JustPaste.it

حادثة رهف وتناقضات الرؤى الكونية في المعالجات الفكرية

 

لا يمكن أن تقوم لك منظومة من القيم بدون رؤية كلية مرجعية، أو رؤية كونية كما يسميها البعض، ولا يمكن أن تؤثر في منظومات القيم عند الناس دون أن يؤدي ذلك إلى انعكاسات على مستوى الرؤية الكلية المرجعية.

 

فعندما تدندن على الحرية أو الإنسانية وتضخّم قيمتها إلى حد يجعلها تنطبع في النفوس كقيمة عليا ورؤية كونية، فليس لك بعد ذلك أن تستغرب حين تخرج لك تطبيقات صارخة وصادمة لكنها متسقة مع الرؤية الكونية التي شكّلتها بذلك الضخ والنفخ فيها، وليس من الاتساق مع نفسك بعد ذلك أن تمارس الانتقائية فتجرّم هذه التطبيقات، باستخدام مصطلحات تنتمي لرؤية كونية أخرى مثل الدين واحترام الأسرة، فأنت بذلك كمن يزرع الشوك ثم يطلب العنب.

 

ولنقتبس بعض المقتطفات التي تنم عن فهم عميق لهذه القضية من الداخل الفلسفي الغربي نفسه، حيث يقول بروفسور الفلسفة مارك شيري عن اللجوء المعاصر إلى استدعاء حقوق الإنسان الأساسية أنه: 

"محاولة لإبعاد أي تقييد لسلطة الدولة من الواقع الأخلاقي المحلي أو الثقافي أو المجتمعي أو الديني. إن الادعاء المضمن في ذلك الاستدعاء هو أن جميع الناس مرتبطون أخلاقيا بدون تاريخ سياسي مشترك أو اعتقاد مشترك أو رؤية أخلاقية مشتركة.. والمأمول من ذلك أنه من خلال" حقوق الإنسان العالمية" هذه ستكشف الأخلاقية العلمانية عن مجتمع لجميع الأشخاص لايسوغه الإيمان، بل الاستنتاج العقلي فقط " 

 

ويقتبس شيري عن ديفيد ليتل قوله: " الفكرة الأساسية من حقوق الإنسان هي أنها رابطة ومتوفرة بغض النظر عن الهوية أو الرؤية العالمية.. ". يقول شيري: "إنه إعلان النسخة العلمانية الموازية للأخلاقيات الدينية.."، ثم ذكر شيري ماملخصه أن لغة حقوق الإنسان تلعب دورا مهما للحكومات العلمانية في "التشريع"، حيث تعفيهم من تقديم الدليل على مايقدمونه على أنه تطبيق لهذه الحقوق، مع التوظيف المتحكم للغة الإعلام والأجندة السياسية، بما يجعل من يعارض يبدو كشرير أو غريب الأطوار أو متبع للخرافات أو كأصولي يتبع تدينا غير منطقي(1).

 

وقد أحسن شيري في إبراز مستوى الرؤية الكونية التي تقف خلف هذه التطبيقات التي قد يتصورها البعض على أنها منظومات قيمية جزئية لا تحتاج سوى أن نتحفظ على بعض المواضع المخالفة للشرع فيها، ثم نستطيع أن نتبناها في الجملة ونوظف لغتها وآلياتها، وكأن الإسلام أتى بتعاليم متناثرة لا تجمعها رؤية كلية مرجعية شاملة.. وكأن هذه التطبيقات لم تنشأ تاريخيا كثورة على الرؤية الدينية وإحلال لها، وإن كانت في وقتها رؤية محرفة عبث بها البشر ووظفوها لطغيانهم، لكن الإحلال والاستبعاد لهيمنة الدين ركن راسخ تقوم عليه هذه التطبيقات.

 

وقل مثل ذلك في تبنّي حقل فلسفة الأخلاق الغربي في مجال الطبّ مثلاً, باسم الأخلاقيات الحيوية أو الطبّية, بدون وعي أنّ ما يسمّى بالأخلاقيات الحيوية Bioethics"" هي نتاج تمرد ليبرالي ضد وصاية الأخلاقيات الطبّية القديمة المتأثرة بالدين النصراني, ولذلك نجدها ترفض وصاية الطبيب وتشبّهه بالأبوية الكنسيّة, وتنصّ على السيادة الذاتية للإنسان على نفسه, وهو مبدأ فلسفي مركزي له سياقات أوسع.. وقل مثل ذلك في مبدأ سيادة القانون, وغيرها من إفرازات الفلسفات العلمانية التي تحلّ محل الرؤية الكونية الدينية.

 

فالذي يريد أن يقتات على منتجات الأمم الأخرى بعيدا عن رؤاها الكونية يطلب مستحيلا، و الانتقائية ستنتج تناقضات نظرية وتفرز تناقضات عملية مطردة, ليست بعض المعالجات الفكرية لموقف هرب رهف بإلحادها إلى حيث تطبق تلك الرؤى باتساق سوى مفردة في سلسلتها المتتابعة.

 

 ووجه التناقض في حادثة رهف المتّصل بموضوعنا هو جمع بعض المستنكرين بين تبّني الرؤية الكونية السائدة في الغرب, وبين المطالبة بحفظ الأسرة واستنكار حادثة رهف من هذه الزاوية, مع الإصرار بأنّ تلك المطالبة لا تتنافى مع حقوق الإنسان, لأنّ من المطلوب الحفاظ على قيم الأسرة! هكذا في محاولة للجمع بين رؤيتين كونيتين متناقضتين. ولبيان حجم المفارقة بين المطالبة بمنتجات رؤية والتمسّك بالرؤية المناقضة, لنتأمل الاقتباس التالي لمارك شيري أيضاً, حيث وضع عنواناً فرعياً تحت حديثه عن إيديولوجية الأخلاقيات الحيوية يقول: 

 

"المثال(1): حقوق الإنسان وتدمير الأسرة" !

 

تحدث تحته عن جهود الأخلاقيات الحيوية الغربية المعاصرة في الحدّ من سلطة الآباء في اتخاذ القرار للأطفال, ونقد فرضية أنّ الأطفال الصغار مستقلون ويجب تمكينهم من اتخاذ قراراتهم الأخلاقية المتعلّقة بنمط حياتهم في أقرب إمكانية ولأبعد مدى ممكن, وتحدّث عن إعلان الأمم المتحدّة لحقوق الطفل ودوره في تعزيز نزعة الحرية الفردية والسيادة الذاتية لكل طفل, مع النصّ على أنّ من حقوق الإنسان الأساسية للطفل أن يتلقّى كل أنواع المعلومات الفكرية والدينية, وأن يتمتّع بالخصوصية, ويعبّر عن رأيه ويمكّن من التجمّع وغير ذلك, وهذه الحقوق يحصّلها الطفل جبراً باللجوء للسلطة ضد والديه, وبهذا يتم تجريد الوالدين من كثير من الأدوار التربوية خاصة الدينية(2).

 

ومن نافلة القول أنّ غرضنا هنا ليس بيان نقاط الاتفاق والاختلاف بين إفرازات تلك الرؤى الكونية وتطبيقاتها وبين الإسلام, بل الغرض من المقال أصالة هو التنبيه على السياق الأعلى المتعلق بمستوى الرؤى الكونية, في ظلّ اتجاه المعالجات الفكرية السائدة إلى مستويات تطبيقية تفصيلية تغيّب هذا المستوى الأهمّ والأخطر.

 

 وهذا ما يجب أن يتنبّه له المفكّرون من أصحاب الغيرة على الإسلام, فالحاجة ماسّة إلى التذكير بأنّ الإسلام هو رؤية الوجود الصحيحة, وأنّ كلّ مجالات البحث الفلسفي -التي يهرب للاستيراد من فلسفات البشر فيها من لم يأخذوا الإسلام بشموليته كما أنزل- هي من صميم مهمات بيانه وغايته, ابتداء من بيان سبب الوجود وانتهاء إلى غايته, وبياناً لموضع الإنسان في هذا الوجود وعلاقته بخالقه, ووقوعه في موقع العبودية والتسليم لمنهج هذا الخالق, في مستواه الكلّي الذي يغذّي الإنسان بالتصورات الكبرى في مختلف المجالات, وفي مستواه التفصيلي الذي يعالج كل احتياجاته بالمنظومات القيمية والأحكام, فهو منهج حياة متكامل يفصّل الحقوق وأعلاها حقّ الله, ويبيّن الواجبات بصورة متناسقة متوازنة شمولية لم يعرف الإنسان لها نظيراً ولا مقارباً, وحين نأخذ الإسلام بشموليّته هذه, ولا نأخذ منه أجزاءً نخلطها بمفرزات الرؤى الكونية البشرية, حينها ستتحقّق الحقوق بمفهومها الصحيح المتّسق مع رؤية الوجود الصحيحة, ولن نحتاج لأجل ذلك إلى هذا الخلط الحاصل, والذي سيستمر في أفراز التناقضات بلا نهاية.

 

إضاءة ذات صلة عن القيم :

https://t.me/amohawer/226

____

(1) Mark J. Cherry, Bioethics as Political Ideology. in: H. Tristram Engelhardt, Jr. , Editor, BIOETHICS CRITICALLY RECONSIDERED. P.110-111

(2) Mark J. Cherry. P.100-101

 

#مقال

#نقد_الفلسفات

 

المصدر:

 

قناة الطارق لتعزيز اليقين ورد الشبهات 

https://t.me/amohawer/246

https://t.me/amohawer/247