JustPaste.it

بسم الله و الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

الاختلاف في تحديد بداية شهر رمضان

لهذه المسألة طرفان؛ طرف الخلاف فيه شاذ غير مستساغ، وطرف اختلف فيه أهل العلم خلافاً سائغاً لا يُنكرفيه على المخالف إلا بالنصح اللطيف.

أما الطرف الأول: فهو تحديد بداية الشهر بالحساب الفلكي

وقد نقل ابن تيمية وغيره إجماع السلف على عدم جواز اعتباره مُحِددًا لبداية الشهر أو نهايته، واستدلوا بأدلة كثيرة منها قوله "صوموا لرؤيته" متفق عليه، والحساب الفلكي ليس برؤية، وقال -كما في الصحيحين-: "إنا أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا " وعقد تسعاً وعشرين وثلاثين.

ففهم العلماء من الحديث، تنبيها على عدم اعتبار الحساب الفلكي،

 لكن لنقل رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة أهمية خاصة، حيث أقر رحمه الله بدقة الحساب الفلكي، بل شرحه شرحاً عبقرياً يوافق أدق النظريات الحديثة (يراجع ج 25 من مجموع الفتاوى)، ثم أعقب ذلك بتقرير أن هذا لا يبرر الصيام على أساس الحساب الفلكي، حيث إن غاية الفلك إثبات إمكانية رؤية الهلال لا حدوث الرؤية نفسها، التي أمرنا بالصيام تبعاً لها، أو عدم وجود الهلال في مجال الرؤية، لا عدم الرؤية التي قد تحدث لأسباب مختلفة؛ انكسارًا أو انعكاسًا ... إلخ. وقد بيّن -رحمه الله- أن الهلال قد يوجد لكن لا توجد الرؤية بسبب الغيوم أو الغبار الدقيق في الجو، وقفز قفزة سبق بها عصره بمراحل حين أشار أن الهلال، أو غيره من الأجرام، أو الظواهر الفلكية، قد يجزم الفلكيون بعدم إمكانية رؤيتها– ويكون قولهم صحيحاً نظرياً- لكنه يُرى مع ذلك بسبب انعكاس ضوئه على ذرات الغبار، (وفي العلم الحديث قد يضاف لظاهرة انعكاس الضوء ظاهرة "الانكسار" التي تجعلنا نرى الصورة -غير مقلوبة لكن- في مكان آخر غير مكانها الأصلي) فيكون الهلال غير موجود حقيقة في مجال الرؤية، لكن الناس يرون صورته؛ فيؤمروا بالصوم لذلك.

التأصيل السابق لشيخ الإسلام يقطع أي شبه يتذرع بها المعاصرون من قبيل تأخر علم الفلك في السابق، واعتماده على التنجيم، وتعليق علة المنع به.

 

 الطرف الثاني للمسالة: اختلاف الرؤية بسبب تباعد الأقطار الإسلامية.

اختلف العلماء في مسألة اختلاف رؤية هلال رمضان من قطر إسلامي لآخر على أقوال ثلاثة أساسية:

القول الأول:

 إن رؤية هلال رمضان في قطر واحد من أقطار الإسلام يُلزم بقية أقطار الإسلام بالصيام معه طالما اشتركوا في جزء من الليل (والاشتراك في جزء من الليل وضع غالب أقطار الإسلام الآن)، واستدلوا لهذا بعموم الأدلة مثل:

قوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"؛ فلو رأى قطر من الأقطار الهلال صار الشهر مشهودًا، وقول النبي " صوموا لرؤيته"؛ فإذا رآه أحد المسلمين فقد رآه المسلمون، وبقوله تعالى "إن هذه أمتكم أمة واحدة"، وبتعذر تحديد حدود فاصلة بين مطالع الهلال، وبما يحدث في شهر ذي الحجة في يوم عرفة؛ إذ يلزم من القول باختلاف المطالع أن يكون يوم عرفة في عرفات مختلفاً عنه في المغرب مثلاً، وتكون الأدلة الواردة في فضله مكررة في مكة والمغرب، بل في عصرنا الحديث ممكن أن يحضر الرجل يوم عرفة مرتين؛ مرة في المغرب ثم يركب الطائرة ليلة اليوم الثاني فيحضره في الجزيرة العربية، وغير هذا من اللوازم التي تبين ضعف القول الثاني، و أدلة أخرى كثيرة.

وعلى هذا الرأي جماهير أهل العلم من حنفية ومالكية وحنابلة وبعض الشافعية.

القول الثاني:

لكل قطر من أقطار الإسلام مطلع للهلال لا يلزم غيره الصيام عليه، ودليلهم
 ما رواه مسلم في صحيحه عن كريب، أن أم الفضل بنت الحارث، بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، ‌وصاموا ‌وصام ‌معاوية، فقال: " لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله ﷺ " وبأدلة أخرى، وهذا قول كثير من الشافعية ورواية عند الحنابلة.

ورد الجمهور على هذا الدليل بأن من أخبر بالأمر كريب وحده –وهو شاهد واحد- وكان يريد منهم أن يحددوا يوم عيد الفطر بقوله، ولا يكفي في تحديد يوم العيد شهادة رجل واحد بل لا يثبت إلا بشهادة رجلين.

كما اختلف أصحاب الشافعي كثيراً في تحديد المقصود بالمطالع، وبداية كل مطلع ونهايته، وكان اختلافهم هذا مما استدل به العلماء على خطأ قولهم،
 كما يلزم من هذا القول لوازم كثيرة تبين ضعفه، فمثلاً إذا قلنا إن مطلع مدينة إدلب غير مطلع قرية من أعمالها شرقها، فيجب على إدلب الصيام وتنتظر القرية الأخرى اليوم الثاني إن لم ير أهلها الهلال، وهذا متصور ومكرر بين كل مطلع وآخر، ولا ضابط له ينضبط به أبداً، ناهيك عما يُشعر به هذا القول بعدم وحدة كلمة المسلمين على بداية شهر صيامهم، وأعيادهم. 

القول الثالث:

الناس تبع لإمام المسلمين؛ إن أخذ باختلاف المطالع أخذوا به، وإن أخذ بالرأي الآخر أخذوا به، وهو رأي بعض الحنابلة وغيرهم.

وجمع ابن تيمية (كعادته) بين أدلة الأقوال الثلاثة قائلاً:

إن الهلال اسم لما يُستهل به، فإن عرف الناس أن الهلال ظهر في أي قطر صاموا، وإن لم يصلهم الخبر بسبب بعد المسافة لم يكن الهلال هلالاً في حقهم لأنهم لم يستهلوا به.

وقوله هذا يؤول في عصرنا الحالي إلى القول الأول؛ حيث تقدمت وسائل الاتصالات فصارت رؤية الهلال في بلد لا يلبث أن تتناقله بلاد المسلمين من أقصاها لأقصاها في دقائق معدودة؛ فيستهل به المسلمون جميعاً
(وهذا خلاف ما فهمه بعض أهل العلم – على جلالة قدرهم- من أن ابن تيمية يقول بالقول الثاني في رؤية الهلال).

ولا شك في قوة ووجاهة القول الأول، لما ذكروه من أدلة، ولما يظهر من تناقض في القول الثاني في كيفية تحديد حدود المطالع؛ حيث إن أي تحديد لا يستطيع وضع حد فاصل يصوم من في شرقه، ويفطر من في غربه، كما أن المسلمين اليوم يكادون يجمعون على توحيد تحديد بداية شهر ذي الحجة، وقد تقرر من أصول الشريعة عدم تفريقها بين المتماثلات، وكذلك ما هو مقرر من تشوف الشريعة إجمالا لوحدة المسلمين.

 

إلا أنه ينبغي التنبيه على عدة أمور عند التعامل مع هذه المسألة:

الأول: ما أكدنا عليه سابقًا من كون الخلاف فيه مستساغاً؛ لا يُنكر على المخالف إلا بالنصح اللطيف، فلا ينبغي أن تكون هذه المسألة من أسباب تفريق صف المسلمين.

الثاني: أنه ينبغي لمن أفطر أو صام تبعاً لأي من الأقوال-المعتبرة- المذكورة أن يراعي ألا يُحدث فتنة بفعله؛ فلا يجهر بما يكون سببا للبلبلة وسوء الظن.

والقاسم المشترك بين النقطتين السابقتين، الأمر المتفق عليه: وهو أن وحدة صف المسلمين أعظم من الخلاف في المسائل الجزئية.

الثالث: أن رؤية الهلال لا تثبت إلا برؤية عدل أو أكثر، سواء قلنا بأن مطلع المسلمين واحد، أو أن المطالع مختلفة، فلا عبرة برؤية مجروحي العدالة، أو المجهول عدالتهم.

الرابع: أنه يندب للمسلم أن يسعى لرؤية الهلال بنفسه، خاصة ساكني المناطق الجبلية؛ لينفع نفسه، وينفع المسلمين.

الخامس: أن وجود خلاف في المسألة لا يعني أن يتخير المسلم بين الأقوال، فالخلاف ليس دليل إباحة إجماعاً، بل عليه أن يجتهد على حسب حاله في البحث عن الراجح في المسألة؛ إن كان من أهل العلم يبحث في الأدلة، وإن كان عامياً لا نظر له، يبحث عن الأعلم والأوثق من العلماء.

والحمد لله رب العالمين

كتبه أبو الفتح يحيى الفرغلي

الأربعاء 24 شعبان 1437هـ، والزيادة والتنقيح في28 شعبان 1439 هـ، وفي شوال 1443هـ.