JustPaste.it

العـَلمانية... عجلة أساسية في مركبة الحلّ

رسلان عامر

باحث سوري

*

36205fd61632067e3b8d0a6be3f3d3c6.jpg

 

 

 

ملخص الدراسة:

ما تزال العلمانية مسألة مثيرة للكثير من الجدل ومحاطة بكثير من الالتباس في مجتمعاتنا المحافظة المتدينة، وكثيرا ما يتم الخلط حتى في الأوساط الثقافية بينها وبين مسائل مثل "الإلحاد" (atheism) و"اللادينية" (irreligion) و"الضد دينية" (anti-religion)، أو مطابقتها مع اللائكية (Laïcité)، وما شابه، أو تختزل في إطارها السياسي إلى مجرد "فصل بين الدولة والدين"؛ وعدا عن رفضها بشكل عام في الأوساط الإسلامية، فهي حتى في أوساط النخب العلمانية نفسها موضع اختلاف في مدى قابليتها للتطبيق وأسلوب هذا التطبيق في واقعنا العربي المعاصر!

وهذه الدراسة تبحث في هذه المسائل، وتتضمن المحاور التالية:

  • محور تعريفي معلوماتي موجه إلى عموم القراء ويقدم لمحة عن تاريخ الحركة العلمانية غربيا وعالميا، وعن مفهوم علمانية ومدلولها!
  • محور فكري معرفي يبحث في ما وراء الوجه السياسي للعلمانية المتمثل بالفصل بين الدولة والدين، وينظر في علاقة العلمانية بالمقدس والديمقراطية والفرد، وموقع الدين في النظام العلماني.
  • محور جدلي يتناول ضرورة وإمكانية تطبيق العلمانية في المجتمعات العربية والإسلامية من حيث المبدأ والواقع، ويركز على عملية العلمنة كعملية واقعية جدلية متتابعة ومستمرة، وعلى كونها اليوم في عصر الانفتاح العلمي وثورة المعلومات والاتصالات، وبعد أن أثبت الواقع إفلاس الديكتاتوريات السلطانية والإسلام السياسي، أصبحت خيارا لازما وقابلا للتطبيق بنفس الوقت.

 وقد استخدم مفهوم العلمانية في هذه الدراسة دالا على سويات مختلفة من التحقق العلماني، فالعلمانية هي عملية بناء مستمر، ولكن يمكن التمييز بين وضعين لهذا البناء:

  • مرحلة التنفيذ والإنجاز،
  • ومرحلة التحسين بعد الإنجاز.

 وعدا عن المواضع التي تم فيها الحديث عن العلمانية في السياق الوصفي التاريخي، أو في حالات المقارنة بين صيغ العلمانية والعلمنة الظرفية، فالعلمانية المقصودة في غير ذلك من حديث هي الشكل الأحدث للعلمانية، الذي بلغته المجتمعات المتقدمة اليوم، والذي يمثل بنية راسخة ولكنها مستمرة التطوير!

 

المحتويات:

1- مقدمة

2- الجذور التاريخية للمصطلح ومدلوله

3- مصطلحات ومفاهيم

4- العلمانية والمقدس

5- الفرد والمقدس

6- العلمانية والديمقراطية

7-  ما الفرق بين العلمانية واللائكية ؟

8- العلمانية بين الغرب والعالم

9- لمَ العلمانية هي شرط لازم للحل؟

10- خاتمة

 

1- مقدمة:

العلمانية هي مصطلح كثيرا ما يتردد على أسماعنا.. وفي خضم ما نعانيه من مآس تكثر الأصوات الداعية للعلمنة ويثار حولها الكثير من الجدل! ولكن هذه الأصوات غالبا ما تغيب عن جلسات صنع القرار، عندما تعقد هذه الجلسات للبحث عن حل!

والعلمانية يكثر مدّعيها، فكم من ديكتاتور عربي ادعاها، وهي منه براء، وكم من سياسي أو منظر تكلم فيها، وبالكاد قاربها عند السطح! وكم من متعصب حاربها، وهو بالكاد يعرف شيئا عنها، وكم من مغرض هاجمها وكفّرها وعهّرها مستغلا جهل جمهوره المعرفي عموما وجهله لها خصيصا!

نحن اليوم عربيا وإسلاميا بأشد الحاجة لإعادة تثقيف جذرية شاملة، وعلى كافة الصعد، وبالتالي لا بد من معرفة كل الأنماط السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة في العالم اليوم، ومن بينها "العلمانية" وهذا ما تسعى هذه المقالة للمساهمة فيه، وهي موجهة إلى عموم الباحثين عن المعرفة!

وهذه المقالة لا تتغيا الترويج السياسي أو الثقافي للعلمانية بقدر ما تركز على الغاية المعرفية، فهي تقدم قراءات واستقراءات.. وتسعى للوصول إلى خلاصات واستخلاصات في هذا الشأن فيها بعض التجديد والتغاير، وهي دعوة للحوار في وعن العلمانية لمن ما زالوا بعيدين عن الحوار فيها وحولها .. ودعوة أيضا للحوار بشكل عام، وهي بالطبع معنونة.. لمن لديه القدرة على الحوار!

 

2- الجذور التاريخية للمصطلح ومدلوله:

بداية لا بد من توضيح هام حول لفظة "علمانية"، فاللفظ الصحيح لها هو بفتح العين، وليس بكسرها، ونحن نذكـّر بهذا ليس حفاظا وحسب على دقة اللفظ العربي وهذا هام بالطبع، لكن الأهم هو دقة المعنى لمصطلح "عـَلمانية"، وهذا جد مرتبط بمدلوله الصحيح، فالكلمة بفتح العين هي مشتقة عربيا من "عـَلـْم" (بفتح العين أيضا)، وهي تعني "عالم".. وهنا جوهر الأمر، فظهور الحركة العـَلمانية المنظمة (secularism) بداية ً في أوروبا عصر النهضة هو مرتبط تاريخيا بفكرة الانتماء إلى العالم حيازة هوية من هذا العالم.. في مواجهة الانتماء إلى الكنيسة وحيازة هوية دينية، إذا وباختصار "عـَلمانية" تعني "عالمانية" أي الانتماء إلى العالم بمعنى حيازة هوية غير دينية، وبناء الدولة والمجتمع على أسس مدنية، والتعامل مع الآخرين بموجب مبادئ إنسانية.. بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم! فيما ترجع كلمة" عـِلمانية" أو "علموية"([1]) (بكسر العين) إلى "عـِلم" بالمعنى المتعارف عليه، وهي اصطلاحا تدل على مذهب فكري.. يتأطر في حدود ما يمكن للعلم أن يصله ويثبته، ويرفض أي شيء سواه، ويمكننا القول عنه أنه مذهب متطرف في الإيمان بدور وقدرة العلم، يبالغ في تصور إمكانية العلم على إحداث التغيير والتطور في المجتمع بدون إعطاء الأهمية الكافية لبقية العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وسواها من ناحية، كما يلغي من ناحية ثانية تقريبا دور الفكر المجرد وقدرته المعرفية، وهنا تفقد الفلسفة أهميتها، ويصبح التفكير – مثلا-  في غاية الحياة أمرا غير مثمر، وهذا الموقف أفضل من عبر عنه باختصار عالم الفيزياء الأمريكي (Nathaniel David Mermin) المشهور بـ "ديفيد ميرمين"  في مقولته  الشهيرة "أغلق فمك واحسب" (shut up and calculate!)  في سياق تفسير معطيات ميكانيكا الكم، وهذا المذهب يسمى غربيا بـ  (scientism).

وكما نرى، فالمذهبان، وهما غربيّا المنشأ، وإن تخطيا حدود غربيتهما لينتشرا في معظم أنحاء العالم بدرجة أو بأخرى، هما مذهبان مختلفان تماما من حيث التوجه ومن حيث التسمية، وأصول تسميتيهما نشأتيهما مختلفة بدورها، فتسمية "عـَلمانية" – وهي ما يعنينا في هذا المقال -  هي غربيا (secularism)([2])،  وهي تعود إلى أصل لاتيني هو (saecularis)، وهو يعني حرفيا "الانتماء إلى عصر أو زمان"، وهو بدوره حالة صفة مشتقة من كلمة "saeculum" الاسمية، التي تعني لغويا "جيل" وتقابل (generation) بالإنكليزية، وهي في اللاهوت المسيحي تعني "العالم"، أو "الدنيا"، وقد كان لاهوت القرون يستخدم مصطلح"saeculum" للتمييز بين هذا العالم الزمني المؤقت وبين عالم الله الخالد، وقد قاد هذا المذهب المسيحي القائل بأن الله موجود خارج الزمن ثقافة القرون الوسطى الغربية لاستخدام كلمة (saecularis) للدلالة على الانفصال عن الأمور الدينية المحضة والانغماس في الأمور الوقتية (أي الفانية) ([3]).

يعود اشتقاق مصطلح (secularism) نفسه إلى المفكر الإنكليزي جورج هوليوك (1817 -1906) الذي استخدمه لأول مرة عام 1851([4])، لكن بدايات سياسة استقلالية الدولة عن الدين لها جذورها الضاربة في عمق التاريخ، ففي الصين القديمة مثلا ظهرت أشكال من الحكم الأباطري غير القائم على شرائع دينية، ولكن بدرجة ما على مذاهب حكماء لا يدعون النبوّة بتاتا ككونفوشيوس ومو تزي والمدرسة الليغالية أو القانونية وكان هذا في القرن الخامس قبل الميلاد، كما شهدت بعض المدن اليونانية القديمة مثل هذا الحكم المفصول تقريبا عن الدين بفضل فلاسفة كأفلاطون وأرسطو وأبيقور وسواهم، إلا أن العلمانية بدأت تأخذ شكلها المتبلور الحديث مع مطلع عصر النهضة الأوروبية على أيدي فلاسفة وسياسيين مثل الإنكليزي جون لوك والفرنسيين دينيس ديدرو وفولتير والهولندي باروخ سبينوزا والأمريكيين جيمس ماديسون وتوماس جفرسون وتوماس بـِين وسواهم، وصولا إلى مفكري العصر الحديث من أمثال البريطاني بيرتراند راسل والأمريكيين روبرت إنغرسول وكريستوفر هيتشنز وغيرهم.

وتجدر هنا الإشارة إلى ضرورة التمييز بين مصطلحي علمانية (secularism) ولائكية (laicism)، فمع أن المصطلحين كلاهما يدل بشكل على العالمية (mundanity) ([5]) دولةً ونظاماً، إلا أن مصطلح "لائكية" هو بشكل خاص أكثر ارتباطا بالنموذج الفرنسي من العلمانية وما يخصه، وهو عموما يدل على العلمانية المسيسة، التي تلعب فيها الدولة دورا أساسيا، فيما بدل مصطلح (secularism) أكثر على العلمانية الاجتماعية، التي تتم نتيجة التطور العفوي للمجتمع، أما مصطلح (laicism) فهو مشتق من اللاتينية (laĭcus) التي تعني (common people) أي "عامة الناس"، وهذا المصطلح يعود بدوره إلى الإغريقية القديمة (λαός) (laós)([6])، التي تعني "شعب" أو "جمهور"، وفي القرون الوسطى كانت الكنيسة تطلق على رعاياها من العامة تسمية "اللائيكيين" وتعتبرهم أدنى سوية من "الكليروس" أي الكهنوت أو رجال الدين. 

هذه المسميات التي كانت تتخذ قبل عصر النهضة معنى كنسيا دينيا محضا، أخذت مع بداية هذا العصر تتخطاه بعيدا وتتخذ مضامين جديدة، وهذا مرتبط بالتغيرات والمستجدات التي حفل بها هذا العصر .. الذي خلق واقعا تطوريا ما يزال يمضي قدما حتى اليوم، ومن الميزات الجد هامة لبدايات هذا العصر هي العلاقة الصدامية بين حركة النهضة والكنيسة التي كانت من أهم القوى التقليدية إلى جانب الإقطاع وحكومات الملوك والأمراء، المتحالفين معها، بل والخاضعين لها بدرجة ما.. بما كانت تمتلكه من ثقل ونفوذ ضمن شعوبهم، والتي – أي الكنيسة - كانت المعقل الأساسي للذهنية الغيبية، التي كانت تحارب الفكر العلمي والتفكير الفلسفي الحر وتكفرهما وتعتبرهما هرطقة، وتعاقب أصحابهما بعقوبات تصل إلى حد الإحراق أحياءً أحيانا!

في هذه الأجواء تطور مفهوم العلمانية، وصارت العلمانية التي كانت تسمية تطلق على عموم رعايا الكنيسة خارج الكهنوت الرسمي، تعني "العالمية" بمعنى الانتماء الوجودوي والمدني للعالم، الذي يطرح نفسه كبديل للانتماء الكنسي والديني، وبالطبع اعتمدت العلمانية على الفلسفة والعلم والفكر الحر بشكل أساسي في مواجهة الذهنية الغيبية والعقائد التسليمية، وطالب دعاتها بفصل كل من المدرسة والدولة والحياة العامة عن الكنيسة، وما زالت العلمانية حتى اليوم تعتمد على العقل والعلم والحوار.

مع مرور الزمن تطورت الطروحات العلمانية، وتنوعت، وظهرت مقولات مثل "العلمنة"، "السياسة العلمانية"، "النظام العلماني"، "الفكر العلماني"، "الثقافة العلمانية"، "المجتمع العلماني"، " الأخلاق العلمانية"، والشخص العلماني"، وغيرها.. وفيما يلي سنتكلم بإيجاز عن كل منها!

 

3- مصطلحات ومفاهيم:

العلمنة: (secularization)، وهي تعني في حدودها الضيقة عملية فصل السياسة عن الدين، أو فصل الدين عن الدولة، ويمكن أن تبلغ أعلى درجاتها في فصل الدين عن الشأن العام ككل وتأطيره في الشأن الخاص وحسب، وهنا نصل إلى حالة "المجتمع العلماني".. و"الثقافة العلمانية"، حيث ليس ثمة دين معتمد حصريا سواء من قبل الدولة أو من قبل المجتمع، ويحق للشخص أن يختار الدين – أو اللادين- الذي يريده، وليس هناك مخالفات بالمعنى القانوني أو الأخلاقي تقوم على أسس دينية، فكل من الثقافة والأخلاق والقوانين تقوم على أسس مدنية ترتكز على العقل والعلم، لكن يمكن للدين أن يلعب دوره فيها بشكل غير مباشر، من حيث هو خلفية ثقافية وإرث وتاريخ اجتماعي!

الدولة العلمانية: ((secular state، وهي تدل على البديل المدني الحديث لكل من الدولة الدينية أو الثيوقراطية وللدولة السلطانية التقليديتين، اللتين تـُحكمان كليا أو جزئيا من قبل رجال الدين، أو بالاعتماد عليهم، أو بواسطة الشرائع الدينية، فيما تقف الدولة العلمانية على مسافة واحدة من كافة الأديان والمعتقدات الموجودة فيها، وتلتزم سياسة الحياد الإيجابي نحوها، بغض النظر عن عدد أتباع هذا الدين أو ذاك، بل وحتى في حال كان كل شعبها من نفس الدين ونفس المذهب، كما أنها لا تتدخل في الشؤون الدينية لأصحاب هذه الأديان والعقائد، ولا تتبنى هي بدورها أية مبادئ دينية، وكل مواطنيها متساوون في الحقوق والفرص والواجبات والالتزامات بغض النظر عن دينهم أو معتقدهم، لكن بالطبع يحق للدولة التدخل ضد أي سلوك أو تصرف مؤسس على أساس ديني يمكنه أن يلحق الأذى بالذات أو بالغير أو بالصالح العام، والدولة هنا عندما تتدخل لا تفعل ذلك من منطلق ديني بتاتا، بل هي هنا تقوم حصريا بأحد أهم واجباتها وهو الحفاظ على أمن ومصلحة كل من الفرد والمجتمع والدولة نفسها.

السياسة العلمانية: (secular politics)، هي تعني الفصل بين الدين والسياسة، بحيث يمنع على رجال الدين التدخل في الشأن السياسي وممارسة العمل السياسي، بصفتهم رجال دين، كما يمنع على السياسيين الحكوميين وغير الحكوميين التدخل في الشأن الديني بصفتهم السياسية، ولا يجوز تأسيس الأحزاب أو المنظمات السياسية على أساس ديني، أو تبني أية برامج تعتمد على الدين بشكل مباشر، لكن هذا لا يعني عدم جواز اشتقاق إيديولوجيات وبرامج سياسة من مرجعيات دينية، وهنا يمكن للدين فيها أن يعمل بصفته خلفية ثقافية، وليس عقيدة سماوية.

النظام العلماني: (secular regime)، وهو النظام الذي تـُعتمد فيه العلمانية السياسية، وتبنى عليه الدولة العلمانية، ولا تدخل أية عناصر دينية في صياغة الدستور أو القوانين أو الإيديولوجيات الحزبية، وبشكل عام يفصل فيه بين الدين والشأن الرسمي.

الثقافة العلمانية: (secular culture)، إن كانت العلمانية على مستوى الدولة والسياسة والنظام السياسي تتخذ أشكالا منظمة على مستوى البنى العليا في الاجتماع البشري، فهي على مستوى الثقافة والمجتمع تتعلق بالبنى الأعمق، وبالطبع هذا هو الأهم، فبدون ثقافة علمانية لا وجود حقيقي لمجتمع علماني.. ولا تحقيق فعلي لدولة علمانية، وستبقى الإجراءات المتخذة  سطحية ومفرغة من المحتوى في كثير من الأحيان ومهددة بالنكوص.. والثقافة العلمانية بمعناها الواسع لا تعني حكما الثقافة النافية للدين والتدين، بل هي الثقافة المجتمعية التي لا تلتزم ولا تلزم بأية أديان أو عقائد مححدة، وتقبل التعددية العقائدية بكل أشكالها الدينية وغير الدينية.

المجتمع العلماني: (secular society)، هو طبعا حالة عليا من العلمنة أو التطور العلماني، الذي تسوده ثقافة علمانية وتحكمه دولة علمانية، ويتحول فيه الدين والمعتقد إلى شأن فردي خاص، للفرد كامل الحق بممارسته كيفما شاء، ولا يؤثر على مكانة ودور الفرد في هذا المجتمع.

الأخلاق العلمانية: (secular morals)، قد يبدو هنا وكأن الحديث يدور عن منظومة أخلاقية محددة على غرار الحديث عن "أخلاق إسلامية" أو "أخلاق بوذية" أو "أخلاق شيوعية" وما شابه، وبالطبع هناك شيء من هذا القبيل في هذه الأطروحة، ويمكن تسمية هذه الأخلاق ببساطة بالأخلاق الإنسانية العامة التي تقوم على مبادئ محض إنسانية، لكن أهم ما يميز الأخلاق العلمانية هي استقلاليتها من حيث المبدأ عن الدين على المستوى العام، بحيث لا يجرّم أي شخص بسبب سلوك فيه خرق ما لقيمة دينية ما، لكن يمكن للقيم الدينية هنا أن تدخل الشأن العام من بوابة الثقافة، فالثقافة علمانيا هي الحاضنة الشرعية للأخلاق.. والدين مشروع بصفتيه المعتقدية والثقافية، وهكذا يمكن للدين أن يبقى حاضرا في ميدان الأخلاق عبر انعكاسه على الثقافة، هذا بالإضافة لحضوره المباشر كدين على المستوى الفردي، وتأثيره على أخلاق الفرد بصفته دينا.

الفكر العلماني: (secular thought)، وهذا يمكن أن يعني كل من "الفكر اللاديني"، "الفكر الإلحادي"، أو "الفكر الديني" المتوافق مع مبادئ كل من الثقافة والسياسة العلمانية، كما يمكننا ببساطة أن نقول أن الفكر العلماني هو أساسا الفكر الذي يعترف بالمبادئ العلمانية على مستوى كل من المجتمع والدولة، سواء توازى ذلك مع معتقد ديني أو لاديني أو إلحادي.

الشخص العلماني: (secular person)، هو الشخص الحامل للفكر العلماني، سواء كان هذا الشخص متدينا أم غير متدين، أم غير مؤمن، فإن كان ملتزما بدين ما، فهو علماني بالمفهوم السياسي والاجتماعي، وإن كان غير متدين، كأن يكون ذا إيمان لاهوتي فلسفي أو معتقد إلحادي، فهو علماني بالمفهوم الفكري أو الفلسفي.

 

4- العلمانية والمقدس:

في ما تقدم جرى الحديث عن العلاقة بين العلمانية والدين من عدة زوايا، لكن قصر مفهوم العلمانية على أنها البديل الذي يبنى عليه المجتمع الحديث والدولة الحديثة للدين، الذي كان يلعب دورا مشابها في المجتمع التقليدي والدولة – أو شبه الدولة-  التقليدية، فيه الكثير من التضحيل لمضمون العلمانية والتسطيح لفكرتها الرئيسة، والأصح هو ليس الكلام عن الدين، بل الكلام عن المقدس بالمعنى الشامل لمفهوم ومدلول المقدس الديني وغير الديني، أي الإيديولوجي.

 لقد شهد التاريخ المعاصر حركات لادينية- بل وإلحادية- عديدة أقصت الدين التقليدي من الحياة الاجتماعية، بل وحاربته بضراوة، وفي النهاية حلت محله، من ذلك مثلا العدوّتان اللدودتان: الشيوعية والنازية، وإن كان من الإجحاف البالغ المقاربة بين الشيوعية والنازية من الناحية الإنسانية، لكن من ناحية علاقتهما بالدين والمقدس كلاهما تحولتا تقريبا إلى ما بشبه الدين الوضعي، أو الدين بلا إله ولا سماء، وكلتاهما جعلت من نفسها العقيدة الرسمية المفروضة على الدولة والمجتمع بصفتها الحقيقة الصحيحة الوُحدى، وجعلت من سواها باطلا وضلالا، ومارست بحق الآخرين سياسات لا تختلف عن محاكم التفيش، واستخدمت سيفي التخوين والتسفيه كما يستخدم سيف التكفير من قبل المتعصبين الدينيين، وهكذا اتخذت الدولة "عقيدة مقدسة" أو امتطت "بقرة مقدسة"، ودفعت كل معتقد آخر خارج حدود حظيرة القداسة.. هذا إن لم ترمه في منفى  النجاسة.

إن أهم مبدأ في العلمانية، هو سحب "المقدس"-"أي مقدس"- من الإطارين الرسمي والجمعي، ووضعه فقط في الإطار الفردي، والغاية من ذلك هي تحطيم كافة أشكال الأصنام، التي يكفـِّّر صاحبُها أو تابعها باسمها سواها، ويفرض قداستها بالعنف المادي والمعنوي على الآخرين، وبذلك يشل العقل والفكر، ويكبل الروح والوجدان، ويهمش العدل والمساواة، ويقوض السلام والوئام في المجتمع.

بهذا الشكل تنزع العلمانية عن الدولة وعن الجماعة درع القداسة، وتنزلهما إلى الأرض، فلا يعود أمرهما معصوما من الخطأ، ولا تعود مخالفتهما كفرا يستوجب أقصى القصاص، ونقدهما تجديفا يقام عليه أشد حدود العقاب.

هنا تحمي العلمانية الدولة والمجتمع من التحول إلى طاغوت، وتحمي الفرد من التحول إلى عبد، وتدفع عن أية أقلية نير أية أكثرية، وتبعد عن العقل سيف العرف، وتحرر المستقبل من غل الماضي.

 

5- الفرد والمقدس:

بإحالتها المقدس إلى دائرة "الفردية" لا تهمش العلمانية هذا المقدس من حيث المبدأ، بل على العكس تماما، هي تصون حق الفرد – أي فرد -  في أن يقبل أو يرفض المقدس الذي يريد، وهي بذلك تمنع التطاول على حق الفرد بالقدسية، وتمنع كل من الدولة والمجتمع والأفراد الآخرين من أن يفرضوا عليه أي مقدس ديني أو إيديولوجي خاص بأي منهما، كما تمنعهم من حرمانه من أي مقدس ديني أو وضعي يريده.

بهذه المنهجية، توسع العلمانية دائرة الفردية إلى أبعد الحدود، وتفتحها كليا أمام "مبدأ المقدس"، ليختار الفرد فيها مقدساته بحرية، ويعيشها دون أية قيود! وهكذا يبقى باب المقدس مشرعا دوما  للجميع.. ولا يستطيع أحد أن يقفله باسم مقدس خاص.. وهنا ليس للمقدس –أي مقدس- أن يحتج على العلمانية بدعوى التقليص والتهميش، بل العكس، عليه أن يشكرها لأنها تحميه من نفسه، وتصونه من الانمساخ والتحجر والسقوط، وتعطيه الإمكانية الدائمة للتجدد والتطور ومواصلة الحياة، وتحميه من الصراع مع غيره من المقدسات، ومن تغوّله عليها قويا أو تغوّلها عليه ضعيفا! إن العلمانية هي من يحمي المقدس من الموت بسيف المقدس!

وهكذا نجد أن حالة التضاد بين العلمانية والدين في جو علماني حقيقي ليس لها أي وجود، فالعلمانية التي تتعامل مع الدين كواقع بشري لا تحرمه حقه بالوجود والاستمرار بهذه الصفة، والتضاد من حيث المبدأ هو بين العلمانية واحتكار القداسة أو تعميم وفرض القداسة، الدينية أو الوضعية، والعلمانية هنا تنتصر لحقيقة التنوع والاختلاف الموجودة عند البشر، والتي ينجم عنها لا محالة اختلاف في تصور وفهم ومعايشة المقدس، وهذا الاختلاف لا شر فيه إن لم يؤد إلى الصراع والتناحر، بل على العكس هو إثراء وإغناء للثقافة الإنسانية بشكل عام، لكن الخطر يبدأ عندما يبدأ البعض بالسعي لإلغاء مقدسات الآخرين وفرض مقدساتهم الخاصة عليهم، فهنا لا مفر من حدوث الاضطهاد أو الصراع، وما يؤديان إليه من عظيم الشرور، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك أيضا خطر آخر لا يقل خطورة، وهو خطر استغلال المقدس لخدمة المصالح الخاصة، مما يحول المقدس إلى غطاء للمطامع والغايات الخبيثة، ويجند المؤمنين بهذا المقدس لخدمتها ضد أنفسهم أو ضد سواهم، وهم في كلتا الحالتين الخاسرون.

لكن علينا أن نكون أيضا حذرين كفاية من أجل الحفاظ الحقيقي على "علمانية علمانيتنا" وعدم تحويلها إلى "دين لاديني"، نفرضه باسمها قسرا على الغير، ونحارب بها مقدساته، ونمسخها بالتالي إلى نقيضها بذلك!

ويضاف إلى ما تقدم، الخطر الكبير الذي ينجم عادة عن العقائد النسقية المقدسة، المغلقة والمنغلقة عادة، التي تقوم على فكرتي امتلاك الحقيقة التامة واحتكارها، وهذه الشكل من الإيمان لا يرفض فقط مقدسات الآخرين، بل يرفض على درجة سواء كلا من الفلسفة والعلم والفكر العقلاني الحر عندما يختلفون معه، ويحاربهم بشراسة، وبالتالي يصبح عائقا أمام التطور الثقافي والعلمي للمجتمع، وعبئا يمنع حركته التقدمية ويمسمره في مواقع التخلف!

 

6- العلمانية والديمقراطية:

كل من العلمانية والديموقراطية شرط لازم لتحقق الأخرى، والعلمانية اللاديمقراطية هي علمانية شوهاء، وهي تستبدل المقدس الديني بمقدس وضعي إيديولوجي.. وتفرضه بالقوة على الآخرين، وتستبدل الكهنوت الديني بكهنوت سياسي، وتسميه جهاز دولة، وتحل أدوات القمع في هذه الدولة محل محاكم التفتتش لتقوم بنفس الدور، وهو قمع المختلفين .. والقضاء عليهم إن اقتضى الأمر.

العلمانية تقتضي الديمقراطية، ولا يمكن أن تتحقق إلا فيها، فالعلمانية التي تنزع حق احتكار القداسة، تنزع معه حق الحكم باسم هذه القداسة، وبالتالي تنزع القداسة عن أي نظام حكم، وتفتح الباب على مصراعيه لكل من التنوع الفكري والإيديولوجي في المجتمع، وتؤسس لمبدأ تداول السلطة، وهذه أمور لا تتم إلا في الديموقراطية، التي تحمي التعدد  الثقافي والعقائدي في المجتمع وتلغي أي تمايز يأتي من هذا الباب، والتي توجب تداول السلطة.. والفصل بين السلطات، وتطلق حرية الإعلام والتعبير والنقد من قاعدة الدولة والمجتمع إلى رأس هرمهما.

الشمولية والديكتاتورية تمنعان كل ذلك، وهما تضعان الحاكم في برج القداسة، وتصادران حقوق النقد والتعبير، وتقزمان إن لم تلغيا حقوق الاختلاف والتنوع، وهما بذلك تمنعان العلمانية من التحول إلى واقع فعلي، بمنع مفاعيلها الواجبة من الوقوع والتحقق.   

أما الديمقراطية اللاعلمانية، فهي الأخرى إما مستحيلة أو ممسوخة، فالديمقراطية اللاعلمانية تعني فرضا إما ديمقراطية ثيوقراطية، أو ديمقراطية مؤدلجة، وكلاهما تتخذ وتتبنى عقيدة خاصة ترى فيها وحدها الحق والصواب، وتعطي لأصاحبها الحق بالاستئثار بالحكم والسيادة والسلطان بشكل كلي أو شبه كلي، وإن لم تغرق الأولى في مستنقع التكفير العقائدي والتفريق المللي، وتهوي الثانية في دوامة التخوين السياسي.. والتمييز الولائي، فأحسن ما تستطيعان تقديمه هو نظام شمولي ديكتاتوري محدود الارتفاع في درجة العنفية، ومع ذلك فهذه حالة نادرة، وطارئة وغير ثابتة في حال وجودها، والكلام عن أية ديمقراطية هنا لا محل له من المنطق في أبسط أشكاله ومستوياته.

وبالتالي فالعلاقة بين الديمقراطية والعلمانية هي علاقة تلازمية تكاملية، وكل منهما شرط ضروري لتحقق الأخرى.

 

7- ما الفرق بين العلمانية واللائكية ؟

الفصل التام بين العلمانية واللائكية هو أمر غير ممكن لما بين هذين المذهبين من تشابه وترابط، من ناحية، ولأنه كل منهما بحد ذاته - من ناحية أخرى-  تغير وتطور كثيرا عبر تاريخه، وللتمييز بين العلمانية واللائكية يمكن اتباع أكثر من مقاربة، حيث يمكن النظر إلى العلمانية كمفهوم أكثر سعة من اللائكية، واعتبار اللائكية شكلا من أشكالها مؤطرا بظروفه التاريخية والواقعية، بحيث يمكن القول بدرجة من المرونة مثلا أن العلمانية الفرنسية هي لائكية والعلمانية الأمريكية هي علمانية ليبرالية؛ أو يمكن اعتماد العلمانية بصورتها الحديثة الناضجة، التي بلغتها في الدول المتطورة كنظام تحدّدت وترسّخت فيه العلاقة الانفصالية بين الدولة والمجتمع من جهة والدين والمقدس من جهة أخرى، ووضعها في موقع المقارنة مع اللائكية التي تمثل هنا المسعى الذي ما زال في طور العمل على تحقيق هذا الفصل، وما يخضع له من تجاذبات، ويقتضيه ظرفيا من فعل صنعي أو قسري لتحقيق هذه الغاية كحال فرنسا بعد الثورة. 

وقياسا على التجربة التاريخية يمكن الإيجاز بأن اللائكية تمثل حالة تضاد وتنافي مع الدين، وهي تضع نفسها في موقع المواجهة معه لتصل صنعيا إلى حالة سياسية ينفصل فيها عن الدولة، وهي بالتالي تخرِج الدين من إطار الدولة، وتحيله عادة إلى الشأن الخاص ولا تتدخل فيه معتبرة إياه ليس شأنا من شؤونها، وقد تذهب في بعض الأحيان إلى حالة الصراع العنيف معه ومحاولة طرده حتى خارج إطار المجتمع، أو رميه في الهامش المنبوذ، أو المقبول كشر لابد منه ولا أكثر.

أما العلمانية فهي تتعامل مع الدين بصفته ظاهرة بشرية واقعية تاريخية، وتسعى لاستيعابه في إطار الدولة الحديثة، التي تتجاوز بالتطور الطبيعي السلمي الإطار التقليدي للدين..وتنفصل عنه قانونيا ومؤسساتيا بشكل تام، لكنها تقبله وتنظمه بصفته أمرا واقعا في الواقع الاجتماعي لحياة مواطنيها، وتدعه يمضي بسلام في إطار الحركة التطورية لمجتمعها.

وبالتالي يمكن القول أن اللائكية هي حالة تجاوز مسيّس-افتعالي أو تسريعي- قسري وصنعي للدين على مستوى الدولة، أما العلمانية فهي حالة تجاوز ثقافي وطبيعي عفوية للدين على مستوى الدولة والمجتمع، مرتبطة بتطور المستويات العلمية والثقافية والاجتماعية والنضج العقلاني في المجتمع.

ومن هنا يمكن القول أن العلمانية هي حالة متلازمة دوما مع الديمقراطية، وهي حالة اجتماعية تتمظهر في كل من الدولة والمجتمع، أما اللائكية فهي عادة مقترنة بالشمولية، وهي حالة سياسية تتمظهر بشكل أساسي في الدولة.

وكأمثلة على الحالة اللائكية يمكننا ذكر تركيا الأتاتوركية، كما يمكننا القول أن الأنظمة الشيوعية هي حالة قريبة من اللائكية.

فيما يمكننا إيراد بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة كنماذج على الحالة العلمانية.

أما فرنسا فتجربتها في هذا المجال ابتدأت كلائكية، واللائكية عموما هي نموذج يعود إلى التجربة الفرنسية، ولكن مع التطور الاجتماعي والسياسي الذي بلغته فرنسا، ونموها الديمقراطي، نجد أنه لا فرق جدّي اليوم بينها وبين غيرها من الدول المتقدمة الأخرى في العلاقة بين الدولة والمجتمع والدين، فمع التقدم الاجتماعي والثقافي لمجتمع الدولة اللائكية- إذا تمكنت هذه الدولة من تفادي أخطار الفساد والانتكاس- تبلغ هذه الدولة درجة من التطور تتجاوز فيها علاقتها السلبية مع الدين لتدعه في مكانه الطبيعي، وهو طبيعيا عند هذه المرحلة من التطور يتحول إلى شأن خاص؛ وهذه هي أيضا محصلة النمو الاجتماعي على الطريق العلماني الديمقراطي، حيث يتم بشكل متواصل تجاوز الأطر الدينية التقليدية، ويتم تجاوز الدين التقليدي نفسه على نطاق المجتمع ككل، فيفقد الدين وضعه كحالة اجتماعية ويتحول عفويا إلى حالة فردية محض، رغم أن هذه الفردية لا تعني الفردنة ولا تنفي وجود أو تشكل الجماعات الدينية، التي يتشابه وجودها في المجتمع الديمقراطي مع غيرها من الجماعات والمنظمات ذات الطابع الاجتماعي.

 

8- العلمانية بين الغرب والعالم؟

 هل العلمانية ظاهرة غربية؟

 هذه الغربية تنطبق إلى حد ما فقط على العلمانية وعلى لا دينية الدولة الحديثتين، اللتين نشأتا وترعرعتا في الغرب الحديث، مع أنهما اليوم لم تعودا ظاهرتين غربيتين أو مستنسختين من تجربة الغرب وحسب، حيث تتطور في باقي مناطق العالم- ولاسيما شرق آسيا-  تجارب متوافقة تماما مع خصوصيات مجتمعاتها المحلية، وإن كانت تستفيد من التجارب الغربية؛ أما تاريخيا فقد عـُرف الفصل بين الدولة والدين بدرجة أو بأخرى منذ أزمنة غابرة، في مناطق وأزمنة مختلفة من العالم والتاريخ، كالصين القديمة مثلا، ودولة قرطاجة التي وصف أرسطو دستورها بأنه من أفضل الدساتير([7])، وسواها..

 

واليوم الحالة العلمانية التي تتجذر وتترسخ في شرق آسيا مثلا، هي ليست تقليدا لتجربة الغرب الأروأمريكي الحديث، ورغم اقتباسها المعقلن من تلك التجربة، فلها خصوصيتها المرتبطة بواقعها الثقافي الخاص، حيث أن هذه المناطق لم تشهد تاريخيا هيمنة أنساق عقائدية مغلقة (كالديانات الإبراهيمية) كما هو الحال في أوربا القرون الوسطى، وفي الشرق الأوسط الذي لم يخرج بعد من قرونه الوسطى، فقد كان الشرق الآسيوي يحظى بدرجة كبيرة من التسامح الديني، يعود إلى طبيعة أديانه نفسها، وهي ظواهر وتقاليد وتجارب دينية، روحية وتعبدية مفتوحة، وليست أديان نسقية مؤسسة كالإسلام والمسيحية، ولذا كان وما يزال فيها التركيب والتنوع والتجديد ظواهر مستمرة!

وبالتالي يصعب القول عن شخص صيني بدقة أنه طاوي أو كونفوشيوسي أو بوذي، لأنه غالبا –وإن اختلفت الدرجات- يجمع في ممارسته الدينية بين عناصر تعود إلى الديانات الثلاث وإلى غيرها، وكذلك حال الياباني مع البوذية والشنتوئية، اللتين تعتبر الحدود بينهما فضفاضة عموما في التاريخ الياباني.

واليوم تنتشر وتترسخ في الشرق الآسيوي حالة من التحقق العلماني (secularity) العفوي، حيث تحدد أكثرية سكان هذه المناطق هويتها الدينية بمصطلحات مثل (wú zōngjiào) الصيني و(mu shūkyō) الياباني، الذين يمكن مقابلتهما إنكليزيا بـ "non-religious" ، ويعني ذلك لغويا "لاديني"، إلا أنه واقعيا يعني اللاعضوية في أي دين مُمأسس (على غرار البوذية أو المسيحية أو الإسلام)، لكنه لا يمنع بالضرورة حيازة معتقدات وممارسة شعائر دينية شعبية تقليدية أو تركيبية حديثة، ولكن هذا لا يحدد بالضرورة انتماءً أو هويةً دينيين([8]).

 

9- لمَ العلمانية هي شرط لازم للحل؟

أي حل؟

حل معضلة مجتمعنا الغزير الإنتاج للتخلف والفساد والقمع والعنف!

عند طرح مسألة الانتقال الديمقراطي، فنحن نعني أنه السبيل الوحيد للتعافي من الداء الذي نتخبط فيه، وأنه بدون هذا الانتقال لن يكون هناك أي تعاف! ونحن ندرك أن هذا الانتقال له شروطه.. ويحتاج إلى زمنه! وأن هذا لا يمكن أن يتحقق بقرار، كائنا من كان متخذ هذا القرار!

الدمقرطة والعلمنة هما عمليتان متكاملتان، بل هما جزءان متلازمان من عملية واحدة، هي عملية التطور أو التقدم، ولن نكون إلا كاذبين على أنفسنا إذا نحن رضينا بأي بديل للديمقراطية.. وسنكون كاذبين بنفس القدر إن تصورنا إمكانية الدمقرطة بدون العلمنة.

نحن هنا لا نقوم بمصادرات سفسطائية، ويجب علينا أن نتعلم من الدروس ذات الأثمان الباهظة.. التي لن تكون إلا خسائر فادحة سنعود لنخسرها مرة بعد مرة، إن نحن تجاهلناها أو فشلنا في فهمهما! وحشر الدين في السياسة وبالعكس، والخلط بينهما.. هو أحد أكبر أسباب ما نحن فيه من كارثة، فإن لم نضع كلا منهما في مكانه الصحيح.. سيبقيان في حالة الخلط والحشر المتبادل مطية لأصحاب المصالح الخبيثة، وبالفصل بينهما يتم قطع الطريق على السياسي الفاسد فلا يتمكن من استغلال الدين، وعلى رجل الدين الطامع فلا يستغل السياسة، وبالفصل بينهما، سيحس كل أبناء الوطن بأنهم أبناء سواسية في هذا الوطن.. وشركاء متساوون في الدولة! وبالفصل بينهما يمكننا التصدي بصراحة ووضوح لأية مشكلة اجتماعية دون أن يشهر بوجهنا سيف الملة أو الشريعة من قبل المستفيدين من بقاء المشكلة.. أو الخائفين على نفوذهم المللي والمشيخي إن هم لم يعرقلوا أو يمنعوا حلها، أو غير الواعين أو المعترفين بوجودها وبمخاطرها جهلا أو استلابا بحكم التسليم والغيبية المعتقديين اللذين يحكمانهم ويتحكمان بهم! ونحن هنا نتكلم في العموميات كي لا نغرق هذا المقال في التفاصيل والجزئيات التي لا تحصى!

إننا- في واقعينا العربي والإسلامي- في النهاية بشر كغيرنا من البشر على سطح هذه الأرض، ولدينا خصوصياتنا كما لدى غيرنا بدوره خصوصياته، ويمكننا.. بل يجب علينا الاستفادة من تجارب غيرنا من أمم العالم! و"العلمنة الديمقراطية" أو "الديمقراطية العلمانية" نجحت نجاحا باهرا في أوروبا وأمريكا.. ونجحت في شرق آسيا، وفي الهند، وتركيا، وسواها.. وهذه مجتمعات وثقافات جد مختلفة، منها المسيحي، ومنها البوذي والشنتوي والطاوي والهندوسي والإسلامي.

ولرافضي العلمانية خوفا على الإسلام، ومن حق كل متدين الخوف على دينه والسعي للحفاظ عليه، ولكن بالعقل والخـُلق، نقول: تركيا تبنت العلمانية، ولم يفقد الشعب التركي إسلامه، وما تزال الهندوسية دينا حيا في الهند.. وكذلك الإسلام، ومن بين دعاة العلمانية في الهند ثمة العديد من الناشطين المسلمين، الذين يخشون تغول الأغلبية الهندوسية عليهم فيما لو حكم المتشددون الهندوس أو ازداد نفوذهم، وما تزال البوذية والشنتوئية أديان قائمة في اليابان.. ولم تفقد كوريا الجنوبية بوذيتها ولا طاويتها، وحتى أوروبا ما تزال فيها المسيحية بخير.. وليس هذا فحسب، بل استعادت المسيحية وجهها المشرق في أوروبا الديمقراطية العلمانية الحديثة.. بعد أن شوهته قرون طويلة من ظلمات القرون الوسطى والتسييس الاستعماري، واليوم يعيش المسلمون الوافدون إلى أوروبا، وهم الأغراب قوما ودينا عنها في ظروف من الاحترام لإنسانيتهم ودينهم وحقوقهم.. لا تقترب من حدودها الدنيا أية دولة عربية أو إسلامية، وثمة ملايين من المسلمين يعيشون منذ زمن طويل في الغربين الأوروبي والأمريكي.. ولم تفقدهم العلمانية الغربية إسلامهم، ولا سمحت لأحد بأن يفرض دينا أو عقيدة غير الإسلام عليهم!

أما العادات الغربية التي نخشى من انتشارها لدينا، فهي شأن خاص بالثقافة الغربية، وهي ليست شرطا من شروط العلمانية ولا الديمقراطية.. ولا نتيجة حتمية من نتائجها، والدليل على ذلك أن هذه العادات لم تنتشر في الدول الديمقراطية العلمانية في المجتمعات الآسيوية! وما نسعى لتحقيقه عربيا هو علمانية عربية، وليس "غربانية"

 

10- خاتمة:

مما لاشك فيه أن العلمانية هي ضرورة لا غنى عنها للحل الإنساني الحقيقي لأزمة أشباه مجتمعاتنا، ولكنها ليست وصفة جاهزة، ولا تصنع بقرار، والعلمنة الفعلية هي عملية متدرجة ومتواصلة ومتكاملة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وهي جزء أساسي مكوّن ومتفاعل مع بقية أجزاء السيرورة التطورية، وهي نتيجة جدلية لحالة من الارتقاء الاجتماعي المترافق بدرجة متقدمة من الثقافة العقلانية العلمية.

صحيح أنه على أرض الواقع، ما تزال بيئاتنا الاجتماعية شديدة البعد عن العلمانية، ولكن هذا لا يعني أنها بعيدة عن العلمنة أو غير قابلة لها، ولو كان هذا هو الحال، فليس أمامنا إلا أن نعلن موتنا الاجتماعي والإنساني، وهذا هو حقيقةً ما سيكون مصيرنا المحتوم فيما لو أصرينا على رفض لوازم الحل الذي يشفينا مما نحن فيه من داء، والعلمنة أحد اللوازم الأساسية للدواء المنتظر.

واليوم يشن الإسلام السياسي والمتشددون والمحافظون الدينيون هجومهم الواسع والشرس على العلمانية لأسباب تم ذكرها، وهم في جل الأحيان مدعومون من قبل الزعامات الاجتماعية، والزعماء الحاكمين، إما بسبب توافق المصالح أو الانتماء إلى نفس الذهنية والثقافة غالبا، أو تحاشيا للاصطدام مع القوى الإسلامية والمتأسملة ذات الثقل الكبير على المستوى الجماهيري أحيانا، وفي المحصلة أيا كانت الأسباب فالنتيجة هي زيادة تردي الحال ثقافيا واجتماعيا!

ومع ذلك لا سبيل أمامنا كقوى علمانية إلا مواصلة العمل الثقافي والسياسي سواء بنشر ثقافة الوعي بالعلمانية والوعي العلماني أو بالضغط السياسي والمدني المنظم، فلن يأتينا الحل من الخارج ولن ينزل علينا الحل من السماء! والكلام عن عدم جاهزية أو قابلية البيئات العربية أو الإسلامية للعلمنة هو كلام غير عقلاني، ولا يعني إلا استحالة أي حل!

الدين ككل هو ظاهرة بشرية، محكومة دوما بالواقع البشري الذي تنتمي إليه، وهي فيه فاعلة ومنفعلة، ومتفاعلة مع بقية مكونات وفواعل هذا الواقع، وعندما يتردى المكون الديني لأسباب ذاتية دينية، فهو بلا شك سيترك أثرا سيئا على الواقع الاجتماعي، ولكن هذا الأثر لن يكون كبيرا إذا كانت المكونات الأخرى في وضع حسن، وبالمقابل، عندما يتردى الواقع الاجتماعي فهذا التردي سينعكس بدوره سلبا على الدين، لينتج منه أشكالا مشوهة تعود بدورها لتلعب دورا فاعلا تتناسب فاعليته مع درجة تردي الواقع المحيط، لتزيد بشكل فاعل من حدة سوء أوضاع ذلك الواقع!

إن طرح العلمنة مشروطة بإقصاء الدين في بيئة ما تزال متدينة، هو فعل مناقض للواقعية والعقلانية، فهذا معناه الفعلي هو اللجوء إلى القوة والعنف، وهنا – إن توفرت القوة والعنف- فالنتيجة ستكون إما الصراع المدمر مع القوى الدينية التي لن تستسلم، أو الديكتاتورية السياسية إن رضخت تلك القوى، وفي كلتا الحالتين لن يبنى المجتمع الديمقراطي!

مما لاشك فيه أن درجة من الجرأة والحزم السياسيين والفعل السياسي والقرار الحكومي المنظمين هي دوما أمور لازمة، ولكن هذا يقتضي وجود الفاعل السياسي المناسب للفعل التطويري! لكن القوى السياسية الفاعلة بشكل رئيس اليوم على الساحة العربية، غالبيتها العظمى هي إما حكومات سلطانية منتمية ومتحالفة مصطلحيا مع الإسلام التقليدي والبنى ما دون المجتمعية، وهذه القوى بحكم وعيهما ومصلحتها المناقضين لن تدعم قطعا العلمانية، المتلازمة جوهريا مع الديمقراطية، بل تفعل وستفعل تماما وبقوة العكس! أو إسلام سياسي متخارج مع العصر والعقل والإنسان، ومتصارع على السلطة مع الديكتاتورية السلطانية أو متهادن معها في تحاصص سياسي هش أو تحيّنا لظرف أنسب للصراع، وهذا النوع من القوى هو أيضا عدو لدود للعلمانية والديمقراطية! وينضم إلى كل من الحكومات السلطانية والإسلام التقليدي والإسلام السياسي بعض القوى السياسية الإيديولوجية من بقايا اليساريين والقوميين، ذات الفكر الشمولي وإيديولوجيا الحزب الواحد القائد، وجلها اليوم قوى بالكاد لها دور جماهيري، سواء كانت في مواقع التبعية أو المعارضة للسلاطين! وبالتالي فخيار القوة غير متوفر واقعيا للقيام بالعلمنة المزعومة، هذا ناهيك عند مناقضته المبدئية الجذرية لها! وهذا يعني أن مهمة العلمنة مرهونة بشكل رئيس بالمثقفين العلمانيين والقوى السياسية الديمقراطية ذات الوعي الحديث، وأصحاب المصالح المختلفة الذي يدركون أن مصلحتهم هي جزء من مصلحة الشعب والوطن، التي لن تتحقق إلا بحل حقيقي تلزمه العلمنة، ولن يتم بدونها!

واليوم في خضم المعمعة العنيفة التي يتخبط بها العالم العربي ، قد يبدو أنه ليس ثمة فرصة حقيقية أمام القوى العلمانية الديمقراطية، وأن الساحة مهيمن عليها بالكامل من قبل القوى السلطانية والإسلام السياسي المتصارعين مصلحيا غالبا! لكن هذا المشهد لا يعكس حقيقة الأمر، فحركات الربيع العربي هي خير دليل على إفلاس الأنظمة السلطانية التقليدية، والفرصة التي اغتمنها الإسلام السياسي بدرجة أو بأخرى سرعان ما أثبتت أنه بديل أسوا من تلك الديكتاتوريات السلطانية! ومع الانفتاح الكبير الذي يشهده العالم المعاصر في العلاقات الاقتصادية والتواصل الثقافي، وبالأخص مع المستوى التواصلي العالي الذي دفعت إليه ثورة الاتصالات والمعلومات، فالقوى العلمانية الديمقراطية أصبح بمقدورها أن تفعل الكثير، وهي لم تعد أصواتا مغمورة محاصرة في الزوايا النائية المظلمة!

إن إفلاس البدائل المطروحة للديمقراطية العلمانية، والنتائج الكارثية التي دفعت إليها القوى البديلة المتحالفة أو المتصارعة، ترفع اليوم الاستعداد الكموني لتقبل العلمانية عند شرائح وفئات متعددة، تبدو اليوم وكأنها في الخندق المواجه لها، وفي عداد هذا يدخل عمومٌ من الناس المتدينين تدينا شعبيا، وسياسيون ورجال دين وفعاليات اقتصادية براغماتية وسواهم، وبعمل منظم ومستفيد من الإمكانيات العصرية تقوم به القوى العلمانية اليوم، يمكنها أن تسرع وتعزز خيار الانحياز للعلمانية عند هذه الفئات، وهذا بدوره سيعزز قوة القوى العلمانية وقدرتها على الفعلين الثقافي والسياسي أكثر، مما سيشجع أو يضطر المزيد من الآخرين للانتقال إلى معسكرها أو الاستجابة لضغطها، وهكذا دواليك..

هذا هو الواقع الفعلي بما فيه من إمكانية للعمل بعيدا عن التفاؤل الحالم المجاني! والكرة اليوم تنتقل شيئا فشيئا إلى ملعب القوى العلمانية، فإن هي أتقنت اللعبة ونظمت عملها وكثفته كما وكيفا، فلن يطول الأمر حتى تستحوذ على الكرة لتبدأ في إحراز الأهداف! وبعض هذا نراه اليوم أمرا يتحقق في تونس، وفي جوارها الغربي إلى حد ما!

 

المراجع:

  • المعجم الفلسفي المختصر، دار التقدم، موسكو،1986.
  • The Consise Oxford Dictionary, edited by J.B.Sykes, Oxford University Press, edition 6, 1976
  • موسوعة ويكيبيديا wikipedia، النسختان الإنكليزية والروسية:
  • قاموس ويكاموس:

https://www.wiktionary.org/

 

الحواشي:

[1] - المعجم الفلسفي المختصر، دار التقدم، موسكو،1986، ص 312.

[2]  - The Consise Oxford Dictionary, edited by J.B.Sykes, Oxford University Press, edition 6, 1976, p.1026.

[3]- https://en.wikipedia.org/wiki/Secularity

[4]- https://en.wikipedia.org/wiki/Secularism

[5] - "العالمية" هنا لا تعني عالمية البعد أو تجاوز المحلية، ولكنها تعني النسب إلى العالم الواقعي العياني بمعزل عن أية عوالم ماورائية أو افتراضية، وبالتالي فالمعنى الذي يأخذه "العالم" هنا يطابق "الدنيا" بالمفهوم الإسلامي، ولفظة "عالم" نفسها تأخذ مثل هذا المعنى في أسفار"العهد الجديد" واللاهوت المسيحي؛ وقد فضلت في هذه الدراسة استخدام لفظة "عالم" انطلاقا من مضمونها اللغوي والعلمي المحض، فيما تقترن لفظة "دنيا" ومشتقاتها بمعنى وإيحاء دينيين إسلاميين.

[6] - https://en.wiktionary.org/wiki/laic   &  http://biblehub.com/greek/2992.htm

[7]- دستور قرطاج، موقع بوابة العدل في تونس:
http://www.e-justice.tn/index.php?id=428

[8]- The Nonreligious: Understanding Secular People and Societies, Phil Zuckerman, Luke W. Galen, and Frank L. Pasquale, New York: Oxford University Press, 2016.
- http://www.worldcat.org/title/nonreligious-understanding-secular-people-and-societies/oclc/914136812/viewport
- https://en.wikipedia.org/wiki/Secularity

 

*

هذه الدراسة منشورة على موقع "مؤمنون بلا حدود"

‏13‏/11‏/2018

على الرابط التالي:

العـَلمانية... عجلة أساسية في مركبة الحلّ

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت