفصح هنا على أن شيعة الشاذلي قوية إلى درجة أن خصمه اتخذ منها دليلا أمام السلطان على خطورة الشاذلي وحاول أن يخيف السلطان إذا تهاون معه ..وكان الشاذلي حسبما تذكر الأسطورة قد انتصر على خصومه فى العلوم المكتسبة واللدنية أمام السلطان فكان يميل لإطلاق سراحه. ثم تلجأ الأسطورة إلى إسناد الكرامات للشاذلي وأنه استعرض أمام السلطان بعضا منها فأخافه وأرعبه فاضطر لإطلاق سراحه .ولا ندرى لماذا حرم الصوفية أستاذ الشاذلي ومعلمه وشيخه – ابن بشيش – من هذه الكرامات حين اغتاله أعوان السلطان ، ولو كان للشيخ الشاذلي بعض منها لكان محفوظا من كيد الأعداء .وربما يكون الشاذلي قد أفلت من قبضة السلطان فى مجلس محاكمته بالتقية وهى الأسلوب الشيعىي المعروف حين الأزمة ،ثم أحس الشاذلي بأنه إذا أفلت مرة فلن يفلت الأخرى ،فكان هربه للإسكندرية . 

وقد أحس السلطان وأتباعه بخطورة الشاذلي حين هرب للإسكندرية ،ولأنه أفلت من قبضتهم فلم يسعهم إلا الكيد له عند أولي الأمر فى الإسكندرية ليشفوا غليلهم .تقول كتابات المناقب إن ابن عبدالبر أرسل خلف الشاذلي رسالة لوالى الإسكندرية الأيوبي على صورة(عقد فيه شهادة ) بأن (الواصل إليكم شوّش علينا بلادنا وكذلك يفعل فى بلادكم )[25].

إلا أن تحذير المغاربة لم تؤثر على الشاذلي فى الإسكندرية ، فوظيفة الشاذلي أن يبدو أمام أولي الأمر تصوفاً محضاً لطمأنة الأيوبيين وحتى لا تتكرر قصة اضطهاده المغربية أو يكون لدسائس المغاربة أثر فى موضعه الجديد ،وساعده على نجاحه فى سياسته  الجديدة المختلفة انتقال الثقل السياسي للدعوة إلى طنطا وانشغال الأيوبيين بمنازعاتهم الأسرية بين مصر والشام عما يجرى تحت ذقونهم فى الأسكندرية وطنطا وغيرهما.

 ويتضح فى الروايات الصوفية عن اضطهاد الشاذلي فى المغرب اتجاه لتبرئة السلطان الموحدي وتحميل السخط كله على قاضى القضاة ابن عبد البر كزعيم للحاقدين على الشاذلي وأن السلطان كان سرعان ما يقتنع بولاية الشاذلي وأنه برئ من الاتهامات السياسية التى يكيلها له ابن عبد البر . ثم تمضي الأساطير فتصور ما حاق بابن عبد البر من نكبات كجزاء على تطاوله على الشاذلى ،وذلك جميعه خطاب غير مباشر لأولى الأمر بالإسكندرية والقاهرة لتغطية السبب الحقيقى فى هروب الشاذلي للإسكندرية وأن الأمر لا يتعدى تنافساً حاقداً من قاضي القضاة ابن عبدالبر موجها للشاذلي الذى يفوقه فى (العلوم الوهبية والمكتسبة ).

وقد آتت هذه السياسة أكلها فاطمأن أولو الأمر من ناحية الشاذلي  فلم يرد فى المصادر التاريخية أى نبأ عن اضطهاده وقد كان علماً معروفاً فى القرن السابع ،ولا يتصور مثلاً أن تعقد له محاكمة بالأسكندرية دون أن يدونها المؤرخون المعاصرون للشاذلي وهو معروف لديهم .

إلا أن بعض الكتاب الصوفية استمرأ الكذب ومارس هوايته فى إسناد الكرامات للشاذلي فى الأسكندرية والقاهرة ضد السلطان الأيوبي استمرار لما نسجوه عن بطولات الشاذلي ضد السلطان المغربى فى تونس . وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا حين يظهرون شيخهم طويل الباع فى ميدان الكرامات والتصريف ، فقد قالو إن السلطان المصري – ولم يعينوا له اسماً أو وصفاً – حين جاءته رسالة ابن عبدالبر التى تحذر من الشاذلي قد بادر باعتقال الشاذلي فما كان منه إلا أن مارس مع السلطان المسكين بعض كراماته ( فحركوه فلم يتحرك ولم ينطق ) على حد تعبيرهم إلا حين عفا عنه الشاذلي وحينئذ اعتذر للشاذلي وأقر له بالولاية [26].

 ونقطة الضعف لدى كتاب المناقب الصوفية تتمثل فى غرامهم بتأليف الأساطير وتأليف الكرامات وإسنادها لأشياخهم حتى لو ناقضت الواقع التاريخي أو الديني أو سببت ضرراً للشيخ الذى تؤلف فيه كما هو الحال فى صاحبنا الشاذلي  .فكراماته المزعومة تنافى كتابات المؤرخين المعاصرين له والتى لم يرد فيها إشارة اضطهاد فى تاريخه ، كما أنها – أى الكرامات ـ عموما تناقص الواقع الإسلامي وذلك ما سنتعرف عليه فى الفصل الثانى . ولكن المهم أن كاتب المناقب نفسه يناقض أساطيره حين يقول عن الشاذلي (لما قدم من المغرب الأقصى إلى مصر صار يدعو الخلق إلى الله فتصاغروا وخضع لدعوته أهل المشرق والمغرب )[27]فأين كان ذلك المضطهد المعتقل فى الرواية السابقة ؟ وهو هنا بمجرد قدومه يدعو الخلق فيتصاغرون أمامه على حد قوله . ثم إن الشاذلي يعبر عن وضعه الجديد حين استقر بالإسكندرية وأمن فيها بعد خوف وعز فيها بعد ذل واستراح فيها بعد اضطهاد ...فيقول عن نفسه (لما قدمت إلى مصر قيل لى : يا على ذهبت أيام المحن وأقبلت أياما المنن[28]) ، ومن الأسكندرية كتب لبعض أتباعه فى المغرب يقول (الكتاب إليك من الثغر حرسه الله ونحن فى سوابغ نعم الله نتقلب)[29]ولو حدث اضطهاد للشاذلي فى مصر لما وصف قدومه لها بهذه الصورة الوردية .

وبعد .. فلقد كان للشاذلي الفضل فى اجتذاب عز الدين بن عبد السلام إلى طريقته الصوفية ، وفى هذا نصر كبير للدعوة .وقّدر لعز الدين بن عبد السلام أن يدفع ثمنه غاليا فيما بعد ، وسنعرض لذلك فى أوانه ،إلا أن الشاذلي توفى سنة 656 ، فكان لابد لمخططي الدعوة السرية أن يبحثوا له عن خليفة يقوم بوظيفته .

(جـ)مشاركة الدسوقي :

 عاش عز الدين الصياد طويلا (574-670 ) ولا ريب أنه علم بأن فاطمة بنت الشيخ أبى الفتح الواسطي قد أنجبت شابا يافعا هو إبراهيم الدسوقي (633-676) فكان لابد لإبراهيم أن يأخذ دورا فى الدعوة الجديدة .وقد سبق أن وضحنا أن الشيعة استخدموا (النسب السياسي ) وسيلة لتدعيم الروابط بين الأطراف المشتركين فى الدعوة السرية ، وقد كان والد الدسوقي وهو (عبد العزيز ) من الصوفية المشهورين فى دسوق ممن ينتحلون النسب العلوي ، وإصهاره إلى أبى الفتح الواسطي صاحب الدعوة السرية الشيعية يعنى أنه كان ذا شأن خفى فى الدعوة وإلا ما استحق أن ينال شرف المصاهرة من زعيمها فى الأسكندرية .

 ومع غموض سيرة عبد العزيز الدسوقي – والد إبراهيم -  إلا أن الشاذلي كان يزوره فى نواحي دسوق ،وكان الصلة بينها صوفي شهير يقال له ابن هارون وثيق الصلة بعبد العزيز الدسوقي [30].والشاذلي كان خليفة الواسطي فى الإسكندرية ،والواسطي صهر عبد العزيز الدسوقي.  وقد توفى الشاذلي سنة 656 فتأهب الدسوقى ليحل محله . وغدت بذلك  دسوق – التى لا يعلم بها أحد – حينئذ – مركزا  للاتصالات داخل وخارج مصر مشاركة للبدوي فى طنطا ..ودسوق قريبة من طنطا .

وكان الدسوقي طفلا صغيراً حين مات جده أبو الفتح الواسطى ،وما كان للمدرسة الرفاعية أن تترك  حفيد الواسطي دون رعاية فكان أن تعلم أصول الدعوة على يد شيخين كبيرين من الرفاعيه هما (نجم الدين الأصفهاني الرفاعي) وكان وثيق الصلة بالشاذلي ،(وعز الدين الفاروئي[31]) ،ومن الطبيعى أن تناله رعاية أبيه صهر الواسطى وتلميذه ، يقول عبد القادر الطبري عن الدسوقي (وكان أبوه السيد أبو المجد من أعيان خلفاء الشيخ أبى الفتح الواسطي الأحمدى وقد ألبس خرقته الأحمدية – الرفاعية – لولديه الجليلين : السيد موسى والسيد إبراهيم) [32].

 

ثم كانت للدسوقي صلات بالمدرسة المغربية تمثلت فى علاقته بالشاذلية ، ولأن الدسوقي احتل مكانة الشاذلي فى الدعوة بعد موته – فإن البعض اعتبره امتداد للشاذلي أو شاذلياً ، يقول مرتضى الزبيدي عن الطريقة البرهانية الدسوقية ( البرهانية شعبة كبيرة من الشاذليه )[33].ويقول الكوهن عن الدسوقي وقد جعله ضمن أعيان الشاذلية فى كتابه ( طبقات الشاذلية الكبرى )(سيدى إبراهيم الدسوقي القرشي الحسيني الهاشمي الشاذلي [34]) ويقول النشابي (..فالشاذلي بشيشي – أى نسبة لإبن بشيش – والدسوقي شاذلي) [35].

بل إن بعضهم وصل بين الدسوقى وابن بشيش رغم أن الأخير قتل قبل مولد الدسوقي بأكثر من عشر سنوات ، يقول عن ابن بشيش (ويكفيك فى فضله وجلالة قدره أنه أستاذ الأقطاب الثلاثة سيدى إبراهيم الدسوقي وسيدى أحمد البدوي وسيدي أبي الحسن الشاذلي )[36]وبعضهم بالغ فاعتبر الدسوقي تلميذا للشيخ عبد الرزاق مبعوث أبى مدين فى الإسكندرية والذى أخذ عليه أبو الحجاج الأقصري [37].

والرابط بين الدسوقي وأساطين الدعوة المغربية يعنى أن الدسوقي احتل مكانة الشاذلي فى الدعوة بينما احتل أبو العباس المرسي حلقة الشاذلي فى التصوف فى الإسكندرية.

وقد كانت بين الدسوقي والبدوي مراسلات ولقاءات يقول البدوى فى بعضها للدسوقى (أما سمعت وعلمت أننا أخذنا العهود والمواثيق على بعضنا [38])؟.

وأبرز ما ينم عن التلاقي بينهما هو التشابه فى الأحزاب لدى الشيخين ، فحزب البدوي يقول (لووا عما نووا فعملوا وصموا عما طووا ،ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ..السورة ..اللهم اكفنيهم مما شئت ..)وحزب الدسوقي الكبير يقول (نووا فلووا عما نووا ثم لو واعما نووا فعموا وصموا فوقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ..) . وواضح أن كلاهما يواجه غريما عاتيا . وهذه نبرة غريبة فى الأحزاب الصوفية ..فالأوراد والأحزاب عند الصوفية العاديين تفيض رقة وضعفا . أما أولئك فأصحاب دعوة سرية تواجه خصما حاربوه حتى بالأحزاب ..

ثم إن الطموح السياسي يتنفس شعراً لدى البدوي والدسوقي :فالبدوي يقول : سائر الأرض كلها تحت حكمي              وهى عندى خردل فى فلاء

 ويقول : أنا أحمد البدوي غوث لا خفا                أنا كل شبان البلاد رعيتى[39]) والدسوقى يقول :

وحكمتي فى سائر الأرض كلها          وفى الجن والأشباح والمـــــــــرديه

أنا الحرف لا أٌقــــــــرأ لكل مناظــر          وكل الورى من أمر ربي رعيتي[40]

واللثام الذى اشتهر به الرفاعية والبدوي بحكم نزوحهم من أفريقيا – نسب أيضا للدسوقي مع أنه مصري المولد النشأة .وما كان ذلك إلا متابعة للدعوة وأصحابها . فيقال أن أحد الأمراء دخل على الدسوقى (فوجده ملثما على عادته )[41]،واللثام كان يرمز به للأسرار التى يحتفظ بها صاحب الدعوة كما سنرى فى قصة البدوي ولثامه مع عبد المجيد ..

والدسوقي كانت له أسراره التى يعرف كيف يحافظ عليها ويوصى مريديه بذلك يقول (يا ولد قلبي كن على حذر من الدخلاء والدخيل السوء ، وما للمرأ يا ولدى إلا أن يكون على حذر من جميع البشر ) [42]والشيعة أصحاب التقية والدعوات السرية على حذر دائم من جميع البشر ..والدسوقي أحدهم ولقد وصف بأنه (القطب الكبير المرشد للصواب المنقطع عن الخلق فى السرداب)[43]والانقطاع فى السرادب من صفات الفاطمي المنتظر وصاحبنا (ابن فاطمة بنت أبى الفتح الواسطى[44]وأساس الدعوة للفاطمي المنتظر .

 و(أسرار ) الدسوقى هى أسرار الدعوة ..وقد وقع عليه عبء التراسل بالشفرة مع الأعوان السريين الموزعين داخل وخارج مصر ،وبعض هذه الرسائل كانت تذهب إلى مكة المركز العصبي للدعوة ، ولقد تسترت هذه الرسائل الشفرية تحت ادعاء الدسوقي بأنه يعلم السريانية ، ويتكلم بسائر اللغات ، يقول الشعرانى عنه (وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الوحوش والطير ،وكتب رضى الله عنه إلى بعض مريديه بعد السلام :وإننى أحب الولد وباطني خلى من الحقد والحسد ولا بباطنى شظا ولا حريق لظا ولا جوى من مضى ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا قطب غطا ولا عطل عظا ولا شنب سرى ولا سلب سبا ولا عتب فجا ولا سمد إذ صدا ولا بدع رضا ولا شطب جدا ولا حتف حرا ولا حمش خيش ولا حفص عفص ولا خفص خنت ولا كولد كنس ولا عنس كنس ) ..إلخ .إلى أن يقول (ولا قمداد إنكاد ولا بهداد ولا شهداء ولابد من العيون وما لنا فعل إلا فى الخير والنوال )وغريب أن ينتهى هذا الخطاب الرمزي بقوله (ولا بد من العيون وما لنا فعل إلا فى الخير والنوال )،ويقول الشعراني (وكتب إلى بعض مريديه أيضا :سلام على العرائس المحشورة فى ظل وابل الرحمة وبعد فإن شجرة القلوب إذا هزت فاح منها شذا يغذى الروح فيستنشق من لا عنده زكم فتبدو له أنوار وعلوم مختلفة مانعة محجوبة معلومة لا معلومة معروفة لا معروفة غريبة سهلة شطة فائقة طعم ورائحة وشم ميم محل جميل جهد راب علوب نغط نبوط هوبط سهيط حرموا غميطا غلب عمن عسب غلب عرماد علمود على عروس علماس مسرود قدقد فرسم صباع صبع صبوغ بنوب جهمل جمايد حربوعس ..إلخ ) إلى أن يقول ( تزيط ولا تتكوكع زند حدام هدام سكهول وقد سطرنا لك يا ولدي تحفة سنية ودرة مضية ربانية وإنما تصفح المبهم المغلق المغرب الذى سره مغطى بالرموز ).

ويقول الشعرانى (وكتب رضى الله عنه إلى بعض مريديه أيضا : سلام إن هب الجنوب المفتق أو الصبا المعتق أو الضحى المرونق أو الشمس المتحفة أو الأضحية المعترفة فى الأبرجة المعومقة والمحبرة المحومقة ) ثم يستمر فى هذا المنحى إلى أن يقول (والمربايور والشوشان والشريو ساسع والبرقواشاند تفهم يا ولدى فإن كلام المغرب لا يشاكل المعرب وما ليس من لغة العرب لا يفهمه إلا من له قلب ) ..ويقول الشعرانى (وكتب رضى الله عنه سلاماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسله مع الحجاج : سلام على أمير حى المحيا جميل المعنى سخى المراشف أرخى المعاطف كريم الخلق سنى الصدق عرفوط الوقت وردساني الفهم ثاقب المرحب محبول الرحب قطابه النقل قيدوح النماطة ليدوح البناطة سر سامع الواجب بهديان الوعب بهيسانى  الحداقة سهيرى اللساقة موزالرموز عموز الهوز ..إلخ)[45] 

 ويبدو هناك نوع من الترتيب الحرفى بين الألفاظ المترادفة كقوله:(ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا شطب غطا ) فقد ترادفت الصاد والضاد والطاء .. وأمثال ذلك كثير ،ومن المستحيل أن يفهم المراد من هذه التركيبات فسرها عند المرسل إليه وهو يعلم كيف يفك طلاسمها ويفهم التعليمات والأخبار الواردة  فيها تحت هذه المعميات.وقد احتار الكثيرون فى تفسير هذه الرسائل يقول حسن شمه فى العصر العثمانى (وكنت قد توقفت كثيراً فى هذه الأسماء وطالعت من أجلها كتبا كثيرة من كتب الحرف فلم أعثر عليها [46]). وابن تيمية اعتبرها من كلام الجن [47]..وإذا أدركنا أنها مراسلات سياسية سرية لأرحنا أنفسنا من محاولة فك طلاسمها ، وكم للشيعة من أسرار وألغاز ..

(د) الاستفادة بأتباع الواسطي :

ترك أتباع الواسطي مدينة الإسكندرية للشاذلي بعد موت أستاذهم ، وتوزعوا فى الريف فى المنطقة ما بين الإسكندرية وطنطا ، وتم ذلك بتخطيط محكم وإن أثار بعض الشك للسلطات الأيوبية .

يقول الشعراني فى ترجمة على المليجي (أحد أصحاب سيدى أبى الفتح المذكور آنفا ، كان رضى الله عنه معاصراً لسيدى أحمد البدوى وكان سيدى أحمد رضى الله عنه إذا أرسل سيدى  عبد العال له فى حاجة يقول له :إذا وصلت إلى جمروز فاخلع نعلك فإن هناك خيام المليجي[48])، وواضح فى الترجمة أن هناك تراسلاً مستمراً بين البدوي وعلى المليجي ، وأن البدوي كان يعول كثيرا على هذه الاتصالات بدليل أنه كان يرسل قائد أتباعه (عبد العال ) إليه ، ويوصيه بتعظيم المليجي وخلع نعاله عند خيامه .

 وفى نفس الوقت تحرك البلتاجي تلميذ الواسطي من  الإسكندرية إلى (بلتاج )وقد كان البلتاجي تلميذاً  سابقاً للرفاعى وفد إلى مصر وانضم إلى أبى الفتح الواسطى وبعد موته تحرك إلى بلتاج ثم صار شرطياً عند والى المحلة عاصمة الغربية [49]ليكون عينا للبدوى على أقرب ممثل للسلطة المحلية.

ويذكر عبد الصمد إن البلتاجى قدم للبدوى حين استقر بطنطا ومعه الشيخ القيلبى زميله فى مدرسة أبى الفتح الواسطى وقد أكرمهم فى نفس الوقت الذى عادى فيه الصوفية الآخرين من طنطا [50].

أما  عبد العزيز الدرينى فقد كان مصرياً تتلمذ لأبى الفتح الواسطى , وبعد موت الواسطى انتقل إلى بلدته درين وتجول لصالح الدعوة فى القرى ،يقول عنه الشعراني (وكان مقامه ببلاد الريف من أرض مصر )[51]وكان الدريني على صلة مستمرة بالبلتاجي سالف الذكر فيقول المناوي )[52]إن (الدريني ) دخل المحلة – وفيها (البلتاجي ) ، كما يقول الشعراني فى ترجمة ( الدريني )  (وكان يزور سيدي علياً المليجي كثيرا ) [53]. وهذه الاتصالات كان الدريني يبذلها عن رضى خاطر فى سبيل البدوي وهو يقول فيه [54]:

   يقولون يا عبد العزيز بن أحمد             بمن فى طريق القوم مادمت تقتدي

   فقلت بأستاذي وشيخ مشايــخي             وشيــــــــــــــخ الطــــــــــــريق والحقيقة أحــــمد

وهذه الصلات المستمرة بين أتباع الواسطى أثارت بعض الشكوك، فيروي المناوي أن بعضهم شك فى البلتاجي فى بداية وجوده فى بلتاج فعرض أمره على السلطات ، وأن الدريني – مع استحواذه على بعض الشهرة – قد اعتقل فى المحلة أثناء سيره إلى البلتاجي ، وطبيعى أن تنتهي هذه الأخبار بكرامات للتمويه[55]....

 وهكذا تتجلى لنا بعض ملامح التخطيط السري للدعوة ، فتلامذة أبى الفتح الواسطي تركوا الإسكندرية للشاذلي ، وتوزعوا على مقربة من البدوي وعلى صلة مستمرة فيما بينهم وبينه ، والشاذلي احتل الإسكندرية زعيماً للصوفية فيها  وحارساً للدعوة فى الثغر ونقطة اتصال بين مدرستي المغرب والعراق ..حتى إذا دنت منيته اختير الدسوقي ليحل محله فقام بالاتصالات الشفرية داخل وخارج مصر بين الأتباع والأنصار .

ثم يكون اختيار البدوى بعد تدريب عسكرى فى الحجاز وإعداد شيعي صوفي فى أم عبيدة ، وتختار له طنطا مركزا جديدا بل ويختار له بيت الإقامة بحيث إذا قدم طنطا يجد الأمور ممهدة له . وتم ذلك كله بتخطيط  شارك فيه عز الدين الصياد الرفاعي الذى أقام بمصر سنتين وتركها وترك بها وليداً ، وربما كان يأمل أن يحصل ذلك الوليد على ثمار الدعوة فى المستقبل .                        

 بقى بعد ذلك أن نتابع جهود البدوي فى طنطا وسنقسمها إلى مرحلتين : المرحلة الأولى منذ وصوله طنطا عام 637 إلى تولي الظاهر بيبرس عام 658 والمرحلة الثانية منذ تولى بيبرس إلى موت البدوي عام 675 ولكل من المرحلتين ظروفها الخاصة ..

 


 1]عبد الصمد :الجواهر السنية7

[2]الطبقات الكبرى1-159

[3]عبد الصمد : الجواهر19

[4]عبدالصمد نفس المرجع123

[5]عبدالصمد نفس المرجع123

[6]طبقات الرفاعية،47

[7]نفس المرجع  47 : 48                                                         

[8]نفس المرجع 49: 60

 

[9]وأسمه في طبقات الرفاعية :الشيخ برى، يقال عنه(وللشيخ برى خرقة من سيدنا أحمد بلا واسطة – طبقات الرفاعية 26)وهي إشارة لتميزة بشئ معين عن أقرانه من الرفاعية ،أنظر أيضا النصيحة العلوية للحلبي 25 مخطوط بمكتبة الآزهر

 

[10]نفس المرجع 19 و الطبقات الكبرى للشعرانى 1/159

[11]محلة السياسة ص 11 : عبد الصمد الجواهر 6

[12]تراجم صوفية مخطوط ورقة 32

،[13]معجم البلدان 1906ط 61/6

[14]معجم البلدان 6/ 61 ط 1906 .

[15] نور الدين .البدوى 1369  57 ط

[16]عبد الصمد 40

[17]نفس المرجع 23

[18]نفس المرجع 33،40

[19]الطبقات الصغرى مخطوط 081

[20]طبقات الرفاعية 27

[21] الطبقات الكبرى للشعرانى 2/4

[22] تعطير الأنفاس ورقة 29

[23]نفس المرجع 38 ، 44

[24]نفس المرجع ، تعطير الأنفاس 44:38 النويرى الالمام مخطوط2/ 88:77

[25]تعطير الأنفاس 44:38 النويرى : الالمام مخطوط 2/ 77 : 78

[26] نفس المرجع السابق والصفحة

[27]تعطير الأنفاس مخطوط 63

[28]عن كتاب الشاذلى لعبد الحكيم محمود : 45.

[29]  عن كتاب الشاذلى لعبد الحكيم محمود : 45.

[30] مناقب الوقائية : مخطوط ورقه 16،15                      

[31]طبقات الرفاعية 27

[32]كشف النقاب عن أنساب الاربعة الاقطاب ط1309ص14

[33] طرق الإلباس والتلقين : مخطوط ص32 . المكتبة التيمورية

[34]طبعة 1347 ص79

[35] أسرار الحقيقة لمن يسلك الطريقة ط1921ص28

[36]معاهد التحقيق لابن عفيف الدين .ظ1960ص166

[37] البكرى : تراجم صوفية 87 .مخطوط

[38]طبقات البقاعى . مخطوط ورقه 126ب

[39]اعبد الصمد .الجواهر 95 ، 99

[40]الطبقات الكبرى للشعرانى 1157 :158

[41]الكركى . لسان التعريف مخطوط 43 

[42]الطبقات الكبرى 156

[43]اعقد الجواهر الثمين مخطوط فى المكتبة التيمورية ص 32

 

[44]) حسن شمة : مسرة العينين مخطوط ورقة ب .

[45]) الطبقات الكبرى 1145 ، 146                             

[46]مسرة العينين 73  

[47] مجموعة الرسائل والمسائل 173

[48]الطبقات الكبرى 1176   

[49]المناوى الطبقات الكبرى مخطوط 283 ، 284

[50]عبد الصمد : الجواهر 35 : 36   

[51]الطبقات الكبرى 1176   

[52]المناوى نفس المرجع والصفحة  

[53]الطبقات الكبرى نفس المرجع والصفحة  

[54]عبد الصمد الجواهر 107، 108

[55]المناوى نفس المرجع والصفحة

 

 

ف 1 :خامسا : جهود البدوي فى المرحلة الأولى ( 637- 658 هجرية)

الظروف السياسية فى هذه المرحلة :

1 ـ كانت هذه الفترة صالحة للدعوة حيث كان الحكم الأيوبي يترنح فى مصر والشام بسبب التنافس بين صغار الأيوبيين علاوة على الخطر الصليبي الذى مثلته حملة لويس التاسع سنة 647، والزحف المغولي وما نتج عنه من دخول جنود الدولة الخوارزمية المنهارة  للمنطقة ليزيدوا فى اضطرابها. ولأن الظروف السياسية هى المسرح الحقيقي المؤثر فى الدعوة الشيعية والذى تلعب دورها عليه كان علينا أن نفصل القول فى التيارات السياسية الداخلية والخارجية ال&EcirEcirc;ى واجهت مصر فى تلك الفترة ( 637-658) لنرى كيف استثمرها البدوي فأحسن الاستغلال .

 2ـ     فقبل مجىء البدوي لمصر – وأبان وجود أبى الفتح فى الأسكندرية ، كان السلطان (الكامل) الأيوبي حاكم مصر غارقا فى نزاعه مع أخيه (المعظم)عيسى صاحب دمشق ، وقد حدث أن أخاهم الثالث (الاشرف بن العادل ) واجه ضغطاً من الشرق حيث كان جلال الدين الخوارزمى يهدده فى حران، فاستجار( الأشرف) بأخيه (المعظم) صاحب دمشق فما كان من (المعظم )إلا أن اعتقل أخاه المستجير به وأرغمه على أن يتعهد له بمساعدته فى مجابهة  أخيهما (الكامل) صاحب مصر، إلا أن ( الأشرف) ما كاد يفلت من يد (المعظم) حتى أكد تحالفه مع أخيه ( الكامل ) ضد ( المعظم ) فاضطر ( المعظم )  للخضوع لجلال الدين منكبرتي ليساعده ضد أخويه (الكامل) و (الأشرف) ، وفى المقابل تحالف (الكامل) مع الامبراطور فريديرك الثاني واتفق على إعطائه بيت المقدس سلما- وبيت المقدس تابع ( للمعظم ) .

    وفى الوقت الذى كان فيه جلال الدين منكبرتي ( سلطان ما يعرف الآن بأفغانستان وما حولها فى آسيا الوسطى) يخيف الأيوبيين فى الشام والعراق ومصر كان يواجه من ناحية الشرق ضغط المغول أعدائه وأعداء أبيه ، وقد استطاعوا القضاء النهائي عليه وعلى دولته ، فتفرق الخوارزمية أتباع جلال الدين وجنوده فى الشام فزادوها اضطراباً وأسهموا فى حدة الخلاف بين صغار الأيوبيين المتحكمين فى المنطقة ، واشتهروا بالشدة والبأس .

   ولقد آل ملك دمشق إلى ( الأشرف ) بعد موت (المعظم) وعجز ابنه عن الاحتفاظ بدمشق أمام تحالف عميه (الأشرف والكامل ) ، إلا أن العداء ما لبث أن استحكم بين (الأشرف) فى دمشق و(الكامل) فى مصر .ومنع موت (الأشرف) من نشوب الحرب بينهما ، ثم تولى (الصالح) إسماعيل دمشق سنة 635 فكون حلفا آخر ضد (الكامل) فأسرع (الكامل) وحاصر دمشق وعزل(الصالح) إسماعيل . ثم توفى (الكامل) سنة 635 وقد ترك ولدين (الصالح ) أيوب، وقد كان حاكماً بالفرات ، ومع أنه الأكبر إلا أنه لم يخلف أباه بسبب نفوذ أرملة (الكامل) أم ابنه (العادل الثانى) ، وقد تمكن (الصالح أيوب) بمساعدة الخوارزمية من الاستيلاء على دمشق، فوقع فى نزاع مع أخيه الأصغر (العادل الثاني) سلطان مصر ، واستعان كلاهما بالخوارزمية وأنصار من البيت الأيوبي . وبسبب سوء العلاقة بين (العادل الثاني) ومماليك أبيه  فقد انضموا (للصالح أيوب) واعتقلوا (العادل الثاني ) واستدعوا (الصالح أيوب) فتسلطن فى مصر، ومنع الخوارزمية من الدخول لمصر، واستكثر من شراء المماليك واسكنهم فى مساكن خاصة على النيل فعرفوا بالمماليك البحرية الصالحية.

ويبقى علينا ان نتذكر هذا التسلسل التاريخى الذى أدى الى ظهور المماليك فى سياق التنازع بين صغار( بفتح الصاد ) السلاطين الآيوبيين .

 3 ـ وقد وفد البدوي لمصر عام 637 وهى نفس السنة التى اعتقل فيها (العادل الثانى ) وتولى (الصالح أيوب) ، وفى هذا العام 637 استرد (الصالح إسماعيل ) دمشق، وكان (الصالح أيوب) قد طرده عنها قبلاً ، وقد استاء (الصالح إسماعيل ) من تولى غريمه (الصالح أيوب) سلطنة مصر فتحالف (الصالح إسماعيل) مع الصليبيين ضد (الصالح أيوب) فى نظير أن يعطيهم بيت المقدس ، وأن يرجع مملكة الصليبيين إلى ما كانت عليه قديما ، ولكى يبرهن على صدق نواياه بادر بالتنازل لهم عن بعض القلاع وطبرية وعسقلان وبيت المقدس..أما (الصالح أيوب) فقد تحالف مع (الناصر داود) الأيوبى فى الكرك وتمت المواجهة بين الجانبين ، (الصالح إسماعيل ) والصليبيون فى ناحية و (الصالح أيوب) و( الناصر داود) فى ناحية أخرى تؤيدهم الخوارزمية وهم الذين استطاعوا هزيمة ( الصالح إسماعيل ) وحلفائه الصليبيين ..

  ثم إنشق (الناصر داود) عن (الصالح أيوب) وانضم (للصالح إسماعيل) وتكون حلف جديد بينهما يهدف للإطاحة (بالصالح أيوب) فى مصر فما كان من ( الصالح أيوب) إلا أن طلب التحالف مع الصليبيين ليواجه مؤامرات أقاربه. وكان لدى الصليبيين عرض آخر للتحالف مقدم من ( الصالح إسماعيل ) و(الناصر داود) ، وقد عرض الجانبان على الصليبيين السيطرة التامة على بيت المقدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة ، وكان ذلك عام 641 . وقد اختار الصليبيون بعد تردد التحالف مع ملكى دمشق والأردن ( الصالح إسماعيل والناصر دواد) .

ولم يجد الصالح أيوب أمامه إلا الاستعانة بالخوارزمية وقد استطاعوا تدمير الصليبيين وأعوانهم فى معركة غزة عام 642 ، وتم طرد الصالح إسماعيل من دمشق واقتطعت الجليل والأغوار من (الناصر داود )..

وكان الخوارزمية يطمعون فى أن يسمح لهم ( الصالح أيوب ) بالاستقرار فى مصر كمكافأة على صنيعهم معه إلا أنه رفض خوفاً على ملكه منهم ، فكان أن انقلب الخوارزمية على (الصالح أيوب) وانضم إليهم الصالح اسماعيل طريد دمشق و(الناصر داود ) وحاصروا دمشق إلا أن ( الصالح أيوب) تمكن بالحيلة من تشتيت الخوارزمية وهزيمتهم عام 645 ، وأعاد للدولة الأيوبية وحدتها ( القاهرة-القدس-دمشق).

   إلا أنه ما كاد يستقر فى مصر حتى واجه حملة لويس التاسع 647وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وحين مات ( الصالح أيوب) أخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته فأرسلت تستدعى ابنه ( توران شاه ) ، وتكاتف معها المماليك الصالحية البحرية إلى أن حضر ( توران شاه) وتم القضاء على حملة لويس التاسع .

ولكن (توران شاه) كان على شيمة أسلافه محبي التآمر ، وكان من عادة السلطان الأيوبي الجديد أن يفتتح عهده باضطهاد مماليك أبيه وتنشئة مماليك جدد يحملون إسمه ويدافعون عن حكمه ..وجاء " توران شاه " بنفس العقلية ، ولكن هذا الصنف من المماليك "الصالحية البحرية " قد أحسوا بما صنعوه من بطولات فى المنصورة وما قدموه لتوران شاه من جمائل أثناء غيابه فلم يخنعوا وقتلوه قبل أن يتم مؤامرته ضدهم ..

4ـ وقع المماليك فى حيرة ، فقد تسلطنت شجرة الدر أرملة الصالح أيوب وأم ولدهإلا أن الخيلفة العباسى والرأى العام رفض أن تتولى إمرأة حكم مصر، فاتفق على أن تتزوج شجرة الدر بأحد الكبار من المماليك. وفى هذه الأثناء تركزت زعامة المماليك بين " أيبك " زعيم مماليك القصر و" أقطاي "زعيم البحرية المقاتلة ، وكان " قطز" من أعوان " أيبك" بينما كان "بيبرس" من أعوان " أقطاي ". واحتدم النزاع بين "أقطاى " و"أيبك" وتقرب كلاهما إلى شجرة الدر لتختاره زوجا ، ووقع اختيارها أخيراً على "أيبك" خوفا من عنف "أقطاي" وشراسته . وتسلطن "أيبك " واستمرت "شجرة الدر" تحكم من وراء الستار . ولم يكن "لأقطاي" أن يسكت فأخذ أتباعه يعيثون فى الأرض فساداً ، بينما يخطب إلى نفسه أميرة أيوبية ويهدد العروسين " أيبك وشجرة الدر" بقوته وأطماعه ، وأتفق "أيبك " مع " شجرة الدر" على ضرورة اغتياله ..وتم التنفيذ بسيف "قطز" ، وهرب أعوان "أقطاي" إلى الشام والعراق وكان فى مقدمتهم "بيبرس" .

وما لبث أن دب الجفاء بين (أيبك ) و(شجرة الدر ) وعاد (أيبك ) إلى (أم على ) زوجته القديمة ، واستحكم الخلاف بينهما إلى درجة أن (ايبك ) بعث يخطب لنفسه نفس الأميرة الأيوبية التى خطبها (أقطاي ) قبلا ..وخدعت (شجرة الدر ) (أيبك ) وقتله أتباعها سنة 655.ولكن تولى الأمر أعداء (شجرة الدر ) فولوا (عليا بن أيبك ) برعاية(قطز ) وقتلت (أم على ) غريمتها (شجرة الدر ) .

ثم روع الجميع بالزحف المغولي وتدمير الخلافة العباسية وبغداد سنة 656 وتمهدت الأمور لسلطنة (قطز) 657 . وعمل (قطز ) على توحيد الجبهة المملوكية ضد المغول . فأصدر عفواً عاماً عن جميع المماليك البحرية الهاربين من اتباع ( أقطاى ) وكانوا يسهمون فى المؤامرات الأيوبية ضد السلطنة المملوكية فى مصر ، واستجاب كبارالمماليك البحرية فعادوا لمصر وشاركوا فى حرب المغول ،وكان فى مقدمتهم (بيبرس )الذى تولى قيادة المقدمة واسرع بالهجوم على المغول فى غزة ..وبعد انتصار (قطز ) فى عين جالوت لم يتركه (بيبرس ) ينعم بثمار انتصاره فقتله فى الطريق انتقاما لدوره فى اغتيال (أقطاي ) أستاذه ، وتولى (بيبرس ) السلطنة سنة 658 . 5 ـ وبدأ عهد جديد هو توطيد الدولة المملوكية ، وكان لذلك تاثيره على دعوة البدوي ، فبقدر ما استفاد البدوى وأعوانه من الفتن الأيوبية والمملوكية وحروب الصلبيين والمغول بقدر ما تقلصت حركتهم فى الفترة الثانية فترة التوطيد والاستقرار للحكم المملوكى الجديد.. وهكذا فإن الفترة الأولى التى نحن بصددها شهدت إنهيار الدولة الأيوبية وبداية قيام الدولة المملوكية ، وعادة ما يهتز الاستقرار فى انهيار الدولة الضعيفة وبداية القيام لدولة وليدة على أشلائها . فالظروف متشابهة على نحو ما ألمحنا إليه سريعا فى الظروف السياسية لمصر إبان هذه الفترة .. ومن الطبيعي أن ينجح البدوي فى إستغلال هذا (القلق) السياسى لصالح الدعوة.

سياسة البدوي فى طنطا فى هذه المرحلة:

1ـ      هناك إجماع على أن البدوي وصل طنطا سنة 637 بعد عودته من العراق إلى مكة . يروى عبد الصمد عن البدوي قوله ( فلما دخلت مكة جاءني الناس وسلموا على وهنئوني بالسلامة فأقمت عند الحسن وأخواتي .. فى ألذ عيش ..فلما كانت ليلة من الليالي إذ بهاتف يقول لى فى المنام استيقظ من منامك يا نائم وسبح فى محبة الملك الدائم وسر إلى طندتا فأنك تقيم بها وتعطي وتربي بها أطفالاً يجىء منهم رجال وأى رجال ، فلما أصبحت أخبرت أخي الحسن بما رأيت تلك الليلة فقال لي : يا أحمد إمسك نفسك واكتم سرك حتى يكمل وعدك ويحل أوانك فأنا أخبر منك حتى يعاودك الهاتف ثانيا وثالثا .. فكتمت سرى ، قال الشريف حسن .. بينما كنت نائما ذات ليلة فى شهر رمضان المعظم ، وإذ بأختي فاطمة تنبهني من منامي وتقول: يا ابن والدي اعلم أن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء،وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاماً ولا شراباً ، فقلت لها يا فاطمة والله قرب فراق أخي ، قال سيدي أحمد وإذا بالهاتف عاودني فى المنام وقال : يا أحمد مثل أول مرة ثم عاودني ثلاث مرات وقال: قم يا همام وسر إلى طندتا ولا تشك فى المنام . فلما أصبحت أخبرت أخي حسنا بما رأيت قال لى أخي : قد انتهى الوعد فسر فى هذه الليلة ولا تخف [1])

لقد عاد البدوي من العراق وقد تعلم كيف يبدو مجذوباً ويتستر بالجذب ليخفى شأنه كداعية ، ولقد كان العصر المملوكى يتسامح مع المجاذيب ، وكانت للمجذوب حريته المطلقة فى فعل ما يريد ويتمتع مع ذلك باعتقاد الناس فيه وحدبهم عليه. وعلى ذلك فإن سياسة البدوي لها وجهان : وجه قابل به الناس وهو الجذب والجنون ، ووجه آخر عامل به المريدين وهو الحزم والدهاء ، وهى نفس سياسة الرفاعي التى تعلمها فى أم عبيدة .

سياسة البدوي مع الأجانب:

مرّ بنا أن فاطمة أخت البدوي وصفته بمظاهر الجذب حين تهيأ للسفر لمصر فقالت عنه( قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء ، وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر، وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاماً ولا شراباً ) وقد حافظ البدوي على مظهر المجذوب فدخل به طنطا وأرعب بمنظره النساء فى بيت ركين الدين حين اقتحم البيت فجأة ( .. فبينما هم مجتمعون فى مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم سيدي أحمد البدوي ، فلما دخل عليهم تأملوه فإذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين فصاحت النساء فى وجهه ) [2].

وانتقل البدوي للإقامة على سطح الدار (دار ركين الدين – ابن شحيط) وحرص منذ بدايته على السطح على أن يعلن جنونه على الملأ بأن يصرخ من فوق السطح ليعلم الجميع بجذبته.ويبدو أن صوته كان جهوريا أو مارس هذه العادة بإخلاص زائد فأقلق راحة الناس فى طنطا ، وهم ما تعودوا مجذوبا يدمن الصياح باستمرار وبتوقيت معين ، يبدو ذلك من قول ( الشريف حسن) وهو يتسمع أخبار أخيه البدوي من الحجاج المصريين فى مكة ( قال الشريف حسن: ثم جعلنا نسأل عنه من المسافرين والحجاج والتجار فأعطونا وصفه، فبينما نحن نتحدث بالحرم الشريف وإذا بأقوام قد أقبلوا علينا وسلموا علينا وقالوا يا أشراف عندنا رجل قرشى أقلقنا وأتعبنا من الصياح فى الليل والنهار وما عرفنا هل هو مجنون أو مفتون وما نعرف له مخبراً وهو يقول أنه شريف من أهل مكة [3]).وصار (الصياح) من مستلزمات الجذب عند البدوي ، فيقال فى ترجمته ( وأقام على سطح دار لا يفارقه ليلاً ولا نهار، وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً وكان يكثر من الصياح[4]) .

وإلى جانب ( الصياح) تزين البدوى بزى المجاذيب ، وقد سبق أنه دخل دار ركين الدين وهو " أشعث أغبر ضارب اللثامين"، وحافظ على هذا المظهر فكان ( إذا لبس ثوبا أو عمامة لا يخلعها لغسل ولا غيره حتى تذوب فيبدلونها له بغيرها )[5]. فهم الذين (يبدلونها له) لا هو الذى (يبدلها) .

ثم أصبح لقب المجذوب ضمن ألقاب البدوي الكثيرة فيقال فيه( هو الشيخ الصالح العارف المجذوب [6]) .

ويفتخر البدوى بتلك الصفة – التى لا يفخر بها عاقل إلا لهدف فى نفسه – يقول البدوى عن نفسه [7].        

وقد وصفوني بالجنون جماعة             فقلت لهم بيتا لســـــــــــــــــــــــامعه يحـلو       مجانـين إلا أن سر جنـونـــــــــــــهم            عجيب على أعتابهم يسجد العقل وقد صدق ، فإن العاقل إذا تستر بالجنون لهدف كبير فقد خدع بجنونه المصطنع أكثر العقلاء ، ويلاحظ أن (جذبة) البدوي لم تكن دائمة . أى يبدو مجذوبا إذا شاء وفى الوقت الذى يراه ملائماً وحينئذ يعلو صوته بالصياح أو حسب تعبيرهم ( وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً) . بهذه (الجذبة) التى هى طوع لإرادة صاحبها – تمكن البدوي من العبث بخصومه كيف شاء، وهو يعلم إن للمجذوب حرية كاملة فى التصرف يقرّها له المجتمع المملوكي ، من ذلك ما يروى ( إن الشيخ النحوي كان كثير الإنكار عليه، فراح إلى طندتا هو وجماعة من اصحابه الطلبة فجلسوا تحت حائط السطح الذى هو عليه ، فطلّ عليهم الشيخ أحمد البدوي وبال عليهم ، فقالوا : ما هذا البول على طلبة العلم ؟ فقال : ما يؤكل لحمه فبوله طاهر . رضى الله تعالى عنه ونفعنا به ) [8]اى انهم يعدون تبول البدوي على طلبة العلم مكرمة تعد له ومنقبة تشكر فتحمد لصاحبها.

ويبدو ان البدوي استمرأ هذا الأسلوب وتوسع فيه حتى وصل ببوله إلى المسجد وقت صلاة الجمعة والناس قيام للصلاة حين الأذان ، وذلك ليقنع بعض الأغراب القادمين لطنطا بأنه مجذوب حقاً وصدقاً.. فقد ذكر ابو المحاسن رواية مثبتة معنعنة تصف هذا الحال يقول( قال أحدهم بسنده ، ألزمنى الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي بن البابا بالمسير معه لزيارة الشيخ أحمد البدوي بناحية طندتا ، فوافيناه يوم الجمعة، فإذا به رجل طوال عليه ثوب جوخ غال وعمامته صوف رفيع والناس تأتيه أفواجاً منهم من يقول : يا سيدي خاطرك مع بقري ، ومنهم من يقول زرعي ، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة فنزلنا معه إلى الجامع بطندتا ، وجلسنا فى إنتظار الصلاة فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة وأقيمت الصلاة وضع الشيخ أحمد رأسه فى طوقه بعد ما قام قائماً وكشف عن عورته بحضرة الناس وبال على ثيابه وعلى حصير المسجد واستمر ورأسه فى طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يصل [9]).

فقد سافر لزيارة البدوي أمير مملوكى وتابع له – هو الرواى -  ورأيا أفواج الناس تأتي للبدوي متوسلة به من دون الله ، ثم حان وقت الصلاة للجمعة فنزلا معه للجامع ، وكانت فرصة للبدوي ليقنع زائريه بأن ( جذبته) لا تعرف الحدود أو القيود فانتظر وقت القيام للصلاة وقد تجهز ببوله ففاض به على نفسه والمصلين ..! وحسابه عند ربه .    

لقد أفلح البدوي فى استغلال ( الجذب) سياسياً فخدع به الجميع فسلموا له بحاله، وهو فى نفس الوقت ينظم أمور مملكته السرية خطوة خطوة بترتيب وتنظيم ينم عن دهاء عظيم.

 ومن ذلك موقفه من صوفية (طنطا) وسياسته لاتباعه.

سياسة البدوي مع الصوفية الآخرين فى طنطا :

كان أول خطوة قام بها البدوي هى تطهير (طنطا) من أى نشاط صوفي وجعلها مملكة خالصة له ليأمن على نفسه ما درج عليه الصوفية العاديون من تنافس وتناحر ووقيعة ، وهو يريد تفرغاً لمهمته وهدوءاً لا يبدده إلا صياحه المؤذن بجذبته حين يريد ذلك ..

 ثم إن الشيعة على حذر تام من التسلل إلى صفوفهم عبر التصوف فهم أحرص على أن يكون التصوف فى طنطا من صنع أيديهم حتى يظل بمنأى عن محاولات التسلل والكيد .

ومع الأسف فإن جهود البدوي فى تطهير طنطا من الصوفية الآخرين يشوبها الكثير من التشويش المتعمد ، فالروايات لم تطلعنا إلا على نتيجة هذه الجهود وكيف أنها آتت أكلها فانصاع فريق من الصوفية للقادم الجديد وفريق آخر رحل وفريق قاوم فانهزم فى مكانه.

يقول الشعراني ( كان فى طندتا سيدي الحسن الصائغ الأخنائي وسيدي سالم المغربي ، فلما قرب سيدي أحمد من مصر أول مجيئه من العراق قال سيدي حسن : ما بقى لنا إقامة صاحب البلاد قد جاء، فخرج إلى ناحية أخنا وضريحه بها مشهور إلى الآن ، ومكث سيدي سالم فسلم لسيدي احمد ولم يتعرض له ، فأقامه سيدي أحمد وقبره فى طندتا مشهور . وأنكر عليه بعضهم فسلب وانطفى إسمه وذكره ، ومنهم صاحب الايوان العظيم بطندتا المسمى بوجه القمر ، كان والياً عظيما فثار عنده الحسد ، ولم يسلم الأمر لقدرة الله تعالى فسلب ، وموضعه الآن بطندتا مأوى الكلاب ، ليس فيه رائحة صلاح ولا مدد. وكان الخطباء بطندتا انتصروا له وعملوا له وقتاً – أى مولداً- وأنفقوا عليه أموالاً وبنوا لزاويته مأذنة عظيمة فرفسها سيدى عبد العال برجله فغارت إلى وقتنا هذا[10]) .

وبالتمعن فى النص يظهر لنا أن الصوفية كانوا على ثلاثة أقسام ، قسم يمثله سالم المغربى وهو المبشر بمجىء البدوي والذى جهز إقامته فى دار ركين الدين ومن الطبيعى أن يصير تابعا للبدوي فهم شركاء فى الدعوة .. وقسم آخر يمثله حسن الصائغ الأخنائي وهو من الصوفية ( الكلاسيكين ) سرعان ما سلم بالهزيمة فرحل عن طنطا وعد ذلك من مناقبه بالمقارنة إلى من قاوم فى طنطا وتعب وأتعب ، وأصابته الأساطير فى مقتل حين أنكر على البدوي كالشيخ وجه القمر.

ويبدو ذلك من حديث الشعراني عن " وجه القمر" أنه كان صوفيا عالى الشأن يتمتع بالخطوة عند الجماهير  والفقهاء فأقاموا له ( إيواناً عظيماً ) وعمل له الفقهاء فى طنطا مولداً وزاوية بمئذنة ، ويتمتع أيضا برضى السلطات حتى ليوصف بأنه ( كان والياً عظيماً) . ويكفى ذلك لنتبين النفور بين الجانبين ، وما كان ( لوجه القمر) أن يصمد فى وجه البدوي صاحب الدعوة السرية والاتباع المنتشرين ، ومهما كان (لوجه القمر) من أتباع وإيوان وزاوية ومئذنة فإن ذلك جميعه لن يغني عنه شيئا أمام داهية يصطنع الجذب والجنون وهو يجمع الأتباع ويحكم الخطط، ولو كان البدوي مجرد مجذوب مجنون لما انهزم أمامه صوفية طنطا أحياءاً وأمواتاً.

ويذكر عبد الصمد ( أن سيدي أحمد البدوي لما دخل طندتا أتت المشايخ إليه ونظروا أحواله وسألوا منه الدعاء ، فأتاه الشيخ عبد الحليم المدفون فى ناحية كوم النجار وقال له : شىء لله تعالى ؟ فقال : إن الله تعالى قد جعل فى ذريتك الخير والبركة ، ثم أتاه الشيخ عبد السلام القليبي فقال له : شىء لله ؟ فقال السيد : قد جعل الله تعالى لك الشهرة بالولاية والفلاح إلى يوم القيامة عند الأمراء والملوك وغيرهم . ثم جاء سيدى عبد الله البلتاجي فقال:  شىء لله تعالى ؟ فقال : قد جعل الله تعالى لك كل يوم حاجة تقضى إلى يوم القيامة ثم جاء جماعة من مشايخ الغربية فقالوا : شىء لله تعالى ؟ فقال: عليكم الطمس والخفاء إلى يوم القيامة فلم يشتهر واحد منهم[11].).

وفى هذا النص موقفان متناقضان للبدوي ، فهو مع رفاق الدعوة كريم معطاء كما فعل مع عبد الحليم والقليبي والبلتاجي ، وهم من مدرسة أبى الفتح الواسطي ، ثم نجد البدوي عنيفا مع الصوفية الغرباء مع أن الجميع أتوا إليه من خارج طنطا يطلبون – بزعمهم – المدد . والشأن فى الصوفي العادي أن يرحب بالجميع من الأشياخ طالما أتوا إليه مذعنين منقادين ، أما صاحبنا صاحب الدعوة السرية فلا يأمن إلا لمن يثق فيه أو يربيه على يديه وينشئه على طريقته وسياسته .

سياسة البدوي لأتباعه:

فى الدعوات الصوفية الشيعية السرية يتدرج المريد إلى درجات وتختلف السياسة معه فى كل درجة يعلوها ، وقد مر بنا أن ابن مرزوق القرشي فى العصر الفاطمي رفض أن يبوح بأسراره كلها للأربعة الكبار من أتباعه[12]، فكلما حظى المريد بدرجة حظى معها بأسرار ومسئولية ثم هو فى نهاية الأمر لن يصل إلى جميع الأسرار التى يضمها الشيخ الأكبر فى جوانح صدره . وقد كان الرفاعي يتحرز فى حديثه مع مريديه الأقربين ( فما مزح ولا مازحه احد وما كان يتكلم بغير سبب [13]).

وعلى هذا النسق جرت سياسة البدوي مع أخلص مريديه ، وقد استخلصهم من اتباعه الكثيرين الذين اعتقدوا فيه كمجرد شيخ صوفي مجذوب ، يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق عن البدوي ( كان من دهائه لا يقابل رجلين معا بل كان يقابل كل رجل على حده حتى اكتمل عدد تلاميذه أربعين ، وهم السطوحية أى الذين تلقوا العهد على يده على سطح دار ابن شحيط . وانتشر هؤلاء الأربعون فى انحاء الديار المصرية يبشرون بتعاليم شيخهم احمد البدوي . وهنا اختصر المقال فأؤكد انه لم تكن ثمة دعاية لغير السياسة تحت ستار الدين ، ولم يكن اصحاب البدوى من الغفلة بحيث لا يعلمون حقيقة نياته [14]).

وأقول إن دهاء البدوي فى مقابلته لكل واحد منهم على حدة جعله يحكم على كل منهم بالحكم الصائب ويعطيه رتبته بين أقرانه وبالتالي درجته فى معرفة بعض الأسرار وتحمل المسئولية فى المكان الذى يتحدد له سلفاً.

ويتضح من بعض الإشارات أن البدوي كان عظيم التأثير على أتباعه لا يمكنهم مخالفته ، يقول فيه المناوي ( كان إذا أمر أحداً من أصحابه بالإقامة فى مكان لا يمكنه مخالفته) [15]ويقول الخفاجي ( كان عبد العال يأتى للبدوي بالذى يبول فى ثيايه فينظر إلى ذلك الشخص نظرة واحدة فيملؤه مدداً ، ثم يقول لعبد العال إرسله إلى البلاد الفلانية فيكون بها مقامه إلى أن يموت [16]) ويقول الحلبى ( كان عبد العال يأتيه بالرجل يبول فى ثيابه فينظر إليه فيملؤه مددا ويبعثه إلى إحدى النواحي[17]) ويقول الشعراني  (وكان سيدى عبدالعال يأتى إليه الرجل أو الطفل فيطاطي من السطوح فينظر إليه نظرة واحدة فيملؤه مدداً ويقول لعبدالعال إذهب به إلى بلد كذا أو موضع كذا فكانوا يسمونه أصحاب السطح )[18].

ومن الطبيعيي أن تصور كتب المناقب قوة الشخصية لدى البدوي وتأثيره فى أتباعه بأن نظرة واحدة منه للمريد تكفي لقلب حياته رأساً على عقب فيصير أطوع للبدوي من بنانه .. وقبلا قالوا عن الرفاعى ( وإذا استدعى أحدا يمشي إليه الأمر فكان يتقيد ذلك الواحد بالشيخ من ساعته[19]).

وكان البدوي إذا شك فى بعض أتباعه يسارع بالتخلص منه بسهولة لتصبح كرامة يتناقلها الأتباع فيما بعد كما حدث فى كائنة عبدالمجيد .

واقعة عبدالمجيد:

وعبدالمجيد هذا كان من أوائل السطوحية وشقيقاً لعبد العال زعيم السطوحية ، يقول فيه عبدالصمد ( نشأ هو وأخوه فى ناحية فيشا المنارة.. وأما الشيخ عبدالمجيد فكان يتردد على سيدى أحمد البدوي مدة طويلة وتأدب بآدابه وعرف إشارته ، وكان لا ينام الليل تبعا لسيدي أحمد البدوي ، فاشتاق يوماً إلى رؤية وجه سيدى البدوي ، وكان سيدى أحمد دائما متلثما بلثامين، لا ترى الناس منه سوى عينيه. فقال له عبدالمجيد : يا سيدي أرنى وجهك انظر إليه، فقال له : يا عبدالمجيد كل نظرة برجل .! فقال: رضيت .! فكشف له سيدي أحمد اللثامين ، فرآه فخر ميتا..! ) [20].

واللثام ينبىء عن الأسرار التى يحتفظ بها البدوي كداعية سرّى ، له أسراره الخاصة التى لا يعلمها غيره من أتباعه.وقد تميز البدوى بلثامين عن غيره ممن تلثم بلثام واحد كأبي العباس الملثم ومنصور البطائحي الملثم وغيرهما.   وتلثم البدوي بلثامين دليل على عظم الأسرار التى يسترها ، وقد صاغ أتباع البدوي المتأخرون فى القرن العاشر سيرته فى صورة رمزية أقرب للخيال منها للحقيقة ، ثم جعلوا من اللثام رمزا لأسراره التى دفنت معه ، وقالوا إن اللثام كان يخفي عن الناس وجهه مع أن وجه البدوى كان معروفاً وصفه الشعراني بقوله ( كان كبير الوجه أكحل العينين قمحي اللون، وكان فى وجهه ثلاث نقط من أثر جدري فى خده الأيمن واحدة وفى الأيسر ثنتان ، أقنى الأنف ، على أنفه شامتان ، من كل ناحية شامة .. إلخ ) [21].

وصاغوا مقتل عبد المجيد الغامض بأنه صعق حين كشف البدوي له اللثامين فرأى وجهه الحقيقى ، وإذا عرفنا أن وجه البدوى كان معروفاً مألوفاً موصوفاً تيقنا أن المقصود باللثام هو السر الذى يخيفه البدوي وقد اطلع عبدالمجيد على بعضه ورأى البدوي فى تصرفاته مالا يطمئن إليه ، وإذا أدركنا أن الاطلاع على السر مسئولية عظيمة يتحملها المريد عرفنا أن الموت جزاء عادى للمريد إذا قصر فى حمل المسئولية أو ظهر منه ما ينبىء عن الشك فيه .

وقد تميز عبدالمجيد عن غيره من أوائل السطوحين بالتردد على البدوي كثيراً أثناء وقوفه على السطح وبأنه:( صحب سيدي أحمد البدوي مدة طويلة وتأدب بآدابه وعرف إشاراته وكان لا ينام الليل تبعاً لسيدي أحمد البدوي ) ، فهذا التلازم على السطح ليل نهار ، وتلك الصحبة الطويلة والمعرفة بآدابه وإشاراته ورموزه كل ذلك ينبىء عن أن عبدالمجيد عرف شيئا لا يسمح البدوي لأحد أن يعرفه أو خشى البدوي من طموحه لمعرفة المزيد أو شك فى نياته أو طموحه ، وكان أن تخلص منه بالقتل ، وتحولت المؤامرة إلى أسطورة حبكت على مثال قصة موسى عليه السلام حين طلب من الله تعالى أن ينظر إليه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً.. الأعراف143.

ويلاحظ أن عبدالعال شقيق عبدالمجيد – كان شديد الصرامة مع الأتباع ومع ذلك فلم يظهر منه ما يفيد احتجاجاً على نهاية أخيه الغامضة، مما ينبىء عن قوة الأدلة فى إتهام عبدالمجيد ..

ويعزز ذلك أن عبد العال كان يتولى عن البدوي وبإشاراته تسيير البعوث إلى الأقاليم والبلاد . وقد ذكر أن عبدالمجيد كان مبعوثاً إلى فيشا مع محمد بطالة فى رواية الخفاجى [22]، بينما ذكر عبدالصمد [23]إن المبعوث إلى فيشا كان محمد بطاله وحده  ، ومعنى ذلك أن عبدالمجيد قد لقى حتفه فى بعثته فى فيشا مع محمد بطاله ، الذى يعتقد –على هذا – أن له – أى بطاله – يدا فى الدس على عبدالمجيد عند عبد العال والبدوي مما أدى إلى مقتله بموافقة عبد العال أخيه ، وانفرد بطاله بعد عبدالمجيد بالنيابة فى فيشا واستمر منفردا فى نيابته حتى ذكره عبدالصمد كالمبعوث الوحيد فى فيشا.

ولأن فيشا موطن عبدالمجيد وعبدالعال فلابد أن تكثر الأقاويل عن عبدالمجيد فى نهايته الغامضة ، لذا ذكرت بعض الروايات [24]التى تؤخر موت عبدالمجيد إلى ما بعد موت البدوى لعلها تنفى الأولى وترفع الشك ، ومع ذلك تبقى نهاية عبدالمجيد الغامضة دليلاً على دهاء البدوي فى دعوته السرية.

بعوث البدوي :

سار على طريقة الرفاعي فى إرسال البعوث إلى القاهرة والمدن الرئيسية داخل مصر وخارجها ، وقد أوردت كتب المناقب ثبتا ببعوث البدوي ، فقد أرسل البدوي الشيخ قمر الدين إلى نفيا ، والشيخ وهيب إلى برشوم ، والشيخ يوسف الإنبابي إلى إنبابه والمعلوف إلى القليوبية ورمضان الأشعث إلى منف وعمر الشناوى إلى شنوى ، وابو جنينه أرسل إلى بركة القرع بمصر والشيخ خلف إلى عموم القاهرة ومصر والشيخ يوسف البرلسي إلى البرلس ، والشيخ على البعلبكي إلى بعلبك والشيخ سعدون إلى بلبيس وخليل الشامي إلى الشام ، وخلف الحبشى إلى منية حبيش ناحية نفيا وعلى الكيرواني إلى اليمن وابن علوان إلى تعز والشيخ عوسج إلى زبيد وسعد التكروري إلى حوران والشيخ نعمة إلى صفد وعبدالله اليوناني إلى بعلبك وعز الدين الموصلي إلى الموصل ومحمد بطاله إلى فيشه المنارة واحمد الأباريقي إلى روضة المقياس والشيخ بشير إلى مكة والشيخ بشير المدفون بدرب السد إلى مصر..إلخ ( وهؤلاء جميعهم أصحاب السطح [25]) وهم أربعون ..

ونضع بعض الملاحظات على بعوث البدوي لنتبين منها سياسته:

  • إن أولئك المبعوثين كانوا دائمين، يظل أحدهم فى البلد الذى أرسل إليها حتى يموت ، فكان يقول لعبدالعال ( إرسله إلى البلد الفلانية فيكون بها مقامه إلى أن يموت[26]) وهى نفس السياسة التى سارت عليها الدعوة الشيعية ، والرفاعي أبرز من طبق ذلك على نفسه وأتباعه ، والبدوي أيضا طبقها على نفسه فأقام بطنطا إلى أن مات ، وأقام أتباعه بالبلاد التى أرسلوا إليها حتى اكتسبوا لقب البلد التى يعيشون فيها ونسبوا إليها مثل يوسف الإنبابي فى إنبابة وعمر الشناوى فى شنوى ويوسف البرلسى فى البرلس وعلى البعلبكى فى بعلبك ، وهكذا .

ومعنى هذا أن المبعوث الصوفى كان يهب حياته كلها فى سبيل الهدف الذى يعمل الشيعة له على مهل، ثم إن وجود المبعوث الصوفي فى  بلد معين طول حياته يزيد فى أتباعه ونفوذه وذلك كسب للدعوة.

  • لم يقتصر الدعاة على تغطية مصر وحدها بل وجه بعضهم للشام مثل سعد التكرورى فى حوران والشيخ نعمة فى صفد وعبد الله اليوناني فى بعلبك وعز الدين الموصلي فى الموصل والكيرواني وابن علوان وعوسج فى اليمن وبشير فى مكة.

وفى هذا دليل على تشعب الدعوة ودقة الاتصال فيما بين فروعها فى نطاق مصر والشام والحجاز واليمن ، وفيها دليل على دهاء البدوي ذلك الذى يتستر بالجنون وفى نفس الوقت يحدد المكان مسبقاً للداعية من لدنه ويرسله إليها فلا يستطيع مخالفته، ثم يزرع مصر وخارجها بدعاته.

  • ثم هناك دقة فى التنظيم ونوع من توزيع المهام نلمحه فى إيفاد أكثر من مبعوث لقطر بعينه، ففى الشام أرسل علياً البعلبكى وخليلاً الشامى ونعمه الصفدي وعبد الله اليوناني البعلبكي وعز الدين الموصلي ، وقد توزع أولئك فى المدن الرئيسية فى الشام .. ولا ريب أن أحدهم تزعم الباقين ، وأظنه خليل الشامى لما يبدو من صلته بنائب الشام فى عهده كما تشير إلى ذلك كتب المناقب[27].

وفى اليمن أرسل ابن علوان إلى تعز وعوسج إلى زبيد ، ويبدو أن رأسهم فيها كان علياً الكيرواني وقد أرسل لليمن كلها دون تعيين ببلد بعينه .

وفى القاهرة ومصر ( أى القاهرة الكبرى الآن بضواحيها ) توزع أتباع البدوى من السطوحية داخلها وحولها ، فالشيخ شعيب بالقرب من باب البحر خارج السور وبشير الحبشي بدرب البيدي وعماد الدين قرب بركة الناصرية والأباريقي فى الروضة – المقياس- وأبو جنينه بالقرب من بركة القرع  ويوسف الإنبابي فى إنبابه ، ورأسهم جميعا كان الشيخ خلف ، قال فيه عبد الصمد ( كان سيدي أحمد يقول له يا خلف أنت خليفتنا فى مصر ، وكان لا يضع جنبه الأرض ليلاًولا نهاراً[28]).

  • وواضح أنه أمر قد أعد قبل مجىء البدوي بذكاء وحذر . وإلا فبما نفسر توافد الدعاة للبدوي فى قرية مجهولة هى( طنتدا) وقد أتوا إليه من الشام ومكة واليمن وأصبحوا من أوائل دعاته من أصحاب السطح وفى بداية عهده؟؟ العقل يؤكد وجود اتفاق مسبق وتنسيق على مستوى عال من الدقة ، والمصادر الصوفية تلمح إلى ذلك فتقول عن عوسج اليمني ( هو من أصحاب السطح ، وكان ورد على مصر فزار سيدي أحمد بطنتدا وهو على السطح فأشارعليه بالرجوع إلى زبيد وقال: أقم هناك تذكر من يزور ليلي وما بقى بيننا اجتماع [29]) .

ويقول عن عز الدين الموصلي  (وكان أصله نائبا فى طرابلس فهاجر إلى سيدي أحمد لما كان بالعراق فصحبه وخرج عن الدنيا وكان من أوائل أصحاب سيدى أحمد ، مات بالموصل [30])  ومعنى ذلك أن البدوي فى رحلته للعراق لم ينشغل بفاطمة بنت بري كما تدعي كتب المناقب وإنما كان على اتصال بالدعاة استمر بعد عودته من العراق إلى مكة ثم بعد وصوله إلى طنطا فوفد إليه بعضهم وصار من أهل السطح ثم عاد لبلاده مبعوثا ..

ومن أولئك كان أحمد بن علوان اليمني ، ويقول عنه عبد الصمد ( من أصحاب سيدي أحمد بمكة أوائل جذبه قبل خروجه إلى بلاد العراق[31]) ويقول عنه صاحب طبقات الرفاعية ( أحمد ابن علوان أخذ عن السيد البدوي وعن السيد أحمد الصياد ، ولكل صلة [32]) أى أن ابن علوان كان من مدرسة عز الدين الصياد بمكة مع البدوي ، وحين هاجر البدوي إلى طنطا لحق به ابن علوان تنفيذاً لأوامر عز الدين الصياد الذى كان يمسك بالخيوط كلها فى يده فأرسله البدوي مبعوثاً للدعوة فى تعز.

5ـ وكان البدوي على اتصال مستمر بأولئك الدعاة المقيمين طول حياتهم فى تلك الجهات .. وإلى جانب مناسبة الحج حيث يتم اللقاء بدون رقيب كانت للبدوي وسائله فى الاتصال المستمر بأتباعه الموزعين فى مصر.. من ذلك أنه كلف الشيخ علياً ( البريدى) بمهمة الاتصال كما يدل على ذلك  لقبه ، ولم يرد فى ترجمته إلا ما يؤكد أنه ظل إلى جانب البدوي فى طنطا طوع أمره حتى دفن فى مقابله [33].

ثم كان للبدوي عيونه على أصحابه المبعوثين يأتونه بأخبارهم ويتعرف على خباياهم وإذا نمى إليه شك فى أحدهم بادر بعزله كما فعل مع يوسف الإنبابى بوشاية الشيخ أبى طرطور .. يقول الشعراني فى ترجمة أبى طرطور أن البدوي أقامه(تجاه إنبابه فى البرية ) أى فى مقابل إنبابه فيما يلى الصحراء ، ويقول عن يوسف الإنبابي فى نفس الصفحة ( فأما سيدي يوسف فاقبلت عليه الأمراء والأكابر من أهل مصر وصار سماطه فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء فقال الشيخ أبو طرطور يوما لأصحابه اذهبوا بنا إلى أخينا يوسف ننظر حاله ، فمضوا إليه فقال لهم : كلوا من هذه الماوردية واغسلوا الغش الذى فى بطونكم من العدس والبسلة لسيدى أحمد، فغضب الشيخ أبو طرطور من ذلك الكلام وقال ما هو إلا كذا يا يوسف فقال: هذه مباسطة فقال أبو طرطور : ما هو إلا محاربة بالسهام ، فمضى أبو طرطور إلى سيدي عبد العال وأخبره بالخبر فقال لا تتشوش يا أبو طرطور نزعنا ما كان معه وأطفأنا اسمه وجعلنا الاسم لولده اسماعيل ، فمن ذلك اليوم انطفأ اسم سيدى يوسف إلى يومنا هذا وأجرى الله على يدى سيدى اسماعيل الكرامات وكلمته البهائم . وأنكر عليه شخص من علماء المالكية وأفتى بتعزيزه [34]).

وتحاول رواية الشعراني أن تموه وتوحي بأن عزل يوسف الإنبابي كان لمجرد كلمة قالها مباسطة حول الطعام ، ولكن ما يرد فى ثناياها يثبت أن الأمر أخطر بكثير من مجرد كلمة قيلت ، أنه أمر يختص بالولاء ، الولاء للبدوي ، ويلاحظ أن يوسف الإنبابى كما يقول الشعراني ( اقبلت عليه الأمراء والأكابر من أهل مصر وصار سماطه فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء ) وهذا الوضع الجديد أثار انتباه أبى طرطور القائم فى اتجاهه من الناحية الأخرى فقال لأصحابه ( اذهبوا بنا إلى أخينا يوسف ننظر حاله) ونظر أبو طرطور على الطبيعة فلم يجد إلا ولاء مفقوداً فسعى لعبدالعال- القائد العام لقوات البدوى – فأصدر أمره بعزل يوسف الإنبابي وتولية ابنه مكانه ، ولم تغن عن يوسف جموعه وأتباعه من الأمراء والأكابر ، وما كان له أن يحتج فإبنه مخلص للبدوي ولا يستطيع أن يفعل ما يضر به، وليس غريبا بعد ذلك أن يختلف الحال مع اسماعيل الإنبابي بالمقارنة بأبيه فبينما توافد الأمراء والأكابر على أبيه يوسف فأن حظه – وهو المخلص للبدوي – أن أنكر عليه عالم مالكي وأفتى بتعزيره وتقوم الكرامات – كالعهد بها – بمعاقبة الفقيه المالكي والتشويش على اتهام إسماعيل الإنبابي ، ثم أن اختيار اسماعيل بعد عزل أبيه يدل على سابق صلة وطيدة بين اسماعيل وأساطين الدعوة فى طنطا جعلتهم يتأكدون من ولائه الزائد ويعينونه مكان أبيه ، ورضى الابن بهذا الوضع دليل على عمق تلك الصلة برغم أنف أبيه.

6ـ وكما لوحظ فى ترجمة اسماعيل الإنبابي المخلص للبدوي فإن اضطهاد السلطات الحاكمة لمبعوثى البدوي كان السمة الظاهرة فى تراجمهم – وتقوم الكرامات بالانتقام منهم على صفحات كتب المناقب ، وتفعل كتابة ما كان أتباع البدوي يتمنونه فى أحلام اليقظة ولا يستطيعون ، وغالبا ما يوصف الحكام بصفات الظلم ويقوم أصحابنا بمعاقبتهم إذا ما تعرضوا لصاحب الترجمة أو لأتباعه.

من ذلك ما ورد فى ترجمة الشيخ وهيب المبعوث إلى برشوم قليوبية يقال فيه (وله كرامات كثيرة وإذ وقع أن أحداً من الظلمة أو الأعداء أراد أن يكبس البلد تأتى الناس بأمتعتهم وحلى النساء والأموال فيضعونها فى قبته فلا يقدر أحد أن يدخلها من الظلمة وإن أراد أن يدخلها يبست أعضاؤه ) [35].

وكان رمضان الأشعث المدفون فى منف يرسل عكازه إلى الكاشف مع المظلوم فيقضى حاجته، فردّ الكاشف شفاعته مرة فطلعت له غدة فى رقبته فمات فى الحال[36] ، ومثله الشيخ الشيشيني الذى نفخ فى الكاشف فقلبه فى الهواء [37]، وكان كاشف بلبيس يرتعد فرقاً من الشيخ سعدون مبعوث البدوي فيها [38]وكانت للشيخ خليل الشامي كرامات كثيرة مع نائب الشام جعلته ينجذب ويتبعه تاركا الإمارة [39]، وغير ذلك [40]

7ـ وكان من أصحاب البدوي السطوحيين يدققون فى اختيار المريدين متابعة منهم لشيخهم ، وتلمح إلى ذلك أقوال الشعراني فى الشيخ عبدالوهاب الجوهري المدفون بناحية الجوهرية ،"وكان من أجل أصحاب البدوي" ، (وكان يأخذ العهد على المريدين .. وكان كل من أراد أن يأخذ العهد يقول له : خذ هذا الوتد ودقه فى الحائط داخل الخلوة فان ثبت فى الحائط أخذ العهد وإن خار ولم يثبت قال له : اذهب إلى حال سبيلك [41]. هذا وإلى جانب المبعوثين ابقى البدوي الى جانبه طائفة من الأتباع اختص كل منهم بوظيفة معينة اكتسب لقبها مثل الشيخ على البريدي رسول البدوي إلى بعوثه واصحابه ، والشيخ عبدالعظيم الراعي (كان يرعى بهائم سيدى احمد وغنمه[42]) و(الشيخ محمد الفران الذى كان يخبز لسيدى احمد [43])و(محمد الكناس شيخ الكناسية الذين يكنسون المقام كل سنة فى المولد وكان سيدى احمد يحبه محبة شديدة[44]) ومعنى ذلك ان البدوي الذى جاء طنطا منذ قليل لا يملك شيئا أصبح يتحكم فى مملكة ثرية بقطعان الماشية والأغنام وتحوز كثيرا من الدور والزوايا للواردين من الضيفان ويقوم على رعاية هذه المملكة ثلاثة من السطوحية هم عبدالعظيم الراعي ومحمد الكناس ومحمد الفران .

    ثم هى مملكة غنية بقطيع من الأتباع الواردين لطنطا كل منهم يتوسل بالبدوي ليرعى ولده أو ماشيته أويبارك زرعه .. ثم مملكة سرية بأتباع منتشرين فى المنطقة داخل وخارج مصر موزعين بانتظام دقيق والاتصال بينهم مستمر بمركز الدعوة السرى فى طنطا .. ويقوم على إدارة هذه المملكة السرية والعلنية عبدالعال اليد اليمنى للبدوي وخليفته الحازم الصارم ويعاونه (وزراء) اختص كل منهم بوظيفة محددة كالبريدى والراعى والكناس والفران ...

 تلكم هى مملكة البدوي ، ذلك المتستر بالجنون والجذب والصياح والتبول على الناس جهاراً ..

   بقى ان نقول ان مملكة البدوي كانت على اتصال مستمر بأعوانه وشركائه من المدرسة الواسطية ، ومرّ بنا أن البدوى كان يرسل زعيم أتباعه عبدالعال إلى المليجي، وكان القليبي والبلتاجي يزوران البدوي فى طنطا ، كما كان الدريني على اتصال مستمر بهم وبالبدوي بحكم مقامه بالريف وتنقله فى البلاد .

 ثم كانت للبدوي اتصلاته بأخيه الحسن فى مكة ، وقد ذكرنا أن الشيخ بشير كان مبعوث البدوى الدائم فى مكة ، وقد ورد فى الجواهر السنية لعبدالصمد أن الحسن كان يتسمع اخبار البدوي فى العام الأول لرحيله إلى طنطا وأن بعض الحجاج من طنطا قد أتوا إليه وعرفوه بأخيه وصياحه المزعج ،  وفى الجواهر السنية اتصالات غامضة بين الحسن وأخيه البدوي ثم بين البدوى وابن أخيه الحسن  بعد موت الحسن وتتخلل تلك الاتصالات دعاوى الكرامات وطي الأرض فى خطوات [45].. والمهم إن الإتصال بين البدوي ومكة المركز الرئيسى للدعوة لم ينقطع وإنما تجدد بتجدد الحج كل عام ، وكان أولو الأمر فى مكة على علم بكل تحركات البدوى وخططه .

البدوي وانهيار الأيوبيين :

ظل البدوى مقيما على السطح اثنتى عشرة سنة يقوم خلالها بعملين متناقضين الأول :يوجه إذاعة مستمرة  من الصياح والصراخ والموسيقى المزعجة ليقنع الناس بجذبته وجنونه ، وفى نفس الوقت يسير البعوث الدائمة ويحكم الخطط للدعوة ويعاونه عبدالعال فى التنفيذ .. يقول الشعرانى ( فلم يزل  سيدي أحمد على السطوح مدة اثنتى عشرة سنة وكان سيدى عبدالعال يأتى اليه بالرجل أو الطفل فيطاطي رأسه من السطوح فينظر اليه نظرة واحدة فيملأه مددا ويقول لعبدالعال : اذهب به الى بلد كذا أو موضع كذا فكانوا يسمونه اصحاب السطح  [46]).

وبعد اثنتى عشرة سنة نزل البدوى من على السطح وسكتت الأذاعة المحلية فى طنطا عن الصراخ والصياح..فما الذى حدا بالبدوى لقطع مرحلة السطح ؟؟..

تسكت المصادر الصوفية عن رصد تحركات البدوى بعد فترة السطح ..

ولا يجد المؤرخ أمامه من سبيل إلا تلمس وقائع التاريخ ليربط بين الحوادث ويكمل النقص ليعلل انتهاء فترة السطح وبداية مرحلة جديدة فى الدعوة – لا ندرى مع الأسف الشديد – حقيقة الجهد المبذول فيها ..

نقول : ربما أنهى البدوى خطته كاملة فأتم زرع الدعاة فى مصر وخارجها وأتم سيطرته على طنطا وأصبح أعوانه متحكمين فيها يرصدون كل غريب ويتشممون كل خبر .. وإذن فلا داعى للادعاء بالجنون جذبا وصياحا ليقتنع من فى طنطا ، وصار عليه أن يتجول فى مملكته بحرية ينتظر الأخبار ويرسل الرسل ويحكم الخطط ويقابل الأتباع فى نفس الوقت الذى حافظ فيه على مظهر التصوف والجذب فى مقابلته لقطيع البشر الذى يفد الى طنطا متبركا متوسلا..    

ويؤيد ذلك أن طنطا أصبحت مأوى لمريدى البدوى من جميع الأنحاء حتى من القاهرة كما ورد فى النص الذى اوردناه عن الأمير جنكلي بن البابا الذى زار البدوي وفوجئ به يتبول فى المسجد حين الصلاة للجمعة ، ويؤيد ذلك أن مملكة البدوي أصبحت تضم متخصصين من بين السطوحية فى التراسل ورعى البهائم وإعداد الطعام والكنس والتنظيف .

ولكن انتهاء فترة السطح فجأة بعد اثنتى عشرة سنة بالتمام لا يكفى فى تعليلها أن الدعوة انتشرت فى طنطا وخارجها , فالشأن فى الدعوة ان تبدأ فى الازدهار التدريجي بعد سنوات قلائل وإذا بدأت فى النمو فنموها مضطرد طالما تسير وفق مخطط متكامل ناجح وحينئذ يصبح من الجائز أن يستمر البدوي على السطح أو ينزل إلى السفح دون تعيين بمدة .    فالمنطق يرجح أن يكون هناك حدث ما شجع البدوي على النزول من على سطحه ومباشرة الأمر بنفسه ، ولأن المصادر الصوفية لا تسعفنا بجهود البدوي بعيد فترة السطح فإننا نلجأ لمصادر التاريخ لتشفى الغليل .   

لقد دخل البدوي طنطا سنة 637 فاعتلى السطح وظل يصرخ ويخطط اثنتى عشرة سنة ثم انقطع الصراخ فجأة سنة 649 وبدأ عهد جديد من التخطيط فى هدوء ودون ضجيج أو صريخ .   والتاريخ يقول أن المدة ما بين 648 :649 شهدت أحداثاً هائلة من تاريخ مصر والمنطقة .. فقد شهدت هذه الفترة بدأ الحملة الصليبية التى قادها القديس لويس التاسع واستولى فيها على دمياط ثم زحف جنوباً حتى وصل الى البحر الصغير وزحف السلطان الأيوبي الصالح أيوب من القاهرة الى موقع مدينة المنصورة – وأشرف على مواجهة الحملة الصليبية .    

وفى خضم المناوشات بين الجانبين مات الصالح ايوب – وكان يعانى من مرض الصدر – فتولت محظيته شجرة الدر تدبير الأمور وبعثت فى طلب ولي العهد توران شاه واستمر القتال ونجح المماليك السلطانية فى الإجهاز على هجوم الفرنجة على المنصورة وتابعوا الانتصار وأغرقوا الأعداء فى الوحل والفيضان وتم أسر الجيش الصليبي وقائده لويس ، وكان توران شاه قد جاء فتولى الإجهاز على بقية الحملة الصليبية وشارك فى انتزاع النصر مع المماليك البحرية ، إلا انه تآمر على زوجة أبيه فأسرع المماليك بقتله وتم ذلك سنة 647 وتولت الحكم شجرة الدر كأول سلطانة فى التاريخ الإسلامي ، وآخر سلطانة أيضاً واحتج الخليفة العباسى على أن تتولى الأمر فى مصر امرأة وبعث يتندر بأولي الأمر يقول إذا خلت مصر من الرجال فإنه على استعداد أن يبعث برجل ليحكم.

ولم يكن البدوى ببعيد عن مجريات الأحداث فالمنصورة جد قريبة من طنطا .. وجواسيس البدوي فى كل صقع .. والبدوى (ابو الفتيان )  و(أبو الرجال ) وجد الفرصة سانحة ، ولعله نزل من السطح  وقد أحس بالعار من سخرية الخليفة العباسي وبقولته بأن مصر خلت من الرجال طالما تحكمت فيهم إمرأة ، وقد رأى أن الفرصة سانحة فأتباعه منتشرون والسلطة فى اضطراب بعد سقوط الدولة الأيوبية وتحكم المماليك فى الأمر بزعامة شجرة الدر... وفى هذه الحال فالصراخ على السطح مضيعة للوقت وصياح فى الهواء لا يأتى بفائدة اللهم إلا وجع الدماغ .  

ثم جد عامل آخر شجع البدوى هو تذمر المصريين من أن يحكمهم المماليك وهم رقيق سابقون فكيف للرقيق أن يحكم الأحرار.. يقول ابو المحاسن ( إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك – الذى تزوج شجرة الدر وحكم معها – وهم يسمعونه ما يكره حتى فى وجهه إذا ركب ومر فى الطرقات [47]) والبدوي بنسبه الشريف الذى يدعيه أولى من الرقيق بحكم مصر .

  وزاد من خطورة الأمر أن الأيوبيين فى الشام لم يرضوا بما حدث فى مصر فتحتمت الحرب بين المماليك والأيوبيين ، وواجهت الدولة المملوكية الناشئة خطر الأيوبيين فى الشام مع تذمر المصريين فى الداخل ، واستغل هذه الظروف بعض الشيعة فأعلن الثورة وهو حصن الدين ثعلب الذى ادعى النسب العلوى – وأعلن أن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للأرقاء ، وأقام دولة عربية مستقلة فى مصر الوسطى ومنطقة الشرقية ،وحاول حصن الدين أن يتصل بالناصر الأيوبي صاحب الكرك وعدو المماليك إلا أن عقد الصلح بين الأيوبيين والمماليك خيب أمله فأضطر للإعتماد على جهوده الذاتية [48].

   والمهم أن مبادرة حصن الدين ثعلب بالثورة اضافت عنصراً جديدا أقنع البدوى بإنهاء مرحلة السطح وتطوير دعوته ودفعها على طريق جديد  ..

   ومع الأسف فإننا لا نعرف المدى الجديد الذى وصلت اليه الدعوة بعد انتهاء فترة السطح ، ولكن يعنينا أن انشغال المماليك بفتنهم الداخلية وحروبهم مع الأيوبيين ثم مع المغول مكن للبدوي من التحرك الجديد مستغلا فترة القلق التى تصاحب إنهيار دولة وقيام دولة على أنقاضها ووجود عامل خارجى تمثل فى الهجوم الصليبى  بحملة لويس التاسع..

   ومهما يكن من أمر فإن التحرك الذى قام به البدوي بعد نزوله من  على السطح – والذى لا نعرف حقيقته لم يقدر له الاستمرار والنجاح .. فالاضطراب الذى واجهته الدولة المملوكية الوليدة من التنازع الداخلى بين المماليك وبينهم وبين الأيوبيين وبينهم وبين الغزو المغولي – ذلك الاضطراب انتهى بعد الانتصار المملوكي على المغول فى عين جالوت التى رفعت شأن الحكم الجديد وزادته قوة فى الداخل والخارج، ثم تمكن بيبرس من القبض على السلطة بيد من حديد فتفرغ لمواجهة أعداء الدولة فى الخارج ونجح فى الميدانين معا .. وأفشل حركات الشيعة الصوفية السرية والعلنية .. ولم يفلح معه التطورالجديد الذى بدأه البدوي بالنزول من على السطح ، بل وربما كانت يد الظاهر بيبرس الحديدية سبباً فى عدم معرفتنا بجهود البدوى حين نزل من على السطح .. فقد تحولت المبادرة إلى جانب السلطة المملوكية التى يمثلها بيبرس واقتصر البدوي وكل أعداء الدولة على مجرد رد الفعل.



[1]
الجواهر السنية 60

[2]نفس المرجع 40

[3]عبد الصمد . نفس المرجع 61

 

[4]نفس المرجع 8، 39

[5]نفس المرجع 12، الطبقات الكبرى للشعرانى 1160

[6]نفس المرجع 6

[7]نفس المرجع 123

[8]) عبد الصمد نفس المرجع 38       

[9]المنهل الصافى مخطوط 5191

[10]) الطبقات الكبرى 1160

[11]) عبد الصمد . نفس المرجع 35- 36 الخفاجى النفحات الأحمدية 166

[12]) الشعرانى . الطبقات الكبرى 1130

[13]) النجم الساعى 27              

[14]مجلة السياسة 11

[15]) الطبقات الكبرى : مخطوط 274            

[16]النفحات الأحمدية 153

[17]) النصيحة العلويه . مخطوط 25               

[18]) الطبقات الكبرى 1159 ، عبد الصمد الجواهر 11

[19]) النجم الساعى 46

[20]عبد الصمد : نفس المرجع 26، النفحات الأحمدية للخفاجى 157، الطبقات الكبرى للشعرانى 1160

[21]الطبقات الكبرى 1160

 

[22]النفحات الأحمدية 276

[23]الجواهرالسنية 33    

[24]) النصيحة العلوية 31، 32 مخطوط

[25]عبد الصمد 27: 35 ،النفحات الأحمدية 276:277

[26]النفحات الأحمدية 153

[27]) عبد الصمد : 32.    

[28]الجواهر السنية :30

[29]) نفس المرجع 33

[30]) نفس المرجع 33

[31]) نفس المرجع 33

[32]) طبقات الرفاعية 27

[33]) عبد الصمد 29

 

[34]الطبقات الكبرى 1/ 161 .

[35]  عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34       

[36]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34       

[37]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34       

[38]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34       

[39]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34       

[40]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34        

[41]) الطبقات الكبرى 1 161، عبد الصمد 27

[42]) عبد الصمد 29، 30

[43]) عبد الصمد 29، 30

[44]) عبد الصمد 29، 30

 

[45]عبد الصمد : الجواهر 63، 65

[46]الطبقات الكبرى 1159 ، وفى رواية أخرى أنه ظل عشر سنين فقط أى ( 637- 647 ) راجع الجواهر السنية 37

 

[47]) النجوم الزهراء 713 ، أنظر المقريزى . السلوك 1380

[48]السلوك 1/  386: 387

 

ف1 :سادسا:جهود البدوي فى المرحلة الثانية

السلطان بيبرس كخبير فى التآمر :

1ـ انتهت المرحلة الأولى وقد انتشر دعاة البدوي فى المنطقة ، والجو السياسي فى صالحهم من ضعف للسلاطين وانهماك فى الفتن والمؤامرات وقلق سياسي أسفر عن انهيار الدولة الأيوبية وقيام الدولة المملوكية التى انشغلت فى تأسيس بنيانها ومواجهة الطامعين من بنى أيوب والصليبيين والمغول . ثم كان توطيد الحكم المملوكي واستقراره على يد الظاهر بيبرس ،ذلك التوطيد الذى استقر بعده الحكم المملوكى  طيلة الدولة البحرية ثم البرجية على أثره&Cceا ، حيث ظلت الدولة المملوكية تتربع على عرش الصدارة فى المنطقة حتى انهارت على يد الدولة العثمانية سنة 921هـ .

    وإذا كان البدوي قد استفاد من فترة الخلل السياسى فإن عليه أن يواجه المأزق حين أخذ بيبرس على عاتقه أن يوطد الدولة المملوكية فى الداخل والخارج ، ولن يكون توطيد الدولة المملوكية فى الداخل إلا على حساب البدوي ودعوته السرية وسائر المستفيدين من الضعف الداخلى للدولة الوليدة .

 والواقع أن زمام المبادرة فى هذه المرحلة انتقل إلى يد الظاهر بيبرس الذى كان شعلة من النشاط لا تهدأ فى الداخل والخارج ، بحيث أنه من الأنسب أن نجعل العنوان (جهود بيبرس ) لا(جهود البدوي ) لأن البدوي فى هذه المرحلة اقتصر عمله على رد الفعل دون البدء به .

    وقد احتل الظاهر بيبرس المكان اللائق به فى التاريخ المصرى الوسيط وفى الوجدان الشعبى فحيكت سيره (الظاهر بيبرس ) التى تتناول بطولاته ضد الصلبيين ومهاراته فى المؤامرات..

وإذا وضعنا البدوي بإزاء بيبرس لرأينا خصمين لا يقل أحدهما عن الآخر فى فن المؤامرات والدهاء الأمر الذى يجعل المباراة بينهما شيقة مثيرة  لو اتحفتنا المصادر التاريخية بما يشفى الغليل ، لولا أن تميزهما معاً بالدهاء والتستر والتآمر جعل المصادر التاريخية لاتذكر من أعمالهما إلا ما ظهر وبان للعيان فقط .أما ما بطن وخفى فقد وقع علينا عبئه، وعلى الله جل وعلا التوفيق .

  2 ـ  ونبدأ بالتعرف على جانب من شخصية الظاهر بيبرس ، ذلك الذى أرهق الوجود الصليبي فى الشام والدولة المغولية فى العراق والمملكة النوبية فى الجنوب والأرمنية فى الشمال وأكد نفوذه فى الشام ومصر والحجاز ، وقد عانى أعداؤه جميعا من دهائه الخارق وحيويته الدافقة ونشاطه المستمر فى الحروب مع المؤامرات . 

    ونشاط الظاهر بيبرس فى فن المؤامرات هو الجانب الذى يهمنا فى بحثنا للبدوي كزعيم لآخر مؤامرة شيعية ضد الدولة المملوكية فى عهد الظاهر بيبرس ،ولقد تعرفنا على البدوي ودهائه فى المرحلة الأولى لدعوته وبقى أن -نتعرف فى المرحلة الثانية على خصمه الجديد ومدى دهائه فى التآمر هو الآخر .

    والواقع أن سجل بيبرس فى التآمر لا يحسدعليه ،فالمماليك – عموما- أساتذة  فىفن المؤامرات تعلموها فى المدرسة الأيوبية حيث كانوا عنصراً فى حلقات التآمر التى كانت لا تنتهى بين أبناء الأسرة الأيوبية . ثم مارسوها على نطاق شخصى حين آل الأمر إليهم دون الأيوبيين ، وأقاموا دولتهم المملوكية فبدأ التآمر فيما بينهم يأخذ الطابع المحلى ، وعلى أساس مقدرة أحدهم فى التآمر كان وصوله إلى السلطة أو إلى الدار الآخرة قتيلاً ليرثه القاتل المنتصر والذى هو بالطبع أكثر دهاء وتآمراً .

   وقد مارس بيبرس هذه اللعبة منذ بدايته، ويكفى أنه بالتآمر وصل إلى أن يكون أحد أعمدة المماليك البحرية وأحد كبار الأتباع لأقطاى زعيم البحرية .وحين قتل أقطاى بسيف قطز وتشرد بيبرس مع أتباعه فإنه لم ينس هزيمته أمام (خشداشيه )أو( زميله )قطز وأقسم أن يكون قطز من قتلاه ..وفعلا.. تآمر على قتل السلطان قطز بعد أن راسله قطز  واستقدمه وأعطاه الأمان وولاه قصبة قليوب وبّر بيبرس بقسمه فقتل السلطان قطز صديقه القديم قاتل استاذه أقطاى عند  الصالحية بعد أن هزم قطز المغول فى عين جالوت.  وتولى بيبرس السلطنة نتيجة مؤامرة نفذها بسيفه الملوث بدماء السلطان قطز .

       ولم يقلع بيبرس بعد توليه السلطنة عن ممارسة التآمر ضد خصومه وما أكثرهم ، وحتى يتيح لنفسه أكبر قدر من الحرية كان يفضل التخفى والتستر حين يباشر التآمر بنفسه ،وهكذا كان ( التنكر ) سمة أساسية فى النشاط السرى للظاهر بيبرس وسياسته .

    يقول المقريزى فى حوادث سنة 663 (وفيها نزل السلطان من قلعة الجبل متنكرا وطاف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس [1]) وفى حوادث سنة 665 يقول أنه بلغه أن جماعة من الفرنج بعكا تخرج منها غدوة وتبقى فى ظاهرها فسرى – أى سار ليلا ببعض عسكره ( وأمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنجة فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا ووضع السيف فى الفرنج ) [2]واشتهر عنه أنه بعد سقوط أنطاكية طلبت إمارة طربلس الصليبية الصلح فأوفد بيبرس وفداً للمفاوضة ودخل المدينة بنفسه ضمن وفد المفاوضات متنكراً فى زى خادم ليتعرف خبايا المدينة ويدرسها تمهيداً لحصارها فيما بعد .

    وقد عقد الظاهر بيبرس لابنه السعيد بركه بولاية العهد .. ولكى يطمئن  على سير الأمور فى مصر أثناء غيابه فى الشام (خطر للسلطان أن يتوجه إلى ديار مصر خفية فكتم ذلك وكتب للنواب بمكانه ) وادعى المرض حتى لا يدخل عليه أحد ثم تسلل(ولبس السلطان خوجة مقطعة ،وقصد أن يخرج ولا يعلم به الحراس ) وسار من الشام حتى وصل قلعة الجبل (وعندما خرج الملك السعيد ليركب ما أحس إلا والسلطان قد خرج إليه فرعب منه وقبل الأرض ) ثم عاد للشام إلى حيث معسكره ،يقول المقريزى (ومشى كل ما وقع على العسكر  ولم يعلم به سوى الأتابك والاستادار والداودار وخواص الجامدارية ..وقصد بما فعله أن يكشف حال مملكته وتعرف أحوال ابنه الملك السعيد فى مصر فتم له ما أراد )[3].

وقد أعان بيبرس على تنفيذ سياسته تلك أن (رتب البريد فى سائر الطرقات فكان الخبر يصله من قلعة الجبل إلى دمشق فى أربعة أيام ويعود فى مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه فى كل جمعة مرتين ويتحكم فى سائر الممالك من العزل والتولية وهو مقيم فى قلعة الجبل[4]) .

ومع ذلك فلم يمكث بمكان واحد بل كان على حد قول المقريزى نفسه(مقداماً خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجين وخيول البريد لكشف القلاع والنظر فى الممالك فركب للعب الكرة فى الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق ، وفى ذلك يقول سيف الدولة المهندار من أبيات يمدحه فيها :

 يوما بمصر   ويوما بالحجاز   وبالشام يوما    ويوما فى قرى حلب [5]

 

  وحين يكون بمكان ويصله خبر بالبريد عن تحرك أعدائه يبادر بالتحرك إليهم ، فكانت أيامه حركة مستمرة ،من ذلك ما يقوله المقريزى فى حوادث سنة 668 (صلى الجمعة فى الكرك ( الأردن ) ، وساق إلى دمشق والناس فى مصر لا يعرفون شيئاً من خبر السلطان هل هو فى الشام أو الحجاز أو غيره ولا يستطيع من مهابته والخوف منه أحد أن يتكلم ، ثم وصل إلى قلعة الجبل ودخل إلى الأسكندرية ، وتوجه إلى الحمامات ونزل بالليونة فبلغه هناك حركة التتار وأنهم واعدوا فرنج الساحل فعاد إلى قلعة الجبل وسار السلطان من قلعة الجبل ومعه نفر يسير فوصل إلى غزة ثم دخل دمشق [6]).

  وبيبرس كخبير فى المؤامرات كان يدرك أن أسهل الطرق لمواجهة مؤامرات الخصوم أن يحتاط لها ولا ينتظر حدوثها بل يبادر بالقضاء على من يخشاه مقدماً قبل أن تنشب الفتنة ، وذلك خط أساسى فى جهد بيبرس السياسى من ذلك ما فعله مع المغيث الأيوبى صاحب الكرك الذى تحايل عليه واستحضره فاعتقله ثم قتله بعدها [7]وكان لبيبرس صديق من أمراء المماليك الطموحين ( وقد ولاه الملك الظاهر شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك السلطان فقال : هذا ما نيتة خير ..وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا أن عزله [8])

    وبذلك نتعرف على بعض الملامح الـتآمرية لدى الظاهر بيبرس بعد توليه السلطنة ،فهو فى وضعه الجديد – الذى وصل إليه بالتآمر– يواجة مؤامرات خصومه بأدوات الحكم فهو يرتب البريد وينظمة ، والبريد أهم وسائل التجسس وبه أصبحت أخبار البلاد تصله فى مدة قياسية حيثما كان ،وعن طريق جواسيسه المنتشرين وبريده السريع المنتظم كان يبادر بالتحرك السريع لمواجهة الموقف بل أنه كان لا ينتظر وقوع الفتنة ، وبمجرد أن يشم احتمال حدوثها كان يبادر بالقضاء عليها قبل أن تكتمل ملامحها ، وساعده على ذلك كله خبرة سابقة بآلتامر وحيوية دافقة لا تعرف الكلل .

   وهذه الملامح نتبينها فى موقف الظاهر بيبرس من الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف ، ولأن مؤرخي عصره كانوا يرصدون تحرك السلطان الظاهرى دون فهم لنواياه الخفية فأننا نربط الحوادث على ضوء فهمنا لسياسة السلطان الظاهر بيبرس ذلك الذى وصل بالتآمر ولن يسمح لمتآمر أن يغلبه وهو (سلطان المتآمرين ).

حركة الكوراني وذيولها :

  ومن سوء حظ البدوي أن الظاهر بيبرس واجه فى أولى سنوات حكمه مؤامرة الكوراني الشيعية الصوفية ،ففى أثناء اشتغال المماليك بمواجهة الخطر المغولي سنة 657 بدأت دعوة الكوراني السرية فقبض عليه(وضرب ضرباً مبرحاً [9])وأطلق من اعتقاله فأقام بالجبل الأحمر . وفى العام التالي قتل بيبرس قطز وتولى السلطنة وكانت العامة تتخوف من تسلط  المماليك البحرية فى عهد الظاهر بيبرس واستغل الكوراني الشعور العدائي للسلطة الجديدة فقام بحركته الصوفية الشيعية العسكرية ..يقول المقريزي فى حوادث سنة 658 (وفيها ثار جماعة من السودان والركبادارية وشقوا القاهرة وهم ينادون (يا آل علي ) وفتحوا دكاكين السيوفيين من العصر وأخذوا ما فيها من السلاح واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيل ، وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوراني أظهر الزهد وحمل بيده مسبحة وسكن قبة بالجبل وتردد إليه الغلمان فحدثهم فى القيام على أهل الدولة وأقطعهم الإقطاعات وكتب لهم بها رقاعاً ، فلما ثاروا فى الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم فأصبحوا مصلوبين خارج باب زويلة وسكنت الثائرة [10]).

   فالشيخ الكوراني خطط جيداً لحركته العسكرية ، فقد اختار الوقت المناسب واصطنع التصوف والزهد والمسبحة وسكن قبة بالجبل ، وكون خلايا عسكرية من بين الغلمان الخدم المنوطين بخدمة الفرسان المماليك ،ورسم لهم خطط الهجوم بانتزاع السلاح وسرقة الخيل والهجوم على ثكنات المماليك على أن يسبق الهجوم مظاهرة مسلحة تنادى (يا آل على ) لينضم إليها العامة أو (الزعر) وهم كارهون للبحرية وزعيمهم بيبرس السلطان  الجديد .

 وقضى على المؤامرة الوليدة ..

وما كان لبيبرس أن تمر عليه هذه الحادثة دون دراسة وانتباه. من ذلك أنه فى العام التالى سنة 659 (رتب البريد فى سائر الطرقات ) ليكون على أهبه التحرك عند أى طارئ ،واستمال العامة فأزاح عن كاهلهم الضرائب التى فرضها سلفه قطز حين تجهز للقاء المغول  ...

   ولأنه أدرك أن هدف الكوراني يتمثل فى الخلافة الشيعية التى تحل محل الخلافة العباسية المنهارة  فقد عمل بيبرس على بعث الخلافة العباسية السنية فى مصر لتكون واجهة  لحكمه وسنداً لسلطته ضد أى تحرك يقوم به الشيعة على الخصوص ، وهكذا ففى العام التالى لحركة الكوراني استقدم أحد العباسيين وتمت البيعة له باسم الخليفة المستنصر ، وكان المستنصر طموحاً فتخوف منه بيبرس وعزم على التخلص منه فأوفده بجيش قليل لاسترداد بغداد فهزمه المغول وقتلوة سنة 660 هـ ، فعين بيبرس خليفة آخر هو الحاكم سنة 661 وحتى يضمن الأمان لسلطانه من طموح الخليفة الجديد جعل من القاهرة ملجأ للأمراء العباسيين الفارين ليهدد الخليفة الجديد بالعزل وتولية أحدهم مكانه إذا حدثته نفسه بالتدخل فى شئون الدولة.

   وهكذا كان بيبرس يبادر بعلاج أسباب الفتنة قبل أن تحدث حتى إنه حين بلغه من جواسيسه أن الخليفة الجديد يقوم ببعض الاتصالات حجبه عن الناس لأن (أصحابه كانوا يخرجون إلى الناس ويتكلمون فى أمر الدولة [11]) أى السياسة .

وربط بيبرس فى دراسته لمؤامرة الكوراني بين حركة الكوراني وحركة الشريف حصن الدين ثعلب الشيعية التى ساندها الأعراب وأقامت دولة فى الشرقية ومصر الوسطى ثم قضى عليها أيبك واعتقل الشريف حصن الدين فى الأسكندرية .

    وقد جاء بيبرس للحكم وحصن الدين لم يزل معتقلاً ،وبعد حركة الكوراني بث العيون حول أصحاب حصن الدين .. وحينما نمى إلى علمه أن الشريف السرسناوي يتردد إلى حصن الدين فى حبسه أمر بشنقهما معا [12].

وشك بيبرس فى طموح صديقة الأمير المملوكى الذى أشرنا إليه سلفاً والذى (ولاه شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك للسلطان فقال : هذا ما نيته خير ،وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا إنه عزله )، والجديد أن ذلك المملوك (كان يدعى أن أصله شريف علوى من العجم [13]) .

   ودرس بيبرس نشاط الكوراني السابق فعلم أن الكورانى قد اعتقل فى العام السابق لحركته (بسبب بدع ظهرت منه وجدد اسلامه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر )[14].أى لولا توبة الكوراني على يد الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما أخرج من المعتقل وما قام بحركته أصلا ..

وكان عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء فى عصره ومعٌلماً بارزا فى تاريخ القرن السابع جاء لمصر غاضباً من الصالح إسماعيل الأيوبي المتعاون مع الصليبيين ضد الصالح أيوب سلطان مصر ، وأحرز مكانة عالية بين المصريين حكاماً ومحكومين ،إلا أنه اتصل بالشاذلي وتصوف فصار – وهو الفقيه الواعظ – ( يحضر السماع ويرقص )[15]أى يرقص فى حفلات  الصوفية شأن المريدين ،وقد سبق القول بأن الشاذلي كان واجهة صوفية فى الاسكندرية للدعوة السرية بعد موت رائدها أبى الفتح الواسطي ، ومن الطبيعى أن تستغل الدعوة فقيهاً شهيراً كإبن عبدالسلام بعد أن أحدثت هذا التحول الخطير فى حياته وحولته من فقيه ثائر إلى مريد راقص.  إلا أن أمر عز الدين ابن عبد السلام لم يتأثر بانخراطه فى التصوف ،فالتصوف مرعي الجانب من السلطات طالما لا تشوبه شائبه من طموح سياسي ..ولم تستطع السلطة المملوكية فى عهد قطز أن تشك فيه من هذه الناحية ، بل على العكس لجأ إليه قطز ليستعين به فى فرض الضرائب لمواجهة المغول فرفض ابن عبد السلام أن تؤخذ أموال العامة وقال (إذ لم يبق فى بيت المال شئ وأنفقتم الحوائص من الذهب ونحوها من الزينة وساويتم العامة فى الملابس سوى آلات الحرب ولم يبق للجندى إلا فرسه التى يركبها ساغ أخذ شئ من أموال الناس [16]). ولم يأخذ قطز بفتوى عز الدين بن عبد السلام ففرض ضرائب باهظة على الناس ،ومع ذلك فلم تتأثر مكانة ابن عبد السلام بموقفه المشرف هذا ،وبعدها كان اطلاقه للكوراني حين اعتقل اشتباهاً فى نشاطه السياسي بحجة أنه ( ظهرت منه بدع ) استوجبت اعتقاله وضربه ضربا مبرحا وليس ذلك مألوفا فى التعامل مع صوفى معتقد يقصده الناس معتقدين فى كراماته وولايته كالكورانى . وبعد حركة الكورانى أحاطت شكوك الظاهر بيبرس بسلطان العلماء (عز الدين بن عبد السلام)، وليس غريبا حينئذ أن تعقد له جلسات لمحاكمته لأسباب غامضة ،يقول الشعرانى عنه ( وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلسا فى كلمة قالها فى العقائد) [17]، ومفهوم أن تعقد للصوفى العادى محاكمات بسبب الشطح ، أما من غير المفهوم أن يتهم بذلك فقيه شهير كان سلطاناً للعلماء فى عصره متمتعاً بالحظوة لدى الحكام والمماليك على وجه الخصوص بحيث يتجرأ على القول أمامهم بكلمة حق دون خوف أو دجل ،ومن غير المفهوم أيضا أن تعقد لهذا الفقيه الخطير الشأن جلسة للمحاكمة حول كلمة يقولها فى العقيدة ،وهو أدرى بخطورة هذا الاتهام المسلط دائما على رقاب الصوفية ذوى الشطحات . ومن غير المفهوم أيضا أن تجرى هذه المحاكمات فى جو من السرية بحيث لا ترصدها المصادر التاريخية وهى مغرمة بتقصى اخبار المشاهير ومنهم ابن عبد السلام .

       والتفسير الوحيد لهذه الألغاز هو فى الربط بين عزالدين بن عبد السلام والدعوة السرية الشيعية ونشاط الشيعة المستتر بالتصوف فى عهد حاكم داهية كالظاهر بيبرس يعالج أموره بالكتمان ويقابل التآمر بتآمر أعتى وأشد ويتبع خيوط المؤامرة بنفسه ويبادر بالقضاء على أعوانها مهما سمت مراكزهم إذا توفر له دليل أى دليل .

 لقد انحسرت الأضواء عن ابن عبد السلام منذ حركة الكوراني إلى أن مات سنة 660 هـ ، ونحن لا نجزم بوجود علاقة ما بين الكوراني وابن عبد السلام ولكننا نرجح أن يكون موقف ابن عبد السلام من الكورانى فى محنته سنة 657 نابعاً من تأثره وتشبعه بالدعوة الشيعية الصوفية التى أشربها عن طريق الشاذلي صديقه .. ولم يجد الظاهر بيبرس فى موقف ابن عبد السلام إلا ما يستوجب الاتهام فإتهمة ..ولعله كانت لديه أدلة أكثر حسماً من مجرد الشكوك برر بها التطور الجديد الذى قام به الكوراني ، ففى أقل من عام بعد خروجه من المعتقل كانت جماعاته المسلحة تطوف القاهرة وتبغى الاستيلاء على السلطة وتهتف (يا آل على ).

انعكاسات حركة الكورانى على دعوة البدوى  :

    ومن الواضح أنه لا صلة مباشرة بين حركة الكوراني ودعوة البدوي مع اتفاقهما فى (الهدف) وهو إقامة الحكم الشيعي و(التخطيط الأساسي ) وهو استغلال التصوف وتكوين الأتباع ، إلا أن هناك نوعاً من الاختلاف بين الحركتين نلمسه فى التمهل الذى تسير عليه الدعوة الشيعية الصوفية بدءاً من الرفاعي وانتهاءاً بالبدوي ، بالإضافة إلى ميل هذه الدعوة للابتعاد عن العواصم ومراكز التحكم السياسي مع شموليتها للمنطقة داخل وخارج مصر ،أما حركة الكوراني فالأغلب أنها حركة محلية من الأتباع المتبقين من أنصار الدولة الفاطمية الآفلة بدليل اعتماد صاحبها الكوراني على جماعات السودان ، وقد كان السودان يمثلون الحرس الفاطمي الذى أرهق صلاح الدين فى بدايته بالمؤامرات ، وإذا كان قد قضى عليهم عسكرياً فإن بقاياهم وذرياتهم كانت لا تزال موجودة تطوى القلوب على الجمر تتحين الفرصة ، وقد واتتها فى حركة الكوراني الفاشلة .

ومع ذلك فإن التسرع الذى اتسمت به حركة الكوراني وأدى إلى فشلها   كان عاملاً هاماً فى لفت نظر بيبرس للتآمر الشيعي المستتر بالتصوف مما دفعه لبث العيون وتنظيم البريد حتى لا يؤخذ على حين غرة ،وإقامة الخلافة العباسية ليقطع الطريق على هدف الشيعة فى الخلافة الفاطمية ، ثم اجتث جذور التآمر أو ما يشك فيه كتآمر فقتل الشريفين حصن الدين والسرسناوى وعزل صديقه المملوكي مدعى النسب العلوى وحاكم عز الدين بن عبد السلام .

      ثم بدأت عيونه ترصد تجمعات المتصوفة وفوجئ بيبرس بداعية مجهول غامض يحتل مكانا هاما فى وسط الدلتا هو أحمد البدوى ،ودعاته أو أتباعه منتشرون ،وكان كشف البدوي أمام أعين الظاهر بيبرس هو الهدية الغير منتظرة من الكوراني لرفيقة الشيعي الصوفي البدوي

. يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (ولكن سرعان ما أدرك السيد البدوي أنه محاط بالجواسيس من كل مكان وأن صاحب مصر قد وقف على نيته فانقلب يعلم الناس النحو والصرف وقرأ دروساً فى الفقه على المذهب الشافعي ولبث سنين لا يجتمع بأحد من السطوحية فى مجلس ظاهر )[18]. ولم يكن البدوي بالشخص الذى يؤخذ على غرة ،فأتباعه منتشرون والاتصلات بينهم وبينه مستمرة ومستقرة ، وقد علم بشنق حصن الدين والسرسناوى فى الاسكندرية ،وبلغته أخبار فشل الكوراني ونهايته مع أتباعه فى القاهرة ، وقبل كل ذلك كانت لديه عين على الظاهر بيبرس نفسه ينبئه بما ينبغي عليه فعله ،إنه الشيخ خضر العدوي المهراني الكردي تلميذ أبى السعود بن أبى العشائر الواسطى[19]مبعوث الرفاعى للقاهرة ،والذى أصبح شيخاً للظاهر بيبرس ومتمتعا بالنفوذ فى عهده .

خضر العدوي بين الظاهر بيبرس والبدوي :

ففى فترة (التيه ) التى قضاها الأمير بيبرس البندقداري فى الشام الأيوبي بعد هروبه من مصر التقى بخضر العدوي ،وكان خضر العدوي الكردي تلميذاً نشطاً لأبى السعود بن أبى  العشائر فى مصر .وفد إليه وكون مع داوود (المغربي )وشرف الدين (الكردي )وحسين (الجاكي ) خلية صوفية متحركة بين الشام والعراق ومصر .

 وفى فترة الاضطراب هذه والتى تنبئ بعلو شأن البحرية وضع الشيعة أعينهم على بعض الطموحين من المماليك البحرية يبشرونهم بتولى السلطنة ، حيث شاع فى العصر الإيمان بكرامات الأولياء وعلمهم بالغيب ،وكان من نصيب خضر العدوي أن التقى بالظاهر بيبرس وقت أن كان أميراً هارباً فى الشام فبشره بالسلطنة ، وفى هذا الوقت حيث كان بيبرس يعيش بحد سيفة خادماً لهذا الأمير الأيوبي أو ذاك فإن تبشيره بالسلطنة من صوفى معتقد كالشيخ خضر لابد أن يترك فى نفسه أثراً ، ويحفزه لتحقيق أطماعه التى أضاعها قطز حين قتل أقطاى أستاذ بيبرس . وبينما يسير بيبرس فى الشام شريدا بين صغار الأيوبيين المتنازعين فإن غريمه قطز يتولى السلطنة بعد أن مهد لعز الدين أيبك أستاذه من قبل وعلى حساب أقطاى وبيبرس .و هكذا فمن بين سياسة (التبشير ) بالسلطنة بين الأمراء البحرية فى هذا العصر المضطرب أفلح خضر العدوي فى حفز الأمير بيبرس البندقداري ليرجع إلى غريمه قطز فى مصر رافعاً راية الاستسلام وفى نفسه عزم على الانتقام والوصول للسلطنة .

   يقول أبو الفدا (سار بيبرس إلى غزة وراسل قطز وأرسل إليه علاء الدين طيبرس يطلب منه الأمان فكتب إليه قطز بالأمان ووعده بالوعود الجميلة )[20]. وسارت الأمور على نحو ما نعرف .عاد بيبرس فشارك فى حرب المغول ثم انتهز الفرصة حين الأوبة من الانتصار فقتل السلطان قطز وتولى مكانهوتحقق أمل الشيعة ا" style="font-weight: bold; text-decoration: none; color: rgb(204, 5, 22); " title="">[22].

 وبغض النظر عن تلك (الجمرة )التى ألصقها الشعراني- دون غيره – بالظاهر بيبرس ظلما وعدوانا وإثباتا لنفوذ مزعوم للأولياء الصوفية – فإن الترجمة التى أوردها لخضر العدوي لم تخل من بعض الصدق كقوله عن علاقة الظاهر بخضر (وكان السلطان ينزل كثيرا لزيارته وحادثه بأسراره ويستصحبه فى اسفاره ) فقد أشار الكثيرون إلى نفوذ خضر الواسع فى دولة الظاهر الذى كان يعتقد بعلمه بالغيب ويستشيره ويسمع له ويطيع . وحين وصل الشعرانى إلى نكبة خضر أسندها إلى (أولاد الحلال ) وتدخلهم بين السلطان وخضر .والواقع أنه مهما قال (أولاد الحلال ) فى شأن الشيخ خضر فلن يكون ذلك سببا فى إصرار السلطان على قتله إلا إذا كان خضر متآمرا على السلطان ، فتلك هى الجريمة الكبرى فى نظر بيبرس والتى لا يعدلها إلا اعتقاده فى خضر ومعرفته بالغيب إلى درجة أنه أوسع لنفوذه فى الظهور فى  دولته ،وهكذا عدل الظاهر بيبرس عن تصميمه على قتل خضر حين هدده الأخير بعلم الكشف – أو الغيب – أنهما متقاربان فى وقت الوفاة ..فكان أن اعتقله مكرماً إلى أن مات ،وتخلص خضر بهذه الحيلة وكان لابد أن ينجو بها . وجدير بالذكر أن النويري [23]أسهب فى الحديث عن انحرافات الشيخ خضر الخلقية مع النساء والصبيان وجعل منها سببا سياسيا فى نكبته ،وأشار إلى ذلك ابن كثير بايجاز [24]،ولعل الشيخ خضر وقد بلغ حينئذ من الكبر عتيا – كان يموه بعلاقاته تلك عن حقيقته كداعية سرى فى مركز خطير بدليل أنه لم يدفع عن نفسه هذا الاتهام الذى جاء فى أخريات حياته ،وتلك عادة الشيعة المتصوفة كما رأينا مع الرفاعي ونسج القصة المنسوبة للبدوي مع فاطمة بنت بري ومع أبى العباس الملثم . وما كان للظاهر بيبرس أن يعول على هذا الاتهام ويجعل منه سببا لقتل شيخه العجوز الذى يعتقد ولايته واطلاعه على غيب الله – فالسبب الحقيقى هام وخطير يتعلق بالسياسة والتآمر ، خاصة وأن المؤرخين اللاحقين للنويرى تجاهلوا هذا الاتهام بل أن النويرى نفسه ذكر أن من اتهم خضر العدوى بتلك التهم كانوا الأمراء القريبين من الظاهر بيبرس ولم يخل اتهامهم من محاولات التلفيق وقد استند إلى ماضى خضر أكثر من حاضره . والواقع أن ماضى خضر الخلقى لم يكن نظيفا ، إلا أن بعثه من مرقده فجأة ومحاسبته به حين اشتعل رأسه شيبا ليعد دليلا على محاولة متعمدة للتغطية على شئ أخطر ،ولما كان خضر لا يمانع فى هذه التغطية أيضا فقد شارك فيها بعدم الدفاع عن حاضره حرصا على بقاء الدعوة الشيعية وخوفا أن تمتد أصابع بيبرس لتصل إلى عنق البدوي فى طنطا وأتباعه فى الشام والحجاز.

لقد كان الظاهر بيبرس يعتقد فى التصوف اعتقاداً زائدا ولم تؤثر نكبة خضر فى هذا الاعتقاد بشئ ..وإذا عرفنا أن الظاهر بيبرس ظل من سنة659 إلى 671 يسمع لخضر العدوي ويطيع ، ويستشيره ويستصحبه فى أسفاره لأدركنا أن محاولات بيبرس الخفية لكشف غموض البدوى ودعوته ذهب هباءاً .. حتى إذا حدثت نكبة خضر وانحصرت فيه وحده كان بيبرس قد تيقن تماماً – كما أرادوا له – من أن البدوي مجرد صوفي مجذوب ..وكان البدوي – من ناحيته – قد أيقن ان آماله مستحيلة فى وجود حاكم شديد التحرز والدهاء كالظاهر بيبرس كثير الشكوك والارتياب ، ميال للعنف والانتقام – وبعد ذلك كله فهو شديد الاعتقاد فى التصوف ،إذن فتظل راية التصوف مرفوعة ولتتجمد الحركة السرية إلى حين .

وهذا ما حدث وموعدنا الان مع تفصيل لذلك

 

الظاهر بيبرس والبدوي :

فى أعقاب حركة الكوراني الفاشلة جاءت الأنباء للظاهر بيبرس باكتشاف شيخ صوفي مجهول فى طنطا تحيطه الأساطير والألغاز ومع تستره وغموضه فأتباعه منتشرون فيما بين القاهرة والاسكندرية والدلتا ، ولا شك أن ذلك الاكتشاف لم يأت دفعة واحدة فجائية ، ولم يتعرف أعوان الظاهر بيبرس على أتباع البدوي الموزعين فى الأمصار من أول نظرة ..وإنما تم ذلك على دفعات ومراحل يمكن أن نرصدها من محاولات بيبرس المتصاعدة لكشف هذا اللغز . وقد بدأت الأخبار ترد عن البدوي كداعية صوفى مجهول فى طنطا ..ولتخوف بيبرس من هذا الصنف فإنه أولا كلف القاضي تقى الدين بن دقيق العيد بأن يتحرى أمر البدوي ، ولما كانت السلطات لا تعرف الصلة بين البدوي والدريني فقد عهد ابن دقيق العيد للدريني بالذهاب للبدوي والكشف عن حاله ....ومن الطبيعي أن يرتب عبد العزيز الدريني الأمر مع البدوي ليقتنع ابن دقيق العيد ببراءة موقف البدوي ..

وقد رددت المصادر الصوفية تكليف الدريني من لدن ابن دقيق العيد بتحرى أمر البدوي فقالت (أن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد أرسل إلى سيدى عبد العزيز الدريني وقال له امتحن هذا الرجل الذى اشتغل – الناس بأمره ).أو ( أن الشيخ تقى الدين قاضي القضاة لما سمع بسيدي أحمد البدوي واشتهر أمره أرسل اليه سيدي عبد العزيز الدريني ليخبره عن حاله ) ،أو أن قاضى القضاة ابن دقيق العيد ( كان ينكر على الشيخ أحمد البدوي فأرسل كتابا إلى الشيخ عبد العزيز الدريني يقول له .توجه إلى الشيخ أحمد البدوي واسأله عن العلم فإن أجابك فأساله الدعاء وعرفني بجميع أحواله فتوجه الشيخ عبد العزيز إلى ناحية طندتا وكان المتولي بها القاضي علاء الدين ،فلما وصل  الشيخ إلى طندتا قصد القاضى علاء الدين وأعلمه بأن قاضى القضاة أرسل كتابا يسمى كتاب الشجرة وفيه أحاديث وفقه وأضمر فى نفسه أن الشيخ احمد البدوي إن قرأ هذا الكتاب وأخبر بما فيه فأنا أعتقده وأرد الجواب عنه إلى قاضي القضاة فقيل له : هو فى بيت الشيخ ركين مقيم على سطح البيت فتمشى الشيخ عبد العزيز حتى وصل إلى بيت الشيخ ركين واستأذن الشيخ عبد العال فأذن له فسلم على الشيخ فرد عليه السلام وقال يا عبد العزيز من وصل إلى مقام التسليم فاز برياض النعيم جئت تسأل عن العلم وفى كمك كتاب الشجرة ..إلخ [25])

ومع أن المصادر الصوفية تتجاهل الصلة المعروفة بين الدريني تلميذ أبى الفتح الواسطي والبدوي خليفة أبى الفتح الواسطى ومع أنها حوّلت الموضوع إلى اختبار لعلم البدوي بالغيب – ولا يعلم الغيب إلا الله – وأنهم جعلوا من البدوي فائزا فى هذا الاختبار .. مع ذلك كله فإن رائحة الأتفاق المسبق بين البدوي والدريني تبدو من خلال السطور وتنبئ عن أن ذلك اللقاء الذى تم بحضور القاضي المحلى كان مرتبا معدا له من قبل ليخدع قاضى القضاة ابن دقيق العيد وممثله علاء الدين فى الناحية ،واقتنع ابن دقيق العيد مؤقتا . ولكن الظاهر بيبرس كثير الشكوك لم يقتنع فقد جاءته أخبار عن أتباع آخرين للبدوي فكلف ابن دقيق العيد بأن يذهب بنفسه لاختبار البدوي ..وكان البدوي مستعدا للقائه ، وتم اللقاء وخرج منه ابن دقيق العيد وقد سلم للبدوي بحاله .

    وتختلف المصادر فى إظهار الصورة التى قابل بها البدوي ابن دقيق العيد ، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (نزح ابن دقيق العيد إلى طندتا ،واجتمع بالسيد البدوي فوجده رجلاً عالماً فاضلاً ولم يجد لما نقل إليهم عنه من الضلالات أثراً ولم يشم رائحة الدعوة السياسية لأن البدوى وصحبه كانوا أهل حذق ومهارة وحيطة فعاد ابن دقيق العيد إلى الملك مثنيا على الرجل وكانت هذه الزيارة من أكبر أسباب ترويج الدعوة الأحمدية البدوية [26]) أى أن البدوي ظهر له بمظهر العالم الورع .

    ولكن كتب المناقب تظهر صورة أخرى للبدوي ، صورة المجذوب تارك الصلاة ، يقول عبد الصمد عن كرامات البدوي (ومما وقع لسيدي أحمد البدوي من الكرامات أن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وكان قاضي القضاة بالديار المصرية سمع بالشيخ وأحواله فنزل إليه واجتمع به بناحية طندتا وقال له : يا أحمد هذا الحال الذى أنت فيه ما هو مشكور فإنه مخالف للشرع الشريف فإنك لا تصلي ولا تحضر الجماعة وما هذه طريقة الصالحين [27]) .

وقد يبدو هناك تناقض بين الصورتين ،صورة العالم وصورة المجذوب . وقد يدفع هذا التناقض البعض لتصديق رواية دون أخرى، ولكننا نرى أن الصورتين معا تعبران عن شخص واحد بالغ الدهاء ، فهو مجذوب حين يريد وعالم صوفي حين يرغب فى ذلك ، وقد ظهر بالصورتين معا للفقيه المسكين ابن دقيق العيد فسلّم له بحاله حين يكون عالماً وحين تأخذه الجذبة فينقلب إلى النقيض تماما ، وترك البدوى ابن دقيق العيد وقد انشغل عن القضية الأساسية وهى الشكوك فى الدعوة السرية إلى محاولة الحكم على البدوي وشخصيته المتناقضة بين العلم والجذب ، وبينما أثنى على علمه وحديثه عاتبه برفق على جذبته وتركه الصلاة .وعلى الرغم من أن تقى الدين كان قاضيا للقضاة ومنتظرا منه كفقيه ألا يسامح فى ترك الصلاة فإنه ترفق بحال البدوي وجذبته المزعومة فلم يشتد فى الإنكار عليه فى هذه التهمة الخطيرة التى كان شاهدها الأول.ومعنى ذلك أن البدوي قد نجح تماماً مع ابن دقيق العيد فقد جذب انتباهه إلى قضية جديدة لم تكن تدور فى خلده وترك البدوي وقد اقتنع تماماً بسلامة موقفه من الناحية السياسية السرية .

والواقع أن اختيار تقى الدين ابن دقيق العيد بالذات لفحص حالة البدوى كان بمشورة خضر العدوى مستشار الظاهر بيبرس وأمينه على أسراره ، وقد كان اختياراً موفقاً من جميع النواحى ، فلابن دقيق العيد جهد سابق فى حرب الشيعة بالصعيد ومن هذه الناحيه فترشيحه للظاهر بيبرس لاغبار عليه إطلاقاً ..ومن الناحية الأخرى كان ابن دقيق العيد من الفقهاء الميالين للتصوف المؤمنين برجاله ومن هنا يمكن خداعه والتمويه عليه وخداع الظاهر بيبرس من خلاله، وكانت لإبن دقيق العيد صلات بالصوفية المتورطين فى الدعوة الشيعية بدليل أنه لجأ أولا للدريني جاهلاً بالصلة بينه وبين البدوى.

وقد أوسع له الصوفية اللاحقون مكانا فى التراجم الصوفية وعدوه من ضمن الصوفية لارتباطه بقصة البدوي وعلاقته بالدريني .

والجدير بالذكر أنه فى ذلك الوقت كان المقدم من بين القضاة هو تاج الدين ابن بنت الأعز ، وكان منتظرا أن يقوم بالمهمة دون ابن دقيق العيد الذى انحسرت عنه الأضواء لولا أن خضر العدوى كان فى عداء مستمر مع ابن بنت الأعز كما تدل على ذلك المراسلات بينهما [28].

ومع ذلك فإن بعثة ابن دقيق لم تفلح فى إزالة الشكوك عند بيبرس ،تلك الشكوك التى أكدتها اكتشافات متتالية عن أتباع للبدوي منتشرين فى الأسكندرية وطنطا والقاهرة وما حولها ، ولكى يقطع بيبرس الشك باليقين عزم على التحقق من الأمر بنفسه وبطريقة التخفى أو التنكر التى اشتهر بها .وبدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على الأسكندرية مهبط أبى الفتح الواسطى ومدرسته والشاذلى وصديقه عز الدين بن عبد السلام ،وحيث أعدم حصن الدين والسرسناوى ،وفى 661 زار الأسكندرية (فأصلح من شأنها وعامل أهلها بلطف ) وهى نفس السياسة التى سار عليها مع القاهرة فى أعقاب حركة الكوراني ..ولم يكن إصلاح الحال فى الاسكندرية هو الهدف الوحيد للظاهر بيبرس فقد قابل الصوفي أبا القاسم القباري ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي وعين لدنه قاضياً للثغر وصف بالتصوف والزهد [29]. والملاحظ أن الشاطبي والقباري لم ينتميا إلى مدرسة التشيع الصوفي المستتر ، والمنتظر أن بيبرس فى لقائه الغامض بهما قد حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفى فى الأسكندرية وما حولها وسمع الشئ الكثير عن البدوى فعزم على التوجه إليه بنفسه سرا.

    ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 662(وفيه سار السلطان إلى أوسيم ومضى إلى الغربية فصار يسير منفردا فى خفية ويسأل عن والى الغربية الأمير ابن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه فذكرت عنه سيرة سيئة فقبض عليه وأدبه وأقام غيره ...)[30]. أى أن بيبرس خص منطقة الغربية – حيث البدوى وطنطا – بزيارته متخفيا وتصرف بحزم مع واليها وعزله وأقام واليا جديدا ينفذ السياسة الجديدة التى ارتآها فى رحلته السرية ..

    ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 663 أن السلطان طاف بالقاهرة متنكرا ليعرف أحوال الناس [31]. ثم يذكر المقريزى ما يفيد أن الظاهر بيبرس مر على البدوى فى السنة التالية سنة 664 عند ما خرج إلى  الإسكندرية لمباشرة حفر خليجها[32]. فمن المحتمل ألا يكون حفر الخليج هو السبب الأهم فى حضور بيبرس بنفسه مع كثرة مشاغله وأسفاره وأن يكون مجرد ساتر لغرض أهم ، خاصة وأنه عاد للقاهرة عن طريق أبيار (وطنطا تقع على الطريق بين أبيار والقاهرة )[33].

وإذا كان المؤرخون المعاصرون لم يذكروا عن رحلات بيبرس السابقة إلا للغرض المعلن فقط فلم يكن منتظرا منهم أكثر من ذلك وهم يؤرخون لسلطان داهية بارع فى التخفى والتنكر والتعمية ،ثم إن طنطا فى ذلك العهد ورجلها القائم فيها لم يستحوذا بعد على أى انتباه للمؤرخين المشغوفين بالمدن الكبرى والرجال الظاهرين من الأمراء والقضاه ومشاهير الصوفية والعلماء. ولذلك اكتفوا بتعليل سفره إلى طنطا بأنه لمعاقبة أمير الغربية ،وعودته إلى الأسكندرية بأنه لمباشرة حفر خليجها وهو ما يعلنه السلطان الداهية..

   ويذكر الشعراني أن الظاهر بيبرس اجتمع بالبدوي يقول (وكان الملك الظاهر بيبرس أبو الفتوحات يعتقد فى سيدي أحمد اعتقاداً عظيما وكان ينزل إلى زيارته [34])، ومن المرجح أن يكون ذلك قد تم أثناء مروره على طنطا متخفياً وانتشر ذلك وردده المريدون الأحمدية حتى وجد طريقه لكتاب الشعراني .

  ومع الأسف فان كتب المناقب – وطبقات الشعراني إحداها – لم تسعفنا بأخبار تلك المقابلة على الرغم من أنها المصدر الوحيد وكنا نأمل أن نعرف بأي صورة تبدى البدوي بها للظاهر بيبرس.

   ولكننا نكتفي بالقول بأن الظاهر بيبرس لم يقتنع تماما ولم تهدأ شكوكه إذ يبدو أن مصادره السرية أوضحت له أن مكة هي النقطة الأساسية للدعوة ومنها أتى البدوي مبعوثا ، وربما أتت للظاهر بعض المعلومات عن التحركات الشيعية الصوفية في الشام حيث كان يقيم عز الدين الصياد، والظاهر بيبرس كان كما نعرف طوافا بين الشام وحلب والحجاز ومصر، ومع أن رحلاته للحجاز كانت شيئا عاديا لا يثير الريبة لأنها تابعة له ، إلا أنه في سنه 667 قام بزيارة سرية مفاجئة لمكة أعد لها إعدادآ خاصا، ونصطحب المقريزي ليحدثنا عن هذه الرحلة فيقول عن بيبرس وكان في الشام وقتها : ( وصل للسلطان عيسى بن مهنا فأوهمه السلطان أنه يريد الحركة للعراق ،وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز ثم تحرك بهم للكرك كأنه يتصيد ولم يخبر أحد أن يتحدث بأنه متوجه للحجاز وذلك لأن الأمير جمال الدين بن الداية الحاجب كتب للسلطان (إني أشتهي أن أتوجه في صحبة السلطان الى الحجاز) فأمر بقطع لسانه فما تفوه أحد بعدها بذلك، ووصل إلى الكرك (ألأردن ) وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره  ووصل إلى المدينة المنورة ورحل منها فدخل مكة وأعطى خواصه من المال ليفرقوها سرا  وفرق كساوى على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس لايحجبه أحد،وهو منفرد ،وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين وأحسن إلى أميري مكة وينبع وقضى مناسك الحج ثم عاد للكرك ولم يعلم أحد بوصوله)[35].  

ومن الحمق أن يقال أن الحج كان السبب الوحيد الذى حمل بيبرس على كل هذا التخفى والتحرز إلى درجة أنه يقطع لسان حاجبه حين صرح برغبته فى أن يصحب السلطان فى تلك الرحلة السرية ،والمعقول أن تخفيه فى هذه الرحلة لسبب يتصل بقضية تشغل باله حين زار الأسكندرية ثم الغربية متخفيا. فأسلوبه واحد فى تلك الرحلات .الأحسان للعامة ومقابلة الصالحين والأهتمام بأمر الحكام المحليين ، ثم الغموض الزائد والتعمية عن كل تلك المقابلات بالحج أو حفر الخليح أو تتبع حاكم ظالم وعزله .    

وقد ورد فى كتاب المناقب أن الظاهر بيبرس ورد مكة متخفيا فقابل شقيق البدوى ، يروى عنه عبد الصمد (فبينما نتحدث وإذا برجل راكب على هجين وهو متنكر فى زى بدوى وهو ملثم فقلت للعبيد : على بهذا الرجل الراكب على الهجين فجاءوا به فسلمت عليه وقلت له فى أذنه .أهلا وسهلآومرحبا بالملك الظاهر بيبرس فكاشفته بأمارات مخفية بينى وبينه فتبسم ضاحكا وقال : نعم أنا الملك الظاهر بيبرس[36]) وقد أورد عبد الصمد هذا النص بعد حديثه عن الحسن وهو يتتبع أخبار شقيقه البدوي فى مصر . ويبدو أن الظاهر بيبرس تحقق فى هذه الرحلة السرية من صدق تصوف البدوي وتيقن من أنه لا يخفي هدفاً سياسياً سرياً فكتب المناقب تفيض بما ينم عن اعتقاد الظاهر بيبرس فى البدوي وأخيه الحسن إلى درجة الحفاوة والكرم المتبادل بينهما.

   لقد استغل الشيعة المتصوفة نقطة الضعف عند الظاهر بيبرس ألا وهى اعتقاده فى التصوف ورجاله فظهروا له بالوجه الصوفي وتوقفوا عن دعوتهم السرية خوفا من جواسيسه ودهائه وعقابه.   وقد سبقت لهم الأمثلة فى الكوراني وحصن الدين والسرسناوي ،ثم زاد الأمر حين اكتشف بيبرس أن شيخه خضر ليس بالمخلص له وكانت نكبته سنة 671 وكانت أيضا النهاية لأحلام البدوي وشركائه .         



[1]
 السلوك 1/540 ، 565

[2]السلوك 1/540 ، 565

 

[3])نفس المرجع السابق 1 / 567 : 574

[4]     السلوك 1/ 583 ، 584

[5]السلوك 1/ 583 ، 584

[6]نفس المرجع السابق 637/1

[7]السلوك 1/442 ،452

[8]الكتبى :عيون التواريخ : مخطوط مصور 2/256 :257 

[9]السلوك 1/440،420

[10]السلوك 1/440

[11]ابن حجر الهيثمى .تاريخ الخلفاء مخطوطورقه126ب

[12]النويرى .نهاية الأرب .مخطوط 38/28

[13]الكتبى.عيون من التاريخ 256/2 مخطوط

[14]السلوك 1/420

[15]) ابن حجر .رفع الاصر 351 ،352 ،اليافعى مرآه الجنان 1/153 :154

[16]السلوك 1/416

[17]) الطبقات الكبرى 1/15.

[18])مجلة السياسة 11

[19]الطبقات الكبرى للشعرانى1/140،2/3

[20])المختصر فى أخبار البشر 3/200

 

[21]حسن المحاضرة 1/521. تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم

[22]الطبقات الكبرى ’2/2

 

[23]نهاية الأرب مخطوط 28/42:41 119 :120            

[24]تاريخ ابن كثير 13/2">[30]نفس المرجع 1/505              

[31]نفس المرجع 1540        

[32]نفس المرجع 1543 

[33]نور الدين .البدوى100

[34]) الطبقات الكبرى 1160

[35]السلوك 1580: 582      

[36]الجواهر السنية 61

 

ف1 :سابعا : حركة البدوى بعد الفشل

(1) لماذا فشل البدوي سياسياً:

1 ـ أدت سياسية الظاهر بيبرس وتحرزه ودهاؤه إلى نهاية خضر العدوي معتقلاً وإلى نهاية البدوى معتقلاً أيضاً داخل إطار التصوف الذى رفع رايته ليستتر تحته فاضطر فى نهاية الأمر أن يحتمى به من خصمه الجبار العنيد الداهية. لقد استرسل البدوي فى دعواه الصوفية إلى نهايتها وترك هدفه السياسى الذى قصر حياته عليه ،وهو الآن فى شيخوخته أصبح لا يطمع إلا فى النجاة من مخالب بيبرس وجواسيسه الذين يحصون عليه أنفاسه ،وظل كذلك من سنة 671 إلى أن ماcedil;ت سنة 675 فى زمن قريب من وفاة خضر سنة 676 وبيبرس (محرم سنة 676).

   لقد أرعب بيبرس أعداءه وأصدقاءه على السواء، وحين كان يتنكر أو يسير خفية لا يستطيع أحد أن يتحدث بخبره خوفاً منه ومن جواسيسه ، ودفع حياته ثمنا لمؤامرة قتل بالسم حاكها لأحد أصدقائه (القاهر الأيوبي) الذين يتخوف منهم ، ولكنه أخطأ فشرب الكوب المسمم المقدم للضحية، ومات بدمشق فأشيع أنه مريض وحمل للقاهرة ،ولم يجسر أحد أن يتفوه بموته حتى وصلوا به للقاهرة ،وظل مخيفا للأمراء المماليك حتى وهو مريض مرض الموت حتى  أن أحدهم (لم يجسر أن يدخل عليه فى مرضه إلا بإذنه [1]) . ذلكم هو بيبرس الذى قدر على البدوى أن يواجهه فى شيخوخته حين بلغ من الكبر عتياً (وقد توفى البدوى فى حدود الثمانين ).

2ـ   وربما أدرك البدوي فى هذه السن استحالة تحقيق أحلامه لأن الظروف السياسية التى انتشرت بها دعوته فى عصر الاضطراب (637- 658 )قد تغيرت إلى توطيد  للدولة المملوكية على يد حاكم جبار كالظاهر بيبرس .

   وربما أدرك البدوي متأخراً خطأ الاعتماد على المصريين الذين جعلهم أساس دعوته وعصبيته ، فالمصريون على استعداد عميق لحب آل البيت بل وتقديسهم إلا أنهم مع ذلك آخر المتحمسين للقيام بعمل عسكرى لنصرتهم. وما تاريخ الفاطميين ببعيد ،فالدعوة الإسماعيلية تمت فى شمال أفريقيا وتحركت إلى مصر بعد أن أصبحت دولة فاتحة ،فانتقلت إلى مصر دولة كاملة بجيش ونظم واتخذت منها مركزاً جديد للدعوة تساندها قوة الدولة الوافدة. ولقد تنبه لهذه الحقيقة باحث مصرى قرر(أن التشيع فى مصر يكاد ينحصر فى حب آل البيت ولم يذكر المؤرخون شيئا عن تحرك المصريين لتأييد حملات الفاطميين )[2].

 بل على العكس انصرف المصريون عن الدعوة الإسماعيلية الشيعية وانضم بعضهم إلى دعوة الكيزانى الصوفية السنية.ثم إن المتصوفة المصريين بالذات هم أبعد الناس عن الجهاد فى سبيل عقيدة دينية ولو كانت صوفية ، فغايتهم فى التصوف أن يستفيدوا به فى سمو المكانة لدى الحاكم والمحكوم ،وهم أسرع الناس نفاقا للحاكم طالما ظل فى سلطته ،وأسرع الناس انفضاضاً عنه إذا حاقت به المحن [3].    

وهذا ما تمخضت عنه دعوى البدوي بعد موته، فقد تحولت إلى طريقة صوفية مصرية صميمة واسعة الانتشار ، وبها ازدادت شهرة البدوي ذلك الدعية المجهول فى عصره ، وظلت شهرته تزداد بازدياد التصوف والفروع المتشعبة للطرق الأحمدية السطوحية بحيث يمكن القول بأنه إذا كانت دولة الظاهر بيبرس والمماليك قد انتقلت إلى متحف التاريخ فإن دولة البدوي لا تزال قائمة فى نفوس المصريين حتى الآن ،ويستشعرها القارئ لهذا الكتاب فى نفسه، فلقد نشأنا جميعاً على تقديس البدوي والاعتقاد فى ضريحه ، وتلك هى دولته التى فشل فى إقامتها على أرض مصر فأقامها مع أتباعه فى عقيدة المصريين وقلوبهم .

 3ـ   والبدوي فارس قديم قيل فيه (اتفق وقوع حرب بمكه فخرج وضرب فيها بالسيفين وطعن فيها بالرمحين فتعجب الناس من شجاعته [4]) ، وكفارس قديم داهية أدرك البدوي اختلاف طبيعة الشعب المصرى عن الشعوب الصحراوية فى أفريقيا والجزيرة العربية ،إن المصريين كشعب زراعي أميل للاستقرار والهدوء ومعايشة الأمر الواقع والصبر عليه ، أما البدو فى الصحراء الكبرى وصحراء الجزيرة العربية فالدماء تخط تاريخهم اليومى بين نزاع وثأر وصراع مستمر لأى سبب وبدون سبب، ومن السهل أن تقوم هناك الدول سريعاً ومن السهل أن تسقط سريعاً أيضاً..وشاهد على ذلك الصراع المستمر بين أمراء مكة والذى شارك فيه البدوي (بسيفين ..ورمحين) والقلاقل المستمرة فى أفريقيا وقيام الدول وسقوطها ،والجند فيها من بين أبناء المنطقة أنفسهم.أما فى مصر فالحاكم- وقتها – كان دائماً وافداً ، وبجيش وافد ، وغالبا ما يتشكل من طوائف شتى ليس من بينها بالقطع فلاح مصري زراعي ، وقد ظل الأمر كذلك إلى أن فرض محمد علي فى نهضته الحديثة التجنيد على المصريين فكان الشاب يودع أهله بالصرخات والدموع كأنه ذاهب للمقصلة .

4 ـ ولعل البدوي أدرك متأخراً أن مركز القوة فى المنطقة انتقل من العصبيات القبلية المحلية الشعبية إلى الطوائف العسكرية ،فلم تعد القوة لعصبيات النسب وصلات الدم والقرابة وتجمعات القبائل.لقد اضمحلت القبائل العربية كقوة سياسية بعد أن أقامت دولا كالدولة الإسلامية العربية فى عهد الراشدين ودولة الأموبين ،ثم بدأ الضعف يستشرى فيها بقيام الدولة العباسية وانتهت كقوة حربية رسمية بعد أن قطع المتوكل العباسى العرب من ديوان الجند ، وبدأت صولة الغلمان الأتراك فى التحكم فى الخليفة وجيش الخلافة ثم انتهت سطوتهم ليرثهم البويهيون من الديالمة الوافدين من الشرق وبعد أن سقطوا ورثتهم قبائل السلاجقة الأتراك ، وسرعان ما سقطت تلك العصبيات الوافدة فاضطر الخليفة الناصر العباسى وهو يحكم منفرداً للاستعانة بالعامة المدربين عسكرياً ممن انخرطوا فى سلك الفتوة وعرفوا بالعيارين والشطار.. وكان الحل الحاسم النهائي هو شراء المماليك صغاراً وتنشئتهم على الفروسية والطاعه العمياء للسلطان ، وقد اشتهر بذلك بنو أيوب منذ صلاح الدين ..وأصبح شراء المماليك ليكونوا عسكرا نظاماً عاماً منذ ذلك الوقت طبقه المماليك أنفسهم فكان السلطان المملوكي يستكثر من شراء المماليك ليواجه بهم خصومه وليضمن لذريته الحكم من بعده ، ولكن يخيب ظنه دائما ، فالمماليك الذين اشتراهم لحماية ولده هم الأسرع فى تنحيته عن السلطة ..ولقد تابع العثمانيون تلك السياسة (شراء الرقيق وتنشئتهم حربيا وسياسيا )فكان عماد القوة العثمانية يتركز فى الانكشارية . 

   وإذا كان ذلك واضحا فى مناطق جبلية كالعراق وآسيا الصغرى فهو فى مصر – البلد الزراعي – أوضح وأظهر ..فالأغلبية العظمى الساحقة من المصريين زراعيون يدينون بالطاعة والولاء للسلطان القائم ..والأقلية الضئيلة هم من العرب – أو البدو – الذين وفدوا لمصر مع الفتوح وبعدها ..وبعد أن قطعهم المتوكل عن الجندية اضطر بعضهم للاستقرار والعمل بالتجارة وظل الآخرون على بداوتهم وحياتهم العسكرية ، يعيشون على أطراف التجمعات الزراعية فى الحوف الشرقى (الشرقية )والبحيرة والصعيد ، يمارسون قطع الطريق والتسلط على الفلاحين ويعلو سلطانهم مع ضعف السلطة المركزية، ولا تخلو قلاقل محلية من مشاركتهم فيها ، وكان لابد أن تحدث المواجهة بين المماليك – كقوة حاكمة جديدة – والعربان ، ومن المنتظر أن يُهزم الأعراب فالوقت لم يعد وقتهم فهم الماضى الذى أفل نجمه وانطوت صفحته ، وهكذا كانت حركة حصن الدين ثعلب النهاية لطموح الأعراب أبان قوة الدولة المملوكية وعنفوانها ..

يقول المقريزي فى حوادث 651 . (ثارت العربان ببلاد الصعيد وأرض بحرى وقطعوا الطريق براً وبحراً وقام الشريف حصن الدين ثعلب وقال : (نحن أصحاب البلاد )ومنع الجند من تناول الخراج وقال: ( أنا أحق بالملك من المماليك وقد كفى أنا خدمنا بنى أيوب وهم خوارج خرجوا على البلاد ) وأنفوا من خدمة الترك (أى المماليك ) وقال (أنهم عبيد للخوارج )..واجتمع العرب وهم يومئذ كثرة فى المال والخيل والرجال إلى حصن الدين ثعلب وهو بناحية دهروط وأتوه من أقصى الصعيد وأطراف البحيرة والجيزة والفيوم وحلفوا له كلهم فبلغ عدة الفرسان اثنى عشر ألف فارس وتجاوز عدة الرجالة الاحصاء لكثرتهم)[5]

ولم تغن هذه الكثرة شيئا أمام قوة المماليك المنظمة المدربة التى تعيش حياتها للقتال ، وانهزم حصن الدين بجموعه من الأعراب أمام أقطاى كبير البحرية ، وبعث يطلب الأمان من السلطان أيبك فأمنه ووعده بالأقطاعات له ولأصحابه فقدم حصن الدين ومعه نحو ألف فارس من العربان وستمائة راجل فغدر به أيبك وشنق أتباعه وبعث به معتقلا إلى الأسكندرية .وخمدت بذلك قوة الأعراب من يومها إلى عصر المقريزي فى القرن التاسع ، يقول معقبا (وتبدد شمل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ..وأمر المعز أيبك بزيادة الضرائب على العرب ومعاملتهم بالعسف والقهر فذلوا وقلوا حتى صار أمرهم على ما هو عليه الحال إلى وقتنا هذا [6]) .

أى أن المماليك فى بداية دولتهم – وقت دعوة البدوي – كانوا قد أجهزوا على القوة الحربية الوحيدة بين المصريين التى يمكن أن تقف فى وجههم ثم التفتوا للشعب المصرى فى القاهرة الذى كان يكره تولية المماليك الحكم فساقوه بالعسف والنكال حتى استكان لهم .. ويعلق المقريزى وأبو المحاسن على ما فعله أيبك بالمصريين بأن الفرنج لو ملكوا مصر ما فعلوا بأهلها مثلما فعل بهم المماليك فى ذلك الوقت [7].

ثم جاء الظاهر بيبرس فحصر الشدة والعنف فيمن يتآمر عليه ولو كان أقرب الناس إليه بينما اكتسب محبة الخاضعين لسلطانه فأقفل الباب نهائيا أمام طموح البدوى .. فلم تعد أمام البدوى قوة حربية يواجه بها العسكرية المملوكية .. فى الوقت الذى تحول فيه الشعور الشعبى لناحية الظاهر بيبرس قاهر المغول والتتار والمحسن للمساكين والرعية .

  والطريف أن الأعراب عادت إليهم قوتهم حين ضعفت السلطة المملوكية البرجية فى أوائل القرن العاشر . ولم يترك الصوفية مشايخ الأعراب فى حالهم فتكالبوا عليهم تسولا واستجداء حتى أضجروهم فيقول أحدهم ( قد عجزنا فى رضا هؤلاء المشايخ " الصوفية " من كثرة ما يشحذون منا .. وكيف تطيب نفوسهم أن يأكلون من طعامنا ويقبلوا صدقاتنا مع علمهم بأن أموالنا لا تسلم من الحرام [8]) .

5 ـ   ونعود للبدوى وفشله فى دعوته السرية فقد تحول ميزان القوة إلى الدولة المملوكية بعد توطيدها على يد الظاهر بيبرس الداهية .. ولم يجد البدوي عنصرا حربيا يستطيع أن يواجه به العسكرية المملوكية التى تفوقت على الصليبيين والأرمن والمغول والنوبيين .. وخاب أمله فى المصريين وكلهم فلاحون سلاحهم الفأس وأملهم الاستقرار وراحة البال وطريقتهم فى مقاومة الظالم الصبر عليه أو التندر والسخرية منه . وكانت الخيبة أكبر فى الصوفية المصريين – وهم عماد دعوته ، فهم أصدقاء كل حاكم حالى وأعداء كل حاكم سابق ، ينافقون القائم فى السلطة وما أسرع ما يلعنونه إذا دارت به الأيام ..

وأعوان البدوي من السطوحية الأربعين ماذا يفعلون؟؟  وقد تحول ميزان القوة الحربية للعصبيات العسكرية التى تنشأ وتربى على القتال كالمماليك .. وقد صار نظام المماليك الحربية سائدا فى المنطقة بعد انهيار قوة القبائل المتحكمة كالعرب والبربر والترك والبهويين والسلاجقة .. أى أنه حتى لو كان الفلاحون المصريون شعباً مقاتلا كالعرب والبربر فما كانوا ليغنوا شيئاً أمام نظام المماليك الذى استقر وحكم فى مصر وانتصر على الصليبيين والمغول والأرمن والنوبيين .. لقد كانت هناك طائفة عسكرية وحيدة من  بين المصريين هم البدو الذين تسلطوا على المصريين نهباً وسرقة حين تضعف السلطة الحاكمة ، وقد بدأت العسكرية المملوكية بالإجهاز على قوة البدو الأعراب حين ساندوا حصن الدين ثعلب ولم يسمحوا لهم بالاستمرار أى لم يسمحوا ـ لأى قوة تحمل السلاح أو تجيد استخدامه ـ بالوجود فخدعوا حصن الدين واعتقلوه بعد الأمان وقتلوا كل أتباعه من الأعراب فلم تقم لهم قائمة كما يقول المقريزي .. وظلوا هكذا إلى أن ضعفت الدولة فى عصر الشعراني فصار لهم بعض النفوذ .  لقد خاب أمل البدوي فى المصريين والصوفية المصريين ووقفت ضده ظروف لا طاقة له بها ولا يد له فيها فاسترسل فى دعواه الصوفية إلى نهايتها خوفاً على حياته من خصم لا يرحم .

وبالتصوف استفاد وأتباعه من بعده إذ تعود المصريون الحج إلى طنطا فى (مولد) البدوي ، وبالتصوف ازدادت شهرة طنطا فى عهد الأشرف شعبان المملوكي فأصبحت قصبة محافظة الغربية ، أى عادت لمكانتها القديمة التى كانت عليها فى الدولة الفاطمية .. وما لم يستطعه البدوي لطنطا بالسياسة وصلت إليه طنطا بضريحه وبالتصوف . وتقديس البدوى وشهرة مولده وانتشار طريقته فى مصر وخارجها آثار لدعوته السياسية المستترة بالتصوف . ولكنها ليست الآثار الوحيدة ، فالمنتظر من دعوة سياسية سرية كدعوة البدوي أن تكون لها ذيول سياسية أيضاً .

(ب) الآثار السياسية لدعوة البدوي :

أبو العباس الملثم

لم يكن لدعوة سرية منتظمة منتشرة كدعوة البدوي أن تنتهى إلى لا شىء، وإذا كان الصوفية المصريون قد قنعوا بالتصوف وهو الهدف المعلن فإن بعض الأتباع ظلوا على ولائهم للهدف السياسى وكان أبرزهم أبو العباس الملثم مبعوث المدرسة العراقية ، ذلك الرجل ( الملثم ) الغامض المختلف فى عمره وفى مكان موته ( هل فى قوص أو فى القاهرة ) ووقت وفاته ( هل سنة 672 أو سنة 740 )، ولقد كان ذلك الغموض مقصودا فالراوى عن أبى العباس الملثم هو تلميذه المخلص عبد الغفار بن نوح ، يقول الأدفوي عنه ( قال : صحبته وانتفعت به ، ويحكى عنه عجائب ويذكر عنه غرائب [9]).

يذكر ابن حجر فى ترجمة أبى العباس الملثم أنه ادعى المهدية وأن الله شافهه بالوحى وأمره بانذار الناس ودعوتهم إلى الله ( فاشتهر أمره فأخذ وحبس ) ثم ( قيل للسلطان فأفرج عنه ) ثم ثار سنة 699 فأمسكوه وحبسوه واتفقوا على شنقه فأرسل إليه القاضى تقى الدين ابن دقيق العيد فأوعز إليه ( أن يظهر التجانن ففعل فأثبت القاضى أنه مجنون وحكم بذلك [10]) ونجا بفضل ابن دقيق العيد ، ومعلوم موقف ابن دقيق العيد السابق من البدوي حين أرسل إليه ليختبره فاقتنع بسلامة موقفه، أو أظهر أنه مقتنع وإن لم يقتنع الظاهر بيبرس ، ثم كان موقفه من أبى العباس الملثم تصعيداً فى تأييده للدعوة الشيعية المستترة .

  وما كان لابن دقيق أن يخدع بسهولة فله جولات سابقة فى حرب الشيعة بالصعيد ، ولكنه مال للتصوف فى أخريات عمره ووقع فى براثن أصحابه من المتصوفة الشيعة ، وإلا فبما نفسر موقفه من ادعاء الملثم للمهدية والمهدية مرتبطة  بالتشيع والثورة  الشيعية فى كل عصر . وأبو العباس الملثم كان مصراً على دعواه فثار من أجلها مرتين ، وأنقذ فى المرتين بتدخل ذوى الشأن .

    ومع أن أبا العباس الملثم صعد إلى قمة الأحداث والشهرة فى حركته تلك فإن الغموض وجد سبيلاً إلى تاريخه حين بان وظهر كقول ابن حجر عنه ( ثم قيل للسلطان فأخرج منه ) فنحن لم نعرف من تدخل ليطلق سراحه فى المرة الأولى .

  والمؤرخون الآخرون سجلوا حركة الملثم فى حوادث سنة 701 وإن لم يذكروه بالاسم ، يقول المقريزي ( ظهر بالقاهرة رجل ادعى أنه المهدى فعزر ثم خلى عنه [11]) ويقول العيني ( ظهر بالقاهرة إنسان سمى نفسه المهدي ، وادعى أنه من ذرية الحسين بن على بن أبى طالب ، وأنه ينذر بوقائع يعلم بوقوعها فاعتقل امتحاناً فلم يصح شىء من قوله ، وظهر أن به فساداً فى عقله فعزر تأديبا له ثم خلى سبيله [12]) ، والعينى والمقريزى من مؤرخى القرن التاسع ويبدو أنهما أخذا هذه الرواية عن بيبرس الداودار (ت 725) المعاصر لأبى العباس الملثم فى القرن الثامن، يقول الداودار فى تاريخه ( ظهر بالقاهرة إنسان سمى نفسه المهدي وادعى أنه من ذرية الحسين بن على وأنه ينذر بوقائع يعلم وقوعها فاعتقل امتحانا لنقله فلم يصح شىء من قوله وظهر أن به فسادا فى عقله فعزر تأديبا له ثم خلى سبيله [13]) ، أى هى نفس رواية العينى ونقلها العينى عن المؤرخ بيبرس الداودار المعاصر للملثم.

  ولقد كان أبو العباس ( الملثم ) رفيقا للبدوى (الملثم ) فى الدعوة ، وإذا حظى أبو العباس ببعض الذكر فى المصادر التاريخية مشوبا بكثير من الغموض والخلط فإن رفيقه البدوى الملثم حرم من التاريخ له جملة وتفصيلا فى القرنين السابع والثامن.

    وهناك أكثر من صلة تربطهما غير اللثام والقدوم من المغرب والتتلمذ للمدرسة الرفاعية والغموض ...إلخ .

    من هذه الصلة ادعاء المهدية .. فالظاهر أن البدوي كان يدعى المهدية أيضا وكان يعامل أتباعه السريين على هذا الأساس ، وليس لدينا من دليل فى الواقع إلا ما ألمحت إليه كتب المناقب فيما بعد بعدة قرون ، فيقال أن البدوي حين قدم به أبوه من المغرب إلى الحجاز تلقاه سلطان مكة- وكان البدوى صغيرا – فقال لأبيه ( اين الشريف أحمد الملثم فقال له والدى على ابن ابراهيم لم يكن عندنا أحد إسمه أحمد غير ولدي أحمد فقال لنا: اجمعوا بينى وبينه فإن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفه لى وأراني صفته وحليته فى المنام وقال لى يخرج من المغرب وهو ابن سبع سنين ويدخل مكة وهو ابن أحدى عشرة سنة وأشار إلى أن أسير إليكم وأجتمع بكم وأسلم عليكم وعلى الشريف أحمد الملثم وأسلم عليه وأتبرك به وقال لى : أنه سيظهر له حال وأى حال ويربى المريدين ويجىء منهم رجال وأى رجال [14]).

وادعاء المهدية هو نفس مقولة ( الفاطمى المنتظر) للمدرسة المغربية. وعلى ذلك فإذا فشلت دعوة البدوي السرية فى المهدية فأن رفيقه أبا العباس الملثم جاهر بها بعد موت البدوي وأصر عليها ثم أذعن لمصيره ورضى بإعلان الجنون . والجنون كان سترا للبدوى حين كان يصيح فوق السطح .. وابن دقيق العيد شاهد على جنون ( الملثم أبا العباس ) وشاهد أيضا على جذبة ( البدوي الملثم ) تارك الصلاة. إلا أن أبا العباس يتميز بطابع الثورية والمبادرة أكثر من البدوي فقد جاهر بدعوته فى ظل دولة قوية وطيدة الأركان ولم يجرؤ البدوي إلا على التستر بالتصوف والاسترسال فيه حرصا على حياته، بل إن أبا العباس قد أعذر من نفسه فأعاد مقالته ، وهنا لم ينجه من الموت شنقاً إلا ابن دقيق العيد وادعاء الجنون .

 عبد الغفار بن نوح

  وهذه الثورية المشتعلة فى نفس أبى العباس والتى جعلته يتنقل بين الصعيد والقاهرة فى حركة مستمرة – انتقلت منه إلى تلميذه وصفيّه وحوارييه عبد الغفار ابن نوح فأثرت فى مجرى حياته وجعلته نسيج وحده ومختلفاً عن رفاقه من المتصوفة المصريين محبى السلبية والسكون والموائد والولائم وملء البطون .

   وهو عبد الغفار ابن نوح ( الأقصرائي ثم القوصي ) أى ( الأقصري المولد القوصي الدار صحب أبا العباس الملثم وسمع الحديث بالقاهرة وحدث بقوص وسمع بمكة ) و( كان  مستقره فى قوص مع شيخه أبى العباس الملثم[15].).

    أى ولد عبد الغفار فى الأقصر حيث مدرسة أبى الحجاج الأقصري ومنها انتقل إلى قوص فاستقر بها مع أبى العباس الملثم ومن قوص تنقل بين القاهرة ومكة ولهما مكانة فى الدعوة الشيعية السرية .

    وتأثر عبد الغفار بشيخه الملثم وتشرب مبادئه وثوريته ، وقد شهد شيخه فى أرذل العمر يجهر بدعوته ويتعرض للنكال فى عهد سلطنة الصبي محمد الناصر بن قلاوون الثانية ، ومرت الأيام وتتقلب الأمور بالسلطان الصغير ابن قلاوون بسبب تحكم أمراء أبيه فيه حتى عاد فى نهاية الأمر ليتولى بنفسه الحكم منفرداً أو مستبداً فى السلطنة الثالثة (709- 741).

وقد شهدت هذه الفترة علو شأن الصوفية فقد أقام لهم الناصر محمد خانقاه سرياقوس سنة 725 وضحى فى سبيلهم بصديقه السابق ابن تيمية فاعتقله سنة 726 بعد أن وقف ابن تيمية إلى جانب محمد بن قلاوون فى محنته حين كان مقهوراً يتحكم فيه بيبرس الجاشنكير مغتصب السلطنة منه ، ورفض ابن تيمية وهو فى سجن بيبرس الجاشنكير ـ مغتصب الحكم منالناصر محمد بن قلاوون ـ أن يعترف بصحة تولى الجاشنكير السلطنة ، وفضل الوقوف مع الحق الضائع وصاحبه ( محمد الناصربن قلاوون) المغلوب بينما كان الصوفية يظاهرون الجاشنكير ، ثم تخلوا عنه حين تخلت عنه الدنيا وأسرعوا بتأييد ( الناصر محمد ) حين تسلطن .وجاء الناصر محمد  ينشد الاستبداد فبدأ يتصاعد النفور بينه وبين صديقه ابن تيمية ، ووجد من الصوفية استعداداً لتأييده فكانت محنة ابن تيمية الأخيرة ، وفيها كانت وفاته معتقلاً . وتم بذلك انتقام الصوفية الأحمدية والرفاعية منه منذ بدأ حركته باضطهادهم بالشام قبلا.

وفى ( شهور العسل ) هذه بين الناصر محمد بن قلاوون والصوفية قام عبد الغفار بن نوح باستغلال أدوات الدعوة السرية وأتباعها الموزعين فى المدن المصرية وقام بإحراق الكنائس المصرية فى الصعيد والقاهرة والدلتا والأسكندرية فى وقت واحد سنة 721 . وقد تعرضت المصادر التاريخية لهذا الحديث الفريد وذيوله بين تفصيل وإيجاز .. فالنويري تعرض لها بتفصيل وتابعه العيني فى عقد الجمان ناقلا عن النويري الذى عاصر الحدث .. أما بيبرس الداودار وهو معاصر كالنويري فقد أشار للموضوع بايجاز وتابعه المقريزي فى السلوك .. والأدفوي  مع معاصرته إلا أنه حصر الحديث عما حدث فى الصعيد فى ترجمته لعبد الغفار باعتباره مهتما بالصعيد ورجاله فى كتابه ( الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد ) والشعراني أشار للحادث فى كتابه لطائف المنن .

   وبدأت القصة والسلطانالناصر محمد بن قلاوون يصلى فى جامع القلعة وحين فرغ الناس من الصلاة فإذا برجل مجذوب يصيح بهدم كنيسة القلعة ، فتعجب السلطان والناس من أمره ، ثم ذهبوا للكنيسة للاستطلاع فوجدوها قد هدمت ، وحدث نفس الشىء بعد صلاة الجمعة فى الجامع الأزهر ، حين خرج الناس من الأزهر وجدوا الكنائس القريبة قد دمرت ، وفى يوم الأحد التالي ورد من والى الإسكندرية ما يفيد أنه قد هدمت أربع كنائس فى وقت الصلاة يوم الجمعة وفى نفس الوقت هدمت كنيستان فى دمنهور ، وست كنائس فى قوص بقيادة الشيخ عبد الغفار وأعوانه ( ولما وقف السلطان على ذلك انزعج وتواترت الأخبار بعد ذلك من المسافرين من الوجه البحري والوجه القبلي أنه هدمت كنائس كثيرة من البلاد التى لا يؤبه لها وكان هدم الجميع فى وقت واحد فخشى أن يفسد عليه أمر مملكته فقال له الأمراء : يا مولانا السلطان هذا ليس من العامة ولا من الناس المعتبرين وإنما هو إرادة الله تعالى وأجراه على يد بعض خلقه ، وإلا كيف يقع هذا فى وقت واحد وساعة واحدة ، وقال القاضى فخر الدين : يا خوند أنت تريد تعارض فعل الله؟ والله إذا أراد أمراً فلا معاند له فى حكمه!! وأنت مع حرمتك العظيمة لو رسمت بهدم كنيسة فى دمياط وأخرى فى الاسكندرية لما وقع ذلك فى ساعة بعينها )[16].

  واعتقل الشيخ عبد الغفار وحمل للقاهرة ثم أفرج عنه بعد قليل [17].

 وقد ذكر العيني أسماء الكنائس التى دمرت فبلغت نحو ستين كنيسة أحرقت كلها فى وقت واحد حين الانشغال بصلاة الجمعة . و(السيناريو) واحد فى كل بلد .. يقوم مجذوب يصيح مضطربا داعيا لهدم الكنائس ويختفى فيتعجب الناس وحين يخرجون من المسجد تطالعهم الكنائس المهدمة ودخان الحريق فيها .. ولغرابة الأمر فقد اعتقد السلطان ومستشاروه أن تلك إرادة الله، فالسلطان نفسه لو أراد أن يحرق كنيستين فى وقت واحد فى الاسكندرية ودمياط ما استطاع .

     وما كان للشيخ عبد الغفار وحده أن تمتد يده بإحراق الكنائس المصرية كلها فى وقت محدد ، وما كان بطاقة مجموعة من الناس أن يفعلوا ذلك بالدقة التى نفذ بها وبالتخطيط الذى تم ، إن الأمر أبعد من ذلك ، إن هدم بناء ضخم يستلزم عصبة من الرجال تكتم الأمر وتعد له وتنفذه فى الوقت المحدد، وإذا تصورنا أننا أمام ستين مبنى قد دمروا فى نفس الوقت لوقفنا على التنظيم والدقة والتخطيط الذى صاحب هذه العملية الفريدة من نوعها فى التاريخ المصرى والذى جعل مصر كلها له مسرحاً .

   لقد استغل عبد الغفار بن نوح الدعاة السريين للدعوة الشيعية الصوفية وهم موزعون فى كل مدينة والاتصال بينهم مستمر ومتجدد وقد بقوا بلا عمل بعد موت البدوى ، وإذ عجز أولئك عن مواجهة القوة الحربية المملوكية فى أرض المعركة فهم أقدر على إحراق مصر كلها بمؤامرة تنفذ فى الخفاء لإفساد الأمر على صاحب السلطة ، وهذا ما توجسه الناصر محمد لولا أن مستشاريه استبعدوا ذلك وأقنعوه أن الأمر قضاء وقدر ..

إلا أن المسيحيين لم يقتنعوا فقاموا باشعال الحريق فى القاهرة ( ولا يكاد يفرغ الناس من حريق حتى يفاجأوا بحريق آخر) وكانوا يعزون السبب إلى أنه إرادة الله إلا أنهم فوجئوا بفتيلة كبيرة ملوثة بالنفط فبحثوا عن الفاعل واعتقلوه وكانوا أربعة من الرهبان متلبسين ، وشرع الناس فى أذى النصارى وكادت تقوم فتنة فأمر الناصر محمد باعتقال المتظاهرين من الحرافيش والعامة فاعتقل جماعة كيفما اتفق وصلبوهم ، ولكن الحريق لم ينقطع وقبض على ثلاثة من النصارى واعترفوا ، فقامت مظاهرة ضخمة من العامة واجهوا السلطان دون خوف وصاحوا فيه بالانتصار للإسلام – بزعمهم- فخشع لهم السلطان ( وحصل له بهته فتوجس خاطره فأنه رأى هذا العمل منهم بعد أن عمل فيهم من الصلب والقطع – أى قطع الأيدى – وبقى متعكراً إلى أن وصل الميدان وجلس وهو يسمع ضجيج هؤلاء .. فطلب الحاجب وأمره أن ينادي من وجد نصرانياً فيكون دمه وماله حلالاً للسلطان ، فلما نادى الحاجب فيهم بذلك طابت خواطرهم وصاحوا نصرك الله ودعوا له ).. ثم تدارك السلطان الأمر وخففه إلى تعزير النصارى وتنكيلهم دون القتل [18].

  وانعكس ما حصل للنصارى على صعيد العلاقات الخارجية مع الحبشة وعلاقة الحبشة بالامارات الإسلامية المجاورة لها . ذلك أن ملك الحبشة كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين لأنه يتبع الكنيسة المصرية مذهباً وكانت مصر ترسل له بطريركاً مصرياً للإشراف على الكنيسة الحبشية [19]. وعندما علم ملك الحبشة (عمد صهيون ) بما حدث للكنائس المصرية والمسيحيين  بعث للناصر محمد باحتجاج شديد اللهجة يهدد فيه باجراءات مماثلة ضد مسلمي الحبشة وتحويل مجرى النيل ليجيع مصر ، غير أن  الناصر لم يعبأ بهذا الاحتجاج وطرد السفارة الحبشية ، فبدأ ( عمد صهيون)  الحرب ضد الإمارات الإسلامية بالحبشة وتابع إبنه بعده ( سيف أرعد ) أعماله العدوانية ضد التجار المصريين واعتراض طريق القوافل  بين القاهرة وشرق أفريقيا [20].

   وهكذا كان لمؤامرة الشيخ عبد الغفار آثارها المدمرة داخلياً وخارجياً فقد كادت مصر أن تصرعها الحرب الأهلية وكاد الحريق أن يأتى على القاهرة  واكتسبت السلطنة المملوكية عداء الحبشة ودفعت الإمارات الإسلامية فى زيلع وبربرة والصومال ثمن المؤامرة التى نفذها الشيعة الصوفية فى مصر ..

لقد أعلن عبد الغفار السبب فى حركته تلك فقال( كثر فسادهم وزاد طغيانهم فنودي بالانتقام منهم [21]). وقد يكون السبب فى كراهيته للنصارى مناصرة السلطات المملوكية فى قوص وأسيوط للنصارى ضد المسلمين ، وذلك ما اعترف به فى كتابه ( الوحيد ) ، ونقله عنه الشعرانى [22].

  ولكننا نقول أن المقصود بهذه المؤامرة الشاملة إحداث قلاقل داخلية وخارجية للانتقام من الدولة المملوكية التى وطدت سلطانها على حساب الدعوة الشيعية ودعاتها المنتشرين فى كل مكان ، وإذ عجز أولئك عن المواجهة الصريحة فقد ارتأوا أن يصيبوا الدولة فى مقتل عن طريق التآمر بليل وهم لا يستطيعون سوى ذلك .. وقد أفلحوا فى مسعاهم فلم يلق عبد الغفار إلا قليلاً من الاعتقال ثم أفرج  عنه فاعتكف فى جامع عمرو حتى مات . وأحرز شهرة بعد موته حتى يبعث ثيابه التى مات فيها للتبرك بها وفرقت على الزوايا الصوفية [23].

  لقد انتقم عبد الغفار لشيخه أبى العباس الملثم ، وانتقم الجميع للبدوي الذى زرع البلاد بأعوانه حتى إذا قرب تحقيق الأمل جاء الظاهر بيبرس فحجر عليه ومنعه من جنى الثمار ، ودفعت مصر الثمن قتلاً وإحراقاً ، ولم تكن مصر فى يوم من الأيام بلدا للتعصب الديني ولكن ربما كانت البلد الوحيد الذى نفذت فيه مؤامرة شاملة بهذا الاقتدار والتخطيط ضد طائفة لا ذنب لها إلا لمجرد غرض سياسي وتصفية حسابات قديمة مع السلطة .

  إن حركة عبد الغفار – وقبله خضر العدوي – أمر لا يقره الإسلام .. ولكن من قال أن عقيدة الصوفية تتفق مع الاسلام ؟؟ إن عقيدتهم المخالفة للإسلام – والتى نشروها مع الأسف فى مصر – تمثلت فى عبادة البدوي وذلك ما سنتعرض له فى الفصل الثانى .

  هذا .. ولقد كان لسياسة الناصر محمد فى تقريب الصوفية أن تشجع الشيعة المتسترون بالتصوف وادعوا المهدية ، كما حدث من المهدي النصيرى الذى ظهر بالشام سنة 717 ، وبعده بست سنوات اعتلى أحد المماليك منبر جامع الحاكم الفاطمي وادعى أنه المهدى وسجع سجعات يسيره على طريقة الكهان ( فأنزل فى شّر خيبة[24]) . ولم تكن تلك الحركات سوى قفزات فردية لا تعبر عن تخطيط جماعى كما شهدنا فى دعوة البدوى فى القرن السابع.

ولم تكن دعوة البدوي هى الأخيرة ، فقد كانت للشيعة الصوفية وحلفائهم الأعراب حركة إبان ظهور تيمور لنك ولكنها لم توفّق . ثم نجح الشيعة الصوفية فى إيران فى تشييد أول دولة على أساس التصوف الشيعى هى دولة الصوفيين أو الصفويين.

(جـ) الحركات الشيعية الصوفية بعد البدوي:

أفلحت حركة البدوي فى استغلال التصوف والاستكثار من الأتباع وتنظيمهم .. إلا أنها أخطأت فى التركيز على مصر والاعتماد على المصريين كأساس للتحرك الشيعي الصوفي ، ثم إن الظروف تغيرت بسقوط دولة ضعيفة هى الدولة الأيوبية وقيام دولة فتية هى دولة المماليك البحرية .

  وفى نهاية القرن الثامن شهدت مصر اضطراباً سياسياً حيث تحكم المماليك الجراكسة فى أبناء الناصر محمد بن قلاوون وأحفاده ، وصراع الجراكسة فيما بينهم على التحكم فى السلطان القلاووني الصغير وحكم مصر من خلاله.وقد انتهت هذه الفترة بتكوين السلطان برقوق للدولة المملوكية البرجية منذ بداية القرن التاسع .

    وفى هذه الآونة كان تيمورلنك يؤسس مملكته فى الشرق ويتجه بأطماعه نحو الغرب والدولة المملوكية .ووجد الشيعة الصوفية فى المغول وزعيمهم الجديد تيمور الفرصة فى استعادة ملكهم الزائل والانتقام من الدولة المملوكية التى قضت على أحلامهم فى القرن السابع . وكانت لتيمور اهتمامات شيعية وحدب على الأشراف . وبدت فى المشرق تحركات غامضة بين أعوان تيمور من الشيعة فى خراسان واليمن ، مما دفع بالدولة المملوكية رغم متاعبها الداخلية إلى مراقبة الأشراف وتمييزهم بعصائب خضر على العمائم سنة 773[25].

  ثم وقع على كاهل السلطان برقوق عبء المواجهة مع الحركة الصوفية الشيعية الجديدة ، وكان برقوق كفؤا للمواجهة فقد استغل بنفسه التصوف فى تنصيب نفسه سلطاناً وهو أدرى باستغلال التصوف ولن يسمح لأحد بأن ينتصر عليه فى هذا المجال . ولم يكد السلطان برقوق يهدأ فى مقعد السلطنة حتى واجه خطر تيمورلنك سنة 796، وبينما كان يستعد للتحرك للقائه – ذلك اللقاء الذى لم يتم – إذ علم بمؤامرة ضده يقوم بها الشريف العنابي المتواطىء مع تيمورلنك. وكانت خطة العنابي تتلخص فى الاستيلاء على السلطة مع أتباعه من أعراب (العائد) حين يخرج برقوق بجنده لمقابلة تيمور لنك فى الشام ويكمل تيمور لنك الإجهاز على برقوق وجنده ، وحظى الشريف العنابي بتأييد بعض المماليك ، وفشلت الخطة لأن موسى العائدي شيخ العرب العائدية أفشى بالسر إلى برقوق الذى أسرع بقتل الشريف العنابي وأعوانه[26]واشتد فى معاملة الأشراف عموما [27].

   ومهما يكن من أمر فإن أحلام الصوفية الشيعة لم تتحقق مع تيمور إذ انهارت دولته بعد موته بأسرع مما يتوقعون ، كما أنه فى حياته لم ينشغل إلا بالفتوح والحروب والدماء ولم يكن فى وقته أو طموحه متسع لتحقيق أهداف الشيعة .

 وبعد تيمور اقتنع الشيعة المتصوفة اللاحقون بضرورة الاعتماد على النفس وتكوين الأتباع حربياً وصوفياً فى نفس الوقت.وتم ذلك فى فارس حيث قامت دولة الصفويين فى أوائل القرن العاشر الهجري .

وإسماعيل الصفوي رأس هذه الدولة تسميه المراجع التاريخية باسم ( الصوفي ) ، وهو ( صفوي ) بالنسبة لبيته أى ( صفى الدين الاردبيلي ) جده الأكبر .. وهو ( صوفي ) نسبة إلى مذهبه ( التصوف الشيعي ) الذى قام به جده صدر الدين من مزج التصوف بالتشيع والانشغال بالسياسة والاصهار إلى حسن أوزون صاحب ديار بكر .. إلى أن جاء حفيده ( اسماعيل ) وقد كثر أتباعه من ( القزل باش ) وبهم استطاع أن يمد ملكه فاستولى ( على ساير ملوك العجم وخرسان واذربيجان وتبريز وبغداد وعراق العجم وقهر ملوكهم وقتل عساكرهم  بحيث قتل ما يزيد على ألف ألف وكان عسكره يسجدون له [28]) .

  وحين اتجه اسماعيل الصوفى ( الصفوى ) بفتوحه ناحية الغرب كان لا بد أن يصطدم بالقوتين الإسلاميتين السنيتين ( الدولة العثمانية فى آسيا الصغرى والدولة المملوكية فى الشام ومصر ) والحدود متقاربة بين الأطراف الثلاثة . وبدأ اسماعيل الصوفي تحرشاته بالمماليك والعثمانيين فى وقت واحد مما أدى  بالعثمانيين والمماليك للتعاون بينهما ضده .. وخشى اسماعيل مغبة هذا التعاون فعمل على أن يستميل إحدى القوتين إليه ليضرب بها الأخرى ، ولأنه كان مستحيلاً بالنسبة إليه أن يستميل السلطان سليم العثماني الذى تولى السلطنة بعد عزل أبيه لتهاونه ضد اسماعيل الصوفي – فقد ركز اسماعيل على استمالة الغوري ، وتم له ذلك عن طريق داعية صوفي شيعي تسلل إلى حاشية الغوري واصبح من أخص ندمائه وسيطر على عقله وجعله فى النهاية يخرج بجيشه بحجة الصلح بين اسماعيل الصوفي وسليم العثماني ليمنع الحرب بينهما ثم يتورط فى حرب مع سليم العثماني ويخسر الحرب وحياته وجيشه ووتنهار الدولة المملوكية أمام العثمانيين بدون قصد من العثمانيين وبدون نية حقيقية من السلطان العثماني للقضاء على الدولة المملوكية السنية .

 والمتتبع لتاريخ ابن أباس يلاحظ الهلع الذى كان يصيب الغوري والقاهرة من تحركات الشاه اسماعيل الصوفي ضد حلب على الحدود المصرية المملوكية [29].

  وفى هذه الأثناء كانت الشيعة تتحرك بمصر بتوقيت متناغم مع الخطر الخارجي الذى يمثله اسماعيل الصوفي . وأثار فزع الغورى تحالف العربان ضده وميل الأشراف للثورة حتى لقد ثار بالصعيد صوفي شيعي وادعى المهدية وضربت عنقه ، وعقد الغورى مجلسا للبحث فيمن انتحل النسب الشريف مخافة أن يكون بينهم جاسوس لاسماعيل الصوفي[30].

  ثم تغير الوضع بمجىء المبعوث السري الذى لعب بالغورى وقضى عليه ، يقول ابن اياس ( حضر إلى الأبواب الشريفة " بقصد مكان السلطان" الشريف العجمي الشنقجي نديم السلطان الذى كان توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب ( للاستعانة بها فى حرب العثمانيين ) وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير ما مرة ، فظهر أن السلطان كان أرسله إلى شاه اسماعيل الصوفى فى الخفية فى خبر سر للسلطان بينه وبين الصوفي كما أشيع بين الناس ذلك .. فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخرة خرج السلطان قاصدا نحو البلاد الشامية والحلبية [31]) أى نحو حتفه فى مرج دابق ، ويقول الغزي ( قبل معركة مرج دابق قرب الغورى إليه أعجمياً كان ينسج المودة فى الباطن بينه وبين اسماعيل حتى أخرجه من مصر لقتال سليم بحجة الاصلاح بينه وبين الصوفي [32]) وبهذا تم الانتقام من الدولة المملوكية.

ولم يكن اسماعيل الصوفي يتوقع أن تنهار الدولة المملوكية بهذه السرعة أمام خصمه سليم العثماني لذا فسرعان ما استغل الشيعة المحليين فى الكيد للعثمانيين فى مصر والشام كما فعل ابن حنش وابن حرفوش وغيرهما من أمراء الشام ثم جرب حظه مع الأمير المملوكى جان بردى الغزالى نائب الشام من قبل العثمانيين ، وأفشل العثمانيون تلك الحركات كلها .

 وأخيرا لجأ اسماعيل الصوفى إلى طريقته المفضلة وهى استمالة الحاكم عن طريق مبعوث صوفى شيعى سرى .. وتم  ذلك عن طريق الشيخ ظهير الدين الأردبيلى وكان من الدعاة السريين للشاه إسماعيل ولكنه استطاع ان يخدع سليم العثمانى فاصطحبه معه إلى تركيا ولكن سرعان ما عمل الأردبيلى لصالح عقيدته الشيعية فرجع إلى مصر مع أحمد باشا والى مصر وهو مملوك السلطان سليم ، وما زال الاردبيلى بأحمد باشا حتى تحول إلى مذهب التشيع وقام بثورة على العثمانيين  وكان نصيبه القتل [33].

 تلك لمحات سريعة عن الحركات الشيعية الصوفية وموقفها من الدولة المملوكية فى مصر ، ورأينا أنها أفلحت فى نهاية الأمر فى إقامة دولة شيعية صوفية فى إيران بقيادة الشاه اسماعيل الصوفي (الصفوي ) وعلى يده كان انهيار الدولة المملوكية فى مصر عن طريق مبعوثه السرى الشريف العجمى الشنقجى الذى تسلط على عقل الغوري وانتزعه من التحالف مع العثمانيين رفاقه فى المذهب السني ، وجعله يتحالف مع الشاه اسماعيل الصوفي ويخرج بنفسه لحتفه ، ووقف الشاه اسماعيل يتفرج على قوة سنية فتية تجهز على رفيقة لها هرمة دون أن يحرك ساكنا ..لقد كان سليم العثمانى فى طريقه لمحاربة  اسماعيل الصوفي فوضع اسماعيل فى طريقه الغوري فقامت بينهما الحرب بحمق الغوري ودهاء الشنقجي المبعوث السري الذى عقد معه اتفاقا سريا أخرج الغوري من م"> ومع أن المؤرخين لم يسجلوا ما يقطع بوجود هذه الحركة السرية فإن كتاباتهم تشى بكثير من التحرك السرى للشيعة يؤيده الكثير من اللمحات فى كتب المناقب والطبقات الصوفية التى تبرز الدوافع والتحركات السياسية فى إطار من الكرامات الموحية والتى تعبر عن أحلام يقظة لم يقدر لها أن تتحقق إلا فى عالم التمنى ودنيا الباطن وادعاء الكرامات الزائفة .

 ومهمة الباحث التاريخي فى عصرنا ألا يقتصر عما كتبه المؤرخون السابقون ممن عاصروا الحدث وكتبوا عن إقامة الدول التى نجحت فعلا , فالسابقون لم يتركوا لنا إلا القليل .. إن التحدى الحقيقى يكمن فى أن يحاول باحث التاريخ اليوم تتبع الحركات السرية التى لم تتم , يجمع لها الأدلة وينفذ بفكره ألى ما تحت الظاهر من الأحداث والأخبار , ويلقى بالأنوار الكاشفة من التاريخ السياسى المعاصر للحركة السرية لكى يعلل ما خفى منها من أحداث , ولا يأخذ ما تعارف عليه الناس كقضية مسلمة طالما لا تجد لها سنداً من التاريخ أو العقل أو الدين .. وهذا ما حاولت أن أفعله فى رصد حركة البدوي وأرجو أن أكون قد وفقنى الله تعالى فيه ..

  قد ينكر الكثيرون القضية بأكملها .. قضية أن يكون البدوي والرفاعي أصحاب طموح سياسى ودعوة سرية لقلب نظام الحكم فى المنطقة , ولكننا نؤكد أن عناصر التآمر واضحة جلية فى سيرة أولئك الصوفية إلى درجة تجعلهم مختلفين عن الصوفية العاديين ممن تخففوا من الطموح السياسى والحركة السياسية السرية .

(د) ونلخص عناصر التآمر لهذه الحركة السرية فيما يلى :

 أولا:

كونهم يدا واحدة دون بادرة اختلاف وشقاق , والصوفية شأنهم التفرق والاختلاف إذ كانت حياتهم فى التصوف وحده .. يقول رويم الصوفى ت303 ( ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم[35] ) . واختلاف الصوفية يظهر فى اختلافاتهم المستمرة فى تعريف التصوف والزهد ومقامات التصوف واشتقاقاته وعقائده التفصيلية , وحين تحول التصوف من النظريات إلى التطبيق العملى وتكوين الطرق الصوفية انتشر الخلاف بين أرباب الطرق الصوفية وانحدر إلى تنافس حول الأتباع والموائد والولائم والرغيف والدرهم والدينار .   

   أما اصجابنا ممن تستر بالتصوف فقط فلم يعرفوا هذا الشقاق . وابن عربي مثلا وهو من أساطين الدعوة والتصوف النظري الفلسفى يقول فى صراحة ( العصى والقضبان إذا تفرقت تكسرت وإذا جمعت لم تقووا على كسرها فاجتمعوا ولا تتفرقوا )[36]. وحين بدأت الدعوة حقق أولئك تعاليم ابن عربي فكانوا يداً واحدة على من عداهم من الصوفية الآخرين , فالبدوى يكن الود لمعاصره الدسوقي ويستقبل البلقيني والبلتاجي فى نفس الوقت الذى يطرد فيه الصوفية الآخرون ويقول ( عليكم الطمس والخفاء إلى يوم القيامة ) واتباع مدرسة الواسطي يتخلون بكل بساطة عن الأسكندرية ليخلو الجو للشاذلى الذى احتل مكانة أستاذهم فيها , والدسوقى يعتبر نفسه ضمن المدرسة الشاذلية لأنه تابع طريق الشاذلي فى الدعوة , وأبو السعود بن أبى بن العشائر على صلة وثيقة بمعاصره أبى العباس البصير الوافد من المغرب فى نفس الوقت الذى نحس فيه بنفورهم من عبدالرحيم القنائي المنشق على الدعوة , والبدوى لا يستريح إلا إذا أنهى كل وجود صوفى مخالف فى طنطا وفى نفس الوقت يسمح لسالم المغربى بالبقاء لأنه زميل فى الدعوة , والدسوقى يقر بتبعيته للبدوى فيقول ( وأما ولد العم سيدى أحمد البدوي فإنه الأسد الكاظم , وفى ذلك يقول :

 قال ابن أبى المجد فضل الله علينا عم

                                          كل الجماعة تبع والسيد أحمد عم)[37].

وبانحسار العامل السياسي وتحول الطريقة الأحمدية إلى تصوف بحت ساد التنافس والتنازع بين اشياخها وألمح إليه عبدالصمد [38]  .

   ثانيا

برغم تتابع الزمن وأختلاف المكان إلا أن التخطيط واحد بين المدرستين الرفاعية والبدوية.

1 ـ فالرفاعي يؤمر فى البقاء فى أم عبيدة إلى أن يموت ،والرفاعي يأمر خلفاءه بنفس الأمر، ويأمر أبا الفتح الواسطى بالاقامة فى الإسكندرية إلى أن يموت ،والبدوي يظل فى طنطا إلى أن يموت، وكلما أرسل مبعوثه إلى مكان قال له( مقامك ومماتك بها ). ثم إن السياسة واحدة لدى الرفاعي والبدوي فكلاهما ساق أتباعه بمزيد من الحزم وفى الوقت نفسه واجه المجتمع بالتصوف ( إما بالتصوف الخانع كالرفاعي أو الجنون والجذب كالبدوي )، وكلاهما أرسل بعوثا إلى الأماكن الهامة فى ناحيته وجعل من مقره مركزاً للدعوة تعلن التصوف وترسل الوفود فى الخفاء ، وكلاهما ادعى لنفسه نسباً علوياً هاشمياً وسار الأتباع على نفس الطريق ( ادعاء النسب العلوي ). وادعاء النسب العلوي عادة سيئة بدأ بها ثوار الشيعة واشتهر بها الفاطميون ثم سار على منوالهم أساطين الحركة الشيعية كالرفاعي والشاذلي والدسوقي والبدوي , وحتى لو صح هذا النسب فلن يغنى عنهم من الله شيئا .

2ـ ونلمح تخطيطا آخر على مستوى أعلى وأعم .. فكل الرءوس أتت من المغرب وأقامت فى مكة وتحركت منها إلى العراق ـ ثم اتجه البدوي إلى طنطا .. ومن العراق والمغرب كانت تأتى الوفود إلى مصر بشيخ ومريدين أجانب يكونون مدرسة تجمع الأتباع من بين المصريين كما فعل أبو السعود الواسطي وأبو الفتح الواسطي وأبو العباس الملثم وأبو العباس البصير وأبو الحسن الشاذلي . ثم البدوي وأتباعه خارج مصر .

3ـ وهناك تخطيط آخر نلمحه على نطاق ضيق فى تاريخ البدوي فى طنطا فهو سلسلة من الأحداث المرتبة المخططة لا وجود للصدفة فيها , فقد قدم لطنطا مباشرة واتجه رأساً إلى بيت ركين الدين [39]  وسرعان ما أتته الوفود من العراق والحجاز واليمن والشام وكانوا من أوائل أتباعه , وبادر بالتخلص من الصوفية الآخرين فى طنطا ثم كانت بعوثه إلى داخل وخارج مصر وصلاته الغامضة بمدرسة أبى الفتح الواسطي والدسوقي , وهو مع ذلك كله مجهول فى مكان مجهول يتظاهر بالجذب والجنون , وهو حاكم بأمره فى طنطا التى أصبحت مدينة كاملة للدعوة بأتباع يتزعمهم عبدالعال وتحت أمرته مشرفون على الكنس والطبخ والبريد والماشية , وبهذ التخطيط أصبحت طنطا مركزاً للدعوة يضارع أم عبيدة فى العراق . أى أن البدوي فى رحلته لأم عبيدة لم تضع أيامه سدى أو فى صراع ووفاق مع فاطمة بنت برى  كما تزعم كتب المناقب.  

4ـ والأسلوب واحد بين أشياخ الدعوة فهم يغضون الطرف عن الاتهامات الخاصة بالنساء والانحراف الخلقي بل قد توحى بذلك عن عمد سيرتهم لإلهاء الخصم عن الغرض السياسى , فالرفاعي اتهم بالجمع بين الرجال والنساء وقريبا من ذلك اتهام أبى العباس الملثم ولم يحاول أحدهما الدفاع عن نفسه ,وخضر العدوي كان يتشدق علنا بفجوره ، وكتب المناقب نسجت قصة فاطمة بنت برى كغطاء على هدف البدوى من رحلته إلى العراق وأم عبيدة .

5 ـ والشيعة كرواد للتصوف ابتكروا الطرق الصوفية ليستطيعوا بها التغلغل فى أعماق المجتمعات . وقد بدأ عبدالقادر الجيلاني (478ـ 562 ) تكوين الطريقة القادرية , وسيرته تنضح بالطموح السياسي الشيعي

 [40]كما يبدو من ترجمته فى الطبقات الكبرى للشعراني , ثم تابعه ابن عربي فأسس الطريقة الأكبرية , وفى القرن السابع كان إنشاء الطرق الرفاعية والأحمدية والسطوحية والبرهامية الدسوقية والشاذلية أسوة بالدولة الفاطمية [41], وفيما بعد انتشرت الطرق الصوفية حتى أصبح فى عهد الشعراني من إحدى العادات السيئة للصوفي أن يبادر بتكوين طريقة صوفية ينافس بها شيخه ويزاحم بها الآخرين .

  والمهم أن ابتداع الطرق الصوفية لم يكن عبثا , فقد كانت الطرق ستاراً يجمع الأتباع وينشر الدعوة ويرسل الوفود وفيها تعقد الاجتماعات وتتم المراسلات .. حتى إذا خاب السعي السياسي استغلت إمكانيات الطرق الصوفية فى إعلاء مكانة الأشياخ وتقديسهم وجمع النذور ( والنقوط) ونصب الولائم .. ثم تابعهم الآخرون ، فعمت البلوى بالطرق الصوفية وفروعها العديدة فى كل شارع ، حتى كان فى عصر الشعراني بين كل طريقة صوفية وأخرى شيخ ناشئ يحاول تكوين طريقة لنفسه , وأصبح عملاً مربحاً أن تنشئ لنفسك وأبنائك طريقة صوفية تتيح لك أكبر قدر من التمتع المربح والبطالة اللذيذة ... وقد أثار أولئك حنق الشعراني فهب ساخطا عليهم فى كتبه "لطائف المنن " و" رسالة إلى مدعي الولاية فى القرن العاشر " وتنبيه المغترين " و" ردع الفقراء عن ادعاء الولاية الكبرى " ...إلخ .

ثالثا :

وبالإضافة لعناصر التآمر السابقة فهناك غموض ومعميات وتساؤلات لا توجد إجابة واضحة لها ولا تعليل مناسب إلا فى ضوء الدعوة السرية ...

من ذلك مثلا:ـ

1 ـ لماذا ظل البدوي مجهولاً منذ وفاته فى القرن السابع إلى نهاية القرن التاسع حين بدأ التأريخ له على استحياء فيما ذكره السيوطي فى حسن المحاضرة ؟ مع أن السيوطى لم يذكره فى الوفيات فى كتابه " تاريخ الخلفاء "  وحتى حين ذكر ترجمته المختصرة فى " حسن المحاضرة" كانت الترجمة الوحيدة التى لم يذكر فيها مصدراً أخذ عنه.. ثم كانت ترجمته التالية فى طبقات الشعراني فى القرن العاشر بدون مصدرً أيضاً .

  و"البدوي" هو من أشهر الأعلام فى مصر بل ربما يكون أشهرهم على الإطلاق.. ولا تعليل للجهل به حين كان حيا يرزق فى القرن السابع إلا أنه كان داعية مستتراً , ولا تعليل لشهرته فيما بعد إلا أنه له اتباعا سريين نشروا الدعاية له فى كل أرجاء مصر وخارجها . وبهم اشتهر البدوي واشتهرت طنطا والمولد الأحمدي والطريقة الأحمدية السطوحية وبهم استمرت سيرة البدوي تراثاً شعبياً تحفظه الصدور مختلطا بالكرامات فيقول عبدالصمد (إن الناقلين لتلك الكرامات غير معلومين والمؤلفين لها غير مشهورين والحاكين للأقوال غير مذكورين)[42].

 2 ـ و...لماذا ساس الرفاعي أو البدوي أتباعهما بالحزم بينما واجه الآخرين بالتصوف والجذب ؟ إن الشأن فى الصوفي العادي أن يكون واضحاً صريحاً فهو إما " مجذوب" أمام الجميع وإما " سالك" أمام الجميع . فليس لديه شئ يخفيه , والتصوف فى ذلك العصر كان ولا يزال مرعى الجانب , والصوفى يتمتع بالحظوة لدى الناس والحكام فلا داعى حينئذ للتلون اللهم إلا إذا كانت هناك خبيئة فى النفس ودعوة سرية تخشى مواجهة الحاكم ومن لا يوثق بهم .

 3* ويلفت النظر أن البدوي دخل طنطا فى أسوأ حال , ماشيا على قدميه متورم العينين تشيعه الصبيان لغرابة مظهره كما ورد فى ترجمته فى الطبقات الكبرى للشعراني وذلك أمر منتظر من مسافر اتى من مكان بعيد وقاسى الكثير من عناء السفر . ولكن من غير المنتظر أن يجد ذلك المسافر بيتاً يؤويه بسرعة وأتباعا يلحقون به من الشام والعراق والحجاز واليمن , ثم لا يلبث أن يصير متحكماً فى طنطا , وصاحب دور وماشية وحاشية , وذلك لا يحدث إلا فى أساطير ألف ليلة , ولسنا نجد فيها حلاً مقنعاً .. والحل المقنع يتجلى فى الدعوة السرية المخطط لها بإحكام من قبل الشيعة أساطين الدهاء والسرية .

4 * ثم لماذ يرسل الصوفي العادى بعوثا ويلزمهم بالبقاء فى أماكنهم حتى الموت ؟ . الشأن فى الصوفي العادى أن يحاول بقدر الإمكان أن يكثر الأتباع حوله , فكلما كثر الأتباع زاد المدد وتعاظمت " النفحات" من المريدين والمحبين , أما صاحبنا الذى يصطنع التصوف ستارا فهو يزرع البلاد بأتباع دائمين ويعزز الاتصال بهم حتى إذا حانت ساعة الصفر تحركوا فى ساعة واحدة كل منهم بأتباعه فى بلدة واستولوا على السلطة .

 5* ثم كيف نحلل إحراق الكنائس المصرية كلها ـ ما عدا واحدة هى الكنيسة المعلقة ـ فى وقت واحد فى جميع البلاد على امتداد العمران المصري من أقصى الصعيد إلى الأسكندرية ؟ ثم يلصق ذلك بأحد أتباع الدعوة ؟ ويكون واضحا أن ذلك الحدث قد خطط له بإحكام ونفذ بطريقة واحدة فى كل البلاد .. ثم يأتى الحدث بآثار مدمرة داخلياً وخارجياً لا يمكن فهمها إلا فى ضوء الانتقام من السلطات التى حالت دون تحقيق الهدف الذى كان أصحاب الدعوة المنتشرون فى كل البلاد ـ يأملون فى الوصول إليه , وقد عاشوا على أمل تحقيقه أياما طويلة .

6*ويلفت النظر أن أصحابنا من المتصوفة الشيعة قد عانوا الكثير من الاضطهاد إلى درجة الاغتيال ومؤامرات القتل كما حدث للشاذلي فى المغرب وأبى العباس الملثم فى مصر وأبى الحجاج الأقصري فى الصعيد وأبى الفتح الواسطي فى الأسكندرية واسماعيل الإنبابي فى إنبابه وخضر العدوي مع الظاهر بيبرس وابن عبدالسلام . ثم أبومدين فى المغرب والبدوي فى طنطا ـ حين امتحنه ابن دقيق العيد ـ والرفاعي فى أم عبيدة حين انكر عليه المعارضون , وقد أدت المؤامرات إلى قتل بعض اساطين الدعوة كابن بشيش وعز الدين الصياد الرفاعي ...  والعهد بالدعاية الصوفية أن تضخم الحديث فيما يعد منقبة للأولياء وأن تثير السخط والهجوم على أعدائهم , وليس اغتيال ابن بشيش والصياد بالشئ الهين , ولكننا نفاجأ بسكوت مريب عن ظروف القتل وملابسات الاغتيال , فكل ما هناك أن يقال إن ابن أبى الطواجن هو قاتل ابن بشيش وأن يوصف عز الدين الصياد " الشهيد عز الدين الصياد " . ولا تعليل هنا إلا بالدعوة السرية والحرص على كتمان ظروفها , ولو تجسدت هذه الظروف فى مقتل أحد الكبار .. ولا تعليل لهذه السلسلة من الاغتيالات والاضطهاد والمحاكمات إلا أن أولئك أصحاب هدف سري مضاد للدولة الحاكمة , والحرب الخفية مستمرة بين الطرفين .. وبينما تقرب السلطات المتصوفة العاديين وتقيم لهم الخوانق والزوايا والربط فأنها تلاحق المتسترين بالتصوف وبالإضطهاد والمحاكمات وأولئك ينتقمون منهم بكرامات مزعومة..

7 *ثم هذه الرسائل الشفرية التى كان يرسلها الدسوقي لأعوانه فى مصر ومكة ويدعي أنها باللغة السريانية , وما هى فى السريانية فى شئ ، وقد عرضتها على متخصصين فى السريانية فأنكروها , ولا تفسير لهذه الشفرة إلا فى الدعوة الشيعية السرية واتصالاتها الشفرية .

 8 ـ وفى النهاية فإن عناصر المؤامرة وظروفها ووقائعها تتمشى مع الواقع التاريخى للمنطقة , ففى التطورات التاريخية المعاصرة لهذه الدعوة الإجابة الكافية على ازدهار الدعوة ثم اضمحلالها .. فقد انتشرت الدعوة الرفاعية وتغلغلت بعوثها فى الشرق ولكن قضى عليها هناك ظهور الخطر المغولى والدولة الخوارزمية السنية , ثم تغيرت ظروف العراق إلى الأسوأ وبموت الرفاعى وانهيار الدولة الفاطمية فى مصر كان التركيز على مصر الأيوبية , وزاد التركيز على مصر الأيوبية بمجئ البدوى حين ضعف الحكام الأيوبيون وانشغلوا فى صراع عائلى مستمر مع اضطراب مبعثه الحروب الصلبية الوافدة  إلى مصر وتحالف بعض الأيوبيين مع الصلبيين فى الشام وبوادر الخطر المغولى الزاحف من الشرق وضغطه على الدولة الخوارزمية التى تضغط بدورها على الحكام الأيوبيين فى العراق والشام .. وازداد الضعف الأيوبيحتى سقطت الدولة فى مصر وانشغل الحكام الجدد بمنافساتهم الداخلية ومشاكلهم الخارجية مع الأيوبيين والمغول , وفى هذه الأثناء وصل نشاط البدوي إلى الذروة , ولكن بدأ توطيد الدولة المملوكية على يد الظاهر بيبرس وهو خبير فى المؤامرات شديد الدهاء , سريع التحرك لمواجهة أى خطر أو مؤامرة ووضح أن آمال الدعوة قد خابت على يد هذا العاهل القوى , وهذا ما حدث .

">[4]) الحلبى . النصيحة العلوية مخطوط 23 ب مكتبة الأزهر

 

[5]السلوك 1386

[6] السلوك 1387 ، 388

[7]السلوك 1- 380 ، النجوم الزهراة 7-9

[8] لطائف المنن للشعرانى 233 ، 236 ، 277 ، 278 ط  1288[8]

[9]الطالع السعيد 131

[10]الدرر الكامنة 1-197 : 198

[11]) السلوك 1969

[12]عقد الجمان مخطوط مصور 266           

[13]بدة الفكرة مخطوط مصور 408 ب

[14]عبد الصمد ، الجواهر 17 .  

[15]الطالع السعيد 323 ، 324 ، وحسن المحاضرة 1521

[16]) النويرى : نهاية الأرب 31 3: 4 . مخطوط ، عقد الجمان للعينى حوادث 721 ورقة 273 : 277    

[17]) بيبرس الداودار ، زبدة الفكرة مخطوط 9474 ، 475 السلوك 2 50

[18]نهاية الأرب نفس المرجع 31 8  وعقد الجمان  278 : 296

[19])  ابن حجر أبناء الغمر مخطوط حوادث 841  ورقة 3008

[20]طرخان :  المجلة التاريخية 8 52 ، 56 سنة 1959[20]

 

[21]العينى : عقد الجمعان 277: 278.

[22]لطائف المنن 459 ط 1288

[23]السلوك 250 .

[24]) تاريخ ابن كثير 14 83 ، 144

[25]النجوم 11 120 ، السلوك 3 199                        

[26]إنباء الغمر 1 470  ، نزهة النفوس 1  387.

 

[27]إنباء الغمر 2 366 : 367 : 502 : 503 ، الضوء اللامع 3 122 : 123

[28]) أخبار القرن العاشر . مخطوط 41 ، تاريخ القدس ، مخطوط 67

[29]) تاريخ ابن أياس  4 39 ، 118 : 123 ، 191 ، 205

 

[30]) تاريخ ابن اياس 4 219 : 221 ، 257 ، 260 ، 265 ، 271 ، 87 ، وتاريخ ابن طولون 1302

[31]تاريخ ابن اياس 5 35 ، 38

[32]) الكواكب السائرة 1297

[33]الغزى : الكواكب السائرة 1/216 ، 159 .

[34]مصطفى زيادة : المجلة التاريخية 4/1/215 .

[35]الرسالة القشيرية 218.

[36]رسائل بن عربى (كتاب التراجم 31) ط حيدر أباد 1948

[37]عبدالصمد الجواهر 82

[38]يقول عن الشيخ عبدالمجيد الأحمدى والذى كان شيخا سنة 965( ولم تزل أخوته يخاصمونه ويشكونه للحكام ومع ذلك يصبر على أذاهم ) وقد أدى تنافس الأشياخ الأحمدية إلى مقتل الشيخ عبد الكريم الأحمدى سنة 682 ., راجع الجواهر لعبدالصمد 35, 36 . 

[39]يقول الشعرانى فى ذلك ( ثم قصد طنتدا فدخل على الحال مسرعا دار شخص من مشايخ البلد اسمه ابن شحيط فصعد إلى سطح غرفته 1/ 159 )

[40]كان شيخا لأبى مدين الغوث زعيم المدرسة المغربية .

[41]سبق أن أشرنا إلى أنا الفاطميين ابتكروا الطرق الصوفية كما حدث من ابن مرزوق القرشى .

[42]الجواهر 4

 

الفصل الثانى : خرافة البدوي

تعاملنا في الفصل الأول مع " حقيقة البدوي " كداعية سري استغل التصوف ستاراً لهدف سياسى وحين فشل اضطر للاستمرار فى حمل راية التصوف للنهاية .. وموعدنا فى هذا الفصل مع " خرافة البدوي" ، فعن طريق التصوف ارتسمت للبدوي صورة أبعد ما تكون عن الواقع التاريخي أو حتى الواقع البشري . فالكتابات الصوفية عن البدوي تضاءلت فيها صفات البشر بقدر ما ظهرت فيها سمات التأليه ..

ومن نافلة القول أن نذكر أن حقيقة البدوي كداعية سري لم تظهر فى تلك الكتابات الصوفية إلا فى صورة منامات وإيحاءات ورموز ، وبمرور الزمن وكثرة الأتباع وانتشارهم  تسرب البدوي للعقل المصري  بالصورة التى رسمها أعوانه من الشيعة المتصوفة . وقد وجدت صورة البدوي تلك مكانة هامة فى الوجدان الشعبي الذى يحفل بالكرامات ويعشق الأساطير ويردد الأقاصيص , حتى إن الشعرانى فى ترجمته عن البدوي يقول "وشهرته فى جميع أقطار الأرض تغنى عن تعريفه[1]" أى أصبحت الأقاصيص الشعبية عن البدوى مصدرا يأخذ عنها الشعراني وغيره فى التأريخ للبدوي .

ولسنا فى مجال التمحيص لشخصية البدوي فى التراث الشعبي ولكننا نقرر أن الوجدان الصوفي حوّل شخصية البدوي التاريخية إلى " خرافة" فى اعتقاد الناس ، خرافة تحول بها البدوي من داعية مجهول إلى ولي معلوم ، ومن إنسان وبشر إلى إله، ومن تراب ورفات إلى ضريح ووثن.ويتحمل الصوفية الشيعة هذا الوزر أمام الله تعالى فقد ضلوا وأضلوا . ثم توالت الأيام وينشأ الجيل بعد الجيل فيجد تقديس البدوي فى أزدياد فلا يسعه إلا التسليم وإلا اتهم بالخروج على ما تعوده الآباء والأسلاف ، وتحولت " الخرافة " إلى " قداسة " لا يصح أن يقترب منها عقل أو علم إلا بحذر وتخوف .

ولكن هل يدوم الحال ؟.. طبعا لا ، فدوام الحال من المحال ،وقد كانت دولة البدوي فى أوج ازدهارها حين كان الناس فى حضيض التأخر والجهالة ، ثم تأثرت دولة البدوي تدريجيا بالصحوة العقلية والنهضة العلمية ، ومع كل ازدياد فى رصيد العلم والعقل يتضاءل حظ البدوي والصوفية من التقديس وتنقشع سحب من الخرافة ، ولا أدل على هذا الرأى من أننا لو قرأنا الآن ما كتبه السابقون فى القرون التاسع والعاشر وما يليها عن البدوي لما استطاع عقلنا أن يهضم كتاباتهم لأنهم يعبرون عن عقيدتهم فى البدوي وغيره من الصوفية. وهناك مثل آخر ، ففى عصرنا هذا نجد البيئات الشعبية حيث يعم الجهل وتقل حركة التطور – نجدها أكثر احتفالاً بالبدوى والصوفية من الأوساط الراقية والمثقفة ، فكلما ازداد العلم والثقافة كلما تضاءلت الخرافة وأصحابها.

وبعد.. فعلينا الآن أن نبحث "خرافة البدوي " من وجهة النظر الدينية ومصادرنا الأساسية تتمثل فى القرآن الكريم الذى نحتكم إليه ونعول عليه ثم فى كتابات الصوفية أنفسهم عن البدوي طبقاً لنظرتهم إليه واعتقادهم فيه ، وهو ما نعتبره خرافة تستحق وقفة للمناقشة ليظهر الحق مهما كان مؤلماً ويدحض الباطل مهما كان عالي الصوت ، والباطل مهما دامت دولته فهى قصيرة لا تصمد أمام أنوارالحق وآيات الله تعالى فى كتابه العزيز. وقد آن الأوان بعد قرون من التضليل والجهالة أن تزول الخرافة وأن تطهر منها عقول الناس رحمة بهم من أكاذيب وإفك مفترى يضل الناس عن طريق الله الواضح المبين ويحبط أعمالهم الصالحة ويقعد بهم عن التطور الخلاّق فى دنيا الحضارة ، كما يحرمهم رضا الله تعالى الذى ينهى عن تقديس غيره من بشر وحجر حتى لو كان ذلك البشر هو البدوي ولو كان ذلك الحجر هو ضريحه.

 لقد جعل الصوفية الشيعية من البدوي ولياً لله تعالى ، وهذه خرافة، وجعلوه إلها متصرفاً فى ملك الله تعالى وعالما للغيب وهذه خرافة أخرى ، ثم قصدوا البدوي بالعبادة من صلاة وحج وتوسل ونذور وموالد ، وكلها تجسيد لخرافة البدوي الإله فى نظرهم ، ثم بالغوا ففضلوا البدوي على الله تعالى فى التقديس والعبادة ..وهذا أفك مفترى وغلو ربما لم يقع فيه المشركون السابقون ، ثم اتبعوا خرافاتهم فى البدوى بتأويلات "خرافية" تسمح لهم بالانحلال الخلقى فى الموالد وغيرها. وقد يسأل سائل ، وما ذنب البدوي إذا انحرف أتباعه ؟ وقد أجبنا على هذا فى ختام الفصل .

 

أولا : هل يعتبر البدوي ولياً لله تعالى ؟  ومن هو ولي الله ؟

ولنبدأ بأجابة السؤال الثانى ( من هو ولي الله ؟) ففيه الأجابة على السؤال الأول ، يقول تعالى أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ (يونس 62: 64). فولي الله تعالى موصوف بالإيمان والتقوى، وفى آيات أخرى يقول الله تعالى عن اتصاف الولى بالتقوى وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ (الجاثية 19). ويقول إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ (الأنفال 34) وفى الآية الأخيرة جرى الأسلوب بالقصر أى أن الله تعالى لا يوالى إلا من كان تقياً. ويقول تعالى عن اتصاف وليه بالإيمان وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران 68) ويقول واللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ (البقرة 257).

ومعنى ذلك أن ولي الله تعالى لابد أن يتصف بصفتين أساسيتين هما الإيمان والتقوى، وإذا حللنا هاتين الصفتين فى القرآن الكريم لتعرفنا على سمات الولي فى المنظور القرآنى وهى:

1- العمومية: أى صفات عامة: ومعناها أن الإيمان والتقوى صفات عامة لا يختص بها شخص بعينه أو جنس محدد أو طائفة خاصة، وإنما هى صفات مطروحة أمام البشر جميعاً فى دنيا التعامل ومطلوب من بنى آدم كلهم أن يتحلوا بها عرباً كانوا أو عجماً، أغنياء أم فقراء، رجالاً أو نساءاً، صغاراً أو كباراً، من أتباع محمد أو عيسى أو موسى عليهم السلام أو غيرهم.

فعن الإيمان يقول تعالى إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة 62) أى أنه بغض النظر عن الأسماء والطوائف فكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فجزاؤه جزاء أولياء الله تعالى الذين َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. ونظير ذلك ما يقوله تعالى عن أتباع الرسل جميعاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (الأنعام 48)، أى أنه من آمن وأصلح من جميع أتباع الرسل فهو من أولياء الله تعالى الذين لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

والتقوى: أيضاً مطالب بها بنو آدم جميعاً منذ أنزل أبوهم آدم إلى الأرض، يقول تعالى يَابَنِيَ آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتّقَىَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (الأعراف 35). فلابد لبني آدم جميعاً من الاتصاف بالتقوى ليكونوا من أولياء الله الذين لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.ويقول تعالى للناس جميعاً يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ (النساء 1)، ويقول يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (الحج 1)، وفى سورة الشعراء كان كل نبى يدعو قومه فى كل عصر بكلمة واحدة هى فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ويقول تعالى لأمة محمد وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ (النساء 131). فالمؤمنون المتقون هم أولياء الله فى كل عصر..

2- العرضية:أى أنها صفات تقبل الزيادة والنقص، أى ليست صفات لازمة للمرء طيلة حياته، بل تتغير زيادة ونقصاً حسب الصراع القائم فى داخل الإنسان بين الخير والشر، بين الهوى والخشية، بين الشيطان الذى يوسوس والفطرة السليمة التى فطر الله الناس عليها، والعصمة لله وحده وللرسل فيما يوحى الله إليهم به، وقد خلق الله تعالى النفس البشرية وسواها على أساس الفجور والتقوى وقدم الفجور فيها على التقوى فقال وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس 7: 8). وصراع الشيطان مع الفطرة السليمة فى المؤمن مستمر باستمرار الحياة، وبينما تكون السيطرة الكاملة للشيطان على الكافر فإن المؤمن يظل فى صراع مع الشيطان فى داخل نفسه، وهذا الصراع قد ينجم عنه بعض زلات ومعاص فيسارع المؤمن بالاستغفار والتوبة، وقد يخرج منه منتصراً على هواه وغرائزه وحينئذ يكون تقياً.

يقول تعالى عن سيطرة الشيطان على المشركين دون المؤمنين إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ. إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل 99،100)، ويقول إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر 42). ويزيد من حدة الصراع فى داخل المؤمن أنه متفاعل مع البيئة، مطالب ـ ليس فقط بمراعاة التقوى فى نفسه أثناء تعامله مع خضم الحياة- ولكن مطالب أيضاً بأن يؤثر فى مجتمعه بالخير، ومن الطبيعى وهو بشر غير معصوم أن تؤثر فيه بعض المحن وأن يستسلم حيناً للهوى وحظ النفس وحيل الشيطان. وحين يقع فى حبائل الشيطان فلن يكون تقياً، وحين يسارع بالتوبة والندم يكون تائباً، وحين ينجح فى السيطرة على نفسه وغرائزه وينجو من الوقوع فى الإثم يكون تقياً نقياً، وتلك مجرد حالة من حالاته. وهكذا، فإيمانه وتقواه فى حالة تغير مستمر وارتفاع وانخفاض طالما بقى حياً.

يقول تعالى عن الإيمان كصفة قابلة للزيادة والنقص وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً (الأنفال 2) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (التوبة 124)، وما يقبل الزيادة يقبل النقص، فيقول تعالى عن المعاصى وكيف أنها تذهب الإيمان كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (المطففين 14). والمؤمن إذا وقع فى المعصية - ولابد أن يحدث هذا- فسارع بالتوبة وعزم على ألا يعود  فيكون حينئذ ضمن المتقين طالما بر بوعده وأقلع، يقول تعالى وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْملُونَ (آل عمران 135). فجعل من صفات المتقين المسارعة بذكر الله إذا وقع فعلاً فى معصية والعزم الصادق على ألا يصر على فعل المعصية.

فالتقوى حركة مستمرة باستمرار الحياة يقويها فى نفس المؤمن الاستمرار فى ذكر الله تعالى، ومعنى أن يداوم على ذكر الله أن يخشاه إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ (الأعراف 201)، وليس معنى ذلك أن المؤمن ملتزم تماماً بذكر الله تعالى، فليس معصوماً وإنما بيّن الله تعالى لأتباعه الوسائل الكفيلة بمحاربة الشيطان الذى يجرى فى نفوسهم مجرى الدم  فى الجسد ، والنفس قد خلقت على الفجور والتقوى، وتتركز هذه الوسائل فى ذكر الله تعالى واستغفاره، حتى يضمن لنفسه أن يخفف بقدر الإمكان من ذنوبه ومعاصيه حتى إذا انتهت حياته كانت النتيجة النهائية فى صالحه.

3- صفات غيبية:أى لا يعلم حقيقتها إلا الله وحده، فالإيمان والتقوى صفات قلبية وسبحان من يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ والمظهر خداع، بل ربما يكون أكثر الناس تظاهراً بالإيمان هو أكثرهم رياءاً ونفاقاً، فالإيمان تعامل خاص بين العبد وربه المطلع وحده على السرائر، والتقوى أكثر من الإيمان خفاء وسرية، لأنها تشمل حديث النفس، ومحاربة الهوى الكامن فى الغرائز وتلك أمور بالغة الخصوصية لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.

والنبى عليه السلام كان لا يعلم الغيب وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ (الأعراف 188). ولذلك فإنه لم يعلم بحقيقة النفاق لدى بعض الناس فى المدينة وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (التوبة 101).وإذا كان هذا هو الحال فنحن أولى بالجهل بحقيقة اتصاف البعض منها بالإيمان والتقوى، وفى ذلك يقول تعالى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ (النساء 25)، ويقول للرسول والصحابة فيمن أسلم من المؤمنات المهاجرات فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ (الممتحنة 10). ويقول فى الهداية والتقوى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (القصص 56) هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ (النجم 32)، ويقول رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ (الإسراء 25).

وهكذا فالإيمان والتقوى صفات قلبية اختص تعالى نفسه بمعرفتها ولم يطلع عليها أحداً من البشر حتى الرسل المكرمين ، فنحن لا نستطيع أن نحكم على إيمان شخص ولا نستطيع تبين درجة تقواه، فكل ذلك غيب عنا، وسبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

4- ثم إن المؤمن الحق يتهم نفسه ولا يزكيها ولسان حاله يقول: وَمَآ أُبَرّىءُ نَفْسِيَ إِنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسّوَءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبّيَ إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ (يوسف 53). والمؤمن الحق ملتزم بطاعة الله تعالى القائل فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ (النجم 32). والمؤمن الحق يأبى على نفسه أن يتابع بعض اليهود الذين زكوا أنفسهم فاستحقوا نقمة الله حين قال فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَىَ بِهِ إِثْماً مّبِيناً (النساء 49،50). فمن زكّى نفسه ووصفها بالإيمان الكامل والتقوى الخاشعة فقد تشبه بالعصاة من اليهود وصار أبعد عما يدعيه، ناهيك بمن يدعى الولاية ليضل الناس فى دينهم ويجعل من نفسه واسطة بين الله وخلقه.. وذلك موضوع آخر .

والمهم أن الولاية صفات عامة للناس جميعا ولا يعلم حقيقة الأتصاف بها إلا المطلع على ما تخفيه الصدور ثم هى صفات عرضية غير لازمة تزيد وتنقص حسب العمل الصالح والنية والصراع المستمر بين الخير والشر فى كل أنسان .

وعلى ذلك فلن يوجد- بعد الأنبياء- شخص بعينه على أنه ولى لله.. لأن هذا الشخص لابد أن يقع فى معصية، وحين يعصى تنتفى عنه صفة التقوى فتنتفى عنه صفة الولاية، ثم إن الإنسان طالما بقى حياً يرزق يسعى ويكافح، يناضل فى الحياة بيده ولسانه وجوارحه فسجل أعماله مفتوح،وأعماله تترواح بين الطاعة والمعصية ، ولن يكون حسابه الختامي إلا بنهاية حياته، شأنه فى ذلك شأن الطالب فى الدراسة فهو بين مذاكرة أو لعب، لا يمكن أن يحكم عليه حكماً قاطعاً إلا حين تظهر نتيجة الامتحان. وإذا صح أن يوصف إنسان فى موقف معين بالتقوى- على فرض أننا تيقنا من سريرته- فمن يدرينا بمستقبل حياته، وهو مجال مفتوح لا ندرى بما سيحدث منه فيه.

بيد أن هناك لحظة على مفترق الطرق فى حياة الإنسان قبل أن يدخل إلى عالم الموت حين تقبض نفسه، لحظة تعدل الحياة بأسرها، لحظة يتذكر الإنسان فيها ما سعى، يتوقف لسانه وتتعطل جوارحه ويرى قبيل موته نتيجة سعيه فى الدنيا، حينئذ يعرف مكانه بين الجنة والنار. فالمؤمن يبشر بالجنة وأنه لا خوف عليه ولا حزن، والكافر يرى سوء عمله ماثلاً فى مكانه فى النار.فالملائكة تنزل على المحتضر فى لحظة انطوى فيها سجل أعماله فلم يعد بمقدوره أن يزيد من عمله أو ينقص منه باليد أو باللسان، يحيط به أهله لا يستطيعون له شيئاً فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْربُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـَكِن لاّ تُبْصِرُونَ (الواقعة 83: 85).

يقول الله تعالى إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ (فصلت 30،31)، فالملائكة تنزل على من أمضى حياته كلها مؤمناً مستقيماً فتبشره ساعة النزع وتقول وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ أى التى كنتم توعدون بها فى سابق العهد من الدنيا، وفى هذا الموقف بين الدنيا والآخرة بين الحياة والموت تقول لهم نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ. وفى آية أخرى يقول تعالى الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل 32) وقبلها يقول عن الكفرة الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.. فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ.. (النحل 28،29) أى الملائكة تعرض على المؤمن مقعده من الجنة ويكون حينئذ ولياً لله تعالى اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ.. وتعرض على الكافر مقعده من النار ويكون حينئذ من أولياء الشيطان وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ.. (البقرة 257).

تلكم هى البشرى التى يتلقاها المؤمن حين النزع وهذا هو المقصود بقوله تعالى أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ.

نخلص مما سبق إلى أنه لا يوجد فى الحياة الدنيا ولي الله تعالى كشخص، وإنما الولاية لله صفات عامة تزيد وتنقص ولا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب.. وإذا طبقنا ذلك على البدوي لاستحال أن نحكم عليه لأننا لا نعلم سريرته وحقيقة تقواه أو إيمانه، ثم أننا إذا كنا لا نستطيع أن نحكم حكما صادقاً على شخص بيننا نعامله ونحتك به فكيف لنا أن نحكم على سريرة شخص هو أقرب للأسطورة منه إلى الواقع التاريخى . بل إن ما وصل إلينا من سيرته وأقواله يخرجه عن الإسلام .والواقع أن التصميم على أن البدوي ولي لله تعالى ، وأنه حاز الكمال فى الصفات والأفعال ، وأنه واسطة بين الله وخلقه ، والواقع أن هذه الأدعاءات كلها تدخل ضمن موضوع آخر هو (ولي الشرك) فالبدوي تنطبق عليه سمات الولى فى عقيدة الشرك كما وضحها القرآن الكريم .

البدوي كولي للشرك

اهتم القرآن الكريم بقضايا العقيدة فأوضح العقيدة الإسلامية أيما إيضاح وفصل القول فى عقائد المشركين أيما تفصيل ، وفى هذا التفصيل كان يتحدث بصيغة العموم ، وبالصفات التى تنطبق على كل مجتمع فى أى زمان وأى مكان ، فلم يقل مثلا " يا مشركي مكة" أو " يا كفار العرب" وإنما قال " الذين أشركوا " " الذين كفروا".فالإسلام هو الدين الالهى ، والقرآن الكريم هو رسالته الخاتمة ، وهو الآية أو المعجزة الباقية للإسلام إلى قيام الساعة، وفى القرآن توضيح لكل عقائد المشركين مهما تخفت خلف أسماء وصفات وألقاب ، فكلهم فى كل زمان ومكان " الذين أشركوا" و" الذين كفروا" . والإسلام والشرك فى صراع مستمر طالما بقيت الحياة. وطالما ظل الشيطان يسرى فى دم الإنسان يزين له سوء عمله فيحسبه حسناً ويعتقد أنه على شىء أو أنه على الحق . ومع أنه لو رجع إلى القرآن الكريم مخلصاً فى طلب الهداية لوجد القول الفصل.

فالقرآن الكريم أبان الحديث عن( ولي الله ) وأنه صفات لا يمكن أن تنطبق على شخص بعينه أو أن تلزمه لزوماً دائماً حتى يعرف به، وأن الولاية لله صفات عامة لمن شاء أن يؤمن ويتقي وهى صفات عارضة حسب مجاهدة الشيطان والنفس التى ألهمت الفجور والتقوى ، وأنه لا يمكن لبشر أن يحكم على إيمان إنسان ما أو تقواه ، فمرجع ذلك لله وحده علام الغيوب ، كما لا يمكن لأى شخص أن يزكي نفسه أو غيره بالتقوى فذلك اجتراء على علم الله تعالى وكفى به إثماً مبينا .

ويجرنا ذلك إلى حديث القرآن الكريم عن النوع الآخر من الأولياء ، ألا وهو (ولي الشيطان) . وطالما يصر الصوفية على جعل البدوي وليا لله فليس أمامنا خيار فى التحقق من هذه القضية إلا بالرجوع لكتاب الله تعالى ، فالله تعالى وحده هو صاحب الشأن فى الفصل فى هذه القضية – وقد أوضح فى كتابه العزيز ملامح الولي فى الإسلام ، وقد عرضنا لها ، وظهر لنا أنها لا تنطبق على البدوي أو أى شخص بعينه ، فلم يبقى لنا إلا النوع الآخر وهو حديث القرآن الكريم عن ولي الشرك أو الولي الذى يتخذه الناس من دون الله لنرى كيف ينطبق النوع الآخر على البدوي .

ونقطة البداية الفاصلة بين (ولي الله) و( ولي الشرك) تتمثل فى أن المسلم الحق كما لا يزكي نفسه فلا يزكي غيره أو لا يزكي على الله أحداً ، وقال تعالى لنبيه ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) الأحقاف :9 ، فالرسول الخاتم عليه السلام لا يفضل نفسه على من سبقه من الأنبياء وتزكية النفس أو الغير ممنوعة يقول الله نعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50))النساء  ، فالصوفية أشبهوا اليهود حين ادعوا أنهم أولياء الله من دون البشر جميعا فكان جزاؤهم أن قال تعالى لهم متحديا " قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ "الجمعة : 6 ، واشبهوا مشركي قريش وقد ادعوا أنهم أولياء الله لقيامهم على بيته الحرام فقال تعالى فيهم " وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ" . الأنفال : 34.

إن للصوفية عادة سيئة تتمثل فى بدء كتبهم بتزكية أوليائهم وإضفاء شتى المناقب والمحامد إليهم ونسبتهم لله تعالى جرأة على الله تعالى واستخفافا بشرعه وتهاونا بأوامره وتدخلا فى إرادته ، فسبحانه وتعالى وهو الفعال لما يريد لا يسمح لأحد من خلقه أن يتدخل فى إرادته فيدعى أنه يحب هذا من دون خلقه ، وهو تعالى لم يعطنا علمه ولم يصرح لنا أنه اختار فلاناً هذا وحده دون الناس جميعاً .. وهنا مكمن الخطورة .

  • فإتخاذ أولياء لله من دون أمر الله أو اختياره أو تعيين منه فيه افتراء على الله وظلم عظيم لله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
  • فهو اجتراء على علم الله تعالى،فالصوفية يدعون أن الله قد أطلعهم على علمه وعلى من يختاره من بين عباده وأنه اختارهم دون غيرهم ، واختار البدوي من دون أقرانه، مع أن الله لم يطلع أحداً على علمه فهنا اجتراء وافتراء.

(ب )وهو تدخل بشع فى اختيار الله تعالى وادعاء بالتسلط على إرادته وفرض لأهوائهم على مشيئته حيث يختارون بأنفسهم ما يشاءون من أولياء ،ويجعلون أنفسهم الأوصياء على الله يختارون له الأولياء الذين يريدون زاعمين أن تلك إرادته فيسلبون منه الاختيار فى شىء يتعلق بذاته وجلاله. والمؤسف أن أحداً من البشر لا يرضى لأحد أن يتدخل فى حريته فيعين له من يحبه ومن يختاره صديقاً أو حليفاً ، ومن عجب أن الله تعالى وهو الخالق المسيطر ترك الحرية للإنسان فى أن يحب من يشاء ولم يتدخل فى أعمال القلوب، ولكن الصوفية والمشركين تدخلوا فى إرادة الله تعالى واختياره ففرضوا عليه ما يشاءون من أولياءهم وزعموا أن ذلك اختيار الله وإنهم المتحدثون باسمه.

2ـ واتخاذ أولياء من دون الله- والإدعاء بأنهم أولياء الله الذين اختارهم – فيه وصف لله تعالى بالعجز والجهل والظلم – تعالى عن ذلك علواً كبيراً. فكأنهم وصفوه بالعجز حيث أوكل للصوفية اختيار أولياء له يتحكمون فى ملكه من دونه ، فلم يجعلوا له شأناً لا فى الاختيار ولا فى التصريف.وكأنهم وصفوه تعالى – بالجهل- حيث لم يستطيع أن يميز من يستحق الولاية فى مخلوقاته فلجأ إليهم وإلى علمهم ليختاروا له ثم رضى باختيارهم.وكأنهم وصفوه تعالى – بالظلم- حيث فضل نفرا من خلقه وجعل لهم اختصاصات ومميزات فى الدنيا والآخرة وحرم منها الآخرين بدون وجه حق، وبدون معيار ثابت فى الاختيار أو حرية أو فى تكافؤ الفرص أمام البشر جميعاً ، وتلك صفات لا يرضى  مخلوق أن يوصف بها . فكيف بالله تعالى ، لذا فإن الله تعالى كثيرا ما يقول " سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ " " فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" " وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ .." النحل :62 وصدق الله العظيم حقاً وهو القائل:"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " وحقاً أنهم ما قدروا الله حق قدره ، وحقاً أنهم أساءوا الظن بالله تعالى " وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" الفتح :6.

فالله سبحانه وتعالى له مطلق الإرادة فى الاختيار" إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ"المائدة:1 "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ" هود :107 "إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " الحج :14. والله تعالى بإرادته المطلقة يمنّ على من يشاء من عباده بفضله وفقا لعدله وتكافؤ الفرص امام البشر وحريتهم فى مشيئة الايمان والعمل الصالح ، فمن يريد الهداية يمنّ الله جل وعلا عليه بالهداية ، ومن يشاء الضلال يتركه للشيطان يزده ضلالا. وفى كل الأحوال يستحيل عقلاً ونقلاً أن تملي عليه طائفة من خلقه أهواءها " قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)" آل عمران  " وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ " إبراهيم :11 " نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ " يوسف: 76 ، فالمشيئة راجعة إليه وحده فى الاختيار والتخصيص فهو الخالق المسيطر على خلقه " وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ  " القصص :68.

وبعد الأنبياء الذين يختارهم بالاصطفاء فإن الله تعالى راعى العدالة وتكافؤ الفرص فى اختيار أوليائه وترك المجال مفتوحاً لخلقه جميعاً فجعل أكرمهم عنده أتقاهم " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " الحجرات : 13 . وفى نفس الوقت جعل المشركين فى الدرك الأسفل بين مخلوقاته مهما ارتفعت لهم القباب وزينت لهم الأضرحة ، يقول تعالى : " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ – إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" الأنفال " 22، 55، وتأمل قوله " الدواب" أى كل ما يدب على الأرض ، شرهم جميعاً المشركون الذين يتدخلون – بزعمهم- فى إرادة الله ويفرضون أهواءهم عليه ويقولون مثلاً – أن البدوي هو ولي الله أو اللات والعزى أولياء الله .. كمجرد مثال.

لقد أصدر الصوفية – وأتباعهم من العامة- فرماناً بتعيين البدوي ولياً لله تعالى ، دون استشارة صاحب الشأن – وهو الله تعالى – ودون أن ينتظروا تفويضاً منه بأن يختاروا  له وليا أو أولياء . واتبعوا الفرمان السابق بفرمان آخر جعلوا فيه البدوي واسطة بين الناس والله ، وتأسيساً على ذلك الفرمان فإن الصوفية وقطيع العامة يولون وجوههم شطر البدوي متوسلين متبركين من دون الله ، وتوجهوا  له بالتقديس والعبادة التى ينبغى ألا يتوجهوا بهما إلا لله وحده .واتخاذ البدوي وليا لله جل وعلا - وهو عبد من عبيد الله بدون تفويض من الله هو نفس ما يفعله المشركون في كل عصر وأوان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعآ، يقول تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)). الكهف.

ونسى أولئك أن الولي المقصود بالتقديس والعبادة لا يكون إلا الله.. فالله هو الولي المعبود ولا ينبغي للمؤمن أن يتخذ ولياً غيره. يقول تعالى(أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)الشورى :9، فالله هو الولى المستحق وحده للعبادة والتقديس ، أما هذه الأولياء فلا تنفع ولا تضر ولا تسمن ولا تغنى من جوع.

والمؤمن يكتقى بالله ولياً : "وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً " النساء 45 " أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا" الأعراف : 155، والمؤمن يعتقد أن الله الولي يكفيه فهو مالك السموات والأرض فلا يخشى ادعاءات المشركين حول تصريف أوليائهم المزعومة" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ؟ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ " الزمر :36.

لقد جعل الصوفية وأتباعهم من البدوي ولياً كامل الألوهية ولا سند لهم إلا الافتراء والكذب والزيف ، وهم لا يدرون أنهم بذلك يحققون إعجازاً للقرآن الكريم الذى فصل عقائد الشرك قبل التصوف بقرون ، فجاء أولئك يكررون مقالة السابقين ويحكمون على أنفسهم بالشرك وآيات القرآن الكريم تثبت ذلك . أليس الذكر الحكيم حجة على  كل منحرف مهما توارى خلف أسماء وشعارات؟؟


[1]) الطبقات الكبرى ، 1 8.

 

ف 2 : ثانيا : عناصر تأليه البدوي وعبادته

بين عقيدة الاسلام وعقيدة الشرك :

1ـ أمر الله تعالى المسلمين بأن يكون دينهم خالصا له وألا يجعلوا بينهم وبينه وسائط كما كانت الجاهلية تفعل ، يقول تعالى أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)" الزمر : 3 ، 4

2ـ وبيّن الله تعالى أنه قريب من عباده " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " البقرة 186 ، بل هو قريب منهم أكثر مما يتخيلون " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " ق : 16 ، وأوضح سبحانه وتعالى أن له تمام التحكم فى كل مخلوقاته " مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا " هود: 56 ،وأنه فى هذا التحكم لا يشرك معه أحداً في حكمه " مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً  "الكهف : 26.

وحينئذ فلا مجال للواسطة بينه وبين عباده ، وهذا هو جوهر الإسلام ، أن يسلم الإنسان وجهه وقلبه وجوارحه لله وحده ، فلا يحب ـ حب تقديس ـ إلا الله ولا يرهب إلا الله ولا يعبد إلا الله ولا يقدس إلا الله ، فلله وحده تكون صلاته ونسكه وحياته ومماته ، أو كما يقول تعالى قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ... " الأنعام : 162: 164 .

3ـ فالمؤمن الحق لا يرى فى البدوي إلا مجرد شخص من ملايين ملايين الأشخاص الذين حملتهم الأرض على ظهرها ثم ابتلعتهم فى باطنها ، والمؤمن يخشى أن يزكى البدوي أو غيره، لأن الله تعالى أولاً : نهاه عن ذلك وثانياً : فهو عقلاً لا يستطيع أن يحكم عليه الحكم الصحيح فقطعاً لا يعرف سريرته ، وكل ما يملكه عن تاريخه – وتاريخ السابقين جميعاً – هو ما كتبه الآخرون  عنهم ، وذلك القول بعض الحقيقة وليس كلها .. والمؤمن الحق – وهذا هو الأهم – يرفض أن يجعل من البدوي جزءاً فى عقيدته الدينية فذلك يتنافى مع الإخلاص ، إخلاص الدين لله . ومهما تلمس الأسباب وتحيل فى الأعذار فلن يكون بأمهر من العرب الجاهليين القائلين عن أوليائهم " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " . فالجاهليون عبروا بأسلوب القصر وقالوا إن عبادتهم لهذه الآلهة ليس لها لذاتها أو ليست مقصودة بنفسها وإنما فقط لتكون سبباً يقربهم لله ، وهو منطق عقيم رد عليه القرآن الكريم بأن الله لو أراد أن يصطفى ولداً أو ولياً لاختار هو أو اصطفى بنفسه مما يخلق ما يشاء ولكنه لم يفعل لأنه الواحد القهار الذى لا يحتاج إلى معين أو مساعد سبحانه وتعالى عما يشركون .

4ـ وإخلاص الدين لله معناه بالحساب العددى  أن يكون الدين كله 100% لله وحده .. فإذا شابت هذه النسبة الكاملة ولو 1% شائبة من شرك فقد أحبط العمل وضاعت الثمرة المرجوة معه. ولذلك فإن العقيدة الإسلامية لا تعرف التوسط، فإما إيمان كامل 100% بالله وحده  وإما شرك ، يقول تعالىفَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ .." يونس 32 ، أى فإما  حق وهو  الله وإما ضلال وهو أى وسيط مع الله مهما تضاءل ذلك الوسيط ، ويقول تعالى : " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ" الحج : 62 ، أى فلا توسط بين الحق والباطل .. وهو جوهر شهادة التوحيد ( لا إله إلا الله ) القائم على أسلوب القصر ، فهى إيمان كامل بالله وحده وكفر كامل بجميع الآلهة الأخرى معه.

5ـ ـ والدين – أى دين – له وجهان .. عقيدة وشريعة ، أو تقديس وعبادة . أو قلب وجوارح ، أو بالتعبير القرآنى ( دعاء) و( عبادة) فالمؤمن الحق لا يدعو إلا الله أى لا يتوسل إلا به ولا يقدس غيره ، والمؤمن الحق لا يعبد إلا الله ولا يتدين إلا لله ، أى فهو مخلص فى دعائه لله مخلص أيضا فى عبادته  له ، فكما قال الله تعالى " أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ،" قال " فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) "الزمر . وقال قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ– قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي " الزمر : 11 : 14 وقال عن العقيدة أو التوسل أو الدعاء " وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " الأعراف : 29 ، وقال " فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)  – هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)" غافر :14 ، 65 .وإذا أخلص الإنسان فى دعائه أو عقيدته لله وحده ، وإذا أخلص فى عبادته لله وحده فلن يكون هناك مكان للبدوي أو لغيره فى قلبه أو جوارحه.

6 ـ أما الآخرون فقد زين لهم الشيطان أعملهم " ويحسبون أنهم مهتدون" ، " ويحسبون أنهم على شىء " " ويحسبون أنهم يحسنون صنعا " ، وأولئك لا تستقيم فى نظرهم عبادة الله وتقديسه إلا  إذا ارتبط ذلك بعبادة الولي وتقديسه، فإذا دعوتهم للدين الخالص كفروا ، ويوم القيامة يؤنبهم ربهم فيقول ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ " غافر : 12 ، فهم لا يعبدون الله إلا إذا وضعوا حوله ثلة من الأولياء المقدسة ولا يؤمنون به إلا إذا أشركوا بعبادته غيره معه ، وهذا حال الأكثرية من بنى البشر يقول تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ " يوسف :106 .

7ـ وقد افتقر الجاهليون العرب لهذا الإخلاص فى الدين ، فجعلوا للأولياء نسبة فى اعتقادهم ، مع أنهم يؤمنون بالله تعالى ربما إلى درجة تفوق إيمان الصوفية بالله .

فالعرب فى الجاهلية كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو الخالق للسماوات والأرض والمسخر للشمس والقمر، وأنه  هو الذى أنزل المطر فأحيا به الأرض بعد موتها ، يقول تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ .. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)) العنكبوت : 61 : 63.

وهم يؤمنون بأن الله تعالى هو خالقهم كما هو رازقهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) الزخرف : 87 ،بل أنهم يقرون بأن لله الأرض ومن فيها والسماوات السبع والعرش العظيم ، وإن لله وحده الملكوت والتحكم فيه بحيث يجير من يشاء ولا يستطيع أحد أن يجير عليه فى ملكه، يقول تعالى (قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ : قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِالسَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ،قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ؟ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ )المومنون :84 : 89.

ويلاحظ أن القرآن الكريم  اتخذ من إيمانهم بالله حجة عليهم وأمر الله رسوله بأن يحاججهم ويسائلهم عمن خلق السماوات والأرض والبشر وأنزل الرزق وعمن بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه وأخبر تعالى بصيغة التأكيد بأنهم سيقرون ويعترفون بأن الله تعالى هو وحده الخالق الرازق المسيطر وعبر عن التأكيد بقوله تعالى (ليقولن) ثم يختم الآيات بالتعجب والاستهزاء بهم حين يتمسكون مع ذلك بأوليائهم وآلهتهم..

وأصحابنا الصوفية من أتباع البدوي يؤمنون بالله كخالق للسماوات والأرض والشمس والقمر ومصدر للرزق والخير ، ويؤمنون أيضا بالبدوي وتصريفه وشفاعته ومكانته . كما كان الجاهليون يؤمنون باللات والعزى ومناة وهبل ، وكما كان المصريين القدماء يؤمنون بأزوريس وإيزيس وحورس وآمون ورع مع أنهم يقرون بألوهية الله تعالى .

8 ـ والقرآن الكريم أشار إلى معرفة المصريين بالله تعالى ففى قصة يوسف ورد أن النسوة حين رأين يوسف عليه السلام (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) يوسف31وحين استجوبهن الملك   (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) يوسف 51 . وقولهن ( حاش لله) فيه تعظيم لله وتقديس ، بل إن امرأة العزيز نفسها  نلمح فى اعترافها صدق المؤمن التائب حين قالت أمام الجميع (قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)) يوسف . وهم مع هذه المعرفة بالله كانوا يعرفون الأرباب الأخرى معه يقول يوسف عليه السلام لصاحبيه فى السجن (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)؟) يوسف 39.

ويقول أرمان فى كتابه (ديانة مصر القديمة ) ( ومما يبعث على الدهشة أن المصريين كثيرا ما تحدثوا – علاوة على آلهتهم المعينة- عن إله عام .. فمثلا يقولون : ( ما يحدث هو أمر الله ) ، ( وصائد الطيور يسعى ويكافح ولكن الله لا يجعل النجاح من نصيبه) و ( ما تزرعه وما ينبت فى الحقل هو عطية من عند الله ) و ( من أحبه الله وجبت عليه الطاعة)و( الله يعرف أهل السوء) ويعقب أرمان بقوله ( هؤلاء القوم الذين كان هذا هو شعورهم وحديثهم لم يكونوا بمنأى عن العقيدة الحقة ولو أنهم فى واقع الأمر تعلقوا أيضا بدينهم الموروث وبقوا عباداً أمناء لإلهتهم ) [1].

9 ـ فالمصريون القدماء والعرب الجاهليون والصوفية عرفوا الله تعالى وعرفوا معه غيره من الأولياء والآلهة ..وقدسوا الله وقدسوا معه غيره ، وعبدوا الله وعبدوا معه غيره، وهذا ينافي عقيدة التوحيد التى تتطلب الإخلاص التام فى دين الله وحده والكفر بكل الآلهة المعبودة مع الله ، والتوحيد أو الإخلاص هو الايمان الكامل أو كما قلنا هو الإيمان بالله وحده وقصر الدين عليه بنسبة (100%) .وعدا ذلك فهو إيمان ناقص ، وهذا الايمان الناقص لا يجدى يوم القيامة أو يوم الفتح ، يقول تعالى بصيغة العموم عن الكفار فى كل زمان ومكان (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ) السجدة 29، فالذين كفروا لديهم إيمان ولكنه لا يغنى ولا ينفع لأنه إيمان ناقص بالله ، إيمان يقل عن نسبة 100% ، إيمان مشترك بالله وبغيره من الآلهة والأولياء، والله تعالى لا يقبل هذه الشركة فهو أغنى الاغنياء عن الشرك ، ويوم الحساب لا ينفع الكافرين هذا الإيمان الناقص الملوث .

أ- تأليه البدوي :

يبدأ تأليه إنسان ما برفعه فوق مستوى البشر ، ولا شك أن الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق وخيرة الله فى خلقه ، ومع تميزهم بالنبوة والتزكية والاجتباء فهم بشر كسائر البشر (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الكهف 110، (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) الأنبياء 7. فهم رجال .. وهم بشر ولكن يوحى إليهم .

فبالوحى تميز الرسول عن باقي قومه .. وخصوصيات الرسل من وحى ومعجزات سنعرض لها فى موقع المقارنة بتصريف البدوي المزعوم وخصوصياته ، وإنما نؤكد هنا أن خصوصيات الرسل لا ترفعهم فوق مستوى البشر ، فهم بها بشر يسري على ما يسري على سائر البشر من احتياج  للخالق تعالى ، وعجز عن مواجهة نواميسه فى الكون من مرض وموت ومصائب وأحزان ، وكل ما هنالك أن تلك الخصوصيات فضل من الله لهدف معين هو خدمة الدعوة والرسالة.

أما التأليه أو إضفاء صفات الألوهية على شخص بعينه فمعناها أن تلصق به صفات الله تعالى ورفعه فوق مستوى الأنبياء وإمكاناتهم حسبما أورده  الله تعالى فى كتابه العزيز..

فإلى أى حد كان تأليه البدوي ؟ لنستعرض معا عناصر  تأليههم له معتمدين فى الأساس على كتاب عبد الصمد الجواهر السنية.

1- الصفات الإلهية:

   لقد مر بنا أن الإسلام يحرّم تزكية الآخرين بصفات الصلاح والتقوى وأكثر منه حرمة وجرماً أن تزكىشخصا بصفات إلهية فهنا خروج كامل عن دائرة الإسلام ، وفارق بين المعصية العادية فى إطار الإسلام وبين الوقوع فى جريمة الشرك المحبطة للأعمال الصالحة ، وذلك ما وقع فيه الصوفية حين زكوا البدوى بصفات إلهية نكتفى منها ما أورده عبد الصمد فى مقدمة كتابه عن البدوى يقول ( أحببت أن أتوسل لبلوغ مقصدى من الجانب الشريف الأحمدى بجمع شىء من الرسائل والقصائد على أحسن الأشكال سعيا بذلك فى مرضاة الدال على تلك الطريقة ، عين أعيان أهل الشريعة والحقيقة سيد طائفة الأولياء من القرن السادس إلى هذا الحين وصاحب الفضل على أهل المشارق والمغارب ذى الفضل المبين سند السالكين سيد الواصلين قدوة العاشقين عمدة العارفين ، صاحب  المقامات العالية ، صاحب الأسرار البهية سيد سادات الصوفية صاحب الكرامات الظاهرة والبراهين الباهرة الفرد الجامع والأسد القامع والنور المشرق الساطع الأستاذ الأعظم والغوث الأفخم والملاذ المقدم والشيخ الأكرم والقطب النبوي والبحر الذى منه الأنام ترتوى سيدى أبى العباس أحمد البدوي) فالبدوي فى اعتقاده هو ( سيد طائفة الأولياء وسيد الواصلين وسيد سادات الصوفية ) فإذا كان أولئك أولياء لهم تصريف ومعجزات وشفاعات وبهم يتوسل الناس ويتخذونهم أرباباً فالبدوي على ذلك هو ( رب الأرباب) فى اعتقاد عبد الصمد ، أو ( قطب الأقطاب) فى اعتقاد الجميع ، والبدوي أيضا ( صاحب الفضل على أهل المشارق والمغارب) أى صاحب الفضل على الكرة الأرضية بدءا من الصين ومنغوليا شرقا إلى أمريكا والاسكا وأمريكا الجنوبية غربا . ولم يبق لله تعالى شىء من الفضل يمتن به على عباده فقد استحوذ البدوي على كل الفضل ، كيف لا وهو ( البحر الذى منه الأنام ترتوى ) على حد قول عبد الصمد ، ثم هو ( الأعظم) و( الأكرم) و( الغوث الأفخم ) الذى يستغيث به الناس وهو أفخم من يغيثهم وحينئذ فلماذا يحتاجون لله.؟؟

 ويقول عبد الصمد أنه أحب أن يتوسل لبلوغ مقصده وحاجته( من الجانب الشريف الأحمدى ) بكتابة هذا الكتاب ، ويقول بعدها ( وشرعت فى ذلك راجياً من فضل جوده وكرمه قبول تلك الخدمة مع علمى بأني لست من ذلك القبيل ولا أستطيع أن أسلك إلا بتوفيق الله ذلك السبيل وأن الخطأ على مسلط والى فى بحر السهو والغلط مخبط) فعبد الصمد يتقرب إلى إلهه البدوي بهذا المؤلف ويقر بالتقصير ويعترف بالذنب إذا وقع منه خطأ فهو –أى عبد الصمد – كبشر مسلط عليه الخطأ والسهو فلعل إلهه يتجاوز عن ذلك الخطأ والسهو غير المعتمد خصوصا وأن صفات البدوي لا يحصيها العد ولا تقع تحت إحصاء كما يقر بذلك بنفسه حين يقول ( وصح فيه قول بعض محبيه فى وصف كمالات معاليه:

كيف السبيل لمدحه بعدما            وصفوا علاه بأنه لا يوصف [2]

وقال عابد آخر للبدوي [3]:                                                           

 أيا بـدوي العـزم ياذا المــــــــــــــــــــــــــــــلثم           ويا واحد الأقطاب ياذا المــعظم           

 ويا باب رب العرش يا أحمد الورى        ويا ســــــــــــيـدا عند النبي مقــــــــــــــــدم        

 ويا ناصر المظلوم من كل ظـالم          ويا من له الأصل العلى المكرم   

 ويا حاكما بالحق فى كل وجـهة           أأظلم فى أرض بها أنت تحكم؟

 

وقد سمى سبحانه وتعالى ذاته المقدسة بالأسماء الحسنى وجعل من شعائر عبادته أن يرددها المسلم فى خشوع واخبات يقول تعالى (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأعراف 180 ، ومعنى ( يلحدون فى أسمائه) أى يطلقون أشباهها على أوليائهم وألهتهم وأولئك سيجزون ما كانوا يعلمون ، فشأن المشركين فى كل زمان ومكان – والصوفية منهم – أن يطلقوا على أوليائهم وألهتهم الصفات الإلهية التى اختص الله تعالى بها ذاته المقدسة يقول الغزالي ( إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق – أى الصوفي فى بدايته- تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له ) [4]  أى أن الصوفي فى بدايته يوصف بأسماء الله الحسنى التسعة والتسعين كالخالق البارىء المصور العزيز الجبار، وإذا كان ذلك حال الصوفى المبتدىء فكيف بالبدوي قطب الاقطاب ، وصدق الله العظيم (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . .

وقد كان الجاهليون يطلقون على أوليائهم أسماء مختلفة كاللات والعزى ومناة وذى الخلصة وغيرها، وقد نبه سبحانه وتعالى على أن مصدر هذه الأسماء انما هم أتباعها الذين يطلقون الأساطير والمسميات ثم يصدقونها ويعتقدون أن ذلك اختيار الله تعالى، يقول تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى . أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى ؟... إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ ..النجم : 19: 20، 23

وفى مصر القديمة كان للمصريين غرام بإطلاق شتى المسميات على الآلهة ولكل منها تخصص معين ، ويوسف عليه السلام قال لصاحبه فى السجن (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) يوسف :39 ، 40.

وأرجع الصوفية للمصريين هذه العادة فلكل صوفي لقب يسمى به ويصبح علما عليه لا يعرف بدونه ، فإذا قلت لأحد الصوفية مثلا من هو أحمد بن على بن ابراهيم ؟ لن يعرف ..مع أن ذلك هو الإسم الحقيقي للبدوي ، فالبدوي لقب لذلك المسمى بأحمد بن على بن ابراهيم ، وله ألقاب أخرى كالسيد وشيخ العرب والملثم وأبى الفتيان والعطاب وقطب الرجال وأبى فراج ومجيب الأسرى وندهة المنضام .

ويلاحظ أن بعض هذه الأسماء تضمنت تخصصات معينة لتصريف البدوي المزعوم فى ملك الله ، كقولهم (مجيب الأسرى ) أو (العطاب) وكان المصريون القدامى يصفون آلهتهم بتلك الصفات المتخصصة فهناك إله للحصاد وآخر للزرع وثالث للموسيقى أو الانجاب ..إلخ.

ويلاحظ أيضا أن نشاط البدوي السياسي ترك ظلاً على مسمياته كقولهم الملثم وأبى الفتيان والعطاب والصامت ، ثم يلاحظ أخيرا أن تلك الألقاب أطلقت فى عصور مختلفة فبعضها انمحى من أذهان العامة وظل لقباً مجهولاً قانعاً بمكانه فى الكتب القديمة مثل الصامت وفحل الرجال والمجذوب..

وبعضها اخترع حديثاً بعد أن زادت شهرة البدوي وعم التوسل به من دون الله كأبى فراج ومجيب الأسرى وندهة المنضام ، وبعضها ظل علما على البدوي منذ وجوده إلى عهدنا كالسيد والبدوي .

ومعلوم أننا – نحن المصريين- الذين أطلقنا على البدوي هذه الصفات وجعلناها له أسماء لكل منها دلالة معينة تعبر عن اعتقادنا نحن فيه ولا شأن للبدوي بها ، وخلف كل منها أسطورة اخترعناها وحكيناها فصدقناها  وآمنا بها ، ثم بعد أن نشأنا عليها صغاراً وكباراً وتوارثناها جيلاً عن جيل عز علينا أن تكون مجرد أوهام وأكاذيب ، وزين لنا الشيطان أن التخلي عن هذه الأوهام إنما هو التخلى عن تراثنا وقصة عمرنا وأساس ديننا وعقيدتنا مع أنه لا سند ولا أصل لهذه المسميات وتلك المعتقدات إلا الأوهام والخرافات ولا شأن لله تعالى بها (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ )

هذا.. وبعد إطلاق الصفات الإلهية الإجمالية يكون التفصيل والاسهاب  فلا بد للولي الإله أن يكون حياً أزلياً ولا يجرى عليه الموت كباقى البشر .

2-الحياة الأزلية :

الموت نهاية كل إنسان فى الدنيا ، يستوى فى ذلك الأنبياء والكفار ، يقول تعالى لرسوله عليه السلام (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)) الزمر. فالقرآن الكريم ساوى بين نبى الله وأعدائه الكفار فى استحقاق الموت, فنفس الفعل- هو الموت- سيقع للرسول ولأبى جهل مثلاً ، وأكد وقوع الموت لهما (بإن) واسمية الجملة ، بل زاد التأكيد فى حق النبى - وهنا لفتة جميلة موجهة لنا- وزيادة التأكيد فى الموت الفعلي للنبى عن باقى البشر والكفار تتجلى فى البدء به عليه السلام فقال (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) الزمر) ولم يقل أنهم ميتون وأنك ميت ، ثم كان الخطاب موجهاً للنبى عليه السلام بكاف الخطاب (إنك ) والخطاب جاء عنهم بهاء الغيبة (وأنهم) ومعلوم أن ضمير المخاطب أعرف من ضمير الغائب ، ومن إعجاز القرآن الكريم أن يؤكد لنا موت الرسول كأى بشر ليرد بذلك على من انحرف عن الصراط المستقيم فادعى أن الرسول حى فى قبره كما يهرف الصوفية دائما فى مناماتهم.

وقد حرص القرآن الكريم على أن يؤكد أن المشركين دائما يعبدون الأولياء الموتى  ويعتقدون فيهم النفع والحياة الأزلية فى القبور ، يقول تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)النحل ، فهذه الآلهة موتى لا تشعر ولا تعرف حتى ميعاد بعثها . ويقول تعالى عن تلك الآلهة الميتة التى تحولت إلى رماد وتراب فى القبور (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (195) الأعراف .

فالقرآن الكريم يسخر من المشركين الذين يعبدون رفات الموتى ويعتقدون فيه النفع والضر ومن باب أولى يعتقدون فيه الحياة الأزلية الخالدة ،وقد رد القرآن الكريم على هذه النقطة فى موضوع آخر فقال(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ ؟)الأنبياء :34.

وفى مصر القديمة يعتقدون بخلود الفراعنة ، ولا يلبث الفرعون بعد موته أن ينضم إلى ثلة الآلهة المتحكمين فى السماء بعد أن كان متحكما فى الأرض.

ثم جاء الصوفية ونسجوا على منوال السابقين فجعلوا الخضر يعيش حياة أزلية مع أن الله تعالى يقول (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، ثم جعلوا من الأولياء الصوفية أحياء فى قبورهم يتصرفون منها فى ملكوت الله يمنحون و يمنعون ، وجعلوا البدوي قطب الأقطاب الحى دائما .. والشعراني أحد من روج لهذه الفرية،  يقول أن شيخه الشناوي أخذ العهد عليه فى قبة البدوي بأن يحضر مولد البدوي كل عام وأن يد البدوي قد خرجت من الضريح وقبضت على يده وأن البدوي أجاب من داخل الضريح بأن سيرعى الشعراني [5]ونقل عبد الصمد عن الشعراني قوله عن الشناوي (أنه عين أعيان أتباع سيدي أحمد البدوي وهو يكلمه من ضريحه[6]) .

وقد شاع فى عصر الشعراني ادعاء الكثيرين بأخذ العهد على البدوي رأساً فى ضريحه دون الحاجة إلى السلوك على الشيوخ الأحياء كالشعراني ، فهب الشعراني يهاجم هذه الظاهرة ويعد عن المنن ( كثرة ارشادى الفقراء الأحمدية والبرهامية وغيرهم من أصحاب الخرق أن يتتلمذوا لشيخ من الأحياء ولا يتقيدوا على من مات إلا أن يكون ذلك الشيخ من يقتدى به) ويقول   : ( وممن بلغنا أنه يربى مريده وهو فى البرزخ سيدي أحمد البدوي ولكن ذلك خاص بمريده الصادق الذى يسمع كلامه من القبر كسيدي وشيخي الشناوي فإنى زرت معه سيدي أحمد البدوي فشاوره الشيخ محمد على سفره إلى مصر فى حاجة فقال له سيدي أحمد من القبر : سافر وتوكل على الله، وهذا كلام سمعته بأذني الظاهرة[7]).

والشعرانى على عادته يقرر القاعدة ولكن يقصر تطبيقها على أشياخه دون معاصريه المنافسين له فى الموالد والولائم والنذور والنقوط.

وفى عصرنا الراهن لا يزال البعض يتمتع بمقدرة على الافتراء فيدعى أنه يحادث البدوي ويسجل ذلك على نفسه فى كتابه كما فعل عبد الحليم محمود فى كتابه عن البدوي فقال إن الإذن أتاه من المقصورة المباركة بأن يكتب فكتب[8]، وكما فعل الشيخ حجاب فى كتابه عن البدوي الذى ادعى فيه أن البدوي يتولى تربيته من البرزخ [9]، كأنما عجز الأحياء عن تربية الشيخ حجاب فالتمس من الأموات أن يؤدبوه.

وإقامة المولد للبدوي كان فرصة متجددة لتذكرة الناس بحياة البدوي الأزلية فى قبره يحمى الواردين إليه من شتى البقاع ويدفع عنهم أذى اللصوص، فحكى أحدهم مثلاً أنه كان مسافراً للمولد ومعه قماش فقطع عليه اللصوص الطريق(.. فقلت فى نفسى يا سيدي أحمد أنا فى دركك اليوم ، فلم يستتم منى الكلام حتى خرج عليهم فارس راكب على فرس أبيض ملثم لا يرى منه إلا عيناه فقط فطردهم حتى غابوا عنى فعرفت أنه سيدى أحمد البدوي ).[10]

وبانتشار أتباع البدوي من السطوحية وقد أصبح لكل منهم ضريح ومولد فقد أضيفت لهم الحياة الأزلية فى القبور أسوة بشيخهم ، وطبعاً كان المراد من تلك الحياة المزعومة الترويج والدعاية للموالد فيقول عبد الصمد عن عمر الشناوي الأشعث ( ومن كراماته أنه يخرج من قبره راكباً فرساً مغيثاً لمن قطع العرب عليه الطريق ويطردهم عنه ثم يرجع إلى قبره[11]ويقول عن يوسف البرلسي ( ورأوه مراراً عديدة وهو يطلع من القبر ويخلص من تعرض له قطاع الطرق [12]) ويقول عن كل من خلف الحبيشى وعماد الدين ( وله كرامات كثيرة فى حياته وبعد موته [13]).

أى أن أصحابنا أولئك لم تكن حياتهم الأزلية سدى وإنما كانوا فيها حراساً لأتباعهم متصرفين فى قبورهم .. وندخل بذلك على(  التصريف ) كصفة إلهية أضافوها للبدوي وأتباعه.

  • التصريف:

ومعناه الإتيان بالخوارق التى يعجز البشر عن الإتيان بها عادة .. والتصريف على أنواع منه ما يتم فى الدنيا فى حياة الولي أو فى قبره ومنه ما يتم فى الآخرة وهو الشفاعة ، وقد أضيفت للبدوي وأصحابه أنواع كثيرة من الخوارق كان يتصرف فيها فى الأحياء ( من بشر وحيوان) وفى الأرض والكون.وقد حظيت الحيونات بأهتمام واضعي الكرامات فافسحوا لها مجالاً فى أكاذيبهم ..فيقال عن الإنبابي حين رضى عنه البدوي ( وكلمته البهائم [14]) أى أن كلام البهائم لإسماعيل الإنبابي دليل الرضى السامى عنه، ومثله عماد الدين ( كان جمالاً تكلمه الجمال وغيرها من الحيونات[15]) والجمال عرفت البدوي حين اشتغل راعيا لفاطمة بنت بري فأقبلت نحوه ترحب به ( قال سيدى أحمد البدوي فلما وصلت إلى الجمال جاءت إلى وكرفت رائحتي وقبلت أقدامي وحنت حنيناً وسكبت دموعاً غزاراً[16]) وكانت الطيور والأسماك تأتى للبرلسي حين يدعوها [17].

أما الأسد ملك الحيونات المتوحشة فقد عاقبوه فى الكرامات بأن جعلوه مطية ذلولاً يركبه أحدهم إذا شاء فلا يستطيع الأسد إلا السمع والطاعة، فالبرلسي سالف الذكر كان يركب الأسد ومثله البعلبكي [18].

وبعضهم استغل كراماته فى عقد الصلح بين الحيوانات المتوحشة والأليفة فالشيخ عبد العظيم الراعي آخى بين الذئب والغنم وكلف الذئب بحراسة أغنامه ( وكان يشارط الذئاب على أن لهم منها ما يموت فقط )[19].

أما الدكروري ( فكانت الحيونات المتعادية تجتمع عنده فلا يبغى بعضها على بعض كالقط والفار والثعلب والدجاج والذئب والغنم وكان مكانه كله حيات وعقارب لا يستطيع أحد أن يجلس عنده [20]) أى أقام من موطنه محكمة عدل دولية للحيوانات على أرض محايدة .. وقيل فى الكيرواني ( كان يركب الوحوش وإذا قال لها لا تأكلي الحيوان الفلاني ويبيت ذلك الحيوان عندها فلا تكسره[21]) .

ونقم بعضهم على الذئاب والثعالب لأنها تسرق الدواجن والأغنام التى من المفروض أن يتوجه أصحابها بها إلى الموالد .. وتجلى هذا الشعور عند الشيخ وهيب البرشومي وقد ( طلع الذئب والثعلب ليأخذا الدجاج فسمرهما على الحائط حتى طلع النهار [22]) أما الشيخ سعدون فقد ( سمر الذئب كذا كذا مرة [23]) والتسمير هو شل الحركة..

والطريف أن تسمير الذئاب قريب من تسميرهم اللصوص فالشيخ نعمة كان يسمر اللصوص فى الأرض حتى يأتى الوالي فيمسكهم [24].. واللصوص كانت تتعرض للقادمين للموالد بالنقود والنذور لتسلبهم إياها كالذئاب والثعالب.

ويقول الشعراني أن أم عبد العال وضعته وهو رضيع فى معلف الثور فدخل قرن الثور فى قماط الرضيع ( فشال – الثور – عبد العال على قرنيه فتهيج الثور فلم يقدر أحد على تخليصه منه فمد سيدي أحمد يده وهو بالعراق فخلصه من القرن [25]) . والكذب فى هذه الرواية لا يستطيع أن يمشى على قدمين .. إذ يعنى أن عبد العال كان رضيعا أبان وجود البدوى فى العراق .. ولكن الشعراني يذكر فى نفس الصفحة أن البدوي كان فى العراق سنة 623 وأمره الهاتف بدخول طنطا سنة 634 وكان عبد العال – حسب رواية الأسطورة السابقة – رضيعاً لا يزال- فكيف يصبح يانعاً طفرة واحدة ومن أبرز أصحاب البدوي منذ أن دخل طنطا ؟؟

واخترع الصوفية وسيلة سريعة للانتقال بأسرع من الصوت وهى طى الأرض والوصول إلى المكان المراد بعد عدة خطوات مهما تناءت المسافة ، فحين كان البدوي فى العراق مع أخيه الحسن قرأ أخوه الحسن الاسم الأعظم وسار سبع عشرة خطوة فوصل إلى أم عبيدة [26]وفى نهاية قصته مع فاطمة بنت بري انتهز الفرصة والفقراء مشغولون فانتقل إلى مكة بخطوة واحدة ( فتولهت الفقراء وحصل لها وقت طيب فخليت الفقراء متولهين مشغولين بأحوالها وغطست من بينهم وسرت إلى مكة ولم يشعر بى أحد منهم ) [27]، وحين كان ابن الحسن يشتاق لعمه البدوي وهو فى طنطا جاءه البدوي فى المنام ( وقال يا ابن أخي إذا اشتقت إلى فاطلع على جبل أبى قبيس وقل : اللهم يا من ساق عمى أحمد إلى طندتا سقه إلى هنا) وفعل فإذا ( بكف خطفتني فى الهواء فما وعيت على نفسى إلا وأنا فى دار عمى أحمد فى طندتا على السطح فعانقته ثم قال يا حسين غمض  عينيك فغمضت عينى وإذ أنا على جبل أبى قبيس كأنى لا رحت ولا جيت) [28]، ويروى عبد الصمد أن البدوي أنتقل من مكة إلى طندتا فى إحدى عشرة خطوة [29]وهى بلا شك نزهة جميلة أن ينتقل الإنسان من قطر لآخر فى بضع خطوات ، ولكن – مع الأسف الشديد – فإن بعض الروايات توحى بأن البدوي وصل طنطا وآثار الإجهاد بادية عليه وعيناه منتفختان حتى أنه طلب من عبد العال – فى بداية تعرفهما وأثناء مروره على بلده فيشا – طلب منه بيضة ليضعها على عينيه ، ودخل دار ابن شخيط وآثار الإرهاق واضحة عليه حتى لقد أفزع بمنظره النسوة التى رأينه فأنكرنه وصحن أعوذ بالله إن هذا إلا شيطان رجيم .

والمؤسف أنه فى الوقت الذى أشغل فيه الصوفية الناس بكرامات الخطوة وأهل الخطوة كانت أوربا تخترع البخار والقوى المحركة بعد أن وضعت عن كاهلها تحكم الكهنة والكهنوت فى الكنيسة.

نعود للبدوي وأصحابه ونقول إن كرامة الطى أو الخطوة قد أضيفت أيضا إلى قمر الدولة حين هرب من عبد العال ولحقه عبد العال عند بئر( فدس سيدي قمر الدولة فرسه فى البئر فغطس فيها تحت الأرض حتى طلع من بئر ناحية نفيا ) [30].

وإذا كانت أوربا قد اخترعت وسائل للانتقال تقارب سرعة الصوفية فى الطى والخطوات .. فإن أوربا لا تزال عاجزة عن اختراع آخر سبق به الصوفية ، وهو عكس الطى أو تجميد الحركة وتضيع أثرها بحيث يظل الشخص يسير فى مكان واحد مهما قطع من مسافات . وقد استعمل الحسن أخو البدوي هذا السلاح العجيب مع الظاهر بيبرس حين أضافه الحسن رغم أنفه ولكن بيبرس صمم على الرحيل بدون إذن يقول( فتعشيت عند الشريف  حسن  ثم غافلته وركبت هجينى وسرت ليلى كله إلى الصباح وقلت فى نفسى أنا قطعت بلادا بعيدة فلما أصبحت رأيت نفسى فى بيت الشريف حسن كأنى لا رحت ولا جيت )[31]وفعلوا نفس الشىء مع اللصوص فأحدهم سرق ثوراً للشيخ وهيب ( ومشى به من بعد العشاء إلى الصبح فنظر فإذا هو دائر حول البلدة لا يتعداها فمسكه الناس [32].

وإلى جانب طى الأرض وبسطها كان البدوي يخسف الأرض إذا أراد وقد فعل ذلك بفاطمة بنت بري وفرسها فغاصت بهما الأرض وظلت تستنجد بأهلها دون جدوى ثم عفا عنها البدوي فخرجت بفرسها من الأرض [33].

 وتصرف البدوي فى البشر كما يحلو له فكان يميت من يشاء من الأحياء ويحيي من يشاء من الأموات . فادعوا أن من امرأة استغاثت به ليحيى ولدها الذى مات ( فمد سيدى أحمد البدوي يده إليه ودعا له فأحياه الله تعالى ) [34]وقال بعضهم فى ذلك مادحاً .

      أنت أحييت ميتاً بعد أن قد      فتك الدود لحمه والبلاء [35]

والبدوي يميت من يتعرض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه فى العراق فقد قال لهم موتوا فوقعوا على الأرض قتلى ، ثم قال : قوموا بإذن من يحيى الموتى ويميت الأحياء فقاموا [36]، ومع أن الجمال – جمال فاطمة بنت برى – رحبت بالبدوي بدموعها إلا أنه استعرض معها كراماته فأماتها ليغيظ فاطمة بنت برى ( قلت فى خاطري أقضى أربى من فاطمة بنت برى فالتفت إلى الجمال وقلت لها موتي بإذن من يحيى الموتى ويميت الأحياء فمات الجميع [37]) .

ووصل سلطان البدوى للجن فأمرهم ببناء زاويته بعد أن يموت حسبما يروى عبد العال أن البدوي قال له ( يا عبد المتعال أنى أمرت الملك الأحمر أن يطيعك ، قال سيدي عبد المتعال فلما انتقل أستاذي بالوفاة سألت الملك الأحمر وقلت له أرحمني من هذا الكوم قال : فأمر جنوده وكانوا يومئذ اثنى عشر ألفاً فرفعوا الكوم وبددوه فى الهواء فى أسرع من طرفة عين ) [38]..

ومن المنتظر أن توجه أساطير الكرامات لخدمة المولد وهو الهدف الرئيسى لنشاط الصوفية واهتماماتهم .. وقد مر بنا أن بعضهم كان يسمر اللصوص المعترضين لرواد المولد . وأن آخرين من الأولياء الأحمدية كانوا يخرجون من قبورهم خصيصاً لنجدة القادمين للمولد .. والواقع أن الموالد الأحمدية كانت – ولا تزال- فرصة متجددة لاسترزاق اللصوص كما هو الحال بالنسبة للصوفية ، فكلا الفريقين يسعى لاحتلاب رزقه من القادمين للمولد ومعظمهم من الفلاحين ، إلا أن طريقة الحصول على الرزق تختلف.. فبينما يقدمها الفلاحون للصوفية عن رضى وطواعية وخضوع فإن اللصوص يضطرون لسلبها منهم عنوة ، وقد رأى الصوفية فى اللصوص منافساً خطيراً فى الرزق وتهديدا عظيما للمولد ورواده فوجهوا نحوهم حربا لا تهدأ من أساطير الكرامات لتهدئة الرواد القادمين من فلاحين وتجار وجعلوا البدوي – شخصياً – يتولى حماية القادمين لمولده فيروي عبد الصمد ضمن كرامات البدوي ( إن جماعة من إقليم بلبيس أعتقدوا فى سيدي أحمد البدوي وحددوا لهم شارة يطلعون بها المولد فطلعوا فى أول سنة ونزلوا بخيمة وربطوا فرسين لهم على باب الخيمة وناموا مستأنسين بما شاع بين الناس من حفظ من يحضر المولد فجاء اللصوص ليلاً وأخذوا الفرسين فطلع أصحاب الخيل إلى الأستاذ واستغاثوا  به فبينما هم جالسون إذ مرت عليهم فرس منها وعليها سرج الأخرى فتعلقوا بها ومسكوا راكبها فجاءت الفرس الأخرى ) [39]..

وكالبدوي كان تلميذه عماد الدين المدفون فى بركة الناصرية ومن كراماته بعد موته أن اللصوص أرادوا أن يسرقوا الدرب الذى فيه فمنعهم من الخروج حتى طلع عليهم النهار وقبض عليهم الوالي [40].

وفى اجتماع ضخم كالمولد الأحمدي كانت تضيع الممتلكات والأغراض ، ولم يترك الصوفية هذا الباب دون علاج فادعوا أن البدوي أرجع خاتماً ضاع لبعضهم ( ومن كراماته أن خاتم وقاده وقع فى بحر عميق فطلبه من سيدى أحمد البدوي فأتى له الخاتم فى بطن حوت اشتراه من صياد )[41].

وقالوا إن أبا الحمائل السروي( نزل من مصر لمولد سيدي أحمد البدوي فى المركب فوقع خاتمه فى البحر فقال يا سيدي أحمد ما أعرف خاتمي إلا منك فلما دخل طندتا نفض كمه فوقع الخاتم منه ) [42].

وإذا كان البدوى قد تكفل بإرجاع الضائع ولو كان خاتما صغيرا فأولى بالزوار أن يطمئنوا على أغراضهم وحاجاتهم فهى فى أمن..

وطنطا تقع فى منتصف الدلتا وهى المركز الزراعي لمصر وكان المولد مناسبة سنوية للفلاحين من جميع الأنحاء المحيطة لطنطا شرقاً وغرباص وشمالاً وجنوباً ، ووقع على كاهل الحمير توصيل الفلاحين من قراهم بما يحملون من نذور، وكانت ساحة المولد تمتلىء بالحمير الوافدة من كل قرية ، ومن الطبيعى أن يكون المولد سوقاً رائجة لضياع الحمير أو سرقتها، ومن الطبيعى أيضا أن يتكفل البدوي – شخصياً- بإرجاع الحمير الضالة والضائعة والمسروقة لكى تطمئن النفوس وتعود (الحمير) إلى قراها بسلام لتعاود المجىء فى العام التالي ..

يقول محمد الشناوى ( ضاعت حمارة أخي الشيخ محمد فى أيام المولد فأتى إلى قبر أحمد البدوي فقال والله لا أخرج حتى تجىء حمارتي فبينما هو جالس فى قبة سيدي أحمد البدوي وإذا بالحمارة واقفة بجانب التابوت )[43]وقد روى الحلبى هذه الكرامة الهائلة للحمارة المروية عن الشناوى وأردفها بكرامات أخرى (لحمير) آخرين يقول ( ضاعت حمارة لجماعة من الرفاعية فأكثروا تأسفهم عليها ووقع منهم اللوم على سيدي أحمد فلما انقضى المولد الأحمدي فمروا على بعض القرى فوجدوا تلك الحمارة على سطح فطلبوا صاحب الدار فإذا هو رجل لا يتوهم منه السرقة ولا الموالسة فكلموه فقال : انظروا لى مرقى هذا السطح أى سلمه فإنه لا يمكن أن يرقى عليه الجدى فضلا عن الحمارة فإذا هو كذلك ولم ينزلوا الحمارة إلا بالسًلب ، ووقع أن شخصا يقال له إبراهيم الحلاب كان من أتباع الشيخ عبد المجيد الخليفة ضاعت حمارته ببركة الحاج ، فلما ضاعت جاء إلى الشيخ عبد الكريم الخليفة وقال : ضاعت حمارتي فقال الشيخ يا سيدى أحمد احتسبها عليك ، ثم جاء هذا الرجل ونام فجاله شخص فى النوم وقال له : قم لتحصل المدينة فقام فوجد الحمارة )[44].

ويلاحظ نوعا من التخصص فى حبك الكرامات فالبدوى مثلا كفارس قديم جعلوه متخصصا فى إحضار الأسرى المسلمين من عند الفرنجة ،وربما أحس أتباع البدوي بالخجل وهم يرونه مشغولاً بالصياح على السطح بينما تدور الحرب الصليبية على أشدها بين المسلمين والنصارى الأوربيين فى الشام ودمياط والمنصورة فاخترعوا أكذوبة إحضاره الأسرى المسلمين مشاركة منه فى الجهاد الديني . وبمرور الزمن وازدياد شهرة البدوي وكثرة أتباعه وزيادة العداء الدينى بين المسلمين والصليبيين ترسخت شهرة البدوى فى إنقاذ الأسرى المسلمين حتى بعد إنتهاء الوجود الصليبي فى الشام ، يروى المقدسي أن للبدوى كرامات كثيرة ( من أشهرها قصة المرأة التى أسر الأفرنج ولدها فلاذت به فأحضره إليها فى قيوده) [45].

ثم جاء الشعراني فى القرن العاشر الهجرى فأوسع – كعادته- فى مجال الافتراء بما أوتى من مقدرة هائلة على أختراع الأكاذيب وجرأة عجيبة على ألباسها ثوب الحقيقة  والصدق فيقول عن نشاط البدوي المزعوم فى تخليص الأسرى ( وأخباره ومجيئه بالأسرى من بلاد الفرنج وإغاثة الناس من قطاع الطريق وحيلولته بينهم وبين من استنجد به لا تحويها الدفاتر وقد شاهدت أنا بعينى سنة خمس وأربعين وتسعمائة أسيراً على منارة سيدى عبد العال مقيدا مغلولاً وهو مخبط العقل فسألته عن ذلك فقال : بينما أنا فى بلاد الافرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد فإذا أنا به فأخذني وطار بى فى الهواء فوضعني هنا . فمكث يومين ورأسه دائرة عليه من شدة الخطفة ) [46].

وابتهج عبد الصمد بروايات الشعراني فأوردها فى كتابه الجواهر يقول: ( .. وقال – أى الشعراني – فى الطبقات الصغرى ومما بلغنى من جماعة من أهل بيروت قالوا : أسرنا الافرنج وكنا اثنى عشر رجلاً فأقمنا فى بلاد الافرنج يستخدموننا فى الأعمال الشاقة حتى كدنا أن نموت فألهمنا الحق تعالى يوما أن قلنا : يا سيدى أحمد يا بدوي أن الناس يقولون أنك تأتى بالأسارى إلى بلادهم وقد سألناك بالنبي أن تردنا إلى بلادنا ، قالوا ففى ذلك اليوم نزلنا مركباً ليس فيها سد وقذفنا فلم يشعر بنا الأفرنج حتى سرنا فى البحر نحو ميلين فخرجوا وراءنا فلم يدركونا إلى أن وصلنا إلى بلادنا ببركة سيدى أحمد البدوي ، وقال سيدى عبد الوهاب الشعراني ومما رأيته بعيني سنة ثلاث وأربعون وتسمائة إنى كنت جالسا فى مقام سيدى أحمد البدوي فسمعت صيحة عظيمة فى منارة سيدى عبد العال آخر الليل فطلعت فإذا أسير مقيد مغلول وهو غائب اللب فنزلوا به فمكث ثلاثة أيام ثم أفاق فسألناه فقال : كنت أسيراً فى بلاد الافرنج فبينما أنا واقف على سطح إذ توسلت بسيدى أحمد البدوي فأتانى شىء فخطفنى وطار فى الهواء حتى نزلت على المأذنة فطاش عقلى من شدة الخطفة والطيران ، ففككنا قيوده وجاور فى المقام حتى مات ،قال : وحكى لى شخص آخر اسمه الشيخ سالم قال : كنت أسيراً فى بلاد الافرنج فكان الأفرنجى يقول : إن سمعتك تقول يا احمد يا بدوي ضربتك وعاقبتك ثم خاف أن يخطفني فصار ينومنى فى صندوق كبير ويقفله على بقفل وينام فوقه فقلت فى نفسي ليلة من الليالي : يا سيدى أحمد يا بدوي انجدني ، فما تم القول إلا وجاء سيدي أحمد البدوي وحمل الصندوق بى وبالافرنجي فصرت أسمع دوياً تحتي عظيماً فما أصبح الصباح إلا وأنا أسمع أصواتاً وكلاماً كثيراً ففتحوا الصندوق وأخرجونى فوجدت نفسى فى ساحل القيروان والافرنجي واقف والناس حوله يحكي لهم قصة سيدي أحمد البدوي ثم أسلم الافرنجي [47]) .

وأشهد أن الشعراني لو عاش فى عصرنا لصار أشهر كاتب للأفلام والمسلسلات بجميع أنواعها وأحجامها ، ولكن معطيات القرن العاشر كانت تعطى للشيخ الصوفى حرية القول كيفما يشاء ويتمتع بالصدق والتقديس إذ لم يكن فى العصر أى أثر لعقل أو علم ، فقد انحدر العقل إلى درجة تقديس المجانيين والمجاذيب وتضاءل العلم إلى متون صفراء وشروح باهتة وخرافات تحظى بالتصديق والتقديس ، وفى هذا الجو بزغ الشعراني وبرز ، ولم يصله بعد أن الحملات الصليبية قد توقفت منذ انهيار عكا كآخر معقل صليبي على يد الأشرف خليل بن قلاوون سنة 693 ، وأن الحركات الصليبية ضد المسلمين قد تباعدت وخفت تدريجياً وانشغلت أوربا فى القرن العاشر الهجري بصد غارات العثمانيين على شرق أوروبا ووسطها.

ونسى الشعراني أن أيامه التى يعيشها شهدت تربع الدولة العثمانية وسيطرتها على حواف البحر المتوسط من الجنوب الأوربي فى اليونان إلى السواحل الشامية والمصرية والأفريقية حتى حدود المغرب العربى ، نسى الشعراني ذلك كله وتخيل أنه يعيش فى القرن السادس حيث يؤسر المسلمون فى بيروت وما أن ينطق أحدهم باسم البدوي متوسلا حتى يطير فى الهواء إلى بر الأمان وأن أوربا أخذت حذرها من البدوي ( مجيب الاسرى ) فحظرت على الأسرى التلفظ باسمه ولكن البدوي يأتى بمجرد التوسل بالخاطر مهما اتخذ الفرنجة من احتياطات وصناديق وأقفال ومفاتيح .

لقد ظلت سيطرة الشعراني على العقلية المصرية طيلة العصر العثماني وما أورده عن كرامات البدوي قصصا تحكى نظمه الآخرون شعرا يحفظ ، وأغلب القصائد التى أوردها عبد الصمد فى ختام كتابه كانت تتغنى بكرامات البدوي وخصوصا إحضاره الاسرى ..

كقول أحدهم :

    ومجىء الاسير فى كل زمان               غير خاف فكم أتت أسراء

    وبهذا فى كل دهر شـــــــــــــــهود                بالقيود التى تراها اكتفاء[48]

والشعراني هو الذى أوحى بتخصص البدوي فى كرامة إحضار الأسرى وأنه لا يشركه أحد فى هذا المقام فيروى أن امرأة استغاثت بالشيخ المتبولي وقالت ( يا سيدي ابني أسير فى بلاد الافرنج وما أعرف مجيئه إلا منك فقال : هذه لسيدي أحمد البدوي ، ما هى لى ) [49].

وقد تابع الصوفية الأحمدية طريقة الشعراني فى التخصص فى إسناد الكرامات لأناس بعينهم حسب الوظيفة أو الموقع الجغرافي ، وهم على أى حال أقل خبرة من الشعراني فى سبك الاكاذيب وترويجها..

ولقد قلنا أن البدوي كان قد استبقى من أتباعه السطوحية نفرا للخدمة فى طنطا كالشيخ عبد العظيم الراعي للمرعى والشيخ محمد الكناس للكنس ومحمد الفران للفرن .. وقد أسند الصوفية لكل منهم كرامات فى مجال عمله ( وتخصصه الدقيق) فالشيخ عبد العظيم الراعي كان يجعل الذئاب تحرس الغنم وكانت البهائم التى يرعاها تعرف حدود الزرع بالبديهة فلا تتعداه إلى غيره ، والشيخ محمد الفران ( الذى يخبز لسيدي أحمد  كان يحرك نار الفرن بيده ويخرج الخبز من الفرن بيده) أى لا تضره النار ( وكان يخبز الأردب بنحو قدحين من الوقيد [50]) أما الشيخ محمد الكناس فكان ( يكنس كل يوم مقام سيدى أحمد البدوي ومقام سيدي عبد القادر الجيلى ومقام سيدي أحمد ابن الرفاعي وعدة مقامات فى بلاد المغرب وغيره ويرجع إلى طندتا فى ساعة واحدة [51]) منتهى الهمة والنشاط أن ينظف مقامات الأولياء الموزعين فيما بين العراق ومصر والمغرب فى ساعة واحدة ، أى يقوم بمهمة الكنس من (المحيط إلى الخليج ) بأسرع من الطائرة ( البوينج) .

وكان عماد الدين السطوحي جمالاً يرعى الجمال فى مصر فكانت الجمال تكلمه، وكان الشيخ نعمة خفيراً لمدينة صفد ولأنه خفير فقد اتعبت كراماته اللصوص فكانوا ( لا يقدرون يسرقون شيئا من صفد خوفاً من الشيخ فإما أن يسمرهم فى الأرض حتى يأتى الوالي فيمسكهم وإما أن يخرج من قبره فيطرد اللصوص[52]) وطبعا يعود بعدها إلى قبره بين التصفيق والهتاف فيدخله ويقول للناس (باى باى).

وتلونت كرامات البعض بالإقليم الذى يعيش فيه فالبرلسى الذى يعيش عند بحيرة البرلس كان ( يدعو سمك البحر فيطلع له ويدعو الطير من جو السماء فتنزل إليه ) .وابن علوان اليمني حيكت له كرامة على مثال فيل أبرهه فقيل ( وجاءوا إليه بالفيل فى الزاوية وطلبوا علفه فما وجدوا إلا قوت الفقراء من الأرز فأرادوا أخذه فمنعهم الشيخ فأبوا فأشار إلى الفيل فغاصت قوائمه فى الجبل خارج الزاوية [53]) ، ولا ندري ما الحكمة فى الإغارة بفيل ضخم على زاوية للصوفية ليس فيها إلا القليل من الأرز .. فالواضح أن الهدف هو الاتيان بكرامة لابن علوان اليمنى يكون بطلها فيلاً (والسلام) . ولو كان الشعراني هو الراوية لأضاف بعض (الرتوش) و(البهارات) حتى يبتلعها القارىء وهو مغمض العينين .

تلك بعض تصريفات البدوي وأتباعه فى مخلوقات الله على الأرض ، ومن المؤكد أن البعض سيعتبر هذا الكلام ماساً (بكرامات الأولياء) التى أصبحت فى عقيدتهم جزءاً معلوماً من الدين بالضرورة . وحتى نريح ونستريح فأننا نضع بعض الحقائق التى تنفى هذه الأكذوبة الكبرى التى عشنا عليها قرونا نؤمن بها وندافع عنها مع أنها – أعنى كرامات الأولياء- هى من أساطير الشرك التى أدخلها الشيعة الصوفية فى عقائد الناس وأضلوهم بها وجعلوهم لا يفترقون فى شىء عن سائر المشركين فى كل زمان ومكان ، فشأن المشركين أن يتخذوا لهم أولياء ويضيفون لهم التحكم فى ملكوت الله والتصرف فى ملكه مع أن الله تعالى يقول (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) الكهف : 26.

أولى هذه الحقائق: أن التصريف فى ملك الله تعالى مقصور على الله تعالى الذى لا يشرك فى حكمه أحداً وله وحده الخلق والأمر(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) الأعراف : 54 ، والله تعالى يعبر عن تصرفه فى الكون بالإيجاد والعدم بلفظ (كن) أى أنه تعالى إذا ما قال للشىء (كن) فسرعان ما يكون ، ( وفى بداية كل شىء كانت الكلمة) أى (كن) ، وهذه الكلمة (كن) لا يقولها قادراً على تجسيدها واقعا حياً إلا الله تعالى ، لذا كان أسلوب القرآن الكريم فى التعبير عن أسلوب قصر ( بإنما) أى يقصر القول بها وتحقيق معناها على الله وحده .. وأقرأ قوله تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل 40 ، سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) مريم : 35 ، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: 82 ، فمنه وحده الأمر والقول والفعل ..وفى ذلك كله لا يشرك فى حكمه أحداً ، وهو وحده المسيطر على خلقه وما من دابة على وجه الأرض إلا وهو آخذ بناصيتها ، فيستحيل أن يكون من بين خلقه من غير الأنبياء من يأتى بخوارق.

وثانى هذه الحقائق : أن الله تعالى أرسل للبشر من لدنه رسلا يدعونهم للتوحيد .. وقد قص علينا بعض أولئك الرسل إما بالاسم أو الوصف والأحداث دون الاسم ، وكتدليل على صدق أولئك الرسل فى الإخبار عن الله عز وجل فقد أيدهم بالمعجزات والخصوصيات ليقتنع أقوامهم بصدقهم فى الإخبار عن الله .

ومع أن الرسول مؤيد بالمعجزة إلا أنه ليس مصدرا لها فهى من عند الله وهو – تعالى – الذى يملك التصريف والتوقيت للمعجزة التى يجريها على رسوله .. بل أن بعض الرسل كموسى عليه السلام حين شاهد معجزته جرى خوفاً ورعباً (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ ..) النمل :10 ، (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ..) القصص : 31.

فالرسول – أى رسول – لا يملك أن يأتى بمعجزة وقتما يشاء يقول تعالى (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) الرعد : 38 وغافر 78 ، والرسل تعلن ذلك صراحة لأقوامهم (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ .. ) إبراهيم : 11 فالرسل إذا طلبت منهم معجزات يعلنون أن مردها لله وحده الذى يملك الفعل والتوقيت ولا شأن لهم بأيهما .

وإذا كانت المعجزات خوارق يعطاها بعض الرسل للتحدى وكدليل على صدق النبي فإن الخصوصية خوارق تأتى للرسول نفسه لإنقاذه من أزمة ما كإنقاذ إبراهيم من النار وإنقاذ يونس من الغرق وإنقاذ الرسل الآخرين كهود وصالح وموسى وشعيب مما أصاب أقوامهم من تدمير وعذاب وإهلاك . وقد تأتى الخصوصية دلالة على التنعم والرضى كتسخير الجان والريح والملك لسليمان .. وقد تأتى الخصوصية للتطمين كحادث الإسراء لمحمد عليه وعلى الأنبياء الصلاة والسلام .. لذا فإن الله تعالى حين قص حادث الإسراء ختمه بقوله ( .. لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) الأسراء : 1 ، أى ليريه هو لا ليري قومه.

وبعض الخصوصيات قد تضم إلى جانب النبى بعض أصحابه – وهم أنبياء لم يذكر القرآن لهم اسماً – مثل إحضار عرش بلقيس على يد الذى عنده علم الكتاب تكريما لسليمان عليه السلام ، فالواضح أن (الذى عنده علم من الكتاب ) نبي كسليمان ..والله سبحانه وتعالى لا يعطي علمه اللدني إلا للأنبياء فقط فكل نبى لابد أن يؤيده الله تعالى بعلم من لدنه (الوحي ) ..والقرآن الكريم وصف كثيرين بالنبوة دون إخبار بالاسم كقوله تعالى (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ..)يس :14 ووصف البعض بمستلزمات النبوة من العالم اللدني والتصريف كصاحب موسى (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً )الكهف :65 ، وكصاحب سليمان (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ .. )النمل :40 ، فالقرآن الكريم ليس إلا كتاباً فى الهداية وما يستنتبعها من تشريع ووعظ وأحكام وسمعيات إلخ ..وهكذا فمع أن القرآن أخبر أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)فاطر :24 ،إلا  أنه لم يقص علينا إلا بعضهم فقط (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ..) النساء 164 ،وبعض الرسل الذين ردد ذكرهم فى القرآن الكريم- كما سبق قوله- ذكروا بالوصف فقط فالعبرة هى بالنتيجة وهى ترسيخ عقيدة الاسلام .

وقد قال تعالى عن عيسى عليه السلام وأمه العذارء (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ..)الأنبياء91  ،فعيسى فى حد ذاته معجزة لخلقه بدون أب والعذراء معجزة لحملها بدون زوج، وصاحب هذا الإعجاز – أى ولادة عيسى – كثير من الإرهاص الذى ينبئ عن اقتراب الحدث العظيم ،فكان أن رزق زكريا عليه السلام بولد وقد بلغ من الكبر عتيا ..ثم توجهت الأنظار إلى مريم بفاكهة الشتاء والصيف وهى فى محرابها. فكل ذلك أرهاص ينبه الاذهان لمجئ عيسى ويضاف للخوارق التى صاحبت مولده وكلامه فى المهد إلى أن بعث رسولاً ..ولم يكن مقصوداً بها أن تكون معجزات للتحدى فقد بدأت معجزات التحدى حين بعث إلى بني إسرائيل (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ)آل عمران 49.

وثالث هذه الحقائق :إن مبعث محمد عليهالصلاة والسلام كان عهداً جديداً فى عالم النبوة والمرسلين ، فقد جاء رسولاً عالمياً لكل البشر منذ مولده وحتى قيام الساعة فى كل زمان ومكان،بل وللجن أيضا ، وكان الرسول قبله يرسل إلى قوم بعينهم فى مكان بعينه فى زمان بعينه ،لذا كان حتماً أن تختلف الآيات أو المعجزات لاختلاف الظروف ،فالمعجزات السابقة كانت مناسبة لظروف النبى وقومه أى كانت حسية محلية تنتهى بنهاية القوم الذين يطلبونها من الرسول ..ثم يصاحبها إهلاك القوم ، ومجىء رسول آخر تتجدد معه نفس القصة إلى أن ختم النبوة بالرسول الخاتم عليه وعليهم الصلاة والسلام ، ولأن الرسول بشر كسائر البشر محكوم عليه بالموت ، ولأن رسالته يجب أن تبقى فلا بد أن تكون معجزته على نفس المستوى أى معجزة عقلية عالمية مستمرة إلى قيام الساعة ، وهنا يكون إهلاك القريشيين أمرا غير وارد مهما تعنتوا فالرسالة ليست موجهة لهم فقط وإنما للعالم كله وإلى النهاية فكان القرآن المعجزة الوحيدة لمحمد عليه السلام بدليل قوله تعالى عن القرشيين وطلبهم معجزة حسية (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ.. ..العنكبوت 51 ، وقد بين سبحانه وتعالى أن المعجزات الحسية السابقة لم تأت بنتيجة مع الأقوام السابقين فكانوا يصرون على طلبها ثم حين تأتي يكذبون بها فامتنع لذلك الإتيان بآية حسية لمحمد عليه السلام . يقول تعالى (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) الإسراء 59 ، وبين تعالى أن القريشيين لنيؤمنوا مهما جاءتهم آياتإِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97)) يونس . حتى لو أصعدهم الله إلى السموات فعرجوا فيها لقالوا إن ما نراه إلا وهم وسحر (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)) الحجر  ، وهكذا فعالم الخوارق والمعجزات الحسية قد انتهى بإنزال القرآن كمعجزة عقلية يتحدى بها الله تعالى كل عصر بخصائصه ، تحدى به العرب بالفصاحة ويتحدى به القرن العشرين بعلمه ومكتشفاته..

     وسيظل القرآن الكريم معجزاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..

ونخلص مما سبق إن الله تعالى قصر التصرف فى الكون بالإعجاز والخوارق على ذاته المقدسة وأنه منح بعض الرسل بعض الخوارق تأييداً لهم وتأكيداً على أنهم صادقون فى الإخبار عنه تعالى ، وأن تلك الخوارق أو المعجزات أو الآيات إما أن تكون خصوصيات الرسل أنفسهم وإما أن تكون معجزات تجرى على الرسل وموجهة إلى قومهم المكذبين ليصدقوا ويؤمنوا ، وأن الرسل لا شأن لهم فى أحداث المعجزة أو الاختصاص أو فى توقيت أيهما ، وأن بعض المحيطين بالرسل – وقد يكونون رسل هم الآخرون – قد شملتهم ظهور المعجزة أو الاختصاص عليهم تأييداً لنفس الرسول الذى يحيطون به ، وفى النهاية فإن المعجزات الحسية قد انتهى عصرها بالنبي الخاتم حيث دخلت البشرية فى عهد جديد ارتقى فيه العقل البشرى وتضاءلت فيه المسافات بين التجمعات البشرية وتهيأت الدنيا لمعجزة جديدة تجمع  بين العقلية والعلمية والعالمية ، وتمثلت تلك المعجزة فى القرآن الكريم . وليس بعده إعجاز كما ليس بعد محمد من نبى .

ويكفىي فى إعجازه أنه فضح ويفضح المشركين فى كل عصر مهما تستروا خلف أسماء وصفات ، ومهما ادعوا الإسلام كذباً وافتراء ، وينطبق ذلك على الصوفية والشيعة ، حين كرروا مقالة المشركين السابقين فى اتخاذ أولياء لهم وأضفوا عليهم التصريف فى كون الله تعالى تحت اسم (الكرامات) ، وسيرة الرسول عليه السلام تؤكد أنه كان أحوج الناس إلى تلك الكرامات حين أوذى فى مكة ، وحين هاجر منها يتعقبه المشركون لقتله، وحين هزم فى أحد ، وحين يستعد فى كل غزوة لقتال الأعداء بالتخطيط والتجهيز وجمع المعلومات والمشاركة بنفسه بالقتال ، أين كان الرسول من (أهل الخطوة) وهو يعانى من مطاردة المشركين فى طريقه الطويل من مكة إلى المدينة ؟ وأين كان الرسول عليه السلام من كرامات ( تسمير الأعداء) و(إماتة الأحياء) وهو يدافع عن نفسه بالسلاح وقد أحاط به المشركون فى (أحد) و(حنين) ؟ ثم لماذا كان التعب فى الإعداد والتخطيط وكتمان التحركات حين كان يسير لغزوة من غزواته إذا كان قد أيده الله بمعجزات حسية وقتما يشاء.؟؟

فالرسول عليه السلام صاحب رسالة ودولة تواجه مكائد الأعداء وعليه مهمة توطيد الدعوة ومواجهة الأخطار قبل أن تحاصره فى عاصمة دولته .. ومع تلك المسئولية الضخمة فقد قام الرسول بالمهام كلها بجهده البشري مع أتباعه المؤمنين وتوفيق الله فى النهاية ، وحين كان يخطىء أو ينهزم كان ينتظر التصحيح والتوجيه من الله العلى القدير .

أما أصحابنا من أتباع الآلهة والأولياء فقد أضفوا عليهم التصرف فى ملك الله دون داع اللهم إلا اعتبارهم آلهة .ولابد للآلهة – طبعاً – مادامت آلهة فى اعتقادهم أن تحظى ببعض التصريف فى الملكوت وذلك برضى الله تعالى وتأييده كما يزعمون ، وليس لهم سند أو دليل إلا الافتراء والتزييف.

وواقع الأمر أن ما يدعيه الصوفية والشيعة للأولياء والأئمة هو عين ما كان يهرف به العرب الجاهليون عن آلهتهم . وهو ما كان القرآن الكريم ينفيه نفياً باتاً ، يقول تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً (3)) الفرقان  ، ومن إعجاز القرآن الكريم فى هذه الآية أنه قال عن تلك الآلهة التى يتخذونها ويدعون أنها تحيي وتميت إنها فى حقيقة الأمر مخلوقة ..أى مخلوقة من أساطير وأكاذيب لا تمت إلى الواقع بصلة. وحين نطبق ذلك على (السيد البدوي ) الذى يحيى ويميت ويخسف الأرض نجد أنها أكاذيب مختلقة من وضع الأتباع لا تمت لحقيقة (أحمد بن على بن ابراهيم بن محمد ) الذى أعطوه ألقاب ( السيد ، البدوي ، ندهة المنضام وأبو فراج ، مجيب الأسرى ..إلخ ) وربما كان لا يدري عن تلك الألقاب المستحدثة شيئاً ، وأضافوا له خوارق الإحياء والإماتة والنفع والضر وهو لا يملك لنفسه – فضلا عن غيره- ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا.

والمشركون دائما وهم يحيطون آلهتهم بأساطير التصرف والتحكم فى ملكوت الله يستخدمونها فى إخافة من يتصدى لحرب تلك الأكاذيب ، وقد واجه الرسل هذه الحرب النفسية بمنتهى الإيمان والثقة فى أن تلك الاشاعات والأضاليل إنما هى من نسج المشركين أنفسهم اختلقوها ونشروها وصدقوها وأخافوا بها من يفكر فى الاعتراض. وعلى مدى القرون التى قضاها نوح عليه السلام فى دعوة قومه لنبذ تلك الآلهة فإنه اضطر فى نهاية الأمر إلى إعلان تحديه السافر لكل تلك الآلهة ودعا المشركين صراحة إلى الاتحاد معاً بآلهتهم وتصريفها لإلحاق الأذى به إن استطاعت هذه الألهة شيئاً .. واقرأ معنى ذلك فى قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ.) يونس :71.

وقوم عاد اتهموا نبيهم هود بأن آلهتهم مسته بسوء فأشهد الله على كفرهم وأعلن براءته من ذلك الاعتقاد وتحداهم أن يحاولوا مع آلهتهم ما استطاعوا له كيدا يقول تعالى (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ..56)  هود  .

وحين حاج إبراهيم قومه أخافوه بغضب الآلهه عليه ، ورد عليهم إبراهيم مبيناً وجه الحق بما عرف عنه من حلم ورفق يقول تعالى (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ : أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) الأنعام .

ومحمد عليه وعلى الأنبياء أفضل التسليمات لم ينج من تلك الحرب النفسية وقد أخبر بها الله فى كتابه العزيز إذ قال (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ؟.. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ..) الزمر :36 ، فكان كفار قومه يخوفونه بغضب اللات والعزى وهبل ومناة وقد رد عليهم القرآن مبيناً أن تلك الآلهة الأموات قد أصبحت تراباً لا يد لها لتبطش ولا عين لها لترى ولا أذن لها لتسمع وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان التحدى أسوة بالرسل السابقين ، التحدى لتلك الآلهة فالله هو وليه وحاميه ووكيله ، أما تلك الأولياء فلا تستطيع أن تنصر أتباعها أو أنفسها .. وفى ذلك يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (197)) الأعراف. .

ثم جاء الصوفية يكررون مقالة السابقين ويخيفون المعترض على أوليائهم بالويل والثبور وغضب الآلهة آلهتهم المزعومة ،وقد صاغوا هذة الادعاءات فى قصص مؤثرة تخيروا لها بعضاً من الأسماء اللامعة فى التاريخ أوعزوها لبعض الشخصيات المجهولة ،والمهم أن (الحبكة الدرامية ) لها فعل السحر عند القارئ ،خاصة إذا كان عامى الفكر أو صوفياً معتقداً فى الأولياء.

 وقد تولى الشعراني كبر هذه الدعوة فى القرن العاشر فاخترع كثيراً من القصص جعل البلاء ينزل فيها على من يعترض على المولد الأحمدي يقول مثلا ( أخبرني شيخنا الشيخ محمد الشناوي أن شخصاً أنكر حضور مولده – أى مولد البدوي – فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد فقال بشرط أن لا تعود فقال : نعم فرد عليه ثوب أيمانه [54]) أى أن للبدوي التحكم فى خطرات القلوب ودقائق الاعتقادات ، ومن هنا يستطيع أن يجعل المعترض على مولده كارهاً فى الإسلام فإذا تاب وأقلع حببه فى الإسلام .. وغريب ما يقوله هذا الشعراني ، فالله سبحانه وتعالى الأعلى الأعظم الأقدس قد ترك حرية الاختيار فى كل قلب بشرى مسلماً كان أم كافراً ، وجعل للبشر الحرية المطلقة والاختيار التام فى النية وخطرات القلوب إلا أن الشعراني يجعل من سيده البدوي متحكماً حتى فيما رغب عن التحكم فيه المتحكم القيوم الجبار.

وإلى جانب التهديد بسلب الإيمان خوفوا المعترضين بسلب العلم ، وفى هذا العصر كان العلم لا يزيد عن كونه حفظا للمتون والنقول دون ابتكار أو تجديد أو شخصية علمية ، فكان الفقيه المتعلم يخشى على حصيلته من النصوص التى يحفظها دون فقه أو فهم ، والذاكرة البشرية معرضة للنسيان ، وقد استغل الصوفية هذا الحال المتردية فأخافوا أقزام العلماء فى أواخر العصر المملوكي وفى العصر العثماني بأنهم إذا اعترضوا على البدوي فسيعصف بما يمتلكون من حفظ ويتساوون حينئذ بأى جاهل عامى .. يقول الشعراني ( ووقع ابن اللبان فى حق سيدي أحمد فسلب القرآن والعلم والإيمان فلم يزل يستغيث بالأولياء فلم يقدروا أن يدخلوا فى أمره فدلوه على سيدي ياقوت العرشي فمضى إلى سيدي أحمد وكلمه فى القبر وأجابه وقال له : أنت أبو الفتيان رد على هذا المسكين رسماله فقال : بشرط التوبة ، فتاب ورد عليه رسماله [55]) .

والذى تعرفه مصادر التاريخ للقرن الثامن أن ابن اللبان لم يكن أبدا من المنكرين على الصوفية لسبب بسيط هو أنه نفسه كان من أبرز الصوفية الملحدين ، يقول فيه المقريزي (نسبت إليه عظائم منها أنه قال فى ميعاده فى جامع مصر أن السجود للصنم غير محرم وإنه يفضل الشيخ ياقوت العرشى شيخه على بعض الصحابة [56])وعقد له مجلس لمحاكمته وادعى عليه الفقهاء ( بأشياء منكرة من الحلول والاتحاد والغلو فى القرمطة وغير ذلك فأقر ببعضها فحكم عليه بحقن دمه [57]) كما ورد نفس الشئ فى تاريخ ابن كثير وهو معاصر لإبن اللبان – ومصادر تاريخية أخرى [58].

وقد حلا لبعض الصوفية أن يزايد على الشعرانى فأورد قصة ابن اللبان واعتراضه المزعوم على البدوي فى صورة حافلة بالتفصيلات الدقيقة ومنها أن الرسول بنفسه تشفع لابن اللبان عند البدوي فى نهاية الأمر ورد عليه العلم والقرآن والإيمان[59]أورد عليه( رسماله ) .

وفى عصر كالعصر المملوكي اضطربت فيه العقيدة الدينية بين إسلام معلن كدين رسمى وتصوف مشرك كدين عملى كانت حوادث الارتداد والاتهام بالكفر تلطخ صفحات هذا العصر ، ومن المنتظر على هذا ألا يعول الصوفية على التخويف بسلاح سلب العلم والإيمان فقط ،فاخترعوا سلاحاً أضافياً هو التخويف الجسدى وهو سلاح  مضمون المفعول ، يقول الشعرانى ( وحكى لى شيخنا – الشناوي – أيضا أن سيدي أبا الغيث ابن كتلية أحد العلماء بالمحلة الكبرى وأحد الصالحين بها كان بمصر فجاء إلى بولاق فوجد الناس مهتمين بأمر المولد – مولد البدوي – والنزول فى المراكب فأنكر ذلك وقال : هيهات أن يكون اهتمام هؤلاء بزيارة نبيهم مثل اهتمامهم بأحمد البدوي فقال له شخص : سيدي أحمد ولي عظيم فقال : ثم – أى هناك – فى هذا المجلس من هو أعلى منه مقاماً ، فعزم عليه شخص فأطعمه سمكاً فدخل حلقه شوكة تصلبت فلم يقدر على نزولها بدهن أو عطاس ولا بحيلة من الحيل ، وورمت رقبته حتى صارت كخلية النحل تسعة شهور وهو لا يلتذ بطعام ولا شراب ولا منام ، وأنساه الله السبب فبعد التسعة شهور ذكره الله بالسبب فقال : احملوني إلى قبة سيدي أحمد فأدخلوه فشرع يقرأ سورة يس فعطس عطسة شديدة فخرجت الشوكة مغمسة دما فقال : تبت إلى الله تعالى يا سيدي وذهب الوجع والورم من ساعته [60]) .

ومن منا لا يقرأ هذا الكلام ولا يتحسس حلقه ، أو يحاذر من أكل السمك ؟؟ لقد وضع الشعراني أصابعه على موضع الضعف عند كل إنسان ولعب على هذا الوتر بمهارة ليخيف من يعترض على البدوي .. ويقول : ( وأنكر ابن الشيخ خليفة بناحية أبيار بالغربية حضور أهل بلده إلى المولد فوعظه شيخنا الشيخ محمد الشناوي فلم يرجع فاشتكاه لسيدي أحمد فقال : ستطلع له حبة ترعى فمه ولسانه فطلعت من يومه ذلك وأتلفت وجهه ومات بها [61]) إلى هذا الحد بلغت حدة الصوفية فى تصوير انتقامهم الشفهي ممن يعترض على مولد البدوي وسلطانه على النفوس ، وهو انتقام يعبر عما يجول فى نفوسهم وأحلامهم من حقد على خصومهم فى الرأى والعقيدة .

وجهد البدوي وأتباعه فى التآمر السياسي ترك ظلاً على ادعاءات التخويف والتهديد التى يشيعونها فكان للحكام منهما نصيب ، وقد كانت العلاقة بين الحكام والصوفية العاديين على أفضل ما يكون .. وحرم الصوفية المتشيعيون المتآمرون من هذه المعاملة .. ومع تخفف الأحمدية فيما بعد من أثقال الدعوة السياسية السرية فإن حقدهم على الحكم المملوكي الذى أفشل جهودهم – تجلى فى تخويفه بالكرامات كما يفعلون بالمنكرين، مع أن السلاطين المماليك كانوا فى الأعم الأغلب ممن يعتقدون فى الصوفية ويقبلون شفاعتهم ويقيمون لهم الخوانق والربط والزوايا .. ولكن الأحمدية وشركاءهم فيما بعد تحسبوا لأى انكار من جهة الحاكم كما كان يحدث مع أسلافهم فى عصر البدوي فعملوا على تخويفه مسبقاً فأطلقوا على وليهم البدوي لقب (العطاب) وروجوا لهذا اللقب فيقول فيه الحلبي فى العصر العثماني ( ولا مانع أن يكون عطاباً فى الحرب والنزال ثم صار عطاباً بسلب الأحوال وإيقاع السوء لمن يؤذيه [62])

واشتهر بهذا اللقب (العطاب) الشيشيني فقيل فيه ( كان عطاباً فكل من تعرض له بسوء عطب ) وقد نفخ الكاشف – أى والى المقطاعة – ( فانتفخ وارتفعت يداه ورجلاه وصار يصيح [63]) وكان محمد بطاله كثير العطب لمن يرد شفاعته من الحكام [64]، وكان للأحمدية الآخرين كالأشعث والفران بطولات وهيمة مع الحكام [65]، وقال ( أبو طرطور ) " كل فقير لا يقتل بعدد شعر رأسه من الظلمة فليس هو بفقير [66]) .

ونحن فى حيرة من هذه المقالة . فهل نفذها( أبو طرطور )  الموصوف بأن له ( كرامات كثيرة مع الحكام ) وإذا حدث فمعناه أنه قضى على الظلم فى عصره وهذا ما لم يحدث ، أم أنه (أبو طرطور) لا يعترف بوجود فقراء أو صوفية يستحقون هذا الوصف لأنهم يعجزون عن قتل حكام بعدد شعر الرأس ..لا ندري .. ماذا يقصده بالضبط أبو طرطور .. وإن كنا نعرف بالقطع أنه ناقم على الحكام كباقي زملائه فى الدعوة السرية ويعتبرهم ظلمة مع أن أولئك الظلمة يتقرب إليهم سائر الصوفية  الأخرين ويحظون بنوالهم بينما يظل أبو طرطور مبعداً عن الساحة يجتر حقده وغيظه ولا يملك إلا طرطورا من الجلد .

على أن الأحمدية اهتموا بابراز عنفهم الشفهي مع الظلمة كتعبير عن رأيهم السياسى فى السلطة المملوكية فأشاعوا أن المظاليم يحتمون بقير البدوي وأن تابوته يقرقع إذا حاول ظالم أن يؤذى مستجيراً  به وإن تابوت عبدالعال أحرق أحد الظلمة وأنه . ـ أى عبد العال ـ أمات الملتزم فى بلدة الشناوى [67]) .

وكان أخوف ما يخافه الأحمدية أن يتعرض الحكام للمولد الأحمدي مصدر الرزق الأساسي لديهم،  وقد حدث أن السلطان جقمق أبطله سنة 852 فتوالت الكرامات فيما بعد تفسر كل المصائب فى ضوء غضب البدوي على تعطيل مولده واهتمت تلك الأساطير بعقاب من أفتى بإبطال المولد ( ثم بعد قليل حصل لكل واحد من المفتين والمتعصبين فى إبطال المولد المذكور غاية الضرر فبعض المفتين عزل من منصبه وأمر السلطان بنفيه فحصلت له شفاعة وبعضهم هرب إلى دمياط ثم أحضر وعزر ووضع فى الزنجير وحبس فى المقشرة ..إلخ )  إلى أن يقول ( فنسأل الله العافية والسلامة [68]) مع أنه من المألوف فى العصر المملوكي أن من يقترب من السلطان الحاكم فلابد له من أن يذوق النكال بعد النعيم . فهو حكم عسكرى قائم على التآمر والفتن ومن يصل إلى مقربة من السلطة فلابد برغم أنفه أن يشارك فى تلك السياسة وأن يذوق حلوها ومرها ، ولا شأن للبدوي أو مولده بما يجري من مألوف السياسة المملوكية الذى تحكيه كل صفحة فى التاريخ المملوكي .

وقد أقام الأحمدية حجراً أسود فى مقام البدوى وتبركوا به ودعوا الناس لتقديسه بدعوى أنه أثر لقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، والإسلام ينكر أن يتوسل المسلم بالنبي نفسه لا بقدمه أو حجر مجهول الأصل ولكنها العودة للوثنية الفصيحة وعبادة الأحجار ، وفطن الأحمدية إلى ما يمكن أن يترتب على هذا العمل من إنكار متوقع فبادروا بحرب التخويف ضد من يحاول إخراج ذلك الحجر من حكام أو محكومين ، يقول عبد الصمد عن حجرهم المقدس ( وكل من زار الأستاذ يتبرك بمحل القدمين ، وسعى جماعة عند بعض السلاطين فى إخراجه من محله ونقله للسلطان ليتبرك به فأرسل السلطان جماعة من الجند يأخذون الحجر فلما هموا بقلعه صار الحجر مما لا يقدر أحد أن يأخذه وهو على الهيئة التى كان عليها قبل ذلك فخافوا وتركوه فى محله إلى وقتنا هذا [69]).

 ومن المهارة فى سبك هذه الرواية أنه يقول أن ذلك السلطان المجهول الذى لا نعرف له اسماً ولا لقباً أرسل الجند  لاقتلاع الحجر لا لأنه منكر يجب إزالته ولكن ليتبرك السلطان به وحده دون الناس جميعاً ، ومع ذلك فإن الحجر المقدس استعصى على ثلة الجند وأخافهم كما يدعي .

وفى الوقت الذى يخيف فيه البدوي أعداءه والمنكرين عليه فى الأساطير الأحمدية فأن أتباعه ومريديه يحظون بلحظة .. و(اللحظ) معناه العناية والمدد والعون ، أى أن البدوي ( يلحظ) أتباعه بالرعاية والعون والحفظ .وذلك طبعا ما يشيعه الأحمدية .. يقول بعضهم فى ذلك :                                       أبو اللثامين بالالحاظ قد لحظا             من  حل حيه من الأسواء قد حفظا

ويقول آخر

  وهو الذى للزائرين ملاحـــــــــــــــــــظ          ولهم بأنواع اللـــــطائف يتحـــــــــــــــــــف  

 لا سيما فى المولد الزاهى الذى          شمس الفضائل فيه ليست تكشف

ويقول آخر أن البدوى يمد الأولياء أنفسهم بلحظة :-                         

        يمد الأولياء ببعض لحظ         ويحمى الجار حيث الحال حالا [70]

وإذا كانت الأولياء الأخرى تستمد العون من البدوى فإن صاحبنا قد أوتى عظيما من التصرف فى الملك والملكوت .. وهذا ما يعتقده الصوفية ويعبرون عنه فى أشعارهم فيقولون عنه :-

      أنت فى الكون حاكم وخصيم             لعـــــــدو يعدو علاه الشقاء

      أنت تعطى الزوار خير عطاء           من ضريح به التقى والغناء

ويقولون :                                                                              

 هو الوابل الهطال عم انتفاعــــــــــــــه       على الكون أحيا كل أرض جدبه،

له ينصب الكرسي فى شاهد العلا       ويقضي بأمر الله بين الخليقة[71]

أى أن البدوي يتحكم فى الكون  بأسره فيقسم الشقاء لآعدائه والسعادة  لأتباعه ، وهو الذى ينزل الغيث فيحيى كل أرض جدباء فى الكون وهو الذى ينتصب له الكرسي فيجلس فيه ليقضي بين الخلق .

ولم يعد ثمة ما يبقى لله تعالى فى اعتقاد الصوفية الأحمدية طالما أن للبدوي فى الكون الملك والأمر.

وهكذا يقول أحدهم فيه :

أنت  الذى  عمت  الدنيا  مآثره             أنت المجيب لمن فى الكرب ناداكا

ويقول آخر !!

    من عمنا إحسانه فبحمده              وبمدحه وبشكره نترنم [72]

ويقصد البدوي !!

ولعل الإحساس بالفشل السياسي فى دنيا الواقع دفع بالأحمدية إلى المبالغة فى الادعاءات الكافرة فى دنيا الخيال ، وهنا نلمح نوعاً من التوافق وتقسيم أحلام اليقظة فى التحكم فى ملك الله بين البدوي والدسوقي شريكه فى المؤامرة السياسية مع الرفاعي شيخ الجميع وفى ذلك يقول الحلبي ( سئل الدسوقي عن البدوي فقال : الدنيا مقسومة بيننا وبينه أربعة أقسام ربع لي وربع لأخي أحمد الرفاعي وربع لسيدي عبد القادر الجيلاني – وهو شيخ أبى مدين  زعيم الدعوة فى المغرب – وربع لحضرة الأستاذ سيدي أحمد البدوي ، وكل منا يتصرف فى ربعه إلا حضرة الأستاذ الأعظم أحمد البدوي فأنه يتصرف فى الجميع وخصه الله تعالى بخصيصة لم يخص بها أحدا سواه وهو أن الله تعالى جعل له كرسياً فى مكان  بين السماء والأرض يتصرف فى أمور العالم العلوي والعالم السفلي [73]) .

ونقول لأولئك ما يقوله تعالى للمشركين فى كل عصر وأوان على لسان رسله وأتباعه (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِأَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ؟ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً) فاطر : 40، و (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ؟اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الأحقاف : 4 ، وفعلا .. فيا أتباع البدوي وأولياء الصوفية ويا من تعتقدون فيهم التصريف والنفع والضر أرونا ماذا خلق أولئك فى الأرض ..وما لهم من تصريف فى السماء .. ثم أرونا دليلاً وشاهداً مكتوبا على تلك الملكية وذلك التصريف .

إن حقيقة الأمر أن هذه الآلهة المزعومة لا تملك فى كون الله وملكوته مثقال ذرة ، وإذا شاء الصوفية التحقق من هذا الأمر فعليهم بالوقوف معا أمام أى وثن أو ضريح صوفي وليتوسلوا  به بأى كيفية فلن يرد ، وكيف يرد وهو تراب رميم (قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِوَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)) سبأ  ، ثم إذا شاء الصوفية فعليهم بكل أوليائهم وجاههم المزعوم وتصريفهم الكاذب وليرونا هل يستطيع البدوى قطب الأقطاب وسيد الأولياء الصوفية أن يخلق ذبابة واحدة . يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .. (74)" الحج.

وثمة ناحية أخرى فى مظاهر الشرك أبى الصوفية الأحمدية إلا المشاركة فيها أسوة بسلفهم من كفار قريش ألا وهى التماس الشفاعة من الأولياء كإحدى مستلزمات التصريف والمكانة فى السماء يوم القيامة .

يقول تعالى عن كفار قريش وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ : هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ " يونس :18 ، أى كانوا يسمون الآلهة بالشفعاء عند الله تعالى ، وكان اتخاذ الشفعاء مرادفاً لاتخاذ الأولياء يقول تعالى " أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ؟ قُلْ :أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً .. (44)" الزمر  ، أى  تصرفوا بدافع ذاتى فاتخذوا لهم أولياء يشفعون لهم عند الله ، وقد رد تعالى بأن هذه الأولياء لا تملك شيئاً وأصحابها لا يعقلون فلله وحده الشفاعة ومن شأنه وحده تقرير الأمر فيها .

والبدوي طالما يجلس على كرسي بين السماء والأرض يتصرف فى العالمين العلوي والسفلي ويقسم بالخير لأتباعه والسوء لأعدائه – فى هذه الحالة لابد أن تكون الشفاعة فى يوم القيامة إحدى مهامه وهو يتبختر فى مقعده بين السماء والأرض .. ليتم له السلطان فى الدنيا والآخرة خاصة وهو فى برزخ بين الدنيا والقيامة .

وإتخاذ البدوي شفيعاً بدأ فيما رواه خليفته عبد العال الذى يروي أن البدوي رأى قبل وفاته بثلاثة أيام ( كأن القيامة قد قامت وأني واقف بالمحشر فألهمني الله عز وجل هذا الدعاء فرفعت رأسى إلى السماء وقلت اللهم يا رب كل شىء.. اغفر لي كل شىء.. قال وإذا النداء من العلا يا فتى نحن ما سألناك عن شىء اذهب يا أحمد أنت ومن معك وأدخل الجنة قال فبينما أنا كذلك وإذ بالنبى يهنئنى ويقول لى هنيئا لك يا أحمد فرفعت رأسي ونظرت وإذ أنا بعلم كبير على رأسي وتحته خلق كثير منهم من أعرفه ومنهم من لا أعرفه ومكتوب عليه بالنور : نصر من الله وفتح قريب لأحمد البدوي ومن معه من المريدين والفقراء الصادقين ، فلما انتشر العلم فوق رأسى رأيت تحته  من الخلائق ما لا يحصى وهم يمشون خلفى حتى دخلت الجنة ) [74].

وبهذه الأسطورة المفتراه ضمن الصوفية الأحمدية لأنفسهم الجنة بشفاعة وليهم البدوي مهما ارتكبوا فى مولده من آثام . فيكفى أنهم يحجون إليه فى مولده ويتمتعون بما يشاءون من اختلاط بالنساء( والبساط أحمدى ) والبدوي بما له من تصريف فى الدنيا والآخرة قد كفل لهم الجنة وأراحهم من العمل فى سبيلها ..

يقول الشعراني راوياً عن الشناوى المريد الأحمدى ( أخبرني شيخنا الشيخ محمد الشناوي أن شخصاً أنكر حضور مولده فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد فقال : بشرط أن لا تعود فقال نعم فرد عليه ثوب إيمانه ثم قال له : وماذا تنكر علينا قال : اختلاط الرجال والنساء فقال له سيدى أحمد : ذلك واقع فى الطواف ولم يمنع أحد منه ثم قال : وعزة ربي ما عصى أحد فى مولدي إلا وتاب وحسنت توبته ، وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك فى البحار وأحميهم من بعضهم أفيعجزني الله عن حماية من يحضر مولدي ) [75].

وفى ذلك يقول البعض متباهياً بالمولد الأحمدي وما يحدث فيه برضى البدوي  ورعايته وشفاعته:                                                                   

 ومولده فى كل عـام  يزيـــــــــــــــــــــدنا        سرورا له شدت من البعد أنيق [76]

 به تجمع الأضداد جمـع أحبــــــــــــة         ويحفظهم حتى يكون التفـرق

وأعجب شىء أن من كان عاصيا        بمولده  يعنـــي  بـه  ويـرفق[77]

وادعوا أن البدوي قال :

 ومن عاش بعدي سوف يشهد مولدا          به تجمع الأضداد ليس له مثل

 وتأتى له الزوارمن كل وجــــــــــــــــــــــــــــهة          رجالا وركبـــــانا كأنـهم نـــــــــــــــــــــــــــــمل

 فمن زارنى فيه تنحـت ذنـــــــــــــــــــــــــــــــوبه           وفاز بغفران لما قد جنى قبـــــل

 وعاد إلى أوطانه فى جـــــــــــــــــــــــــــــــــلاله           وعز تكريم وقد عمـه الفضـــــــــل [78]

ودعا الصوفية الأحمدية إلى التشفع بالبدوي واتخاذه شفيعاً يقول أحدهم :

    فاخلع عذارك واغتنم صرف الهوى        بالسعي مجتهدا إلى حاناته

    وإذا ضللت فبالملثم لـذ عـــــــــــــــــــــسى        يهديك نشر السر من نفحاته [79]

ويقول آخر متشفعاً به:                                                               

      فيا بدوي العزم عبد بباكـم         لطائفة المـــــــــــــــــــداح جـاء يكـاثر

     وأنت له عند النبي وسيلة        إذا هى ضاقت بالقلوب الحناجر[80]

ويقول آخر

       واشفع لنا يا سيدي يا منــــــجدي        يا مقصدي يا من أزال تحيرا

       عولت فى أمرى عليك فلا تكن        يا سيدي فيما أريد مقصرا [81]

وإلى أولئك جميعا يقول تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)) فاطر.

ويقول تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)) الأحقاف 5، 6 .

ومع أن الله تعالى منح بعض أنبيائه بعض المعجزات خدمة للرسالة فإن الرسل يعلنون أنهم لا يملكون لأنفسهم – فضلاً عن غيرهم – نفعاً ولا ضراً وأن النفع والضر بيد الله وحده .. وقد لخص القرآن ذلك كله فى كلمة واحدة قالها لمحمد عليه السلام  " لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ" آل عمران : 128 . ويقول عليه السلام كما أمره الله تعالى قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ" الأعراف : 188 و" قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله." يونس :49 ، وكل مسلم – أو حتى كل إنسان عاقل- يقر ويعترف بأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً .. فالرسول ساوى بين نفسه وبين كل إنسان فى هذه الكلمة .. وهنا يتجلى التأليه الذى يعتقده الصوفية  فى أوليائهم حين يرفعونهم فوق مستوى الرسل خير الخلق أجمعين .

4ـ الغيب :

والله سبحانه وتعالى كما اختص ذاته المقدسة بالتصريف – اختصها بعلم الغيب. وإسناد علم الغيب لله تعالى وحده جاء بأسلوب القصر وهو الأسلوب المتبع فيما يختص بعقيدة (لا إله إلا الله)  فى القرآن الكريم ، فكما أن شهادة التوحيد " لا إله إلا الله " هى قصر للألوهية على الله تعالى وحده فإنه تعالى يقول مثلا قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)" النمل .

ويلاحظ أن بعض الآيات التى قصر الله تعالى فيها علم الغيب على نفسه كانت ترد على المشركين ممن يدعون أن آلهتهم تعلم الغيب ، فالآية السابقة مثلا تقول قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)" أى فلا أحد فى سماء أو أرض يعلم الغيب إلا الله وحده ، أما هذه الآلهة الميتة المبتورة  فلا تعلم حتى مستقبلها الشخصى وهو متى تبعث من موتها .. وفى آية أخرى يقول تعالى " لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) " الكهف . وهو تعريض بالمشركين ممن يعتقدون فى أوليائهم التصريف وعلم الغيب ، ومثله قوله تعالى(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)) النحل ، وهذه الآية الكريمة لخصت كل ما سبق فبينت أن الله هو وحده الذى يعلم السر والعلن أما الألهة الأخرى فهى مجرد مخلوقات خلقها الله وخلق الناس حولها أساطير وأباطيل ، وإذا كانت هكذا فأحرى بها ألا تخلق شيئاً ، وخاصة وهى ميتة ولا تشعر بميعاد بعثها ..

وكالتصريف أيضاً أسند الله تعالى لبعض الرسل العلم ببعض الغيب خدمة للرسالة وحتى يؤمن بها قوم الرسول ، يقول تعالى للمؤمنين (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) آل عمران 179 ، أى فالمؤمن لا يعلم شيئاً من الغيب والله جل وعلا لا يطلع أحداً من البشر على غيبه إلا من يجتبيه من رسله ، بل إن بعض الرسل كان يعلن أنه لا يعلم شيئاً من الغيب فيقول كل من محمد ونوح عليهما السلام (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الأنعام 50 ، هود 31 ، وخاتم الأنبياء عليه السلام أمره الله تعالى بذلك كثيرا (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ ..) الأعراف 188 ، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ .. (27)الجن . .أى أن محمد صلى الله عليه وسلم يعلن أنه لا يعلم شيئاً من غيب الله الذى لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى واجتبى من رسول (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)   آل عمران 179 صدق الله العظيم  وجاء الصوفية فادعوا لأنفسهم ولأوليائهم علم الغيب شأن المشركين فى كل عصر وأوان ، حتى إن من أولى المستلزمات لأى صوفي أن يكون متمتعاً ( بالكشف) والكشف هو علم الغيب وبالتعبير الشعبي ( مكشوف عنه الحجاب ). وترسب فى الشعور الشعبي إن الغيب الآلهى مباح لكل من هب ودب من دجال أو نصاب ، وأولئك الدجالون يرتدون زى التصوف ويعرفون بلقب "الشيخ" والتصوف بالقطع هو المسئول عن ذلك الخلط بين "الشيخ " العالم و" الشيخ " الدجال صاحب البخور والفنجان والعفاريت والجان ..

وإذا التفتنا للبدوى وجدنا أتباعه قد أحاطوه بعلم الغيب فجعلوا من أشهر كراماته أنه علم بالغيب أن ثعبانا يقبع داخل قربة لبن يحملها رجل ، وبما يتمتع به من تصريف أومأ للقربة " بإصبعه الشريف فانتقدت وانسكب اللبن وخرجت منه حية [82]وقالوا إنه دعا ركين الدين يوما وقال له " يا ركين إن الله تعالى أطلعنى على غلاء عظيم يقع فى الكون " ونصحه بشراء القمح وتخزينه وهو رخيص ليبيعه حين يرتفع السعر[83]. أى أن الأتباع كافأوا التاجر ركين الدين شفهياً بهذه الكرامة نظير ضيافته للبدوي ..

وحين حوصر البدوي بشكوك السلطات الحاكمة وتولى ابن دقيق العيد كشف حقيقته وانتهى الأمر إلى لا شىء لم يشأ الأحمدية أن تمر هذه المسألة دون فائدة فادعوا أن البدوي أظهر لابن دقيق العيد  بعض الكشف والعلم بالغيب تدليلاً على ولايته وبرهاناً على صدقه . من ذلك أنه قال للدريني رسول ابن دقيق العيد " إن الأجوبة مسطرة فى كتاب الشجرة  فوجدوها فى الكتاب كما قال " ولا نعرف ما هو كتاب الشجرة هذا .. وقالوا إن البدوى قال للدرينى " قل لقاضى القضاة – ابن دقيق العيد – يصلح غلطاً فى المصحف الذى عنده معلقا فى صدر بيته غلطة فى موضع كذا وغلطة فى موضع كذا " [84].

وبعد موت البدوي أسبغ بعض أتباعه على أنفسهم ما شاءوا من علم للغيب فيوسف الإنبابي عزل وولوا إبنه إسماعيل المرضى عنه وسرعان ما أصبح إسماعيل الإنبابي يخبر بالغيب " وكان يقول رأيت فى اللوح المحفوظ كذا وكذا " [85].. وقالوا عن مبارك السطوحى " إنه يخبر الناس بما يخطر فى قلوبهم " [86]أى يعلم ما تخفى الصدور .

وهذا التوسع فى إسناد العلم بالغيب للأتباع السطوحيين شمل بعض ممتلكات البدوي كالبهائم التى يرعى بها الشيخ عبد العظيم الراعي. فتلك البهائم – وياللعجب- كان لها من الإلهام نصيب ، وليس ذلك عليها بغريب .. أليست بهائم البدوي شخصياً .. يقول عبد الصمد فى ترجمة عبد العظيم الراعي " وكان كثيراً ما يرسل البهائم والغنم إلى البرسيم من غير راع فتأكل من مارس سيدي أحمد البدوي ولا تتعدى للجار بل تخلى للجار من البرسيم نحو خط محراث وكانت تعرف مارس سيدي أحمد بالإلهام " [87].

وفى القرن العاشر أبى الشعراني إلا أن يشارك فى هذه المبارة – مبارة الافتراء والإدعاء بعلم الغيب للبدوي وأتباعه ومتعلقاته فجعل هلال المئذنة لقبة البدوي يشارك الله تعالى فى علمه بالغيب ، يقول ( ومما رأيته إني كنت جالساً على سطح المقام وقت الزوال فرأيت هلال قبة سيدى أحمد البدوى يدور ويزعق كالحجر العظيم من حجارة المعصرة الذى ليس تحته حب فدار نحو ثلاث دورات ثم جاء الخبر بنصرة السلطان سليمان بن سليم بن آل عثمان على أهل رودس فى ذلك الوقت ) وأسند الشعراني لتابوت البدوي نفس الإمتياز يقول ( وكذلك ما سمعنا تابوته يفرقع ويزعق إلا ويحدث فى المملكة أمر) [88]وفى الجملة الأخيرة جرى أسلوب الشعراني بالقصر ( ما سمعنا تابوته يفرقع ..إلا ويحدث.. ) وهو نفس الأسلوب الذى يقصر به علم الغيب على الله تعالى(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ..) ونكمل الآية فنقول للصوفية عن البدوي وغيره من الأولياء الموتى وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ".

وواقع الأمر أن ميل الصوفية الأحمدية لتقديس الأحجار شديد شديد ..فأعظم الأحجار تقديساً لديهم هو قبر البدوي وهو حجر ، و(الحجر الاسود) فيه يتبركون به و(هلال المئذنة) يخبر بالغيب ومثله (التابوت) ، وللتابوت وظيفة أخرى هو الدفاع عن المظلوم فحين هجم جندى ظالم على صبي احتمى بالتابوت (فرقع التابوت ذلك الوقت وارتفع نور عظيم حتى ملأ بين السماء والأرض ورآه أهل البلاد المجاورة لبلد الأستاذ فظنوا أنه حريق وقع بها وجاءوا ليحتالوا فى إطفائه مع أهل البلد فوجدوا ذلك الحال ، ووقع جماعة إلى الأرض صرعى من شدة الحال وثارت حركات شديدة خارجة عن الحد فخاف الجندي وأتباعه وتركوا الصبي واعتقدوا فى سيدي أحمد البدوي منذ ذلك الوقت ) [89]أى إن كل هذه الجلبة والضوضاء والأضواء والنيران والجري والإغماء لكى يخاف الجندي فى النهاية ويترك الصبي المسكين ويعتقد فى البدوي وتابوته.. وكم كان أسهل عليهم وعلينا أن يدعوا تسمير الجندى " وخلاص ويادار ما دخلك شر"،  لأننا فى حالة الهيجان التى ادعوها سنطالبهم بدليل فى المراجع التاريخية المعاصرة للحدث .. وقد كان ضريح البدوي وقتها مشهوراً ولن تمر حادثة عجيبة كهذه دون أن يطنب فى ذكرها المؤرخون وهم جميعاً بلا استثناء يقدسون البدوي ويحجون إليه وإلى تابوته . ونضيف إلى مجموعة الأحجار المقدسة تابوت عبد العال خليفة البدوي فـ (بعض الفقراء شاهد ناراً خرجت من تابوته فأحرقت واحداً من الظالمين حصل منه تعرض لبعض أتباع سيدي أحمد البدوي ) [90].

هذا .. وإذا أصر الصوفية المعاصرون على أن توابيت البدوى وخلفائه تضر وتنفع فلنحتكم للتجربة ، وليذهب البعض من المؤمنين بها بمعاول لهدم تلك التوابيت ولنر هل ستخرج منها النيران أو ستطفح منها المجارى .. "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ".

والذى لا شك فيه أن موقف الناس من هذه القضية ينبع من العقيدة الإيمانية .. فمن "يؤمن" بالبدوي ويعتقد فيه لن يرى فى أحجار ضريحه وتراب قبره إلا ما يستوجب التقديس والتبجيل ، وإليها يتوجه بالحب والحج .. أما من لا يؤمن بالبدوي وأنداده فلا يرى فى تلك الأحجار إلا إنها أحجار ، مجرد أحجار حملت إلى هذا المكان وبنيت ، ولا تفترق عن غيرها من الأحجار والأخشاب سواء دخلت فى بناء ضريح أو كنيسة أو بيت أو حظيرة للدواجن ، أما ما يضاف لها من تقديس فهى أساطير زينها الشيطان فى العقول والقلوب . وهنا ندخل على عنصر آخر من عناصر تأليه البدوى ورفعه فوق مستوى البشر .. إنه عنصر الإيمان به .

5- الإيمان بالبدوى :

فى الإسلام تكون "الشهادة" إقرار بالألوهية والربوبية لله وحده . وشهادة الاسلام الواحدة (لا اله إلا الله ) تعنى أن المسلم يؤمن بكل الرسل الذين حملوا نفس الرسالة وجاهدوا فى سبيلها فى حدود إمكاناتهم كبشر.أما إذا غالى فى اعتقاده فأضفى علي النبى ـ أى نبى ـ صفات الإله الواحد تعالى وتقدس فقد خرج عن الإسلام وأصبح مشركاً ..

على أن بعضهم غالى فى المغالاة .. وأضفى صفات الألوهية على غير الرسل وجعل من البشر آلهة وطالب غيره بأن يؤمن بأن "فلانا ابن فلانه" يتصرف فى ملك الله ويعلم غيب الله ويدخل أتباعه الجنة ويقسم لأعدائه النار ومن عاداه حقت عليه اللعنة و( دخلت فى حلقه شوكة)و" طلعت فى وجهه حبة رعت وجهه فمات " وإن تابوته يحرق من يتعرض لأتباعه بسوء.. ومطلوب من الناس أن يؤمنوا بهذا وإلا " فمن اعترض انطرد" وحاقت به لعنة الأولياء ومقتهم وسخطهم .. وهذا ما يتردد فى ترجمة البدوي الذى جعله عبد الصمد واسطة بين الله والناس إذ يقول فى مقدمة كتابه " ومن المعلوم أن اجتماع القلوب على محبته وخدمته وذكر مناقبه ومآثره ونشر ما انطوى من فضائله وفواضله أسباب نشرها الباري جل وعلا مقتضية لفيوض الرحمة وتنزلات غيث النعمة [91]" .

ثم جعل من عبد العال واسطة عند البدوي – أى واسطة للواسطة – يقول عن عبد العال " إن كل حاجة عرضت عليه أولاً قضيت فى باب أستاذه الأعظم سيدي أحمد البدوي لكونه الواسطة العظمى بينه وبين أتباعه ومريديه حياً وميتاً [92]" أى أن كل حاجة تقدم للبدوي  لابد لكي تقضى أن تمر أولاً بقبر عبد العال الواسطة بين البدوي وأتباعه.. ونسوا إن الله تعالى سهل الأمر على المؤمنين ومنع أن تكون واسطة بينه وبين عباده فقال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ  " البقرة : 186 ، ولكن أولئك الذين حرموا الرشاد دعوا الناس للإيمان بالواسطة التى يتوجهون إليها – من دون الله – له بالتوسل والعبادة والتقديس ، ثم قرنوا دعوتهم تلك بالتخويف والإرهاب للمعترض على عقيدتهم ونحلتهم وسبق لنا التعرض للحرب النفسية التى أعلنوها على المنكرين عليهم .

وكما أن الله تعالى يدعو الناس للإيمان بألوهيته ويحذر من عصاه  فأتباع البدوي يسلكون نفس الطريق يدعون الغير للإيمان بالبدوي كإله ويحذرونه من العصيان والإنكار عليه ،يقول أحدهم [93].

        سلم إلى البدوي القطب يا هذا ..         ولا تفه بنكير مثل من هـــــــــــــــــــــذا

       واذكر مناقبه فى أى طائفة               بأى قول من الأقوال بـــــــــــــــــدأ ذا

      وما عليك إذا حدثت من حرج             وليس تدعى بما قد قلت ملاذا

       وارض به سنداً تأوى لعزته              واجعله بين الورى مولى وأستاذا

فهنا أمر بالتسليم للقطب – أى البدوي – وألا يتفوه بأى اعتراض ، وأن يذكر مناقبه بلا أدنى حرج وأن يرضى به سندا ومولى من دون الله تعالى .

ثم هنا أمر آخر بالإيمان لا يخلوا من إشارة التخويف .. يقول صاحبنا [94]

       عليك ببيت فيه للمحتمي العز         وللظالم الأسواء والذل والعــــــــــــــــــجز

       وذلك بيت القطب أحمد كنزا         من المدح فيه بالصريح كذا والرمز

      ولى كساه الله من خلع الرضا        ملابس عز والجلال لها طــــــــــــــــــــــــرز

وآخر يصف من لم يؤمن بالبدوي بالكفر واليهودية وعبادة الطاغوت يقول[95]:

     ومن عاداه من أصحاب سبت         وعباد لطــــــــــــــــــاغـوت  وجبت

     رماهم ربهم فى بكل مقـت            عليه صلاة ربى فى كل وقت

                       بتسليم له المولى يضاعف

ويقول آخر [96]:

    فمن يشك أنه القطب                بـنار يـكتـوي

   فيـا عزيز الأوليـا               وردى بذكرى روى

وعبد الصمد فى مقدمة كتابه يشيد بالمؤمنين بالبدوي ويحط من شأن من لم يؤمن به يقول " أما بعد فلما كانت الطريقة الأحمدية واضحة يهتدى بها الضالون ويتوصل بها إلى بلوغ مقاصدهم السالكون ويتشرف بسلوكها الواصلون ويتفقه باتباع عالمها الجاهلون ويتدانى من الرأفة والرحمة من هم فى أهلها معتقدون ويتباعد عن ذلك الذين هم على أصحابها منكرون ومنتقدون ..) [97].

وكما أن الإيمان شهادة وإقرار بالألوهية لله فللبدوى هو الآخر شهادة وإقرار بالألوهية . يقول احدهم فيه [98].

    السيد العـالي الـذى بعـلوه          شهدت له الأموات فى الأمراس

    فضلاً عن الأحياء من رب السما      والأرض بل من سائر الأجناس

ويقول آخر [99]:

  له قد أقر العرب والعجم مثلما         أقر له البادون والحضر والقبط

 وهذا عجيب ما سمعنا بمـــــــــــثله         ومنكره لا شك فى باله الخلط..

ولا نمل من تكرار القول بأنه لا يجتمع إيمان حقيقي بالله مع الإيمان بغيره من ولي أو إله .. هذا هو الشرك بعينه . والتوحيد هو الإيمان بإله واحد لا يكون إلا الله  وحده وليس معه بدوي أو غيره ..

6- حب البدوي كإله:

ويقترن بالإيمان الحب "حب تقديس ". وحب التقديس هو حب الخضوع والخشية والإخبات والخوف والرجاء ، هو الحب المقترن بالعبادة أو هو حب العبادة أو العبادة حباً .. أو الحب الذى يتوجه به العابد للمعبود والإنسان للإله الذى يتوسل به . ومن نافلة القول أن نذكر أن هذا الحب – حب التقديس – لا يتوجه به المسلم إلا لله وحده ويحققه عملياً بالطاعة ، فطاعة الله هى الحب الحقيقى من المسلم لربه.

أما فى الشرك فإن المشرك يحب آلهته حب تقديس وخضوع – أى يحبهم الحب الواجب لله وحده ، أى يحبهم كحب الله ، يقول تعالى (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ..) البقرة : 165،فحب المشركين لأوليائهم المتخذة يختلف فى طبيعته عن حب الإنسان لأخيه الإنسان .. فالحب بين البشر له دوافعه وأسبابه المختلفة والتى تخضع لعنصر المساواة والتقلب والزيادة والنقض حسب التعامل المستمر والأهواء وحظ النفس ، فأنت تحب فلاناً أو فلانة لهدف فإذا نلت الهدف أو تغير شعورك ضاع الحب أو خفت ، وفى دنيا الواقع فإن الإنسان يطالب المحبوب بحب مماثل وإلا فلا ، فالمساواة أساس التعامل العاطفي بين الطرفين ولابد من هدف للحب ، أما حب الإنسان لمعبوده فلا يتصور أن يكون فيه مساواة- وإن كان ثمة هدف لجلب نفع أو دفع ضرر، ولأن طرفي الحب – حب التقديس- يزيد أحدهما عن الآخر كان على الأقل شأناً أن يصبغ حبه بالخضوع والخنوع والخشية والخوف والرجاء والطاعة والتقديس .. وهذا ما توجه به الصوفية للبدوي وحفلت به أشعارهم .

ولقد ارتبط مدح البدوي باعلان المريد لحبه حب تقديس مقترن بطلب النفع والنوال مثلما يفعل المؤمن العابد لربه حين يثنى على ربه فى الدعاء طالباً ما يريد من خير فى الدنيا والآخرة .

وحرص الصوفية على بدء قصائدهم فى البدوي ببث لواعج هذا الحب وشرحه والإفاضة فيه .. يقول أحدهم [100].

        زال العنا وتجمعت كل العجــــــائب         فى حجرة البدوي فراج النوائب

        قطب الوجود صاحب العزم الذى        لعلوه وجلاله سعت الركـــــــــــــائـب

      وبه القربى لذوى القربى ولمن قرى        وبه الحماية والمنافع والمشـــــارب

ويقول آخر [101]:

   هو البدوي العزم فى القلب راسخ        فغير مديح القطب ما أنا ناسخ

   ففى مدحـــــــــــــــــه نفع عظيم لمـادح        ومستـــــــــــــمع للقول بالحب شـارخ

   فكم من كرامات له قد تتـــابعــت        رواها بحــــــــــــــــــــــــــق للأنـام المشـايخ

  ومنها اعتراف المادحــــــــين لذاتـه         بعجز ومن يبغى لحصـر فدائخ

 

فصاحبنا  لا يرى غير البدوي مستحقاً للمدح ، وإن مدح البدوي عظيم النفع للقائل والمستمع ، وإن المادحين للبدوي اعترفوا بعجزهم عن حصر كمالاته ومن يحاول حصرها (فدائخ) أى تصيبه الدوخة.

وعن التصميم على حب البدوي والسرعة فى نظم المديح فيه حباً ورغبة يقول مريد أحمدي [102].

   حديثى عن البدوي فى الكون قد فشا         وقد ملت عمن لامني فيه أو وشى

   فكيف التوانى عن مدائح سيـــــــــــــــــــــدي        هواه بقلبى والمفاصــل والحشـــــــــــــــــــــــــــــــا

ويقول آخر [103]:

   قسما بمن يشفى الأنام ويمرض        عن مدح أحمد   لا أعرض

  بل ما حييــــــــــــــت فأني بمدائـــحي          لجانبـــــــــــه بين الورى أتعرض

  وإذا دعيت لمدحـه فى مجمـع           أسرعت فى عزم شديد أركض

  فمـديـــــــــــــــــــحه نفـع ويـوم مـجيئه          إن دوام التمداح فيه أبيـض

  تـالله ما فى الأوليـاء كمــــــــــــــثله          وإليى حق وليست تنـــــــــــــــــــــقض

  فهو الذى فى الكرب يدعى دائما       وإلى الأسير بهمة هو ينـهض

  وأنا أعـــــــود إلى مـــــــــــــــــــــديــح ملـثم        أرضى الأنام وللإله بتفــــــرض

  بجنابـه لذنا فــعن أوطـــــــــــــــــــــــــاننـا         وكل المخاوف والمهالك تدحض

 

ويطالب آخر بالمغالاة فى البدوى [104]:

   أيها الفكر فى علاه تغــــــــــــــــــالـــى    وامتدحه فالمدح فيه يهون

   وامتدح شيخه مجيب الأسارى    وابن بنت النبي طه الأمين

 

وفى موشح يدعي آخر بأن من يحب البدوي يأمن من الخوف [105]:

     قطب شريف من أشراف        من حبه فلا يخاف

 

والواقع إن التوسل وطلب النفع المرتجى من البدوي كان السمة الغالبة فى أشعار الحب الأحمدية كقول أحدهم [106]:

    ها خاطرى لم يزل بالبعد منكسرا         لكن لقلبى نسيم البشر منك سرى

    وشـاقنى منك عهد طـــــــــــــــــــاب موثـقه        به لقد فزت فى الدنيــــــــــــا والأخـرى

   وسرنى انتمائى والتــــــجأت إلــــــــــــــــى        أبواب عزك يا حامـــــي حمى الفقرا

   أنت الملثم قطب الـكون معتمـــــــدى        فحل الرجال أبو الفرحات بحر قرا

   وأنت شيخي وملاذي وقدوي وكفى       لك الكرامات فى الإنجاد للأسرى

 

ويقول آخر [107]:

    إن قلبي يحب غوث البرايا           من يسامي أبا اللثامـين فـيـــــــــــــــنا

    سيد العارفين أحمد من قد            كان قطب الوجود صدقاً ويقينا

    بدوي يحمي الحمى بحماه            كـم له من كـرامة تحيــــــــــــــــــــــــينا

    حدث فى مدحه بقيل وقال            وهو فى غنية  عن المادحيـنا

    غير أنى    لحبه     مستند            مستــمد من الـوارد كميــــــنا

    ذكره ينعش القلوب وتحيى           كل روح ويطــرب السامعينا

    فلهذا صرفت قصدي إليه            وجعلـت الفؤاد مـني رهــــيـنا

 

ثم يقول عبد الصمد فى ختام كتابه [108]:

    لقد جاء تأليفاً وجيزا مباركاً          بنسبته للقطب ذى الجود أحمدا

    يرغب فى حب الملثم دائما          ويوجـــــــــــب فيه الاعتقاد المـؤيدا

 

والحب بين البشر ليس فيه هذا التوسل وتلك العبادة . فذلك الحب هو ما عنته الآية الشريفة (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ..(165)البقرة.

 

 

 



[1]
أرمان.ديانة مصر القديمة 70 .ط البابى الحلبي.

[2]الجواهر السنية :3، 4

[3] نفس المرجع : 128

[4]احياء علوم اين : 4~

[5]الطبقات الكبرى 1q                                             

[6]) الجواهر السنية 35

[7]لطائف المتن 465: 466 .ط عالم الفكر                          

[8]كتاب البدوى لعبد الحليم محمود المقدمة

[9]) كتاب البدوى لاحمد حجاب 79، 80 وعنوان الكتاب

 ( أراء حياة السيد البدوى البرزخية ) أى حياته فى القبر

[10]عبد الصمد 74: 75                           

[11]نفس المرجع 30 ،32

 [12]نفس المرجع 30 ،32

[13]نفس المرجع 30 ، 32

[14]نفس المرجع 28 ، 32

 [15]   نفس المرجع 28 ، 32

[16]نفس المرجع 55                                                      

[17]نفس المرجع 30                                                    

[18]نفس المرجع 30 ، 31

[19]الجواهر 29 ، 32                                            

[20]  الجواهر 29 ، 32                                            

[21]الجواهر 32

[22]الجواهر ، 28 ، 31

 

[23]   الجواهر ، 28 ، 31

[24]الجواهر 33.

[25]الطبقات الكبرى 1 9

[26]الجواهر 52 ، 60

[27] الجواهر 52 ، 60

[28]الجواهر 65

[29]الجواهر 39

[30]لجواهر 27                                            

[31]الجواهر 61، 62

[32]الجواهر 28

[33]الجواهر56 ، 57

[34]نفس المرجع 46

[35]نفس المرجع 93

[36]نفس المرجع 51

[37]الجواهر 55

[38]الجواهر 88

[39]الجواهر 76

[40]نفس المرجع 32                                                       

[41]الجواهر 83

[42]نفس المرجع 74

[43]نفس المرجع 75

[44]النصيحة العلوية مخطوط بمكتبة الأزهر 34 ، 35

[45]الجواهر :34 ، 39

 

[51]الجواهر السنية : 29 ، 30 ، 32 ، 33

[52]الجواهر السنية : 29 ، 30 ، 32 ، 33

[53]الجواهر السنية : 29 ، 30 ، 32 ، 33

 

 

[54]) الطبقات الكبرى 1r

[55]الطبقات الكبرى 1r

[56]السلوك 2 8

[57]تاريخ ابن كثير14/177

[58]فتوح النصر لابن بهادر مخطوط 2/171 وشذرات الذهب 6/164 وطبقات الشافعية للسبكى9/94

[59]عبدالصمد: الجواهر 80:77

[60]الطبقات الكبرى1/162

[61]الطبقات الكبرى ، 1r.

[62]النصيحة العلوية 27 المكتبة الأزهرية :مخطوط                           

[63] الجواهر 31 ، 34 ، 29 ، 30 ، 34 .

[64]الجواهر 31 ، 34 ، 29 ، 30 ، 34 .

[65]الجواهر 31 ، 34 ، 29 ، 30 ، 34 .

[66]الجواهر 31 ، 34 ، 29 ، 30 ، 34 .

 

[67]نفس المرجع  76 ، 83 ، 85 ، 89

[68]الجواهر 70 : 71

[69]عبد الصمد ، الجواهر 83.

[70]نفس المرجع : 114 ، 118 ، 139 ،

[71]نفس المرجع  94 ، 101 ، 102

[72]نفس المرجع 122 ، 128.

[73]النصيحة العلوية ، مخطوط مكتبة الأزهر ورقة 37 ب

[74]الجواهر 47 .

[75]نفس المرجع 74 ، الطبقات الكبرى للشعرانى 1r

[76](أنيق ) جمع ناقة . أى تجهز له الرحال من كل فج عميق.

[77]الجواهر 120

[78]الجواهر 123

[79]نفس المرجع 136.

[80]نفس المرجع ، 109

[81]نفس المرجع 110.

 

[82]الجواهر 38 ، 39 ، 41

[83]الجواهر 38 ، 39 ، 41

[84]الجواهر 44 ،45                                 

[85]نفس المرجع 28                   

[86]نفس المرجع 31

 

[87]نفس المرجع 28

[88]نفس المرجع 82                        

[89]الجواهر 84

[90]الجواهر 89.

 

<spa">

[97]الجواهر 138.

[98]الجواهر 111 ، 114 .

 

[99]الجواهر 111 ، 114 .

 

[100]  الجواهر 96 ، 105 ، 112 .                         

[101]الجواهر 96 ، 105 ، 112

[102]الجواهر 96 ، 105 ، 112

[103]  الجواهر 113 .

[104]   الجواهر 131 ، 132                        

[105]الجواهر 131 ، 132                         

 [106]الجواهر 110 ، 130، 131  

[107]الجواهر 110 ، 130، 131

[108]الجواهر  142 .

 

 

ف 2 : ثانيا : (ب) عبادة البدوي

 

قد يبدو هذا العنوان غريباً لأننا تعارفنا  لفظا على أن العبادة لا تكون إلا لله ، مع أننا فعلا نمارس العبادة لغير الله باستمرار دون أن ندري .والسبب أننا نشأنا على أن العبادة هى  ما نؤديه لله تعالى من صلاة متعجلة بحركات سريعة وهمهمات يتولى اللسان إخراجها بلا عقل أو فقه ، أو ما نقوم به من امتناع عن طعام وشراب فى رمضان دون امتناع عن زلات اللسان بل على العكس يصبح صيامنا فى رمضان تكأة للانفعال والسباب والشتم ومبرراً لملء البطون فى الليل وللنوم فى النهار. وحين نقوم بالحج فإن غاية المنى هى السياحة والهدايا وزيارة (قبر الحبيب) واكتساب لقب (الحاج) .

لقد فرغنا عناصر العبادة الإسلامية من مضمونها الأساسى وهو التقوى ومراقبة الله وخشيته وأن تكون وسيلة للسلوك الحسن مع النفس والناس ، لا ان تكون مجرد هدف شكلى نخدع به أنفسنا قبل أن نخدع به الغير .

وفى الوقت الذى حولنا فيه العبادة الإسلامية إلى مجرد مظاهر وأشكال خالية من مضمون حقيقى فإننا فعلاً نمارس شعائر التصوف وعباداته بنفس الأشكال الإسلامية تقريبا ولكن بدرجة أعلى من الإخلاص واليقظة والوعى .. ونحن هنا على موعد لإثبات ذلك فى بحثنا عن عبادة البدوي أشهر الأولياء فى مصر (ومحل تقديس أهلها من قرون ) كما تقول دائرة المعارف.

الصلاة للبدوي:

1 ـ الصلاة فى المعنى هى الدعاء والتوسل يقول تعالى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ) التوبة : 103،أى ادع لهم بالرحمة ، فالنبى محمد عليه السلام كان مأمورا بالصلاة علي أصحابه التائبين ،أى يدعو الله جل وعلا ان يقبل توبتهم ، ونحن مأمورون بالصلاة عليه أو بالدعاء له بالرحمة ، كما أن الله تعالى يصلي عليه أي يرحمه والملائكة أيضا أى تدعو له يقول تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الأحزاب : 56، والله تعالى يصلى علينا كما يصلى على رسوله، يقول تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب :43.

والصلاة فى الشكل هى قيام وركوع وسجود فى هيئة خاشعة ، والقرآن الكريم عبر عن الصلاة بالركوع والسجود فقال عن الصحابة (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) الفتح : 29 ، وقال لنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الحج : 77 ، والذين آمنوا إذا أفلحوا كانوا خاشعين فى هذه الصلاة محافظين عليها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)....( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) ) المؤمنون.

فالله سبحانه وتعالى شرع لنا الكيفية التى تؤدى بها الصلاة له بنفس الشكل الذى نؤديها به من ركوع وسجود وقيام فى هيئة خاشعة ، وفى أثناء ذلك ندعوه ونتوسل به بالفاتحة فى صدر كل ركعة . والفاتحة هى ثناء على الله ودعاء وتوسل به وبالتسبيح والتضرع فى كل ركوع وسجود وتشهد .هذه هى الصلاة الإسلامية فى حقيقتها  دعاء وتوسل من حيث المضمون وركوع وسجود وقيام فى خشوع من حيث الشكل .

2 ـ ولا تفترق الصلاة التى توجه بها الصوفية للبدوي عن الصلاة الإسلامية ففيها دعاء وتوسل ولا تخلو من قيام وركوع وسجود . وإن كان ثمة اختلاف ففى أن الصلاة للبدوي تؤدى بلا سهو أو انشغال أو سرحان وإنما بحضور وخشوع ووعى ، ثم أنه لا يطلق عليها صلاة. لذا إعتقدنا أن الصلاة ليست إلا ما نقوم به من حركات فى المواقيت الخمسة ونحن مشغولون بكل شىء سوى الصلاة .

الصلاة للبدوي كدعاء وتوسل :

1 ـ وكما أنه فى الصلاة الإسلامية دعاء وتوسل بالله فان فى الصلاة (البدوية) توسل بالبدوي ودعاء موجه إليه لدفع ضرر أو جلب نفع ، خاصة وهو ( ندهة المنضام) .. والتوسل بالبدوي عبادة كاملة يمارسها الصوفى فى كل وقت إذا حاقت به مصيبة .

يقول أحدهم [1]:

   إذا ما أحاطت بي صنوف المتاعب      وخفت من الخطب الكريه المتاعب

   أتيت إلى كهف منيـــع وســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيـد      قضـــــــــــــيت به فـى كل أمـر مطالبي

ويقول آخر [2]:

 إذا الـدهر قد آسـاك يومـا بريـــــــــــــــــــــــــــــــــــبة          وأصبحت منها فى عناء وشدة

وصارت صروف الدهر تبدي عواصفاً           بإعصار نار فيه أحلاك وظلمة

وقد ضاق منك الزرع وانقــــــــــــــطع الرجـا           وآيست من اجلاء تلك الغيــــومة

 فبادر واســـــــــــــــــــــــــــــــــع إلـى نـــــحو طــندتا           بصدق وإخلاص وإصراف همة..

 

فالصوفي إذا ألمت به مصيبة نسى الله وسافر سعياً للبدوى ( بصدق وإخلاص واصراف وهمة).. وإذا تباعدت المسافة بين الصوفى وطنطا فيمكن له الاكتفاء بالنداء فالبدوي قريب من أتباعه .. يقول أحدهم [3]:

    يا من رماه الدهر بالإزعــاج        ناد بـعزم يــا أبا فـــــــراج

   فهو الأمان من الحوادث إن أتت        وهو الملاذ  لنا  وعون الراجي

   وهو المراد إذا الخطوب تراكمـــت       وهو المجـــــــــــيـب لـدعوة المحتاج

2 ـ وتكفلت الأساطير الصوفية بإعلان أن البدوى يسارع بإجابة المضطر إذا دعاه قياسا على رب العزة جل فى علاه . فأولاد المعلوف تمتعوا بحماية البدوي وإذا تعرض حاكم لأحدهم يقول :  " يا سيدي أحمد فيجيبه فى الحال " [4]وفى أسطورة أخرى إن البدوي قال لإبن أخيه " إذا اشتقت إلى فاطلع على جبل أبى قبيس وناد بأعلى صوتك فأنى أجيبك ولو كنت خلف جبل ق [5]"  والدسوقي رفيق البدوي فى الدعوة يخاطب مريده بمثل ذلك يقول " يا ولدي إن صح عهدك معى فأنا منك قريب غير بعيد وأنا فى ذهنك وأنا فى سمعك وأنا فى طرفك وأنا فى جميع حواسك الظاهرة والباطنة ) [6]وقد جعل الأحمدية عامة الأولياء ومنهم ذلك الدسوقي يتوسلون بالبدوي قطب الأقطاب ، يقول أحدهم [7]:

وقد سعت أولياء الله فى ملأ من        الرجال ذوى الأنفاس والهمم

بالشرق والغرب جاءوا طالبين قرى من صاحب الوقت والإمداد بالنعم

 وكم ولي وكم قطب أتاه وكم من عارف جاءه يسعى على قدم

كيفما يفوز بأقدام يسر به من فيض أفضاله المنجي من النقم

وعلى ذلك فالبدوي أسرع فى الإجابة من الدسوقي الذى هو قريب من مريده وهو الذى يحل فى جميع حواس المريد إذا دعاه ، وأقرب إليه من حبل الوريد حسبما يزعمون .

3 ـ وكما يترنم المسلم فى صلاته لله باسماء الله الحسنى تزلفا إليه وطلبا لمرضاته وأملاً فى نواله فإن الصوفي يتغنى أيضا بصفات للبدوي نحتها من الاعتقاد فى تصريفه وغياثه للخلق المتوسلين به .

يقول أحدهم [8]للبدوي فى توسله :

    يا ملاذ الورى وكنز غـناهم        يا شريفاً تسمو به الشرفاء

   يا محط الرجال يا قطب غوث      يا جواداً فى حبه الاعطاء

   يا مرد الرجال فى كل كـرب      يا حليماً من شأنه الاغضاء

ويقول آخر عنه [9]:

    يا من رماه الدهر بالازعــاج                        ناد بـعزم يـا أبـا فـراج  

   فهو الأمان من الحوادث إن أتت           وهو الملاذ لنا وعون الراجــــــــــى

   وهو المراد إذا الخــــطوب تراكمت           وهو المجيب لدعوة المحـتــــــــــــاج

   وهو الطبيــــــــــــــــــــب لنا ومرهـم طـبه          يبرى ضعيف الحال دون علاج

   ولقد دخلت إلى حـماه بـعلتـــــــــــــــــــي          وقد استعــــــــــــــــذت بـه من الاحـراج

وآخر يقول  [10]:

    إن الملثم أحــــــــــــــــمد يتـــــــــــــــــــعــرف             لمؤمـل مـن طيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبه يتعرف

   وهو المجيب لسائل يــتوســــــــــــــــــــل             إذا باســــــــــــمه عند المخاوف يهتف

  وهو الملاذ إذا الخطوب تراكمت            وهو المـــــــــــــــــــــــعاذ فى الشدائد يعـرف

  وهو الذى فى الكرب يكشف غمه           وهو الذى للســـــــــــــــــــــــوء عنا يصـرف

  وهو الذى تلقــــــــــــــــــــى السـعادة عـنده            وهو الذى يحنو عليـك ويعـــــــــــــــــطف

  وهو الذى عمـــــــــــــــــــن أتـى أعتابه             كل المخاوف والمتاعب يكشف .إلخ

4 ـ وأسلوب التوسل كان يكشف عن أقصى قدر من الخشوع والابتهال  للبدوي كقول أحدهم وهو الشهاب العلقمى [11].

      قد آتيـناك يا مـلثم نــــــــــــرجو        مـدداً تنتفــــــــــى به الضــــــــــــــــــراء

     ونزلنا نـــــــــرجو قراك ضــــــــيوفاً       أتت تدرى ما تبتغى ونشـــاء

     وعبدك العلقمى أحمد يرجو        ما به قد وعدت ومنك الوفاء

ويقول آخر [12]:

    أتيت حماك الرحب استمطر الندى               وبذل أياد ما لهن مضـــــــــــارع

    وحاشا وكـلا أن أخيــــــــــــــب وأن لي               فؤاداً بقصد الغير ما هو قانع

    نحوتك أرجـو منك ســـــــــالف عادتي              فجد لي واسعفني بما أنا طامع

    أغيرك ينحوه المؤمــــــــــــــــــل أو سـوى              رحابك أهل تثنى إليه المطالع  

 ونسى صاحبنا تماما أن الله أعز وأكرم وأرجى .  يقول آخر مطالبا بنجدة[13]سريعة :

    بدوي النـــــــــــــجاد أدرك ودارك            قد آتينا إلى حمـــــــاك ودارك

    أنت ذخري  دعوتي ومــلاذي           وأنا الآن داخل فى حــــــــلالك

    انجد انجد هيا وهيا ســـــــــــريعا            ذمة العــــــــــرب لا تضيع بذلك

ونحوه آخر يقول [14]:

    ياأيها البدوي إنى صرت جارك          ولى البشارة حيثما يمـمـــــــــــت دارك

    ولقد آتيـتك سائـلاً متوســــــــــــــــــــــلاً           وبالانكسار نزلت منزلك المبـــــــــــــــارك

    يا أيها البـطل الـعزيز بطـــــــــنتدا            قد مسنى الضر والتمس اقتــــــــــدارك

    وبباب عزتك احتميت من العدا            فتول نصرى أننى أرجو انتصـارك

    لا تتركني للأراذل خـاضـعاً              وأجر مضاماً فى حماك قد استجارك

   وأقام فى أبواب عـزك داعـياً              وعلى الأحبة أجمعين قد استجـــــــــــارك

   وانصره ياغوث الورى وأدم له             فتحاً على طول المدى وله تـــــــــــدارك

    فالنصر والفتح المبـين محقق             لمن احتمى بك وارتجاك وحل دارك

5 ـ والواقع أنهم خاطبوا البدوى كما لو كانوا يخاطبون الله جل وعلا ، وبنفس الخشوع فى التوسل والدعاء .

يقول أحدهم كأنه يخاطب الله تماما [15]:

   إنى آتيتك يا ذا المشرع العالـي         فانظر بلحظك فى شأني وفى حالي

  ولا تكلني إلى من ليس ينصرني         ولا إلى ذي جفا للـعهد لـي قـــــــــــــــــــالي

   ففاقتي لك يا ذا الطول قد علمت         من كسر قلبي ومن حالي ومن قالي

  وقد تحاميت فى الجاه المـديد فلا         تردني خائباً من فيض أفضــــــــــــــــــــــــالي

   ومن أولى بغوث منك يا أمـــــــــــــــــــلي       ومنتهى رحلتي ومــــــــــــنائي بل وآمالـي

  وصن بعزك ياذا الطول وجــــــــــــــــــهـي        عن سؤال غيــــــــــــــرك ممن حالـه بـالي

  وقـد نزلـت ببـاب فاز قاصــــــــــــــــــــــــــــده         بكــل قـصد وتعـظيـــــــــــــــــــــــــــــــــم وإجـلال

والفاتحة أشهر نصوص التوسل فى الصلاة ولا تحتوى مبالغة فى الخضوع كما يظهر فى الأبيات السابقة .

الصلاة للبدوي من حيث الشكل :

والدعاء أو التوسل كان يقال للبدوى فى حالة قيام خاشع أو ركوع متبتل أو سجود خانع .

1 ـ يقول أحدهم يشرع كيفية التوسل للبدوي [16]:

    فيأيها الملهوف لازم جنـابـه              ولذ بالحمى وألبس ثياب المذلة

   وقبل ثرى الأعتاب وابدأ تحيـة            بتحسين ألفاظ واتــــــــــــــــــقان فطـنة

   وكن خاشعاً قلباً وكن فى رحابه           أدوباً خضوعاً ذا حيـاء وخشية

  وذرها ملأى بالدمع تبدو سواحماً          على صفحة الخدين تجرى بعبرة

 وقل يا عظيم الجاه يا عمدة الرجى         أيا شيخ كل العرب وابـن النبوة

  آتيـتك ملـهوفاً وقلـبى مـوله                  أجرنى أبا العباس من نار لهفتي

  أغثني وأدركني .....إلخ

فصاحبنا يأمر المتوسل بتقبيل تراب القبر ويبدأ بالتحية بأحسن الألفاظ وبعقل واع مع خشوع القلب مع الأدب والخضوع والحياء والخشية ثم تنهل العين بالدموع السواحم وبعدها يقول يا عظيم الجاه يا عمدة الرجى ...إلخ .

2 ـ وتقبيل التراب معناه السجود .. فصاحبنا لا يستطيع أن يلمس بشفتيه التراب إلا إذا سجد وتقوس ظهره ..

ونحوه ما يقول البكري [17]:  

 فمرّغ الخد فى أعتاب حضرته          لعله بالرضـــــــــــــــــــا والبشـر يـلقاكا

   ونـاد يا سيدى بالـباب منـــــــــــــكر         عسى يجيب بمآثر جوده دعواكا

وتمريغ الخد فى الأعتاب نوع آخر من السجود يشارك فيه الخد والوجنتان الشفتين فى تقبيل التراب .

3 ـ والوقوف أمام ضريح البدوي ليس وقوفا عاديا بل هو خضوع كامل وتوجه تام للرفات الميت لعله يسمع ويجيب وإن كانوا يعتقدون حياته الأزلية وتصريفه الكامل....

يقول الملاح [18]:

   قم بانكار هل يحــــــــصل جـيره         مرغ خدودك فى ثرى عتابه

  واقرأ السلام وقف بجاه ضريحه       بتأدب واستـجل من نفحــــــــــــاته

  وانظر إلى الأنوار منه تصاعدت       واشهد شهود الحق من مرآته

فهنا أمر بالقيام بانكسار وذلة مع تمريغ الخدود فى التراب كالعادة ثم يقرأ السلام بتأدب ويحاول أن يرى الأنوار المتصاعدة من الضريح وبالطبع فلن يرى شيئا إلا ما يزينه له شيطانه ، ثم تتم الفاجعة بقوله : " واشهد شهود الحق من مرآته " أى أشهد وجود الله فى ذلك الوثن .!!

ويصف البكري وقوفه أمام البدوي [19]فيقول :

     وقفنا بخضوع نــــــــــــــــــــــــرتجي            فيض أفضال لهم تأتي لنا

     وبسطنا أيدي الفقر نبتغي             سـاد من جاءهم نال الهنا

4 ـ وفى الأقاصيص والأساطير الصوفية كان البعض يكب على يدي البدوي وقدميه يقبلهما ، وتقبيل اليدين مع الخشوع هو الركوع بعينه كما أن تقبيل الرجلين بنفس الخضوع هو السجود تماما. وفى قصة دخول البدوي لبيت ركين الدين قالوا أن صاحب البيت حين عرف البدوي ( قبل يديه ورجليه وتبرك به وجثا على ركبتيه وجلس متأدباً بين يديه [20]) وهذا النص لم يترك من أشكال الصلاة شيئاً ، فتقبيل اليدين ركوع وتقبيل الرجلين سجود والجثو على الركبة ركوع آخر والجلوس متأدباً كالجلوس للتشهد ، ثم التبرك به هو الدعاء والتوسل أو مضمون الحركات فى الصلاة .

وفى قصة اعتراض ابن دقيق العيد على البدوي وتركه للصلاة حكوا أسطورة تقول أن ابن دقيق رأى نفسه فى جزيرة واسعة ولم يعرف الطريق للعودة وقابله الخضر فيها ونصحه بأن يعتذر للبدوي حين يأتى للصلاة فى تلك الجزيرة المجهولة وحين أتى البدوي (تعلق الشيخ ابن دقيق العيد بأذياله وكشف رأسه وجعل يقبل يديه ورجليه ويبكي ويستغفر ويعتذر وأنصف من نفسه ) [21]  أى أن ابن دقيق العيد فى تلك الأسطورة انتهى إلى أن يصلى للبدوي بعد أن كان يعترض على ترك البدوي للصلاة .

وكأنما أصبح تقبيل اليدين والرجلين عادة سيئة عند كتاب الأساطير الأحمدية يعاقبون من خلالها من يشاءون من الحكام فقد قالوا أن الظاهر بيبرس جاء إلى مكة متنكراً فتعرف عليه الحسن أخو البدوي وحين أدرك الظاهر بيبرس أن تنكره لم يعد مجدياً اكب يقبل  أقدام الحسن [22]، وقالوا أن ابن اللبان حين اعترض على البدوي فسلبه العلم والدين استجار بياقوت العرشى فتوسط له عند البدوي فعفا عنه ثم علم السلطان حسن بهذه الواقعة وأكبر أن يكون لياقوت العرشي وهو عبد حبشي هذه المكانة فعرف ياقوت ما دار بخلد السلطان ، وأدرك السلطان مغبة هذا الخاطر فأقبل على ياقوت ( وجثا على ركبتيه وقبل يد الشيخ ورجله .. واستعطف السلطان خاطره [23]) .

والمهم أن الصوفية مارسوا شعائر الصلاة شكلاً بالوقوف والركوع والسجود مع الخشية والخشوع كما مارسوها قولاً بالدعاء والتسبيح بأسماء البدوي وصفاته والتوسل به بمنتهى الخضوع والخنوع . فهل بقى من الصلاة شىء تناساه الصوفية أمام البدوي ؟؟ . طبعا تناسوا ما درج عليه الناس من غفلة فى الصلاة وإتيان بحركاتها دون إدراك لما يقولون . هذا إذا صلى ، والأغلب أن من يصلى هذه الصلاة يحسب نفسه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .. ذلك أننا نعيش عصراً أصبح فيه الإسلام غريباً بحيث أننا نمدح الشخص بأنه (مصلى ) كأنما أصبحت الصلاة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط التكليف عن الآخرين ..

البدوي فى الآذان :

1 ـ ونعود للصوفية الأحمدية وقد عز عليهم أن يخلو الأذان الإسلامى ( الله أكبر) من ذكر البدوى فتحايلوا لإدخال البدوي عنصراً من عناصر الآذان ليسبحوا بحمده من فوق كل مئذنة .

يقول عبد الصمد أن ابن اللبان كان يتمشي مع قاضى القضاة فى عصر السلطان الناصر حسن ( وإذا هما برجل من جماعة سيدي أحمد البدوي من السادة السطوحية يذكر الله تعالى ويقول : السلام عليك يا رسول الله والسلام عليك يا أحمد يا بدوي ، ويرفع صوته بلهجة السطوحية فقال الشيخ شمس الدين ابن اللبان لقاضى الإسلام : من هذا الذى جمع فى السلام بين سيد المرسلين وبين أحمد البدوي وأشرك البدوى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السلام ، والله أن هذا الرجل يستحق التعزير البليغ كيف يقول السلام عليك يا رسول الله والسلام عليك يا بدوي ، فقال القاضى : لعل حب شيخه قد غلب عليه لاعتقاده فى شيخه ، وما زال يقول له لا بل يستحق التعزيز ، وصار يستعطف بخاطر الشيخ شمس الدين بن اللبان فقال : لابد من تعزيزه ، فلما نام الشيخ شمس الدين بن اللبان تلك الليلة إذ رأى فى منامه كأن سقف الجامع قد فرج ونزل منه شخصان أحدهما جلس عند رأسه والآخر جلس عند رجليه، فقال الذى عند رأسه للذى عند رجليه :اسلبه الإيمان فقال لا بل نسلبه العلم والقرآن ونبقى عليه الإيمان فأنه وقع فى حق سيدي أحمد البدوي. ثم إن كل واحد منهما مسكه من الناحية التى هو فى جهتها وهزه هزة فطمس الله على قلبه وانتزع العلم والقرآن من صدره ، فانتبه الشيخ فزعاً مرعوباً مسلوب القرآن والعلم لا يحس أن يقرأ آية ولا يعلم مسألة فى دين الله تعالى[24]).أى أن الملكين نزلا من السماء وسلبا المسكين ابن اللبان (رأسماله) من القرآن والعلم لأنه على حد قولهما ( وقع فى حق سيدي أحمد البدوي ) أى أن البدوي سيد الملائكة أيضا .والمهم أن السبب فى المعصية التى حاقت بابن اللبان هو اعتراضه على التسليم على البدوي فى الآذان إلى جانب النبى صلى الله عليه وسلم ، والرواية كما سبق مصنوعة فابن اللبان صوفي ملحد لا يتصور من مثله أن ينكر على البدوي .

2 ـ والواقع التاريخي يؤكد أن العصر المملوكي لم يعرف التسليم على البدوي بعد الآذان كما تدعى تلك الرواية الصوفية الموضوعة ؛ فالعصر المملوكي لم يشهد إلا التحوير فى الآذان بإضافة التسليم على النبى عليه السلام ، وقد بدأ ذلك فى سنة 765 بأمر من المحتسب صلاح الدين البرلسي الصوفي فقد أمر المؤذنين بإضافة ( السلام عليك يا رسول الله ) بعد أذان العشاء ليالى الجمعة وقبل الفجر ؛ يقول المقريزي ( فاستمر ذلك ولم يكن قبله إلا الآذان فقط ) [25]. وفى عام 782 ( أحدث السلام على النبي عقب آذان العشاء ليلة الاثنين [26]) أى أضيفت ليلة الاثنين إلى ليلة الجمعة .. ثم ادعى صوفي أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام وأنه كلفه برسالة للمحتسب نجم الدين الطبندي يأمره فيها بأن يجعل المؤذنين يصلون عليه عقيب كل آذان ، يقول المؤرخون ( وكان الطبندي فى غاية الجهل  فسرّه قول الرائي فأمر بالصلاة على النبى بعد كل آذان ، واستمر ذلك ) [27].وحدث هذا فى عام 791. وإلى القرن العاشر الهجري حيث سجل الشعراني دقائق الحياة الدينية والصوفية لم أجد ذكراً للتسليم على البدوي بعد الآذان مما يجعلنا نؤكد أن هذه الرواية وضعت خصيصاً بعد عصر الشعراني لتمهد لإضافة التسليم على البدوى بعد الآذان وتهدد مقدماً كل من يعترض على إضافة البدوي للرسول عليه السلام بعد الآذان .. وأى تهديد أخطر مما حدث لابن اللبان فى تلك الأسطورة .

ولا يزال البدوي يتمتع حتى اليوم بالإشادة باسمه من فوق المآذن خاصة فى المساجد الصوفية . مع أن الآذان الإسلامى نص صريح لا يجوز تعديله ولا الزيادة عليه ، ثم إن هذه البدعة تتنافى تماما مع قول المؤذن (الله أكبر) فالله أكبر من كل شىء وأعظم من كل شىء ولا يستحق أن يذكر معه على وجه التعظيم شىء آخر من مخلوقاته ..

الحلف بالبدوي :

ولقد وجد البدوي سبيله لألسنة الناس يحلفون به فى إيمانهم المغلظة ، ومعلوم أن القسم لا يكون إلا بالله تعالى ..

يقول الشعراني أنه اجتمع مرة بأحد الأولياء من الهند وقد أتى لزيارة مولد البدوي ( فقلنا لهم من عرفكم بسيدي أحمد البدوي فى بلاد الهند ؟ فقالوا يالله العجب ، أطفالنا الصغار لا يحلفون إلا ببركة سيدي أحمد وهو من أعظم إيمانهم وهل أحد يجهل سيدي أحمد ، إن أولياء ما وراء البحر المحيط وسائر البلاد والجبال يحضرون مولده ) [28]. فالشعراني يفترى على الهند وصبيانها كذبا حين جعلهم ( لا يحلفون إلا ببركة ) سيده أحمد البدوى .

وأن الحلف بالبدوي من أعظم إيمانهم هناك – والكلام لك يا جارة .! فإذا كان الهنود يحلفون بالبدوي فأنتم يا مصريون أحق وأولى بالحلف به وتقديسه .. وإذا كان سائر الأولياء فيما وراء المحيط والجبال يحضرون مولده فأنتم أيها المصريون أجدر بالحج إلى البدوي فى مولده .. هذا ما يقصده الشعراني ..

ويقول مريد احمدى فى البدوي [29]:

   وكلهم لاعتقاد يحلفون به          وكم بتمداحه مداحهم لفظاً ..

ويقول آخر [30]:

وحقك عندى يا ملثــــــــــــم وهـو لـــــــــــــــي          يمين ثمـين حـقا لن يضــــــــــــــــيعا

وقدرك عند الله والبيت والـــــــــــــــــــــصفا          ومروة مع حـجر وركن ومـــــدعى

وفكك الأسرى وفضلك فى الــــــورى        وفضل مقام صـار للجود موضــــــعا

ونجدك العظمى لمن عندك احتمى        وجعلك دور السوء بالبطش موضعا

لقد فاز من يسعى بأبــــــــواب عزكم         وخاب الذى فى غيره أبوابكم سعــــى

فذلك الصوفي يقسم بحق البدوي عنده وبقدره عند الله والكعبة والركن ويقسم بأمجاد البدوي المفتراه وضريحه وتصريفه .. ويقسم بذلك كله على أن من يسعى فى غير أبوابه خاب ، حتى ولو كان يسعى ويطوف حول الكعبة نفسها .. ألم يقل بعد تلك الإيمان :

لقد فاز من يسعى بأبواب عزكم وخاب الذى فى غير أبوابكم سعى

أليست الكعبة بيت الله ينطبق عليها قوله (غير أبوابكم ) ، ولا نستكثر ذلك على الصوفية فقد جعلوا من( ضريح ) البدوي (كعبتهم ) المقدسة ، وجعلوا من قدومهم إليه (حجاً) و( سعياً) وجعلوا من (مولده) الأشهر الحرم ..

الحج للبدوي :

الحج فى الأصل هو القدوم والقصد تقول حججت إلى فلان أى قدمت إليه وقصدته ، والحج لبيت الله هو القدوم للكعبة حرم الله فى مدة معلومة خلال الأشهر الحرم لإقامة شعائر الله من طواف بالبيت ووقوف بعرفة إلى آخر شعائر الحج المعروفة .

الحج بين الإسلام والجاهلية :

ولا حج فى الإسلام إلا لبيت الله الحرام ( الكعبة) التى يتوجه إليها المسلم بوجهه خمس مرات فى كل صلاة يوميا ، أما الصوفية فلهم ( كعباتهم) التى إليها يحجون فى (أيام حرم) هى الموالد .. ولا شك أن أشهر ( الكعبات ) التى يقصدونها هى طنطا وقبر البدوي فى مناسبة (المولد) .

وشعائر الحج الصوفي لضريح البدوي تتماثل مع الحج الإسلامي للكعبة بيت الله الحرام .. ففيه قدوم وسعي وطواف ، وضريح البدوي يعامل فى كتاباتهم كأنه الكعبة حتى لقد وضعوا فيه الحجر الأسود ، وزوار الضريح يطلق عليهم حجاج ، وللحج الصوفي أيام معلومة هى مناسبة المولد ، وفى النهاية فالزوار يقدمون النذر لصاحب الضريح كما يفعل الحجاج فى مكة حين يقدمون الهدي والكفارات .

وقد كان العرب الجاهليون مع تعظيمهم للكعبة وحجهم إليها – يحجون إلى أصنام أخرى فى أوقات أخرى  جعلوا  لها حرماً أو مكاناً محميا لها ينطبق عليه نفس التقديس الذى لتلك الأصنام والأنصاب ، تماما كما يعاملون الكعبة والحرم فى مكة .. ومن أشهر تلك الكعبات الجاهلية كعبة ذى الشرى فى بطرا حيث يقوم صنم ذى الشرى على قاعدة مكسوة بالذهب يحج إليه الناس على أنه رب البيت .. وإلى جانب كعبة ذى الشرى كانت للجاهليين جملة بيوت أخرى معظمة عرفت بالكعبات أى المكان المرتفع .. ومنها ( سندان) ، ثم كان لنجران بيت عبادة عرف ( بكعبة نجران ) .. وللأصنام المشهورة  كاللات والعزى بيوت أقيمت عليها وسدنة .. ( فبيت اللات) بالطائف و(بيت العزى ) بوادى حراض وتحج إليه قريش وغيرها فى مواسم معينة ، إذا كان لكل من هذه الأنصاب مواسم ( أو موالد ) يحج إليها الناس فيها ، ومن ذلك أنهم يقصدون كعبة ذى الشرى فى اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول كل عام .

وإذا غيرنا بعض الأسماء والألقاب فلن نجد فارقاً بين ما يحدث من الصوفية الآن وما كان يفعله العرب الجاهليون ، فقبور الأولياء هى نفسها الأنصاب والأصنام المقصودة فى الجاهلية بالتقديس والحج .. وعلى سبيل المثال ضع على ضريح الدسوقي ( كعبة سندان) وعلى ضريح أبى العباس المرسي لقب ( كعبة نجران ) أما البدوي .. أشهرهم وأكبرهم فلا يناسبه إلا بيت اللات أو بيت العزى أو على الأقل كعبة ذى الشرى .

ثم تبقى الكعبة بيت الله الحرام مقدسة ومقصودة بالحج أيضا فى العصرين الجاهلى والصوفى .

بين ضريح البدوي والكعبة :

1ـ لقد أضفى الصوفية على ضريح البدوي صفات الكعبة كما وصفوا زواره  بالحجاج .. فبعد موت البدوي وقيام عبد العال مكانة قيل فيه ( لما مات سيدي أحمد البدوي تخلف بعده سيدي عبد المتعال فشيد أركان البيت ورتب الأشاير وقصده الناس للزيارة من سائر الأقطار ) [31]أى أن عبد العال أقام ضريحاً للبدوي ولكن هذا العمل يوصف بأنه ( شيد أركان البيت ) تماما كما قال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة : 127 فالله تعالى عبّر عن الكعبة بالبيت ، على أنها البيت الحرام المعهود والمعروف ، ولكن عبد الصمد حين قال عن عبد العال ( فشيد أركان البيت ) لم يكن فى ذهنه إلا بيت البدوي الذى امتلك عليه أقطار عقله وقلبه ونسى أن لله بيتاً هو الأحق بأن يكون فى بؤرة الشعور.

وإذ (شيد) عبد العال ( أركان البيت ) و ( رتب الأشاير ) أى نظم الأتباع ووزع المهام لرعاية الحجاج ( قصده الناس للزيارة ) أى حج إليه الناس من سائر الأقطار ، وبعد وفاته سنة 733 ( فتخلف من بعده أخوه شقيقه الصالح زين العابدين عبد الرحمن فعمّر البيت وقصده الناس للزيارة من كل جانب ، وتبركوا به ، وأتوه بالنذور [32]) أى أصبحت مهمة الخليفة  تنحصر فى الأهتمام ( بالبيت ) الذى يحج إليه الناس للتبرك والتقديس وجيوبهم ملأى بالنذور ، وبعبارة أخرى فإن شعائر الحج اكتملت ونضجت على أيدى خلفاء البدوي حتى أصبحت ثابتة مرعية، يقول عبد الصمد عن الخليفة الثالث ( ثم تخلف من بعده الشيخ الصالح نور الدين شقيق عبد المتعال فلم يزل قائماً بشعائر المقام حتى توفى [33]) أى أصبحت ( للبيت ) أو ( المقام ) شعائر ونسك من حج وتزلف وتوسل وقرابين ..

ولم يتخلف الشعر الصوفي عن الركب فوصفوا ضريح البدوي بأنه (الحرام) و(الحمى) و (والكعبة) .. من ذلك ما ينسبونه للبدوي[34]:

        أنا حرمي المحمي ليس لظالم        عليه سبيل بل به للعدا القتل ..

ويقول آخر فيه [35]:

        ومنزله رحب عليه جلالة             وأحواله الحسنى بها الكون ينطق

ويقول زين الدين الصديقي  [36]:

       بدوي النجاد أدرك ودارك               قد أتينا إلى حـــــــــــــــــــــــماك ودارك

ويقول آخر فيه [37].

     هو الجوهر المكنون فى معدن الرضا       بأسراره حلت شموس الحقيقة

     هو الكـعبة الـغراء إذ بإلـتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيـاذه     تحط الخـطايا عن أناس وجنة

فالبدوي فى حد ذاته ( كعبة غراء) من يلوذ بها تحط عنه الخطايا ، وسواء كان إنساً أو جناً فهو يخرج من هذا الحج ( كيوم ولدته أمه ) مهما فعل فى المولد ..

ويقول أحمد الشامى المرحومي [38]فى زوار المولد :

       وحجاج إلى بيت حرام            وآل ثم أصحاب كرام

                     وأتباع لهم أهل اللطائف

ويقول بعض العامة فى البدوي موشحاً [39]يعبر فيه عن مكانة البدوى فى وجدان الرعاع :

        أبو اللثامين شريف ابن الأشراف          مقامه بمكة عند المطاف

        وأمنه فيه الحمـى لـمن يــــــــــــــــــــخاف         بطندتا فى وجهه الغربيـــة

فصاحبنا إما أنه اختلط عليه الأمر أو بالغ فجعل مكة هى طندتا ( وفى وجهة الغربية ) ..

2 ـ وربما كان لصاحبنا بعض العذر، فقد تعاظم التوافد لطنطا منذ القرن الثامن حتى إن السخاوي فى القرن التاسع ذكر قول الغوغاء فى مولد البدوي ( جاء الزوار لسيدي أحمد من الشام وحلب ومكة والحجاز فى المحاير والماورديات أكثر من حجاج الحرمين ) [40]وحتى يجعل الصوفية الأحمدية أولئك الزوار يقتنعون بأن الضريح هو كالكعبة تماما فقد رصعوا مقام البدوي بحجر أسود يتمسح به الزوار .. يقول عبد الصمد ( ومن كراماته – أى البدوي – إن حجراً أسود مثبتاً فى ركن قبته  تجاه وجه الداخل من الجهة اليمنى ، وفيه موضع قدمين شاع بين الناس وذاع واستفاض وملأ البقاع والأسماع أنه أثر قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل من زار الأستاذ يتبرك بمحل القدمين ) [41]، فالصوفية وضعوا ذلك الحجر الأسود فى مواجهة الداخل وأشاعوا عنه أنه أثر لقدمي الرسول عليه السلام وأحاطوه  بالكرامات التى تمنع إخراجه من هذا المكان ، وكل ذلك كى يتبرك به زوار البدوي ويتمسحوا به كما كانت العرب قديما تفعل بالأحجار والأوثان ، وبذلك اكتمل لضريح البدوي كل صفات الكعبة فجعلوه ( البيت الذى يشيد ) و ( يقصد بالزيارة ) و (يعمر) و (تقام فيه الشعائر ) ثم يوصف فى الشعر بأنه ( الحرم المحمي ) و ( الكعبة الغراء ) و (البيت الحرام ) الذى لا يخلو من ( حجر أسود ) ..

مناسك الحج للبدوي :

القدوم : وقد تكفل الشعر أيضا بوصف القدوم والحج للبدوي وضريحه .

يقول الدنوشرى :

      يا سيدى البدوي يا قطب الورى       يا من له سر رفيع قد سرى

      أنت الذى جمع الحقائق والعلا        ولك الكــــــــمال محققاً وموفرا

إلى أن يقول [42]:

     يكفيك تشريفاً مجىء عوالم          من كل أقطار الوجود لهم سرى

ويقول الصديقي[43]يصف حجه للبدوي :

      وقطعنا براً وبحرا ًوجئنا           بجهد العيش فى جميع المسالك

ويقول آخر [44]:

      له انقادت الزوار من كل جهة      ومنه جميع الناس ترجو نوالها

ويقول البكري عن نفسه [45]:

         هاقد أتيت زائراً مستصبحاً معى ذوى

          بكل أبنائى أتيت راشــــــــــــــداً وما غـوى

          مستمسكين كلنا بحبك الأعلى القوي

أما الشهاب العلقمى فيصف الزوار بالحجيج [46]يقول :

       وتداعت إلى زيارتك الناس     كدعوى حجيجهم يوم جاءوا ..

الطواف والسعى :

وأولئك ( الحجاج ) أدوا مناسك (الحج) من طواف وسعى ونسك وتقديم للهدي أو النذر ، وقد لخص الصوفية تلك المناسك فى شعر نسبوه للبدوي يقول فبه [47].

      ألا أيـهــــــــــــــــــــــــــا الزوار حـجوا لبيـتنا          وطوفوا بأستار له تبلغوا المنا

      وعند الصفا فاسعوا وحلوا رحالكم          تحط ذنوب فى موطن أمـــــــــــننا

     وفى يوم عيد الوصل أوفوا نذروكم          كذا تفثاً فاقضوا وطوفوا ببيتنا

     فكل زمان فيه وصـــــــــــــــــــــــــــلي فعــيدكم         وكل مــكان فيه قربي لكم مني

فى الأبيات حج البيت وطواف بأستاره وسعى عند الصفا ووفاء بالنذر يوم العيد ثم طواف الوداع وبعد انتهاء الموسم فكل زمان لمريد البدوي عيد يتمتع فيه بوصل البدوي وإحسانه ، وكل مكان غير طنطا منى فيتمتع المريد بقربى شيخه إذ هو دائما على خاطره وفى كيانه .

وفى أسطورة ابن اللبان المعترض على البدوي والساعي لإرضائه كان التكفير بأن يطوف حول صندوق البدوي ( فسافر الآن من وقتك وساعتك إلى طندتا وطف حول صندوق سيدى أحمد البدوي وأقم عنده ثلاثة أيام[48])

وفى الشعر بعض الإشارات لتلك المناسك فعن السعي يقول أحدهم[49].

    فبادر وأسع إلى نحو طندتا         بصدق واخلاص واصراف همة

ويقول آخر عن المولد كشهر حرام [50].

    لا زال مولدك المشهور يا سندي          فى كل عام أتى بالأشهر الحرم

وفى طبقات الشعرانى قال البدوي للمعترض على ما يحدث فى المولد من إنحراف ( ذلك واقع فى الطواف ولم يمنع أحد منه ) [51].أى فكما يقع اختلاط بين النساء والرجال فى الطواف حول الكعبة فلا بأس بأن يقع أيضا فى الطواف حول البدوي. النذر كأحد المناسك :

1 ـ والنذر هو الهدف الأسمى لسدنة الضريح الأحمدي ، وكما يقدم الحاج لبيت الله الهدى من الأنعام فإن الحاج للبدوى يقدم هو الآخر نذراً من الحيوانات والمال ، وكلنا يعرف (عجل السيد ) الذى كان يجهز ويطاف به فى موكب إلى الضريح ..

ويقول عبد الصمد عن خليفة عبد العال ( فعمر البيت وقصده الناس للزيارة من كل جانب وتبركوا به وأتوه بالنذور ) [52]

2ـ ثم صارت للسطوحية أضرحة وموالد ونذور كشيخهم ، فالشيخ البريدي ( ينذر له الناس النذورات ) [53]، وأولاد المعلوف ( لهم نذورات كل من قطعها خربت دياره فى تلك السنة [54]) والشيخ البرلسي ( نذر له بدوي مرة مهراً  ثم رجع فيه – أى رجع فى نذره – فبينما هو مار على ضريحه وإذا بالمهر قد رمح حتى  دخل قبر الشيخ فلم يعرف أحدا أين ذهب ) [55]أى أن الصوفية استخدموا سلاح التخويف لضمان الانسياب والسيولة فى النذور وحتى لا يرجع أحد فى نذره للشيخ .

3ـ والولى الميت لا يأكل ولا يشرب أما الذى يأكل ويتمتع بالنذور فهم خلفاء الشيخ وسدنة الأضرحة وأولئك لهم نصيب من التقديس الذى يحيط بالولي المقبور .ويقول تعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ  ؟  قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام 14 .أى أنتخذ أولياء غير الله والله هو الولي الذى فطر السماوات والأرض ثم هو الذى يطعم الناس ولا يطعمه الناس .. وهنا تعريض واضح بالأولياء المعبودة التى يتخذها للناس مقصداً للتوسل والتبرك ، فهذه الأولياء لا تخلق شيئاً والله هو الذى فطر السماوات والأرض ، وهذه الأولياء تعيش عالة على من يقدسها ويطعمها ويتبرك بها أما الله تعالى فهو الرزاق ذو القوة المتين .

4 ـ وواقع الأمر أن النذر للآلهة الأولياء سمة من سمات الشرك فى كل عصر وحين وفى ذلك يقول تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) النحل : 56 ، فالمشركون دائما يجعلون لتلك الآلهة والأولياء نصيباً من الرزق الذى تفضل الله تعالى به عليهم ، أى يستخدمون مال الله فى حرب الله ، ومن إعجاز القرآن الكريم فى تلك الآية الكريمة أن وصف الآلهة الأولياء بقوله (لِمَا لا يَعْلَمُونَ ) ، فالحقيقة أن المشركين دائما يجهلون حقيقة ما يعبدون ، فهم لا يعبدون فى الواقع إلا الأساطير التى نسجوها والأكاذيب التى انتحلوها وصدقوها وقدسوها ، ومن يعرف حقيقة البدوي مثلاً يجدها محتلفة تماماً عن نظرة الناس إليه واعتقادهم فيه ، ومع ذلك فهم على عقيدتهم مصرون متمسكون دون أى دليل من عقل أو نقل ، ثم هم يقدمون لضريحه النذور طواعية وتقربا وزلفى رغبة ورهبة ، أملاً وخوفاً كما كان يفعل العرب قبل الإسلام .

5 ـ فالجاهليون كانوا يقدمون لله نذوراً وللآلهة التى يشركون بها نذورا ، وإذا قدموا نذوراً لله لم يجدوا إلا تلك الآلهة ليقدموها إليها باعتبارها أنها تقربهم لله زلفى .. أى قدموا كل النذور لآلهتهم إما بالأصالة أو بالنيابة عن الله تعالى .

وفى ذلك يقول تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الأنعام 136 ،  ويؤخذ من قوله تعالى (مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ ) أن الماشية والحبوب كانت أهم النذور المقدمة للآلهة الأولياء فى العصر الجاهلي . وقد كانوا يطلقون عليها أسماء شتى اخترعوها كالسائبة والوصيلة والبحيرة والحام (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) المائدة 103.

وقد أشرنا إلى (عجل السيد ) الذى يطاف به بين تهليل وتكبير حين يقدم نذرا للبدوي وذلك نفس ما كان يفعله الجاهليون حين يذبحون الأنعام المقدمة للأنصاب ، وقد حرم الله سبحانه وتعالى الأكل مما يقدم على هذه الصفة وقرنه بلحم الميتة والخنزير يقول تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أى ما قدم نذراً لإله أو ولي غير الله ، وأكد ذلك فى نفس الآية فقال (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) المائدة :3 ، أى ما ذبح على ضريح الإله أو هيكله ، فالنصب هو المكان المرتفع الدال على الوثن المعبود ، ( ومنه النصب التذكارى للجندي المجهول) وقد كان الجاهليون يذبحون الحيوان المنذور للإله بين يدى النصب وهم يهللون باسمه وصفاته وكراماته وفى مصر القديمة كان (الثور) أهم القرابين التى تقدم للآلهة ويصاحبها الغناء والرقص لتمجيد ذلك الإله وكان ( الكهنة ) أهم المنتفعين بتلك النذور [56].

6 ـ والصوفية الأحمدية كما أباحوا لأنفسهم النذور تطرفوا فأباحوا لأنفسهم أكل أموال الناس بالباطل فنهبوا أموال التجارة فى المولد واغتصبوا ما فى يد الزوار إلى أن أبطل الشناوي هذه العادة فى القرن العاشر، يقول الشعراني فى ترجمته( وهو الذى أبطل البدع التى كانت الناس تطلع بها فى مولد سيدي أحمد البدوي من نهب أمتعة الناس وأكل أموالهم بغير طيبة نفس وتعلموا أنه حرام ، وكانوا قبله يرون أن جميع ما يأخذونه من بلاد الغربية حلال ويقولون : هذه بلاد سيدي أحمد ونحن من فقرائه[57]" ) أى أن الفقراء الأحمدية اعتبروا السلب والنهب فى الموالد حلالاً باعتبار إن إلههم البدوى هو صاحب الأمر والنهى والرزق وأنهم كهنته والمال ماله حتى جاء الشناوي ( فتعلموا أنه حرام وكانوا قبله يرون أن جميع ما يأخذونه من بلاد الغربية حلال) أليس ذلك ديناً جديداً يحرمون به ما شاءوا ويحلون ما أرادوا ؟؟ والشناوى لم يفعل ذلك إلا حرصاً منه على المولد وصاحب المولد فهو الداعية الأكبر لهما وهو المصدر الذى استقى منه الشعراني حكايات الكرامات والأساطير التى تدعوا للمولد والتى تهدد المنكرين عليه .. فهو (مصلح صوفي ) إذا صح وجود هذا الصنف بين البشر .

المولد الأحمدي :

1ـ واختار الأحمدية موسما سنويا للحج للبدوي سموه (المولد ) راعوا فيه أن يكون فى وقت فراغ سنوى للفلاحين ليمكنهم المجىء للترفيه والتبرك؛ فالمولد الكبير فى نهاية شهر أبيب وأول شهر مسرى . ولم تكن الحياة الزراعية فى مصر فى العصور الوسطى قد تعقدت ظروفها كما هو حالها اليوم ، فالفلاح المصري يومئذ كان أكثر ميلاً للحبور والسرور فى تلك المناسبات ، وقد أحسن الصوفية استغلال هذه الظروف فأشاعوا عن كرامات البدوي وعفوه وشفاعاته ما يهون الأمر على طالبي المتعة واللهو بنوعية البرىء وغير البرىء .

2ـ ويقول تعالى عن الحج لبيته العتيق( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) الحج 28 ، فالإسلام لا يمانع من تبادل المنافع الحلال خلال تأدية الحج ، ولم يغفل الصوفية عن استغلال هذه النقطة فأصبحت طنطا ومولدها مناسبة تجارية تنفق فيها السلع الراكدة على حد قول الخفاجي[58]، واشتهرت فيها تجارة الحمص ، وراج فى مولد الأنبابي بيع الترمس فجاء فى المثل الشعبي ( ترمس إمبابة أحلى من اللوز قال دا جبر خاطر الفقراء ) [59]، و (الفقراء ) مصطلح شاع عن الصوفية فى العصرين المملوكى و العثمانى . والانبابى من أتباع البدوي ومثله المليجي ومولد المليجي كان ( يحصل فيه جمعه- أى اجتماع – كبيرة وتنفيق سلع للناس ) [60].

 ثم يقول عبد الصمد عن بعض كرامات البدوي الواقعة فى مولده ( اجتماع التجار إليه من سائر الأقطار لما تقرر عندهم وتكرر لهم واستفاض لديهم وجربوه فى جميع الأعوام والسنين وشاع بين الناس الصادرين والواردين عند المزار أن كل من حضر المولد الشريف للزيارة بتجارته نفقت فى ذلك المولد بعد كسادها فى محل وطنهم وربحهم وأن فضل منها شىء ولم ينفق فى المولد فلابد أن ينفق ويربح فى سنته )[61]ولعل ذلك الاعتقاد سوغ للأحمدية نهب التجار فى الموالد إذ اعتبروا أنفسهم شركاء للتجار فى الربح الذى يجنونه فى مولدهم .

3 ـ وقد شرع الله الحج لبيته الحرام فى أشهر معلومات ثم سن العمرة لمن يشاء فى أى وقت فى العام ، وهذا ما فعله الصوفية فى مولد البدوي ؛ فإلى جانب المولد الكبير كان هناك المولد الصغير والمولد الرجبي – وواضح أن العمرة لبيت الله الحرام تكون فى الغالب فى رجب – أى أن الصوفية نافسوا بمولد البدوى وضريحه الحج لبيت الله الحرام فى الشعائر والمواقيت ، إلى حد أن على مبارك يقول ( وهكذا صار للبدوي ثلاثة موالد لا تفوقها فى الشهرة إلا موسم الحج ).[62]

4 ـ ويقول تعالى (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) المعارج 42 ، فالقرآن الكريم يشبه البعث والحشر بصورة حسية تعودها المشركون العرب حين كانوا يخرجون من كل حدب وصوب مسرعين إلى أعيادهم عند الأنصاب المقدسة .. فالجاهليون عرفوا هذه الموالد حين كانوا يتجهون فى مواسم معينة إلى الكعبات المقامة حول الآلهة متوسلين متبركين..

5 ـ وتبدو الصورة القرآنية أوضح لدى المصريين القدامى حيث استقرت أمورهم على ضفاف النيل منذ آلاف السنين ومن الصعب أن يغيرها وافد جديد كالإسلام ، والأقرب أن تقوم مصر بحضارتها التليدة بتمصير هذا الوافد الجديد ، وهذا ما حدث إذ سرعان ما حل (البدوي ) محل (آمون) أو ( رع ) كما حل ( الحسين ) و( والسيدة زينب) محل إيزيس وأوزيريس. ولا زالت الموالد تعقد بالتاريخ القبطي أو التاريخ المصري القديم وتراعي فيها مواسم الزراعة والرى والحصاد ، وقد شاهد هيرودت بنفسه توافد المصريين القدماء من جميع الأنحاء فى المراكب إلى عيد أو (مولد ) الإلهة باستت فى تل بسطه قرب الزقازيق .. يقول كأنه يصف عصرنا ( والمصريون لا يحتفلون مرة واحدة فى السنة بعيد شعبي عام ولكن أعيادهم العامة كثيرة أهمها ذلك الذى يتحمسون جدا لإقامته فى مدينة بوست (أى تل بسطة) ويليه عيد الآلهة إيزيس الذى يحتفل به فى مدينة بوزيريس حيث يوجد بها أكبر معبد لهذه الآلهة )[63].

فالمصريون فى العصور الوسطى استمروا كأجدادهم يحتفلون بالإلهة التى اتخذوها فذهبوا لطنطا كما ذهب أسلافهم إلى تل بسطة ، واحتفلوا بمولد السيدة زينب كما احتفل أسلافهم القدامى بالإلهة إيزيس ، وقد وصف هيردوت ذهاب المصريين لعيد أو مولد الإلهة باست فى تل بسطة بما لا يختلف عن حال المصريين فى العصور الوسطى من سرور وحبور وتوافد من كل أقاصى البلاد عن طريق المراكب الشراعية مع التهام كميات كبيرة من الطعام والشراب ووجود الخمر بكميات كبيرة لديهم فى العصرين ، فقد ذكر هيردوت الحجم الهائل الذى استهلكه  المصريين من الخمر فى عيد الإلهة باستت ، ورددت المراجع المملوكية ما حدث فى مولد الامبابي من التهام العشرات من جرار الخمر..

الطعام فى المولد :

1ـ لم يرد فى المصادر الصوفية ما يصرح بحجم الطعام المستهلك فى الموالد الأحمدية ، إلا أن الطعام بشكل عام يشكل ركيزة هامة فى إحساس الصوفية كتعبير مناسب عن احتفائهم بالطعام وإتخاذه نشاطاً أساسياً فى أعيادهم وموالدهم .. ويكفى أنهم حولوا الأعياد والمناسبات الإسلامية إلى مناسبات للطعام والامتلاء، ولولا الصوفية وسيطرتهم على الحياة الدينية لما كان هذا التحول عن تعاليم الإسلام التى تنهى عن الإسراف فى الطعام (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الأعراف 31 ، ويظهر التناقض أكثر فى صيام شهر رمضان الذى يتحول إلى شهر للإمتلاء والتخمة..

والشرك إذا تحكم أصبح الطعام هدفا فى حد ذاته ، يقول تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) محمد 12  ويقول تعالى مشيرا للأعياد والموالد (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)  ) آل عمران  ، ويقول تعالى عنهم وهم يأكلون ويتمتعون فى الموالد والأعياد حالمين بشفاعة الأولياء (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ  ) الحجر 3 .

2ـ وما دمنا قد طرقنا هذا الموضوع (الساخن) فلا بأس من الإشارة لموقف الصوفية منه .

فقد بدأ المتصوفة يقلدون الزهاد فى تحريم ما أحل الله من الطيبات إلا أنهم فى نفس الوقت جعلوا من الطعام عنصرا هاماً فى جمع المريدين والاستكثار من الأتباع ونلمح هذا فى سيرة الجنيد ( سيد الطائفة ) كما يصفه الصوفية دائما ..

فالجنيد الذى ادعى أن هاتفاً وبخه على أكله تيناً أشتهاه هو نفسه الجنيد القائل ( تتنزل الرحمة على الفقراء – أى الصوفية – فى ثلاثة مواطن عند السماع – أى الرقص – وعند الأكل فأنهم لا يأكلون إلا عن فاقة[64]. ) وقد قيل  له مرة : ( ما بال أصحابك يأكلون كثيراً ؟ فقال لأنهم يجوعون كثيراً[65]) وحين احتضر أوصى بأن ( تتخذ لأصحابنا طعام الوليمة فإذا انصرفوا من الجنازة رجعوا إلى ذلك حتى لا يقع لهم تشتيت[66]) فبالطعام يتوحد الصوفية وبه تتنزل عليهم الرحمة عند الجنيد.  وابراهيم بن أدهم اتخذا لنفسه مائدة حافلة فقيل له ( أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً فقال : (ليس فى الطعام إسراف)[67]، وقد أورد الغزالي إنكار البعض على نهم الصوفية يقول (أنكر بعض الناس حال الصوفية ، فقال له بعض ذوى الدين ما الذى تنكره منهم قال يأكلون كثيراً قال : وانت أيضا لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون [68]) وصار النهم فى الطعام من مستلزمات التصوف، وقد قال إمام الحرمين شيخ الغزالي عن الصوفية ( ما شغل هؤلاء إلا الأكل والشرب والرقص [69]) ، ثم ازداد الأمر بعلو شأن الصوفية وتأسيس الخوانق والربط والزوايا يحتشدون فيها لا عمل لهم إلا الطعام والشراب والتكاسل .. وغيرهم من المتصوفة ( الشعبيين ) اخترع لنفسه مناسبات الموالد ليمارس فيها هواياته وإشباع غرائزه ..

3 ـ وقد قلنا إن البدوي استتر بالتصوف ليعمل لهدف سياسي ، وقد كان قبلاً فارساً بدوياً ، والشأن فى البدو الرشاقة والنحافة وإذا كان أحدهم فارساً فهو أرشق وأخف جسماً .. وهكذا كان البدوي فى بدايته إلى أن وصل مصر يقول فيه عبد الصمد ( وكان سيدي أحمد البدوي رفيع البشرة ممشوق اللحم نحيف البدن وكل واحد من الجماعة – أى أتباعه – أعتى وأشد وأجسم منه [70]) ثم تغير الحال..فأصبح البدوي صاحب ضياع ومواشي وأصحاب وأتباع وصار كل عمله أن يقف على السطح سويعات يصرخ فيها ويصيح ، وما نحسب الصياح جهداً عنيفاً يزيل السمنة ، وبمرور الأيام وكثرة الطعام وقلة الحركة زحف الدهن إلى جسم البدوي فاستوى واستغلظ على سوقه فوصفه عبد الصمد فى موضع آخر بأنه ( كان كبير البطن غليظ الساقين [71]) .

لقد دفع البدوي – وهو فارس بدوي – ضريبة اتخاذه التصوف ستار فقد ركن للهدوء والطعام وحمل أوزارا من السمنة والبدانة ما كان أغناه عنها ، ولكنها – على أى حال – (لزوم الشغل) فالشأن فى الصوفى أن يكون سمينا متخما بالطعام فهكذا كان الأولياء الصوفية فى العصور الوسطى حتى أن أبا العباس المرسي يقول ( إياكم والاعتراض على من رأيته سميناً من الأولياء فإن الحب إذا تمكن من الأولياء سمن[72]) ، ويقول أبو المواهب الشاذلي مصححا للمفهوم الصوفي عن الولي ( قد غلط أكثر الناس فى وصف أهل الصلاح بالنحول والتقشف وليس الأمر كما ظنوا ، بل فيهم السمين والهزيل والمترفة [73]) .

4 ـ ونرجع للصوفية الأحمدية ونكاد نشم (رائحة ) الطعام تغلف سيرتهم المكتوبة فى الجواهر السنية لعبد الصمد الأحمدي وترجمة الشعراني للبدوي ، فلقد تخصص من كبار الأحمدية رجلان لأعداد الطعام والقيام بأمره فهناك عبد العظيم الراعي لرعي الماشية وإمداد الدولة الأحمدية باللحم واللبن وهناك محمد الفران رئيس المطبخ ( الأحمدي ) .وحين تولى عبد العال الخلافة كان أول مراسيم خلافته يتعلق بالطعام ، يقول الشعراني ( واستخلف بعده على الفقراء سيدي عبد العال وسار سيرة حسنة وعمر المقام والمنارات ورتب الطعام للفقراء وأرباب الشعائر وأمر بتصغير الخبز على الحال الذى هو عليه اليوم )[74]فترتيب الطعام ورسم سياسته أمر هام يضارع  تعمير المقام أى إقامة ضريح للبدوي .

وعنصر الطعام يشكل أرضية للحكايات والأساطير الأحمدية ، فحين دخل البدوي إلى طنطا في بيت ركين الدين قيل ( وكان من عادة الشيخ ركين الدين أنه شكرا وفى رعاية الله جل وعلا

يصنع طعاماً فى بيته فى كل أسبوع ويجتمع فيه أقاربه من النساء والرجال فيطعمهم [75]) ، وفى أسطورة المقابلة بين بيبرس والحسن أخي البدوي استضاف الحسن السلطان بيبرس ثلاثة أيام يقول الظاهر بيبرس ( فتعشيت عند الشريف حسن ) [76]وردا على هذه الضيافة فإن بيبرس استضاف الحسن ، يقول الحسن ( ودخلنا داخل قلعة مصر فجلسنا وقدموا لنا الأطعمة المختلفة الألوان فلما فرغنا من الأكل أخرجت لهم الخاتم فعرفوه) [77]. وفى أسطورة يوسف الانبابي مبعوث البدوي فى إنبابة دللوا على علو شأنه بأن ( صار سماطة فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء ) [78]أو ( صار سماطة مثل سماط الملوك )[79]وحين غضب البدوي على يوسف الإنبابي زعموا أن السبب فى كلمة قيلت عن طعام البدوي لأبى طرطور إذ قال يوسف ( كلوا من هذه الماوردية واغسلوا الغش الذى فى بطونكم من العدس والبسلة لسيدي أحمد )[80].فغرام الصوفية الأحمدية بالطعام وازدراده فرض عليهم أن يدخلوه فى قصصهم التى يتناقلونها بل ومن خلاله يفسرون عزل الإنبابي عن نيابته فى إنبابة.

5 ـ وأكثر من ذلك ارتفعوا بالطعام إلى روايات الكرامات الأحمدية .. فالبدوي حول الشعير قمحاً [81]ومحمد الفران المختص بالطبخ كان يحضر الطعام من لا شىء أو على حد تعبيرهم ( وكان يطبخ أيضاً فإذا لم يجد أدما للطعام يملأ الأبريق من البئر سيرجاً أو دهنا فيجد له الفقراء لذة عظيمة ) [82]ومثله الشيخ عوسج المصرى الذى ( كان يحمل معه الركوة فى البرارى فيخرج منها ما شاء من الماء أوالعسل أو اللبن أو السمن ) [83].وبعضهم كان يكفى بالطعام القليل الكثير من الآكلين فالبرلسي ( من كراماته أنه كفى أربعين نفساً بسمكة واحدة ورغيف واحد ) [84]وعوسج المصري ( كان يطعم المائة من إناء طعام صغير )[85]  ومع إن ركوته فى يده ويخرج بها ما يشاء من البئر من لبن أو عسل فلماذا يقتر على المائة ويطعمهم من إناء صغير ؟ لابد أنه كان يستعرض أمامهم كراماته المذهلة ليجعل الإناء الصغير يكفيهم جميعاً.

والصوفية فى إحضارهم  الطعام من لا شىء ربما كانوا يقولون شيئاً للآخرين ، فالصوفية دائما يعيشون عالة على الناس أو ( الأغيار ) حسب التعبير الصوفي ، فكأنهم يقولون ( للأغيار ) إن بإمكاننا أن نحضر الطعام من لا شىء وليست حياتنا متوقفة على نذوركم ونفحاتكم ، على أن بعض الكرامات الصوفية كانت تشى بالتسول الصوفي وجلوس الصوفية على موائد الناس آكلين فكانت الكرامات تجعل الصوفي يتنبأ بالطعام المقدم إليه كما قيل عن الشيخ بشير " وامتحنه أهل حانوت مرة وذبحوا له حماراً فى كشك فلما رأى الطعام قال : الفقراء لا يأكلون حميراً ثم قال : ترترتر فطار لحم الحمار من الزبادى ووقع على الأرض "[86]أى أن البعض حاول امتحان الشيخ بشير الأحمدى ليعرفوا مقداره من الكشف أو علم الغيب ، وكان الطعام هو الوسيلة ، كما كانت "ترترتر" هى كلمة السر التى نجح بها الشيخ بشير .

وحين حارب الصوفية الأحمدية المنكرين عليهم بأساطير الكرامات المهددة غلب عليهم حب الطعام فجعلوا المنكر عليهم يصاب بشوكة فى حلقه فكان "لا يلتذ بطعام ولا شراب " [87]، ثم إذا تركوا حلقة لم يتركوا طعامه بدون عقاب فجعلوا الدود يظهر فى إناء الطعام ليرجع المنكر عن إنكاره يقول  عبد الصمد " ومن كراماته التى أشتهرت إنه فى كل حين يظهر دود كثير حى فى حلة الطعام حال حرارته ، ويرى ذلك كل من حضر وقت طبيخ الطعام وغليانه ويظهر ذلك فيمن تعرض له أو لأحد من أتباعه بانكار أو أذية " [88]وشغف الشعراء الأحمدية بتلك الفكرة فتغنوا بها شعراً كقول أحدهم [89]:

         وكم قد رأينا الدود حيا بحلة       فيرجع ذو بغى طغى وهو مالغ ..

والظاهر أن " الملوخية " كانت أكثر الأطعمة تأثيرا فى خيال محبى البدوي ، فقالوا إن من كرامات الشيخ مبارك الأحمدي "....إنه راح بالملوخية إلى سيدة بعرفات [90]، وربما اكتسبت "الملوخية " هذه المكانة أنها الطعام الأرخص فى أوانها فى الدلتا – وطنطا تتوسط المنطقة الزراعية فى مصر – وتصبح صيفاً أهم أطباق المائدة ، ولعل الخيال الصوفي غرق فى طبق الملوخية حين اختلق هذه الكرامات..ويقول الشعراني عن البدوي " ثم إنى رأيته بمصر هو وسيدي عبد العال وهو يقول زرنا بطندتا ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك فسافرت فأضافنى غالب أهلها وجماعة المقام ذلك اليوم كله بطبيخ الملوخية "[91]..

الشعراني والدعاية للمولد :

ولم يترك الصوفية الأحمدية سبيلا للدعاية للمولد إلا وأستغلوها .. فجعلوا البدوي بنفسه يدعو الناس للحج بعد موته ويتكفل بغفران من أخطأ أو بالغ فى الاختلاط بالنساء فى المولد بل وتكفل باحضار التائه حتى لو كان حماراً أو خاتماً .. ثم التفتوا للآخرين فجعلوا البدوي يعاقب قطاع الطرق على الحجاج لبيته ثم جعلوه يعاقب من أنكر حضور المولد .

وشارك الشعراني فى القرن العاشر فى الدعوة للمولد الأحمدى وإن لم يغفل عن الدعاية لنفسه ضمنا ، فادعى أن الشناوي أخذ عليه العهد فى قبة  البدوي على أن يشمله البدوي برعايته ، ثم إن البدوي بنفسه زاره بمصر وبصحبته عبد العال ودعاه لزيارة المولد فى طنطا وأغراه بأن يأكل " ملوخية" ، ويقول " وتخلفت عن ميعاد حضورى للمولد سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أن سيدي أحمد البدوي كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ويقول : أبطأ عبد الوهاب ما جاء " [92]أى أن البدوي قلق وانشغل وتشوش بسبب غياب الشعراني حتى كان يكشف ستر الضريح المدفون فيه ويقول " الواد الشعراني أتأخر ليه يا جماعة " .. ومعنى قلق البدوي على تأخر الشعراني أن البدوي وهو الإله علام الغيوب فى زعمهم ولم يكن يعرف بكشفه المزعوم السبب فى تاخر الشعراني عن موعده ، فكيف يتأتي هذا وقد أخبرنا الشعراني أنه حتى هلال المئذنة للبدوي يعلم الغيب .. والمهم أن دعاية الشعراني لنفسه جعلته يقع فى هذا المطب فقد حرص على أن يكون له نصيب من دعايته للمولد الأحمدي فجعل البدوي يقلق لغيابه ، ثم فى رواية أخرى يقول أنه أراد التخلف عن المولد فى سنة من السنين فرأى البدوي وهو يدعو الناس جميعاً من سائر الأقطار ثم مر عليه فى مصر وأصر على حضوره وكلف أسدين بإحضاره .. يقول الشعراني فى تلك الأسطورة " فقوى عزمى على الحضور فقلت له إن شاء الله تعالى نحضر ، فقال : لابد من الترسيم عليك فرسم عليه بسبعين عظيمين أسودين كالأفيال وقال : لا تفارقاه حتى تحضرا به[93]" وطبعا فهم السبعان الأمر فأرغما الشعراني على الطاعة ، وادعى الشعراني أن أولياء الهند يسعون لزيارة المولد ويقطعون الطريق بكرامة أهل الخطوة فى خطوة ، وان الشيخ السروي تخلف عن المولد " فعاتبه سيدي أحمد وقال : موضع يحضر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وأصحابهم والأولياء ، فخرج الشيخ محمد "السروي " إلى المولد فوجد الناس راجعين وفات الأجتماع فكان يلمس ثيابهم ويمر بها على وجهه [94]) أى يتبرك بهم لأنهم لمسوا ضريح البدوي ولا تزال فيهم أثار البركة منه فكان يقتنص من تلك البركة حتى لا تتساقط منهم على الأرض أو يأكلها الذباب ...

والمهم أن الشعرانيجعل الأنبياء وفى مقدمتهم محمد عليه وعليهم السلام يحجون للبدوي فى مولده أو يسعون لزيارته والتبرك به مع سائر الناس ، وفى هذا تفضيل واضح للبدوي على أنبياء الله ..

وتفضيل الصوفية للولي الصوفي على الرسول أمر واضح ..فالرسول لا يدعى لنفسه مزية على سائر البشر مع أنه رسول.. أما الصوفية فيدعون لأنفسهم صفات الله من غيب وتصريف ويدعون الناس لتقديسهم والتبرك بهم أسوة بالله تعالى .. بل أن الأحمدية تطرفوا ففضلوا البدوي على الله تعالى وهذا ما نحن بصدد توضيحه.


 



[1]
الجواهر 97 ، 101 ، 104، 29 ، 39 .        

[2]الجواهر 97 ، 101 ، 104، 29 ، 39 .        

[3]الجواهر 97 ، 101 ، 104، 29 ، 39 .        

[4]الجواهر 97 ، 101 ، 104، 29 ، 39 .        

[5]الجواهر 97 ، 101 ، 104، 29 ، 39 .        

[6]الطبقات الكبرى للشعرانى 1k      

[7] الجواهر 126

[8]الجواهر  93 ، 104 ، 117 ، 118

[9]الجواهر  93 ، 104 ، 117 ، 118

[10]    الجواهر 117،118

[11]الجواهر 92 ، 116 ، 120 .         

[12]الجواهر 92 ، 116 ، 120 .         

[13]الجواهر 92 ، 116 ، 120 .         

[14]الجواهر 121

[15]الجواهر 124.

[16]الجواهر 102 ، 121.

[17]الجواهر 102 ، 121.

[18]الجواهر 134 ، 130 ، 40 .       

[19]الجواهر 134 ، 130 ، 40 .       

[20]الجواهر 134 ، 130 ، 40 .       

[21]الجواهر 43

[22]الجواهر 61 ،80

[23]الجواهر 61 ،80

 

[24]الجواهر 77 : 78

[25] السلوك 3 94

[26]إنباء الغمر لابن حجر 18       

[27]السلوك 3 69 ، النجوم الزاهرة 11‘

[28]الطبقات الكبرى 1r

 

[29]الجواهر 115

[30]الجواهر 115

[31]الجواهر 24

[32]الجواهر 25

[33]الجواهر 25

[34]الجواهر 123 ، 120 ، 101، 119 ، 132      

[35]الجواهر 123 ، 120 ، 101، 119 ، 132      

[36]الجواهر 123 ، 120 ، 101، 119 ، 132      

[37]الجواهر 123 ، 120 ، 101، 119 ، 132        

[38]الجواهر 123 ، 120 ، 101، 119 ، 132      

[39]الجواهر 123 ، 120 ، 101، 119 ، 132      

[40]التبرك المسبوك 176       

[41]  الجواهر 83

[42]ا لجواهر 110 ، 120

[43]ا لجواهر 110 ، 120

[44]الجواهر 137 ، 138 : 139 : 90

[45]الجواهر 137 ، 138 : 139 : 90

[46]الجواهر 137 ، 138 : 139 : 90

[47]الجواهر 129 ، 71                

[48]الجواهر 129 ، 71                

[49]الطبقات الكبرى 1rذذ

[50]الجواهر 25 ، 29 ، 30

[51]الجواهر 25 ، 29 ، 30

[52]الجواهر 25 ، 29 ، 30

[53]الجواهر 25 ، 29 ، 30

[54]الجواهر 25 ، 29 ، 30

[55]الجواهر 25 ، 29 ، 30

[56]أرمان .ديانة مصر القديمة 197 ، 214 .

[57]الطبقات الكبرى 2/ 121

[58]النفحات الأحمدية 264        

[59]تيمور الأمثال الشعبية 189      

[60]الطبقات الكبرى للشعرانى 1~

[61]الجواهر 75  

[62]الخطط التوفيقية 13)

 

[63]هيردوت يتحدث عن مصر 159

[64]الطبقات الكبرى للشعرانى 1;، 74           

[65]الطبقات الكبرى للشعرانى 1;، 74          

[66]الطبقات الكبرى للشعرانى 1;، 74          

[67]إحياء علوم الدين 2 ، 3 82

[68]نفس المرجع 2 26

[69]روض الرياحين لليافعى 14

[70]الجواهر2.

[71]نفس المرجع 7 وقد ناقش الشيخ محمد زكى إبراهيم " ما يجرى على السنة العوام من أن البدوى كانت له بطن كالمحيط يحشوها بطعام يكفى امة ثم يخلطها بماء البحر الأعظم ) وفسرها  فى ضوء الكرم .. والمهم أن الخيال تأثر بما قيل عن بطن البدوى راجع (البدوى) للكوفى من العشيرة المحمدية ص190

[72]الشعرانى : قواعد الصوفية 1/128

[73]الطبقات الكبرى 1I

[74] نفس المرجع 1p

[75]الجواهر 40 ، 61 ، 62

[76]الجواهر 40 ، 61 ، 62

 

[77]الجواهر 40 ، 61 ، 62

[78]الجواهر 28 ، الطبقات الكبرى 1p        

[79]الجواهر 28 ، الطبقات الكبرى 1p       

[80]الطبقات الكبرى 1p

[81]الجواهر 40 : 41 ، 29 ، 33         

[82]الجواهر 40 : 41 ، 29 ، 33         

[83]الجواهر 40 : 41 ، 29 ، 33         

[84]الجواهر 30 ، 33

[85]الجواهر 30 ، 33

[86]الجواهر 35

[87]الطبقات الكبرى 1r

[88]الجواهر 83 ، 17 ، 31

[89]الجواهر 83 ، 17 ، 31

[90]الجواهر 83 ، 17 ، 31

[91] الطبقات الكبرى 1q

 

[92]الطبقات الكبرى 1q

[93]نفس المرجع والصفحة

[94]نفس المرجع 1q : 162

 

 

ثالثا: الصوفية يفضلون البدوي على الله

 

كم كنا نتمى ألا نصل لهذا الحد ، ولكنه الشطط الذى وقع فيه الصوفية الأحمدية، فاضطررنا لتبيين غلوهم فى تأليه البدوي وعبادته ، فهم قد اعترفوا بربوبية الله وقاموا بعبادته ولكنهم أشركوا معه البدوي فى التقديس والعبادة فاقتضانا المنهج العلمي أن نمحص عقيدتهم لنصل إلى من يفضلونه أهو الله تعالى أم هو البدوي ، فكانت النتيجة هى ما يعبر عنه العنوان السابق : " الصوفية يفضلون البدوي على الله تعالى " . بيد أنه لم يكن منتظراً من الصوفية الأحمدية أن يصرحوا بهذا التفضيل فمهما زادت سطوة التصوف فإن أحداً لن يوافقهم على هذا الإعلان الخطير فاكتفوا بالتلميح دون التصريح ، ولجأوا  للأسلوب غير المباشر برواية الحكايات وإلقاء الأشعار .. وبين سطور الحكايات وأبيات الشعر يعبرون عن مكنون عقيدتهم فى البدوي الذى جعلوه فوق الله – تعالى عن ذلك علوا كبيرا - ..

ولتفضليهم البدوي على الله مظاهر كثيرة ، نكتفى منها بما أورده الشعراني وعبد الصمد فى الطبقات والجواهر ..

(أ)فقد جعلوا الله تعالى واسطة عند البدوي .. وصاغوا لذلك أسطورة تقول ( إن امرأة مات لها ولد صغير فجاءت إلى سيدي أحمد البدوي وهى باكية وقالت : يا سيدي ما أعرف ولدى إلا منك ، وقام الفقراء إليها ليمنعوها فلم يقدروا وهى تقول : توسلت إليك بالله ورسوله [1] ) وفى رواية الحلبي (سقت عليك الله ورسوله [2] ) أى أن الله تعالى يتوسط لدى البدوي ليحيي ابن المرأة .. ويقول عبد الصمد نفسه فى مقدمة كتابه ( وشرعت فى ذلك راجياً من فيض جوده – أى البدوي – وكرمه قبول تلك الخدمة مع علمى بأني لست من ذلك القبيل ولا أستطيع أن أسلك إلا بتوفيق الله ذلك السبيل [3] ) أى أن  عبد الصمد شرع فى كتابه الجواهر لينال فضل البدوي وجوده ويعلن أنه لن ينال القبول وليس أهلاً للخدمة ولن يستطيع أن يبلغ تلك المنزلة عند البدوي إلا إذا وفقه الله وتوسط له فبلغها .. أى أن وظيفة الله عند عبد الصمد أن يوفق عبد الصمد لكى يكون أهلا لخدمة البدوي وتسطير مناقبه .

وكرر عبد الصمد هذا المعنى شعراً فى خاتمة كتابه فقال [4] :

       وسميته عند الختام جواهرا     سنية فاقت سمط  در  تنضدا

       وإنى وبيت الله لم أك كفؤه     ولكن جعلت الله عوناً ومقصدا

وبالشعر يقول صوفي يخاطب البدوي [5] :

      فبعزة خالقي ونبيه وبكل         رســـــــول   علـيــــــــــه الله بـــــــــــــــــــــــــارك

     لا تتركني للأراذل خاضعاً       وأجر مضاماً فى حماك استجارك

فصاحبنا يستغيث بالبدوي ليجيره ، ويتوسل إليه – أى إلى البدوي – بالله وبكل الرسل كى يتعطف ويجيره..

وقد تخصص البدوي فى كرامة إحضار الأسرى وقد روى الشعراني عن بعضهم فقال( مما بلغني من جماعة من أهل بيروت قالوا أسرنا الإفرنج ..فأقمنا فى بلاد الإفرنج يستخدموننا فى الأعمال الشاقة حتى كدنا أن نموت فألهمنا الحق تعالى يوما ًأن قلنا : يا سيدي أحمد يا بدوي إن الناس يقولون أنك تأتى بالأسارى إلى بلادهم وقد سألناك بالنبي أن تردنا ..[6] ) وتفضيل البدوى على الله تعالى يبدو بين السطور ، فأولئك الأسرى ألهمهم الله أن يستغيثوا بالبدوي لينجدهم .. أى كأن الله تعالى قد عجز عن نجدتهم ولم يعد بوسعه إلا أن يدل الأسرى على من يستطيع وحده أن يخلصهم من الأسر بحكم التخصص فألهمهم أن يتوسلوا بالبدوي، وهذا كل ما يستطيعه الله فى عقيدة الشعراني والصوفية أن يتوسط الله بين الناس والبدوي فيلهم المأسور للتوسل بالبدوي ويعلمه الصيغة التى يتوسل بها كى يتعطف البدوي ويستجيب.. ومن هنا نستطيع أن نفهم المغزى المقصود فى عبارة الصوفية ( نفعنا الله به) أو كما يقول بعضهم [7]:

     يا ربنا انفعنا  بامداده         فى كل حال فيه تسطو الخطوب

فالمقصود أن يتوسط الله تعالى لدى البدوى فينفع الصوفي بإمداد سيده البدوي ، فالصوفي لا يريد من الله مدداً ، وإنما يريده من شيخه ، وقد جعل الله وسيلة بينه وبين شيخه فاستغاث بالله لينفعه ببعض مدد الشيخ وتصريفه .. وقد شاعت هذه العبارة على الألسنة ولم تعد تراها عيباً .

(ب)وقد أضفى الصوفية على البدوي من الصفات ما يزيد عما جعله الله تعالى لذاته المقدسة .. فالله سبحانه وتعالى هو المسيطر على خلقه المتحكم فيهم الخالق لأفعالهم ومع ذلك فقد ترك للعبد مساحة من النية على أساسها يكون الثواب والعقاب .. فلم يشأ تعالى ان يتحكم فى القلوب وحرية الإنسان فى أن يؤمن أو يكفر (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف : 29 .

ولكن الصوفية بالغوا فى إسناد التصريف فى ملك الله للبدوي فجعلوا له السيطرة على قلوب الناس أى يستطيع أن يحول المؤمن إلى كافر لمجرد أنه اعترض عليه فيستحق بكل بساطة أن يسلبه الإيمان كما ورد فى الكرامة التى رواها الشعراني عن ابن اللبان والأسطورة الأخرى عن ذلك الشخص الذى أنكر حضور الناس لمولده ( فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام فاستغاث  بسيدي أحمد فقال : بشرط أن لا تعود فقال نعم . فرد عليه ثوب إيمانه ) [8] .

وفى تلك النصوص التى تعاقب المنكرين على البدوي نلمح وجهاً آخر فى تفضيل البدوى على الله تعالى .. هو سرعة العقاب المعجل .. فتعبيرها دائماً يكون بالفاء " أى بالترتيب والتعقيب " فاذا نطق أحدهم بكلمة اعتراض فسرعان ما يحل به العقاب .. فصاحبنا حين أنكر حضور المولد فقد ساعتها الإيمان ، وابن كتيلة حين تلفظ بالاعتراض على البدوي ومولده سرعان ما دخلت الشوكة فى حلقه – وفى هذه الأسطورة جعلوا الله تعالى واسطة أيضا بين البدوي وابن كتيلة ودوره – تعالى عن ذلك – ففى الأسطورة جعلوا ابن كتيلة ينسى السبب طيلة التسعة شهور ذاق فيها ابن كتيلة العذاب فى حلقه ، يقول الشعراني "وأنساه الله تعالى السبب فبعد التسعة شهور ذكره الله بالسبب فقال احملوني إلى قبة سيدي أحمد [9] ) .. فيا هول الجرم الذى اقترفه الشعراني وغيره حين جعلوا من الحي القيوم مجرد أداة تعذيب للبدوي لمن يعترض عليه بكلمة ؟

ونعود إلى سرعة العقاب التى أسندوها للبدوي حين يعجل بعقوبة المعترض عليه ، ويقول أنها تعطى حرمة للبدوي تفوق ما يفرضه الله تعالى على خلقه ، فالله تعالى لا يسارع بعقوبة الجاني مهما بلغ ذنبه ولكن يمهل ولا يهمل . بل ربما يصطنع الاستدراج والامهال مع أشد الناس ظلما ، فالصوفية مثلا مع كفرهم أليسوا متمتعين بالموالد والموائد والشهرة والصيت .. يقول تعالى : (فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) الطارق17، ويقول (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (18)) القلم.ويقول : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)) آل عمران .

ثم إن الله تعالى سريع العفو لمن تاب بصدق مع أنه الجبار.. ولكن الصوفية يصورون البدوي بصورة أخرى فمن يخطىء فى حق البدوي فلن يحظى بغفران البدوي إلا بعد جهد جهيد .. ففى أسطورة ابن اللبان مثلا عوقب على اعتراضه بسلب القرآن والعلم والأيمان فتوسل للبدوي بجميع الأولياء فلم يستطيعوا له شيئاً ، فدلوه على ياقوت العرشي فأعظم الأمر عليه ثم أمره مؤقتاً بالوضوء والذكر ثلاثة ليال حتى جاء النبي فتوسط لدى البدوي وتوسل له ليصفح عن ابن اللبان فى المقام ، ثم قال ياقوت العرشي له ( يا محمد أبشر فقد قضيت حاجتك فأني سقت عليه جميع الأولياء فلم يقبل فسقت عليه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وقد رأيت ذلك بعينك ، فسافر الآن من وقتك وساعتك إلى طندتا وطف حول صندوق سيدي أحمد البدوي وأقم عنده ثلاثة أيام فإن حاجتك قد قضيت " ونفذ ابن اللبان التعليمات ( فسافر من وقته وساعته .. ولما دخل المقام أقام فيه ثلاثة أيام ولما دخل الضريح طاف بصندوقه بكى وتضرع ثلاثة أيام وهو على هذا الحال ، وإذا نام تحت رجلي سيدي أحمد البدوي فبينما هو نائم إذ رأى سيدي أحمد البدوي فى المنام فقام بين يديه فقال له : تقدم فتقدم إليه وقال له : لا تعد لمثلها فو الله لولا جدى رسول الله لسلبتك الإيمان ثم وضع يده على صدره فرجع اليه حاله ".

 

وإذا تساءلنا عن الخطيئة الكبرى الى استحق من أجلها ابن اللبان هذا العذاب كله لوجدنا أنه انكر فقط أن يقول فقير أحمدي ( الصلاة والسلام عليك ياسيدي يارسول الله ، السلام عليك يا أحمد يا بدوي ) فقال ابن اللبان : ( من هذا الذى جمع فى السلام بين سيد المرسلين وبين أحمد البدوي وأشرك البدوي مع رسول الله فى السلام [10]) لهذا فقد أسهمت الأسطورة فى بيان ما حاق بابن اللبان من عذاب وما قام به من تزلف وقربى ليحوز الغفران والرضا فيما بين الاسكندرية وطنطا ، وياقوت العرشي والرسول عليه السلام حتى عفا عنه البدوي فى النهاية .هذا مع أن المشرك الذى يقضى حياته يحارب الله ثم بأذن الله فيدخل الإسلام لا يقاسي ما قاساه ابن اللبان فى تلك الأسطورة المزعومة، وكل ما هنالك أنه يبدأ صفحة جديدة يتمتع فيها بغفران الله عما سلف من عمل  ، أما البدوي فشأنه مختلف عند الصوفية فحرمته عندهم أعظم .

وكما صوروا البدوى سريع العقاب لمن عاداه بطيئا فى الغفران لهم جعلوه سريعاً أيضا فى نجدة من يتوسلون به.. ففى أساطير الانقاذ للأسرى فبمجرد أن ينطق أحدهم باسم البدوي يجد نفسه طائراً محمولاً إلى مأمنه،وهذا مالم يرد نظيره فى القرآن الكريم مسنداً لله تعالى ...

يحكى الشعراني مثلا أنه رأى أسيراً مقيداً فى فى منارة عبدالعال وحكى الأسير قصته ( كنت أسيراً فى بلاد الأفرنج فبينما انا واقف على سطح إذ توسلت بسيدي أحمد البدوي فأتاني شئ فخطفني وطار بي فى الهواء [11]) وفى أسطورة أخرى أخذ الفرنج حذرهم من البدوي ومنعوا الأسرى من التلفظ بإسمه حتى أن إفرنجيا كان يقفل الصندوق على أسير وينام ألى جانبه حتى لا يخطفه البدوي ولكن الأسير فى قفصه توسل بالبدوي:" فقلت في نفسي يا سيدي أحمد يا بدوي إنجدني فما تم القول إلا وجاء سيدي أحمد البدوي وحمل الصندوق بي وبالإفرنجي  )[12].. أى يريد الصوفية بهذه الأساطير أن يقولوا  إن البدوي أسرع استجابة من الله .. فإذا كان الله تعالى قد يؤجل الإجابة ليعلم عباده الصبر وهو أعلم بما ينفعهم أكثر فإن البدوي جاهز دائما فى اعتقاد الصوفية وما أن ينطق أحدهم باسمه إلا ويجد الإجابة معجلة .

والله سبحانه وتعالى أدرى بما يصلح للعباد فى هذه الدنيا الزائلة ،والله سبحانه وتعالى يستجيب لكل من دعاه مخلصا إما بتحقيق أمنية الداعي وإما بإدخارها له فى الآخرة  وهى خير وأبقى ، ولأنه تعالى أعلم بما يصلح للعباد فإن الاستجابة المؤجلة للدار الباقية تكون الأثمن والأفضل ويكفي العبد انه ينال فى الدنيا أجر الصبر على قضاء الله وأجر الإستغاثة والتوسل بالله ، ويقول تعالى عن البشر جميعا "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ..(28)  )الشورى  ويقول عن رسله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)) يوسف  .. والصوفية يعلمون هذا فجعلت اساطيرهم من البدوي أسرع استجابة لمن دعاه مهما تباعدت المسافة يقصدون بذلك تفضيله على الله – تعالى الله عما يصفون

(جـ)والصوفية حين توسلوا بالبدوي وصفوه بصيغة أفعل التفضيل فكان عندهم الأعلى والأعظم والأكبر .. يقول صوفى [13]

 إذا ما أحاطت صنوف المناهب        وخفت من الخطـــب الكريه المتاعب

 اتيت   إلى كهف  منيع   وسيد       قضيت  به  فى  كل   أمر  مطالبي

هو المطلب الأعلى وكنز روضة       ومنهاجه سهل  على   كل    طالب

   فالبدوي هو( المطلب الأعلى ) فماذا عن الله تعالى ؟؟

يقول آخر فى توسله بالبدوي[14])

إلا يا كريم الأصل يا خير مرتجى       لكشف  البلايا  والأمور  المهمة

عبيدك قد اهداك  نزرا من الثنا           وجدك   شيماه   قبول    الهدية

فقد وصف نفسه بأنه (عبيد) للبدوي ( أى تصغير عبد ).. ثم وصف الهه البدوي بأنه( خير مرتجى لكشف البلايا)... فإذا كان البدوي خير مرتجى لكشف البلايا فماذا يكون الله سبحانه وتعالى عند ذلك الصوفي ؟. وفى نفس المعنى يقول آخر [15] :

عليك     بالبدر  القطب  منجدنا         عند الكروب إذا ما استوقد الشــــــرر

أبى اللثامين روح الكون أعظم من         يجيب      سائله   حالا   ينتصر

فرد  الزمان   ابوالفرحات   منقذنا         من  قد  اقر له   بدو كذا  وحضر

بحر    الكرامات   لا بحر يماثله         من  ذلك البحر يطفو للـــــــورى درر

فهذا الآخر يصف البدوي بأنه المنجد إذا حلت مصيبة وأنه روح الكون ، ثم فضله على الله تعالى فقال عنه (أعظم من يجيب سائله حالاً) كما قال السابق عنه إنه ( خير مرتجى لكشف البلايا ).. والمسلم يعلم انه لا يكشف السوء إلا الله (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ؟ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ )النمل 62، أما أصحابنا فلم يكتفوا بأن يجعلوا من (بدويهم ) يشارك الله فى إجابة المضطر وكشف السوء عنه بل فضلوا البدوي فجعلوه (أعظم من يجيب سائله حالاً ) و(خير مرتجى لكشف البلايا ).

وإذا كان المؤمن" يقر" بأن الله وحده هو الذى يكشف السوء ويجيب المضطر فإن ذلك الصوفي الآخر يجعل البشر من بدو ومن حضر "يقرون" بأن البدوي هو المنقذ " فرد الزمان أبو الفرحات منقذنا من قد أقر له بدو كذا وحضر" وهنا تفضيل آخر لم يأت على وزن افعل  التفضيل وإن حوى معناه , ذلك أن الله تعالى ترك الحرية للبشر فآمن به من آمن وكفر به من كفر بل وكان اكثر الناس كافرين مشركين .. وهذا ما تردد فى القرآن الكريم , أما صاحبنا الصوفي فقد جعل الناس جميعاً  من بدو وحضر يؤمنون بالبدوي ويقرون له بأنه " الفرد "   أى الواحد الذى لا نظير له " فرد الزمان " ثم يؤمنون بانه " المنقذ " "منقذنا" , ثم فى البيت الأخير لذلك الصوفي تفضيل آخر بدون أفعل التفضيل , فقد وصف البدوي بانه "بحر الكرامات لا بحر يماثله" وأن " الورى" أى الخلق يتمتعون بفيض ذلك البحر , والكرامات أو التصريف فى ملك الله بالمنح والمنع وهذا لا يكون إلا لله وحده , وصاحبنا لم يكتف بأن يجعل البدوي شريكاً لله فى ملكه وإنما صرح بتفضيله على الله إذ قال إنه " لا بحر يماثله " أى لا تصريف وتحكم فى الكون يماثل تحكم البدوي وإن " من ذلك البحر يطفو للورى درر " , مع أن الله تعالى هو المتصرف فى الكون " لم يجعل الدرر تطفو للورى من بحر تصريفه " فمن الأفضل عند ذلك الصوفي ؟؟

والمفجع أن ذلك التفضيل  ينسحب على اتباع البدوي وطائفته فيقول المرحومي [16] عن البدوي وطائفته :

              

       له العلياء إذا العلياء سيمت                  وطائفة  اليه  قد  أضيفت

                              لها  الرجحان  بين  الطوائف

      لها فضل تعالى ان يضاهى                 وأشياء ليس يدرك منتهاها

ففضل الطائفة الأحمدية "تعالى أن يضاهى " وخصوصياتها أو أشياؤها " ليس يدرك منتهاها " مع أن المسلم يقر بأن فضل الله تعالى " تعالى أن يضاهى " ولا يضاهيه فضل آخر والآؤه  سبحانه وتعالى " ليس يدرك منتهاها " ولو كره الكافرون " من جميع الطوائف "..

( د)ولأنهم يخاطبون البدوي بأفعل تفضيل " المطلب الأعلى "خير مرتجى , أعظم من يجيب..الخ  فقد أعلنوا أنهم لا يلجأون إلى سواه باعتباره الأفضل وتوسلوا إليه ألا يكلهم إلى غيره ممن هو دونه فى المنزلة ..

  يقول صوفي [17] عنه:

            فوالله مالي  مسعف ومساعد         سواه وعلي فى الخليقة ناصر

أى أنه يقسم بالله " وهنا المهزلة " إنه ليس له  مسعف ومساعد سوى البدوي الذى يستطيع نصره على كل الخلق , ويقينا فإن الله تعالى كان على لسانه حين أقسم به ولكنه لتفضيله البدوي على الله صرح بأنه ليس له نصير ولا مسعف ولا مساعد سوى البدوى ..

وفى هذا المعنى يقول آخر [18]  مخاطبا البدوي

        وحماك أبغى يا أبا الفتيان فى              خطب أهاج القلب من حسراته

       من لى سواك أرومه فى كشفه              أو ارتجى أن ضقت من وثباته

       عار عليك إذا رددت خويدما                قصر الفؤاد عليك فى حاجاته

فصاحبنا يقول بأسلوب القصر " وحماك أبغي يا أبا الفتيان " أى لا يبغي حمى إلا حمى البدوي إذا وقعت به كارثة , ثم يقول بنفس الاسلوب " من لى سواك أرومه فى كشفه " أى ليس له إلا البدوي لكشف ذلك البلاء , ولأنه ليس له سوى البدوي فعار على البدوي إذا رد " خويدمه " " تصغير خادم" بدون أن يقضى حاجته , فصاحبنا يصف نفسه بأنه خادم صغير أو حقير للبدوي قد قصر على البدوي فؤاده وقلبه فعار على البدوي أن يرده .

ومنطقي إنه لا وجه للتفضيل بين الله تعالى والبدوي هنا .. فالله تعالى ليس موجوداً البتة فى عقيدة ذلك الصوفي الذى يصرح بأسلوب القصر إنه ليس له سوى البدوي نصيراً  وإنه قصر الفؤاد عليه ,فالتفضيل إنما يكون إذا وجد الله له مكان فى عقيدة الصوفي إلا إن مكان البدوي لديه أكبر وأعظم , أما صاحبنا  فقد محى مكانة الله تماماً فى عقيدته .

والالتجاء للبدوي دون سواه تفضيلاً له على الله جعل التوسل الصوفي بالبدوي يطرق معانى جديدة كأن يتوسل أحدهم بالبدوي ليصون وجهه عن سؤال غيره فيقول أحدهم [19]

        إنى أتـيتك يـا ذا المشرع العالي                فانظر بلحظك فى شأني وحالي

       ولا تـكلني إلى من ليس ينصرني               ولا إلى ذى جـفا للعهد لى قـــــــــالي

       ومـن أولى  بغوثي منك يا أمـــلي               ومنتهى رحلتي ومنائي بل وآمالي

      وصن بعزك يا ذا الطول وجهى عن             سـؤالى غـيرك ممن حاله بالي ...

وبعضهم حكم على من يلجأ لله أو لغير البدوي بالخسران المبين ، فيقول[20]:

          لقد فاز من يسعى بأبواب عزكم             وخاب الذى فى غير أبوابكم سعى

وبعضهم استنكر أن يتوسل بالله أو غير البدوي والبدوي موجود فيقول[21]:

          أأطلب جاه سواك لنصرتي ؟؟            وأنت لك الشأن العظيم الأفخم

أو يقول آخر [22] :

          آتيت حماك الرحب استمطر الـندى       وبذل أياد  ما لهن مضــــــارع

          وحـــــــاشا وكلا أن أخيـــــــب وأن لـــي        فؤاداً بقصد الغير ما هو قانع

          أغيرك ينحوه المـؤمل أو ســـــــــــــــــوى        رحابك أهل تثنى إليه المطالع ؟

ويضيق الصدر عن متابعة الشرح ، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ..

وبعد ..

فلقد حكى القرآن أن مشركي العرب اتخذوا الألهة والأولياء واسطة تقربهم إلى الله زلفى ، ورأينا الصوفية الأحمدية  يجعلون من الله واسطة عند البدوي ؟ فالمرأة ـ على حد قولهم ـ توسط الله عند البدوي ليحيي لها إبنها ، وعبد الصمد جعل الله تعالى واسطة ليوفقه فى تأليف كتابه ليحوز رضا البدوي ، وآخر يقسم على البدوي ويتوسل إليه بكل رسول وبعزة الله لكى يمتن عليه البدوي فلا يكله إلى غيره .

ومشركوا العرب آمنوا بأن لله التحكم فى ملكوته من سماء وأرض وعرش وإنه يجير ولا يجار عليه " المؤمنون آيات 84 : 89 " وأن آلهتهم مجرد وسائط ) الزمر 3 ) : إلا أن الصوفية الأحمدية جعلوا من جبار السماوات والارض الحي القيوم مجرد أداة فى تصريف البدوي فهو الذى يلهم الأسرى ليتوسلوا بالبدوي وهو الذى جعل ابن كتيلة ينسى السبب فيما أصابه ليقاسي العذاب لاعتراضه على المولد الأحمدي .. ثم هم يبالغون فى تحكم البدوي وتصريفه إلى الحد الذى يتضاءل معه نفوذ الله فى ملكه، ويجعلون من الله تعالى النصيب الأدنى فى التحكم والسيطرة ، وللبدوي القدر الأعلى حين يغضب وحين يرضى ، وعلى هذا الأساس كان توسلهم بالبدوي بأفعل التفضيل وأنه لا إله لهم سواه ،يقول الصوفية كل هذا .. وهم يقرءون القرآن وينطقون باسم الله ، فلا نستطيع أن نقول إنهم لا يعرفون الله البتة ولكننا نقول إنهم ما قدروا الله حق قدره وما أعطوه حقه وهو الذى يتحكم فى خلقه حيث لا يتصرف  فى الكون سواه " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) " الزمر ، ولا نقول إنهم لا يقرأون القرآن ، فهم يقرأون كتاب الله ، وقراءة القرآن تزيد المؤمن إيمانا وشفافية ولا تزيد الظالم إلا خساراً " وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً " الإسراء 82 ، وفعلاً فإن الصوفية زادوا عن مشركي قريش أنهم أكثر قراءة للقرآن مع اتصافهم بالشرك والكفر مثلهم فكان أن زادهم القرآن خساراً وجاء التعبير القرآنى بالمضارع " ولا يزيد الظالمين إلا خساراً " لينطبق على مشركى المستقبل أكثر من إنطباقه على مشركي الزمن الجاهلي الماضي .

وقد ينكر الصوفية اليوم تفضيل البدوي على الله وإن كانوا لا يستطيعون إنكار كونه واسطة لديهم يتقربون به لله زلفى ، وواقع الأمر إنهم يمارسون التفضيل فعلاً وعملاً وإن أنكروه قولاً .. وكما يقول الله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ..) سبأ 46 ، فإننا نطلب منهم الاحتكام إلى أنفسهم ، فهم يصلون لله الصلوات الخمس ويتوسلون للبدوي قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، نسألهم فى أى الحالين يكونون  أخشع قلباً وأصفى ذهناص ؟ حين الصلاة لله ؟ أم حين التوسل بضريح البدوى ؟؟ .

والأجابة معروفة  مقدماً .

ثم ما هو الأقسى على قلوبهم ؟؟ أن يصرح بالأنكار على البدوي والاعتراض عليه أم يصرح علنا " بسب الدين " ؟ لقد تعودت الأذان على " سب الدين " حتى لم تعد تنكره أما إذا وقف البعض وأعلن كفر البدوي مثلا فإن الصوفي يعتبر القيامة قد قامت فعلاً ، وفى تلك اللحظة الخاطفة التى يهتز فيها الصوفي فرقاً إذا سمع اعتراضاً أو إنكاراً على شخص البدوي ، فإنه يعبر حقيقة وفعلاً عما يعتمل فى كيانه من تفضيل للبدوي على الله تعالى ودينه الحنيف ، ذلك الدين الذى تعود الناس على لعنه وسبه بداع وبدون داع وبدون أن تهتز للقائل أو السامع أى شعره ، أليست هذه هى الحقيقة التى لا نستطيع لها إنكاراً بيننا وبين أنفسنا ؟؟

أرى أن مواجهة الحقيقة "وهى تفضيل الصوفية للبدوي على الله ودينه " أفضل من خداع النفس، لو كنتم تعقلون .. 

 



[1]
الجواهر :46                                               

[2]وأروردها الحلبى فى النصيحة العلوية 30 مخطوط فى المكتبة الأزهرية .                                  

[3]الجواهر 4، 142                          

[4]الجواهر 4، 142                        

[5]الجواهر121

[6]الجواهر 81

[7]الجواهر : 98                                    

[8]الطبقات الكبرى 1r

[9]الطبقات الكبرى 1r

[10]الجواهر : 78، 79.

[11]لجواهر 81، 97

[12]لجواهر 81، 97

[13]الجواهر 97

[14]الجواهر 105 ،108

[15]الجواهر 105 ، 108

[16]الجواهر 119 ’ 109

[17]الجواهر 119 ’ 109

[18]الجواهر 135 ، 124

[19]الجواهر 135 ، 124

[20]الجواهر 115 ، 128 ، 116

[21]الجواهر 115 ، 128 ، 116

[22]الجواهر 115 ، 128 ، 116

 

ف 2 : رابعا : الانحلال الخلقى فى الموالد الأحمدية

إذا فسدت العقيدة فسدت الأخلاق .. وقمة الأخلاق الحميدة تتمثل فى التقوى الإسلامية , كما أن بداية الفساد الخلقي للصوفية تتمثل فى فى أنهم جعلوا من اهوائهم شرعاً أو مصدراً للتشريع , فقد شرعوا لأنفسهم الموالد عيداً وجعلوها عنصراً دينياً ، ثم لم يتورعوا عن الوقوع فى الإثم من خلالها ، ثم ما لبثوا أن سوغوا ذلك وبرروه بشتى التأويلات وفنون التخريجات .

الانحلال فى الموالد الأحمدية

1 ـ لقد أصبح مولد البدوي والموالد الأحمدية أكبر بؤرة للفساد فى مصر المملوكية ولم تمنع مكانة البدوي وخلفائه من الإنكار على ما يقع فى مولده من الإثم والفجور , ولم تكن السلطات المملوكية لتتهم بما يحدث فى طنطا إلا بعد أن تولى السلطان جقمق سنة 842 وقد وصفه ابوالمحاسن بأنه" كان شديداً على من يفعل المنكرات فكسدت فى عصره حال أرباب الملاهى والمسكرات [1] " وفى عصر جقمق تزعم الفقهاء العلامة برهان الدين البقاعي كثائر ضد الصوفية وانحلالهم  الديني والخلقى وهو صاحب ما يعرف فى المراجع التاريخية المملوكية " بكائنة البقاعي وابن الفارض " .. وقد كان للبقاعي دور فى اطلاع جقمق على ما يجرى فى مولد البدوى من انحلال خلقي شاع وذاع وملأ الأسماع فأصدر الظاهر جقمق أمراً بإبطال المولد الأحمدى سنة 801 ، وبسبب هذا الحادث تجرأ المؤرخون فأثبتوا ما يقع فى المولد من انحراف فالسخاوي  يقول أن المولد الأحمدي " كانت تتخذ فيه أماكن تعد للفساد فى تلك الأيام لكثرة الجموع ) [2] .

2 ـ  ثم اضطر الصوفية لإثبات هذا الحادث يقول الحلبى عن المولد " وصار له يوم مشهود ويقصده الناس من النواحي البعيدة , وشهرة هذا المولد فى عصرنا هذا تغنى عن وصفه , وقد قام جماعة من العلماء وممن يتدين فى الأمر بإبطاله لأمور عرضت فيه منها وجود النساء الخطايا واختلاط بعض الفساق بهن فلم يتهيأ لهم إبطاله إلا سنة واحد وخمسون وثمانمائة وكان ذلك فى زمن السلطان جقمق , وكانوا قد أنهوا إليه أن فى مولد سيدي أحمد البدوي يقع فيه محرمات ومفاسد كثيرة بسبب اختلاط الرجال بالنساء [3] "

وقد عرض عبدالصمد لإبطال المولد وقال أنه أبطل سنة 852 , ولم يذكر السبب ثم فصل القول فى موقف من توقف عن القضاء عن الافتاء بإبطال المولد كيحيى المناوى الذى قال " أما أنا فلا سبيل إلى أن أكتب على الفتيا بإبطاله أبداً بل أفتى بمنع المحرمات التى تحضر فيه ومولانا السلطان يرسل خاصكياً او أميراً من جهته يمنع المحرمات التى تحضر فى المولد ويبقى المولد على حاله "[4]

3 ـ ويبدو أن الناس فى هذا العصر قد أدمنت الانحراف فى موسم المولد فلما أبطل المولد فى عام 851 أقاموا مولداً آخر قريباً من طنطا ليمارسوا فيه الإثم يقول السخاوي" عندما أبطل الظاهر جقمق مولد البدوي عمل شخص يسمى رمضان بناحية محل البرج بالقرب من المحلة الكبرى المولد ووقع فيه فساد كبير على العادة " [5]

4ـ وقد نافس مولد الانبابي في انبابه مولد البدوي فى طنطا فى مجال الانحلال الخلقي . ولأنه يقع على مشارف القاهرة فقد حظى باهتمام المؤرخين خصوصا مولد سنة 790 هجرية وهى السنة التى مات فيها إسماعيل الإنبابى خليفة البدوى فى إنبابه . يقول المقريزى عن هذا المولد " كان فيه من الفساد ما لا يوصف ووجد من المزارع مائة وخمسين جرة خمر فارغة سوى ما حكى عن الزنا واللواط "[6]

ويقول ابن الفرات عنه " فى مولد الشيخ إسماعيل بن يوسف الإنبابي حصل فيه من الفساد ما لا يحصى من كثرة الفساد والفساق حتى أشيع انهم وجدوا فى ثانى يوم فى الزرع مائة وخمسين جرة فارغة من جرار الخمر , وفتحت مئات بكورة ( أى أبكار ) وكان يعمل هذا المولد كل سنة ويحضر إلى مولده ما لا يحصى من القاهرة ومصر والضواحي والبلاد " [7] .

وكرر ابن حجر ما تواتر عن المولد وبقايا الجرار الفارغة مع الزنا واللواط (والتجاهر بذلك ) وقال عن إسماعيل أنه " انقطع بزاويته ثم صار يعمل عنده الموالد كما يعمل بطنطا ويجعل فيه من المفاسد والقبائح ما لا يعبر عنه " [8]

يقول ابن الصيرفي فى نفس الموضوع " عمله على عادته فى زاويته , واتفق فيه من المفاسد والقبائح ما لا يمكن شرحه حتى أن الناس وجدوا من الغد فى المزارع من جرار الخمر عدة كثيرة تزيد عن ألف جرة سوى ما شربوه فى الخيم ، وأما ما حكى من الزنا واللياطة فكثير حتى أرسل الله تعالى عليهم فى تلك الليلة ريحا كادت تقتلع الأرض بمن عليها ، ولم يجسر أحد من التعدية فى النيل فأقاموا بذلك البر أياماً حتى سكن الريح .. وقد توفى اسماعيل فى هذه السنة " [9]

وفى النهاية يقول أبو المحاسن عن المولد وصاحبه " صار يعمل المولد فى كل سنة  فيأتيه الناس من الأقطار وترحل إليه من الأطراف ، وتخرج إليه أهل مصر والقاهرة وتضرب بزاويته الخيم ، ويعقد سوق ويجتمع من النسوان والشباب خلق كثير ، فذكروا أنه عمل المولد على عادته فى شهر ربيع الأول سنة 790 فهرع الناس لحضور المجتمع حتى غض الفضاء بكثرة العالم وتنوعوا تلك الليلة فى الفسوق لكثرة اختلاط النسوان والمردان بأهل الخلاعة فتواتر الخبر بانه وجد فى صبيحة تلك الليلة من جرار الخمر التى شربت بالليل فوق الخمسين فارغة ملقاة حول الزاوية فى المزارع ، وافتضت فى تلك الليلة عدة أبكار، وأوقدت شموع بمال كثير ،  فبعث الله فى يوم الأحد بكرة صباح المولد قاصفا من الريح كدرت على من كان هناك وسفت فى  وجوههم التراب واقتلعت الخيم ولم يقدر احد على ركوب البحر ولم يعد يعمل مولداً بعدها فان الشيخ مات فى آخر شعبان سنة 790 [10]

5 ـ إلا أن موت الشيخ لم يؤثر على انعقاد المولد فكان يعقد سنوياً إلى القرن العاشر حتى سجله المؤرخ ابن إياس فى كل عام يؤرخ له من السنوات التى عاشها فى النصف الأول من هذا القرن .

وفى القرن العاشر تمت للتصوف السيطرة الكاملة على الحياة المصرية الدينية والخلقية والثقافية ، وما كان مستوجباً للإنكار فيما قبل أصبح فى عصر الشعراني وابن إياس شيئا عاديا طبيعيا . ويظهر ذلك فى حديث ابن إياس المتكرر عن مولد الإنبابي .. يقول مثلا فى حوادث صفر 913 " كانت ليلة سيدي اسماعيل  الأنبابي ونصبت الخيام فى الجزيرة التى تجاه بولاق وخرجت الناس فى تلك الليلة عن الحد فى القصف والفرجة وكانت ليلة حافلة " وفى العام التالى قال " فى ليلة سيدى اسماعيل الانبابي كانت ليلة حافلة وضربت فى الجزيرة نحو خمسمائة خيمة وخرج الناس فى القصف والفرجة عن الحد " وكرر نفس الكلام فى العام التالى سنة 916 ، وهكذا [11]   أى أصبحت ليلة الإنبابي مناسبة سنوية " يخرج الناس فيها عن الحد " فى المجون والعبث دون استنكار أو احتجاج .

6 ـ وهناك فى الصعيد كان يقام مولد لأبى الحجاج الأقصري .. وهو عضو فى الحركة الشيعة  السرية .. وقد قال فيه الأدفوي " ادعى أتباعه أنه عرج به للسماء وفى مولده السنوي كان عيداً تحضره أصحاب الشنوف والشبابات والدفوف وتختلط الرجال بالنسوان ويجتمع فيه الشباب والمردان وهى من الأمور  الفظيعة والبدع الشنيعة [12]  " ولو كان الأدفوي من مواليد القرن العاشر وما تلاه لما جرؤ على أن يقول هذا الكلام .

الأضرحة والانحلال الخلقى

1 ـ على أن الأضرحة الصوفية كانت مدعاة للخلوة المحرمة ومكانا للتلاقي الآثم كما كانت الموالد مواسم زمنية لممارسة الانحلال الخلقى ، فأصبحت القرافة بما تضم من أضرحة وقباب مواطن مستمرة للانحلال الخلقي فى العصر المملوكي حتى إن النداء كان يتكرر دون جدوى بمنع النساء من الخروج للقرافة لتحاشي ما يقع فيها من فسوق ، واستمرت القرافة بقباباها وأضرحتها تؤدى دورها المزري حتى عصرنا الحديث يقول أحمد أمين فى قاموس العادات المصرية " وكان الناس عادة يبيتون فيها وكانت تحدث فظائع من هذا المبيت ولذلك منعته الحكومة المصرية [13]" .

2 ـ وفى العصر المملوكى كان بعض السلاطين يعين الحرس لطرد بعض طلاب المتعة من اتخاذ قبته التى سيدفن فيها ففى وثيقة وقف السلطان حسن " يرتب عشرة من الخدام الادبة الثقاة الأمنا يقيمون بالقبة المذكورة لحفظها وصيانتها ممن يتطرق إليها من أهل التهم والفساد على جارى عادة أمثالهم فى مثل ذلك [14] " أى اتخذوا من القباب بحكم العادة موطناً للانحراف الخلقي .

ويقول الشعراني فى ترجمة أبى الحسن بن الصائغ " حكى أن شخصاً أراد أن يفعل فاحشة فى أمرد فى مقبرة الشيخ أبى الحسن فصاح الشيخ من داخل القبر : أما تستحى من الله يا فقير [15] "أى الفاعل هنا فقير صوفى .. أى أن الصوفية أنفسهم كانوا رواداً لهذا الإثم فى القباب التى هم قائمون على أمرها ، وإن هذا الإثم اتخذ عادة حتى اضطر الصوفية الكبار ممن لا يهوى هذا النوع من المجون إلى تأليف الكرامات التى تحذر من ذلك وإسنادها إلى الحسن ابن الصائغ بعد موته . وقد عرف الحسن بن الصائغ فى حياته بتحرزه من اتخاذ زاويته موطناً للشذوذ الجنسي كما اعتاد بعض الصوفية ، فهو القائل " لا ينبغي لشيخ رباط الفقراء أن يدع الشباب المرد يقيمون عنده إذا خاف من إقامتهم مفسدة على بعض الفقراء لا سيما جميل الصورة من الشباب " [16]، ويذكر أن المتبولى شيخ الشعراني يبدو فى ترجمته فى الطبقات الكبرى أنه ممن اتخذا زاويته وكراً لهذا النوع من الانحرافات ، وكان متهما به [17].

نعود للصوفية الأحمدية ونذكر أنهم لم يتخلفوا عن الركب فصارت قبابهم موطناً للانحلال أسوة بغيرها ، يروى عبد الصمد عن الشعراني قوله " ومما شهدته من كراماته ـ أى كرامات عبد العال ـ فى سنة سبع وأربعين أن شخصاً راود امرأة عن نفسها فى قبة سيدى عبد المتعال فسمّره ويّبس أعضاءه فصاح حتى كاد أن يموت فأخبروني به فمضيت إلى ضريحه وأمرت بعض الفقراء أن يسأل سيدي عبد المتعال فى الصفح عنه فقرأ الفاتحة ودعا الله فانتشرت أعضاءه وتاب وصار من الفقراء الملاح " [18] ، أى بعد أن انتشرت (أعضاؤه ) وتأدب ( صار من الفقراء الملاح )، وقبل ذلك  لم يكن من الفقراء أى الصوفية ( الملاح ).  ويبدو من النص أن قبة عبد العال الأحمدى كانت داعية للخلوة المحرمة إذا وجدت فيها امرأة ، وأن وجود امرأة فيها كان باعثا للصوفي إذا انفرد بها على أن يفكر فى الإثم ، ولم تكن النساء ممنوعة من دخول القباب ، وللقباب تاريخ طويل فى الانحراف أشرنا إليه ، فاضطر الصوفية لسبك هذه الكرامة التى تشي بما يحدث فى القباب ليحاولوا بها التخفيف أو المنع مما يحدث فيها .. ولو كانوا جادين مثلا لمنعوا دخول النساء للقباب على أى صورة ، ولكن اكتقوا بتأليف الكرامات وأسندوها للشيخ المقبور ، وهى على أى حال تزيد من الاعتقاد فيه .

نعود للشعراني وقد حكى عن نفسه أنه حين دخل بزوجته ( أم عبد الرحمن ) عجز عنها ، فظلت إلى جانبه بكراً خمسة شهور ، ثم أنقذ الموقف فى قبة البدوي ، يقول " ولما دخلت بزوجتي فاطمة أم عبد الرحمن وهى بكر مكثت خمسة شهور لم أقرب منها فجاءني ـ أى البدوى ـ وأخذني وهى معي وفرش لى فرشاً فوق ركن القبة على يسار الداخل وطبخ لى حلوى ودعا الأحياء والأموات إليه وقال : أزل بكارتها هنا ، فكان الأمر فى تلك الليلة [19]" وواضح أن الشعراني كأى رجل يواجه هذه المشكلة خمسة شهور قد جرب كل الوسائل ليثبت رجولته أمام زوحته البكر ، ثم كانت أنجح وسيلة أن يتم (الفتح ) عليه فى قبة البدوي بما للقباب الصوفية من إيحاء جنسي وتاريخ طويل فى تلاقى العشاق ، ونجحت هذه الطريقة فصاغها الشعراني كرامة للبدوي ودعاية لشخصه كتابع أثير ومفضل لدى قطب الأقطاب أعظم أولياء مصر فادعى أنه أخذه و(أم عبد الرحمن ) وجهز لهما فى قبته الفراش وطبخ لهما الحلوى ودعاه لمواقعة " أم عبد الرحمن " .. وهنيئا لك أم عبد الرحمن ، فقد تم "اللقاء " بعد طول " عناء " فى قبة " سيد الأولياء " .!.

وقد رأينا الشعراني نفسه هو الراوي لحكاية اعتراض الولى المقبور على ما يحدث فى قبته من فجور الصوفية بالصبيان والنساء فجعل ابن الصائغ يصرخ من قبره فيمن حاول الأثم مع صبي وجعل عبد العال يعاقب من راود امرأة فى قبته ، ولا ينبغى أن نتخذ من ذلك دليلاً على جدية الصوفية فى حرب المنكرات التى تقع فى موالدهم وقبابهم بدليل أن الشعرانى نفسه لجأ لأعظم وأقدس قبة عند الصوفية وهى قبة البدوى ليحل مشكلته مع ( أم عبد الرحمن )، فهذا الفعل الجنسى ، حتى ولوكان حلالاً فلا ينبغى الإتيان به فى مكان مقدس مطهر عند أتباعه، اللهم إلا إن كان المكان المقدس لا يمانع أصحابه أنفسهم فى اتخاذه ملاذاً للمتعة حلالاً كانت أم حراماً ، فهم المشرعون ، وطالما نصبوا من أنفسهم محللين ومحرمين وتركوا شرع الله تعالى فإن الشيطان هو المصدر الحقيقى الذى يستقون منه التشريع ، فالشيطان هو الذى سوغ لهم ما تريده أهواؤهم ، وهو الذى أسبغ عليها شتى التعليلات والتخريجات ، (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ .. (3) محمد) (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) محمد) (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) محمد).

مسئولية الصوفية فى الانحلال الخلقي فى الموالد :

وقد يعترض البعض بأنه لا شأن للصوفية فيما يحدث من انحراف خلقي فى الموالد . وكم كنا على استعداد لتصديق هذا الزعم لولا أن المصادر الصوفية نفسها تأبى ذلك .

 

1ـ فالصوفية يؤمنون بشفاعة الأولياء لأتباعهم ، وأولياء الصوفية يعلنونها صراحة ، فالدسوقي يقول فيما يرويه عنه الشعراني " أنا بيدي أبواب النار غلقتها وبيدي جنة الفردوس فتحتها ، من زارني أسكنه جنة الفردوس [20] أى من زار مولد الدسوقي أسكنه الدسوقي جنة الفردوس التى يحتفظ بمفتاحها فى جيبه ، والبدوي عند الصوفية أعظم شأنا من الدسوقي فلابد أن تكون شفاعته أكبر ، ولأن مولد البدوي أضخم من مولد الدسوقي والانحراف فيه أشد فالمنتظر أن تتوجه شفاعة البدوي لتكون فى خدمة من ( يبالغ فى الاختلاط بالنساء ) فى زحمة المولد حيث ( البساط أحمدي ) .

يقول الشعرانى ( أخبرني شيخنا محمد الشناوي أن شخصا أنكر حضور مولده فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد فقال : بشرط أن لا تعود ، قال نعم ، فرد عليه ثوب إيمانه ثم قال له : وماذا تنكر علينا قال : اختلاط الرجال والنساء فقال له سيدي أحمد : ذلك واقع فى الطواف ولم يمنع أحد منه ثم قال : وعزة ربى ما عصى أحد فى مولدى إلا وتاب وحسنت توبته وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك فى البحار وأحميهم من بعضهم بعضا أفيعجزنى ربى عن حماية من يحضر مولدي [21] )  ففى هذا النص دفاع عن الانحراف بثلاثة أوجه :

 أولا: إن " الاختلاط " واقع فى الطواف حول الكعبة ولم يمنع منه أحد وضريح البدوي كالكعبة والحج إليه كالحج لبيت الله الحرام ، وما يجوز هناك يجوز هنا .

ثانيا: أن تصريف البدوي يصل إلى حد مقدرته على فرض التوبة على من عصى فى المولد فسرعان ما يتوب بعدها .. ثم يعود للعصيان فى المولد ويتوب بعدها وهكذا ،فلا حرج على رواد المتعة فى المولد الأحمدي والبدوي بيده مقاليد التوبة يهبها لزواره بعد أن يأخذوا حظهم من المتع فى المولد .. فالانحراف مستمر والتوبة أيضا مستمرة والمولد طبعاً مستمر .

ثالثا: ثم إذا تأزمت الأمور فتصريف البدوي عظيم وإذا كان يصل بقدرته إلى التحكم فى الوحوش فى الغابات والأسماك فى البحار ألا يستطيع أن يشفع لزواره ويحميهم من العقاب ؟؟ فلا عليكم يا زوار البيت " الحرام " فى طنطا فذنبكم مغفور مقدماً. أما أنت أيها المعترض على ما يحدث بالمولد فجزاؤك أن يحل بك غضب البدوي فيسلبك حلاوة الإيمان ..

وفى ذلك يقول أحدهم :

        وأعجب شيئ أن من كان عاصياً               بمولده يعنى به  ويرفق[22] .

  ويبدو أن حدة الانحراف فى المولد الأحمدي بطنطا قد اشتدت فى العصر العثماني حتى اضطر عبدالصمد لتبرئة البدوي مما يحدث فى مولده ، وكان أولى به أن يطالب بمنع المولد نفسه لو صدق مع الحق ، يقول " إعلم رحمك الله تعالى أنه قد يعترض بعض الناس على سيدي أحمد البدوي ويقول : إذا كان له هذا المدد العظيم والتصريف النافذ بعد الموت أيضا فكيف لا يتصرف فى دفع أصحاب المعاصي عن حضوره ؟ فإعلم رحمك الله تعالى أن الجواب عن هذا من وجوه :

أحدها: أنه خرج عن دائرة التكليف بإنه  فى مقام لا تكليف فيه وهو البرزخ .

الثانى:أنه قد يكون من عناية ربه أن من حضر مولده بمعصية يتوب الله عليه ولو بعد حين .

الثالث: أن الغالب على حال سيدي أحمد  بعد وفاته البسط [23] " .

أى الأنبساط و " الأنشكاح " وطالما كان البدوي مبسوطا " فلن يستوحش من أكثر الأشياء ولا يؤثر فيه ما يحدث عنده " حسبما يقول عبدالصمد [24] خاصة وقد خرج عن دائرة التكليف وهو فى البرزخ ، وإن كان ذلك لا يؤثر فى تصريفه وشفاعته فيمن يعصي فى مولده ، وطبعا فإن ما يقوله عبدالصمد هو دفاع هزيل وحجج متناقضة قصد بها أن يدافع عن شيخه حتى لا يصل الإنكار إليه ولا يتحول من إنكار على " معاصي المولد " إلى إنكار على" صاحب  المولد " .

2ـ  على أن هناك فارقاً بين العاصي العادي والعاصي الذى يقارف الذنب معتقداً أن شيخه سيشفع له أو باحثاً عن تأويلات وتبريرات المعصية التى يدمنها : فالعاصي العادي يقر ويعترف بخطئه وأن ما يفعله فسوق هو أقرب للتوبة إلى الله فلا وساطة بينه وبين ربه ،أما الصوفي الذى يحلّ المعصية ويصبغ عليها الأعذار وينشد الشفاعة فلا أمل فى توبته لله لأنه جعل واسطة بينه وبين الله ، ثم أعلن أن تلك الواسطة تبارك معصيته وتشفع له ، ومن هنا نفهم أن المشرك لا أمل له فى غفران الله فكل ما يصدر عن المشرك من معاصي لا مجال فيها للتوبة طالما ظل مشركاً .. لأن عقيدته كفر فى أساسها  وليس بعد الكفر ذنب ، وكل ما يصدر عن الكفر من ذنوب لا علاج لها إلا بمحو الشرك والكفر أولاً .. وبعدها نتكلم عن الأخلاق فبهذا بدأت دعوة الإسلام فى مكة المنحلة دينياً وخلقياً فبدأت بتطهير العقيدة وإذا طهرت العقيدة طهر معها الجسد .. ونأمل أن يستفيد المعاصرون من هذا الدرس فلا يقصروا الأصلاح على علاج ما يحدث فى المولد مع بقاء المولد ، بل لابد إن أرادوا الإصلاح فعلا أن يبطلوا الموالد وسائر ما أحدث من تشريع وبدع تناقض شرع الله ، وحينئذ يستقيم الناس لشرع الله فى العقيدة والسلوك والأخلاق ، فالله تعالى حين انزل شرعه للناس كان الأعرف بهم الأعلم بما يصلحهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ " .

3 . والواقع أننا نكلف الصوفية الأحمدية شططاً إذا طالبناهم بإصلاح أتباعهم ودعوتهم للخلق القويم فى الموالد وعند القباب ، ليس فقط لأن إصلاح هذه الجماهبر الغفيرة أمر متعذر ، وليس فقط لأن هدف الأحمدية الأساسى منصب على الترويج للمولد والدعاية له طمعاً فى النذور .. ولكن لأن الصوفية الأحمدية هم فى الأصل أكثر انحرافاً وانحلالاً وأولى الناس بإصلاح أنفسهم والأحوج إلى الوعظ والإرشاد ..

ونحن لا نتجنى على الصوفية الأحمدية ورفاقهم من أتباع الدسوقي " الفقراء الإبراهيمة" فقد زاعت شهرتهم فى مجال الانحلال الخلقي حتى إضطر الشعراني فى القرن العاشر للإنكار عليهم وقد عهدنا الشعراني مدافعاً عن التصوف بوجه عام والمولد الأحمدى بوجه خاص .. ولكن الغلو فى الانحلال الخلقى للفقراء الأحمدية والبرهامية وغيرهم دفعه دفعاً للإنكار عليهم حفظاً للطريق الصوفي من أن يمتد الإنكار من مجرد إنكار على الطوائف المنحرفة إلى إنكار على دين التصوف من اساسه .

يقول الشعراني أن الفقراء الأحمدية " أتباع البدوي " والبرهامية " أتباع الدسوقي" والقادرية " أتباع عبدالقادر الجيلاني " يأخذون العهد على المرأة  ثم يصيرون يدخلون عليها فى غيبة زوجها [25]

  أى أنهم اتخذوا من التصوف طريقاً للوصول إلى النساء بدعوى أنها صارت بنته أو أخته فى الطريق وتحت هذا الشعار يخلو بها ويزنى بها . وبهذه الوسيلة اشتد خطر الصوفية الأحمدية ورفاقهم على المجتمع المصري فى عصر الشعراني حتى اضطروه لأن يقول ( إياك أن تمكن جاريتك أن يأخذ أحد من فقراء الأحمدية أو البرهامية عليها العهد إلا مع المحافظة على آداب الشريعة، فإن كثيراً من الفقراء يعتقد أنه صار والدها يجوز له النظر إليها وترى هى كذلك أنها صارت إبنته ولها أن تظهر وجهها له، وكل ذلك خروج عن الشريعة وربما جعل إبليس ذلك مقدمات الزنا ... وقد حدث مثل ذلك لبعض إخواننا ورأى صاحبه يفعل الفاحشة فى زوجته [26]) .

وما تلطف الشعراني فى التحذير منه فى القرن العاشر أعظم الفقيه الصوفى ابن الحاج الانكار عليه فى القرن الثامن حين بدأ الاحمدية فى بدعة المؤاخاة مع النساء كستار لانحلالهم الخلقى ، ولم تكن تلك المؤاخاة إلا مجرد بدايات لم تأخذ بعد حظها من الانتشار ، ومع ذلك فإن ابن الحاج ندد بهذا الصنيع فقال ( آخى بعضهم بين الرجال والنساء  من غير نكير ولا استخفاء ثم لم يقتصروا على ذلك بل كانت بعض النساء يعيش مع بعض الرجال ويزعمون أنها أخته من الشيخ وقد آخته فلا تتحجب عنه [27]) .

وبازدياد التصوف وعلو شأن الأحمدية  ازدهر الانحراف وانتشرت طريقة المؤاخاة مع تغلغل الطرق الأحمدية وفروعها فى المدن والقرى المصرية ..وإذا كان ابن الحاج قد انكر فى القرن الثامن على ( البعض الذى آخى بين النساء والرجال ) فإن فقيها صوفياً آخر فى القرن التاسع انكر شيوع هذه الظاهرة فقال ( وقد فشا فى هذا الزمان مؤاخاة الفقراء للنسوان ويدخل إليها وتدخل عليه ويختلى بها ويزنى بها ، وكثير منهم يزعم أن المرأة تصير أخته يدخل عليها متى شاء بإذن زوجها وبغير إذنه ويختلى بها ويتعانقان بالظهور والصدور وما لا ينبغى ذكره ويقولون هذه محبة الفقراء فيزنى الرجل بالمرأة وهى أيضا تزنى به [28]) واستمرت هذه الظاهرة فى الشيوع فى القرن العاشر ـ عصر الشعرانى ـ يؤيدها التشريع الصوفي بأنها ( مؤاخاة) و (محبة فقراء ) حتى اضطر الشعراني للإنكار عليها على استحياء وباستعمال أسلوب الاستثناء الفقهى ، كقوله ( إياك أن تمكن جاريتك أن يأخذ أحد من فقراء الأحمدية أو البرهامية عليها العهد إلا مع المحافظة على آداب الشريعة ) فهو لم يمنع إعطاء العهد الأحمدي والمؤاخاة تماماً وإنما أجازهما بشرط الحفاظ على آداب الشريعة .. كأن الشرع يجيز ذلك العهد من أساسه ويجيز مبدأ المؤاخاة طالما حافظ " الأخوة " على آداب الشريعة. فالشعراني يتلاعب بالألفاظ لكى يوفق بين الشرع الاسلامى والتصوف ولا يمكن التوفيق بين عقيدتين متعارضتين .

وقد ذكر عبد الصمد أن أولاد المعلوف كانوا " على غير نعت الاستقامة وكل من تعرض لهم بأذى جاءته الدواهي "[29] أى مع كونهم منحرفين على غير الطريق المستقيم فقد أضفى عليهم البدوي الحماية لأن جدهم المعلوف كان مقربا للبدوي " وكان سيدي أحمد يباسطه حتى لم يكن يدخل دار سيدى أحمد راكبا غيره .. وله أولاد على غير نعت الاستقامة وكل من تعرض لهم بأذى جاءته الدواهي .. " فالبدوى يبسط حمايته لأقرب أتباعه وأولادهم ويحظى زواره بالشفاعة ومع ذلك فهو فى دار البرزخ حيث قد خرج عن دائرة التكليف ولا مسئولية عليه فيما يفعل ، أليس هذا مضحكاً ؟ وشر البلية ما يضحك !

ويقول عبد الصمد إن عبد الكريم خليفة المقام الأحمدى توفى مقتولاً سنة  726[30]، وقد كان سوء سيرته سببا فى قتله وقد تولى الخلافة بعده " صبى من أقاربه " يحتمل أن يكون إبنه كما ألمح إلى ذلك ابن إياس [31].أى إبنه من الزنا .

أولئك هم خلفاء المقام الأحمدي .. أدمنوا الانحلال ونشروه بين المصريين فى الموالد ثم تسلطوا على نساء المصريين فأفسدوهن بحجة ( المؤاخاة) و ( محبة الفقراء ) .

4 ـ والواقع أن الموالد وما يصاحبها من انحراف خلقى نظام عرفه المصريون منذ العهد ( الفرعوني ) وأنه استمر فى العصر ( القبطي ) ثم فى العصر ( الصوفي ) إلا أن الفارق يتمثل فى موقف أصحاب الموالد ( القبطية ) أو ( الصوفية ) من مظاهر الانحراف الخلقى المصاحب للموالد .

ففى العصر اليونانى والرومانى كان الشعب بعد اعتناقه للقبطية كلما اشتهر قديس فى منطقة توافد عليه محتفلاً به حيث تنصب آلاف الخيام لمدة تصل لاسبوع كامل فتقام الصلاة والقداسات وتقرأ سيرة القديسين وتقدم النذور وتنحر الذبائح ، ولا تخلو من اختلاط بين الجنسين وانحلال خلقي ، إلا أن أولي الامر من كبار الكنيسة وقفوا موقفاً حازما من هذا الفساد ، يقول الانبا شنودة فى القرن الخامس الميلادى يعظ الجماهير المحتشدة فى أحد الموالد (جميل جداً أن يذهب الإنسان إلى مقر الشهيد ليصلى ويقرأ ، أما من يذهب ليتكلم ويأكل ويشرب ويلهو أو بالأحرى يزني ويرتكب الجرائم نتيجة الإفراط فى الشراب...فهذا هو الكافر بعينه، وبينما البعض فى الداخل يقرءون ويرتلون..إذ بآخرين فى الخارج يملأون المكان بآلات الطبل والزمر..لقد جعلتم الموالد فرصة لتدريب بهائمكم ولسباق حميركم وخيلكم ، جعلتموها أماكن لسرقة ما يعرض فيها للبيع [32]) . لم يحاول الأنبا شنوده إعلان الشفاعات وتبرير الانحرافات ولم يشارك فى الانحلال بحجة المؤاخاة أو المحبة، كما أنه لم يرض بأن يسرق أتباعه بضائع التجار الواردين للمولد كما كان الصوفية يفعلون فى المولد الأحمدى بحجة أن البدوى يملك بلاد الغربية وهم أتباعه وأحق بالتمتع بأملاكه .

أولئك هم الصوفية الأحمدية. لم يطاولهم فى الانحلال الدينى والخلقى أحد فى التاريخ المصرى الممتد لآلاف السنين.

إن انحلال الصوفية الأحمدية أمر مقرر دلت عليه كتبهم .ولكن ما هى مسئولية البدوى فى تردى أتباعه ؟   

 

 



[1]
المنهل الصافى , مخطوطة 2/ 736ـ  727

[2]التبر المسبوك 176

[3]النصيحة العلوية ـ مخطوط بمكتبة الأزهر 48ب

[4]الجواهر 70 .

[5]التبر المسبوك 177

[6]السلوك 3/ 576 .

[7]تاريخ ابن الفرات 9 / 1/27  , 42: 43 .

[8]أنباء الغمر 1/350 : 351 ، 357 .

[9]نزهة النفوس 1/ 169 ، 180

[10]المنهل الصافى 1/ 556: 557 .

[17]نفس المرجع 1/ 139 ، 2/77 : 78 : 80 .

[18]الجواهر 24 .

[19]الطبقات الكبرى 1/161 .

[20]الطبقات الكبرى 1/ 157 .

[21]الطبقات الكبرى 1/162 .

[22]الجواهر 12، 71

[23]الجواهر 120/ 71

[24]الجواهر 120/ 71 .

[25]لواقح الأنوار323، 180 .

[26]لواقح الأنوار323، 180

[27]المدخل لابن الحاج 2/ 204

[28]المقدسى الرجائى . مخطوط : حكم الأمراد ورقه 51 .

[29]الجواهر 29 .

[30]الجواهر 25

[31]تاريخ ابن إياس 2/ 61

[32]مراد كامل ، تاريخ الحضارة المصرية ـ 2/ 397 ـ 398

 

 

خامسا : مسئولية البدوي

 

1 ـ تواجه الباحث فى سيرة البدوي مشكلة أن ما كتب عنه قد يمثل فى الحقيقة فكرة أتباعه عنه واعتقادهم فيه ، وقد لا يمثل بالضرورة أفكار البدوي بالنص والحرف. ويزيد من صعوبة المشكلة أن البدوي كان ضحل الثقافة ضيق الوقت لانشغاله بدعوته السرية فلم يترك مؤلفاً نحكم به له أو عليه اللهم إلا بعض الأشعار والأوراد والأحزاب  البسيطة التى لا ترقى إلى مستوى شهرته ولا تضارع ما تركه الآخرون كالشاذلي والمرسي والدسوقي من أوراد و أحزاب ومؤلفات ..ثم إن أحزاب البدوي ووصاياه لا تمثل فكراً متميزاً وإنما هى مجموعة من الآيات والوصايا التى تتردد على الألسنة ومن السهل أن تنسب لأى شخص ، الأمر الذى يجعلنا نشك أنه قالها فعلا ، وربما نسبها له عبد العال أو غيره فلا تفترق عن كلمات الأحمدية فى شىء. وتظل ( أغلب كلمات ) البدوى الحقيقية سرا دفن معه كما هو الشأن فى دعوته السرية وسائر ألغازه .

ومن هنا فإننا نواجه مشكلة حقيقية حين نحاول تحديد المسئولية بالنسبة للبدوى عما اقترفه أتباعه من بعده حين قدسوه وعبدوه وعاملوه كإله ثم أفسدوا أنفسهم والناس معهم خلقياً بشتى الخرافات والمعاذير والتأويل .

وكان ممكنا أن نصدق الصوفية الأحمدية فيما نسبوه للبدوي من شعر وقصص يحث الناس على الحج إليه وتقديسه أو أنه يشفع لهم إذا انحرفوا فى مولده فهو الذى يحمى الوحوش والأسماك .. إلخ. كان من الممكن أن نجعل البدوي مسئولاً ونصدق افتراء الأحمدية عليه فى دعوتهم المحمومة للدعاية للمولد والاستفادة به بعد موته ، ولكننا رفضنا أن نصدق ما كتبه الصوفية أنفسهم من نصوص قاطعة تدين البدوي ، لا حباً فى البدوي ولا خوفاً من تصريفه المزعوم وإنما إنصافاً للحق .. فالبدوي فى نظرنا مجرد إنسان عادى مات وانقطعت صلته بالاحياء ويواجه مصيره المحتوم أمام خالقه تعالى ، ولا يعقل أن يخرج لسانه من قبره داعياً لمولد أو منكراً على من يحتج عليه ، لهذا وضعنا الأمور فى نصابها فنسبنا هذه الأقوال إلى الأحمدية وحاسبناهم عليها ولم نعتبر البدوي مسئولا عنها .

ولكن إنصاف البدوي فى البعض لا ينفى اتهامه فى البعض الآخر ، فنحن فى النهاية نحتكم إلى ( عقل) مجرد عن الهوى وإلى (علم ) بالتصوف ورجاله وعقائده ، منذ أن بدأ التصوف على استحياء مضطهدا فى القرن الثالث إلى أن عقد الغزالي الصلح بينه وبين الإسلام فى القرن الخامس ثم إلى أن انتشر وبدأ فى النمو السريع منذ القرن السابع " عصر البدوي "، وظل فى الانتشار إلى أن تحكم فى الحياة الدينية تماما فى القرن العاشر وما تلاه ، وأصبح الصوفية الذين كانوا مضطهدين فى القرن الثالث يضطهدون خصومهم فى القرن السابع كابن تيمية وفى القرن التاسع كالبقاعي ، ثم انعدم خصوم التصوف تماما فى العصر العثماني حيث تمت له السيطرة والنفوذ .

وبالعقل الذى يحدد ما للبدوي من أقوال وما افتروه عليه ، وبالعلم بتاريخ التصوف وعقائده ورجاله ومدارسه بين تصوف نظري أوعملي وتصوف شيعي أو تصوف خاضع للسلطة السياسية ، بذلك كله نستطيع أن نلقي أضواء كاشفة على ما خفي من سيرة البدوي الحقيقة لنتعرف على مسئوليته الحقيقة فيما وقع فيه أتباعه من بعده.وليس أمامنا من طريق آخر لبحث حقيقة البدوي؛ذلك ( المجهول ) المشهور (الغامض ) المعلوم .

2 ـ ويمكن القول أن البدوي يتحمل مسئولية عامة عما اقترفه الأحمدية من بعده ، فهو الذى تستر بالتصوف فى دعوته السرية وضم إليه الأحمدية أتباعاً وزعهم فى المدن والقرى ، ثم إذا فشل فى دعوته السياسية استرسل فى دعواه الصوفية وتبعه أنصاره الموزعون فى النواحي .

ولكن البعض ينكر تماماً أن يكون للبدوي نشاط سري سياسي وهو يراه صوفياً حقيقياً لا متستراً بالتصوف ، ونحن لا ننكر صلة البدوي بالتصوف فسواء تستر بالتصوف أو أخلص فى طريقه الصوفي فصلته بالتصوف قائمة وبالتصوف كانت شهرته ثم بالتصوف أيضا تكون مسئوليته ، وإذا وافقنا هذا البعض على أن البدوي متصوف فقط فإن مسئوليته تكون أفدح وأعظم ؛ فعلى هذا فإن تصوف الأحمدية المنحرف يرجع إلى ما نشأوا عليه فى مدرسة البدوي التى استمرت من (637 ) إلى وفاته سنة (675) فالمسئولية هنا كاملة لا يخفف منها عامل التستر والاستغلال الظاهري للتصوف . وإذا كان البعض يصر على اعتبار البدوي صوفياً وصوفياً فقط فإننا نرى أن اتهام البدوي بالتصوف كاتهامه بالكفر تماماً ، إذ أن التصوف فى حقيقته تقديس للبشر واضفاء صفات الالوهية على الاولياء أحياء أو أمواتا كما وضحنا فى نظرية الصوفية للبدوي وتأليههم له .

3 ـ ومع أن ثقافة البدوي البسيطة ووقته المشحون بالدعوة السرية قد قللا إلى حد كبير من أقواله الصوفية التى نحكم بها على عقيدته فإن طابع التصوف فى عصر البدوي وما قاله رفاق البدوي فى الدعوة كل ذلك يجعلنا نؤكد أن تصوف البدوى لم يفترق عن التصوف السائد فى القرن السابع حيث عاش البدوي وربى أتباعه وأنشأهم كصوفية لا يفترقون فى شىء عن أقرانهم من الصوفية إن لم يزيدوا عنهم إنحرافاً . ولكى نثبت هذه الحقيقة فسنعرض للعقائد الصوفية وأقوال المعاصرين للبدوى فيها ثم أقوال البدوى نفسه كما جاءت فى كتاب عبد الصمد لنرى إلى أى حد كان هناك اتساق وتناغم بينها جميعاً .

4 ـ و" الاتحاد" اهم عقائد التصوف . ويعنى أن الصوفي بالمجاهدة يستطيع الوصول لله والاتحاد به فيكون جزءاً منه أو يتحقق بالحق ويكون العبد زماناً فانياً فى الحق تعالى. وفى بداية التصوف كانت الغلبة للسنة    وسيف الاضطهاد مسلط على كبار الصوفية حتى اعتقل معظمهم فحوكم وقتل البعض كالحلاج ـ حينئذ كان الصوفية يعبرون عن عقيدة الاتحاد بالرموز والايحاءات كقول الجنيد " التوحيد هو الخروج من ضيق رسوم الزمانية إلى سعة بقاء السرمدية [1]" أى الخروج من البشرية الفانية إلى الألوهية السرمدية .. وعلى نفس النسق الموحي يقول رويم ( التوحيد هو محو آثار البشرية وتجرد الألوهية [2]) أى محو البشرية فى العبد ليتحد بالله وتتجرد فيه الألوهية ، أو يقول " للعارف ـ أى الولي الصوفي ـ مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه [3]" أى أن الألوهية كامنة فى الولي الصوفي فإذا أراد اتحاداً بالله فى أى وقت تجلى له مولاه فاتحد به .. أما أبو سعيد الخراز " أول من تكلم فى علم الفناء [4]" أى (علم الاتحاد) فقد كان أكثر صراحة فى التعبير فقد قال " إذا أراد الله أن يوالى عبداً من عبيده فتح له باب ذكره ، فإذا استلذ بالذكر فتح عليه باب القرب ثم رفعه إلى مجلس الأنس ثم أجلسه على كرسي التوحيد ثم رفع عنه الحجب فادخله دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقى بلا هو فحينئذ صار العبد فانيا فوقع فى حفظ الله " أى تم اتحاده به " وبرىء من دعاوى نفسه [5]  أى تخلص من أثر البشرية فى ذاته .

ثم جاء الغزالي فى القرن الخامس فتوسع فى شرح عقيدة الاتحاد الصوفية وحاول ربطها بالإسلام فى كتابه الاحياء فى مواضع متفرقة حيث دعمها بأقوال فى وحدة الوجود التى توسع  فيها ابن عربي فيما بعد. ولسنا فى مجال الإطالة هنا ولكن نستشهد ببعض أقوال الغزالي فى الاتحاد فهو يقول " إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له [6]" ويقول إن من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية[7]وروى عن صوفي لم يحدد أسمه قال " إنى أقول يارب يا الله ، فأجد ذلك على قلبى أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب ، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه [8]" أى يدعو لعدم توسل الصوفي بالله لأن الفوارق بين العبد والرب قد زالت  ولم يعد هناك حجاب ولم يعد رب وعبد وإنما تكافؤ وتماثل .

وفى القرن السادس بدأت الدعوة الشيعية الصوفية وكان الرفاعي زعيمها فى العراق فارتبطت لديه دعوة الاتحاد الصوفي بادعاء الألوهية فيقول " إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله وصارت همته خارقة للسبع سموات وصارت الأرضون كالخلخال برجله وصار صفة من صفات الحق جل وعلا لا يعجزه شيئاً وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه " [9]. وفى القرن السابع برز فى مصر إبراهيم الدسوقى وهو القائل عن الله تعالى [10]:

         تجلى لى المحبوب فى كل وجهة             فشاهدته فى كل معنى  وصورة

        وخاطبني مني بكشف  ســـــــــــــــرائري             فقال أتدري من أنا قلـت منــــــــيتي

        فأنت منائي بل أنا   أنـت   دائما             إذا كنت أنت اليوم عين  حقيقتي

         فقـال  كذاك  الأمر   لكنه   إذا              تعينت الأشياء كـــــنت كنســـــــــــختي

         فأوصلت ذاتى  بإتحادى    بذاته            بغير حلول  بل   بتحقيق نسبتي

والدسوقى رفيق للبدوي فى الدعوة والتستر بالتصوف والصلة بينهما حميمة وكلاهما ينتمى صوفياً وسياسياً للرفاعي .

5 ـ وقد جاء فى سيرة البدوي أنه حين زار العراق توجه لضريح الحلاج [11]،والحلاج أبرز الصوفية المتشيعين وممن أعلن عقيدة الاتحاد صراحة .ويقول البدوي متابعا لمقالة الرفاعي السابقة فى مزج الاتحاد بإدعاء الألوهية وتمنى التحكم السياسي [12]

           سائر الأرض كلها تحت حكمي             وهى عندي كخردل فى فلاء

           وإذا  بان   فى   الولاية  غوث             فهو من تحت قبضتي وولائي

          أنا  سلطان  كل    قطب  كبير             وطبولي   تدق  فوق  السماء

ويقول البدوي على نسق  الدسوقي فى تائيته السابقة [13]

         وباسطني عمداً فطاب خطابه              فيا طيبها  من  حضرة  صمدية

         فغيبني عني فصرت  بلا   أنا             دهشت  بمرآة  ووحدت   وحدتي

        فتوجني تاجاً من  العز   والبها             ومن خلع التشريف ألبسـت خلعتي

        من فوقها طرز  الوفاء  بنـوره              مكللة    من  فيض   رب   البرية

        أنا قطب أقطاب الوجود باسـره             وكل    ملوك   العالمين    رعيتي

        أنا أحمد البدوي قطب بلا خفا             عـلى  الأقطاب   صحت    ولايتي

6 ـ ومع ذلك فإن عقيدة الاتحاد الصوفية لم تكن تستهوى المتصوفة الشيعة بالذات ، ربما لأن عقيدة الأتحاد كانت اشتراكية بعض الشئ فأعطت لكل  صوفي الحق فى إعلان  اتحاده بالله بل وتوسع بها الغزالي ثم ابن عربي فجعلوا من الكون كله شريكاً لله فى وحدة الألوهية أو ما يعرف بوحدة الوجود أى أنه لا فارق حقيقي بين الخلق والحق [14]

والتصوف وليد التشيع ، ولكن حين بدأ التصوف يأخذ نوعا من الاستقلالية ويوسع دائرته بإعلان عقيدة الاتحاد الأكبر أو وحدة الوجود بدأ البعض بنحلة جديدة هى الحقيقة  المحمدية التى واكبت وحدة الوجود ، إذ صدرتا معاً بتوسع عن ابن عربي وذلك لكى يحفظ للتشيع ذاتيته الخاصة داخل العقائد الصوفية.                                                                                                                                                      

والحقيقة المحمدية تعنى أن حقيقة محمد أزلية جاءت من نور الله تعالى قبل خلق العلم وقد تنقلت فى الأنبياء إلى أن ظهرت فى محمد عليه السلام وبعده انتقلت إلى على بن أبى طالب فالأئمة الأولياء من بعده ثم تنقلت فى الأقطاب إلى أن حلت فى الرفاعى ثم الدسوقي والبدوي وهكذا . وقد بدأت هذه النحلة فى العصر العباسي بمذهب الشلقاني المقتول سنة 322 وقد عرض ابن الأثير لأقاويله فى التناسخ وحلول الألوهية فى الأئمة بما يشبه مقولة الصوفية الشيعة فى الحقيقة المحمدية ثم قال ابن الأثير :" وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيرية ولعلها  هى  ويقول الدسوقي شعرا [19]  :

        نشأتي فى الحــــــــــب من قـبل آدم           وسرى فى الأكوان من قبل نشأتي

       أنا كنت فى العلياء مع نور أحمد          على  الدرة  البيضاء  فى  خلويتي

        أنا كنت فى رؤيا  الذبيح  فـــــــــــــداءه          بلطف   عنايات   وعين   حقيقة

        أنا كنت مع أدريس لما أتى الــــــــعلا         وأسكن  الفردوس   أنعم      بقعة

       أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقا         وأعطبت   داود   حلاوة    نغـمة

       أنا كنت مع  نوح  بما  شهد  الورى        بحارا  وطوفانا   على   كف  قدرة

       أنا القطب شيخ الوقت فى كل حـالة         أنا العـــــبد  إبراهيـم شيخ الطــــــــــــريقة

وعلى نفس النسق يقول البدوي [20]:

        دعني لقد ملك الغرام أعنتــــــــــــى           لكننى  خضت البحار  بهـــــمتى

        أصبحت فى جــــــــنباتها متجــــــردا          بين الصفا أسعى وبين المــــــــروة   

       فقرأت من توراة موسى تســــــــــــعـة          تليت على موسى لها  لم يثبــــــــــت

      وقرأت من إنجيل عيــــــسى عشـرة          تليت عن عيسى فزادت رفــــــــــــعتي

      وقرأته     وفهـــــــــــــمته     وشـرحته        وجعلت فيه من شواهد حكمــــــــتي

     أنا صاحب الناموس سلطان الهوى         أنا  فارس  الانجاد  حامي مكة

     أنا  أحمد  البدوي  غوث  لا  خفا         أنا  كل  شبان  البلاد   رعيتي

ويقول البدوي فى قصيدة  أخرى [21]:

     طاب وقتى بالرتبة العــــــــــــــــــلـياء               فى الأرض والجو ثم  السماء

    ودعتنى الأملاك من كل قطر               وأتـوني تـبركوا بدعــــــــــــــــــــــــــــــــــــائي

     أنا من قبل قـبل وجـــــــــــــــــــودي                كنـت غوثا فى نـــــــــــــطـفة الآبـاء

     أنا بــــــــــــــــــــــــحر بلا قـرار وقــد                شرب العارفون من بعض مائي ..

والدسوقي كان يقول " أنا فى السماء شاهدت ربي وعلى الكرسي خاطبته [22]، وكرر البدوي هذا المعنى شعراً فقال [23]:

    أنا من قبل وجودي فى الورى         كنت قطباً وإماماً واصـلا

    أنظر الكرسي وما فوق السما         ورأيت الحق لى قد انجلى

    ليس لي شيخ ولا لي قــدوة           غير خير الرسل طه الاولا ..

7 ـ وقد تأثر الأحمدية بعقيدة البدوي فترددت أقوال لهم تعكس الحقيقة المحمدية، فعبد الصمد يقول فى أول كتابه " الحمد لله الذى أطلع الأنوار الأحمدية فى سماء الشهود وجلا جمالها فى مرأة الوجود فأشرقت أنوراها حتى اقتبس منها كل موجود " إلى أن يقول أو أشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وخليله الأول فى الايجاد والوجود المستغرقة حقيقته الآحاد والأنواع والأجناس والوفود ".

والشهاب العلقمي يمدح البدوي بأسلوب الحقيقة المحمدية فيقول له [24]:

      أنت بحر البحر نقـطة فيـــــــــــــــــض      من نبي سادت به الأنبياء

     ورأيت الذى له خر موسى صعقا     قـبل أن يـرى ما شـــــــــــــــــــــاء

وترددت عقيدة الاتحاد فى وصف البدوي فقال عنه أتباعه فيما يرويه الشعراني " حصلت له جمعية على الحق تعالى فاستغرقته إلى الأبد ولم يزل حاله يتزايد إلى عصرنا هذا [25]أى أنه اتحد بالله ـ تعالى عما يصفون ـ وإن هذه الحالة فى تزايد مستمر إلى عصر الشعراني ..

وعبر الشمس البكري عن هذا المعنى شعرا فقال عنه [26]:

الله جلا جلاله بالحق أشهد          أن الإله  جماله   للقوم  أشهد

وأنالهم رتب السيادة والعلا         لا سيما بدريهم ذو المجد أحمد

سر الحقيقة والشريعة والذي        مصباحه من  نور خالقه  توقد

لقد كان الدسوقي أكثر ثقافة من البدوي وأقل مسؤلية منه فاستطاع أن يؤلف الجوهرة ، عرض فيها لآرائه الصوفية التى استقى منها الشعراني ملخص مذهبه فقال " هذا ما لخصته من كتاب الجواهر له وهو مجلد ضخم [27]" أما البدوي فلم تسمح ظروفه بتأليف كتأليف الدسوقي ولو فعل لكان اراحنا فى الحكم عليه ، ومهما يكن من أمر فإن تلك الأبيات التى عبرت عن عقيدة البدوي تكفينا شاهداً ويؤكدها ما قاله الدسوقي رفيقه فى الدعوة وما قاله السابقون للبدوى والدسوقى .

ومنطقى أن البدوي لو خالف رفاقه فى العقيدة وأنكر عليهم نحلتهم فى الاتحاد والحقيقة المحمدية لتغيرت سيرته ولتميز أتباعه عن باقى الصوفية .. ولكن ذلك لم يحدث ، بل على العكس كان التشابه واضحاً فى السلوك والعقائد لدى الفقراء الأحمدية والبرهامية والقادرية والرفاعية ، حتى أن الشعراني كان ينكر عليهم معاً ويهاجمهم بالجملة إذا كانوا أكثر انحرافاً عن باقى الصوفية .

8 ـ والصوفية كالعهد بهم فاقوا السابقين كفراً حين اعتنقوا عقيدة الاتحاد . وقد كان العرب الجاهليون جعلوا من الملائكة بنات الله فقال تعالى (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ)) الزخرف 15، 16 ولكن الصوفية جعلوا من أنفسهم جزءاً من الله يتحدون به ويفنون فيه ويحل فيهم ، ثم توسعوا فمحوا الفوارق بين الله تعالى والعالم وزعموا أن ليس لله وجود إلا فى العالم أو حسب تعبير ابن عربي عن الله تعالى " فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير ، إن شئت قلت هو الخلق وإن شئت قل هو الحق والخلق [28] " . والصوفية حين جعلوا من محمد حقيقة إلهية تتقلب فى الرسل ثم تحل فيهم بالتعاقب  ـ إنما خالفوا صريح القرآن الذى قضى على محمد بالموت كسائر الناس (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) الزمر:30 ، وخالفوا القرآن حين قال (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)الأنبياء : 34 ، والصوفية حين زعموا أن محمدا  ـ والصوفية معه  ـ حضروا انقاذ نوح ومناجاة موسى وتآمر أخوة يوسف بيوسف .. إلخ إنما خالفوا صريح القرآن إذ قال يخاطب محمد (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ ..وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ..)( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ  مريم  ).. (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) القصص 44 ، 45 ، وآل عمران 44 ، يوسف 102 ، هذا بالنسبة للنبى عليه السلام فكيف بأولئك الصوفية ؟ .

9ـ  نخلص من هذا أن البدوي مسئول مسئولية تامة عما وقع فيه أتباعه من بعده ، صحيح أنه لم يخترع عقيدة الصوفية وإنما بدأت قبله بقرون ولكنه سار عليها واستغلها فى جمع الأتباع وتدبير حركته السرية ، وحتى إذا برئ من التصوف فلن يبرأ من التشيع وهو الأصل الفاسد للتصوف ، والمسلم الحق يبادر بالإنكار على كل عقيدة تخالف دين الإسلام ويعلن براءته منها .. لا أن يتستر بها لهدف دنيوي أو يؤمن بها ويجمع على  أساسها الأتباع والأنصار .

لقد كان البدوي إماماً للطرق الأحمدية ، وبهذه الصفة سيحشر مع أتباعه ممن قدسوه وعبدوه:(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)  الصافات . وحين يفاجأ الأحمدية بالبدوي معهم فى الجحيم سينقلب التقديس إلى عداء وخصام (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98))الشعراء، وستتحول نقمة المستضعفين من الأحمدية إلى شيوخهم الكبار ، ممن غرر بهم من مؤلفي الكرامات ومخترعي المقامات وخالقى الأساطير وبائعى الأوهام والأكاذيب، زمنظمي الموالد وجامعى النذور والنقوط .. حينئذ لا يجد المستضعفون إلا الحسرة والنقمة (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)  الأحزاب) اللهم استجب ..

                                                   " صدق الله العظيم



[1]
اللمع للطوسى : 9 ، تحقيق عبد الحليم محمود

[2]اللمع ، 51

[3]الطبقات الكبرى للشعرانى 1/57

[4]نفس المرجع للشع"ftn11">

[11]الطبقات الكبرى للشعرانى 1/ 159

[12]الجواهر 95

[13]الحواهر 100، 101

[14]راجع فى الأحياء كمثال : 4/ 211 ـ 212 ، 213 ، 270

وراحع لابن عربى فصوص الحكم بشرح القاشانى ـ 8: 11 ، 132 : 133  مجرد أمثلة .

[15]تاريخ ابن الأثير 8/ 110 ـ 111

[16]صفحات 9، 10، 11، 12 ، 15 ، 16، 18 ، 20 ، 21 وما بعدها

[17]الطبقات الكبرى 1/ 157 .

[18]الطبقات الكبرى 1/ 157 ، 158 وموعدنا مع الدسوقى فى الكتاب القادم إن شاء الله تعالى .

[19]الطبقات الكبرى 1/ 157 ، 158 وموعدنا مع الدسوقى فى الكتاب القادم إن شاء الله تعالى

[20]الجواهر 98

[21]الجواهر 95

[22]الطبقات الكبرى 1/ 157

[23]الجواهر 140

[24]الجواهر 93

[25]الطبقات الكبرى 1/ 159

[26]الجواهر 106

[27]الطبقات الكبرى 1/ 158

[28]الفصوص 132، 133 ، 134 .

 

خاتمة كتاب البدوى

 

1ـ أحكام التاريخ دائماً نسبية وتميل إلى إظهار المحاسن والمساوئ فى التأريخ لعصر ما أو شخص ما .. وإذا طبقنا نظرة المؤرخ للبدوي كداعية سياسى فإننا نفترض أنه كان على حق ، إذ كانت المنطقة تئن من ضعف الحكام الأيوبيين وتنازعهم مع أنفسهم وتحالفهم مع أعدائهم مع خطورة الموقف (الدولي ) بالصراع بين الخوازمية والمغول والمنتصر منها لابد أن يفرض نفوذه على الأيوبيين فى مصر والشام .. ثم إن الشعب كان قد  افتقد الإستقرار السياسي منذ أن كفت يد العرب عن التحكم ، فبإنتهاء النفوذ العربي فى الدولة العباسية تقلبت على كرسي الخلافة العباسية مراكز ضغط مختلفة كالأتراك والبويهيين والسلاجقة . ومع اختلاف جنسياتهم وعقائدهم ما بين ترك وديالمة وشيعة وسنيين فإنهم اتفقوا جميعاً على حجب الخلافة العباسية من أن تكون قوة سياسية مؤثرة وحجب العرب من أن يعود لهم سابق التحكم .. واتفقوا أيضا على أن تكون سياستهم مجرد تنازع وتآمر فيما بينهم للوصول للسلطة أو للإحتفاظ بها ..

فى ظل هذا التفكك السياسي نبتت الدعوة السرية الشيعية بعناصر أغلبها من العرب تهدف لإرجاع التحكم العربى الذى لا يزال الناس يحتفظون له بالذكريات الطيبة ، وحتى إن لم يكن أفضل من الحكم الموجود فلن يكون بالقطع أسوأ منه ، ثم هم يعتقدون بأحقيتهم فى الملك لأنهم من نفس الشعب لا قبائل وافدة من الشرق،  أو جماعات رقيق من كل العالم، وهم إن نجحوا فحكام ( مدنيون) لا حكام عسكريون ..

لهذا كله فإن النظرة التاريخية تحكم للبدوي لا عليه من الناحية السياسية وتفترض ـ لو صح الأفتراض فى الأحكام التاريخية ـ إن البدوي لو نجح مع جماعته فى الوصول للحكم لكان أفضل من بنى أيوب . وربما من بعض السلاطين المماليك ، على الأقل للشعب المسكين الذى عاش أحلك المعاناة فى ظل الحكم المملوكي .

2ـ وإذا كانت أحكام التاريخ نسبية فإن أحكام العقائد قاطعة ولا تعرف التوسط فإما إيمان وإما كفر ولا منطقة وسط بينهما .. ذلك لأن التاريخ فى أغلبه حوادث وتلك الحوادث نبتت فى ظروف مختلفة فتختلف بشأنها الآراء وتتضارب ويكون الحل الأمثل فى الترجيح والنسبية ، أما العقائد فأقوال إن صحت نسبتها لقائلها حكمت عليه بالكفر أو بعدمه ، والمرجع الذى يحتكم إليه باحث العقيدة هو القرآن الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فالقضية هنا واضحة قاطعة .. فأقول فلان متواترة عنه والقانون الذى يحكم عليه قرآن كريم و( كتاب مبين ) أى واضح التعبير ميسر لكل من أوتي عقلا بلا هوى أو غرض .

ولأن للبدوي وجهين سياسي سري وصوفي علني ، فإن حيثيات براءته فى التاريخ والسياسة لا تنفى اتهامه بالتصوف الملحد من حيث العقيدة والدين ، وإن خفيت عنا أكثر أقواله فإن بعضها وصل إلينا أقوالاً مجردة .. وأكثرها ردددته جماعاته بعد موته أفعالاً وأقوالاً وتاريخاً ، وهم بالقطع متأثرون به فقد نشأوا فى مدرسته صغاراً واستمروا بها تلاميذ مخلصين نحو أربعين عاما ، وجسدوا تأثرهم به تقديساً وعبادة له من السنين بل الأيام الأولى لوفاته ، فالمولد الكبير للبدوي بدأ حين توافد الأحمدية من كل حدب وصوب للتعزية فى وفاة البدوي واستمر تقليدا .. بكل ما يعنيه المولد من انحراف ديني وخلقي .

وقد يبدو المنهج الذى حكمنا به على البدوي غريباً لأن الكتاب درجوا على الإشادة بالبدوي والصوفية ، وحتى من بحث دعوة البدوي السرية فإنه تحاشى أن يحكم عليه دينياً وصوفياً ، ونحن نعذرهم فلا زلنا نعيش فى عصر التصوف ولا زال لأصحابه سيطرة على الفكر الديني بمستوياته الدنيا والعليا ، وفى ظل هذه السيطرة قالوا ما يشاءون فى البدوى وفى غيره تمجيداً وتقديساً بدعوى العلم والاحتهاد وهم أبعد البشر عن علم أو اجتهاد .

3ـ والأصل فى الإنسان أن يكون مسلماً.. فالإسلام دين الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، وآدم أبو البشر أول من آمن بالله . ومهما بلغ كفر الإنسان وعتوه فإنه حين الأزمة والمصيبة يعود  إلى طبيعته الأولى موحداً فلا يستغيث إلا بالله ولا يلجأ إلا إليه .وإذا كان  الإسلام هو الأصل الذى نرجع إليه فإن التعويل على هذا الأصل يكون أكبر وأعظم حين يقر الإنسان بالوحدانية وينطق بالشهادة ويصبح مسلما رسمياً وفعليا وتنسجم فيه الفطرة مع السلوك والإذعان.

ولكن الشيطان لا يرضى بهذا الوضع فلا يزال بالإنسان إلا أن يوقعه فى الردة أو الكفر بقول أو فعل أو إعتقاد ينافى عقيدة التوحيد التى تقصر الحكم فى الكون على الله تعالى وتقصر العبادة وتوجهها له وحده .. فالإسلام هو الأصل والردة هى الطارئة .. وعلى ذلك فباحث العقيدة إن أخلص فى بحثه فعليه أن يحكم على الطارئ لا على الأصل .. بمعنى أنه لا يثبت أن إنسانا ما مسلم لأن الأصل فى الإنسان أن يكون مسلماً ، خاصة إذا أقر بالشهادة ولكن عليه أن يثبت ـ إذا وجد ما يدعو لذلك ـ إن ذلك الإنسان قد وقع فى الكفر بكلمة أو فعل أو اعتقاد وخرج به عن الإسلام أو الأصل الذى فطره الله عليه وأقر هو به فى نطقه بالشهادة .

وهذا المنهج مستمد من القرآن الكريم كتاب الله الذى لا نعول على غيره حكماً فى كل الأمور خاصة ما يتصل منها بالعقائد .. فالقرآن الكريم حكم على المنافقين بالكفر والردة حين وقعوا فيها بالقول والفعل .. يقول تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ...) التوبة: 74 ، فالمنافقون الذين أعلنوا الإسلام ما لبثوا أن قالوا كلمة الكفر فكفروا بها ثم هموا بالفعل وإن لم ينالوا مرادهم .. ويقول تعالى عن بعضهم ممن كان يسخر من دين الله فأوقعه قوله وفعله فى الكفر (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ : إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ؟ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)) التوبة : 65، 66 .

فالقرآن الكريم لم يذكر الكلام الطيب للمنافقين وإنما ذكر ما يدل على كفرهم وخداعهم وكذبهم ، ولا يخلو أى مشرك من كلام طيب أو فعل طيب فالفطرة داخل كل إنسان توجهه إلى فعل بعض الخير مهما بلغ كفره وعتوه .. ولكن ذلك الفعل لا يمكن أن يكون مقبولاً عند الله فيحبطه  ويضيع الثمرة المرجوة منه كما أن أقواله لا يعتد بها طالما أبان عن عقيدته المشركة بقول أو فعل .

وعلى هذا الأساس فإننا نحكم على الصوفية ، فلا يعنينا إلا أنهم وقعوا فى الردة بالقول وبالفعل والاعتقاد ، وما الردة إلا قول كفر أو فعل كفر أو اعتقاد كفر . وإذا وقع إنسان فى أى منها استحق أن يوصف بالردة عن الإسلام ولا توسط ولا تعلل ولا تبرير ولا اعتذار عن أحد طالما لم يصدر من المرتد ما يفيد الاعتراف بالذنب والاقلاع عنه والتوبة منه ، وظل عليها متمسكا بها حتى موته.

وهنا تبدوا الحيدة عن المنهج القرآني لدى كتاب الصوفية حين يؤلفون باسم العلم دراسات عن أعلام الصوفية ، فهم يتجاهلون تماماً الأقاويل الصوفية الواضحة التكفير ويركزون على الأقوال الأخرى فى الحكم والمواعظ مع أن الحكم والمواعظ فكر إنساني عام يقوله أحبار اليهود ورهبان النصارى والمصلحون فى كل عصر بغض النظر إذا كانوا مسلمين أو كفرة .. ثم إن بعضهم يلجأ ـ إذا اضطر لذكر الأقوال الصوفية الكافرة ـ إلى التأويل والتبرير وربما يعلن أن تلك الأقوال مدسوسة عليهم .

4ـ ولا ندرى لماذا توصف الأقوال الصوفية المكفرة وحدها بأنها مدسوسة مع أن الشطح الصوفى ظاهرة أساسية فى التاريخ الصوفي ، وما (الشطح) إلا ما يعلنه الصوفى من كفر صريح لا يجد أحباؤه معه إلا التأويل والاعتذار المألوف من الغيبة والوجد وفقدان الشعور .

لماذا لم نحاول أن نصف أقوال الصوفية فى الوعظ وكلماتهم الطيبة بأنها مدسوسة طالما أن الصوفية من دون الناس جميعاً تعرضوا لمحاولات الدس فى كتبهم ، ثم أية قوة هذه التى اتجهت للصوفية دون غيرهم على مدى تاريخهم الطويل لتدس فيه ما يعبر عن كفرهم ؟ .

إن الفكر الصوفى على امتداد مراحله منذ القرن الثالث الهجرى وحتى الآن يمتاز بأنه يعبر عن عقيدة واحدة وهى تقديس الأولياء مع الاختلاف بين الصوفية فى التعبير حسب نفوذ الصوفية أو وضعهم فى كل عصر .. فالصوفية فى بدايتهم كانوا مضطهدين فعبروا عن عقائدهم بالرمز ثم إذا تحول الدين وسيطروا عليه كانوا أكثر صراحة وإعلاناً فالاختلاف فى درجة التعبير لا فى العقائد .. فى اللفظ لا فى المحتوى والمضمون .

ثم نتساءل هل لحق الزيف بكتب الصوفية المشهورة كالإحياء والطبقات الكبرى واللمع والرسالة القشيرية ، تلك الكتب التى وضعت للدفاع عن التصوف وربطه بالإسلام فكانت أكثر تعبيرا عن التضاد والتناقض بين الإسلام والتصوف . ثم كيف يلحقها الغش والصوفية أنفسهم يعتمدون عليها فى التأريخ للتصوف ورجاله ؟؟ أم انهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه .. يأخذون من تلك المصادر ما يرونه مطابقا للإسلام ثم يتهمون الباقى بانه منتحل مدسوس طالما يظهر الحقيقة التى لا يريدونها ؟.

ومع ذلك فإننا فى التأريخ للبدوي حرصنا على ان تكون مصادرنا عنه أكثر اعتدالاً . فجعلنا (الجواهر السنية )عمدة المصادر واهملنا ما كتب عن البدوي فى العصر العثمانى المتأخر وهو أكثر تطرفاً حتى أنه لا يزال مخطوطا لا يجد صوفياً شجاعاً لنشره ، وقد نضطر للقيام بعبء نشره ودراسته لنثبت للبعض أننا كنا بهم وبالبدوي أكثر رفقاً ورأفة حين اكتفينا بالجواهر السنية لعبدالصمد الأحمدي .

5ـ أما أصحاب مدرسة التأويل للشطح الصوفي والتبرير لكفر الصوفية فلنا معهم وقفة ، فهم الذين أشاعوا التخويف من الإقدام على تكفير اولياء الصوفية ومحاسبتهم على أقوالهم وقرنوا دعواهم بما أشاعوا عنهم من كرامات وتصاريف وحكايات ، والقضية أخطر واعظم ليس بالنسبة لأولئك الأولياء وإنما بالنسبة لله العزيز الجبار .. ويمكن تبسيط القضية على النحو التالى.

هناك مظلوم مفترى عليه بالكذب بأنه خص نفراً من خلقه ورفعهم عن الباقين حتى ممن أصلح واستقام ، ثم أعطى هذا النفر التصريف فى الدنبا والآخرة ، هذا المظلوم هو الله سبحانه وتعالى ، إما الظالم فهم الصوفية الذين وصفوا الله تعالى بالظلم حين خص الصوفية وفضلهم على سائر الناس بدون وجه حق ، ثم هم أى الصوفية وصفوه تعالى بالعجز حيث لجأ للصوفية للتصرف له فى ملكه مع أنه تعالى أنزل كتاباً سماوياً أثبت فيه أنه الواحد القهار وأنه لا يشرك فى حكمه أحداً وان أكرم الخلق عنده أتقاهم له هو وحده والأعلم بمن اتقى ولم يعط غيبه لأحد ، وإذا كان هناك ولي يلجأ الناس إليه فلن يكون إلا الله وحده فهو وحده النافع الضار ، فالصوفية باختصار قد ظلموا الله تعالى حين ادعوا كذباً أنهم أولياؤه من دون الناس جميعاً ورتبوا على هذه الدعوة حقوقا طالبوا بها الناس ، وهذه الحقوق انتزعوها من الحق الواجب لله تعالى على الناس..  ونحن أمام هذه القضية بالظالم والمظلوم أمام موقفين .. إما أن ندافع عن الظالم ونبرر خطأه ونؤول أقواله المفتراه تأييداً لظلمه وتضامناً معه ضد المظلوم ..وإما أن ندافع عن المظلوم المفترى عليه بتبيين وجه الحق دون التفات إلى أساطير الكرامات .. فولاية الله تعالى للمؤمنيين تعنى أن الله تعالى ينصر المؤمنين كما أن المؤمنين ينصرون الله (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) محمد:7 ، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ..)الحج: 40 ، والموالاة بين الله وأنصاره تعنى الجهاد ، وليس الجهاد بالسيف وحده بل بالكلمة الصريحة القاطعة .. وكما يدافع أولياء الصوفية عنهم بالتبرير والتأويل فنحن مطالبون بالدفاع عن الله تعالى باظهار الحق الواضح دون الحاجة إلى تبرير أو تأويل .

و(الكلمة ) بالذات أحد أهم الأسلحة ضد أوهام الصوفية التى لا تقوم على أى أساس من عقل أو نقل .

……………………..

ملاحظة:

تم حذف بقية الخاتمة لأنها كانت تعبر عن عقلية المؤلف عام 1981. وكان وقتها سنيا معتدلا يعانى من عنت الصوفية فى جامعة الأزهر وتسلطهم عليه . ثم حين بحث فى التراث السّنى وجده يناقض الاسلام ، ويزيد عن التصوف فى تشريع العنف واضطهاد المخالفين فى الرأى فانقلب على السّنة وحاربها بمثل ما فعل مع التصوف ، واعتصم بكتاب الله وحده ، جل وعلا.

 

 المصادر والمراجع

أولا : المخطوطات : المصادر المخطوطة :

ابن برهان الدين : من أصحاب ابن تيمية فى القرن الثامن ، تكسير الأحجار التى افتتن بها أهل الجهل والإغترار ، رسالة مخطوطة بدار الكتب تحت رقم 404 مجاميع تيمورية رقم 6 فى المجموعة

ابن بهادر : فى القرن التاسع ، فتوح النصر فى تاريخ ملوك مصر ، 2 جـ فى مجلدين

مخطوط مصور بالدار تحت رقم 2399 .

البكرى : محمد توفيق من رجال العصر العثمانى ، تراجم بعض رجال الصوفية

مخطوط بالدار تحت رقم 3736 تاريخ .

بيبرس الداودار ت 725 ، زبدة الفكرة فى تاريخ الهجرة ، مصور بجامعة القاهرة رقم 24028.

ابن حجر الهيتمى : شهاب الدين ت 974 ، أخبار الخلفاء مخطوط بالدار برقم 276 تاريخ .

الحلبى ، شهاب الدين احمد " كان موجودا سنة 1018 " النصيحة العلوية فى بيان حسن الطريقة الأحمدية ، مخطوط بالمكتبة الأزهرية تحت رقم 33610 وبالدار تحت رقم 1129 تاريخ .

الرجانى : أبو الفتح المقدسى الرجانى من رجال القرن التاسع ، العقد المفرد فى  حكم الأمراد . رسالة مخطوطة بالدار تحت رقم 40 مجاميع تيمورية رقم 5 فى المجموعة .

شمه : حسن شمه من العصر العثمانى ، مسرة العينين بشرح حزب أبى العينين مخطوط بالدار

تحت رقم 1095 تصوف طلعت .

العينى : بدر الدين ت 855 ، عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان فى أكثر من ستين مجلدا مصورا بالدار تحت رقم 1584 تاريخ والأجزاء الأخيرة فى دور التحقيق .

ابن فارس : فى القرن العاشر ، المنح الإلهية فى مناقب الوفائية . مخطوط رقم 874 تاريخ تيمور .

الكتبى : ابن شاكر 764 ، عيون التواريخ بالدار تحت رقم 1497 .

الماردانى : عمر بن عثمان الماردانى فى القرن التاسع ، قصة القطب البدوى . مخطوط مصور على الميكروفيلم بمعهد المخطوطات رقم 1168 .

ابن محسن : فى العصر العثمانى ، تعطير الأنفاس بمناقب أبى الحسن وأبى العباس .مخطوط بالدار تحت رقم 1209 تاريخ تيمور .

أبو المحاسن : ابن تغرى بردى  ت 874 ، المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى خمسة أجزاء ، رقم 1209 بالدار تاريخ تيمور .

المقريزى : تقى الدين احمد بن على ت 845 ، المقفى 4جـ فى 4 مجلدات مخطوط رقم 5372 تاريخ ـ بالدار .

المناوى : عبد الرؤف ت 1031 ، الطبقات الكبرى : مخطوط بالدار رقمه 1589 تاريخ تيمور ،

الطبقات الصغرى : مخطوط رقمه بالدار 476 تاريخ تيمور

النويرى : شهاب احمد : ت 733 ، نهاية الأرب : الأجزاء الأخيرة 28 وما بعدها ، رقم 549 معارف بالدار .

ثانيا : المصادر المطبوعة والمحققة :

ابن الأثير : عز الدين 630 ، تاريخ ابن الأثير . المطبعة الأزهرية بمصر 1301

الأدفوى : جعفر بن تعلب 748 ، الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد . تحقيق سعد محمد حسن ، ط 1966 القاهرة .

ابن اياس : محمد بن أحمد 930 ، تاريخ ابن اياس ( بدافع الزهور) تحقيق محمد مصطفى. القاهرة 1961 ـ الجزء الرابع والخامس 1931 .

ابن الحاج : محمد بن محمد العبدرى ت 737 ، المدخل : مدخل الشرع الشريف على المذاهب 4 جـ  مصر 1320 .

ابن حجر العسقلانى : أحمد بن على ت 852 ، أنباء الغمر بأنباء العمر . تحقيق حسن حبشى 3 جـ  ، القاهرة ( 1969 : 1972 )

الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة . تحقيق جاد الحق . القاهرة 1966.

الخفاجى : عبده حسن الخفاجى : من رجال العصر العثمانى ، النفحات الأحمدية الطبعة الأولى بمصر 1321 .

ابن خلدون : ت 808 ، المقدمة : المطبعة التجارية بدون تاريخ .

ابن الزيات : شمس الدين محمد ت 814 ، والكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة . المطبعة الأميرية 1908 القاهرة .

السبكى : تاج الدين ت 771 ، طبقات الشافعية الكبرى : الجزء التاسع والجزء العاشر . تحقيق الطناحى ، وعبد الفتاح الحلو ، الطبعة الأولى .

السخاوى : شمس الدين ت 903 ، التبر المسبوك ط بولاق 1896

 الضوء اللامع مكتبة القدسى 1953 : 1355 .

السخاوى : نور الدين ، تحفة الأحباب على هامش نفح الطيب للقدس . المطبعة الأزهرية 1302 .

السيوطى عبد الرحمن ت 911 ، تاريخ الخلفاء ، تحقيق أبو الفضل إبراهيم 1975 مصر ـ

حسن المحاضرة ، الجزء الاول فقط . تحقيق  محمد ابو الفضل ابراهيم ، الطبعة الأولى 1967.

الشعرانى : أبو المواهب عبد الوهاب ت 973:

 البحر المورود ، القاهرة 1308

الطبقات الكبرى ، ط صبيح ـ

قواعد الصوفية 1965 ـ

 لطائف المنن ط 1288 ، ط 1976 ـ

لواقح الأنوار على هامش البحر المورود .

ابن الصيرفى : على بن داود الجوهرى ت 900 ، نزهة النفوس والابدان . تحقيق حسن الحبشى ، القاهرة 1970 ـ 1973 .

عبد الصمد الأحمدى : القرن الحادى عشر ، الجواهر السنية ، ط صبيح.

 الطوسى : أبو نصر الطوسى ، اللمع . تحقيق عبد الحليم محمود وطه سرور 1960 القاهرة .

ابن عربى : محيى الدين ، ت 638 ـ شجرة الكون ، ط صبيح ـ

عنقا مغرب ط صبيح ـ

فصوص الحكم بتعليق القاشانى ، ط 1321 ـ

الفتوحات المكية ، ط 1293 .

ابن عفيف الدين : معاهد التحقيق ط 1960 القاهرة .

العيدروسى : أبو بكر من علماء القرن العاشر ـ النجم الساعى فى مناقب الرفاعى ، الطبعة الأولى 1970 .

العيدروسى : محيى الدين ت8 103 ـ  النور السافر فى أخبار القرن العاشر ، تحقيق رشيد الصفار ، بغداد 1934 .

الغزى : نجم الدين ت 1061 ، الكواكب  السائرة فى أعيان المائة العاشرة .الجزء الأول فقط . المطبعة الأمريكية فى بيروت 1945 .

الغزالى : ت 505 ، إحياء علوم الدين ، ط مصر المطبعة العثمانية 1933 على نسخة المطبعة الأميرية .

أبو الفدا : إسماعيل ت 714 ، تاريخ أبو الفدا ، ط القسطنطينة 1286 .

ابن الفرات : ناصر الدين ت  807 ، تاريخ ابن الفرات تحقيق قسطنطين رزيق ونجلاء عز الدين ، بيروت 1936 ـ 1939 .

القشيرى : عبد الكريم بن هوزان ت 465 . ، الرسالة القشيرية ، ط صبيح .

ابن كثير : عماد الدين ت 884 ، تاريخ ابن كثير جـ 13 ،14 ، ط بيروت 1966.

أبو المحاسن : ابن تغرى بردى ت 874 النجوم الزهراء ، الأجزاء من 7 : 16 دار الكتب ، مصر ـ

حوادث الدهور ، حررها وليام بير ط باريس .

المقريزى : تقى الدين ت 845 ـ الخطط المقريزية ، ط 1326 ـ

السلوك جـ 1 ، جـ 2 تحقيق زيادة ، دار الكتب ،

اليافعى : عفيف الدين ، 768 ـ روض الرياحين ، ط 1307 .

 

     دراسات حديثة

أ ـ كتب

أحمد أمين : قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية ط 1953 .

إرمان : ديانة مصر القديمة ترجمة عبدالمنعم أبو بكر ط البابى الحلبى .

بلاثيوث : ابن عربى ، ترجمة أحمد بدوى ، ط بيروت 1979 .

تيمور : الأمثال الشعبية ط 1949 .

حجاب : اليقظة والاعتبار . آراء فى حياة السيد البدوى ، القاهرة 1389 .

جواد على : تاريخ العرب قبل الإسلام ، المجمع العلمى العراقى .

خلف الله : أحمد عز الدين ـ ابراهيم الدسوقى ، مصر ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية كتاب 45 .

 الشيبى : كامل مصطفى ـ الصلة بين التصوف والتشيع ، دار المعارف الطبعة الثانية .

صافى : على صافى ـ ابن الصباغ القوصى ، دار المعارف 1791 .

ابن دقيق العيد ، دار المعارف 1960 .

عاشور : سعيد عشور ـ السيد أحمد البدوى ، أعلام العرب ط 2 .

عبد الحليم محمود : الشاذلى ، أعلام العرب 1968 ،

أبو العباس المرسى أعلام العرب 1969 ،

السيد البدوى ط دار الشعب .

عبد اللطيف : محمد فهمى ـ السيد البدوى ودولة الدارويش فى مصر ، ط 1948 القاهرة .

الكوهن : طبقات الشاذلية ، ط 1 سنة 1347 .

مراد كامل : تاريخ الحضارة المصرية ، بحث عن العادات الاجتماعية فى العصر الرومانى ، وزارة الثقافة ، المجلد الثانى . عن مكتبة النهضة .

نور الدين  : حياة السيد البدوى ، ط 2 ، 1369 .

هيرودت : يتحدث عن مصر ، ترجمة صقر خفاجة ، تقديم أحمد بدوى ، دار القلم 1966.

( ب) دوريات :

زيادة : المجلة التاريخية المصرية ، المجلد الرابع ، العدد الأول مايو 1951 بحث عن نهاية السلاطين المماليك .

طرخان : المجلة التاريخية المصرية ، الإسلام والممالك الإسلامية بالحبشة المجلد الثامن 1959.

محمد كامل حسين : دوريات آداب القاهرة ، مجلد 15 سنة 1953 عن التشيع فى الشعر المصرى فى عصر الأيوبيين والمماليك ومجلد 16 سنة 1954 عن التشيع وآداب الصوفية بمصر فى عصر الأيوبيين والمماليك .

مصطفى عبد الرزاق : مجلة السياسة الأسبوعية مقال له بتوقيع ( عالم كبير وكاتب معروف ) بعنوان ( المولدان الأحمدى والدسوقى ) فى العدد 89 فى 19 نوفمبر 1927 ، والعدد 90 فى 26 نوفمبر1927 ، والعدد 92 فى 10 ديسمبر 1927 ، وقد اطلع الكاتب على مخطوطة مغربية ذكر فيها الظروف السياسية لدعوى البدوى .

(ج) رسائل علمية غير منشورة:

أحمد صبحى منصور : أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى . (رسالة دكتوراه غير منشورة )، قسم التاريخ ـ كلية اللغة العربية ، جامعة الأزهر ٍ1980.