JustPaste.it


قصة ذاكر


كانت تبدأ قصص الخيال ونحن لا زلنا نلعب في حارتنا وبعد يومٍ مجهدٍ من اللعب واللهو مع أقراننا من الأطفال ؛ نأتي لنستلقي في آخر الليل طارحين أجسادنا بلا تفكيرٍ وبلا همٍ ولا غم ، تغفوا على رؤوسنا أيادي أمهاتنا ويغشانا النعاس أحيانًا بعد ( كان يا ما كان ) وأحيانًا تشدنا قصص الآباء والأمهات والأجداد ، ونبقى نستمع لها ونتخيلها فمنها ما هو خيالي ، ومنها ما هو من سيرة الرجال الأفذاذ حتى تطبع بعقولنا صورةٌ لتلك الأحداث الأسطورية الخيالي منها والحقيقي ، ثم ننام بهدوءٍ وبعض الأحيان ننام والبطن تشكو الجوع لكن ما يملأوها وعود الوالدين في الصباح يا بني ستجد ما لذ وطاب حتى يأتي الصباح فلا لذ وُجِد ولا ما طاب والحمد لله.

أريد أن أبدأ اليوم معكم على غير المعتاد ، فسابقًا كانوا يقولون لنا ( كان يا ما كان في قديم الزمان ) أما اليوم فأقول لكم كان يا ما كان في قريب الزمان ، نعم في قريبه لا بعيده في زماننا وليس من سالف العصور وغابر الأزمان ، ليست روايةٌ مرميةٌ على رف مكتبةٍ يعلوها الغبار تشكو من قلة القارئين والمطلعين بل مما نعاصر من طيب الزمان .

ذاكر شابٌ صالح نشأ في عائلةٍ كريمةٍ تلقفه الصالحون بعدما جال العدو على بلدتهم ، ومُكِن عليهم أعدائهم
أشد وأقسى عدو في التأريخ 
التزم ذاكر العبادة وعزم بحميةٍ أن لا يعود إلا بعد أن يطرد الغزاة من أرضه وهو يراهم ويسمع عنهم قد أساءوا للرجال ، وفعلوا ما فعلوا بالنساء ، وبتواطؤٍ مع من كان يسكنون معه في نفس البلدة التي عاش وترعرع فيها ؛ حتى رأى اليوم الذي ينقلب عليه شركاء البلدة بعدما كانوا يكمنون لهم ليسيطروا على بلدتهم الجميلة الهادئة والتي كان أيضًا يسيطر عليها حاكم ظالم ، وتشاء الأقدار أن يحدث ما حدث وحمل على عاتقه هَم طرد الغزاة بغير جماعةٍ ولا أصدقاء ، فتلقفه الصالحون إلى دور العبادة فقالوا له : يا ذاكر ماذا لو قلنا لك أن عملك صائبٌ وهدفك خاطئ وأن الهدف السامي يجب أن يكون على حساب الظالمين وليس على من أتى بهم فقط ، وأن ربك يا ذاكر يقول ذلك وليس نحن وهذه الأدلة أمامك ، جلس ذاكر يراجع نفسه وحاله حتى علم أنه كان في طريق صائب لكن الهدف غائب وخاطئ ، فمد يده مع أصدقاءه وقام بالعمل معهم طويلًا طويلًا حتى قضى نحبه.

نسيت أن أذكر لكم صفات ذاكر ، ذاكر كان خلوقًا بشوشًا ذي كرمٍ وجود ، كان ذو طلةٍ وهيبةٍ لو دخل على مجلس ما كان الحديث إلا له ، وما يؤنس المجالس إلا وجوده ، شجاعٌ لا يخشى شيئًا في الحق ، يقول كلمة الحق ولو كانت لا ترضي أحدًا ، وفيًا إذ كان وفاؤه دلالة روحه 
وفيًا لقضيته لأهله لأصدقائه لأحبائه ، يستحيل على الشخص أن يراه ويكرهه ، يستحيل أن يدخل على مكانٍ ولم تكن ابتسامة وجهه قبله من تدخل ، كان إذا صعبت الأمور يسهلها ملتجئًا إلى ربه دائمًا في السراء والضراء حتى لديه وصية هي دائما ما يوصيها ؛ لأحبته يا فلان احفظ الله يحفظك ، يا فلان أني أنصحك نصيحةً عز قائلها وقل معطيها ، احفظ الله في كل واجباته تراه يحفظك ويكون معك في ضيقتك ، بلغ الأربعين من عمره الذي أفناه في خدمة أحبته ودينه ، أخشى أن أنهي الكلام فأظلمه ، أخشى أني قصرت في حق ذاكر ، أرى أن الكلمات لا تسع لذكر ما يحمله هذا الرجل من صفات القائد والموجه والبطل والشجاع الذي لو رآه كل ذي فطرةٍ سليمةٍ لقال ما هذا إلا من جيل الأولين .

لا غرابة إن وجد أمثال الأولين ؛ لأن من يسير على ما ساروا عليه وانتهج ما انتهجوه وفهم ما فهموه يكون مثلهم ونراه غريبًا في زماننا ونادرًا ما نرى تلك الأوصاف في عصرنا ، فذاكر قرأ وفهم وسار وكان له ما كان من مكانةٍ في قلوب أصدقائه ومحبيه ومن عاشره وسار معه، وكذلك نحن وأنتم جميعنا نريد أن نكون مثل ذاكر أن نفعل ما فعل ذاكر .

بقي ذاكر على هذا الطريق يلاقي ما يلاقيه من أذى الأهل والناس وأذى العدو ، حتى في يومٍ من الأيام ركب ذاكر عربته ليذهب في أحد المشاوير الخاصة بعمله ، فوجد كمينًا للعدو وعملائه في الطريق ، وكان لا يوجد منفذ سوى العبور من جانبهم ، وكان يحمل ما يؤدي به إلى الإعدام أو المؤبد - حسب قوانين تلك البلدة - ، فلم يعر لهم أهمية وقال : اليوم أنهي هذه المسيرة مع هؤلاء لكي أذهب إلى خالقي بوجهٍ أبيضٍ ناصعٍ ولكن لقدر الله أمرٌ آخر ، حيث أوقفوه وسحب ذاكر سلاحه وأردى أمامهم وأمام الجميع مسؤول الكمين وهو ذو رتبةٍ عاليةٍ ، وعندما أرداه لم يشعر ذاكر بأي شيء ، يقول لقد انطفئ الضوء وظننت أني أنهيت الأمر وانتهيت .

استيقظ ذاكر من غيبوبته بعد أيامٍ وإذا به مقيدٌ بالأغلال وجسده مصاب ب9عياراتٍ ناريةٍ في بطنه وأسفلها وهو ما أدى إلى إصابته بعدم الإنجاب ، وهو من يحب الأطفال ويحب رؤيتهم ، فنقل بعد إصابته البليغة والتي كتب الله له عمرًا آخر ، في سبيل أن يكمل طريقه ولأن ؛ الله يعلم أن هذا لديه الكثير ليقدمه والكثير من الأشواك أمامه ليختبره هل يصبر أم يحيد ؟ لكن أنى لمثل ذاكر أن يحيد.

أُدخِل إلى زنزانة العدو الخارجي عدة سنواتٍ وخر

ج منها بعد أن أصر على عدم الاعتراف ، وهذه مكيدة منه ولذكاءه ، وهو يعلمهم إذ يقول : قال لي المحقق العدو كيف تنكر ؟ وهذه الإصابات ووجدنا أداة العمل معك ؟
قال لهم : نعم هم أطلقوا النار علي وأنا ظننتهم سراقًا يريدون أن يسرقوا عربتي ولم أتعمد هذا الأمر وأنجاه الله.

الكثير ممن يبتليهم خالقهم وربهم عندما ينتهي الابتلاء يزيغون ولا يسيرون على ما كانوا عليه ويتركون العمل الشريف والطريق الصحيح ويتبجحون بأنهم أدو وكفو وما علموا أنهم عملوا وذهب عملهم هباءً بسبب تركهم العمل بعد الابتلاء ، لكن ذاكر عندما خرج خرج ليس كمثل ما دخل ، بل أشد أصرارًا وعزيمةً ، وأشد شجاعةً وجلدًا ، تزوج من عائلةٍ كريمةٍ فكانت زوجته خير رفيقٍ له في حياته ، صبرت على ما أصابه وتعلمت طريقه وعملت معه وكانت كمثل الصحابيات فلا عجب فالطيبون للطيبات ، وكانت رفيقة درب حقًا ، بعدما تزوج لم يعلم الكثير أن إصابته حرمته من الإنجاب وهو يومئ برأسه عند سؤاله متى يأتي ولي العهد يا ذاكر فيجيب : حين يشاء الله.

بعد زواجه رُزق شقيق زوجته بطفلٍ جميلٍ ، ورفيق زوجته هو رفيق درب ذاكر أيضًا وعمل معه العمل الطيب المثمر فأسمى ابنه عثمان ؛ لأن هذا الاسم يحبه ذاكر كثيرًا فنودي ذاكر بأبي عثمان ، وكانت هذه الكنية ملازمةً له في حياته ؛ لأنه شديد الحب لعثمان الأول ولعثمان الطفل .

يتكلم بمرارةٍ عندما عاد ذات مرةٍ إلى المنزل مرهقًا وكانت من عادة العاملين إغلاق الهواتف قبل العودة إلى المنزل، فكان لدى رفقائه عملٌ في مكانٍ آخر فتمت محاصرتهم من قبل العدو ، وقاوموه حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم ، وكان أحدهم يتصل بذاكر لعله ينجدهم لكن ذاكر كان منهكًا ، فجاء صديقه على بيته وقال له أدرك رفقاءك يا ذاكر ، فقد أوفوا بالعهد وأفضوا إلى ما قدموا ، يقول ذاكر قدمي لا تحملني ، أريد أن أذهب ؛ لأرتدي ملابسي ولا أعلم أين أنا وكل تفكيري مشغولٌ باولئك الأبطال ، كيف كانت آخر لحظاتهم ؟ وسأحمل دمهم في عنقي ، يقول وصلت إلى المكان وإذا برفقاء دربي ممددين في الشوارع وقد تمكن الرصاص من جسدهم وأصبحوا كالمنخل المثقوب لا نعلم أي مكان أصابهم فأرداهم ، وجميع الإصابات في الصدر والواجهة ، وهو ما يدل على إقدامهم وعدم تراجعهم ، يروي ذاكر اللحظات التي كان يحمل جثث رفقائه ويُصعدها إلى العربة ، يقول كانت رائحتهم طيبة وكنت كلما رفعت واحدًا منهم قبلته واعتذرت منه ، يقول عندما مشيت بهم في العربة إلى المقبرة ليتم دفنهم كنت أسير والدم الطاهر يسيل من العربة .

لم تمحوا الأيام والسنين والسجون والابتلاءات هذه الحادثة من رأس ذاكر وعقله وذاكرته ، وهو يتذكرها بألم وحسرة ، ألمٌ على ما فقد ، وحسرة على أنه لم يكن موجودًا معهم ، فكانت أمنيته أن يلاقي ما لاقوه وأن يفضي إلى ربه على ما أفضوا عليه وانتهوا ، يذكرها والشجنٌ واضحٌ في كلامه وعينه تغرق بالدموع لكنه لا ينزلها خشيةً على مشاعر الآخرين الذين أمامه من أن يقولوا قد ضعف ذاكر وهو ذلك الشجاع المقدام .

جاء النصر لذاكر ورفقائه فكانت لهم القرية والبلاد ولم يطغَ و لم يشقَ ، لسان حاله : الحمد لله الذي أكرمنا بالنصر ، فكان وفيًا لرفقائه الذين بقوا معه وجاءته الدنيا إلى حضنه فرماها وبقي على عمله وأسس بذكائه مفصلًا مهمًا من مفاصل حياة الناس ، فكان المسؤول عنه وقدم كل خير له وكل ما قدر عليه فكان من خيرة المفاصل التي تعمل في تلك البلدة الطيبة ، يذكر صاحب الرواية أنه كان أبًا وأخًا يقول : كان عندما يوضع الطعام يقدم جلوس المائدة على نفسه ، ويوهمهم بأنه يتناول أكثر منهم إلا انه يتناول الأقل بينهم ، ولا يشبع إلا إذا شبعوا ولا يرتوي حتى يرتوون ، أصبحنا من فرط غرابتنا بوجود رجلٍ مثله في زماننا نتابع كل خطواته وعمله دون أن يعلم 
يقول : ذات يوم أكلنا وشبعنا وبقي من الرغيف القليل فبقي في الهواء وأصبح الرغيف صلبًا وهو قليل جدًا لا يساوي ربع رغيفة ، والخير فائض في المدينة ، فرمى أحد الرفقاء الرغيف اليابس في مكان تجمع الفضلات ، وعند عودة ذاكر من الخارج رأى في طريقه قطعة الرغيف اليابسة في مكان الفضلات ، فصاح بهم : من رمى هذه ؟ أما تتقون الله !! والله إنه سيحاسبنا على كل نعيمٍ وهذا نعيم كبير ، ونعمةٌ عظيمةٌ ، ونحن نرمي بها في الفضلات ، يقولون فاستغربنا فقلنا : يا أبا عثمان إنها قطعةٌ صغيرةٌ تالفةٌ ، ولدينا خيرٌ عظيم ، يقول : فتركنا ونهض وقال أنا ذاهبٌ إلى العمل ، فتابعته من خلف النافذة فإذا به يستخرج قطعة الرغيف ويمسحها ويتناولها خشيةً منه من ضياع النعمة والسؤال عليها ، نعم هكذا هم القدوات هكذا هم مربو الأجيال ، هكذا علمنا عن عمر وعن أبي بكرٍ ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية وهكذا كان خلفهم فنِعم المتشبهون بهم ونِعم السائرون على ما ساروا عليه .

تمضي الأيام ومكانته ترتفع بين الناس والمحبين ، ليس لرتبته في الحياة ، إنما مكانةٌ روحيةٌ ومحبةٌ لهذا الرجل فتكفل بالأيتام وسعى بين الأرامل ، ووصى بهم خيرًا كثيرًا وقال لا تتركوهم فإنكم بهم م

حفوظون وبهم سيفتح الله عليكم البركات ، حتى جاء موعد محاصرة العدو لهذه البلدة لكي يعيثوا فيها الفساد ، فكان مستعدًا وكان يرمي إلى هدفه عبر هذه النازلة والتي ألمت بهم وبرفقائهم وبلدتهم الطيبة الجميلة ، كيف لا تكون جميلة وفيها رجال كذاكر ؟ ، سألوه ذات يوم كيف ستتعامل مع هذا الحصار ؟ وهذا العدو الذي يريد أن يداهم الديار فقال : أتعامل معهم مثلما أمرني خالقي أن أبقى أواجه حتى أفضي إليه ، ألقى ما لاقاه أحبتي وعسى الله أن يتقبلني بقبولٍ حسن .

كان زوجته تأمر بالخير وتنهى عن الشر ، وكانت من خيرة النساء في ذلك الزمان ، صابرةٌ عاملةٌ طالبةٌ للعلم عاملة به رفيقة زوجها في السراء والضراء ، جاء شقيقها الثاني ليعمل مع زوجها لما لاقاه من خلقٍ وجميل عمل ، وأحب ذاكر شقيق زوجته الثاني أيضًا ، وقربه إليه وأعزه وتعلق برفقته كثيرًا ، حتى جاء أحد الأيام بغير موعد ، وكان قد التحق بعمله في الصباح ولم تمضِ سوى ساعتين أو ثلاث وعاد ذاكر وكتمان البكاءِ واضحًا جليًا على وجهه ، وجلس على ركبتيه كجلوسه للصلاة ، فقيل له : يا أبا عثمان ما الذي عاد بك وقد ذهبت اليوم للعمل وكان من المفترض أن تعود بعد أيام ؟ وإذا به لا يستطيع النطق وقالها : شقيق زوجتي قد أفضى إلى ربه مقتولًا ، وأجهش بالبكاء ، نعم ذاكر نراه لأول مرةٍ يبكي كبكاء الأطفال ، بكاء السنين المتعبة ، بكاء الطريق الطويل بكاء الرفقاء الذين يذهبون يوميًا ، البكاء الذي لسان حاله  :

متى الوعد يارب أن تأخذني
عزيزًا غير حائد ولا مبدلي
حاملًا روحي بين كفي طويلًا
فتقبل مني يا رب حسن عملي

والصدمة واضحةٌ على وجهه ومحياه الجميل الذي رغم كل الألم نجده مبتسمًا مستبشرًا لكن رحيل رفيق دربه رسم البكاء على وجهه ، وأظهر ما كان يكتمه من سوء المشاعر والألم فصبروه حتى صبر ، وكان يقول ربي ألحقني به فإنني يا رب ما عدت أطيق فراق الأصحاب ذهب إلى زوجته فقال لها يا أم عثمان تجلدي واصبري فإن شقيقك فاز وكان أكرم مني فذهب إلى ربه مقبلًا وهل نساؤنا كباقي النساء ؟ هل صرخت ولطمت ؟ وهل قالت يا ويلي ؟ فهي إن فازت بالصبر فازت بالصدمة الأولى فما كان قولها إلا أن عسى الله أن يتقبله بقبولٍ حسن ، وأن يجمعنا بك في مستقر رحمته وأن يجعلنا نمضي حتى نفضي إلى ما أفضى عليه ، كان شقيقها قد أخذ من إصبع شقيقه الأول خاتمًا كان يرتديه قبل أن يذهب إلى ربه وعندما ذهب أخذ شقيقه الثاني الخاتم وقد طلبته أم عثمان أخذه كثيرًا ؛ لكن شقيقها قال لها : ستنزعينه من يدي - إن شاء الله - وتأخذينه وكان يمازحها بهذا الكلام ، وجاءت اللحظة التي انتزعت فيه شقيقته ذلك الخاتم وارتدته أم عثمان وذاكر يرى المشاهد ولسان حاله متى نلقى الأحبة .

مضت الأيام والحصار يزداد سوءًا وعبئًا ، والجوع بدأ يضرب القرية ، والحمم تنزل من السماء على رؤوسهم وكفى بها منجية من الفتنة ، وفي ذات يومٍ كان العدو بينه وبين ذاكر مسافة 4 أمتار لا أكثر فقاومهم حتى أردوه مصابا في قدمه لكنهم يخشون التقدم نحوه خشية من أن يكون حاملا على بطنه شيء ، فحمله رفقاؤه وعادوا به إلى أهله إلى رفيقة دربه زوجته فاعتنت به أجمل العناية ، وصبرته وحرضته وكان يحسب الأيام يومًا يومًا أن يطيب حتى يعود إلى عمله ، فمن ذاق حلاوة العمل والفعل ويرى من الكرامات الإلهية لا يستطيع أن يتركها عله ينهي به العمل الى الخير العظيم ، تعافى قليلًا وأصبح يمشي على عكازةٍ في يده يتوكز عليها ويحمل في يده الثانية أداة عمله وقد بلغ الأربعين من عمره المليء بالمحافل الخطيرة والأشواك الموجعة.

ذهب إلى مكانٍ قديمٍ في بلدته متعاهدًا مع خالقه أن لا يعود وأن لا يتراجع حتى ينصره الله أو يقبله عنده وبينما هو متجحفل في أدوات عمله وقد اقترب العدو منه عاد إلى زوجته وأخبرها ودار الحديث بينهما ، يا أم عثمان لقيتي ما لقيتي معي من متاعب الحياة ، وشقاء الطريق ، وضيق العيش ، والصبر على الأذى ، وصبركِ على أن تكوني معي ، يا أم عثمان إني أدعوكِ إلى أن تخرجي من هذه البلدة ؛ فإن العدو إذا دخلها عاث فيها الفساد وتعدى على النساء وإني والله راضٍ عنكِ وقد كفيتي ووفيتي ، وإنني لدي يقين أن يجمعني الله بكِ في مستقر رحمته ، هناك نلتقي وقد أكرمنا الله وإني لا أحتمل يا أم عثمان أن أرى فيك سوءًا قد كنتِ خير رفيقٍ بدربي الطويل هذا 
فقالت له : هل انتهيت يا ذاكر ؟ 
قال : بلى
قالت : فاسمع مني الآن ، هل بعد هذا العناء يا ذاكر أترك النهاية التي بها الخير العظيم ؟ لطالما لقيت ما لقيت معك من العناء والمتاعب حبًا بك و حبًا أكبر بأن القى الله وأنا متعبةٌ مجهدةٌ من هذا المسير الشائك ، يا ذاكر كانت أمنيتي أن ألقى الله ما لاقى عليه أشقائي ، وأن أدخل جنة ربي يدي في يدك يا ذاكر ؛ فإنني والله لا أترك هذا الطريق وإنني والله لا أتراجع خطوةً إلى الوراء اذهب إلى عملك وملتقانا الجنة يا ذاكر فإنني لا أعطي الدنية ، وأبشر بما يسر سمعك مني ، فدنى منها زوجها وودعها الوداع الأخير في الدنيا 
قال لها : يا أم ع

ثمان موعدنا الجنة والسلام .

عاد ذاكر إلى مكان عمله في طاقةٍ كبيرة ودافع أكبر منها ما كان سابقًا يرجوه ، والآخر الحب العظيم الذي يمثل حقيقة الحب ، ولم يكن حبًا زائفًا أو كان مبنيًا على الأوهام والسخافات ، بل هذا هو الحب الحقيقي ، هذا هو الوفاء ، هذا هو الهيام أن يتعاهد رجل مع زوجته على لقاءٍ جميل وحسن ختام وأن تصبر الزوجة على ما صبرت أم عثمانٍ عليه ، بهذا الحب تبنى الأسرة الصالحة ويبنى البيت الذي لا يخرج منه إلا الأبطال والصالحين .

بقي يلاقي من عدوه الأذى والأذى حتى أصيب مرةً أخرى في قدمه المصابة في ساحة المعمعة ، وعدوه قريب منه ويصرخ عليه رفقاؤه : يا ذاكر عد لننجدك ؛ وهو يقول لن أعود حتى ألقى الله فحُصر ذاكر في مكانٍ ضيقٍ والدم يجري من ساقه وأداته تعمل ما تعمل ، حتى أتت الرصاصات وتمكنت من جسده الطاهر ، انتهى ذاكر
ذهب ذاكر ، لقي ما كان يريد ذاكر ، حسم أمره ذاكر أوفى بوعده وعهده ذاكر ، فبينما هو ممددٌ في شارع بلدته القديمة لا يستطيع أي أحد أن يخلي جسده من الشارع فإذا بحميمٍ من السماء يُلقى على منزل زوجته فلقيت أم عثمان ما لقي ذاكر في ذات الوقت ، ولكأن الله قد قال لهما لن أفرقكم وها قد تقبلهم بقبولٍ حسنٍ - إن شاء الله - فأوفوا بحبهم وبصدقهم وبطريقهم وقد قدموا كل ما كانوا يستطيعون تقديمه ، ولكأنني أراهم وقد دخلوا جنة ربهم واضعين يدهم في يد بعض ، بلا همٍ ولا غم ، فرحين بثباتهم ، وفرحين بصدقهم وبما آتاهم الله من فضل ، أولها فضل الثبات على الطريق ، وثانيها فضل النهاية المرجوة لكل عبدٍ منيب وثالثها لقاؤهم في دار الخلود ، انتهت رواية ذاكر ولم تنتهِ سيرته التي خططتها لكم لعل منكم من يكون مثل ذاكر ومنكن من تكون مثل أم عثمان .

 

د.الناصري

 

15/9/2020