JustPaste.it

"الجنس المقدس".. علاقة الرجل والمرأة من منظور هندوسي

 

رسلان عامر

 

6e9ae1322745b8243f485bbfda4350c3.jpg

*

بادئ ذي بدء أقول أنه لا حياء في العلم.. والموضوع الذي سأتحدث عنه بإيجاز هنا .. هو موضوع علم وفكر وثقافة، وهو يتعلق بمسألة "الجنس المقدس" (sacred sex) عموما.. وبجزئها الهندي خصوصا، فرغم الانفتاح الهائل في العالم الحديث، ما تزال الغالبية في مجتمعاتنا العربية تعيش منغلقة العقل والبصيرة  في ماض سحيق خارج حدود هذا العصر! فإن تحدثوا بشكل ما عن الهندوس رموهم بالشرك.. وبعبادة البقر.. واليوم أضيفت لها تهمة "عبادة الجنس" من قبل بعض أشباه العارفين المتعصبين، الذين لا يعترفون بالآخر!


   فما سر هذه المسألة؟

هنا لابد أن أقول موضحا نقطة مهمة.. وهي أن الاعتراف بالآخر لا يعني تبني موقف الآخر، ولا موافقته على عقائده وآرائه، بل يعني فهم وتفهم الطريقة التي يفكر بها ورؤية الحق من وجهة نظره، ولكن هذا لا يعني بتاتا أننا بتنا ملزمين بوجهة نظره هذه، بل يمكننا الاستمرار في اعتباره مخطئا.. ولكن دون أن ندينه أو نهينيه على خطئه، لأنه لا يتعمد الخطأ، إن أخطأ، بل يخطئ عن حسن قصد في مسعاه نحو الحق والصواب!

أما في ما يتعلق بمسألة الجنس المقدس، فهذه العقيدة تعود في جذورها إلى "عقائد الخصب"(Fertility Cults) ، التي  كانت منتشرة في الماضي البعيد، وكانت تقدس الخصوبة في الوجود والحياة ككل، وتنظر إلى الوجود كله وكأنه عملية حمل وولادة، ولذلك شاع في ذلك الزمن تأنيث الألوهة، وشخـِّصت الألوهة بشخصية الإلهة الأم التي أنجبت الوجود ..كما تنجب الأم البشرية الطفل، وعلى مستوى الأسرة جعلت قضية الإنجاب هذه المرأة ربة الأسرة وسيدة المجتمع، ولذلك يطلق على ذلك العصر عادة تسمية "العصر الأمومي".

وقد عرف في تلك العقائد تقديس الجنس والأعضاء الجنسية، التي أصبحت رموزا مقدسة، وهذا عائد لارتباطها الوثيق بقضية الإنجاب والتناسل، التي لم ينظر إليها بدورها نظرة محض بيولوجية .. بل اعتبرت متكاملة مع مسألة الحب الذي لا غنى عنه لجذب الأقطاب المتخالفة إلى بعضها البعض لتتحد فتثمر!

لكن هنا يصبح كلا من العضو المذكر والعضو المؤنث والاتصال الجنسي، ليس مجرد مفاهيم جنسية محصورة بالكيان البشري، بقدر ما هي مبادئ خصبية كونية، وهي من هذا المستوى الخصبي الكوني العلواني تنعكس على الإنسان بصفته أرقى اشكال الكائنات، لترتبط بأعضائه الجنسية ونشاطه الجنسي كأعضاء خصبية ونشاط خصبي، يتكامل مع الحب في تجديد الوجود والحياة الإنسانيين في إطار عملية وجود الكون واستمرار التجدد الكوني الشاملة والدائمة! 

 

هذه الفكرة استمرت وتطورت لاحقا في الهند.. وأضيف إليها عامل وحدة الوجود (pantheism)، الذي لا يفصل الألوهة عن الطبيعة.. ويرى الإله جوهرا للكون كله وغير مفارق له، ويتجلى في كل مظهر من مظاهره، وفي ذروتها الإنسان، وبذلك تصبح العشرة الجنسية اتحادا مقدسا لأنها تتم بين أرقى أشكال التمظهر الإلهي في العالم .. مجسدا في كل من الرجل والمرأة!

فـ «في الهندوسية، الجنس هو سماوي. وهو واجب إلزامي لأنه مسؤول عن الإنجاب والتقدم المنظم للخلق. بدون جنس، لا توجد أية إمكانية للولادة من جديد أو للخلاص أو لاستمرار أعمال الله الأبدية»([1]).

 

وهذه العقيدة ما تزال مستمرة حتى اليوم في أكثر من مذهب، أشهرها مذهب التانترا (Tantra) الهندي!

   يسمى الاتحاد الجنسي الطقسي في التانترا "مائتهونا" (maithuna)، والعضو الأنثوي "يوني" (yoni) والعضو الذكري" لنغا" (linga) أو " لنغام" (lingam)، وهما رمزان مقدسان، وكذلك المائيتهونا بدورها مقدسة!

لكن كلا من المائتهونا واليوني واللينغا لا تنحصر في المستوى البشري كيانا ونشاطا، فهي تدل على أقطاب كونية، فاللينغا يمثل القطب الذكري مشخصا بالإله شيڨا، فيما يمثل اليوني القطب الأنثوي مشخصا بالإلهة شاكتي، قرينة شيڨا، ومن خلال تواصلهما الجنسي تتم عملية الخلق والتكوين.

وهذا التمثيل الأسطوري يأخذ معنى أكثر رمزية وتجريدا في الفكر الميتافيزيقي التانتري، فيصبح شيڨا دالا على المبدأ الفعال أو الوعي الكوني التجاوزي، وشاكتي دالة على المبدأ المنفعل أو الطاقة الكونية الكامنة، والمائتهونا هي عملية الفعل والتفاعل الخلاقة بين الوعي والطاقة.

هنا لا يوجد أي شكل من أشكال الشهوانية أو التهتك أو المجون، بل يتم رفع علاقةٍ إنسانية حيوية جوهرية إلى رتبة التقديس، بسبب معانيها الرفيعة.. وليس بدافع المتعة واللذة الحسيتين مستهدفتين بحد ذاتيهما، لكنهما طبعا تعتبران نتيجة مباركة لهذا الطقس المقدس السعيد!

التهتك والمجون لا مكان له في التانترا.. والتانتريون يرون "المائتهونا" خطوة مرحلية على طريق النرڤانا،أي التحرر والانعتاق النهائي([2]) من العالم الأرضي إن جاز التعبير، لذا يحب على الإنسان الساعي إلى الاستنارة والكمال أن يتخلى في مرحلة ما من نضجه الروحي عن الجنس، كما يتخلى الطفل عن حليب أمه، إلا أن هذا الأمر لا يجب أن يتم بالقسر والجبر، بل بالتطور التدريجي، وفي سكينة وسلام ، لكن على الإنسان ألا يرغم نفسه عن الامتناع عن العشرة الجنسية، بل عليه القيام بها طالما أنه يشعر بالحاجة إليها .. إلا أنه يجب أن يفعل ذلك دوما مؤمنا أنه يفعل فعلا مقدسا.. يجب عليه أيضا أن يتجاوزه بدوره إلى درجة أعلى في القداسة!

 

ويمكن إيجاز المبدأ التانتري في العلاقة مع الجنس، بأنه طالما أن الجنس هو قوة طبيعية كبرى في تكوين الإنسان، وهي من الإمكانية بحيث يمكنها أن تدفعه في سبل الشهوانية واستغياء المتع، وهذا إن حدث فسيحرف الإنسان عن طريق الحياة الصحيح، المتمثل بالسعي إلى الاستنارة وترقية الذات وتحقيق التحرر الكوني، كما أنها أيضا من القدرة بحيث تستنزف طاقة الإنسان وتبقيه في حالة صراع داخلي يمنع تزكّي ذاته وتحقيق الاستنارة المقترن والمشروط بالسلام الداخلي التام، إن هو حاول تجاهلها أو قمعها وكبتها، وهي قطعا لن تتجاهله، لذا يجب عدم تجاهل هذه القوة، وتلبيتها بالشكل الصحيح، الذي لا يتناقض مع مسار الارتقاء الاستناري الذاتوي، ولكن بما أن الغاية القصوى لهذا المسار هي تحقيق التحرر من الوجود الأدنى، الشديد الجزئية والسطحية والعبثية، والاندماج التوحدي مع الوجود الكلي الأسمى، فهذا التحرر يقتضي التحرر السلمي من كل الحاجات والشهوات، بما فيها الجنس، وهو حاجة مقترنة برغبة!

وللتحرر من الحاجة الجنسية، وهذا لا يتحقق بالطبع بكبتها، ولا يتم أيضا بالاستمرار بتلبيتها حتى ولو بشكل مشروع ومنظم ومنضبط، فلا بد من إعداد آلية مناسبة لهذا الغرض، لا تبقي الجنس محركا لاستهلاك طاقة الإنسان سواء على صعيد تلبيته أو على صعيد معالجته بقصد التحرر منه، لذا ذهبت التانترا في منحى مختلف كليا، بل سلكت الطريق المعاكس، وقررت تحويل الجنس نفسه إلى محرك ارتقائي، ومصدر لانتاج الطاقة المنمية للذات الإنسانية، ليساهم الجنس بذلك بدوه في ترقية الإنسان وإيصاله إلى الذروة التحررية، التي يتحرر فيها من كل احتياجاته، سواء منها الطبيعية أو الخارجة عن المسار الطبيعي، بما فيها الجنس نفسه!

ولهذا الغرض طورت التانترا منظومة من الطقوس الجنسية المتكاملة، التي يمكن أن نصفها بأنها "يوغا جنسية"، والغاية منها – حسب وصف أحد معلميها- ليس  تحقيق مزيد من الجنس، بل مزيد من اليوغا، اليوغا التنموية الارتقائية التحررية للذات الإنسانية([3])! وبهذا الشأن يقول أوشو: «كل الصفات الإنسانية موجودة فيك، كل الاحتمالات. الجنس العادي صحي في حد ذاته، ولكن في ظل الكبت والقمع سيتحول إلى مرض. من السهل التحرك إلى العالم الإلهي من الحالة الطبيعية للعقل، أما التحرك إلى الألوهية من العقل العصبي، فصعب جدا، وبمعنى ما مستحيل. أولا عليك أن تصبح صحيا وطبيعبا. عندها ستكون هناك فرصة لتجاوز الجنس»([4])، ويرى أوشو أن الساعي الصادق والمجدّ لتحقيق الاستنارة بشكل صحيح، يجب أن يكون عند بلوغه الثانية والأربعين من العمر قد وصل درجة من النمو تجعله غير محتاج لممارسة الجنس([5])!. 

 

تَعِد التانترية من يمارس التهتك والفجور بدرجة عميقة في الجحيم .. لكننا نحن عموم العرب والمسلمين عموما نتفوق في الشطارة في إلقاء الإدانات المجانية والجزافية على الآخرين، مكتفين عادة بأوهى الأسس – وجلها أوهام - لاتخاذ مواقفنا، وعافين أنفسنا من واجب مراجعة أنفسنا في ما ندين الآخر عليه، وغير مسائلينها عما لدينا من خطل وعور في هذا الشأن، ليكون لدينا في المحصلة خيار ذاتي شديد البؤس، وموقف من الآخر أشد منه بؤسا، وهذه هي حقيقة وضعنا الجنسي في علاقتنا مع ذاتنا وموقفنا من الغير!

  أما الغرب الأوروبي الأمريكي فقد شوه العلاقة الجنسية في استهلاكيته، وجعل كلا من الرجل والمرأة سلعة استهلاكية رخيصة للآخر!

   الغرب سلعن الجنس، نحن لم نفعل ذلك، لكننا عموما شيطنا الجنس .. وقرناه بالعيب والعار والرذيلة، وحاصرناه إلى أبعد الحدود.. ثم تكالب معظمنا عليه بشكل مسعور غير آبه  بما يعتبره رذيلة وفاحشة!

 

وفي الختام لا بد من القول أننا نحتاج إلى وقفة صادقة وجريئة مع أنفسنا، ومراجعة ومحاسبة أنفسنا بعقلانية وشفافية أولا، وبعدها علينا أن ننظر إلى الآخر بنفس الدرجة من العقلانية والشفافية والصدق.

 وشخصيا، رغم أني لا أومن بمعتقدات الهندوس .. ولا أنتمي إلى أي دين أو مذهب ديني آخر، فمنهجيتي هي الفلسفة العقلانية التي تقوم على العلم والمنطق، إلا أني أعترف بأن رؤية التانترا للعلاقة الجنسية هي أجمل وأنبل رؤية رأيتها على الإطلاق في هذا المجال!

لكن الكلام هنا يتم فقط عن العقائد وليس عن الوقائع، وليس عن المجتمع الهندي المعاصر ككل، الذي ما يزال يفتقر بشدة إلى واقع جنسي صحي في إطار ما يعانيه من تخلف عام، رغم ما لديه من إيجابيات عقائدية موروثة في هذا المجال، ورغم ما تشهده الهند المعاصرة من انفتاح وتطور!

أما الغاية من الكتابة في هذا الموضوع فيمكن إيجازها في ما يلي:

1- غاية معرفية ثقافية، تسعى إلى تقديم المزيد من المحتوى المعرفي عن تجارب ونتاجات الثقافات الأخرى!

2- غاية موقفية، تهدف المساهمة في تصحيح صورة الآخر المختلف وفهمه بالشكل السليم، وهذا ضروري من أجل تجاوز حالة رهاب الآخر وشيطنته ومعاداته، والوصول معه إلى حالة من الحوار الثقافي المعافى، المتكامل جوهريا مع حالة أعم من التعايش والتفاعل الإنساني البناء، القائم على أسس راسخة من وعي واحترام الاختلاف، والتسالم العلائقي مع المختلف!

3- غاية إصلاحية، وهي مرتبطة بتربيتنا وثقافتنا الجنسيتين، وهما – كما لا يخفى على عارف صادق – في حضيض إنساني، بما فيهما من كبت وقمع وعيب وتشويه وحرمان وتناقض، كحال كل جوانب حياتنا الأخرى، والتعافي من هذه الحالة المرضيّة الحادة والوصول إلى "صحة جنسية" ثقافيا وتربويا، يقتضي منا الاستفادة من تجارب الآخرين التاريخية والعصرية في هذا المجال، وهذا لا يعني بالطبع تقليدهم واستنساخ ما توصلوا إليه، ولكن معرفة وفهم ما لديهم تثري مخزوننا المعرفي في هذا المجال، وهذا بدوره يمكنه أن يشكل حافزا للتغيير والتطوير، وعونا على التجديد الابتكار.

 

*

 

[1]- Jayaram V. , https://www.hinduwebsite.com/hinduism/essays/sex-and-gurus.asp

[2] -  تجدر الإشارة هنا إلى أن الهندوسية يغلب فيها استخدام مصطلح "موكشا" (Moksha) كتسمية لهذه العملية، فيما يقترن مصطلح نيرڤانا (Niravana) بالبوذية أكثر رغم تقارب المفهومين.

[3]- Yogani, Tantra: Discover the power of  pre-orgasmic sex, AYP Publishing, Nashville, Tennessee, U.S.A. and London, England, U.K, 2006.

[4] -  أوشو، التانترا.. الطاقة والنشوة، ترجمة مكسيم بيان صالحة، دار نوافذ للدراسات والنشر، دمشق، 2012، ص 29.

[5] -  أوشو، المرجع السابق، ص 93.

 

***

المقال منشورعلى موقعي:

لأوان"

و"شبكة الإلحاد العربي"

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت