JustPaste.it

حديث عن كتاب 

حجية فهم السلف , تأليف سعد بن ثقل العجمي , وفقه الله

قراءة نقدية للأنساق المنهجية التي قام عليها

سلطان العميري 

 : الحمد لله , وبعد 

 

من حين أعلن المؤلف عن الكتاب ونفسي متشوقة إليه , فهو يتناول موضوعا مهما , وله مركزية عالية في السجال العقدي بين الفرق .

وما يُطرح حول القضايا المركزية سيكون مفيدا وثريا بلا شك , خاصة إذا التزم الباحث باللغة العلمية والمنهج العلمي الرصين , حتى ولو لم يتحقق الاتفاق معه في النتيجة .

وقد أهداني أحد الأصدقاء الكتاب , وما إن وقع بين يدي حتى شرعت في قراءته فرحا بالبحث , ومتشوفا لطرح علمي يزيد من العمق في تناول هذه القضية , قبولا أو فرضا , ولكن النتيجة كانت صادمة .

 

وقد قسم الباحث كتابه إلى قسمين : القسم الأول : في الجانب التأصيلي النظري للمسألة , والثاني : في الجانب التطبيقي .

والذي يهمنا في هذا الحديث المختصر الجانب الأول , وسأتحدث عن أصول الأفكار التي تضمنها هذا الجانب , وأصول الأغلاط القاتلة التي وقع فيها المؤلف .

 

أصول الأفكار :

 

تحدث المؤلف طويلا عن حجية فهم السلف عند أتباع المذهب السلفي , وأصول الأفكار التي تحدث عنها فيما تحصل لي أربعة :

 

الفكرة الأولى  : أن أول من قرر حجية فهم السلف هو ابن تيمية , وقد كرر هذه الفكرة عدة مرات .

 

الفكرة الثانية : أن تحديد أتباع المذهب السلفي فهم السلف بإجماعهم خطأ وغلط , والصحيح أنه ما عليه الصحابة والتابعون وأتباعهم بأفرادهم لا بإجماعهم

.

الفكرة الثالثة : أن أتباع المذهب السلفي المدعين لحجية فهم السلف مختلفون في تحقيقه وفي عدد من متعلقاته .

 

الفكرة الرابعة : أن المدعين لحجية فهم السلف أقاموا دعواهم على حجية أقوال الخلفاء الراشدين وحجة قول الصحابي , بحجة أنهم في استدلالهم على حجية مذهب السلف لم يذكروا إلا الأدلة الت يستدل بها على حجية أقوال الخلفاء الراشدين وحجية قول الصحابي .

أصول الغلط عند المؤلف :

 

ما وقع فيه المؤلف من أغلاط علمية كثير وعميق , ولكني في هذا الحديث المختصر سأركز النظر على أصول تلك الأغلاط المؤثرة في منهجية بحثه , وفي نتائجه الخاطئة التي توصل إليها , وسأقتصر على رؤوس الأفكار من غير دخول في التفاصيل وذكر الأدلة , فذلك مما يطول به الحديث , وربما يأتي في وقت آخر.

 

وقبل ذكر تلك الأغلاط لا بد من التأكيد على أن المؤلف انتقد على بعض اتباع السلفية المعاصرة عددا من الأمور في التصوير والبناء والاستدلال , وهو محق فيها , وبعضها قد كتبت فيه من قبل , ولكن هذا ليس مجال الحديث الآن .

 

الغلط الأول : الخلط بين ترجيح الباحث وأقوال المخالفين , وبيان ذلك أن الباحث ذكر بأن أتباع المذهب السلفي يجعلون حجية فهم السلف في إجماعهم لا في قول أفرادهم , وهو يرجح خلاف ذلك , وينكر قصره على إجماعهم .

 

فما الذي وقع ؟

 

وقع شيء غريب جدا  , فإن المؤلف حين رجح أن فهم السلف هو ما عليه أفراد السلف من الفهم والعلم , أخذ يورد الأدلة التي تدل على أن أقوال أفرادهم ليست حجة , وأطال في ذلك جدا , فثلث الكتاب تقريبا في هذه القضية , فتحدث عن حجية أقوال الخفاء الراشدين وعن حجة قول الصحابة , وعن مسألة مخالفة الراوي لمروية , ورجح في كل هذه المسائل عدم الحجة , وهو مصيب , ويوافقه كثير من أتباع المذهب السلفي على هذا القول .

 

وما صنعه المؤلف خلل كبير في البحث العلمي , لأن ما قام بنقده ليس هو ما يقرره أتباع المذهب السلفي في حجية فهم السلف , فهم يقررون بأن الحجية في إجماعهم لا في قول أفرادهم .

 

فلدينا مسألتنا :

 

المسألة الأولى : هل حصر أتباع المذهب السلفي حجية فهم السلف في إجماعهم صحيح أم لا؟

 

المسألة الثانية : هل أقوال أفراد أئمة السلف حجة أم لا؟ .

 

وطريق مناقشة المسألة الأولى تختلف عن طريقة مناقشة المسألة الثانية , وكان الواجب المنهجي على المؤلف أن يركز حديثه عن المسألة الأولى , وأما ما صنعه فهو خارج عن محل البحث , وتطويل لا أثر له فيها , وإيهام للقراء بأن المذهب المنقود يخالف في أمور خارجة عن صلب الدعوى .

 

كيف يمكن مناقشة المسألة الأولى : حصر حجية فهم السلف في إجماعهم .

 

لو كان الباحث صاحب منهجية علمية دقيقة , وملتزم بمناهج الحجاج والجدل لتركز حديثه على ثلاثة أمور :

 

الأمر  الأول : أن حصر حجية فهم السلف في إجماع باطل لا دليل عليه .

 

الأمر الثاني : أن حصر حجية فهم السلف في إجماعهم لا أثر له ؛ لأنه لا فرق بينه وبين إجماع الأمة .

 

الأمر الثالث : أن حصر حجية فهم السلف في إجماعهم لا وجود له , إما لعدم تحققه أو لعدم إمكان العلم به .

 

بهذه الطريقة يحقق الباحث الناقد أمرين اثنين : الأول : المحافظة على أقوال المخالفين كما هي , من غير تحريف لها ولا تشويه , والثاني : تقديم أوجه نقدية متعلقة بحقيقة القول تعلقا مباشرا , وليست متعلقة بأمور خارجة عن حقيقته .

 

فلو قام الباحث بهذه الأمور لكان لبحثه أثر في معالجة هذه القضية المركزية , ولكنه للأسف لم يركز حديثه على تلك القضايا , وإنما صور قول مخالفيه بطريقة خاطئة , ثم شرق وغرب في مسائل لا أثر لها في نصرة قوله أو إبطال قول مخالفيه .

 

تنبيه :

 

حاول المؤلف أن يقدم مادة نقدية تتعلق بمسألة :حصر فهم السلف في إجماعهم , ولكنها مادة مختصرة جدا (أربع صفحات) , وأخطأ فيها أخطاءً متعددة , ولو كنت بصدد المناقشة التفصيلية لقمت بعرض ما فيها .

 

وبعض ما ذكره أثاره أتباع المذهب السلفي وأجابوا عليه , مثل مسألة : الفائدة من حجية إجماعهم إذا كان لا يخرج عن إجماع الأمة , فقد ذكر ابن تيمية هذه القضية وأجاب عنها , فكان الواجب المنهجي أن يذكر المؤلف هذه القضية ويناقشها .

 

وخلاصة ما صنعه الباحث أن قال : السلفيون يجعلون حجية فهم السلف في إجماعهم , وأنا أرى أن فهم السلف ليس في إجماعهم , وإنما فيما نقل عن أفرادهم , وما نقل عن أفرادهم ليس حجية , إذن ففهم السلف بالمعنى الذي يدعيه السلفيون ليس حجة !!

 

ولك أيها الكريم أن تتأمل حجم الخلل في مثل هذا الصنيع العجيب في مناقشة الأقوال

 

الغلط الثاني : القصور في التحليل والإثبات , فمع تأكيد الباحث على أن أول من قرر حجية فهم السلف هو ابن تيمية- وهو مخطئ في ذلك- إلا أنه قصر في دراسة ما قدمه ابن تيمية حول هذه القضية .

 

فإنه اقتصر في النقل في حصر حجية فهم السلف في إجماعهم على النقل عن المعاصرين , مع أن ابن تيمية له كلام كثير في هذه المسألة , فإنه قرر كثيرا بأن مذهب أهل السنة هو إجماع الصحابة , وأن مذهب السلف ليس قولا لأفرادهم وإنما هو إجماع لهم , وأن أقوال أفرادهم لا تمثل المنهج السلفي .

 

فالحجة التي يحاكم إليها ابن تيمية الفرق العقدية كلها تقوم عنده على الإجماع , وليس على الأفراد , ومن أقواله في ذلك :"مذهب  أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم".

 

وكرر كثيرا بأنه لا أحد معصوم ولا محفوظ من الوقوع في الخطأ والزلل إلا النبي صلى الله عليه وسلم , وكرر بأن الأئمة مجمعون على أنه ما من الناس أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

فالمستقرئ لجهود ابن تيمية حول قضية فهم السلف يجد أنه تناولها من جهات عديدة : معنى فهم السلف , وحدود السلف , وطبيعة حجية فهم السلف , وأنه منحصر في الإجماع , ونوع الإجماع المقصود , وهو الإجماع على قول واحد أو الإجماع على أقوال متعددة "إحداث قول ثالث" وكيفية تحصيل فهم السلف , والأدلة الموجبة لحجيته , وعلاقة حجية فهم السلف بالإجماع , وغيرها من القضايا المهمة .

 

والغريب حقا أن الباحث أغفل هذه الجهود , وركز على أدلة ابن تيمية حول حجية فهم الصحابي , وكأن ابن تيمية ليس له في حجية فهم السلف إلا هذه القضية فقط .

 

الغط الثالث : الخطأ في إثبات دعوى الأولية , فقد كرر المؤلف بأن أول من قرر حجية فهم السلف هو ابن تيمية , حيث يقول :"نحن نزعم أن الذي أصل لهذا الأصل ووضع أساساته , وقعد له هو إمام السلفية ومنظرها شيخ الإسلام ابن تيمية" وذكر في الحاشية وفي غيرها أنه أول من أسس هذا الأصل .

 

 وهذا غير صحيح , بل هذا الأصل مقرر بمعناه الظاهر عند أئمة السلف , وفي بعض كلامهم تقرير له بألفاظ مقاربة جدا لألفاظ المتأخرين من السفيين , فقد قرره الأوزاعي وعمر بن عبدالعزيز وسفيان الثوري وبان الماجشون والإمام أحمد وابن جرير الطبري وغيرهم كثير .

 

يقول الأوزاعي(ت157ه) :"اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا ، وكف عما كفوا عنه ، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم", ويقول الإمام أحمد(ت241ه) :"أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , والاقتداء به".

 

الغلط الرابع : القصور الشديد في تصوير أدلة المخالفين , فقد كرر الناقد بأن أدلة المذهب السلفي في حجة فهم السلف مقتصرة على الأدلة الواردة في حجية أقوال الخلفاء الراشدين وقول الصحابي , وأن السلفية بنت حية فهم السلف على تلك الأمور , ثم طفق في مناقشتها .

 

وهذا قصور شديد في فهم مذهب المخالفين وجهل به , منشؤه ضعف التعمق في دراسة القضية المقصودة بالنقد .

 

ولو رجع الباحث إلى مؤلفات ابن تيمية – الذي زعم أنه أول من قرر هذه القصية وأصل لها وقعد لها- لوجد أدلة عميقة ومتنوعة في دلالتها على حجية فهم السلف .

 

فقد اعتمد ابن تيمية في تقرير حجية فهم السلف على أنواع من الأدلة , منها :

 

الدليل الأول : الترابط العلمي , فإن أئمة التابعين كانوا في جملتهم من تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم , فقد تتلمذوا عليهم عشرات السنين , وأخذوا منهم , وفقهوا طريقتهم في العلم والنظر والعمل , فهو من أخبر الناس على الإطلاق بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في الدين والدنيا , وهم أولى الناس بإصابة ما كانوا عليه من الحق .

 

الدليل الثاني : استقامة منهجهم الاستدلالي , فإن المنهج الذي يعتمد عليه أئمة السلف لا يخرج في مجمله عما كان متبعا عند الصحابة , فلا يوجد عند أئمة أهل السنة والجماعة أصل كلي يعارضون به النصوص الشرعية وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم , وأما من عداهم من الطوائف المشهورة في التاريخ الإسلامي , فإنه ما من طائفة إلا ولديها أصل كلي أو أكثر تحاكم إليه نصوص الشرعية وأقوال الصحابة .

 

الدليل الثالث : اكتمال الأدوات والمؤهلات , فإن أئمة السنة من لدن التابعين إلى أتباعهم ومن جاء بعدهم , يمتلكون كل الأدوات التي تؤهلهم لإصابة ما كان عليه الصحابة من الحق , فقد اتصفوا بكثرة العلم ودقته , وقوة الذكاء والفطنة وحدته , وعمق الإدراك وانضباطه , وكثرة الاشتغال بما كان عليه الصحابة والتوغل في أرجائه , وبقوة البلاغة والفصاحة وسلامة اللغة , فاجتماع هذه الأوصاف وغيرها تجعل من المستبعد في العقل والواقع أن يكون أئمة السلف ممن فاتهم شيء من الحق الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم .

 

الدليل الرابع : تحقق التطابق الشرعي , ومعنى هذا الدليل أن الاستقراء يثبت أن أئمة السلف لم يجمعوا على خلاف ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في أصول الدين ولا فروعه , أما أصول الدين – المسائل والدلائل العلمية والعملية- فقد كانوا مجمعين عليها , وأما فروع الدين العلمية والعملية , فقد كان يقع الخلاف بينهم فيها , ولكن لم يكن الحق الذي كان عليه الصحابة خارجا عن مجموع ما اختلفوا فيه من الأقوال .  

 

الغلط الخامس: الخلط بين الاشتراك في الاستدلال وبين البناء والتفريع , وذلك أن المؤلف حين وجد كثيرا من أتباع المذهب السلفي يستدلون على حجية إجماع السلف بالنصوص الواردة في حجية أقوال الخلفاء الراشدين وحجية قول الصحابة , طفق يقول : إن قولهم في حجية فهم السلف متفرع عن قولهم في حجية أقوال الخلفاء وقول الصحاب , وادعى أنهم لا يبنون فيها إلا على هذه المسائل .

بل قال :"أدلة وجوب اتباع السلف وفهمهم عند السلفيين هي عين أدلة حجية قول الصحابي , لذلك استدل هذا الباحث السلفي بما عقده ابن القيم للاستدلال على حجية قول الصحابي , فدل ذلك على اتحاد عين المسألتين عند السادة السلفيين"

 

وهذا خلل كبير في الفهم والتصوير , فهناك فرق كبير بين اشتراك المسائل في الأدلة وبين أن يكون بعضها مبنيا على بعض , فغاية ما في الأمر أن مسألة حجية فهم السلف اشتركت في بعض أدلتها مع مسألة حجية أقوال الخلفاء وقول الصحابي, ولكن هذا لا يعني ذلك أنها قائمة عليها .

 

وأنا هنا لا أصحح صنيع ما فعله بعض أتباع المذهب السلفي في كثير من استدلالهم , وإنما أبين أن ما فعله الناقد من دعوى البناء غير صحيح .

 

ثم على القول بأن اشتراك في الأدلة يلزم منه أن بعض المسائل قائم على الأخرى , فإن ذلك لا يعني أنها لم تقم إلا على المسائل التي اشتركت معها , لأنه قد يكون للمسألة أدلة أخرى خارج عن أدلة المسألة التي اشترك معها , وهذا هو الواقع في حجية فهم السلف كما سبق بيانه .

 

ولكن المؤلف لما قصر في بحثه , ولم يدرك عمق ما قرره ابن تيمية والمتقدمون حول حجية فهم السلف , ولم يقف على تنوع الأدلة التي اعتمدوا عليها في إثباتها , أخطأ ذلك الخطأ الكبير , وتصور أنه ليس لديهم  إلا الأدلة المتعلقة بأقوال الخلفاء الراشدين وقول الصحابي , وهو تصور خاطئ , كما سبق بيانه .  

 

ومما يدل على ذلك أن كثيرا من أتباع المذهب السلفي لا يقررون حجية قول الصحابي , ويرون أنه ليس بحجة , ومع ذلك يقررون حجية فهم السلف , وذلك لأنهم يدركون أن أدلة حجية فهم السلف أوسع من أدلة حجية قول الصحابة وأكثر تنوعا .

 

ثم ما صنعه الباحث أمر غريب جدا , فإنه حين وجد بعض أتباع المذهب السلفي يستدلون على حجية فهم السلف بأدلة حجية أقوال الخلفاء وقول الصحابي طفق يقول : السلفيون يجعلون المسألتين-فهم السف وقول الصحابي- شيئا واحدا , هكذا بإطلاق , ولو كان منصفا ومدركا لحقيقة الأمر , لعلم أن استدلال بعض السلفيين بأدلة واحدة على المسألتين لا يعني أنهما مسألة واحدة .

 

ولو كان ذلك يعني أنهما مسألة واحدة , فإن ذلك لا يلزم أن يكون قولا لكل السفليين , فكثير منهم لا يقرر حجية قول الصحابي , ولكن المؤلف سلمه الله يحكم أحكاما خاطئة , ثم يعممها على كل السلفيين .

 

الغلط السادس : الربط الخاطئ بين المسائل المفترقة , فقد صور الباحث أن مسألة حجية فهم السلف بإجماعهم هي عينها مسألة حجية قول الصحابي , وقال في الفصل الخامس , من الباب الأول :"أدلة القول بحجية فهم السلف (أدلة ابن تيمية ) والإجابة عنها" , ولم يذكر فيه إلا أدلة ابن تيمية على حجة قول الصحابة , وكرر بأن حجية فهم السلف فرع عن حجية قول الصحابي .

فصور للقراء بأن ابن تيمية –وغيره من السلفيين- يربط بين المسألتين ويطابق بينهما , وهذا خطأ بين , فإن ابن تيمية وكثير ممن تبعه من السلفيين لا يطابقون بين مسألة حجية فهم السلف وقول الصحابي .

 

  ومما يدل على ذلك : أن ابن تيمية يكرر كثيرا بأن فهم السلف لا يمكن أن يخالف النصوص الشرعية , لأنه في حقيقته إجماع ما عليه الصحابة , وفي الوقت يكرر كثيرا بأن بعض أفراد الصحابة قد تقع منهم المخالفة لدلالة الكتاب والسنة , فلو كان يتعامل مع المسألتين على أنهما شيء واحد لحكم على أعيان الصحابة بأنهم لا يخالفون الكتاب والسنة .

 

ومما يدل على ذلك : أن ابن تيمية يكرر كثيرا بأن قول الصحابي لا يكون حجة إذا كان مخالفا للكتاب والسنة أو لقول غيره من الصحابة أو للقياس , وهذا يدل على أنه يرى أن الحجية في قول الصحابي حجية مقيدة , وأما الحجية في فهم السلف فهي حجية مطابقة , بمعنى أنه لا يتصور فيها مخالفة الكتاب والسنة , فهما مسألتان مفترقتان في الحقيقة وفي كثير من الشروط والأحكام .

 

الغلط السابع : المساواة بين درجات المخالفين , فقد تعامل الناقد مع أتباع المذهب السلفي على أنهم في مرتبة واحدة في الفهم والاستيعاب والتأصيل وإدراك غور المذهب , بل لا يكاد يفرق بين ابن تيمية والمعاصرين , وهذا خلل كبير .

 

فهو يعلم كما يعلم غيره أن المنتسبين إلى المذهب السلفي على مراتب متعددة , فكان الواجب المنهجي عليه أن يفصل بينهم بما يقتضيه مقام كل صنف منهم .  

 

وفي ختام هذا الحديث المختصر لا بد من التذكير  على أن ما ذكر ليس نقدا تفصيليا , وإنما هو حديث مختصر وبيان للأصول وليس إثباتا للتفاصيل .

 

والكتاب بالنسبة للجادين في البحث العلمي يمثل صدمة وخيبة أمل , فهو لم يقدم يحثا مثريا للقضية المركزية التي تناولها , وإنما قدم تصورا سطحيا عن مفهومها وحدودها وأدلتها عند المؤسسين لها  , وحديثا طويلا عن فروع متعلقة بها لا أثر لها في صلبها .

 

وأتمنى من جميع الإخوة الباحثين القاصدين إلى المسائل المركزية أن يحرصوا كل الحرص على إعطائها حقها من النظر والدراسة والتحليل , وأن يحرصوا على أن يصوروها بعمقها الذي يليق بها عند أصحابها , ثم بعد ذلك لهم أن يقدموا ما لديهم من اعتراضات ومناقشات , فتصوير أقوال المخالفين بما هي لديهم لا يقل أهمية عن الاعتراض عليها ونقدها عند الدارسين الجيدين .

 

فكل من قصّر في تصوير أقوال المخالفين له , فإنه حتما سيصاب بالتقصير في المناقشة التي سيقوم بها , فهاتان قضيتان متلازمتان لا انفكاك بينهما , فمن أراد لبحثه الدقة والعمق , فعليه أن يدقق في الأقوال التي يقوم بنقدها ويتعمق في فهمها أولا .

 

أسأل الله تعالى للمؤلف التوفيق والسداد , وأسأله تعالى أن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح .