JustPaste.it

 كتاب: القرآن الكريم وكفى مصدرا للتشريع

 

77YHNB.jpg

الكاتب : آحمد صبحي منصور

يثبت أن للاسلام مصدرا وحيدا هو القرآن الكريم فقط .

 

 

المقدمة

د. أحمد صبحى منصور
كتاب : القرآن وكفى مصدرا للتشريع الإسلامي

الكتاب الذى صادرته مصر وليبيا في التسعينيات
بسم الله الرحمن الرحيم

مــدخـــــــل:
1ـ في مطلع التسعينيات ,1990 كنت في حرب ضروس ضد الفقر المدقع والخصوم التقليديين . خصومي هم فقط الصوفية والسنيون السلفيون والأزهريون وجميع مؤسساتهم الدينية والعلمية والتعليمية والدعوية في مصر وخارجها، بالإضافة الى خصم وديع رقيق القلب و هو أجهزة الحكم القمعية في مصر المحروسة التي تتابع أنفاسي وتتلمظ لافتراسي.

 

كنت ـ ولا أزال ـ ضد تدين الجميع اناقشه بالقرآن . من الطبيعي أن يغلقوا كل أبواب الرزق في وجهى وأن يحيلوا حياتي الى رعب مستمر ومستقر كنت أداريه خجلا من نفسى . ولكن المفكر المسالم اذا دخل السجن ـ وخصوصا السجون المصرية ـ ولو لبضع اسابيع ، فإنها لا تخرج منه أبدا ، يظل يحمل السجن في داخله مهما طال به العمر ، ويظل يتحسب له ، خصوصا أذا كان مثلى لا يملك شيئا من حطام الدنيا ولا يعرف ماذا يحل بصغاره اذا أرجعوه الى غياهب السجون . بل انه يعرف ماذا ينتظره من رفاق السجن ، ومعظمهم متطرفون وخصوم له في الدين ، يرون جهادهم في الاجهاز عليه لحظة العثور عليه كما أفتى الفقيه ـ المعتدل ـ شيخ الاخوان المسلمين " سيد سابق " في كتابه الأشهر " فقه السنة " عن حكم الزنديق . وانا عندهم زنديق عريق . وخصومي من المتطرفين والحكوميين المفسدين المستبدين ـ مع الحرب الدائرة بينهم ـ الا انهم اتفقوا على شيء واحد ، هو اضطهادي وملاحقتي .
2 ـ وكانت فكرة إدخالي السجن للمرة الثالثة ـ وبأي ذريعة مقبولة ـ تحقق أملهم في التخلص منى الى الأبد ، حيث سيضيع دمى بين قبائل المساجين . ولهذا السبب كانت العادة السيئة لأمن الدولة هي استدعائي كل حين لإرهابي وترويعي ، خصوصا مع احتمال وارد اذا قرر ضابط أمن الدولة أن يمد استضافتي ليلة في سجونهم غير الرسمية التي يحشرون فيها ضحاياهم حشرا ويعذبونهم وفق روتين يومي عادى. وأغلب الضحايا متطرفون يتوقون للانتقام والجهاد ، ووجودي معهم يحقق رغبة الجميع في التخلص منى. وقد جربت هذه السجون الملاكي يومين فقط سنة 1988 ولكن الله تعالى سلم فلم يتعرف على أحد وقتها.
3 ـ هذا الفقر المدقع المغلف بإرهاب الدولة وارهاب المتطرفين لم يوقف أبدا إنتاجي العلمي ولا إصراري على استمرار الجهاد السلمى لإصلاح المسلمين بالإسلام ، والدليل هو صدور هذا الكتاب سنة 1991 بعد قصة لم يحن بعد الكشف عن تفصيلاتها ، وأغلب التفصيلات مع غيرى الذين تولوا طبع الكتاب ونشره. وبعض هذه التفصيلات كتبها الصحفي المصري الهامى المليجي في الأهرام العربي وقد كان وقتها قريبا من الأحداث.
4 ـ ما أعرفه أن أحد المسلمين المستنيرين في المانيا كتب الى" المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر " في ليبيا يقترح عليهم نشر مؤلفاتي ويعرفهم بمعاركي مع السنيين ومقالاتي الأسبوعية في جريدة الأحرار . وقتها كان القذافي يرفع لواء انكار السنة وكان خصومي في مصر يؤلفون مسبقا روايات عن علاقات بيننا . ولم يفكر أحدهم اذا كان هذا صحيحا فلماذا أعانى الفقر في مصر ولماذا لا أشد الرحال الى احدى الجامعات الليبية أنعم فيها بما كان ينعم به بعض زملائي وتلامذتي.
5 ـ لا يعرفون أن المفكر الحر يستحيل أن يكون أجيرا لدى أي حاكم مستبد . قد تلجأ سلطة مستبدة لنشر كتاب لي مضطرة أو تشجع نشره اذا كان ذلك يحقق مصلحة وقتية لها ولا يستطيع أذنابها من الفقهاء الاجتهاد في تأليفه . حدث هذا في بعض كتبي التي تثبت التناقض بين الاسلام والتطرف . مثلا احتفلت السلطة المصرية بكتابي "حد الردة" الذى كتبته في أعقاب اغتيال صديقي الدكتور فرج فودة ، والذى يؤكد بأدلة قطعية أن عقوبة قتل المرتد تناقض الاسلام. فتم نشره مرات عديدة لأن الاتهام بالردة وجهته الجماعات الارهابية الى رموز السلطة المصرية ولاحقتهم بمحاولات الاغتيال ، لذا كان هجوم شيوخ الأزهر على هذا الكتاب معتدلا . بل أنهم سنة 2002 أفتوا أن المرتد لا يقتل ولكن يستتاب فقط.
نفس الحال مع الحكم القذافي  في ليبيا الذى رأى أن بعض كتبي قد تشد أزر العقيد المهووس بالثقافة والفكر والاعلام . وفى كل الأحوال فان هذا التلاقي الاستثنائي محكوم عليه مقدما بأن يكون جملة اعتراضية استثنائية في العلاقة بين عقليتين متناقضتين : عقلية الاستبداد والاستعباد التي لا ترى في الكاتب المثقف الا راقصا في مواكبها, وعقلية المفكر الحر الذى يسمو بنفسه عن حطام الدنيا ومواكبها لأنه يقرأ التاريخ ويتـعـقـله ويرى كيف يخلد القلم المناضل وينتصر دائما على سيف الطغيان . لا يمكن للعقليتين أن يتفقا حتى اثناء تلك الجملة الاعتراضية.
6 ـ اتصل بي مسئول ليبي كبير واتفقنا على أؤلف لهم كتاب " القرآن وكفى مصدرا للتشريع". وفى اسبوعين بالضبط انتهيت من تأليفه واعطيته لهم . يقول الصحفي الهامى المليجي الذى تابع الموضوع معي بحكم صلاته بالقيادة الليبية وقتها ان القذافي قرأ الكتاب وأعجبه ووافق على نشره على اساس تغيير العنوان الى " لماذا القرآن ؟ " وتغيير اسم المؤلف ليكون " د. عبد الله الخليفة". ووافقت طالما لن يغيروا شيئا في صلب ما كتبت. وكان مقررا طبع الكتاب في القاهرة ليوزع في مصر أولا. وفزعت احدى المحجبات وكانت تعمل في المطبعة حين قرأت صفحة من الكتاب فأبلغت مباحث أمن الدولة. فتحفظوا على جميع نسخ الكتاب وارسلوا نسخة منه الى الأزهر{ الشريف جدا } فقرر مصادرته في الحال اذ أدركوا كما قيل لي بعدها أننى المؤلف الحقيقي للكتاب ، وفعلا حملت عربة نقل كل نسخ الكتاب لتلقيه الى اولى الأمر الليبيين على الحدود ، تم نشر نسخ الكتاب في ليبيا ولكن قامت عليه حملة السنيين الليبيين أيضا. فوافق القذافي على مصادرته لأن موضة أو هوجة انكار السنة بهتت لديه واصبح مشغولا بلعبة أخرى. وانشغل الجميع عن بقية مستحقاتي المالية لديهم و ضاعت .
7 ـ وها هو الكتاب الآن بين يديك عزيزي القارئ بعد 14 سنة من المصادرة ، يقدم لك حجة ناصعة لا يبقى معها عذر بالجهل. بعد قراءة هذا الكتاب ستتضح الحقائق وسيزول الجهل ويبقى اتخاذ القرار عن عمد وعن علم : إمّا بالتبرؤ من البخاري وغيره نصرة لله تعالى ورسوله الكريم ، وإمّا بنصرة البخاري وأئمة الحديث في ظلمهم لله تعالى ورسوله الكريم.

 

كل منا حر فيما يعتقد وسيكون مسئولا أمَام الله تعالى يوم القيامة عما اختاره لنفسه ، وسيلقى الجزاء بالخلود في الجنة أو الخلود في الجحيم. انها قضية خطيرة ومسئولية أخطر.
وكل عام وانتم بخير..

أحمد صبحى منصور .. يناير2005

مـقــدمــة:

ليس المقصد من هذا الكتاب اتهام القارئ ، بل الحوار معه إيماناً من المؤلف بأن الفطرة الإسلامية لدى كل مسلم عاقل تنبض في قلبه بالحق.. وإذا حدث وتراكمت على هذه الفطرة موروثات تخالف الحق فإن آيات القرآن العزيز كفيلة بتنقية هذه الفطرة لتعود إلى صفائها الأول الذى كانت عليه في عصر النبوة الذهبي الإسلامي.
ولذلك فالمؤلف يدعو القارئ ليتصفح معه كتاب الله ويتدبر آياته الكريمة طلباً للهداية له ولجميع المسلمين..
ومنهج المؤلف هو أن يدع الحقائق القرآنية تتحدث من خلال الموضوع الذى يعرض له. وكل ما يفعله المؤلف هو أن يختار عنواناً ينطق بمدلول الحقيقة القرآنية التي يتضمنها الكتاب ثم يستعين بالآيات يؤيد بعضها بعضاً..

وبعد هذا فالمؤلف يحتفظ في قلبه بالحب لكل المسلمين الذين يجمعهم حب القرآن، وهو يدعو الله تعالى أن يهديه ويهدى كل أخوة الإسلام إلى ما يحبه تعالى ويرضاه..
والله تعالى هو المستعان..
القاهرة 1991م

رقم ( 3 ) : القسم الأول :ـ القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد للمسلم.

الفصل الأول : القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للإسلام

 

الفصل الأول : القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للإسلام

:القسم الأول :ـ القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد للمسلم.

1- لا إله إلا الله ولا كتاب للمسلم إلا القرآن كتاب الله..
 2- المؤمن يكتفى بالله تعالى رباً ويكتفى بالقرآن كتاباً

3- القرآن هو الحق الذى لا ريب فيه، وما عداه ظن ولا ينبغي اتباع الظن..
 4 - القرآن هو الحديث الوحيد الذى ينبغي الإيمان به
5ــ الوحى المكتوب الذى نزل على الرسول هو سور وآيات في القرآن فقط
6 ــ لا مثيل للقرآن كما أنه لا مثيل لله تعالى

يستسهل بعضنا أن يؤمن بكتب أخرى تكتسب لديه قداسة ويضعها إلى جانب القرآن العزيز. وبعضنا يعتقد أنه يكفيه أن يؤمن بالقرآن وأنه لا يضره أن يؤمن بكتب أخرى مع القرآن كتبها الأئمة ونسبوها للنبي عليه السلام.. ولو تدبرنا كلام الله العزيز في القرآن الكريم لتأكدنا أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذى ينبغي أن يتمسك به المسلم دون غيره، ولتأكدنا أن القرآن الكريم ليس محتاجاً لهذه الكتب البشرية، فالقرآن الكريم ما فرط في شيء ونزل تبياناً لكل شيء وجاءت به تفصيلات كل شيء يحتاج للتبيين والتفصيل..
فالقرآن هو الذكر وهو الحكمة وهو الصراط المستقيم وهو الحق الذى لا ريب فيه والقرآن في النهاية هو المصدر الوحيد للإسلام.. هذا ما ينبغي أن يكون.. تعالوا بنا نستعرض آيات الله في هذا الموضوع..


 القسم الأول: القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد للمسلم

1- لا إله إلا الله ولا كتاب للمسلم إلا القرآن كتاب الله..


يقول الله تعالى في ذاته العلية ﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً  وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾. (الكهف 26:27)
فالله وحده هو الولي الذى لا يشرك في حكمه أحدا.
والقرآن هو وحده الكتاب الذى أوحى للنبي ولا مبدل لكلماته ولن يجد النبي غير القرآن كتاباً يلجأ إليه..
والنبي لا يلجأ إلا لله تعالى رباً وإلهاً ﴿
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً)(الجن22).
والنبي أيضاً ليس لديه إلا القرآن ملتحداً وملجأ ﴿
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ هذا بالنسبة للنبي عليه السلام.. فكيف بنا نحن؟.


  2- المؤمن يكتفى بالله تعالى رباً ويكتفى بالقرآن كتاباً
عن اكتفاء المؤمن بالله تعالى رباً يقول تعالى ﴿
أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟﴾ (الزمر 36).
فالله تعالى هو وحده الخالق وهو وحده الرازق ﴿
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ؟﴾ (فاطر 3). لذا لابد للمؤمن أن يكتفى به تعالى رباً ﴿قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؟﴾. (الأنعام 164)
والمؤمن طالما يكتفى بالله تعالى رباً فهو أيضاً يكتفى بكتاب الله في الهداية والتشريع يقول تعالى ﴿
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ؟﴾ (العنكبوت 51).
ويلاحظ أن الآيات الكريمة التي تحض على الاكتفاء بالله رباً وعلى الاكتفاء بالقرآن كتاباً جاءت كلها بأسلوب الاستفهام الإنكاري.. أي الإنكار على من يتخذون أولياء وأرباباً مع الله والذين يتخذون كتباً أخرى مع كتاب الله.
وأوضح رب العزة أن في الاكتفاء بالقرآن رحمة وذكرى للمؤمنين ﴿
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
فمن رحمة الله بنا أن فرض علينا كتاباً واحداً ميسراً للذكر ومصوناً عن التحريف وجعله واضحاً مبيناً، له بداية وله نهاية، ولم يتركنا إلى كتب أخرى كتبها بشر مثلنا يجوز عليهم الخطأ والنسيان والهوى والعصيان، ثم هم مختلفون متناقضون، ولا أول لكتبهم ولا نهاية لها..
3- القرآن هو الحق الذى لا ريب فيه، وما عداه ظن ولا ينبغي اتباع الظن
..


يقول تعالى عن القرآن ﴿ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة 2).
فالقرآن لا مجال فيه للريب أو الشك، وحقائق القرآن مطلقة، وما عداه من كتب يعترف أصحابها بأن الحق فيها نسبى أي يحتمل الصدق والكذب.. وما يحتمل الصدق والكذب يدخل في دائرة الظن..
ودين الله الحق لا يقوم إلا على الحق اليقيني الذى لا ريب فيه حتى لا تكون للبشر حجة على الله يوم القيامة. لذا ضمن الله حفظ كتابه من كل عبث أو تحريف ﴿
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر 9).
ويقول تعالى عن كتابه الحكيم ﴿
وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت 41: 42).
أما أديان البشر الوضعية فالمجال واسع فيها للظن والريب..
لذا يأمرنا جل وعلا باتباع الحق الذى لا ريب فيه والإعراض عن المعتقدات التي تقوم على الظن، يقول تعالى في الاعتقاد القائم على الظن ﴿
وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
﴾ (يونس 66).
ويقول تعالى في التشريع القائم على الظن ﴿
سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام 148).
ويقول تعالى يقارن بين اتباع الحق واتباع الظن ﴿
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس 36). ويتكرر نفس المعنى في سورة النجم ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ ﴾ ، ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً﴾.
وصدق الله العظيم ﴿
وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم 23، 28،...).
ولكن المشكلة أن الغالبية العظمى من البشر ينبذون الحق ويتبعون الظن، يقول تعالى يخاطب النبي الكريم ﴿
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام 116).
ومشكلتنا نحن المسلمين أن علماء الحديث يؤكدون أن الأغلبية العظمى من الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم) هي أحاديث آحاد ويؤكدون أنها تفيد الظن ولا تفيد اليقين.. ومع ذلك يأمرنا بعضهم باتباع الظن مع أن الظن لا يغنى من الحق شيئا.. هدانا الله إلى الطريق المستقيم..
ويلفت النظر أن الله تعالى وصف ذاته العلية بأنه الحق ، ووصف إنزال القرآن بأنه أنزله بالحق ، ووصف القرآن نفسه بأنه الحق..
عن وصف الله تعالى بالحق يقول الحق تعالى ﴿
فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ ؟﴾ (يونس 32).﴿ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ﴾ (لقمان 30).
وعن إنزال القرآن بالحق يقول تعالى ﴿
وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء 105).
وعن وصف القرآن بأنه الحق يقول تعالى ﴿
وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ﴾ (فاطر 31). ﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ﴾ (آل عمران 62).
بل إن الله تعالى يصف الحق القرآني بأنه الحق اليقيني المطلق، يقول تعالى ﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ
﴾ (الواقعة 95) ، ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ(الحاقة 51).
وجاءت الصيغة بالتأكيد..
فإذا كان الله قد أكرمنا بالحق اليقيني فكيف نأخذ معه أقاويل ظنية.. مع أنه لا مجال في الدين الحق للظن؟؟


4- القرآن هو الحديث الوحيد الذى ينبغي الإيمان به

وصف الله تعالى القرآن بأنه حديث وتحدى المشركين أن يأتوا بحديث مثله فقال تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ (الطور 33: 34).
ووصف القرآن بأنه أحسن الحديث ﴿
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ (الزمر 23).
فإذا أكرمنا الله تعالى بأحسن الحديث فكيف نتركه إلى غيره؟..
وأوضح رب العزة أن الصدق كله في حديث الله تعالى في القرآن ﴿
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً﴾ (النساء 87).
وتوعد الله تعالى من يكذب بحديثه في القرآن ﴿
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
﴾ (القلم 44).
وأكد رب العزة أن الإيمان لا يكون إلا بحديثه تعالى في القرآن الكريم فقال في آخر سورة المرسلات ﴿
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟﴾ (المرسلات 50).
وتكرر نفس المعنى فى قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟﴾ (الأعراف 185)
وهى دعوة لنا لنتفكر قبل أن يأتى الأجل المحتوم..
بل إن الله تعالى يجعل من الإيمان بحديث القرآن وحده مقترناً بالإيمان به تعالى وحده، فكما لا إيمان إلا بحديث القرآن وحده فكذلك لا إيمان إلا بالله وحده إلهاً. وكما أن المؤمن يكتفى بالله وحده إلهاً فهو أيضاً يكتفى بحديث القرآن وحده حديثاً.. وجاءت تلك المعاني في قوله تعالى ﴿تَلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍيَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ (الجاثية 6: 8).
وذلك الذى يعرض عن آيات الله شأنه أنه يتمسك بأحاديث أخرى غير القرآن سماها القرآن ﴿لهو الحديث﴾ يقول تعالى
﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌوَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(لقمان 6: 7).
وحين يقول رب العزة ﴿ومن الناس﴾ فإنه تعالى يقرر حقيقة تنطبق على كل مجتمع بشرى فيه ناس في أي زمان ومكان..


ـ الوحى المكتوب الذى نزل على الرسول هو سور وآيات في القرآن فقط

تحدى الله تعالى المشركين أن يأتوا بسورة مثل القرآن ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾(البقرة 23).
﴿أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ؟ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ (يونس 38). والشاهد هنا أن الذى نزله الله تعالى على رسوله الكريم هو سور، وليست هناك سور إلا في القرآن. إذن فالقرآن هو الوحى الوحيد المكتوب الذى نزل على الرسول (صلى الله عليه وسلم).

- البشر مطالبون يوم القيامة بما نزل على الرسل من آيات الوحى.. فالوحى آيات
يوم القيامة سيقول تعالى ﴿
يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا؟﴾ (الأنعام 130) فالرسل كانوا يقصون آيات الله التي أنزلها عليهم..
ويقول تعالى في أصحاب النار ﴿
وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ....﴾ (الزمر 71). أي كان الرسل يتلون آيات الله. ومن أعرض عنها دخل النار وحشره ربه أعمى.. ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ..﴾ (طه 125: 127..).
إذن نحن مطالبون بالإيمان بالآيات التي نزلت على النبي ، وليست هناك آيات من الوحى خارج القرآن الكريم.. إذن هو القرآن الكريم وكفى...


ـ6ـ لا مثيل للقرآن كما أنه لا مثيل لله تعالى


يقول تعالى عن ذاته العلية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ﴾ (الشورى 11). ويقول تعالى عن كتابه الحكيم ﴿قُـلْ لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...﴾ (الإسراء 88).. إذن لا مثيل للقرآن كما أنه لا مثيل لله..
وكما أن الله تعالى أحد في ذاته وصفاته ولا يشبهه أحد من المخلوقات ﴿
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  اللَّهُ الصَّمَدُ  لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ  وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ (الإخلاص 1: 4) فإنه ليس في استطاعة المخلوقات أن تأتى بسورة واحدة مثل السورة القرآنية ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ (البقرة 23). ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ (يونس 38).
ليس هناك مثيل للقرآن، وليس هناك مثيل لأى سورة من سور القرآن.. ومع ذلك يقولون أن الله أوحى للنبي القرآن ﴿ومثله معه﴾ فإين ذلك المثيل إذا كان الله تعالى قد نفى وجوده؟

(2) القرآن الكريم ما فرط في شيء
- بيان القرآن في داخل القرآن ، القرآن كتاب مبين في ذاته
يقول تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ﴾ (البقرة 159).
كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات أي التي لا تحتاج في تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذى جعل الكتاب مبيناً وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل ﴿
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ والقائل عن كتابه ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ (القمر 22). ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ (مريم 97). ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ (الدخان 58).
وكل المطلوب منا أن نتلوا القرآن وإذا تلوناه نطقت آياته البينات بنفسها والتي لا تحتاج منا إلا لمجرد النطق وعدم الكتمان. لذا فإن الله تعالى يجعل الكتمان- كتمان الآيات- هو عكس التبيين لذا فإن الله تعالى يهدد من يكتم آيات الله البينات التي بينها في كتابه ﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ..﴾
ويقول تعالى عن أهل الكتاب ﴿
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ...﴾ (آل عمران 187). فشرح تعالى تبيين البشر للكتاب بأنه عدم كتمانه، أي تلاوته وقراءته، ومتى تلونا الكتاب المبين نطقت آياته البينات لمن يريد تدبرها .
والآيات التي تتحدث عن بيان القرآن ووصفه بالكتاب المبين والبينات أكثر من أن تستقصى ومع ذلك فإن منا من يعتقد أن كتاب الله غامض مبهم يحتاج إلى من يفسره.. هذا مع أن الله تعالى يقول عن كتابه ﴿
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ (الفرقان 33). فأحسن تفسير للقرآن هو في داخل القرآن.
وابن كثير يعترف في بداية تفسيره أن أحسن التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن..

رقم ( 4 ) : القسم الثانى القرآن الكريم ما فرط في شيء.

الفصل الأول : القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للإسلام

الفصل الأول : القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للإسلام

القسم الثانى القرآن الكريم ما فرط في شيء.

1- بيان القرآن في داخل القرآن ، القرآن كتاب مبين في ذاته ، والقرآن ما فرط في شيء ونزل تبياناً لكل شيء وجاء مفصلاً لكل شيء
2 ــ القرآن هو الذكر الذى نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم)
3ــ القرآن كامل تام لا يحتاج لشيء آخر معه
 4ــ القرآن هو صراط الله المستقيم وما عداه خروج عن الصراط المستقيم
 5- القرآن هو الحكمة

1- القرآن ما فرط في شيء ونزل تبياناً لكل شيء وجاء مفصلاً لكل شيء
يقول تعالى ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ (الأنعام 38).
ويقول تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل 89).
ويقول تعالى ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.(يوسف 111)
والمؤمن بالقرآن لا يبادر باتهام كتاب الله بأنه فرط وجاء غامضاً يحتاج لما يبينه وجاء مجملاً يحتاج لمن يفصله..
والمؤمن بالقرآن يؤمن بأن الله تعالى صادق فيما يخبر به من أن القرآن ما فرط في شيء وأنه نزل تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء.
وحتى لا تتلاعب به أهواء السوء لتقول له وأين كذا وكذا في القرآن عليه أن يتفهم منطق القرآن قبل أن يبادر بالاتهام..
يقول تعالى ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ والتفريط هو إغفال الشيء الضروري الهام وتركه ، ونحن مثلاً لا نواجه مشكلة في عدد ركعات الصلاة ولا في كيفيتها. والله تعالى ـ وهو الأعلم بالماضي والحاضر والمستقبل- لو عرفنا أننا سنواجه مشاكل في موضوع الصلاة لأوضح لنا عددها وكيفيتها ومواقيتها بالتحديد.. ولكنه تعالى أنزل القرآن يوضح ما نحتاج إليه فعلاً في الحاضر وفى المستقبل وأنزل القرآن بالحق والميزان ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ (الشورى 17). فلا مجال فيه لزيادة أو تزيّد لسنا في حاجة إليه، ولو نزل القرآن يحكى لنا تفصيل الصلاة ونحن نعرفها ونمارسها منذ الصغر لكان في ذلك شيء من الهزل، ولا مجال للهزل في كتاب الله ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ  وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ  وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ (الطارق 11: 14).
لذا فالقرآن ما فرط في شيء نحتاج إليه.
ويقول تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ والتبيان هو التوضيح لما يستلزم البيان والتوضيح . والشيء الواضح بذاته لا يحتاج لما يبينه ويوضحه وإلا كان فضولاً في الكلام وثرثرة لا حاجة إليها..
والله سبحانه وتعالى أنزل كتابه محكماً لا مجال فيه للغو والتزيد لذا كان البيان فيه لما يتطلب البيان، وكل شيء يستلزم البيان والتوضيح جاء في القرآن بيانه وتوضيحه. وما ليس محتاجاً لبيان فلا مجال فيه للتفصيل والبيان في كتاب فُصّلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير.
لذا يرتبط "البيان في القرآن" بالهدى والرحمة والبشرى للمسلمين ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل 89 ) فبيان القرآن ﴿هدى﴾ للباحث عن الهدى وسط ركامات من الغموض والحيرة ، وبيان القرآن ﴿رحمة﴾ به حين يبين له ما خفى ويصل به إلى شاطئ الأمان والرحمة الإلهية وهناك ﴿البشرى﴾ بعد الهدى والرحمة..
وأيضاً ترتبط (تفصيلات القرآن) بالهدى والرحمة، يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف 52). فالتفصيلات القرآنية التي شملت كل شيء جاءت هدى وحمة لأولئك الذين يحتاجون إلى هذه التفصيلات. وإذا كانت الأمور واضحة لا تحتاج إلى تفصيل وإيضاح فمن العبث توضيح ما هو واضح، وتعالى الله عن العبث.
والبشر قد تتحول التفصيلات في كلامهم إلى لغو وثرثرة فيما لا حاجة إليه ولا طائل من ورائه، وهذا ما تنزهت عنه تفصيلات الكتاب العزيز التي جاءت فيما يحتاج إلى تفصيل، لذا ارتبطت تفصيلات القرآن الكريم بالعلم المحكم وفى ذلك يقول تعالى ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ (هود 1).
ويقول تعالى عن العلم الإلهي الذى يحكم التفصيلات القرآنية لتكون هدى ورحمة للمؤمنين ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾.
ولذا فإن العلماء المحققين المؤمنين بتمام القرآن والمكتفين به هم فقط الذين يفهمون تفصيلات القرآن. وفى ذلك يقول تعالى ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف 32).. ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾ (يونس 24).. ﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم 28). ويقول تعالى ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت 3).
والذين لا يعلمون هم الذين يسعون في آيات الله معاجزين مكذبين ببيان القرآن وتفصيله لكل شيء ، يقولون : أين عدد الركعات في القرآن ؟ أين كيفية الصلاة ؟ كيف نحج ؟ وبعضهم يتساءل ساخرا : أين أيام الأسبوع في القرآن .. والله تعالى يقول ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ (سبأ 5) قال عن ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْ﴾ فى الماضى. فأين الحاضر؟. يقول تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ (سبأ 38).
والله تعالى نسأل ألا نكون من الذين يسعون في آيات الله معاجزين.

2ــ القرآن هو الذكر الذى نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم)

يقول تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ  بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (النحل 43: 44).
يسئ الناس فهم قوله تعالى ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...﴾ والسبب أنهم يقطعون هذا الجزء من الآية عما قبله ويتخذونه دليلاً على وجود مصدر آخر مع القرآن، وعندهم أن هناك ذكراً نزل للنبي يبين به القرآن الذى نزل للناس. وحتى نفهم الآية الفهم الصحيح علينا أن نتدبر السياق القرآني، فالله يقول عن الأنبياء السابقين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ  بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ أي أن الله تعالى أرسل الأنبياء السابقين لأهل الكتاب وأنزل معهم البينات والزبر- أي الكتب - ثم يوجه الخطاب للنبي فيقول ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ﴾ أي القرآن ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي لتوضح لأهل الكتاب ما سبق إنزاله إليهم من البينات والزبر لعلهم يتفكرون.
إن كلمة (الناس) في قوله تعالى ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ لا تدل هنا على عموم البشر وإنما تفيد حسب السياق أهل الكتاب الذين نزلت فيهم الكتب السماوية السابقة فاختلفوا فيها وحرفوا فيها بعض ما جاء بها.
واستعمال كلمة (الناس) لتدل على طائفة معينة أشار إليها السياق ـ ورد في القرآن كثيراً كقوله تعالى ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً...﴾ (آل عمران 173).. وكقوله تعالى ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف 46). فكلمة الناس هنا لا تعنى عموم البشر وإنما تعنى طائفة معينة ورد ذكرها في السياق القرآني الذى يتحدث عن الموضوع.
وبالنسبة لقوله تعالى ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فإن المقصود بكلمة الناس هو أهل الكتاب طالما تتحدث الآية عن الأنبياء السابقين وما أنزل الله عليهم من البينات والزبر وأهل الذكر الذين لديهم علم بالكتب السماوية السابقة.
وتقول الآية عن سبب من أسباب نزول القرآن ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فوظيفة القرآن لأهل الكتاب هي تـبـيـيـن الحق في الكتب السماوية السابقة بعدما لحقها من تحريف وتغيير وإخفاء وكتمان ، وفى ذلك يقول تعالى ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ (المائدة 15) ، ويقول تعالى عن دور القرآن في توضيح الحق لبنى إسرائيل ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ (النمل 76) ، ويقول أيضاً ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ  بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (النحل 43: 44) ، والآية السابقة في سورة النحل فسرتها آية لاحقة في نفس السورة ، يقول تعالى ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل 63: 64) ، وكل ذلك يؤكد أن القرآن هو الذكر الذى نزل على النبي لـيـبـيـن لأهل الكتاب ما نزل لهم من قبل واختلفوا فيه.. وذلك يعنى أيضاً أن الذى نزل على النبي كتاب واحد وذكر واحد وقرآن واحد لا مثيل له ولا شيء معه.
وقد جاء وصف القرآن بالذكر كثيراً، منها ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف 104ــ  ص 87) ، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر 9) ، ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ...﴾ (الأنبياء 50) ، ويقول تعالى يؤكد أن ذكر الله في القرآن وحده ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً  وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً﴾ (الإسراء 45: 46).
فالمشركون كانوا ينفرون من النبي لأنه يذكر ربه من خلال ما ورد في القرآن الكريم فقط ، فقال تعالى ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً﴾ ، والشاهد هو قوله تعالى ﴿وَحْدَهُ ﴾ التي ترجع لله تعالى والقرآن معاً ، ومن الإعجاز البلاغي أن تأتى كلمة ﴿وَحْدَهُ ﴾ ليعود الضمير فيه على الله وكتابه بضمير المفرد وذلك يؤكد لنا أن المسلم هو من يكتفى بالله ﴿وَحْدَهُ ﴾ وبالقرآن ﴿وَحْدَهُ ﴾ أو من يكتفى بالله وكتابه ﴿وَحْدَهُ ﴾ ، أما المشرك فيحلو له دائماً أن تتعدد لديه المصادر والآلهة ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً﴾ وهذا ما توضحه الآية..
نسأل الله تعالى لنا جميعاً الهداية...!!

3ــ القرآن كامل تام لا يحتاج لشيء آخر معه  
يقول تعالى ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (الأنعام 115). إذن تمت كلمة الله لنا بالقرآن ولا مبدل لكلمة الله..
ويقول تعالى ﴿...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ (المائدة 3). إذن تمت نعمة الله علينا بالإسلام الذى ارتضاه لنا ديناً وذلك باكتمال وحى القرآن.
ويقول تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (لقمان 27) ، ويقول تعالى ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ (الكهف 109).
ليس هناك حد أقصى لكلمات الله التي لا تنفد. والقرآن كتاب مثاني يتكرر فيه المعنى مرة ومرات، وفيه تفصيل وتوضيح وتبيين على حكمة وعلم ، وتأتى أحياناً كلمة ﴿قُـلْ﴾ تؤكد معنى سبق إيراده في القرآن وذلك حتى تكون أقوال الرسول من داخل القرآن وليست من عنده أو من خارج القرآن.
ولو أراد الله أن تكون كلماته لنا بلا نهاية لفعل وحينئذ لن تكفيها الأشجار أقلاماً ولا البحار مداداً ، ولكن شاءت رحمة الله بنا أن أنزل لنا كتاباً واحداً تاماً كاملاً مفصلاً مبيناً وأمرنا بالاكتفاء به.
ولذلك كان الاكتفاء بالقرآن رحمة ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ وكان الله تعالى شهيداً على أن كتابه يكفى فيقول تعالى ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ (العنكبوت 51: 52).

4ــ القرآن هو صراط الله المستقيم وما عداه خروج عن الصراط المستقيم


في الفاتحة ندعو الله تعالى فنقول ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ والصراط المستقيم هو القرآن الكريم، يقول تعالى عن كتابه الكريم ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (الأنعام 126).
ويقول تعالى يأمر باتباع القرآن الصراط المستقيم دون غيره ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام 153). فالله تعالى أوصى باتباع القرآن صراطه المستقيم ونهى عن اتباع غيره من السبل حتى لا يقع المسلمون في التفرق والابتعاد عن سبيل الله. وحدث ما حذر منه رب العزة فاختار المسلمون أحاديث نسبوها للنبي عليه السلام واختلفوا في أسانيدها ، وقام (علم الحديث) على تنقيح تلك الروايات وتلك الأسانيد، وقوله تعالى ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾ أي لا تتبعوا الطرق ، فالسبيل هو الطريق ، ومن العجيب أن علماء الحديث يقيمون تلك الأسانيد وتلك الروايات على سلاسل و"طرق" فيقولون أن الحديث من "السلسلة" الفلانية ، وأن تلك الرواية جاءت من "طريق فلان" أي أنهم حين تنكبوا الصراط المستقيم ونبذوه وقعوا في اتباع السبل وتناسوا قول الله تعالى ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ وتلك السلاسل والطرق التي قام عليها علم الحديث أوقعته في تفرق واختلاف لا ينتهى ، وصدق ما نبأ به كلام الله العزيز.
والله تعالى حذرنا من التفرق وقال لرسولنا عليه السلام ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ (الأنعام 159) ، أي أمره بالتبرؤ ممن فرقوا دينهم.
والنبي يوم القيامة سيعـلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جرياً وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، يقول تعالى ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ (الفرقان 30: 31).
والقرآن هو الصراط المستقيم وحده..
ويستحيل هندسياً أن يكون هناك أكثر من كتاب واحد يوصف بأنه الصراط المستقيم ، وعلم الهندسة يقول أن الخط المستقيم هو أقصر ما يوصل بين نقطتين ولا يمكن ان يتعدد اكثر من خط مستقيم واحد بين نقطتين.. إذن لابد أن يكون خطاً واحداً ذلك الذى يوصف بأنه الخط أو الطريق المستقيم ، وعليه فالصراط المستقيم أو الخط المستقيم في دين الله تعالى لا يتعدد ، وطالما هو الكتاب الحكيم الكامل التام فليس معه كتاب آخر.
ومع أننا ندعو الله في صلاتنا بأن يهدينا الصراط المستقيم فإننا في العادة نكون غافلين عن معنى الصراط المستقيم ، وذلك بسبب إبليس الذى حدد مهمته في إبعادنا عن الصراط المستقيم وتحويله إلى طرق وسبل شتى ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ (الأعراف 16).
اللهم اهدنا الصراط المستقيم...!!


5- القرآن هو الحكمة


يقول تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ (الجمعة 2).
والشائع بين الناس أن الكتاب شيء والحكمة شيء آخر وحجتهم أن العطف بالواو يقتضى المغايرة إذن فالكتاب شيء آخر يغاير ويختلف عن الحكمة.
والواقع أن العطف بالواو في القرآن قد يكون للتبيين والتوضيح والتفضيل وليس للمغايرة. ودليلنا قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأنبياء 48) ، فالفرقان والضياء والذكر كلها أوصاف توضح وتفصل وتبين معنى التوراة ، وفى موضع آخر يقول تعالى عن التوراة في حديثه تعالى عن موسى وهارون ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴾ (الصافات 117) ، فالتوراة أو الكتاب المستبين هي نفسها الفرقان والضياء والذكر ، والعطف هنا معناه التوضيح والتفصيل لمعنى الشيء الواحد وليس المغايرة.
والله تعالى يقول لعيسى ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ (المائدة 110).
ويقول تعالى عن عيسى ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ (آل عمران 48) ، فالكتاب والحكمة أوصاف للتوراة والإنجيل ، ولا يعنى ذلك أن الله تعالى علّم عيسى أربعة أشياء منفصلة مختلفة ، والدليل هو قوله تعالى عن عيسى ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ﴾ (الزخرف 63) ، فالحكمة هنا تعنى الإنجيل الذى جاء به عيسى ، والآية هنا تلخص ما جاء في الآيتين السابقتين عن الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، إذن فالحكمة هي كتاب الله ، وبالنسبة لخاتم النبيين فقد جاءت في القرآن أوامر عديدة متتالية في سورة الإسراء تبدأ بقوله تعالى ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ..﴾ إلى قوله تعالى ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً﴾ وفى النهاية هذه الأوامر القرآنية يقول تعالى ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ..﴾ (الإسراء 22: 39) ، إذن فالحكمة هي آيات القرآن ، والقرآن هو الحكمة فهو كلام العزيز الحكيم الذى جعله كتاباً محكماً ﴿ِكِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ (هود 1).
إن الحكمة من أوصاف القرآن ومن مرادفات الكتاب العزيز ، شأنها شأن كلمات أخرى مثل الفرقان والنور.
ودليلنا الأخير على أن الحكمة هي القرآن قوله تعالى ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ (البقرة 231). فلو كانت الحكمة شيئاً آخر غير القرآن لقال "وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم بهما.."، ولكن لأن الحكمة هي القرآن فقد قال ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ فهما شيء واحد لذا عاد الضمير عليهما بصيغة المفرد..

رقم ( 5 ) : القسم الأول الفرق بين الرسول والنبي

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

القسم الأول الفرق بين الرسول والنبي
 1ـــ بين الرسول والنبي
 2 ـ ـــ بين كلام الرسول وكلام النبي ـ كلمة "قل" فى القرآن الكريم ، القرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر .

3ــ ما على الرسول إلا البلاغ:
4 ــ الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:
5 ـ  أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:
6 ـ واتبعوا النور الذى أنزل معه:

1 ـ بين الرسول والنبي
يخطئ الناس في فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول ، وذلك لأنهم يخطئون في فهم الفارق بين مدلول النبي ومدلول الرسول..
"النبي" هو شخص محمد بن عبد الله في حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله ، وتصرفاته البشرية.
ومن تصرفاته البشرية ما كان مستوجباً عتاب الله تعالى ، لذا كان العتاب يأتي له بوصفه النبي ، كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ؟!..﴾ (التحريم 1) . ويقول تعالى في موضوع أسرى بدر ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال 67) ، ويقول له ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (آل عمران 161) ، وحين استغفر لبعض أقاربه قال له ربه تعالى ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ (التوبة 113) ، وعن غزوة ذات العسرة قال تعالى ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ..﴾ (التوبة 117).
وقال تعالى يأمره بالتقوى واتباع الوحى والتوكل على الله وينهاه عن طاعة المشركين ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً  وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً  وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ..﴾ (الأحزاب 1: 3). كل ذلك جاء بوصفه النبي.
وكان الحديث القرآني عن علاقة محمد عليه السلام بأزواجه أمهات المؤمنين يأتي أيضاً بوصفه النبي ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ (الأحزاب 28) ، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً..﴾ (التحريم 3) ، وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين ، فلا يقول يا نساء الرسول وإنما ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ.. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ (الأحزاب 32، 30) ، وكان الحديث عن علاقته بالناس حوله يأتي أيضاً بوصفه النبي ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ﴾ (الأحزاب 59) ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب 6) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ... ) (الأحزاب 53) ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ... ﴾ (الأحزاب 13).

وهكذا فالنبي هو شخص محمد البشرى في سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة ، لذا كان مأموراً بصفته النبي باتباع الوحى.
أما حين ينطق النبي بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.).(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ (النساء 80، 64) والنبي محمد بصفته البشرية أول من يطيع الوحى القرآني وأول من يطبقه على نفسه.. وهكذا ففي الوقت الذى كان فيه (النبي) مأموراً باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة (الرسول) أي طاعة النبي حين ينطق بالرسالة أي القرآن ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً في القرآن "أطيعوا الله وأطيعوا النبي" لأن الطاعة ليست لشخص النبي وإنما للرسالة أي للرسول. أي لكلام الله تعالى الذى نزل على النبي والذى يكون فيه شخص النبي أول من يطيع ، كما لم يأت مطلقا في القرآن عتاب له عليه السلام بوصفه الرسول.

ولكلمة النبي معنى محدد هو ذلك الرجل الذى اختاره الله من بين البشر لينبئه بالوحى ليكون رسولاً ، أما كلمة الرسول فلها في القرآن معان كثيرة هي:
• الرسول بمعنى النبي: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ (الأحزاب 40).
• الرسول بمعنى جبريل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ  ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ  مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ  وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ  وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ (التكوير 19: 23).
• الرسول بمعنى الملائكة: ملائكة تسجيل الأعمال ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ (الزخرف 80). ملائكة الموت ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (الأعراف 37).
• الرسول بمعنى ذلك الذى يحمل رسالة من شخص إلى شخص آخر، كقول يوسف لرسول الملك "ارجع إلى ربك" في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ...﴾ (يوسف 50).
• الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة ، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبي الذى ينطـق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التي تحـث على طاعة الله ورسوله.. فكلها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.
والرسول بمعنى القرآن يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (آل عمران 101) أي أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا ، وسيظل محفوظا وحجة على الخلق الى قيام الساعة..
وكلمة الرسول في بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾(النساء 100).فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة في سبيل الله وفى سبيل رسوله - أي القرآن - قائمة ومستمرة بعد وفاة النبي محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.
وأحياناً تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر كقوله تعالى ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ (الفتح 9)، فكلمة "ورسوله" هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد ، والدليل أن الضمير في كلمة "ورسوله" جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل"وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا" ، والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده ، ولا فارق بين الله تعالى وكلامه ، فالله تعالى أحد في ذاته وفى صفاته ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾.
ويقول تعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾(التوبة 62)، ولو كان الرسول في الآية يعنى شخص النبي محمد لقال تعالى "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه.
إذن فالنبي هو شخص محمد في حياته الخاصة والعامة ، أما الرسول فهو النبي حين ينطق القرآن وحين يبلغ الوحى ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ (المائدة 67)
وفى الوقت الذى يأمر الله فيه النبي باتباع الوحى فإن الله تعالى يأمرنا جميعاً وفينا النبي- بطاعة الله والرسول، أي الرسالة ، ولم يأت مطلقاً "ما على النبي إلا البلاغ"، وإنما جاء ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (المائدة 99) فالبلاغ مرتبط بالرسالة كما أن معنى "النبي" مرتبط ببشرية الرسول وظروفه وعصره وعلاقاته.

2ـــ بين كلام الرسول وكلام النبي
عرفنا أن مـدلـول (النبي) هو شخص محمد عليه السلام في حياته وعلاقاته الخاصة والعامة وسلوكياته البشرية ، أما الرسول فهو النبي محمد حين ينطق بالرسالة وحين يبلغ الوحى..
ومحمد (النبي) له كلام مع زوجاته وأصحابه ، وله تصرفات باعتباره قائداً ومعلماً ورئيساً لدولة ، ومحمد (الرسول) له كلام باعتباره رسولاً نزل عليه وحى الله ليبلغه للناس.. فما هو الفارق بين هذا وذلك؟.. نبدأ بمحمد الرسول وأقواله..


ـــ أقوال الرسول:

يلفت النظر تلك الكراهية الشديدة من المشركين للقرآن ومحاولتهم مع النبي أن يغير في كلام القرآن أو أن يبدله ، وكان النبي يرد على مطلبهم هذا بإعلان خوفه من عذاب الله العظيم ، اقرأ في ذلك قوله تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ  قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ (يونس 15: 16) كانوا يريدون منه أن يتحدث في الدين من خارج القرآن على أنه دين الله ، ولكنه رفض خوفاً من عذاب يوم عظيم..
ولم ييأس المشركون ، أحكموا الحصار والخداع حول النبي يداهنونه ويطمعون في أن يصلوا معه إلى حل وسط فحذره ربه ﴿فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم 8: 9) ولكنهم استمروا في سعيهم وكادوا أن يؤثروا على النبي ولكن عصمة الله للوحى كانت أسرع من كيدهم ، وتعبير القرآن في وصف ما حدث أقوى مما يمكن قوله ، يقول تعالى : ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً  وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً  إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء 73: 75)
ونرجو من القارئ أن يتمعن في تدبر هذه الآيات ليصل إلى أي حد حاول المشركون مع النبي أن يتكلم في الدين خارج القرآن على أنه كلام الله ، وفشلوا لأن حفظ الله تعالى الوحى القرآني فوق إمكانات البشر وفوق كيد المشركين.. وفى القرآن شهادة للنبي تبرئه وتثبت أنه لم يتحدث في دين الله إلا بالقرآن كلام الله ، وأنه لم يتقول على الله شيئاً ، وهى قوله تعالى ﴿تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ  وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة 43: 47) فلو تقوّل النبي على الله شيئاً لم يقله رب العزة لعاقبه الله تعالى عقاباً شديداً يشهده الناس في عصر النبي ولا يستطيعون دفعه وحماية النبي منه ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ وحيث أن هذه العقوبة الهائلة لم تحدث فهي شهادة للنبي بأنه بلغ الرسالة كاملة في عصره ولم يتقوّل على الله شيئاً..
إن الدين هو لله ، فالله تعالى هو الذى ينزله وحياً ، وعلى الناس أن يخضعوا لهذا الوحى مهما تعارض مع أهوائهم ، والرسول هو الذى يتلقى هذا الوحى ويبلغه بحـذافـيـره ولا يملك أن يزيد أو ينقص منه شيئاً ، والله تعالى قال عن خاتم النبيين عليه السلام ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ..﴾ ليبرئ ساحة النبي من التحدث في دين الله من كلامه البشرى، وفى نفس الوقت أمره أن يقول كذا وكذا.. وهذا سر تكرار كلمة "قل" في القرآن الكريم.

كلمة "قل"وكلمة "قل" من أهم الكلمات القرآنية وقد وردت في القرآن 332 مرة ، وهى تعنى أن هناك أقوالاً محددة أمر الله تعالى رسوله أن يقولها للناس ، وتميز القرآن الكريم بكثرة ورود كلمة "قل" على نحو يختلف به القرآن عن التوراة والإنجيل اللذين بين أيدينا.
وقد بشرت التوراة التي بين أيدينا بخاتم النبيين الذى يأتي من بنى إسماعيل "يقيم الرب إلاهـك نبياً من وسطك من إخوتك مثلى له تسمعون.. أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به: سفر التثنية 18/5، 18".
والشاهد هنا أن الكتب السماوية السابقة نبأت بخاتم النبيين الذى ينزل عليه الوحى يقول له قل كذا ، ويصبح هذا جزءاً من الوحى المكتوب ، أو بتعبير التوراة "واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به".
وباستقراء المواضع القرآنية التي جاءت فيها كلمة "قل" نضع الملاحظة السريعة الآتية:
• أكثر ورود كلمة "قل" كان في الحوار مع شتى الأنماط البشرية والدينية.
هناك حوار مع المشركين مثل ﴿قُلْ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ (الروم 42)
وهناك حوار مع أهل الكتاب ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾(آل عمران 64)
وهناك حوار مع المنافقين ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ: لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾ (النور 53)
وهناك حوار مع المؤمنين ﴿قُلْ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..﴾ (الأنعام 151)
وهناك حوار مع كل البشر ﴿قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (الأعراف 158)
• وهناك "قل" في الإجابة عن أسئلة المؤمنين للرسول (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ: الْعَفْوَ﴾ (البقرة 219)
• وهناك "قل" في تشريع الدعاء والعقائد والعبادات ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ (الأنعام 161)
• وهناك تكرار لكلمة "قل" في الآية الواحدة ﴿قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ...﴾ (الأنعام 14)
• وتأتى "قل" لتؤكد معنى قرآنياً ورد في آيات أخرى لم تأت فيها كلمة "قل" فالله تعالى يقول ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ  إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان 33: 34)
ومضمون الآيتين السابقتين تكرار في آيتين جاءت فيهما كلمة قل ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف 187: 188)
وبالتوقف مع كل آية وردت فيها كلمة "قل" نتأكد أن القرآن كان يتابع النبي بإجابات مستفيضة ومتكررة عن كل شيء يحتاجه بحيث لم يكن لديه مجال أو متسع أو تصريح لأن يتكلم في دين الله من عنده خصوصاً وأن الله تعالى منع أن يتحدث النبي في الدين من عنده أو أن يتقول شيئاً ينسبه لله،وهذا يعنى أن أقوال الرسول وأحاديثه هي في داخل القرآن خصوصاً ما كان فيها الأمر الإلهي"قل"وفيها كل ما يحتاجه النبي والمسلمون.
وكان الرسول ينذر بالقرآن ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ...﴾ (الأنعام 51)
وكان يذكرهم بالقرآن ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (الأنعام 70) ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ (ق 45) وكان يبشرهم بالقرآن ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ (مريم 97) وكان يجاهدهم بالقرآن ﴿فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾ (الفرقان 52)
كان عليه السلام "خلقه القرآن" وحقيق به حينئذ أن يكون على خلق عظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القلم 4) والخُـلُــق في المفهوم القرآني هو الدين.. وهل هناك أعظم من دين الله.؟!.
وخارج نطاق الرسالة كانت للنبي أقوال وتصرفات في حدود بشريته وتعاملاته الخاصة والعامة ومسئولياته وعلاقاته.. فهل هذه الأقوال والأفعال تعتبر جزءاً من الدين.؟

أقوال النبي:محمد عليه السلام في حياته خارج الوحى كان حاكماً وقائداً عسكرياً وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن ، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله ، وكان فصيح اللسان وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة ، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به ، وأقواله وأفعاله خارج الوحى القرآني كانت تعكس ذلك..والقرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر

ونعطى أمثلة:
* في غزوة بدر خرج المسلمون بعدد قليل ليواجهوا قافلة ففوجئوا بقدم جيش ضخم يفوقهم عدداً وعدة، وكره المسلمين دخول الحرب خوفاً، والقرآن يصور ذلك الموقف فيقول ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ  يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ (الأنفال 5: 6)، وفى هذا الموقف انبرى القائد نبي الله يشجع أصحابه ، وسجل الله له هذا "القول" وذكر مقالته في هذا الشأن في معرض المدح ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ (آل عمران 124)
قال لهم النبي في ذلك الموقف: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة. إذن هذا حديث للنبي القائد في معركة بدر ذكره القرآن في معرض المدح.
* وفى غزوات ذات العسرة تثاقل المنافقون عن الخروج بينما جاء بعض فقراء المسلمين يريدون الخروج ولكن ليس معهم راحلة ولا مئونة فاعتذر لهم النبي قائلاً "لا أجد ما أحملكم عليه" ونزل القرآن يروى الحادثة ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة 91: 92)
قال لهم النبي في ذلك الموقف: "لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " فهذا حديث مرتبط بظروفه المكانية والزمانية شأن ما سبق في غزوة بدر.
* وفى قضية زواج زيد وتطليقه زوجته التي أصبحت زوجة للنبي عليه السلام يقول تعالى ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ (الأحزاب 37)
أمر الله تعالى النبي أن يجعل زيداً يطلق زوجته ثم يتزوجها النبي فيما بعد لكى يقضى النبي عملياً على عادة الجاهلية في اعتبار زوجة الابن بالتبني وطليقته مثل زوجة الابن الحقيقي ، وحتى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.
وكان ينبغي على النبي أن "يقول" لزيد "طلق زوجتك" ولكنه تحرج وقال العكس تماماً فنزل القرآن يؤنب النبي ويحكى القول الذى قاله واستحق بسببه التأنيب من ربه ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ..﴾ إذن هنا حديث للنبي هو ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ قاله النبي لزيد بن حارثة ، وذلك الحديث أيضاً مرتبط بظروفه الزمانية والمكانية ، ولكنه حين قاله النبي لم يحالفه التوفيق فيه.

والمراد أنه كان للنبي في تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث ، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التي قيلت فيها والتي يستحيل أن تتكرر في أي عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ مضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم ولم يبق منه إلا العبرة والعظة.
وسيرة النبي فيها الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي في الفترة المكية وفى الفترة المدنية ، وهى تاريخ يجوز عليه الصدق والكذب وليس داخلاً في دين الله تعالى بأي حال. أما ما أورده القرآن من قصص يخص النبي محمد فهو القصص الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والإيمان بهذا القصص يدخل في إطار الإيمان بالقرآن.

والخلاصة :
• إن أقوال (النبي) خارج الوحى القرآني والتي أوردها القرآن هي قصص للعبرة نؤمن بها ضمن إيماننا بكل حرف نزل في القرآن.
• وأقوال (النبي) خارج الوحى القرآني والتي كتبها الرواة في السيرة بعد وفاة النبي هي تاريخ فيه الحق والباطل والصحيح والزائف وليست جزءاً من الدين على الإطلاق.
• أما أقوال (الرسول) فهي الرسالة أو القرآن أو دين الله ، وقد أبلغه الرسول دون زيادة ولا نقصان ، وفيه الكفاية وفيه التفصيل وفيه البيان ، وكان (النبي) أول الناس طاعة لهذا الوحى وعملاً بما جاء فيه ، وهذه هي العظمة الانسانية الحقيقية لمحمد النبي البشر عليه السلام.

3ــ ما على الرسول إلا البلاغ:
هذه الجملة القرآنية أصبحت مثلاً يقال على اللسان، هذا مع أننا قليلاً ما نتفكر فيها فيما يخص ديننا. فالنسق القرآني هنا يأتي بأسلوب القصر والحصر الذى يحصر مهمة الرسول في إبلاغ الرسالة فحسب ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (المائدة 99) ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ﴾ (آل عمران 20) ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (المائدة 92) ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (الشورى 48)
وتبليغ الرسالة معناه توصيلها كما هي دون زيادة أو نقص ويؤكد ذلك أن أسلوب القصر والحصر في "ما على الرسول إلا البلاغ" يؤكد أكثر من مرة أن مسئولية الرسول هي تبليغ الرسالة بحذافيرها كما هي.
والبلاغ أو توصيل القرآن للناس يغنى أن يعرف الناس ما في القرآن من تبشير وإنذار وهداية ونور:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً : وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾ (الأحزاب 45: 46) وأوصاف الشاهد والمبشر والنذير والداعي كلها تندرج تحت مفهوم التبليغ ، والرسول إذا بلغ الرسالة أصبح شاهداً على قومه.
"وشهد على" عكس "شهد لـ" فإذا "شهدت على فلان" أي كنت خصماً له أما إذا "شهدت لفلان" فقد صرت مدافعاً عنه شفيعاً له.
والنسق القرآني يجعل من الرسول يوم القيامة "شاهداً على" قومه أي خصماً لمن عصى منهم واقرأ في ذلك الآيات الكريمات الآتية: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ (المزمل 15) ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ (النساء 41) ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل 89)
وقد جاءت شهادة الرسول على قومه يوم القيامة في قوله تعالى ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ (الفرقان 30) فمسئوليته أن يبلغ الناس القرآن وحين هجروا القرآن وتمسكوا بكتب أخرى معه استحقوا أن يتبرأ منهم الرسول يوم القيامة.
ومن معالم هجرهم للقرآن اتهامهم له بأنه ليس مُبـِيـناً يحتاج الى كلام البشر لشرحه وتوضيحه ، وأنه فرَّطـَ في التبيين وما جاء تبيانا لكل شيء مستحق للتبيين. من هنا ستكون شهادة الرسول يوم القيامة شهادة خصومة تؤكد أن القرآن نزل تبيانا لكل شيء:{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل 89)
وبعض آيات التبليغ كانت تقصر مهمة التبليغ والإنذار على الرسول وتجعل مهمة الحساب على الله يوم القيامة ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد 40) ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (الشورى 48) ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ  إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ  فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ (الغاشية 21: 26)
وقد أدى رسول الله مهمته والقرآن معنا نقرؤه ، ولكن لا نتدبره ، وأكثرنا يهجره.. نرجو من الله تعالى لنا الهداية.

4ــ الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:
كان النبي حاكما مسئولاً عن دولة ، وكان قائداً للأمة ، وكانوا يحتكمون إليه في أمورهم وقضاياهم ، وكان يحكم بينهم بصفته الرسول الذى ينطق بحكم الله كما هو.
والقاعدة القرآنية أن الحكم لله في أمور النزاع والاختلاف وينبغي على كل فريق أن يرضى بحكم الله.
يقول تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ ثم يقول تعالى ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (الشورى 7، 10)
ويقول تعالى ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ (الأنعام 114)
فالحكم إلى الله في كتابه الذى نزل مفصلاً ، والذى كان ينطق بهذا الكتاب ويبلغه للناس كان رسول الله عليه السلام ، لذا تقول آية أخرى تفصل في القول ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (النساء 59)
وحتى لا يقول قائل أن الرسول محمد عليه السلام قد مات وترك لنا غير القرآن كلاماً نحتكم إليه فإن القرآن الكريم أوضح لنا أن الرسول كان في حكمه ينطق بالقرآن وحده ، وبعد موت النبي وغيابه عنا فإن القرآن لا يزال بيننا لمن أراد الهدى والاحتكام إليه، وهذا ما نفهمه من موقف المنافقين من الرسول عليه السلام، المنافقون كانوا يحتكمون للرسول إذا كان الحق في جانبهم ، أما إذا لم يكن الحق معهم أعرضوا عن حكم الرسول مع أنهم يدعون أنهم مسلمون ينبغي أن يدينوا بالولاء لله ورسوله ،ويفصل القرآن موقفهم هذا فيقول ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ  وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ  وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ (النور 47: 49)
ويقول تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ﴾ (النساء 61)
وقد كانوا يصدون لأن الرسول يحكم بينهم بما أنزل الله فقط ، فقوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ﴾ لا تفيد وجود مصدر آخر مع ما أنزل الله ، لأن الرسول هو الذى ينطق بما أنزل الله وهو الذى يحكم بما أنزل الله.
ويؤكد ذلك آيات سورة النور ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا..﴾ (النور 48، 51) فلو كان الرسول شيئاً آخر منفصلاً عن كلام الله لجاء الفعل مثنى ولقال تعالى "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم" ولقال "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم.."
ولكن لأن الله هو الحكم وحده ولأن الرسول هو الذى ينطق بكلام الله وحده جاء الفعل مفرداً يعود الضمير فيه على واحد لا إله إلا هو فقال تعالى "  ليحكم بينهم". وصدق الله العظيم ﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ  وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ (النحل 51: 52)
والنبي - غير الرسول كما عرفنا - وباعتبار النبي بشراً فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه ، حدث ذلك حين سرق أحدهم درعاً وشاع بين الناس أمره وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق في بيت شخص يهودي برئ وفى الصباح جاءوا للنبي يبرئون ساحة ابنهم المظلوم.. وانخدع النبي وصدقهم ودافع عن ابنهم ، وبذلك أصبح اللص بريئاً ، وأصبح البريء لصاً.. وهى قصة تتكرر في كل زمان ومكان ، موجزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البريء السجن ظلماً ، والقرآن الكريم ذكر القصة وحولها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر في كل عصر ، وفى البداية عاتب الله تعالى النبي ووجه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذره من أن يكون مدافعاً عن الخائنين ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ أي أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله في ذلك الكتاب ، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار ﴿وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البريء ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً  يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾
ثم يقول تعالى ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً؟﴾ يعنى هل يستطيع أحد أن يدافع عنهم يوم القيامة أو أن يشفع فيهم؟ ثم جاءت الآيات التالية تضع قواعد المسئولية الفردية ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً . وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ أي كل إنسان مسئول عن سيئاته ، وإذا استغفر غفر الله له وإلا فهو مؤاخذ بما كسبت يداه ولن يجادل عنه أحد أو يشفع فيه يوم القيامة ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾(غافر 18)
ثم يقول تعالى للنبي ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ (النساء 105: 113) أي حاولوا خداع النبي ولكن نزل الوحى فـفـضحهم وأعاد الأمور إلى نصابها العادل، وعلى هذا كانت أقضية الرسول تسير وفق القرآن لأنه كان يحكم بالقرآن وينطق بالقرآن ولا شيء غير القرآن.

5 ـ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:

يقول تعالى ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران 132) ويقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ (النساء 59) فهل الطاعة في الدين لواحد أو لاثنين أو لثلاثة؟ المطاع واحد هو الله في أوامره التي ينطق بها الرسول أو من يقوم بالأمر بعد موت النبي ، والقاعدة الشرعية المأخوذة من القرآن أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وقد كانت طاعة النبي - وهو في حياته - في إطار طاعة الله فقط ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾ (الممتحنة 12)
والشاهد في الآية الكريمة هو قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّفلو قال "يا أيها الرسول" لكانت طاعته مطلقة لأنها طاعة للرسالة أي كلام الله ، ولكنه لأنه تعالى خاطبه بوصفه النبي فقد جعل طاعته مقيدة بالمعروف فقال "وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ  ".
فالطاعة للرسول هي طاعة لله صاحب الوحى ، والنبي أول الناس طاعة للرسالة ، وكذلك أولو الأمر ينبغي أن يكونوا أولى الناس بطاعة الله وإلا لا طاعة لهم في معصية الخالق جل وعلا..
ويقول تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء 64، 80) ولذلك فإن كل نبي كان يأتي لقومه برسالة كان يخاطبهم بوصف الرسول ويطلب منهم أن يطيعوه على أساس هذه الرسالة ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ  فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ (الشعراء :{ (107 ، 108) ، (125 ، 126) ، (162 ، 163) } ولم يقل لهم "إني لكم نبي أمين..".
ومع أن القرآن حـث على الإحسان بالوالدين إلا أنه أوجب أن تكون الطاعة لله إذا حاول الوالدان إضلال الأولاد ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ﴾ (العنكبوت 8)
إن طاعة الرسول هي طاعة القرآن الذى أنزله الله على الرسول ، ولا يزال الرسول أو القرآن بيننا.

6 ـ واتبعوا النور الذى أنزل معه:
الإيمان ليس بشخص محمد عليه السلام وإنما الإيمان بما نزل على محمد ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ..﴾ (محمد 2)
ونحن لا نتبع محمداً عليه السلام كشخص وإنما نتبع النور الذى أنزل معه أي القرآن فهذا ما جاء في كلام الله ﴿...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الأعراف 157)
كان النسق اللغوي يقتضى أن يقال "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوه.." ولكن الاتباع ليس للشخص الآدمي وإنما للوحى الإلهي.
ومحمد عليه السلام هو أول الناس تمسكاً بالوحى واتباعاً للهدى، وبهذا أمره به تعالى فقال ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (الأنعام 106) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ﴾ (يونس 109) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ (الأحزاب 2) ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ (القيامة 18) ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (الجاثية 18)
وأمره ربه أن يعلن أنه يتبع الوحى ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَي﴾ (الأنعام 50)﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف 203)
وإذا كان النبي متبعاً للوحى فنحن أولى الناس بعده باتباع الوحى ، يقول تعالى يخاطبنا ويخاطب النبي ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ  اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ (الأعراف 2: 3)
وهذه الآيات الكريمة هي بداية سورة الأعراف، وفيها ينهى الله تعالى النبي عن التحرج من تبليغ القرآن وأن ينذر به ،وهو تعليم لنا نحن المؤمنين وذكرى :﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، ثم جاءت لنا نحن المؤمنين أوامر محددة بالاتباع للقرآن فقط :﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ونهى واضح محدد عن اتباع غير القرآن:﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فالقضية واضحة لا تقبل الجدل ، وهى اتباع القرآن دون غيره.
ويأتي السؤال التقليدي: إذن فأين الاتباع للنبي؟ والجواب الوحيد: إنه الاتباع للقرآن الذى يتبعه النبي ، أو هو اتباع الرسول أي الرسالة أي القرآن.
وقوله تعالى ينهانا ﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فيه إعجاز خفى ، فاتخاذ مصادر أخرى من القرآن والانحياز لمن كتبها وألفها معناه وضعهم في موضع المقارنة بالله تعالى وكتابه في نفس المستوى أو أقل قليلاً، وذلك وقوع في اتخاذ أولياء مع الله، مع أن المؤمن يكتفى بالله ولياً وبالقرآن كتاباً.
وقوله تعالى ﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ يضع حقيقة إنسانية ثابتة وهى أن أكثر البشر تتبع الأهواء والضلالات:﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام 116)
ولكن هذه الكثرة العددية التي تتبع الظن والهوى ينبغي ألا تكون حجة على الحق القرآني.. ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾(المائدة 100)
ومن عادات البشر السيئة أنهم قليلاً ما يتذكرون﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ (ص 24)

رقم ( 6 ) : القسم الثانى : هل كان للنبي أن يجتهد في التشريع ؟

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

القسم الثانى :  هل كان للنبي أن يجتهد في التشريع؟

1 ـ ليس للنبي أن يجتهد في التشريع أو أن يعلم الغيب:
2ـ  اجتهاد النبي في التطبيق وليس في التشريع
 3ـ  حدود اجتهاد الناس في تشريع القرآن:
4 ـ  سُــنـّة الرسول هي القرآن فقط:
5 ـ ( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)

6ـ وهذا ما جاء فى أحاديثهم هم ..ونستشهد بها للرد عليهم بكتبهم وأحاديثهم :


1ـ ليس للنبي أن يجتهد في التشريع أو أن يعلم الغيب:
المؤمن بالقرآن عليه أن يؤمن بأن الأنبياء هم أصلح البشر لتحمل مسئولية الرسالة وإلا لما اختارهم الله جلّ وعلا :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأنعام 124) على أن مسئولية الرسالة تنحصر في النهاية في التبليغ فقط ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (المائدة 99)
ومن اقتصار مهمة النبي على التبليغ للرسالة كما هي دون زيادة أو نقصان يمكن أن نستنتج أن تدبر الكتاب والاجتهاد في فهم معانيه هو مسئولية الناس بعد أن أوصل لهم النبي الرسالة ، وهذا الاستنتاج العقلي قد أثبته القرآن قبلنا ، فالله تعالى يقول ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ (ص 29) فالنسق اللغوي في الآية كان يقتضى أن يقال للنبي: كتاب أنزلناه إليك مبارك لتتدبر آياته ، ولكن التدبر في الكتاب مسئولية الناس كما أن التبليغ مسئولية الرسول.
ويؤكد القرآن على مسئوليتنا نحن في التدبر في الكتاب ، فيقول تعالى بتعبير الاستفهام الإنكاري ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ (النساء 82) ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ.؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد 24)
ويوم القيامة سيكون ندمهم شديداً لأنهم لم يتدبروا القرآن ، فسيقال لهم ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ (المؤمنون 68)
ووصف الله تعالى القرآن بأنه بصائر للناس ، أي دعوة لهم لأن يتبصروه وأوضح لهم أنه لا شأن للنبي بهم بعد أن أدى مهمته في التبليغ ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ (الأنعام 104)ويقول تعالى للنبي ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ  وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ (الأعراف 203: 204) فلابد من الإنصات للقرآن حتى نتبصره ونتدبر آياته.
والذى لا شك فيه أن النبي عليه السلام بعقليته كان أصلح الناس للاجتهاد ، وكان منتظراً أن يبادر بالإجابة على من يسأله ويستفتيه في أمور الدين ، ولكن الواقع القرآني يؤكد أن النبي كان إذا سُئـِلَ في شيء كان ينتظر نزول الوحى ليأتي بالإجابة ، وينزل قوله تعالى ﴿يسألونك عن﴾ كذا ﴿قل﴾ كذا..
وكلمتا ﴿يسألونك﴾ و ﴿يستـفـتونك﴾ مع كلمة {قل} من كلمات الله في القرآن الكريم ، ومنها نتأكد أن النبي كان مطلوباً منه فقط أن يبلغ الرسالة كما هي ، لقد كانوا يستفتون النبي ولكن النبي كان ينتظر نزول الوحى ، وتنزل الفتوى من رب العزة ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴾ ﴿النساء 127) لم يقل له ويستفتونك قل إني أفتيكم ، وإنما قال: ﴿قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴾ وفى المواريث استفتوا النبي في الكلالة فانتظر الفتوى من الله تعالى فنزل قوله تعالى ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ..﴾ (النساء 176) لم يقل أنا أفتيكم.
ومن مراجعة كلمة "يسألونك" في القرآن نتعرف على الحقائق الآتية:
* كانوا يسألون النبي عن أشياء جديدة في التشريع ، وكان النبي ينتظر معهم الحكم التشريعي الجديد الذى ينزل به القرآن ، مثال ذلك سؤالهم عن الأنفال أو الغنائم ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ.... ﴾ (الأنفال 1)
* وكانوا يسألون النبي عن إيضاحات جديدة في أمور تحدث عنها القرآن من قبل ، وكان بإمكان النبي أن يجيب عنها بالاستنتاج والقياس ، ولكنه عليه السلام لم يفعل ، فقد نزل قوله تعالى في مكة ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ (الأعراف 33) فالإثم كان محرماً في مكة ، ثم سُئـِلَ النبي في المدينة عن حكم الخمر ومعلوم أنها من الآثام ، ولم يجتهد النبي في التوضيح والقياس والاستنتاج ، وهو بلا شك أقدر الناس عليه ، ولكنه انتظر حتى جاءت الإجابة من الله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة 219) وطالما أن في الخمر إثماً كبيراً فإن تحريمها قد نزل إجمالاً في مكة ثم جاء تفصيلاً في المدينة.
* بل كانوا يسألون النبي عن أمور تكرر حديث القرآن عنها، ومع ذلك فالنبي كان لا يتلو عليهم الإجابة من الآيات التي نزلت من قبل ،وإنما كان ينتظر نزول الوحى فينزل بإجابات تؤكد ما سبق بيانه ، فقد نزلت آيات مكية تحض على رعاية اليتيم ، ومنها ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ﴾ (الضحى 9) ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ (الماعون 1: 2) ﴿كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ (الفجر 17) ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ  يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ (البلد: 14 ، 15) ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ (الأنعام 152، الإسراء 34)
ثم نزلت آيات في المدينة تؤكد على رعاية اليتيم منها ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ (الإنسان 8) ، ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ..﴾ (البقرة 177)
ومع ذلك سألوا النبي عن اليتامى ، وانتظر النبي الإجابة ولم يقرأ عليهم الآيات الكثيرة عن رعاية اليتيم وحقوقه ، ونزل قوله تعالى يجيب السؤال ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ (البقرة 220) وهذه الإجابة تؤكد ما سبق بيانه من رعاية اليتيم ، وسُئـِلَ النبي مرة أخرى عن يتامى النساء ونزل الوحى يؤكد ما سبق بيانه من وجوب رعايتهن ورعاية اليتيم ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ (النساء 127) والإجابة هنا تشير إلى ما نزل في الكتاب وكانوا يتلونه ويقرأونه من رعاية اليتامى والمستضعفين من الولدان.
* وأكثر من ذلك فهناك حقيقة قرآنية مؤكدة وكررها القرآن ، وهى أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم موعد قيام الساعة ولا ما سيحدث له أو للناس ، واقرأ في ذلك قوله تعالى ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ (الأنعام 50) ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..﴾ (الجن 25: 27) ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ (الأنبياء 109) وهل هناك أوضح من قوله تعالى ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ..﴾ ؟(الأحقاف 9)
ومع ذلك فهناك آيات أخرى كثيرة تؤكد أن علم الساعة عند الله وحده ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ (لقمان 34) ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (فصلت 47) ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (الزخرف 85)
كلها آيات تؤكد أن النبي لا يعلم الغيب وأن علم الساعة لله وحده وكانت تكفى آية واحدة ولكنهم سألوا النبي مرة ومرات عن الساعة ، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة بأن يقرأ عليهم الآيات السابقة ، وإنما انتظر الوحى ، وكان الوحى ينزل دائماً بنفس الإجابة وهى أن علم الساعة لله وحده وأن النبي لا يعلم الغيب.
سألوا النبي عن الساعة فلم يبادر بالإجابة وهو بلا شك يعلم أن القرآن لا يمكن أن يأتي بإجابة تناقض ما سبق ، وأن الإجابة ستكون نفس المعنى الذى تكرر وتأكد من قبل،.. انتظر النبي الإجابة ونزل قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ ...﴾ (الأعراف 187: 188) وهذا توضيح فيه أكثر من الكفاية.
ولكنهم سألوه أيضاً عن الساعة ونرى النبي عليه السلام أيضاً ينتظر الإجابة فنزل قوله تعالى يجيب ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا  إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا  إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ (النازعات 42: 45) والآيات الأخيرة ملئت بأسلوب الاستفهام الإنكاري ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا  ﴾ وجاء أسلوب القصر يقصر علم الساعة على رب العزة ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ﴾ ويقصر وظيفة النبي على الإنذار ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾.
كان ذلك في مكة ثم في المدينة سألوا النبي عن الساعة، وانتظر النبي أيضا نفس الجواب من رب العزة ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً﴾ (الأحزاب 63)
كان بإمكان النبي أن يجيب، ولديه الكفاية من الآيات، ولكنه كان ينتظر الإجابة، وينزل الوحى بالإجابة المعروفة سلفاً، ثم يسألون النبي نفس السؤال وينتظر النبي إلى أن تأتى الإجابة.. وتأتى نفس الإجابة ثم يسأله آخرون نفس السؤال ، وأيضاً ينتظر الإجابة التي يعرفها إلى أن ينزل الوحى.. وهكذا.. ولو كان من حقه الاجتهاد لأجاب منذ السؤال الأول.
على أن هذه التأكيدات القرآنية لم تأت عبثاً- وتعالى الله عن العبث- فمع كل التأكيدات التي كانت تكرر وتكرر وتؤكد أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم شيئاً عن الساعة وموعدها وأحداثها - مع ذلك فإن الناس أسندوا للنبي بعد موته عشرات الأحاديث عن علامات الساعة وأحداثها والشفاعات وأحوال أهل الجنة وأهل النار.

وهذه الأحاديث التي ملأت الكتب (الصحاح) تؤكد اعجاز القرآن لأننا نفهم الآن لماذا كرر القرآن تلك التأكيدات سلفا ومسبقا ليرد عليها سلفا ومسبقا.

هذه الأحاديث الضالة تضعنا في موقف اختبار أمام الله تعالى فإما أن نصدق القرآن ونكذبها، وإما أن نصدقها ونكذب الله وقرآنه.. ولا مجال للتوسط.. ونسأل الله السلامة والهداية..ونعود إلى قضية التشريع..
*** فقد كانوا يسألون النبي عن أشياء لا نشك لحظة في أنه عليه السلام كان يعرف الإجابة عنها من خارج القرآن ، ومع ذلك فلم يبادر النبي بالإجابة من عنده أو من معلوماته وإنما انتظر الوحى القرآني ، فقد سألوا النبي عن الأهلة - جمع هلال - ومعروف أن الأهلة هي لمعرفة المواقيت ، وهذا ما كان مشهوراً العلم به في الجزيرة العربية حيث اعتاد العرب في شهورهم العربية على الاعتماد على التوقيت القمري ، وبه كانوا يؤدون فريضة الحج قبل القرآن وفى عصر النبي عليه السلام. وهكذا فعندما سألوا النبي عن الأهلة كان ممكناً أن يجيبهم من عنده ولكنه انتظر حتى نزل قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ... ﴾ (البقرة 189). وسألوا النبي عن مباشرة النساء في المحيض ، ونحن نعتقد أن النبي بذوقه الرفيع وحسه المرهف - عليه السلام - كان يعلم أن المحيض أذى وأنه ينبغي اجتناب النساء في المحيض ، ومع ذلك فلم يصرح النبي برأيه وانتظر الوحى حتى نزل قوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ (البقرة 222)
* وحدث أن جاءت امرأة تسأل النبي عن حكم الظهار بعد أن ظاهر منها زوجها أي أقسم باجتنابها جنسيا أو بحرمتها مثل تحريم أمه عليه ، ولم تكن لدى النبي إجابة فانتظر كعادته الوحى ، ولكن المرأة لم تنتظر وأخذت تجادل النبي - وهذا منتظر ممن كانت في مثل حالتها - ولما لم تجد لدى النبي شيئاً رفعت يديها للسماء تشكو لله تعالى حالها ، ونزل القرآن يوضح ذلك الموقف ويفتى في الموضوع ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ (المجادلة 1)
إن صاحب الشرع هو رب العزة تعالى ، أما الرسول فهو الذى يبلغ ذلك الوحى كما هو.. ولو كان للنبي حق الشرح والاجتهاد ، لأصبح للدين مصدران ، وكان لابد حينئذ أن يحظى ذلك المصدر الثاني بحفظ الله شأنه شأن المصدر الأول ، ولكن ذلك لم يحدث لأنه ومنذ البداية فإن التبليغ هو مسئولية الرسول ، وليس الاجتهاد من مسئولياته..
ونضيف إلى ذلك أنه طالما كان الوحى ينزل والشرع لما يكتمل بعد فلم يكن هناك مجال للاجتهاد في التشريع ، وحين اكتمل الوحى نزولاً وتم الدين قرآناً انتهى دور النبي ومات بعد أن أدى الأمانة وبلّغ الرسالة.
ولو كان النبي يجتهد ويتحدث في الدين برأيه وأنشأ مصدراً آخر مع القرآن من خلال اجتهاده- لو حدث هذا ما كان لدى الصحابة والتابعين والأئمة مجال للاجتهاد بعد اجتهاد النبي أو تفسيره للقرآن. ولكن الذى حدث أن الصحابة والتابعين والأئمة قد اجتهدوا في التفسير والإفتاء والتشريع ، ثم جاء اللاحقون فأسندوا بعض الاجتهاد الذى قالوه للنبي ليجعلوا له قدسية وليضمنوا انتشاره ، ولم يفطنوا إلى أن ذلك يناقض القرآن ، وبذلك نشأ ما يعرف بالمصادر الأخرى إلى جانب كتاب الله...
2 ـ اجتهاد النبي في التطبيق وليس في التشريع

 ولكن كان عليه أن يجتهد في طاعة الله وتطبيق أوامره وتنفيذ شريعته، وحتى فى ذلك أمره الله أن يشاور المؤمنين في الأمر ، ولكن هل يصلح اجتهاده في التطبيق لمن جاء بعده من المؤمنين ؟ ان المفهوم أن اجتهاده في التطبيق للنصوص الشرعية يخضع لإمكاناته البشرية وظروف الزمان والمكان ومن حوله من البشر ، وهى مختلفة بالتأكيد عن ظروفنا وبالتالي فليس اجتهاده التطبيقي في عصره ولعصره ملزما لنا وكل من جاء بعده.
مثلا يقول تعالى : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ " الأنفال 60" كان اجتهاد النبي في التسليح والاستعداد العسكري طبقا للآية الكريمة محكوما بظروف عصره ، فهل نتمسك بذلك في عصرنا ؟ أم نجتهد بما يناسب عصرنا.؟
اجتهادنا في فهم القرآن فريضة دينية اسمها التدبر .
اذا تدبرنا القرآن طلبا للهداية وبمنهج علمي وبدون هوى مسبق أفلحنا ، وهذا ينسب لنا وليس لدين الله تعالى ، أما إذا اجتهدنا في الدين فأخطأنا في الاجتهاد فالخطأ يلحق بنا نحن ولا شأن للدين بنا.. وكلنا بشر يجوز علينا الخطأ ، لذا كان لابد لدين الله أن يكون بمعزل ومنجاة من أخطاء البشر وليظل ساميا فوق الهوى البشرى وقد ضمن الله تعالى حفظه الى قيام الساعة ليكون حجة على اجتهادهم الخاطئ و افترائهم على الله تعالى ورسوله.
ولأنه محفوظ بقدرة الله تعالى فلم يستطيعوا النيل من لفظه ونصه فكذبوا على الله تعالى ورسوله في التفاسير والأحاديث ، وتخيل لو لم يحفظ الله تعالى قرآنه من أهوائهم ؟ اذن كانت رقابة الشيوخ قد حذفت من القرآن كل الآيات التي تنفى عصمة النبي وشفاعته وعلمه بالغيب والآيات الأخرى التي تؤكد على القيم الاسلامية العليا من الحرية المطلقة في العقيدة والفكر و الحق المطلق في العدل وفرضية الشورى بمعنى الديمقراطية المباشرة ، وكل تلك الحقائق القرآنية المنسية الغائبة والتي اجتهدنا في توضيحها فثار علينا الشيوخ ولا يزالون مع أن كل أدلتنا من القرآن ، لو استطاعوا لأعلنوا كفرهم به ، لم يبق في استطاعتهم الا اضطهادي وسبى وشتمي ليداروا عورة جهلهم وكراهيتهم لما أنزل الله تعالى ، ذلك القرآن الذى أنزله الله تعالى لنا دينا نقياً صافياً محفوظاً بقدرته جل وعلا حتى تتم علينا حجة الله يوم القيامة.

 3 ـ  حدود اجتهاد الناس في تشريع القرآن:

كلمة الاجتهاد بمعناها الاصطلاحي من مبتكرات العصر العباسي ونحن مضطرون لاستعمالها لشيوعها على الألسنة ، والاصطلاح القرآني المماثل هو "التدبر" ومعناه أن يظل القارئ للقرآن خلف الآية يتتبعها في القرآن حتى يستوعب المراد ، لأن القرآن مثاني وفيه التشابه وتكرار المعنى وتفصيلها ، وآياته تفسر بعضها بعضاً ولا يناقض بعضها بعضاً ، لذا فإن الأمر بتدبر القرآن يشير إلى هذه الحقيقة فيقول تعالى ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ؟ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء 82)
والتدبر عملية عقلية فكرية يقوم بها القارئ للقرآن متشجعاً بآياته التي تحث على التفكر والتعقل والنظر والعلم و التـفـقه.
على أن القرآن استعمل بعض المشتقات القريبة من كلمة "الاجتهاد" مثل ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ (التوبة 79) والجهد هنا يعنى الإمكانات المالية والمادية ، وقريب منه قوله تعالى ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ (النور 53) وقد يكون الجهد مجهوداً عضلياً أما التدبر فهو تفكير عقلي علمي بحت ، وذلك يجعل من أسلوب القرآن أرقى وأدق من اختراع العصر العباسي : "الاجتهاد" ــ الذى لا يزال مسيطراً على تفكيرنا حتى الآن.
والسؤال الآن: ما هي حدود الاجتهاد في شرع الله.؟ ومتى يكون مباحاً ومتى يكون محظوراً؟ إن الله تعالى يقول ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟﴾ (الشورى 21) ومع نبرة الهجوم والتخويف في الآية من ذلك التشريع الذى لم يأذن به الله فإن في الآية تصريحاً بوجود تشريع يرضى عنه الله لأنه جاء في الحدود التي يأذن بها الله ، ومن أسف فإنهم لم يعرفوا تلك الحدود فاجتهدوا في المحظور وربما توقفوا حيث ينبغي الاجتهاد ، ولقد قالوا أنه "لا اجتهاد مع وجود نص" مع ان النص القرآني يحتاج ــ كأي نص تشريعي ــ الى اجتهاد في تطبيقه على الواقع. انهم أضافوا نصوصاً منسوبة للنبي وجعلوها ــ مع أخرى ــ مصادر أخرى للإسلام مع القرآن ، وأصبحت تلك النصوص موانع للاجتهاد لا وجود له معها بما جعلوا لها من قدسية مع أنها تخالف القرآن ، ونضرب لذلك مثلاً:
فالمحرمات في الزواج جاءت في نص قرآني جامع مانع في قوله تعالى ﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً  حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ (النساء 22: 24)
فالمحرمات هنا بالنص القرآني كالآتي "الأم" "البنت" الأخت" "العمة" "الخالة" "بنت الأخ" "بنت الأخت" "الأم من الرضاعة" "الأخت من الرضاعة" "أم الزوجة" "بنت الزوجة التي دخل بها زوجها" "زوجة الابن من الصلب" "أخت الزوجة في وجود الزوجة على ذمة زوجها وفى عصمته" ثم "المرأة المتزوجة بزوج آخر إلا إذا فسخ عقد زواجها بملك اليمين" فهنا خمس عشرة امرأة محرمة في الزواج عندما نضيف "زوجة الأب".
وقد حرص القرآن الكريم على توضيح التفصيلات والاستثناءات والمحترزات لتتضح الصورة كاملة ، فأجاز على سبيل الاستثناء أنواع الزواج الباطل الذى كان موجوداً قبل نزول الآية وأقره بصفة مؤقتة ولكن حرم أن ينشأ بعد تلك الحالات الموجودة حالات أخرى، ففي تحريم زواج أرملة الأب أو طليقة الأب قال تعالى ﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ وفى تحريم الجمع بين الأختين في الزواج قال تعالى ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ومع أنها كانت حالات فردية معدودة وقت نزول القرآن إلا أن القرآن الكريم الذى فصل كل شيء تفصيلاً والذى نزل تبياناً لكل شيء أفسح لها مجالاً للتوضيح طالما يستدعى الأمر ذلك.
وأوضح القرآن بأفصح بيان معنى البنت الربيبة بالتفصيل ﴿وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾.
وأوضح معنى زوجة الابن المحرمة ﴿وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ﴾ أي لابد أن يكون الابن من صلب أبيه وليس ابناً بالتبني ولذلك أمر الله تعالى أن يطلق زيد بن حارثة ــ الذى تبناه النبي ــ زوجته زينب بنت جحش ليتزوجها النبي فيما بعد.
وأوضح حرمة الزواج من المرأة المتزوجة التي لا تزال في عصمة زوجها إلا إذا فقدت حريتها وأصبحت مملوكة وحينئذ ينفسخ عقد زواجها وبعد انتهاء عدتها يمكن لها الزواج ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾.
وبعد أن حصر القرآن المحرمات وفصّل القول فيهن تفصيلاً قال تعالى ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أي أن تحريم هؤلاء النسوة مكتوب ومفروض عليكم، فهنا حكم جامع مفصل بالتحريم، وبعده قال تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أي أنه من بعد المحرمات المنصوص عليهن في الآيات الثلاث فكل النساء أمامكم حلال للزواج الشرعي ولسن محرمات بأي حال.
ومعناه أن القرآن الكريم أحاط النساء المحرمات بسور تشريعي جامع مانع، وما بعد ذلك السور فكل النساء حلال للزواج.
وبمعنى أدق فلا يجوز هنا أن نجتهد إلا في تطبيق هذا النص كما هو خصوصا وهو نص تشريعي جامع مانع لا يجوز الاضافة له أو الحذف منه حتى لا نعتدى على تشريع الله ، ولكن الفقهاء أعملوا القياس فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها قياسا على حرمة الجمع بين المرأة وأختها ، وحرموا الخالة والعمة من الرضاع قياساً على تحريم الأم من الرضاع والأخت من الرضاع ، ثم صاغوا في ذلك أحاديث هي أشبه بمتون الفقه وأحكام الفقهاء فقالوا "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وقالوا "لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها".
وهنا يقع التناقص مع كتاب الله..
فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة زوجته أجاز له القرآن ذلك لأن عمة الزوجة ليست من المحرمات في نص القرآن ولأنها تدخل في الحلال من النساء للزواج ضمن قوله تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ ولكن كتب الفقه تجعل ذلك الحلال القرآني حراماً.
وإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاع أحلها له القرآن وحرمها عليه الفقه..!! وذلك يعنى بوضوح أنهم يحرمون ما أحل الله وينسبون ذلك للرسول ، والرسول عليه السلام برئ من ذلك..
إن النساء كلهن حلال للزواج ماعدا المنصوص عليهن بالتحديد والتعريف الدقيق ولكنهم لم يكتفوا بذلك التحديد الجامع المانع فأضافوا محرمات أخريات وضربوا بقوله تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ عرض الحائط. وقالوا لنا "لا اجتهاد مع وجود نص" واخترعوا نصوصاً أكسبوها قدسية مع أنها تعارض كتاب الله ومنعونا من مناقشتها..
وذلك مجرد مثل للاجتهاد المحظور الذى وقع فيه السابقون وأكسبوه قدسية، وهناك أمثلة أخرى لذلك الاجتهاد في المحظور الذى يعتدى على النصوص القرآنية الجامعة المانعة، ولكن الإسهاب في ذلك يخرج عن موضوع هذا الكتاب.
كان ينبغي أن يتوجه اهتمام الفقهاء إلى الاجتهاد في المناطق المباح فيها الاجتهاد. فمن الملاحظ أن آيات التشريع القرآني محدودة ومحددة فهي أقل من مائتي آية أي ما يعادل حوالى 1/30 من القرآن الكريم ، ومع ذلك فقد اكتفى رب العزة بهذه الآيات ، وبها اكتمل الدين وتمت نعمة الإسلام بتمام القرآن ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ (المائدة 3) وليس ممكناً بعد هذه الآية أن يقال أن كتب الفقه والحديث تكمل نقصاً في القرآن ، فتعالى الله العزيز الحكيم أن ينزل لنا كتاباً ناقصاً يحتاج للبشر في استكماله ، وآيات التشريع القرآني على قلتها ومحدوديتها تعنى أن تشريع القرآن ترك هامشاً للحركة الإنسانية في الاجتهاد والتطور وفق المتغيرات ولكن ينبغي أن يكون ذلك في الإطار العام لتشريعات القرآن التي تهدف لإقرار العدل والمساواة والقسط والتيسير وحفظ الحقوق والدماء ، إن التشريع القرآني جاء بنصوص جامعة مانعة في أمور محددة كالمحرمات في الزواج والحرام في الطعام وجاء بأنصبة محددة في الميراث، ومطلوب منا أن نجتهد في تطبيق هذه النصوص التطبيق الأمثل، لا أن نجتهد في الاعتداء عليها وتغييرها بالإضافة والتشويه.
ثم جاء التشريع القرآني يحتكم للعرف أو المعروف في التطبيق لأحكامه التفصيلية و لأن تصاغ من العرف والمعروف قوانين اسلامية في اطار القيم الاسلامية الانسانية العليا المتعارف عليها في كل زمان ومكان من العدل والحرية والسلام والاحسان والتسهيل والتخفيف والرحمة والرفق والعفو.
بالعرف وبالمعروف يمكن مثلا تطبيق تلك القيم الاسلامية العليا في المجتمع ــ وفق العرف السليم ومواءمته للعصر الذى يعيشه الناس ــ في كل ما تركه القرآن للتقنين البشرى ، وهذا يدخل فيه كل شيء من قوانين الاسكان الى المرور والاستيراد والتصدير والهجرة ...الخ ..الخ . وكل قانون يشرى روعـيت فيه تلك القيم السامية فهو تشريع إسلامي أذن به الله تعالى ، كما يمكن أيضا تطبيق التفصيلات التشريعية القرآنية نفسها حسب العرف أو المعروف المتعارف عليه في كل عصر ، وذلك لكى يتيح القرآن الكريم المجال للتطور الاجتماعي والإنساني وتظل تشريعات القرآن فوق الزمان وفوق المكان ، وما كان يصلح للعصر العباسي مثلاً لا يصلح لعصرنا.
ومثلاً يقول تعالى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (البقرة 233) فلم يحدد القرآن مبلغاً من المال بالدرهم والدينار وإنما قال "رزقهن" ليشمل الجانب النقدي والجانب العيني واحتكم للمعروف أي القيمة الانسانية العليا في القسط والعدل وتطبيق ذلك بالعرف السائد من النقد والعملة وسائر أحوال المعيشة ومدى المناسب لحال المرضعة والوالدة ووضعها ووضع المجتمع ، وينبغي هنا أن يقوم الناس بوضع القوانين التي تناسب عصرها في اطار ذلك العرف الذى اشار اليه القرآن الكريم في تلك التفصيلات التشريعية ، وهنا يكون الاجتهاد في خدمة النص القرآني.
ويلاحظ أن الاحتكام للعرف والمعروف يتكرر كثيراً في حديث القرآن عن الزواج والأحوال الشخصية باعتبارها أقدم "عرف" تعارف عليه بنو آدم ولا يزال الزواج هو الصيغة الشرعية التي يباركها دين الله ، وحين نزل القرآن كان رسول الله محمد قد تزوج زواجاً شرعياً وفق عرف الجاهلية، فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا محرومين كلية من التشريعات الصالحة، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يوضح لنا مثلاً كيفية عقد الزواج ، ولكن نزلت آيات كثيرة تصحح بعض الأخطاء الشائعة في الزواج وعلاقات الزوجين والشقاق بينهما وعدة المطلقة وحقوقها، واحتكم في ذلك للعرف.
والتفصيل في مواضع الاحتكام للعرف والمعروف في تشريع القرآن يخرج عن موضوعنا وموعدها كتاب خاص عن فلسفة التشريع القرآني ، ولكن يلفت النظر عناية القرآن بالشورى وأمر النبي بها وهو الذى ينزل عليه الوحى ، وجعلها من سمات المجتمع المسلم ، وبها يمكن للمجتمع صياغة قوانين في اطار العرف والمعروف سواء في تطبيق التفصيلات التشريعات القرآنية وتنزيلها على الواقع المعاش وفق المتعارف على أنه الأكثر عدلا ويسرا ، أو في استخلاص قوانين جديدة فيما ينفع الناس فيم تركه القرآن للبشر للتقنين وما أذن الله تعالى لهم في تشريعه في اطار وضوابط القيم الاسلامية العليا المشار اليها .
لقد قامت حياة النبي عليه السلام على أساس تبليغ القرآن كما هو وجاهد حتى بلّغ الرسالة وحين اكتملت الرسالة مات النبي وترك لنا الرسالة أو القرآن أو الرسول المقروء بيننا.. وفى حياة النبي كانوا يسألونه ويستفتونه فينتظر الإجابة من الوحى ، وبعض هذه الأسئلة كان يمكنه الإجابة عنها ولكن الدين دين الله، والله وحده هو صاحب الحق في التشريع وليس للنبي أن يفتى وما كان يفعل. ولكنه عليه السلام كان يجتهد في تطبيق النصوص القرآنية وكان يستشير لكى يصل للصيغة المثلى في التطبيق.
وهناك بالنسبة لنا نحن بعد النبي مجالات حددها القرآن للتطبيق الحرفي بلا أدنى تغيير أو تبديل مثل المحرمات في الزواج وعدم تحريم الحلال في الطعام، والأنصبة المحددة في الميراث.
ثم هناك مجالات أباح فيها القرآن للاحتكام للعرف منها ما يخص السلطة الاجتماعية ومنها ما ينفذه المسلم في ضوء تقواه وخشيته من الله مثل الوصية والصدقة..
ثم هناك المشورة في غير وجود النص، والنصوص القرآنية التشريعية محددة ومحدودة مما يعطى فرصة كبرى للتطور الاجتماعي لتحقيق العدالة والقسط والتيسير، وذلك يعطى تشريع القرآن إمكانية الاستمرار في كل مكان وزمان ، وهناك أيضاً المشورة في كيفية تطبيق النص أو في تقنين العرف، وأي تشريع يصل إليه المجتمع بالمشورة مستلهماً روح القرآن بهدف تحقيق العدالة والمساواة ومنع الظلم فهو تشريع إسلامي أذن الله تعالى به.
فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتاب كان إقامة الناس للقسط وفى ذلك يقول تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾ وصدق الله العظيم (الحديد 25)

 4 ـ سُــنـّة الرسول هي القرآن فقط:

السُنّة هي الشرع وهى الطريقة والمنهاج ، وبهذين المعنيين جاءت كلمة السنة في القرآن منسوبة لله ولشرعه ولطريقته في التعامل مع البشر مشركين ومؤمنين..
كانت سنة أو طريقة المشركين هي الاستكبار عن الحق والمكر بالمؤمنين ، وكانت طريقة الله معهم أو سنته أن يحيق مكرهم السيئ بهم ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ (فاطر 43)
كان المشركون يرغمون المؤمنين على الهجرة لذا كانت طريقة الله إهلاكهم أو تعذيبهم، يقول ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً  سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ (الإسراء 76: 77)
وكانت سنة الله أو طريقته أن يهزم المشركين أمام المؤمنين إذا صدقوا في إيمانهم ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً  سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ (الفتح 22: 23)
وتآمر المنافقون في المدينة على النبي والمسلمين وهددهم الله بأن يجرى عليهم سنته في التعامل مع المشركين ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً  مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴾ (الأحزاب 60: 62)
هذه هي السنة بمعنى الطريقة والمنهاج وهى تنسب لله وطريقته في الرد على المشركين.
وتأتى السنة أيضاً بمعنى الشرع ، وبهذا الاستعمال نتحدث نحن في لغتنا العادية فنقول "سنّ قانوناً" أي شرّع قانوناً ، وحين يسن القانون يكون ملزماً للناس ولابد من طاعته ، ونفس المعنى للسنة جاء في الآية الكريمة ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ (الأحزاب 38) ففي الآية تجد ﴿سنة الله﴾ مرادفة لكلمتي "فرض الله" و"أمر الله" الذى جعله الله قدراً مقدورا. إذن سنة الله بمعنى الشرع هي الفرض والأمر الإلهي واجب التنفيذ.
وهذا يذكرنا بمعنى السنة الآخر وهو المنهاج والطريقة وكان تعبير القرآن عنها أنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله.
والنبي كان عليه أن ينفذ سنة الله أي شرع الله وأوامره حتى لو كان فيها حرج، وقد نزلت آية ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ في موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته ، فقد تحرج النبي من تنفيذ سنة الله أو شرع الله فنزلت هذه الآية ، ونستفيد منها أن السنة هي شرع الله ، وأن النبي هو أول من ينفذ هذه السنة ، ونحن بالتالي نقتدى بالنبي في طاعة سنة الله أو شرعه وأوامره ، وينبغي على المؤمن أن يعلم أنه لا فارق بين السنة والفرض لأنهما شرع الله الواجب التنفيذ، فالصلاة والزكاة والحج للمستطيع كلها سنن الله وفرائضه.
وعلماء التراث أطلقوا "السنة العملية" وهى الصلاة ــ على ما توارثناه من كيفية للصلاة عن النبي وقالوا بوجوبها وضرورة الالتزام بها وثبوتها بالقطع واليقين ــ وهذا صواب في الرأي . إلا أنهم أخطأوا حين نسبوا للرسول أحاديث قولية وقالوا بأنها السنة القولية ، فالسنة القولية للرسول هي فقط في القرآن وحديث القرآن وما تكرر فيه من كلمة "قل" . وأخطأوا أيضاً حين ناقضوا أنفسهم وجعلوا فارقاً بين السنة والفرض ، فجعلوا الفرض واجب التنفيذ مثل الصلوات الخمس وجعلوا السنة هي ما يزيد من نوافل على الصلوات المفروضة ، وقد تبين لنا أن السنة هي الفرض ولا فارق بينهما في حديث القرآن ولا في لغتنا العادية حين نقول "سنّ قانوناً".
وبعد هذا التوضيح سيستمر التساؤل: أليست للرسول سنة.؟ ويستدرك السائل حين يتذكر عنوان البحث "سنة الرسول هي القرآن فقط" فيُحَـوِّر السؤال "أليست للرسول سنة خارج القرآن؟؟".
والإجابة في القرآن يقول تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب 21) فلم يقل الله تعالى: "قد كان لكن في رسول الله سنة حسنة" وإنما قال "أسوة حسنة".
فالسنة لله لأنها شرع الله وأوامر الله ، أما الاقتداء والتأسى فبالرسول في تطبيقه العلمي لسنة الله وشرع الله.
على أنه من المفيد أن نستزيد فهماً للآية الكريمة والسياق الذى جاءت فيه ، فقد نزلت الآية في التعليق على غزوة الأحزاب وفى سورة الأحزاب ، وقد كان أهل المدينة عند حصار الأحزاب لهم فريقين: المنافقون وأشياعهم وقد تخاذلوا ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ (الأحزاب 12) ثم المؤمنون الذين تماسكوا وثبتوا ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ (الأحزاب 22) وكان رسول الله عليه السلام هو القدوة لهم في الشجاعة والثبات لذا يقول تعالى عن موقفه هذا ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ وكان هناك من المؤمنين من تأسى بالنبي في هذه الشجاعة وفاق أقرانه فقال عنهم رب العزة ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب 23)
إذن فالتأسى بالرسول في هذه الآية كان في سياق قصة وفى موقف محدد. ويؤكد ذلك أن الله تعالى أمر الرسول محمداً والمؤمنين بالتأسى بإبراهيم والذين معه حين تبرءوا من قومهم ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... ﴾.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ..﴾ (الممتحنة 4، 6) فقال تعالى يحدد الموقف الذى ينبغي التأسى بهم فيه ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ﴾ ولم يجعل التأسى بهم مطلقاً..
إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتباع ، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله ،والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد في موقف معين فإنه أمر النبي نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾(الأنعام 90) فلم يقل تعالى "فبهم اقتده" وإنما قال﴿فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾.
ولم يأمر الله خاتم النبيين بالاقتداء والاتباع لإبراهيم وإنما أمره باتباع "ملة إبراهيم" والملة هي دين الله ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ (النحل 123)
إن الاقتداء والتأسى إنما يكون بشرع الله وسنة رسوله ، وهكذا كان يفعل النبي.. والأنبياء هم القدوة الذين نقتدى بهم في مواقف حكى عنها رب العزة وهو وحده الأعلم بهم وبأسرار حياتهم.
إن سنة الرسول هي القرآن شرع الله..
والله تعالى نسأل أن نعيش على سنة الرسول وأن نموت عليها..

5 ـ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ

 يحلو لبعض الناس أن يسئ  ـــ عــن عـمـد  ـــ فهم هذه الآية ليلوى معناها ويقطعها عن السياق ليستدل بها على مشروعية المصادر الأخرى التي أضافوها للقرآن الكريم ، وحتى نفهم المدلول الحقيقي لقوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ..﴾ ينبغي أن نقرأ الآية من أولها ونراها تتحدث عن الفيء - أو ما يفئ إلى بيت المال بلا حرب ولا قتال ، يقول تعالى ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..﴾ (الحشر 7: 8)
فالآية تتحدث عن الفيء وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء وتقول للمؤمنين: وما آتاكم الرسول من هذا الفيء فخذوه وما نهاكم عنه من التطلع إلى ما ليس من حقكم فانتهوا عنه ، ثم تبين الآية التالية استحقاق الفقراء المهاجرين لهذا الفيء بعد أن تركوا أموالهم وديارهم.
وقد كانت عادة سيئة للمنافقين في المدينة أن يربطوا رضاهم عن الإسلام بمدى استفادتهم المالية منه مع أنهم أغنياء نهى الله النبي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم (التوبة 55، 85) ومع هذا الغنى كانوا يزاحمون الفقراء في الحصول على الصدقات وقال تعالى عنهم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ  وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..﴾ إلى آخر الآية (التوبة 58: 60)
وهذه الآيات من سورة التوبة توضح المعنى المقصود لقوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ فشأن المؤمن أن يرضى بما آتاه الرسول ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..﴾.
وشأن المنافق أن يطمع فيما ليس حقاً له وألا ينتهى عن طمعه.
وقد أبان رب العزة مستحقي الفيء في سورة الحشر ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾.
وأوضح بالتحديد مستحقي الصدقات في سورة التوبة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..﴾ (الآية 60) وفى الموضعين كان الحديث عما يؤتيه الرسول للمؤمنين وعليهم أخذه والرضا به والانتهاء عما نهى عنه ، ولنتذكر هنا أنه عليه السلام كان يحكم بالقرآن بين الناس ، وهذا يدخل فيه توزيع الفيء والغنائم والصدقات طبقا لما جاء في الكتاب الحكيم.
وقد يقال في الرد علينا أن القاعدة الأصولية تقطع بأن خصوص السبب لا يمنع عموم الاستشهاد ، فإذا كانت الآية تتحدث عن الفيء فإن قوله تعالى فيها ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ عامة في وجوب الأخذ بما آتانا به الرسول وبوجوب الانتهاء عما نهانا عنه..
ومن السهل الرد على هذا الاحتجاج بما تعنيه كلمة الرسول في القرآن وبوجوب طاعته لأنه في أقواله يقرأ القرآن ، والرسول ــ كما سبق بيانه ــ هو نبي الله حين ينطق بالقرآن أو هو القرآن بعد موت النبي. إذن فقد جاءنا الرسول بالقرآن وعلينا التمسك به ، والله تعالى يقول ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ..﴾ (الزمر 41) فهذا الكتاب هو الذى نزل على الرسول لنا، وهو ما آتانا به الرسول وعلينا أخذه والتمسك به.
وأما ما نهانا عنه الرسول ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فهو كتابة غير القرآن ومحو كل مكتوب في الدين خارج كتاب الله.

6 ـوهذا ما جاء فى أحاديثهم هم ..ونستشهد بها للرد عليهم بكتبهم وأحاديثهم :
روى أحمد ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قول الرسول "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه" وأخرج الدارمي- وهو شيخ البخاري- عن أبى سعيد الخدري أنهم "استأذنوا النبي في أن يكتبوا عنه شيئاً فلم يأذن لهم". ورواية الترمذي عن أبى سعيد الخدري تقول: أستاذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا.
وروى مسلم وأحمد أن زيد بن ثابت- أحد مشاهير كتاب الوحى- دخل على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: "أن رسول الله أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه ، فمحاه معاوية".
وقد وردت أحاديث تفيد الإذن بكتابة بعض الحديث مثل "اكتبوا لأبى شاه" وما ورد أن لابن عمرو بعض كتابات وأدعية في الحديث ، ولكن المحققين من علماء الحديث رجحوا الأحاديث التي نهت عن كتابة الحديث خصوصاً وأنه لا يعقل أن ينهى النبي عن شيء ثم يأمر بما يناقضه ، ثم ــ وهذا هم الأهم ــ فإن النبي عندما مات لم يكن مع الصحابة من كتاب مدون غير القرآن الكريم.
وبعضهم حاول التوفيق والمواءمة بين الأحاديث التي تنهى عن كتابة غير القرآن وبين الحديث الذى يفيد كتابة بعضهم بقوله بأن المراد حتى لا تلتبس الأحاديث بالقرآن.
وهذه حجة لا تستقيم مع إعجاز القرآن الذى يعلو على كلام البشر والذى تحدى به الله العرب فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، وذلك القرآن المعجز للعرب كيف يخشى أحد عليه من أن يختلط به شيء آخر؟..
إن الثابت أن رسول الله لم يترك بعده سوى القرآن.
والبخاري يعترف في أحاديثه بأن النبي ما ترك غير القرآن كتاباً مدوناً. يروى ابن رفيع: "دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل: أترك النبي من شيء؟ قال ما ترك إلا ما بين الدفتين. أي القرآن في المصحف". قال "ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين" (البخاري 6/234. ط. دار الشعب).
ويؤكد أن النبي نهى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها..
فأبو بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه" وهذا ما يرويه الذهبي في تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقي أن عمر الفاروق قال "إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً. ورواياته البيهقي "لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً" وروى ابن عساكر قال "ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق.. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟.. أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت.. فما فارقوه حتى مات".
وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ أن عمر بن الخطاب حبس أبا مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال: "أكثرتم الحديث عن رسول الله"، وكان قد حبسهم في المدينة ثم أطلقهم عثمان.
وروى ابن عساكر أن عمر قال لأبى هريرة: "لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس- أرض بلاده- وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول ــ أي أبى هريرة ــ أو لألحقنك بأرض القردة" وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان.
وأكثر أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر إذ أصبح لا يخشى أحداً وكان أبو هريرة يقول "إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة ــ وفى وراية لشج رأسي ــ ويروى الزهري أن أبا هريرة كان يقول: "ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر، ثم يقول أبو هريرة: أفـكـنـت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة ــ العصا ــ ستباشر ظهري فإن عمر كان يقول: "اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله".
وقال رشيد رضا في المنار يعلق على ذلك "لو طال عمر (عمر) حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة".
ونكتفى بهذا لإثبات أن النبي أتانا بالقرآن ونهانا عن غيره، وأن كبار الصحابة ساروا على نهجه في التمسك بالقرآن وحده، وأن تدوين تلك الأحاديث المنسوبة للنبي كان ولا يزال معصية للنبي ومخالفة لأمره حسب ما يروون هم في كتبهم ، وأن ذلك التدوين المخالف لشرع الله تعالى ووصية نبيه الكريم لم يبدأ إلا في القرن الثالث، بعد وفاة النبي بقرنين من الزمان.

وهنا نتساءل..

إذا كانت تلك الأحاديث جزءاً من الإسلام كما يدّعون وقد نهى النبي عن كتابتها أليس ذلك اتهاماً للنبي بالتقصير في تبليغ رسالته؟ وهل يعقل أن تكون الرسالة الإسلامية ناقصة وتظل هكذا إلى أن يأتي الناس في عصر الفتن ليكملوا هذا النقص المزعوم؟
إن الذى نعـتـقـده أن النبي عليه السلام قد بلغ الرسالة بأكملها وهى القرآن ونهى عن كتابة غيره، أما تلك الأحاديث فهي تمثل واقع المسلمين وعقائدهم.. وتمثل في النهاية تلك الفجوة الهائلة بين الإسلام وبين المسلمين.. 

رقم ( 7 ) : القسم الأول :كيف نشأ المصدر الثاني:

الفصل الثالث : قراءة في" البخاري" أهم كتب المصدر الثاني

الفصل الثالث: قراءة في" البخاري" أهم كتب المصدر الثاني

القسم الأول :كيف نشأ المصدر الثاني:

العادة أن الله سبحانه وتعالى ينزل على كل نبي كتاباً واحداً كاملاً تاماً مفصلاً، ولكن ما يلبث الشيطان أن يدفع الإنسان إلى التلاعب بدين الله بالتحريف والتزييف في الكتاب الأصلي ثم يدفعهم إلى إنشاء مصادر أخرى تكتسب قدسية ، وبطبيعة الحال لابد أن يكون أولئك في صف العداء للنبي. والله تعالى يقول ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ  وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ  أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ...﴾ (الأنعام 112: 114)

وبدأ منافـقــوا المدينة الكيد للإسلام بهذا الطريق.
*** كان المنافقون يدخلون على النبي يقدمون له فروض الطاعة والولاء ثم يخرجون من عنده يتآمرون عليه ، وفى ذلك يقول تعالى ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ (النساء 81)
ونفهم من قوله تعالى عنهم ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ﴾ أنهم كانوا يزيفون أقوالاً على النبي لم يقلها ، أو بتعبير علماء الحديث كانوا يضعون أحاديث مفتراه ينسبوها للنبي. أي أن الكذب على الرسول بدأه المنافقون في حياة النبي نفسه.
وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث "من كذب على فليتبوأ مقعده من النار" وبعضهم يضيف إليه كلمة متعمداً "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وهم يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين ، والمهم أنهم بإقرارهم بصحة هذا الحديث إنما يثبتون أن الكذب على النبي بدأ في حياة النبي نفسه وإلا ما قال النبي هذا الحديث يحذر من الكذب عليه.
ونفهم من قوله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ..﴾ إن أولئك المنافقين كانوا معروفين للنبي ، والواقع أن المنافقين في عهد النبي كانوا صنفين:
• صنف كان معروفاً للنبي وأمره الله بألا يعجب بأموالهم ولا أولادهم وألا يصلى على أحد منهم مات أبداً ولا يقم على قبره (التوبة 84: 85) وكان منهم من زيّف الحديث على النبي..
• وصنف آخر كان أشد خصومة وأكثر خطورة ، وقد توعد الله هذا الصنف بأن يعذبه مرتين في الدنيا وفى الآخرة له عذاب عظيم.. هذا الصنف الشديد الخطورة لم يكن يعرفه النبي ، يقول تعالى فيهم ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ (التوبة 101)
عن المنافقين المعروفين يقول تعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ..﴾ ويجعل لهم عذاباً واحداً في الدنيا إن لم يتوبوا ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ (التوبة 74)
أما الصنف الآخر الذى لا يعلمه النبي فقد توعده الله بأن يعذبهم مرتين ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾.
ونفهم من المقارنة بين الفريقين أن الله تعالى أشار إلى احتمال توبة الصنف الأول المعروف من المنافقين ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ..﴾ أما الصنف الآخر الذى لا يعلمه النبي فقد حكم الله بأنه سيظل سادراً في غيه وكفره إلى نهاية حياته ، لذا حكم الله تعالى حكماً مطلقاً بأن يعذبهم مرتين في الدنيا ثم ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة ، وحتى بعد أن قال تعالى عنهم ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ ذكر صنفاً آخر من أهل المدينة خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وأشار إلى احتمال قبوله لتوبتهم ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (التوبة 102)
ثم فيما بعد ذكر صنفاً آخر من أهل المدينة وأشار إلى احتمال توبتهم ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ (التوبة 106)
إذن فالصنف الوحيد من الصحابة من أهل المدينة الذين حكم الله بأن يظلوا سادرين في الكفر بلا توبة هم أولئك الذين مردوا على النفاق والذين لم يكن للنبي علم بهم ، وهذا الصنف عاش على هذا يكيد للإسلام طيلة حياته أثناء حياة النبي وبعد موته عليه السلام..
وإذا كان المنافقون الذين يعرفون النبي قد كذبوا عليه وزيفوا أقواله في حياته فكيف بمن يقول عنهم رب العزة أنهم أدمنوا النفاق وعاشوا عليه ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾.
وقد كان أولئك من بين الصحابة وفق تعريف علماء الحديث بأن الصحابي هو من صحب النبي أو لقيه في حياته.. ومعنى ذلك أنه كان من بين رواة الأحاديث منافقون ظاهرون معروفون للنبي لا يتورعون عن الكيد للإسلام، وكان منهم من أدمن النفاق آمناً من أن يعلم أحد بحقيقة نفاقه ﴿لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾. ومن يدرى ربما كان منهم بعض المشاهير من الصحابة .علم ذلك عند الله وحده جل وعلا..
وإن كان مستحيلاً أن نضع أيدينا على أسمائهم الحقيقية وشخصياتهم بعد أن حجب الله تعالى العلم بهم عن النبي الكريم.. فإنه من الممكن لنا أن نعثر على رواياتهم التي حملت كل حقدهم على النبي العظيم ، وتنوقلت تلك الروايات حتى وجدت طريقها للتدوين فيما عرف بكتب الصحاح.. والذين جمعوا الحديث وقاموا بتنقيته ووضع أسانيد له أصدروا قراراً بأن الصحابة كلهم عدول فوق مستوى الشبهات ، ثم لم ينظروا في متن الحديث ومنطوقه وهل يتفق مع القرآن أم لا ، ونحن وإن كنا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبي وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى فإننا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح وهى أنها تاريخ بشرى للنبي وللمسلمين وصدى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن. ويعز علينا أن تتناثر بين تلك الروايات سموم تشوه سيرة النبي العظيم الذى نشر دعوة وأقام أمة وأسس دولة وأثر في تاريخ العالم، عليه الصلاة والسلام..

ونحن على موعد مع "صحيح البخاري" في قراءة سريعة لنتعرف منها على خطورة ما أسموه بالمصدر الثاني..

رقم ( 8 ) : القسم الثانى سيرة النبي عليه السلام بين حقائق القرآن وروايات البخاري:

الفصل الثالث : قراءة في" البخاري" أهم كتب المصدر الثاني

الفصل الثالث: قراءة في" البخاري" أهم كتب المصدر الثاني

القسم الثانى  سيرة النبي عليه السلام بين حقائق القرآن وروايات البخاري:

مدخل

1 ـ كيف كان النبي يقضى يومه:
2 ـ هل كان النبي يباشر نساءه في المحيض؟
3ـ  لن نضع عناوين أخرى في هذا الموضوع
4 ـ - ولا تقتنع روايات البخاري بذلك..بل تنسب للنبى أنه حاول إغتصاب إمرأة..!!

5 ـ ولا تتورع أحاديث البخاري عن نسبة الألفاظ النابية والتعبيرات المكشوفة الخارجة للنبي عليه السلام، وذلك حتى تكتمل صورة الشخص المهووس بالجنس والنساء التي أحاط بها شخصية النبي عليه السلام وسيرته في ليله ونهاره.

6 ـ ويصل افتراؤهم على الرسول عليه السلام إلى حد أنهم ينسبون له تشريعاً بإباحة الزنا وتحريم الزواج.

7 ـ ثم نرى أحاديث أخرى تهتك حرمة بيت النبي وتتسلل إلى أدق خصوصياته مع نسائه أمهات المؤمنين. 
8 ـ الافتراء على عائشة في حديث الإفك: هل كان لدى النبي متسع ليكون كما وصفته تلك الأحاديث؟
9ـ  القرآن يحرص على حرمة بيت النبي التي هـتـكـتها أحاديث البخاري:
 10 ـ على المسلم الذى يقرأ هذا الكتاب أن يختار بين شيئين لا ثالث لهما:
 11 ـ معنى الصلاة على النبي ومعنى ايذاء النبي
12 ـ  الساحر المزعوم الذى سحر النبي:
13ـ  اليهودي المزعوم الذى رهن النبي عنده درعه:
 14 ـ البخاري ينسب للنبي تشريع الرجم للزاني:

15 ـ البخاري ينسب للنبي الأكاذيب والمتناقضات:
 
 مدخل

نحن لا نوافق على المقولة الشهيرة بأن البخاري أصح كتاب بعد القرآن. فلو كان البخاري صحيحاً في كل سطر فيه فلا يصح أبدأ أن نضعه في موضع مقارنة بكتاب الله العزيز.
والبخاري في نهاية الأمر من أبناء آدم الذين يجوز عليهم الخطأ والنسيان والوقوع في العصيان ، وأولئك الذين يحملون في قلوبهم قدسية للبخاري تعصمه من الوقوع في الخطأ إنما يرفعون البخاري إلى مكانة الألوهية من حيث لا يدرون أومن حيث يدرون.
ومن واقع نظرتنا للبخاري كأحد علماء التراث فإننا لا نقصد مطلقاً أن نعقد مقارنة بينه وبين القرآن الكريم، نعوذ بالله من ذلك ، وإنما نقصد من هذا المبحث رصد تلك الفجوة بين سيرة النبي في القرآن وبين سيرته المتناثرة بين سطور البخاري.
ونترك الحكم للقارئ ونحن على ثقة من أن ولاء القارئ المسلم العاقل إنما هو لله تعالى ولرسوله الكريم والكتاب العزيز الذى أنزل السيرة الحقيقية للنبي الكريم قرآناً نتعبد بتلاوته ونتقرب إلى الله بقراءته ، وحقيق بنا حينئذ أن نؤمن بتلك الصورة السامية التي رسمها القرآن للنبي عليه السلام وأن نكفر ونرفض في ذات الوقت أحاديث البخاري وكل ما يخالف القرآن الكريم من كلام البشر وكتاباتهم.. هدانا الله تعالى للصراط المستقيم..!!

1 ـ كيف كان النبي يقضى يومه:
لك يا عزيزي القارئ أن تتخيل الإجابة على هذا السؤال وستجدها مطابقة لما جاء في القرآن الكريم ، فمنذ أن نزل الوحى على النبي وهو قد ودع حياة الراحة وبدأ عصر التعب والإجهاد والجهاد، ويكفى أن أوائل ما نزل من القرآن يقول له ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ﴾ و ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ  قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي أن وقت النبي منذ أن نزل عليه الوحى كان بين تبليغ الرسالة والمعاناة في سبيلها ثم قيام الليل.. وليس هناك بعد ذلك متسع للراحة التي هي حق لكل إنسان ، وانتقل النبي للمدينة وقد جاوز الخمسين من عمره فزادت أعباؤه ، إذ أصبح مسئولاً عن إقامة دولة وتكوين أمة ورعاية مجتمع، ثم هو يواجه مكائد المنافقين في الداخل والصراع مع المشركين باللسان والسنان ، ثم هو بعد ذلك يأتيه الوحى ويقوم على تبليغه وتأسيس المجتمع المدني على أساسه.. ونجح النبي عليه السلام في ذلك كله ، وفى السنوات العشر التي قضاها في المدينة إلى أن مات انتصر على كل أعدائه الذين بدأوه بالهجوم ،ودخل الناس في دين الله أفواجا.. ومع هذا فإنه في حياته عليه السلام لم ينقطع عن قيام الليل ومعه أصحابه المخلصين الذين كانوا الفرسان بالنهار العابدين لله تعالى بالليل ، رضى الله عنهم أجمعين..
هذا ما لا نشك لحظة يا عزيزي القارئ في أنك تتفق معنا فيه ، بل وكل عاقل من أي ملة ودين لا يملك إلا أن يسلم بأن الذى أقام دولة من لا شيء ونشر دعوة ونهضت به أمة لا يمكن إلا أن يكون قد وهب وقته كله لله ولدين الله وعمل كل دقيقة في حياته لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى..
وندع اجتهادنا العقلي جانباً ونبحث عن الإجابة في كتاب الله العزيز.
في بداية الوحى نزل قوله تعالى للنبي ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ  قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً  نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً  أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً  إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ (المزمل 1: 5)
وأطاع النبي عليه السلام ونفذ أوامر الله في مكة واستمر على تنفيذها في المدينة.
وكان معه أصحابه يقومون الليل في صلاة وتهجد وتلاوة للقرآن ، ولكن الوضع في المدينة اختلف عنه في مكة ، أصبح النبي في المدينة مسئولاً عن دولة الإسلام الجديدة بكل ما تستلزمه الدولة الوليدة من استعداد وجهاد في الداخل والخارج ، وأصبح أصحابه معه مشغولين بالجهاد والسعي في سبيل الرزق وتوطيد أركان الدولة الوليدة التي يتربص بها الأعداء في الداخل والخارج ، وأصبح قيام الليل بنفس ما تعودوه في مكة مرهقاً لهم يعوقهم عن حسن الأداء في النهار.
لذا نزلت في المدينة الآية الأخيرة من سورة "المزمل" بالتخفيف ، حيث يقول رب العزة جل وعلا للنبي الكريم ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾
وأعتقد أن من أعظم ما نزل مدحاً للنبي والمؤمنين معه هو في هذه الآية الكريمة.
فقد جاء في بداية الآية تزكية الله للنبي بأعظم ما يكون ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى ﴾ وهل هناك أعظم شهادة من الله وهو تعالى يشهد بصيغة العلم الإلهي بأن النبي طبق أوامر ربه فأقام الليل إلى الثلثين ، ثم تأتى شهادة الله للنبي بالتأكيد اللغوي ﴿إِنَّ رَبَّكَ ﴾ ثم تضاف كلمة "رب" إلى كاف الخطاب "ربك" ليكون ذلك التأكيد من رب العزة خطاباً مباشراً من الله تعالى للرسول الكريم في معرض التكريم ، ثم يستمر خطاب الله المباشر للنبي ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ.. وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ..﴾.
ثم تثبت الآية الكريمة أن طائفة من المؤمنين كانت تقوم الليل مع النبي ، ولأن الله تعالى يعلم العبء الجديد عليهم في المدينة ولأنه يعلم أن بعضهم سيقع مريضاً لذا أنزل التخفيف عليهم بأن يقرءوا ما تيسر من القرآن مع استمرار الأوامر لهم بالمحافظة على الصلاة المفروضة وإيتاء الزكاة والصدقات..
إذن كان النبي يقضى النهار في الجهاد وتبليغ الدعوة ورعاية الدولة ويقضى ليله في قيام الليل للعبادة، وكان معه أصحابه. هذا ما يثبته الرحمن في القرآن. وهذا ما ينبغي الإيمان به وتصديقه إذا كنا نحب الله ورسوله ونؤمن بكتابه وندفع عن النبي الأذى وما يشوه سيرته العظيمة.
وإذا بحثنا عن إجابة لنفس السؤال "كيف كان يقضى يومه" في أحاديث البخاري وجدنا إجابة مختلفة وعجيبة..
نقرأ في البخاري حديث أنس "إن النبي كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة".
وفى حديث آخر لأنس أكثر تفصيلاً يقول "كان النبي يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة". قال الراوي: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين.." (البخاري الجزء السابع: ص4، والجزء الأول ص76. طبعة دار الشعب - وهى التي نعتمد عليها في هذا المبحث).
وطبقاً لهذه الرواية العجيبة نرى إجابة مختلفة عما ورد في كتاب الله العزيز إذ نفهم منها أن النبي كان يطوف على نسائه كلهن - أي يجامعهن - ويتعجب الراوي ويسأل أنس هل كان في طاقة النبي ذلك فتكون الإجابة أعجب وهى أن الصحابة كانوا يتابعون النبي ويتحدثون أن الله أعطاه قوة ثلاثين رجلاً في الجماع.. إذن كان اهتمام النبي في الطواف حول نسائه وكان اهتمام أصحابه في متابعة هذا النشاط وفى التفاخر به ، ولا تعرف بالطبع من أين لهم ذلك المقياس الجنسي الذكوري الذى جعلوا به مقدرة النبي الجنسية – المزعومة - في الجماع تبلغ قوة ثلاثين رجلاً. نعوذ بالله تعالى من هذا الافتراء.
ثم تأتى في أحاديث البخاري روايات أخرى ينسبها لعائشة تقول: "أنا طّيبت رسول الله ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرماً" ورواية أخرى "كنت أطيّب رسول الله فيطوف على نسائه ثم يصبح محرماً ينضح طيباً" (البخاري: الجزء الأول ص 73).
والآن.. هل نصدق حديث القرآن عن النبي وقيامه الليل مع أصحابه وانشغالهم بالجهاد أم نصدق تلك الروايات البشرية؟ نترك لك ذلك عزيزي القارئ. ولا حول ولا قوة إلا بالله..!!

2 ـ هل كان النبي يباشر نساءه في المحيض؟
والإجابة التي ننتظرها منك عزيزي القارئ هي أعوذ بالله.. ونحن معك في هذا ، ونعتذر عن إيراد العنوان بهذا الشكل.. ولكن لا نجد عنواناً آخر للموضوع.
والذى نؤمن به جميعاً أن النبي كان صفوة خلق الله ومن أرقهم ذوقاً وأسماهم خلقاً. ومن كان على هذا المستوى لا ننتظر منه هذا، خصوصاً وأن الله تعالى قال له ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ (البقرة 222)
لم يقل رب العزة "فاعتزلوهن" فقط وإنما قال أيضاً ﴿ولا تقربوهن﴾ أي زيادة في التأكيد والتحذير. ونحن نؤمن بأن النبي طبق هذا السنة، فالسنة الحقيقية للنبي هي في تطبيق القرآن ، والله تعالى ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ ونبي الله من أئمة المتطهرين في كل عصر..
هذا ما نؤمن به جميعاً عزيزي القارئ، ولكنك حين تقرأ باب الحيض في البخاري تفاجأ بروايات غريبة تحت عنوان غريب هو "باب مباشرة الحائض".
منها حديث ينسب لعائشة "كنت أغتسل أنا والنبي من إناء واحد كلانا جنب وكان يأمرني فأتّــزر فيباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه إلى وهو معتكف فأغسله وأنا حائض" ورواية أخرى عن عائشة كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد الرسول أن يباشرها أمرها أن تـتـزر في فور حيضتها ثم يباشرها، قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي يمك إربه" ومنها حديث ميمونة "كان رسول الله إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهى حائض"
فالبخاري هنا يسند تلك الروايات لأمهات المؤمنين ليجعلهن شهوداً على أن النبي كان يباشرهن وهن حائضات ، ويضع البخاري على لسان عائشة إشارة إلى خصوصية النبي في مقدرته الجنسية فيزعم أن عائشة قالت "وأيكم يملك إربه كما كان النبي يملك إربه"
وفى رواية أخرى يجعل البخاري من النبي ملازماً للنساء لا يفترق عنهن حتى في المحيض ، فيروى حديثاً ينسبه لأم سلمة "بينما أنا مع النبي مضطجعة في خميلة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتى قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجـعـت معه في الخميلة".
وهكذا أصبح لا عمل أمام النبي ولا مسئوليات ملقاة على عاتقه إلا أن يجلس في الخميلة مع زوجاته حتى في المحيض.. نعوذ بالله من هذا الافتراء.. بل هناك أكثر من ذلك، يدعى البخاري أن عائشة قالت "كان النبي يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن".. هكذا.. ضاقت كل الأماكن ولم تعد هناك مساجد ولا قيام لليل مع طائفة من الذين آمنوا.. حتى يلجأ النبي إلى ذلك في زعم البخاري (راجع باب الحيض في البخاري: الجزء الأول ص 79).

3 ـ لن نضع عناوين أخرى في هذا الموضوع
ثم تدخل أحاديث البخاري في منعطف خطير في تشويه سيرة النبي عليه السلام تجعلنا نتحرج من أن نضع لها عناوين، وهذا المنعطف الخطير يتناول علاقة مزعومة للنبي عليه السلام بالنساء من غير زوجاته. وكم كنا نود إغفال هذا المنعطف لولا حرصنا على تنزيه نبي الإسلام من هذا الافتراء الذى يسرى سريان السم بين سطور البخاري ، والذى يقف دليلاً هائلاً على تلك الفجوة بين القرآن والبخاري باعتباره أهم كتب المصدر الثاني لمن يعتقد أن هناك مصادر أخرى مع القرآن.
1- ونبدأ بأحاديث زعم فيها أن النبي كان يخلو بالنساء الأجنبيات. ونقرأ حديث أنس: "جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي فخلا بها فقال: والله إنكن لأحب الناس إلى" والرواية تريد للقارئ أن يتخيل ما حدث في تلك الخلوة التي انتهت بكلمات الحب تلك.. ولكن القارئ الذكي لابد أن يتساءل إذا كانت تلك الخلوة المزعومة قد حدثت- فرضاً- فكيف عرف أنس - وهو الراوي ما قال النبي فيها؟.
وفى نفس الصفحة التي جاء فيها ذلك الحديث يروى البخاري حديثاً آخر ينهى فيه النبي عن الخلوة بالنساء، يقول الحديث "لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" وذلك التناقض المقصود في الصفحة الواحدة في "صحيح البخاري" يدفع القارئ للاعتقاد بأن النبي كان ينهى عن الشيء ويفعله.. يقول للرجال "لا يخلون رجل بامرأة" ثم يخلو بامرأة يقول لها "والله إنكن لأحب النساء إلى"
هل نصدق أن النبي عليه السلام كان يفعل ذلك؟ نعوذ بالله... (راجع البخاري: الجزء السابع ص 48).
2- ثم يسند البخاري رواية أخرى لأنس تجعل النبي يخلو بأم سليم الأنصارية، تقول الرواية "إن أم سليم كانت تبسط للنبي نطعاً فيقيل عندها- أي ينام القيلولة عندها - على ذلك النطع، فإذا نام النبي أخذت من عرقه وشعره فجعلته في قارورة ثم جمعته في سك" (البخاري الجزء الثامن ص 78).
ويريدنا البخاري أن نصدق أن بيوت النبي التي كانت مقصداً للضيوف كانت لا تكفيه وأنه كان يترك نساءه بعد الطواف عليهن ليذهب للقيلولة عند امرأة أخرى، وأثناء نومه كانت تقوم تلك المرأة بجمع عرقه وشعره.. وكيف كان يحدث ذلك.. يريدنا البخاري أن نتخيل الإجابة.. ونعوذ بالله من هذا الإفك.
3- ثم يؤكد البخاري على هذا الزعم الباطل بحديث أم حرام القائل "كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن أبى الصامت فدخل عليها رسول الله فأطعمته وجعلت تفلى رأسه فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك فقالت: وما يضحكك يا رسول الله؟... إلخ" فالنبي على هذه الرواية المزعومة تعود الدخول على هذه المرأة المتزوجة وليس في مضمون الرواية وجود للزوج ، أي تشير الرواية إلى أنه كان يدخل عليها في غيبة زوجها ويصور البخاري كيف زالت الكلفة والاحتشام بين النبي وتلك المرأة المزعومة، إذ كان ينام بين يديها وتفلى له رأسه وبالطبع لابد أن يتخيل القارئ موضع رأس النبي بينما تفليها له تلك المرأة في هذه الرواية الخيالية، ثم بعد الأكل والنوم يستيقظ النبي من نومه وهو يضحك ويدور حديث طويل بينه وبين تلك المرأة نعرف منه أن زوجها لم يكن موجوداً وإلا شارك في الحديث.
وصيغة الرواية تضمنت الكثير من الإيحاءات والإشارات المقصودة لتجعل القارئ يتشكك في أخلاق النبي. فتقول الرواية "كان رسول الله يدخل على أم حرام.." ولاحظ اختيار لفظ الدخول على المرأة ولم يقل كان يزور والدخول على المرأة له مدلول جنسي لا يخفى ، والايحاء هنا موظف جيدا بهذا الأسلوب المقصودة دلالته. ثم يقول عن المرأة "وكانت أم حرام تحت عبادة بن أبى الصامت" فهنا تنبيه على أنها متزوجة ولكن ليس لزوجها ذكر في الرواية ليفهم القارئ أنه كان يدخل على تلك المرأة المتزوجة في غيبة زوجها، وهى عبارة محشورة في السياق عمدا حيث لا علاقة لها بتفصيلات الرواية . الا أن حشرها هكذا مقصود منه ان النبي كان يدخل على امرأة متزوجة في غيبة زوجها ويتصرف معها وتتعامل معه كتعامل الزوجين. وحتى يتأكد القارئ ان ذلك حرام وليس حلالا يجعل البخاري اسم المرأة "أم حرام" ليتبادر إلى ذهن القارئ أن ما يفعله النبي حرام وليس حلالاً. ثم يضع الراوي - بكل وقاحة- أفعالاً ينسبها للنبي عليه السلام لا يمكن أن تصدر من أي إنسان على مستوى متوسط من الأخلاق الحميدة فكيف بالذي كان على خلق عظيم.. عليه الصلاة والسلام، فيفترى الراوي كيف كانت تلك المرأة تطعمه وتفلى له رأسه وينام عندها ثم يستيقظ ضاحكاً ويتحادثان.. نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله..
وقد كرر البخاري هذه الرواية المزعومة بصور متعددة وأساليب شتى ليستقر معناها في عقل القارئ (راجع البخاري: الجزء الرابع ص 19، 21، 39، 51 والجزء الثامن ص 78 والجزء التاسع ص 44).
4- ولا تقتنع روايات البخاري بذلك..بل تنسب للنبى أنه حاول إغتصاب إمرأة..!!

إذ يروى عن بعضهم حديثاً يقول "خرجنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى انطلقنا إلى حائط- أي بستان أو حديقة- يقال له الشوط ، حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما فقال النبي: اجلسوا هاهنا ، ودخل وقد أُتى بالجونية فأنزلت في بيت نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها ، فلما دخل عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: هبي نفسك لي. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده عليها لتسكت فقالت: أعوذ بالله منك.. (راجع البخاري الجزء السابع ص 53).
وبالتمعـن في هذه الرواية الزائفة نشهد رغبة محمومة من البخاري لاتهام النبي بأنه حاول اغتصاب امرأة أجنبية جيء له بها، وانها رفضته وشتمته باحتقار . فالراوي يجعل النبي يذهب عامداً إلى المكان المتفق عليه وينتظره أصحابه في الخارج ، والمرأة الضحية- واسمها الجونية- قد أحضروها له، ونفهم من القصة أنها مخطوفة جيء بها رغم أنفها ، ويدخل النبي في تلك الرواية المزعومة على تلك المرأة وقد جهزتها حاضنتها أو وصيفتها لذلك اللقاء المرتقب، والمرأة في تلك الرواية المزعومة لم تكن تحل للنبي لذا يطلب منها أن تهب نفسها له بدون مقابل، وترفض المرأة ذلك بإباء وشمم قائلة "وهل تهب الملكة نفسه للسوقة؟" أي تسب النبي في وجهه – بزعم البخاري - وبدلا من أن يغضب لهذه الاهانة يصر على أن ينال منها جنسيا ويقترب منها بيده فتتعوذ بالله منه ، أي تجعله - في تلك الرواية الباطلة - شيطاناً تستعيذ بالله منه.. ولكن ذلك البناء الدرامي لتلك القصة الوهمية البخارية ينهار فجأة أمام عقل القارئ الواعي.. إذا كان الراوي للقصة قد سجل على نفسه أنه انتظر النبي في الخارج فكيف تمكن من إيراد الوصف التفصيلي والحوار الذى حدث في خلوة بين الجدران؟؟

5- ولا تتورع أحاديث البخاري عن نسبة الألفاظ النابية والتعبيرات المكشوفة الخارجة للنبي عليه السلام، وذلك حتى تكتمل صورة الشخص المهووس بالجنس والنساء التي أحاط بها شخصية النبي عليه السلام وسيرته في ليله ونهاره.
فهناك حديث نسبه البخاري للنبي جعل النبي يقص قصة إسرائيلية يقول فيها "وكان في بنى إسرائيل رجلً يقال له جريج كان يصلى جاءته أمه فدعتها فقال: أجيبها أو أصلى فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات" (البخاري: الجزء الرابع ص 201).
إن الرجل المحترم لا يستطيع أن يتلفظ بهذه الكلمة (المومسات) فكيف برسول الله عليه الصلاة والسلام.. وتلك القصة لا تستند إلى منطق درامي في عالم التأليف .واعتقد أن الهدف من صياغتها الركيكة هي أن يضعوا كلمة نابية على لسان الرسول بأي شكل..
ومثله حديث آخر مزعوم يرويه البخاري ويعلن شكّه فيه يقول "فيمن يلعب بالصبى إن أدخله فيه فلا يتزوجن أمه.." ومنطق ذلك الحديث الكاذب يعطى انطباعاً أنه صيغ في العصر العباسي عصر المجون والشذوذ، ولم يكن ذلك الشذوذ معروفاً في الجزيرة العربية حتى نهاية الدولة الأموية وقد قال أحد الأمويين أنه لولا القرآن ذكر أفعال قوم لوط ما صدق أن ذلك يمكن حدوثه(1). والبخاري أورد ذلك الحديث وشكك فيه (البخاري: الجزء السابع ص 14) وإذن لماذا رواه؟
وتفوح الإيحاءات الجنسية المثيرة من بعض أحاديث البخاري التي ينسبها للنبي مثل "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها آخر اليوم". (البخاري الجزء السابع ص 42) وما الذى نستـفـيده من هذه النصيحة الغير الغالية.
وحديث آخر عن متى يجب الغسل من الجماع "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل" (البخاري: الجزء الأول 77) وهو حديث ينبغي منع الشباب من قراءته.
ويجعل البخاري هذه النوعية من الأحاديث الجنسية تدور حول أم المؤمنين عائشة مثل "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (البخاري: الجزء الرابع ص 200) ثم ذلك الحوار المزعوم بين النبي وعائشة وهى تقول له "أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجر وقد أُكل منها ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في الذى لم يرتع منها. تعنى أن رسول الله لم يتزوج بكراً غيرها" (البخاري: الجزء السابع ص 6).
وأسوأ ما في هذه الأحاديث المكشوفة هو لفظ أورده البخاري لا نجرؤ على كتابته ونترك للقارئ فهمه والبحث عنه بنفسه ، يقول "لما أتى ماعز بن مالك النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت: قالا لا... قال (.....)(2) لا يكنى ، قال فعند ذلك أمر برجمه" (البخاري الجزء الثامن ص 207).
وعقوبة الرجم تشريع ما أنزل الله بها من سلطان. وشاء واضعوا هذا التشريع أن ينسبوا للنبي تلك الكلمة البذيئة في تحقيقه المزعوم مع مرتكب الزنا ماعز بن مالك. فادعوا أن النبي قال له "....." وأنه قالها له صريحة بلا كناية "لا يكنى".
هل نتصور قائد أمة يتلفظ بهذا اللفظ النابي؟ فكيف بالرسول الكريم الذى قال فيه ربنا جل وعلا ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾!!! نعوذ بالله من الكذب على رسول الله...
6- ويصل افتراؤهم على الرسول عليه السلام إلى حد أنهم ينسبون له تشريعاً بإباحة الزنا وتحريم الزواج.

فالبخاري ينسب للنبي قوله "أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا" (البخاري: الجزء السابع ص 16) ومعناه الواضح أن أي رجل أعجبته امرأة ونال هو إعجابها فله أن يعاشرها ثلاث ليال ثم لهما الحرية في أن يطيلا فترة المعاشرة أو أن يتركها بعد تلك التجربة الحمراء.
واختيار الألفاظ واضح في الدعوة للزنا في ذلك الحديث الكاذب، فقال "رجل وامرأة" و"توافقا" و"عشرة ما بينهما" و"ثلاث ليال" "أحبا أن يتزايدا" "يتتاركا".
وناسف لأننا أوردنا كل ألفاظ الحديث تقريباً.. ومعذرة إذا نسينا أول وأهم كلمة فيه وهى "أيّما" التي تجعل من الحديث تشريعاً عاماً يسوغ الزنا لكل رجل وامرأة.
ثم هناك حديث آخر يفترى فيه البخاري أن النبي حرمّ الزواج الشرعي ، إذ يروى أن النبي خطب على المنبر فقال "إن بنى هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم على بن أبى طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبى طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم. فإنما هي بضعة منى يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها". (البخاري الجزء السابع ص 47، ص 61) وقد يقول قائل أن من حق النبي أن يغضب إذا أراد على بن أبى طالب أن يتزوج على فاطمة بنت النبي ، ولكن الحديث الذى رواه البخاري يجعل النبي يحرم ذلك الزواج بصفته رسولاً وجعله يعلن ذلك على منبر المسجد أمام المسلمين، وبذلك أكسبه صفة التشريع.. تشريع يحرم الزواج الحلال. ولا نعتقد أن نبي الله يفعل ذلك..

7- ثم نرى أحاديث أخرى تهتك حرمة بيت النبي وتتسلل إلى أدق خصوصياته مع نسائه أمهات المؤمنين.

ونقرأ أحاديث من هذه النوعية:

حديث منسوب لعائشة "كنت أغتسل أنا والنبي من إناء واحد من قدح يقال له المفرق" وحديث منسوب لابن عباس "أن النبي وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد" وحديث آخر تقول فيه ميمونة "وضعت للنبي ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثة ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره ثم مسح يده بالأرض.. إلخ" وحديث "أن النبي اغـتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم.." ولم يكن الغسل بالشيء المعقد أو الجديد الذى لم يعرفه الناس من قبل، بل إن كل إنسان يعرف كيف يغسل جسده. ولكنه الحرص من هذه الروايات على أن تصور لنا النبي عاريا في هذه الحالات الخاصة مع نسائه، ثم نجد حديثاً عجيباً يفترى فيه البخاري أن أحدهم قال: "دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة فسألها أخوها عن غسل النبي فدعت بإناء نحواً من صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب" (البخاري: الجزء الأول ص 69: 71) أصبح الغسل مشكلة المشاكل، ومن أجلها تقدم عائشة- في زعمهم - ذلك البيان العملي فتغتسل أمام الناس ، وما يغنى الحجاب المزعوم في تلك القصة المبكية الضاحكة؟ ولكنه الحرص على تعرية النبي وأمهات المؤمنين أمام عقولنا.. نعوذ بالله من هذا الإفك..
وحتى صلاة النبي في بيته لم يتركها البخاري دون إيحاءات جنسية تهتك حرمة البيت الكريم.. وتدور الروايات كالعادة حول عائشة فينسبون لها قولها "كنت أنام بين يدى رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما" وفى رواية "أن رسول الله كان يصلى وهى بينه وبين القبلة" وحديث عروة "أن النبي كان يصلى وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذى ينامان عليه" (البخاري: الجزء الأول ص 102).

هل يرضى أحدنا أن يهتك الناس خصوصياته في بيته ومع زوجته بمثل ما فعل البخاري ببيت النبي عليه السلام؟ وإذا قالوا إن هذا للتشريع وللتعليم فأي تشريع وأي تعليم في هذه الروايات الفاضحة التي تهتك حرمة أعظم بيت؟ ثم لماذا الإصرار على أم المؤمنين عائشة بالذات؟؟

8 ـ الافتراء على عائشة في حديث الإفك:
إذا ذكرت حديث الإفك انصرف ذهن السامع إلى اتهام عائشة بالزنا ونزل براءتها من السماء تأسيساً على ما جاء في سورة النور من آيات تتحدث عن موضوع "الإفك". وإذا حاول باحث أن يتفهم الآيات وأن يناقش روايات التراث عن موضوع حديث الإفك تناولته الاتهامات كما لو أن أسطورة تخلف عائشة عن ركب النبي واتهامها أصبحت من المعلوم من الدين بالضرورة.
وملخص الأسطورة التي ذكرها البخاري (الجزء الخامس ص 148، الجزء السادس ص 127) أن النبي كان إذا أراد سفر اقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها الرسول معه.
وفى غزوة بنى المصطلق كانت القرعة من نصيب عائشة، وأثناء رجوع الجيش افتقدت عائشة قرطها فنزلت تبحث عنه وانطلق الجيش وهم يظنونها داخل الهودج.. ورجعت عائشة فوجدت الجيش قد انطلق فنامت مكانها إلى أن جاء صفوان بن المعطل السلمى فحلمها على جمله وأتى بها إلى المدينة، فاتهمها المنافقون به وغضب منها الرسول إلى أن نزلت فيها آيات سورة النور تعلن براءتها (النور 11: 26) ، ومع ذلك فلا يزال حديث الإفك وصمة تطارد عائشة وتنسج الخيالات المريضة حولها أساطير وروايات ، ووجد فيه بعض المستشرقين مجالاً للطعن في شرف عائشة وفى اتهام النبي بأنه اختلق الآيات ليبرئها، وهذه إحدى أفضال البخاري والمصدر الثاني علينا وعلى ديننا الحنيف..!!
إن حقيقة الأمر أن عائشة "أم المؤمنين وأمنا نحن إذا كنا مؤمنين" لا علاقة لها مطلقاً بحديث الإفك المذكور في سورة النور.
وأساس هذا الافتراء على عائشة يبدأ بأكذوبة "أن النبي كان إذا خرج لغزوة أقرع بين نسائه واصطحب إحداهن.." والقرآن الكريم ينفى أن النبي كان يصطحب معه نساءه في غزواته، فالله تعالى يقول للنبي عنه خروجه لغزوة بدر - أولى الغزوات - ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ..﴾ (الأنفال 5) والبيت يعنى الزوجة ، وفى توضيح أكثر يقول تعالى عن نفس الغزوة ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ...﴾ (آل عمران 121) أي خرج النبي عن أهله ، والأهل هم الزوجة والزوجات - لكى يصفّ المؤمنين للقتال.
إذن لم يكن معه واحدة من نسائه منذ أول غزوة غزاها..
وفى غزوة الأحزاب في العام الخامس من الهجرة ، نزلت سورة الأحزاب وفيها الأمر بالحجاب لنساء النبي والأمر حاسم لهن بأن يمكـثـن في البيت ولا يخرجن منه ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ (الأحزاب 33) فكيف يأمرهن الله بالبقاء في البيت ويأتي النبي فيصطحـبهن في غزوة بنى المصطلق فيما بعد؟.
لقد كان ترك النساء في المدينة بعيداً عن الغزوات عادة إسلامية حرص عليها النبي والمسلمون بحيث لم يكن يتخلف عن الغزو إلا النساء والأطفال والشيوخ غير القادرين.
وحين تخلف المنافقون عن الخروج مع النبي في احدى معاركه الدفاعية نزل القرآن يعيّرهم ويسخر منهم بأنهم رضوا بأن يتخلفوا مع النساء والصبيان ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ..﴾ (التوبة 87، 93) فهل من المعقول أن يصطحب النبي زوجاته معه عرضة لخطر الحرب بينما تبقى بقية النساء آمنات في المدينة؟.
ولكن عن ماذا تتحدث سورة النور ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...﴾؟
إن سورة النور من أوائل ما نزل في المدينة ، لذا جاءت بتشريعات اجتماعية جديدة لصيانة المجتمع الإسلامي الجديد في أوائل استقراره بالمدينة، ولنا أن نتصور المدينة في أول العهد بها حين جاءها المهاجرون والمهاجرات ليعيشوا بين الأوس والخزرج وفيهم الأنصار المؤمنون وفيهم ضعاف الإيمان والمنافقون وحولهم اليهود . والمهاجرون والمهاجرات بين أنصاري يؤثرهم على نفسه ولو كان به خصاصة وبين منافق يستثقل وجودهم وينتظر الفرصة ليصطاد في الماء العكر وسط ذلك الخليط البشرى الذى تكدس لأول مرة في مكان واحد ، ولا ريب أن المهاجرين كانوا في حاجة للعـون بعد أن تركوا أموالهم وديارهم وجاءوا إلى المدينة لا يملكون شيئاً إلا الإيمان وحب الإسلام. ولا ريب أن بعض المهاجرات كان حالهن أشد بؤساً فقد تركن أزواجهن المشركين فراراً بدينهن، ولا ريب أيضاً أنهن كن يتلقين مساعدات من بعض مؤمني الأنصار الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. ولا ريب أن المنافقين وجدوا فرصتهم في تشويه ذلك العمل النبيل بإشاعة قصص كاذبة عن علاقات آثمة بين أولئك المؤمنين والمؤمنات من المهاجرات والأنصار..
إن هذا التصور لفهم آيات سورة النور عن موضوع الإفك يستند إلى فهم حقيقي للظروف التاريخية الواقعية للسنوات الأولى لاستقرار المجتمع المسلم في المدينة حيث تم التآخي بين المهاجرين والأنصار ونزلت سورة النور بتشريعات اجتماعية تنظم السلوكيات داخل هذا المجتمع ، وكان ذلك قبل غزوة بنى المصطلق بعدة سنوات ، فليس ما جاء في هذه السورة أدنى علاقة بتلك الأسطورة التي حاكها البخاري وكتب الحديث عن عائشة ومسيرتها المزعومة مع النبي في الجيش.
ويؤكد ذلك أن آيات سورة النور تتحدث عن اتهام جماعة من أهل المدينة لجماعة من المؤمنين الأبرياء، تتحدث عن جماعة ظالمة اتهمت جماعة بريئة ، تتحدث عن مجموعة ولا تتحدث عن ضحية واحدة وإنما عن مجموعة من الضحايا البريئات . سورة النور لا تتحدث عن أم المؤمنين عائشة ، ولو كان لها علاقة بحديث الإفك لنزل ذلك في القرآن صراحة، فقد عهدنا القرآن أكثر اهتماماً بكل ما يخص بيت النبي وأمهات المؤمنين . فقد تحدث عن أمهات المؤمنين وبيت النبي في سورة الأحزاب وفى سورة التحريم وخاطبهن مباشرة في أمور أقل خطراً من ذلك الاتهام المزعوم لعائشة . ولكن القرآن في سورة النور لا يشير مطلقاً إلى عائشة أو أي واحدة من نساء النبي وإنما يتحدث عن عموم المؤمنين في حادث إفك اهتزت له المدينة في أول العهد بها وقد تكدس فيها المهاجرون والأنصار لأول مرة.. ولنراجع معاً آيات سورة النور..
تبدأ السورة بتقرير عقوبة الزنا (وهى الجلد لا الرجم)، ثم عقوبة رمى المحصنات ثم قضية التلاعـن بين الزوج وزوجته، ثم تدخل السورة على حديث الإفك بتقرير نفهم منه شيئين: 1ـ أن عقوبات الزنا وقذف المحصنات له علاقة مباشرة بالحديث التالي عن الاشاعات التي راجت في المدينة وقتها . 2ـ أن حديث الافك ليس خاصا بإحدى نساء النبي وانما هو أمر اشترك فيه جماعة من المؤمنين اتهموا جماعة اخرى من المؤمنين اثما وعدوانا . وهذا لا يجوز في اخلاقيات المجتمع المسلم الذى ينزل عليه الوحى القرآني. في ذلك يقول الله تعالى يخاطب المؤمنين جميعا في المدينة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ فالخطاب هنا عام للمؤمنين جميعاً ، فليس ذلك الحديث الإفك شراً للمؤمنين بل هو خير لهم لأنه بسببه أنزل الله في السورة التشريعات التي تنظم الحياة الاجتماعية للمسلمين حتى لا يتكرر المجال للتقولات والإشاعات.
ثم تقول الآية التالية تتحدث عن عموم المؤمنين أيضاً ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ إذن هي تهمة عامة تمس مجتمع المسلمين جميعاً وكان ينبغي عليهم أن يرفضوها وأن يظنوا بأنفسهم خيراً، وتمضى الآيات على نفس الوتيرة تخاطب جموع المسلمين لأن المظلومين جماعة والذين ظلموهم جماعة أخرى ، وقد تداول المسلمون أقوال الظلمة بدون تروٍ أو تدبر، تقول الآيات ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ  وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ  إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ  وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ  يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ  وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
ولأن المظلومين مجموعة والظلمة أيضاً مجموعة تقول الآية التالية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ فالمنافقون أرادوا بتوزيعهم التهم على مجموعات المؤمنين أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف (التوبة 67) وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
وينهاهم رب العزة عن اتباع خطوات الشيطان، ثم تلتفت الآية لبعض المحسنين الذين توقفوا عن الصدقة مخافة أن تلوكهم الألسنة ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا..﴾.
ولأن المظلومين جماعة من المسلمات العفيفات فإن الله توعد الظلمة بعذاب شديد ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
ونتوقف مع كلمة "المحصنات الغافلات" فهي الموضع الوحيد في القرآن الذى أتت فيه صفة الغفلة بمعنى السذاجة وطيبة النية، وما عداه فإن صفة الغفلة تلحق بالذي يعرض عن الحق ويلهو عنه ، ووصف المحصنات البريئات بالغفلة دليل على أنهن كن يتصرفن بالسجية والفطرة النقية في التعامل مع الناس ، ولو كان مجتمع المدينة خالياً من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ما لحقت بهن الشبهات والاتهامات. والله تعالى دافع عن هؤلاء المحصنات الغافلات المؤمنات ولعن من اتهمهن في شرفهن . ثم يقول تعالى ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ إذن جاءت البراءة من الوقوع في الإثم الخبيث لأولئك الطيبات وأولئك الطيبون ولأنهم جماعة قال عنهم ربنا تعالى ﴿أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾.
ثم أتت الآيات التالية تتحدث عن تشريع الاستئذان حتى لا يتكرر دخول بعض الناس بلا إذن كما كان مألوفاً في الجزيرة العربية ، وحتى لا يكون هناك مجال للشبهات والأقاويل ، ثم توالت التشريعات الاجتماعية في الزى والنكاح.. وذلك هو الخير الذى قالت عنه الآية الأولى في موضوع الإفك ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.
ويبقى السؤال: ما علاقة عائشة بذلك كله؟.
لا شيء.. لقد جرت أم المؤمنين عائشة على نفسها نقمة الكثيرين بسبب دورها في الفتنة الكبرى وموقعة الجمل. لذا تخصصت طوائف من الشيعة الهجوم عليها واتهامها في شرفها ، وكل الأحاديث المفتراه التي تهتك حرمة رسول الله كان النصيب الأكبر فيها لعائشة.. ومن يقولون أنهم أهل السنة يدافعون عن تلك الأحاديث ويعتبرون نقدها وتبرئة الرسول وأهل بيته منها إنكاراً للسنة..!! ويكفينا أن الجميع لا يزالون حتى الآن يربطون عائشة بحديث الإفك منهم تصديقاً لمفتريات ما يسمى بالمصدر الثاني..

هل كان لدى النبي متسع ليكون كما وصفته تلك الأحاديث؟

لقد جعلت تلك الأحاديث من قوة النبي الجنسية قضية نضطر لمناقشتها لتبرئة ساحة النبي منها ، لقد تزوج النبي وهو شاب من خديجة وهى تكبره في العمر وظل مخلصاً لها في حياته طيلة فترة شبابه ، ثم تعددت زيجاته وهو بعد الخمسين لغير سبب الشهوة.. وماذا يبقى للإنسان بعد الخمسين خصوصاً إذا كان يحمل هموماً ومسئوليات ينوء بحملها عشرات الرجال الأشداء؟ ولنتذكر كيف كان يواجه أعداءه من مشركين ومنافقين ، وكيف تنوعت هذه المواجهة بين مؤامرات وغزوات وحصار، ثم كيف كان مسئولاً في هذا السن عن إقامة دولة وتأسيس أمة ونشر دعوة وتكوين مدرسة وإعداد قادة ، وذلك جميعه أقامه رجل واحد في العشر سنوات الأخيرة من حياته ، تلك العشر سنوات التي ملأتها كتب الأحاديث بروايات تصوره شخصاً آخر لا اهتمام له إلا بالجماع وصحبة النساء.
لقد كان النبي تكاد نفسه تذهب حزناً على عناد قومه ومكرهم ، ويحمل الدعوة في قلبه قبل جوارحه وينشغل بها وبإدارتها مع تبليغه الرسالة وتكوينه الدولة وإعداده للمدرسة التي تربت على هديه ، فهل يتبقى فيه متسع بعد ذلك كله لأن يكون كما تصوره لنا كتب التراث؟ يكفينا ما أشارت إليه سورة الأحزاب في الخطاب المباشر لنساء النبي من رب العزة ، فقد أردن التمتع بحلال الدنيا شأن كل النساء في المدينة ، وكانت النتيجة أن الله أمر النبي أن يخيرهن بين تحمل البقاء معه أو أن يطلقهن ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ﴾ (الأحزاب 28: 29)

9 ـ القرآن يحرص على حرمة بيت النبي التي هـتـكـتها أحاديث البخاري:

مهما بلغت دناءة الإنسان فإنه يرفض أن يقتحم الناس أسرار بيته أو علاقة والده الجنسية بوالدته ، والعادة لدينا نحن أهل العروبة والإسلام أن نستنكف من كشف أسماء النساء من العائلة، ولكننا في نفس الوقت لا نرى تحرجاً من الإيمان بأحاديث البخاري التي تطعن في بيت النبي ونسائه وتهتك حرمته وحرمتهن وتجردهم من ملابسهم عراة أمام عقولنا.. ومعذرة للتعبير..
10 ـ على المسلم الذى يقرأ هذا الكتاب أن يختار بين شيئين لا ثالث لهما:
1ـ اما أن ينتصر للنبي محمد الذى ظلمه البخاري بتلك الأكاذيب المفتراه ، وقد فعل البخاري ذلك عمدا وعن علم ودراية بما يفعل . وهذا واضح لكل ذي عقل ناقد وفهم لحرفة الكتابة والتأليف. والانتصار للنبي عليه السلام يعنى شيئا محددا هو أن يرفع المسلم صوته ـ ان لم يستطع الكتابة ـ معلنا للناس أن البخاري عدو لله تعالى ورسوله لينبه المسلمين الى هذه الحقيقة وليدلهم عليها ويدعوهم الى قراءة البخاري وطعنه المستمر والمستتر لخاتم النبيين.
2 ـ واما ان يوالى البخاري في ظلمه للنبي ، أو أن يسكت على ظلم البخاري للنبي رهبة وخوفا وتقديسا للبخاري واسمه ، وهو بذلك يثبت لنفسه والآخرين أنه يعبد البخاري ويقدسه ويبارك أو يسكت على طعنه في رسول الله عليه السلام.
كل منا حر في اختياره مع حق النبي المظلوم أو مع البخاري الظالم ، وكل منا مسئول امام الله تعالى عن موقفه واختياره . ان الايمان ليس كلمة تقال أو مجرد شعار يرفع أو تعريف يكتب في البطاقة الشخصية وشهادة الميلاد ، ولكنه موقف عملي عفوي يتخذه كل انسان دفاعا عما يؤمن به ومن يؤمن به. وفى هذا الموقف يكتشف كل انسان حقيقة ايمانه وواقع توجهه العقيدي ، وبذلك فهذا الكاتب هو كتاب كاشف لكل مسلم عن خبايا نفسه اذ يضعه في مواجهة صريحة مع الذات قبل أن يفوت الأوان.
المؤمن حق الايمان بالله تعالى ورسوله يحدد موقفه من الآن مهتديا بقوله تعالى عن خاتم النبيين " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ: " الأحزاب 6" فاذا كان المؤمن يغضب اذا انتهك بعض الناس خصوصيات امه وابيه واسرارهما الجنسية والشخصية او قام بفضحهما بقصص ملفقة على الملأ فان الواجب عليه كمؤمن ان يغضب لنبي الاسلام المظلوم عليه السلام الذى فضحه البخاري بتلك الأكاذيب امام العالم كله ومنذ اكثر من 12 قرنا من الزمان.
أما عدو الله تعالى ورسوله الموالي للبخاري المقدس له فلن يجرؤ على انتقاد البخاري لأنه في عقيدته إله لا يخطئ وفوق مستوى الأنبياء الذين كانوا يخطئون وينزل الوحى يلومهم ويؤنبهم. ولأنه لا يجرؤ على انتقاد البخاري ولا يستطيع في نفس الوقت اعلان نصرة النبي المظلوم في هذه القضية فالحل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو الهجوم على مؤلف هذا الكتاب وصب اللعنات عليه وكيل الاتهامات في حقه ليشغل الناس بقضية أخرى ينجو بها هو و البخاري الهه ، ولكن هل سينجو من عقاب الآخرة ؟
وإذا أردنا أن نعرف مدى الجرم الذى نرتكبه في حق نبينا عليه السلام بالسكوت عن البخاري وأمثاله علينا أن نقرأ في القرآن الكريم كيف كان حرص الله تعالى عظيماً على حماية سمعة هذا البيت النبوي الكريم.
كان بعض الناس يستسهل الدخول على بيت النبي بدون إذن وكان النبي يتحرج ويستحى من طرد أولئك المتطفلين فنزل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ﴾ (الأحزاب 53) . ان البيت المادي للنبي قد اندثر ولكن التشريع الخاص بالبيت المعنوي للنبي لا يزال قائما. فبيت الرجل العادي هو نساؤه واهله. أما بالنسبة للنبي محمد بالذات فالمصطلح القرآني " أهل البيت " مقصود به نساء النبي تحديدا ، واقرأ في ذلك قوله تعالى :" وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" "" الأحزاب 33".
وهكذا فان التشريع لا يزال قائما في حرمة البيت النبوي بعد موت النبي ونسائه، خصوصا وهن امهاتنا في الاسلام ، وهن اللاتي يريد الله تعالى أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. فكيف بالبخاري ومن يعبدونه ويقدسونه وهم طيلة القرون الماضية يحاولون انتهاك حرمة هذا البيت العظيم الطاهر برجسهم وقذارتهم ؟!!
11 ـ معنى الصلاة على النبي ومعنى ايذاء النبي

بعد قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً " جاءت الآية التالية في التحذير من الله تعالى الذى يعلم السر وأخفى "إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً." بعدها جاءت الآية التالية في استثناء من يدخل على نساء النبي من أقاربهن" آية55 من سورة الأحزاب .
والمفهوم من السياق ان الذى لا يطيع هذه الأوامر والنواهي يكون ـ ليس فقط عاصيا لله تعالى ورسوله ـ ولكن أكثر من ذلك يكون ممن يؤذون الله تعالى ورسوله , وجاء التلميح بذلك في قوله تعالى في الآية السابقة :" وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ".أما الذى يحفظ حق النبي وحق امهات المؤمنين فهو الذي يحتفظ بالصلة الطيبة بالنبي مهما تباعد الزمن بينه وبين النبي.
المهم أن اتهام من لا يطيع الأوامر والنواهي السابقة جاء تلميحا في الآية السابقة ثم جاء تصريحا وتفصيلا في الآيات التالية : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً  إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً  وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الأحزاب 56: 58 "
اولئك الذين في قلوبهم مرض لم يقتحموا بيت النبي بدون إذن فقط بل اقتحموا عليه بأقلامهم ورواياتهم المسمومة حجرة نومه يؤذونه في خصوصياته وأدق أسراره مع زوجاته يسجلونها كما يحلو لهم ليطعنوا في شخصه الكريم ، هذا مع أن المؤمن يحافظ على صلته بالنبي بتمسكه بما كان النبي يتمسك به وهو القرآن وبأن يدفع عنه تلك التهم التي تسللت إلى الدين . وبعضنا - دون أن يدرى- يقول دائماً اللهم صلى على النبي وهو يتمسك في نفس الوقت بالأحاديث التي تطعن في سيرة النبي...... هدانا الله إلى الحق..

12 ـ الساحر المزعوم الذى سحر النبي:
تحت (باب السحر) يروى البخاري هذا الحديث منسوباً لعائشة "سحر رسول الله رجل من بنى زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل فقال: مطبوب قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: في أي شيء؟ قال في مشط ومشاطة وجُف طلع نخلة ذكر، فقال وأين هو قال في بئر ذروان. فأتاها رسول الله في ناس من أصحابه فجاء فقال: يا عائشة كأن ماءها ناقعة الحناء أو كأن رؤوس نخلها رءوس الشياطين، قلت يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شراً فأمر بها فدفنت".
وفى رواية أخرى يضع فيها البخاري بعض (البهارات) الجنسية فيقول "كان رسول الله سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال يا عائشة أعلمت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي.." وتمضى رواية الحديث إلى أن تقول عائشة "أفلا تنشرت" فقال أما والله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً..." والإشارات الجنسية في هذه الرواية هي قوله "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" و"هذا أشد من يكون من السحر" ثم قول عائشة "أفلا تنشرت" (البخاري: الجزء السابع ص 176: 178، الجزء الثامن ص 103).
واتهام الرسول بالسحر أو بأن بعضهم سحره فيه تشكيك في الرسالة وطعن في الدين. وقبل هذه الروايات التي جاء بها المصدر الثاني فإن مشركي مكة اتهموا النبي محمداً بأنه مسحور ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً﴾ (الفرقان 7: 8).
ويعلق رب العزة على ذلك الاتهام بقوله ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾ (الفرقان 9).
وكرر القرآن نفس الحكاية في سورة الإسراء فيقول عن المشركين ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ﴾ (الإسراء 47) ويعلق رب العزة على ذلك الاتهام فيقول نفس المقالة ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء 48).
ولأمر ما تكرر قوله تعالى ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾ في التعليق على اتهام المشركين للنبي بأنه كان مسحوراً ، وأعتقد أن هذا التكرار كان مقصوداً للرد على اتهام آخر للرسول بالسحر بعد وفاته ، وجاء هذا الاتهام في روايات المصدر الثاني.
إن الله حفظ رسوله ليبلغ الرسالة كما هي. يقول تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)(المائدة 67).
فكيف يكون الله تعالى حافظاً له من الناس ويستطيع ذلك اليهودي المزعوم أن يسحره.

13 ـ اليهودي المزعوم الذى رهن النبي عنده درعه:
حديث البخاري يقول "توفى رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير.." (البخاري الجزء الرابع ص 49: 50، الجزء السادس ص 19، الجزء الثالث ص 107، 177). هل يمكن أن نصدق أن رسول الله يضطر لأن يرهن دروعه عند يهودي في مقابل أن يحصل على ثلاثين صاعاً من شعير..؟ ثم هل يمكن أن نصدق أن يموت النبي وهو مدين لذلك اليهودي ودرعه مرهونة عنده؟ وأين كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ومنهم الأغنياء والمياسير؟..
ومن السهل الرد على هذه الرواية من خلال البخاري نفسه الذى ذكر الإيراد السنوي الثابت الذى كان يحصل عليه النبي من ضيعة فدك (البخاري: الجزء الرابع ص 96).
كما يذكر البخاري أن أموال بنى النضير اليهود بعد أن طردهم النبي من المدينة كانت فيئاً خاصاً بالنبي "ينفق منها على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقى منها في السلاح والكراع عدة في سبيل الله" (البخاري: الجزء السادس ص 184).
إذن على هذا كيف يتوفى النبي وهو مدين ليهودي بثلاثين صاعاً من شعير وقد رهن درعه عنده؟.
والقرآن الكريم يثبت أن بيت النبي كان مفتوحاً للضيوف يأكلون ويتحدثون ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا..﴾ (الأحزاب 53).
وتاريخ المسلمين ينفى أيضاً رواية البخاري عن رهن درع النبي عند ذلك اليهودي.. فالنبي عليه السلام قد أجلا كل اليهود عن المدينة ، أجلا يهود بنى قينقاع ثم يهود بنى النضير ثم يهود بنى قريظة، وقد تحدث القرآن عن جلاء آخر قبائل اليهود في سورة الأحزاب (الأحزاب 26) وظلت المدينة خالية منهم إلى أن توفى النبي ..إذن فأين ذلك اليهودي المزعوم الذى ظل وافر الثراء إلى أن مات النبي وقد رهن درعه عنده؟.

14 ـ البخاري ينسب للنبي تشريع الرجم للزاني:
تحت عنوان "باب رجم المحصن" أتى البخاري بأحاديث الرجم للزاني المحصن، وهى لا تخلوا من بعض التناقض والتشكيك.
فيروى حديث جابر "أن رجلاً ممن أسلم أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحدثه أنه قد زنى فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرُجم وكان قد أحصن" وحديث أبى هريرة عن رجل آخر أقر للنبي بالزنا وهو في المسجد "فقال له النبي: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال النبي: اذهبوا به فارجموه.. ويقول الراوي فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى..".
ثم يأتي البخاري بحديث أنس عن رجل آخر مجهول قال للنبي "يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علىّ ، قال ولم يسأله عنه قال وحضرت الصلاة فصلى مع النبي فلما قضى النبي الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأهم في كتاب الله  قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو حدّك".
وواضح ذلك التناقض بين أحاديث فيها تشريع الرجم يأمر به النبي وحديث آخر يتغاضى فيه النبي عن توقيع تلك العقوبة لأن الزاني قد صلى مع النبي وقد غفر الله له.
ثم هناك تشكيك آخر في عقوبة الرجم في حديث يرويه البخاري يقول "حدثنا خالد عن الشيباني سألت عبد الله بن أبى أوفى: هل رجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قال: نعم، قلت: قبل سورة النور أم بعد؟ قال: لا أدرى" وقد نزلت عقوبة الزنا في سورة النور وهى الجلد لا الرجم كما سيأتي تفصيله فيما بعد، ولكن رواية الحديث تشير بطرف من الشك إلى أن عقوبة الرجم محدثة قبل- وربما بعد- نزول سورة النور التي شرعت العقوبة الحقيقية لجريمة الزنا وهى الجلد. ثم يأتي البخاري بحديث طويل ينسبه لعمر بن الخطاب فيه التأكيد على أن الرجم هو عقوبة الزاني المحصن، ويقول فيه "لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.." وذلك الحديث الطويل المنسوب لعمر بن الخطاب يتضح فيه أنه صبغ بلهجة محمومة للدفاع عن عقوبة الرجم للزاني ضد أولئك الذين كانوا ينكرونه، مما يعنى أن اختراع عقوبة الرجم وتشريعها ونسبتها للنبي لم تكن بالشيء الهين في عصر البخاري وإنما استلزمت الكثير من الدفاع والهجوم الوقائي وعكست ذلك كله الروايات المختلفة (راجع البخاري الجزء الثامن ص 204: 211).
وقد مات ابن بروزيه والمشهور اسمه بالبخاري سنة 256 هـ. وعاصره الأديب المشهور الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ. وقد ألف الجاحظ كتابه "البخلاء" الذى ذكر فيه نوادر البخلاء وطرفاً من الحياة الاجتماعية في العصر العباسي ، وتحدث فيه على سجيته وكان مما ذكره عن بعض أصحابه من البخلاء "ولقد خبرني خباز لبعض أصحابنا أنه جلده على إنضاج الخبز وأنه قال له: أنضج خبزي الذى يوضع بين يدى واجعل خبز من يأكل معي على مقدار بين المقدارين، وأما خبز العيال والضيف فلا تقربنه من النار إلا بقدر ما يصير العجين رغيفاً وبقدر ما يتماسك. فكلفه العويص فلما أعجزه ذلك جلده حد الزاني الحر"(3). أي أن عقوبة الزاني كانت الجلد ولم تكن الرجم ، وأن العبد الزاني كان يُجلد خمسين جلدة وأن الحر الزاني كانت عقوبته مائة جلدة. وهذا ما كان معروفاً ومألوفاً في عصر التدوين حيث عاش الجاحظ والبخاري ونفهم من هذا أن الروايات المتناقضة في موضوع الرجم كانت تعكس اختلافاً فقيهاً في الآراء ، وكان كل فريق يعزز موقفه بأحاديث ينسبها للرسول عليه السلام.. وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم وجدنا أن الجلد هي عقوبة الزاني والزانية.
وسورة النور التي نزل فيها تشريع الجلد للزناة بدأت بآية تستلفت النظر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يقول تعالى في بداية سورة النور ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ففي بداية السورة تنبيه وتذكير لنا بأحكام تالية غاية في الأهمية ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ثم بعد هذا التنبيه عالي النبرة يقول تعالى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ والله تعالى وهو الأعلم وحده بالغيب أنزل هذا التحذير والتنبيه لأنه تعالى يعلم أنه سيأتي زمان بعد نزول القرآن يصاغ فيه تشريع بعقوبة الزنا لم يرد في كتاب الله ويخالف تلك الفرائض والآيات البينات الواضحات ، لأن الذين يدافعون عن ذلك التشريع الزائف لم يتذكروا كلام الله ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ..﴾.
وتفصيلات القرآن - التي قلما يهتم أحد بالتدبر فيها - جاءت بالأحكام التفصيلية لعقوبة الزنا.
• فالزاني والزانية إذا تم ضبطهما في حالة تلبس وبشهادة أربع شهود أو بالإقرار يصح معه وصفهما بالزاني والزانية فعـقـوبـتهـما هي الجلد مائة جلدة عقوبة علنية أمام طائفة من المؤمنين ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
• ومن الصعب إثبات حالة التلبس في جريمة الزنا ، ومن السهل أن يشاع عن امرأة ما أنها سيئة السمعة والسلوك ، وتتكاثر الشواهد على ذلك دون إثبات حالة التلبس ، وحينئذ لابد من عقاب مناسب بعد الإشهاد عليها بأربعة شهود بأنها سيئة السمعة والسلوك يقول تعالى ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء 15) فالعقاب هنا ليس الجلد وإنما هو إجراء وقائي يمنع تلك المرأة عن الناس ومنع الناس عنها إلى أن تتوب أو تموت.
• وقد تكون الزانية جارية يجبرها مالكها على البغاء ، وحينئذ لا عقوبة عليها ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور 33)
• وإذا تزوجت الجارية أي تحصنت بالزواج من الوقوع في مثل هذه المواقف ، لكنها وقعت في الزنا باختيارها فعقوبتها خمسون جلدة أي نصف ما على المحصنات العفيفات من الحرائر ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ﴾ (النساء 25) ولو كان هناك رجم على الزانية الحرة المحصنة فكيف نطبق هنا نصف الرجم؟.
• وقد تكون الزانية زوجة مطلقة لا تزال في فترة العدة وفى عصمة زوجها ومن حقها البقاء في بيته ولكن تفقد هذا الحق بوقوعها في الزنا ويكون للزوج أن يطردها من بيته ولكن يشترط أن يكون إثبات الجريمة حقيقياً بالشهود أو بتعبير القرآن ﴿إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ وذلك حتى لا يكون هناك مجال للزوج المطلق أن يفترى على زوجته مطلقته كذباً؟
يقول تعالى عن تلك الزوجة المطلقة ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ (الطلاق 1).. والطرد هنا عقوبة تضاف للجلد..
• وتأبى تفصيلات القرآن إلا أن تضع عقوبة الزنا لحالة مستبعـدة واستثنائية للغاية ، وهى فيما يخص نساء النبي أمهات المؤمنين إذا وقعت إحداهن في هذه الجريمة فيكون العقاب بالنسبة لها مائتي جلدة ، أي ضعف ما على المرأة الحرة ، وإذا أحسنت كان ثوابها ضعف ثواب المحسنات ، يقول تعالى ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً  وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ (الأحزاب 30: 31) فهل إذا كان العذاب هو الرجم فكيف يمكن جعل الرجم مضاعفاً..؟
ومن الإعجاز في آيات الله المحكمة أن يوصف عقاب الزناة بالجلد بأنه عذاب..
فعن حالة الزنا وضبط الزناة في حالة تلبس أو إقرار يقول تعالى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..﴾ ثم تصف الآية عقوبة الجلد بأنها عذاب فيقول ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وفى حالة الجارية التي تضبط زانية بعد زواجها يقول تعالى ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ﴾ فالعذاب هو الجلد للجارية المتزوجة والحرة أيضاً ، وفى حالة نساء النبي يقول تعالى ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ فوصف الجلد هنا أيضاً بأنه عذاب..
وفى بداية سورة النور بعد أن تحدث ربنا جل وعلا عن عقوبة الزانية والزاني وأنها الجلد مائة جلدة ووصفه بأنه عذاب.. تحدث فيما بعد عن حالة الزوج الذى يضبط زوجته وهى تزنى ولم يكن معه شهود يؤكدون ادعاءه، وأنزل الله تعالى تشريع الملاعنة ، وذلك بأن يشهد الزوج بنفسه أربع شهادات بالله بأن زوجته زانية ، وأنه صادق في هذا الاتهام ، ثم يشهد الشهادة الخامسة ويجعل لعنة الله عليه إن كان كاذباً ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ  وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ﴾ ويمكن للزوجة المتهمة أن تدفع عن نفسها عقوبة الجلد بأن تشهد أربع شهادات بالله بأن زوجها كاذب ثم تشهد الشهادة الخامسة بأن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ  وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ﴾ (النور 6: 9)
والشاهد في الآيات أن الله تعالى وصف عقوبة الزنا للمتزوجة بأنه عذاب وأنه يمكن للزوجة التي يتهمها زوجها على الملأ بالزنا بأن تدرأ عنها عذاب الجلد بشهادات أخرى تنفى التهمة فقال تعالى ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ..﴾
إذن وصف الله عقوبة الجلد بأنها عذاب وجعل هذا الوصف يأتي في حالات مختلفة تضم المحصن والمحصنة بالنص.. ومعناه أن الجلد هو العقوبة لكل الزناة محصنين أو غير محصنين. ووجه الإعجاز هنا أن الله تعالى أورد هذا الوصف لأنه تعالى يعلم أن هناك من سيأتي بتشريع ما أنزل الله به من سلطان يقتل به النفس التي حرم الله بغير الحق، بل ويقتلها أبشع قتلة وهو القتل رجماً... وما أبشع الافتراء على الله ورسوله..
ألا ينبغي أن نتذكر قوله تعالى ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ (الأنعام 151) ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ..﴾ (الإسراء 33) ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ...﴾ (الفرقان 68).
ولكننا لا نكتفى بقتل النفس الزكية بغير نفس ، ولكن نصدر بذلك تشريعاً يجعل ذلك الجرم ساري المفعول ، ثم لا نكتفى بذلك بل ننسبه لله ورسوله.. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ كم من الأنفس الزكية لفظت أنفاسها تحت أكوام من الحجارة تـنهـمـر عليها من كل جانب وتلقى مصرعها بالموت البطيء ، وأولئك الذين يقومون بتنفيذ الإعدام من المسلمين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم ينفذون أوامر الله ويرجمون الزاني المحصن..!!
وكم يضحك منا إبليس اللعين..
﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ (فاطر 8)

15 ـ البخاري ينسب للنبي الأكاذيب والمتناقضات: ـ
رأينا طرفاً من التشريعات الكاذبة التي نسبها البخاري للنبي عليه السلام. وهو تشريع الرجم ، وقد توقفنا معه لأنه أخطرها ولأنه لا يزال محل تطبيق و يجد بين المسلمين أنصاراً حتى الآن..
ونتوقف الآن قليلاً مع أكاذيب ومتناقضات نسبها البخاري للنبي عليه السلام..
وعموماً فكل الأحاديث التي رواها البخاري وغيره وفيها ينسبون للنبي أقاويل عن علامات الساعة وأحداثها والشفاعة وأحوال القيامة - كلها أحاديث تناقض القرآن صراحة فالقرآن يؤكد في أكثر من موضع بأن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم شيئاً عن الساعة وموعدها وتفصيلاتها وقد عرضنا لذلك فيما سبق ، وأتينا بالآيات الكثيرة في هذا الموضع ، ويكفينا منها قوله تعالى للنبي ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ....)(الأحقاف 9) وإذا كان النبي لا يعلم ماذا سيحدث له أو لغيره فكيف ننتظر منه أن يتحدث عن أحوال القيامة وشفاعته أو عدم شفاعته..؟
ثم ألا يكفينا قوله تعالى في عدم علم النبي بالغيب ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ..﴾ (الأنعام 50) ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف 188)
على أن البخاري قد نسب أحاديث عن موعد قيام الساعة ، وهى مع مخالفتها لصريح القرآن الذى ينفى عن النبي علم الغيب فإن هذه الأحاديث المنسوبة للنبي أراد بها البخاري أن يجعل القارئ يتهم النبي بالكذب.. كيف ذلك؟.
اقرأ في أحاديث البخاري هذه الأقاويل عن موعد قيام الساعة" صلى بنا النبي العشاء في آخر حياته فلما سلّم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" وفى رواية أخرى "لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة" فالبخاري يسند للنبي قوله بأن القيامة ستقوم بعد مائة عام ، وحين كتب البخاري تلك الأحاديث كان قد مضى على موت النبي أكثر من مائتي عام ، أي أن البخاري كتب هذه الأحاديث ليدفع القارئ إلى تكذيب النبي.
ويكرر البخاري نفس المعنى في صورة أخرى ، يقول "كان رجال من الأعراب جفاة" يسألون النبي عن الساعة "فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يعش هذا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم".
وفى حديث آخر أكثر صراحة يروى البخاري أن رجلاً سأل الرسول متى تقوم الساعة "...فمر غلام للمغيرة فقال النبي: إن أُخِّر هذا- أي إن عاش - فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة..." وعلى ذلك فلابد أن الساعة قد حدثت في حياة ذلك الغلام دون أن ندرى.. أو ربما يكون ذلك الغلام حياً حتى الآن..! (راجع البخاري الجزء الأول ص 39: الجزء الثامن ص 133: الجزء الثامن ص 48).
والقارئ إذا تحمس للبخاري وجعله صادقاً في نقله لتلك الأحاديث وأن النبي قد قال ذلك فعلاً فمعناه أنه يتهم النبي بالكذب.. والأسلم لنا أن نرجع للقرآن وإلى قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ..﴾ (الأعراف 187).فالنبي لم يتحدث مطلقاً عن الغيب لأنه لا يعلم الغيب إلا الله.. ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النمل 65)
وقد يضع البخاري حديثاً يعرف أن التجربة العملية قد ثبت كذبة مثل حديث من تصبح كل يوم سبع تمرات لم يضره سم ولا سحر" (البخاري: الجزء السابع ص 104)
وقد يضع حديث يعرف أن حقائق التاريخ الثابتة في القرآن تناقضه مثل الحديث المشهور "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر..." إذن كيف نفسر هزيمة النبي في غزوة أحد وحصار المشركين له في المدينة حيث يصف رب العزة حال المسلمين في المدينة ﴿وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ  هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً " (الأحزاب 10: 11) فإذا كان النبي قد نصره الله بالرعب مسيرة شهر فكيف حاصره المشركون في المدينة في موقعة الأحزاب؟.
وقد يأتي البخاري بأحاديث متناقضة فيما بينها في الموضوع الواحد، وهو ينسبها للنبي ليدفع القارئ للتشكيك فيه، ويحرص البخاري على أن يجعل تلك الأحاديث المتناقضة في أمور التشريع.. والأمثلة كثيرة نكتفى بذكر بعضها على عجل..
فالبخاري ينسب للنبي أنه نهى أصحابه عن الاختصاء "حديث ابن مسعود: كنا نغزو مع النبي ليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله أن نستخصى؟ فنهانا عن ذلك". وفى الصفحة التالية مباشرة حديث أبى هريرة وفيه سماح النبي له بالاختصاء "قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسى العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء... فقال النبي: يا أبا هريرة جفَّ القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر.." (البخاري: الجزء السابع ص 4، ص 5).
وفى صفحة واحدة حديثان متناقضان "إذا شرب كلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" وبعده مباشرة حديث "كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك" (البخاري: الجزء الأول ص 53).
وفى صفحة واحدة يقول البخاري "كان النبي يتوضأ عند كل صلاة" وبعدها مباشرة حديث يناقضه "إن النبي صلى المغرب ولم يتوضأ" (البخاري: الجزء الأول ص 62).
وتأتى أحاديث كثيرة تحض على سرعة التبكير بالذهاب لصلاة الجمعة، وتملأ هذه الأحاديث صفحات من البخاري ثم يتبعها حديث ينقضها جميعاً يقول "إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا".. (البخاري: الجزء الثاني ص 3، 4، 8، 9) وروايات متناقضة في صلاة الكسوف تملأ صفحات وقد يخرج منها القارئ بتصميم على ألا يصلى الكسوف أبداً (البخاري: الجزء الثاني ص 42: 50) وأحاديث تحذر من المرور بين يدى المصلى وتأمر المصلى أن يخرج من صلاته ليقاتل ذلك المسلم الذى مر أمامه لأنه شيطان "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله إنما هو شيطان" "لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه".
وفى نفس الصفحة أحاديث تبيح ذلك منسوبة لعائشة "لقد رأيت النبي يصلى وإني لبينه وبين القبلة وأنا مضطجعة على السرير" "كنت أنام بين يدى رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما" ثم حديث ابن عباس "أقبلت راكباً على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله يصلى بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدى بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علىّ أحد" وأحاديث أخرى تجعل الحمير والخراف والنساء تمر أمام النبي وهو يصلى، فأيهما نصدق؟ (البخاري: الجزء الأول ص 128: 129، الجزء الأول ص 29، ص 126).
وقد يأتي البخاري بأبواب كاملة يناقض بعضها بعضاً ويتلو بعضها بعضاً..
فهناك باب عنوانه "باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" وتحته أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى، ثم يتلوه باب آخر عنوانه "باب ما ذكر في شؤم الفرس" وتحته أحاديث مثل "إنما الشؤم في ثلاثة في الفرس والمرأة والدار" (البخاري: الجزء الرابع ص 30: 33). بل قد يأتي البخاري بالتناقض في حديث واحد، مثل "لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة". (البخاري: الجزء السابع ص 174) فكيف ينهى عن الطيرة أي التطير والتشاؤم ثم يأمر بالتشاؤم المستمر من رؤية المرأة والدار والدابة. وإذا طبقنا هذه السُنّة فلن ندخل بيتاً ولن ننظر إلى زوجة أو ذات محرم ولن نرى حيواناً يدب على الأرض.
على أن أفظع الأحاديث المتناقضة جاء بها البخاري في موضوع الصلاة ليشكك المسلمين فيها..
فهناك أحاديث تأمر المرأة بأن تصلى وهى حائض وأحاديث أخرى تنهى عن ذلك (البخاري: الجزء الأول ص 81، 84، 85، 86).
وأحاديث تأمر بالصلاة بعد الصبح وبعد العصر وأحاديث تنهى عن ذلك (البخاري: الجزء الأول ص 143: 145).
وأحاديث تثبت أن النبي كان يصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين في غير السفر وفى غير الخوف منها: "خرج علينا رسول الله بالهاجرة فأتى بوضوء فجعل الناس يأخذون منه فضل وضوئه فيتمسحون به فصلى النبي الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة" "أن النبي صلى بهم البطحاء وبين يديه عنزة الظهر ركعتين والعصر ركعتين يمر بين يديه المرأة والحمار" (البخاري: الجزء الأول ص 57، ص 126).
وأحاديث أخرى تقول أن النبي كان يصلى الصبح أربع ركعات "أن رسول الله رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلى ركعتين فلما انصرف رسول الله لاث به الناس وقال له رسول الله: الصبح أربعاً الصبح أربعاً" (البخاري: الجزء الأول ص 159: 160).
ومع هذا يجعلون البخاري وكتب الاحاديث مصدرا للمعرفة بالصلاة وكيفيتها ، ولم يتساءل احدهم كيف كان المسلمون يصلون قبل مولد البخاري ؟
ونكتفى بهذا فقد تعبنا.. وأتعبنا..
الهوامش:
(1) القائل هو الخليفة الوليد بن عبد الملك: تاريخ الخلفاء للسيوطي 344. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(2) تركنا الفراغ ولم نكتب اللفظ القبيح حياءاً من القارئ.
(3) الجاحظ: البخلاء: 55: 56، تحقيق طه الحاجرى، دار المعارف بمصر.

رقم ( 9 )

الخاتمة

الخاتمة
1- الله تعالى ينزل مصدراً واحداً لدينه ولكن لا يلبث الناس أن يقيموا إلى جانبه مصادر أخرى مع التزييف في كلام الله، ولكن الله تعالى أتم حجته علينا بإنزال القرآن محفوظاً بعناية الله من الزيف والتحريف وجعله مهيمناً على ما سبقه من كتب وأنزله مبيناً مفصلاً تاماً لا يحتاج إلى مصدر آخر معه، وتظل آيات الكتاب حجة على أولئك الذين يتهمون القرآن بالنقص والغموض والاحتياج للبشر.
2- وأصحاب المصدر الثاني ينسبون الأحاديث للنبي مع اعترافهم بأن النبي نهى عن كتابة هذه الأحاديث، ومع اعترافهم أيضاً بأن العصر الذهبي للإسلام لم يشهد كتابة تلك الأحاديث التي لم تُدوّن إلا في عصور الاضطراب العقيدي والتفرق الديني والتحزب السياسي ، وهم حين ينسبون تلك الأحاديث للنبي يجعلونها درجات في الصحة والصدق ، فمنها المتواتر الذى يفيد عندهم اليقين وعدد أحاديثه يتراوح ما بين صفر إلى أقل من عشرة أحاديث عند أكثر المتفائلين ، ومنها الآحاد وهو القسم الأعظم من تلك الأحاديث ، ثم يقسمون أحاديث الآحاد إلى درجات مختلفة بين الصحة والزيف، وبين الصدق والكذب ، وهو تقسيم مضحك ، ذلك لأنك حين تنسب قولاً ما لقائله فالأمر لا يحتمل إلا واحداً من اثنين ، أما أن يكون الشخص قد قال ذلك القول فعلاً فالقول صادق في نسبته إلى قائله بدرجة 100٪، وإما أن يكون الشخص لم يقل ذلك القول، وحينئذ تكون نسبته إليه كاذبة 100٪، ولا توسط بين الاثنين، ومثلاً فإن حديث ﴿اعملى يا فاطمة فإني لا أغنى عنك من الله شيئاً﴾ إما أن يكون النبي قد قاله فعلاً ونطق به وحينئذ فهو من قول النبي 100٪، وإما لم يتلفظ به النبي وحينئذ تكون نسبته للنبي كاذبة 100٪ ولا مجال للوسطية. ولكن أين لنا أن نتحقق من ذلك وقد دار ذلك الحديث على الألسنة أكثر من قرنين من الزمان إلى أن تمت كتابته ، والذى كتبه لم يشهد النبي ولم يشهد الأجيال التي أتت بعد النبي أيضاً.
ونعود إلى تقسيماتهم المضحكة لدرجات الأحاديث من الصدق والكذب فنراهم يقولون أن ذلك الحديث صادق بنسبة 70٪ والآخر بنسبة 50٪ والآخر بنسبة 13٪ أي ضعيف.. وهو تقسيم يضحك منه الحزين. فإما أن يكون الرسول قد قال ذلك الحديث فهو صادق 100٪ وإما لم يقله الرسول فالحديث كاذب 100٪.
والذى قاله الرسول ويظل إعجازاً لنا على أنه كلام الله هو القرآن، وهو الحديث الذى ينبغي الإيمان به وحده والاحتكام إليه وحده ، فالذي أنزل هذا الكتاب هو الذى سيحاسبنا على أساسه يوم القيامة، أما الذين كتبوا لنا مؤلفات المصدر الثاني فهم بشر مثلنا سيقفون معنا صفاً أمام الله في الموقف العظيم يوم القيامة.
وخوفاً من ذلك اليوم فإننا ندعو القارئ المسلم لأن يخلو بنفسه ليتفكر فيما أوردنا في هذا الكتاب داعياً الله تعالى بإخلاص أن يهديه إلى الصراط المستقيم تاركاً خلفه كل هوى قديم.. إن أعمارنا محدودة ، والأيام تسير بنا والموت يتربص بنا ولا ندرى متى سينشب فينا أظفاره ، ولابد أن يحسم كل منا رأيه في هذه القضية حتى يكون مستعداً للقاء الله يوم القيامة ، يكفى أن ينظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله في الأرض من إبداع، أيمكن للخالق جل وعلا أن ينزل علينا كتاباً ناقصاً غامضاً موجزاً محتاجاً لكلام البشر ليكمله ويوضحه ويفصّله ؟.
﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟﴾ (الأعراف 185)

وصدق الله العظيم
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟﴾

والسؤال لا يزال مطروحاً...

رقم ( 10 )

ملحق 1 بين النبى والرسول

ملحق 1 ( بين النبى والرسول)
أولا :

1 ـ جاءنى هذا السؤال فى باب الفتاوى فى موقعنا ( فاسألوا أهل الذكر ). ونظرا لأهميته  أكتب الرد عليه مقالا .

2 ـ السائل الكريم يقول : ( أنا أقرا هذه الأيام كتابك الرائع (القرآن و كفى)، ولدي سؤال أرجو أن تجيبني عليه بخصوص الفرق بين معنى النبي و الرسول . فليست كل الآيات القرآنية تتفق مع  التعريف الذي حددته : أمثلة : (الرسول) :قوله تعالى (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة)و (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله و الرسول) و قوله تعالى (و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) و قوله تعالى (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ).
أمثلة : (النبي): قوله تعالى:(يا ايها النبي قل لازواجك و بناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ). هل هذه الآيات تتفق مع تعريفك للنبي و الرسول ؟ )

ثانيا :

أبدأ الرد بنقل موضوع الفرق بين الرسول والنبى كما جاء فى كتابنا ( القرآن وكفى ) للتوضيح.. ثم نتابع الرّد على القارىء الكريم .

 ( الفرق بين الرسول والنبى :
يخطئ الناس فى فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول، وذلك لأنهم يخطئون فى فهم الفارق بين مدلول النبى ومدلول الرسول..
"النبى" هو شخص محمد بن عبد الله فى حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله، وتصرفاته البشرية.
ومن تصرفاته البشرية ما كان مستوجباً عتاب الله تعالى، لذا كان العتاب يأتى له بوصفه النبى، كقوله تعالى ﴿يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك؟ تبتغى مرضات أزواجك؟!..﴾ (التحريم 1) . ويقول تعالى فى موضوع أسرى بدر ﴿ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة﴾ (الأنفال 67). ويقول له ﴿وما كان لنبى أن يغل ومن يغلل يأتى بما غل يوم القيامة﴾ (آل عمران 161). وحين استغفر لبعض أقاربه قال له ربه تعالى ﴿ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم﴾ (التوبة 113). وعن غزوة ذات العسرة قال تعالى ﴿لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم..﴾ (التوبة 117).
وقال تعالى يأمره بالتقوى واتباع الوحى والتوكل على الله وينهاه عن طاعة المشركين ﴿يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً. واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا. وتوكل على الله..﴾ (الأحزاب 1: 3). كل ذلك جاء بوصفه النبى.
وكان الحديث القرآنى عن علاقة محمد عليه السلام بأزواجه أمهات المؤمنين يأتى أيضاً بوصفه النبى ﴿يا أيها النبى قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا﴾ (الأحزاب 28). ﴿وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثاً..﴾ (التحريم 3). وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين، فلا يقول يا نساء الرسول وإنما ﴿يا نساء النبى لستن كأحد من النساء.. يا نساء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ (الأحزاب 32، 30).
وكان الحديث عن علاقته بالناس حوله يأتى أيضاً بوصفه النبى ﴿يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن﴾ (الأحزاب 59) ﴿النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم﴾ (الأحزاب 6) ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم﴾ (الأحزاب 53) ﴿ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة﴾ (الأحزاب 13). وهكذا فالنبى هو شخص محمد البشرى فى سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة، لذا كان مأموراً بصفته النبى باتباع الوحى.
أما حين ينطق النبى بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله..، .. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ (النساء 80، 64) والنبى محمد بصفته البشرية أول من يطيع الوحى القرآنى وأول من يطبقه على نفسه.. وهكذا ففى الوقت الذى كان فيه (النبى) مأموراً باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة (الرسول) أى طاعة النبى حين ينطق بالرسالة أى القرآن ﴿قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً فى القرآن "أطيعوا الله وأطيعوا النبى" لأن الطاعة ليست لشخص النبى وإنما للرسالة أى للرسول. أى لكلام الله تعالى الذى نزل على النبى والذى يكون فيه شخص النبى أول من يطيع..كما لم يأت مطلقا فى القرآن عتاب له عليه السلام بوصفه الرسول.
ولكلمة النبى معنى محدد هو ذلك الرجل الذى اختاره الله من بين البشر لينبئه بالوحى ليكون رسولاً. أما كلمة الرسول فلها فى القرآن معان كثيرة هى:
• الرسول بمعنى النبى: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين﴾ (الأحزاب 40).
• الرسول بمعنى جبريل ﴿إنه لقول رسول كريم. ذى قوة عند ذى العرش مكين. مطاع ثم أمين. وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين﴾ (التكوير 19: 23).
• الرسول بمعنى الملائكة: ملائكة تسجيل الأعمال ﴿أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون﴾ (الزخرف 80). ملائكة الموت ﴿حتى إذا جاءت رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله﴾ (الأعراف 37).
• الرسول بمعنى ذلك الذى يحمل رسالة من شخص إلى شخص آخر، كقول يوسف لرسول الملك "ارجع إلى ربك" فى قوله تعالى: ﴿وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك..﴾ (يوسف 50).
• الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبى الذى ينطلق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التى تحث على طاعة الله ورسوله.. فكلها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.
والرسول بمعنى القرآن يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن ، وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم﴾ (آل عمران 101) أى أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا ، وسيظل محفوظا وحجة على الخلق الى قيام الساعة..
وكلمة الرسول فى بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى ﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله﴾ (النساء 100).
فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة فى سبيل الله وفى سبيل رسوله- أى القرآن- قائمة ومستمرة بعد وفاة النبى محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.
وأحياناً تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر. كقوله تعالى ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ (الفتح 9)
فكلمة "ورسوله" هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد. والدليل أن الضمير فى كلمة "ورسوله" جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وتعزروه وتقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل "وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا". والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده . ولا فارق بين الله وتعالى وكلامه، فالله تعالى أحد فى ذاته وفى صفاته ﴿قل هو الله أحد﴾.
ويقول تعالى ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة 62)
ولو كان الرسول فى الآية يعنى شخص النبى محمد لقال تعالى "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه.
إذن فالنبى هو شخص محمد فى حياته الخاصة والعامة، أما الرسول فهو النبى حين ينطق القرآن وحين يبلغ الوحى ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ (المائدة 67)
وفى الوقت الذى يأمر الله فيه النبى باتباع الوحى فإن الله تعالى يأمرنا جميعاً وفينا النبى- بطاعة الله والرسول، أى الرسالة. ولم يأت مطلقاً "ما على النبى إلا البلاغ"، وإنما جاء ﴿ما على الرسول إلا البلاغ﴾ (المائدة 99) فالبلاغ مرتبط بالرسالة كما أن معنى "النبى" مرتبط ببشرية الرسول وظروفه وعصره وعلاقاته. )

 ثانيا : متابعة الرد

  1 ـ لم يتسع كتاب ( القرآن وكفى ) للافاضة فى توضيح الفارق بين مصطلحى النبى والرسول ، لأن منهج الكتاب ومقصده كان الايجاز والبساطة فى توضيح الفكرة الأساس ، وهى الاكتفاء بالقرآن مصدرا للتشريع فى الاسلام وبيان عوار المصدر الآخر وهو الحديث. وبالتالى فالكثير من القضايا التى تناولها هذا المبحث الموجز تحتاج فعلا الى أبحاث تفصيلية ، وقد قمنا ببعضها لاحقا فى بحوث عن النسخ والرجم وحد الردة و عذاب القبر و الاسناد والتأويل ..الخ .

2 ـ : منهج التدبر القرآنى كما كررنا وأكّدنا كثيرا ، هو تحديد المصطلح القرآنى من خلال السياق الخاص بالآية داخل السورة والسياق العام للمصطلح فى بقية آيات القرآن الكريم ، بعد تجميع كل الآيات الخاصة بالموضوع مباشرة والقريبة منه ، وبالدخول فى البحث بلا فكرة مسبقة ، بل بقلب صاف يرجو الهداية ويبحث عنها مستعدا لترك اى اعتقاد يخالف القرآن الكريم ، أو فكرة متوارثة يظهر بالبحث مخالفتها للقرآن الكريم .ولقد تم الالتزام بهذا المنهج من اول بحث قرآنى لنا وحتى الآن . وظهر فى كتاب القرآن عام 1990 . وعليه فإن مصطلح النبى فهو ما يخص علاقاته بمن حوله والتشريعات الخاصة به والمحددة بالمكان والزمان ، أما مصطلح الرسول فهو النبى حين ينطق بالقرآن ، والتشريعات المصاحبة لمصطلح الرسول سارية بسريان الرسالة أو القرآن ، ولذا يأتى اللوم لمحمد بصفته النبى أو بالخطاب المباشر له . أما الأمر الطاعة فيأتى بصفته الرسول ,مقترنا بالله جل وعلا (الله ورسوله ). أى إن محمدا النبى هو أول المطالبين بطاعة الرسول أو القرآن كما أوضح كتاب ( القرآن وكفى ) .

3 ـ هناك تفصيلات أخرى عن النبى والرسول لم يذكرها الكتاب لأنها لا تتناسب مع منهج الكتاب فى إيجاز الحقيقة القرآنية بالاكتفاء بالقرآن وحده.

الاجابة على السائل الكريم تتمحور فى قضيتين : ذلك التداخل بين مصطلحى (النبى والرسول ) من حيث إجتماعهما فى شخص واحد ، وبه يتميز رسل الله وأنبياؤه عن بقية البشر، فكل منا له شخصية واحدة ، ولكن للنبى شخصية مزدوجة فهو النبى المختار والمصطفى لتبليغ الرسالة ، وهو الناطق بهذه الرسالة عن ربه جلّ وعلا ، وحين ينطق بها فهو الرسول الواجب إتباعه ، ويكون هو نفسه أول من يتبع هذه الرسالة التى ينطق بها.وبالتالى ينتج عن هذا ما يعرف بالالتفات ، وسنعرض له . الثانى هو محلية الحدث وقابليته للتكرار أو عدم قابليته للتكرار ، وهذا يتجلى فى التشريع بالذات. فهناك تشريعات خاصة بالنبى وأزواجه ، وأخرى خاصة بمن هم حول النبى ، وهناك تشريعات يمكن سريانها بعد النبى وأخرى لا يمكن . وهذا يتداخل مع الالتفات المشار اليه آنفا مع تداخل معنى النبى والرسول . ونعطى أمثلة للتوضيح .

3 / 1 : ـ الالتفات : ونعنى به الانتقال من تعبير النبى الى تعبير الرسول لتوضيح المراد فى القصص وفى التشريع المرتبط به . مثلا : هل كان المنافقون فى المدينة يكرهون النبى محمدا ويؤذونه لشخصه ( محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشى ) أم كانوا يكرهونه ويؤذونه بسبب دعوته ورسالته أى القرآن الكريم ؟ الاجابة : لم تكن الكراهية شخصية ولكن كانت موضوعية ،أى بسبب القرآن الكريم . لهذا فالعلاقة هنا معقدة ، فالايذاء الذى صدر منهم نحوه كان محددا بالزمان والمكان والأشخاص (أى للنبى ) ، ولكنه فى الحقيقة كان كراهية وإيذاء للرسول أو الرسالة ( وهى ممتدة وسارية بعد موت النبى ) . والله جل وعلا أنزل القرآن محكما يضع الكلمة فى مكانها : يقول جل وعلا عن المنافقين فى المدينة :(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ) ، هنا الكلام على النبى بأقوال محددة وعلاقات محددة بالزمان والمكان ، فالنبى محمد بشخصه وأخلاقه عليه السلام رحمة للمؤمنين منهم وهو أذن خير لهم وهو يؤمن للمؤمنين أى يثق فى المؤمنين حوله ، ولكن المنافقين يؤذونه ويتهمونه بأنه (أذن ) أى يسمع لكل من هبّ ودبّ من المؤمنين . هذه العلاقات وذلك الأذى كله ( محلّى ) أى محدد بالزمان والمكان أى الخطاب عن النبى . ولكن يأتى الالتفات الى تعميم التشريع ليمتدّ الى كل من يؤذى (النبى )بعد موته ـ كراهية فى الرسالة القرآنية ، هنا يأتى مصطلح الرسول ، فيقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). هنا الالتفات من النبى الى الرسول لتعميم التشريع بالحكم بالنار يوم القيامة على كل من يقع فى هذا الأذى للرسول اى للرسالة والقرآن بعد موت محمد النبى الرسول . وفى إعتقادنا أن هذا الحكم ينطبق على أئمة الحديث وكل من إفترى حديثا كذبا ونسبه لخاتم النبيين عليه وعليهم السلام.

والآيات بعدها توضح أن العداء ليس لشخص محمد أو النبى ، ولكن للرسالة القرآنية ،  فالقرآن هو القضية المحورية ، وفيها  يأتى مصطلح الرسول:( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ).ولأن الرسالة تعنى القرآن ولأن الرسول يعنى أحيانا القرآن ، ولأن طاعة الرسول ليست طاعة لشخص محمد ولكنها طاعة لصاحب الرسالة وصاحب الدين والقرآن وهو الله جل وعلا فإن الآية الكريمة تقول : ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ). لم يقل ( والله ورسوله أحق أن يرضوهما ) لأن الرسول هنا هوالقرآن الكريم ، رسالة رب العالمين ، ولا فارق بين الله جل وعلا وكتابه وكلامه ، لذا عاد الضمير بالمفرد ، لله جل وعلا وحده ليدل على الله ورسالته أو كتابه. وليس لمحمد نصيب هنا . ومن هنا نفهم وجوب الطاعة لله تعالى ورسوله على أنها طاعة للواحد الأحد جل وعلا فى كتابه أو رسالته التى كان ينطق بها محمد رسوله ، فحين كان ينطق بالقرآن وحين كان يعظ بالقرآن وحين كان يذكّر بالقرآن من يخاف وعيد فطاعته هى طاعة لكلام الله جل وعلا أى لله جل وعلا ، وهو عليه السلام أول من يتبع القرآن وأول من يحكم بالقرآن لأنه أول المسلمين . وتقول الآية التالية تقرن الرسول أى الرسالة بالله جل وعلا:(أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) هنا أيضا التفات من حالة محلية محددة بالزمان والمكان والأشخاص لتعميمها ، فالمنافقون كانوا يحاربون النبى ويعارضونه ، وهذا محدد بالزمان والمكان ، ولكن تم الحكم عليه بالتعميم لينطبق على كل من يعارض الله جل وعلا وكتابه أو رسالته وقرآنه ، فالحكم عليه بالنار يوم القيامة ، أى هو حكم مستمر الى قيام الساعة . وفى التأكيد على لبّ القضية وهى الكراهية والعداء للقرآن الكريم كلام رب العالمين تقول الآيات التالية:( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم  قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ)(التوبة 61 ـ )، فالله تعالى وآياته ورسوله تعنى الله جل وعلا فى كتابه ورسالته وآيات كتابه . ومثل ذلك قوله جلّ وعلا فى حكم يسرى فوق الزمان والمكان فيمن يؤذى الله تعالى ورسوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا)(الأحزاب 57 ).

3 / 2 : الالتفات فى التشريع من النبى الى الرسول لبيان سبب التشريع ، وهو فيما يخصّ الرسول أو الرسالة، فمثلا يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ) ( الأحزاب 53 ). تبدو ( المحلية ) محددة هنا ببيوت النبى وقتها فى المدينة حيث كان يتوافد عليها الصحابة بإذن وبدون إّذن ، يأكلون ويتسامرون مما كان يؤذى النبى عليه السلام . وبسبب خلقه الرفيع كان يستحى من نصحهم وجرح مشاعرهم وهم فى بيته.هذه المحلية فى الزمان والمكان والأشخاص وتصرفاتهم ترتبط بقضية عامة فوق الزمان والمكان ، وهى خصوصية بيت النبى لأنه مهبط الرسالة،ولأن صاحب هذا البيت لا بد أن يجد وقتا للراحة والخصوصية ولأنه صاحب مهمة عظمى أو رسالة.  نسى الصحابة الطفيليون هذا كله ، وهو حق .ولأن الله جل وعلا لا يستحيى من الحق فقد أنزل فى هذا الموضوع قرآنا ، بدأت الآية بالنبى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ) ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ ) ثم جاء التعليل بالالتفات الى مصطلح الرسول لتوضيح حرمته ومكانته وخصوصيته : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا).

3/ 3 وقد سبق أن النبى حين يقرأ القرآن أو يحكم به فهو الرسول،فلا صوت يعلو فوق صوت النبى .هنا صوت النبى المادى المسموع ، ولكنه صوت ينطق بالقرآن، فيلحقه التشريع الذى يأمربالاستماع والانصات حين يتلى القرآن:(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)( الأعراف 204 ) والذى يشير الى الى طبيعة المشركين فى التشويش على القرآن حين يتلى لمنع المؤمنين من الانصات اليه : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصلت 26 ). بهذا نفهم قوله جل وعلا :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) هنا صوت مسموع للنبى بجسده، ولكنه بالقرآن يكون صوت رسول الله حسبما توضح الآية التالية :(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ  عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)( الحجرات  2 " 3 )

3 / 4 : واللغو والتشويش الذى كان يمارسه المشركون فى مكة أعاده المنافقون بصورة أشدّ مكرا وأضل سبيلا ، وهى المناجاة وتحويل إهتمام المؤمنين فى المدينة الى إشاعات وتهامسات ونجوى بالإثم والزور لصرف المؤمنين عن القرآن أو الرسول ،أى لمنع المؤمنين من  التركيز فى الاستماع للرسول ،أى للنبى حين كان يعظ ويذكّر ويقرأ القرآن .هنا نجد التشريع الخاص بوقته ومكانه بالنسبة للرسول أى النبى حين يقرأ القرآن ويحكم بالقرآن ، يقول جلّ وعلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المجادلة 8 : 13 )

3 / 5: ومن هذا التشريع ما نزل بعد معركة بدر واختلاف الصحابة فى توزيعها ، فجاء التشريع القرآنى مرتبطا بمصطلح الرسول ، فالرسول هو الذى يحكم بالقرآن ، وهو الذى يوزّع الغنائم طبق ما جاء فى القرآن .وقد سألوا النبى عن حكم الأنفال ، فنزل الحكم على لسانه بصفته الرسول : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )، وتأتى الآية التالية تذكرهم بالله جل وعلا وخشيته عند سماع إسمه العظيم أو تلاوة كتابه الكريم : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ  ) ( الأنفال 1 : 2 ). ثم جاء تفصيل تشريع الغنائم :( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنفال 41 ). فخمس الغنائم لله جل وعلا ولرسوله ـ أى كتابه ورسالته ودينه ـ ويتم توزيع هذا الخمس على خمس هم الرسول محمد وذوى قربى المؤمنين واليتامى والمساكين وابن السبيل . وبعد موته عليه السلام يكون نصيبه فى الغنائم الى الدعوة بالقرآن ، أى الرسالة ، فالرسول قائم بيننا طالما بيننا كتاب الله جل وعلا نتلوه. نفس الحال فى توزيع الفىء أو ما يفىء الى بيت المال ، يقول جل وعلا : (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر 7 ). هنا حكم الله جل وعلا ، كان يطبقه رسول الله محمد عليه السلام فى حياته ، وبعد موته يجب تطبيقه وفق ما جاء فى الرسالة أو القرآن القائم مقام الرسول بيننا.

3/ 6 : وطبعا يوجد تشريع خاص بالنبى وزمانه ومكانه ، وينزل الوحى يعلّق ويعقّب على ما حدث ويعطى توجيهات ، كقوله جل وعلا عقب معركة بدر : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(الانفال 64 : 71 ) . . ومثله تشريع آخر عن الزىّ للمؤمنات خاص بمكانه وزمانه ولا شأن له بعصرنا وهو قوله جل وعلا لخاتم النبيين:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) . وتوضح الآية التاية سبب هذا التشريع الخاص بزمانه ومكانه وظروفه ، وهو وجود المنافقين الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف فى طرقات المدينة ( التوبة 67 ) ، لذا يتوعدهم الله جل وعلا بأقسى تهديد ، يقول : (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا) ( الأحزاب 59 : 60 ).

هذا .. والله جل وعلا هو الأعلم ..وهو المستعان ..