JustPaste.it

العلمانية عربيا بين ضبابية الصورة واختلاط المفاهيم

رسلان عامر

 

5b64868396d1c2fc1a9fcc94445a5305.jpg 

في عالمنا المعاصر الذي تضعف فيه الحدود والفواصل بين الدول والشعوب بشكل متنامٍ، وتتسارع فيه وتيرة الانفتاح والتفاعل الاجتماعي والثقافي التي يدفعها قدما التطور التكنولوجي والاقتصادي والتجربة التاريخية التواصلية للبشر، وتلعب فيها دورا فاعلا وسائل الاتصالات المعاصرة، ولاسيما ثورة الاتصالات والرقميات، ومع ما يحفل به هذا العالم الذي أصبح بسبب كل ما تقدم وغيره من الأسباب عالما شديد التعقيد وحافلا بالتناقضات والتغيرات الكبيرة، أصبحت "العلمانية" اليوم من المصطلحات التي يكثر ترددها على أسماعنا، وقد أصبحت أحد المشاريع الكبيرة، على الأقل من الناحية النظرية، التي تطرح كحل للخروج من الوضع المتردي المأزوم في المجتمعات العربية التي دخلت في دوامة العنف، كما أنها، وبشكل نسبي، باتت تطرح بدرجة أو بأخرى كتجربة عصرية عالمية يمكن الاستفادة منها في المجتمعات الأخرى التي لم يشملها العنف، ولكنها غير محصنة ضده، لتجنب هذا العنف والمضي في طريق سلمية.

والعلمانية اليوم هي نظام مطبّق بأشكال مختلفة على نطاق جد واسع في العالم، فهي النظام السائد في كل من أوروبا والأمريكيتين وأقيانوسيا، وفي العديد من الدول الآسيوية والإفريقية، مثل اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية وتركيا، وجنوب إفريقيا وأثيوبيا والكونغو والكاميرون وسواها.

وبما أننا جزء لا يتجزأ من هذا العالم المعاصر، ونعيش فيه ونتعامل ونتفاعل مع غيرنا من ذوي الثقافات والأديان والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة، فأيضا من خيرنا وخيرهم، ولكي نصل معهم إلى أفضل درجات التعايش والتواصل والتعامل البناءة، أن نمد جسور الحوار بيننا وبينهم ونوطدها، وهذا يقتضي منا فهم ومعرفة الغير، فلا حوار بدون تفاهم، ولا تفاهم بدون تفهم، والتفهم بدوره يقتضي الفهم، وفهم الآخر لا يعني بالضرورة التماهي معه، والانتقال إلى مواقعه، وقبول مواقفه، وإنما يعني فهم الطريقة التي يفكر بها، والمنهجية التي يعتمدها، فيبني على أساسهما مواقفه ويرسم مسالكه.

وهكذا لكي نفهم غيرنا جيدا ونتفاعل معه بشكل أفضل في العديد من مناطق العالم، يصبح من الضروري لنا أن نفهم العلمانية بالشكل الصحيح!

 

لكن عند متابعة الجدل الدائر بين أنصار العلمانية وخصومها على ساحتنا العربية، سنجد الكثير من الخلط لدى كل من الطرفين بين مفهوم "العلمانية" وبين مفاهيم أخرى قريبة منها في الظاهر، ولكنها مختلفة في الجوهر، وهذا يؤدي في المحصلة إلى تشوه وتشويه مفهوم  وصورة العلمانية.

ومن أكثر المفاهيم التي يُخلط بينها وبين العَلمانية (بفتح العين) العِلمانية (بكسر العين)، الإلحاد، اللادينية، الضد دينية، الليبرالية، واللائكية.

كما أنه ثمة إشكالية يثيرها مصطلح "الدولة الدينية" أو "الثيوقراطية" نفسه، إذ ليس من النادر أن تتم المطابقة بينه وبين مصطلح "حكومة الكهنة".

 

وسنحاول فيما يلي بيان الفروقات بين هذه المفاهيم، معتمدين في ذلك على منهجية علمية واقعية محض.

 

العِلمانية (بكسر العين) (scientism): وتسمى أيضا "علموية"، والتسمية مشتقة من كلمة علم (أيضا بكسر العين)، وتدل على مذهب فكري متطرف، يبالغ في تقدير قدرة العلم على حل المشاكل، ويرى أن كل مشكلة يمكن حلها بالعلم، وينكر كل طرح لا يقوم على العلم ولا يمكن إثباته بالعلم، وباختصار هذا المذهب لا يولي الأهمية الكافية لعوامل الواقع الموضوعي المختلفة، كما أنه لا يعترف أيضا بدور فاعل للفلسفة والعقل النظري المجرد.

أما العَلمانية (بفتح العين) فلا تتبنى هذا الموقف، صحيح أنها تعتمد على العلم، ولكن ليس كل عَلماني بالضرورة "علموي"، وأكثرية المفكرين العلمانيين هم أكثر واقعية في موقفهم من العلم وقدراته ودوره، وهم لا يتجاهلون أهمية ودور العناصر الأخرى المؤثرة في الواقع الموضوعي.

 

الإلحاد (atheism): كثيرا ما يطابق خصوم العلمانية بينها وبين الإلحاد ومعاداة الدين، ومما لاشك فيه أن هذه الصورة يعززها وجود علمانيين يجاهرون بالإلحاد، أو حتى بمعاداة الدين كليا، ولكن المطابقة بين هذه الفئة وبين العلمانية كلها، تشبه قي الجهة المقابلة المطابقة بين المتطرفين الإسلاميين وبين المسلمين ككل! هذه التعميمات هي أخطاء كبيرة، فإن كان ثمة علمانيون ملحدون أو ذوو مواقف معادية للدين، فهذه مواقفهم الخاصة كأشخاص، وهي لا تنطبق على كل العلمانيين، فالعلمانية كفكر تلزم الدولة كمؤسسة بالحياد العقائدي من جهة، وبحماية معتقدات مواطنيها من جهة ثانية، والعلماني هو أي شخص يقول بوجوب حياد الدولة عقائديا وبواجبها  في منع الاضطهاد والعدوان العقائدي، وهذا لا يتنافى بالضرورة مع إمكانية أن يكون هذا الشخص مؤمنا أو متدينا.

 

اللادينية (irreligion): تعني عدم التدين أو عدم الالتزام بدين معين، ولكنها لا تتطابق مع الإلحاد، فاللاديني قد يكون مؤمنا بوجود الله بأسلوب شخصي خاص، أو قد يكون لديه إيمان تركيبي تدخل فيه عناصر من أديان متعددة لكن دون أن يتحول هذا التركيب بحد ذاته إلى دين محدد، وقد يكون من أتباع فلسفة إلهية وما شابه.

مع ذلك فهذا الموقف لا يلتزم به الفكر العلماني عموما، وهو يقف على مسافة واحدة من العقائد المختلقة ومن أصحابها، فما يعني هذا الفكر هو مسألة بناء وتنظيم الدولة والعلاقة بينها وبين المواطنة وبين حقوق وواجبات المواطن، وفي هذه المسألة لا يفضّل اللاديني على المتدين، ولا العكس، والمفاضلة تتم على أساس الكفاءة والدور البناء الذي يمكن للشخص لعبه في الدولة والمجتمع.

 

-الضددينية (antireligion): هي مذهب، والأدق توجه فكري، يرى من حيث المبدأ في الدين ككل ظاهرة سلبية وبدون التفريق بين ديانة وأخرى، لكن هذا السلبية لا تعني حكما معاداة ومحاربة الدين بشكل دائم، فهي أحيانا قد تقتصر على الرأي المجرد والموقف النظري، الذي يقبل بترك المتدينين وشأنهم والتعايش معهم طالما أن تدينهم لا يتسبب بأي أذى لغيرهم، ولكن يمكن في ظروف أخرى أن تنتقل الضددينية إلى الهجوم على الدين، وهذا الهجوم يمكن أن يكون مجرد هجوم بالكلمة دون أية مفاعيل عملية، ولكن من الممكن أيضا أن يتحول في حالات أخرى إلى ممارسات فعلية موجهة ضد الدين.

وعن علاقة العلمانية بالضددينية يمكن قول نفس الكلام الذي سلف قوله عن علاقتها بالمذاهب والتوجهات المذكورة أعلاه.

 

-الليبرالية (lebralsim): هي بالمفهوم الواسع توجه فكري في السياسة والأخلاق يتمركز حول المساواة بين نماذج الاختلاف في الأفكار والمعتقدات والقيم وحرية التعبير عنها وممارستها من قبل أصحابها، وهي بالمفهوم الضيق تدل على التجربة الغربية في بناء الدولة والمجتمع، القائمة على التعددية السياسية والفكرية والمعتقدية، وتداول السلطة، وحرية السوق واستقلالها عن الدولة.

وفي مجتمعاتنا كثيرا ما يتم الخلط بين الليبرالية الغربية والعلمانية من قبل كل من أنصار وأعداء العلمانية على حد سواء، ما يجعل الطرح العلماني يبدو وكأنه مشروع استيراد ثقافة الغرب الأجنبية.

مع ذلك فعلى أرض الواقع، قامت دول غير غربية في كل من آسيا وإفريقيا بتطبيق أشكالها الخاصة من العلمانية، التي تتناسب مع خصوصياتها المحلية وثقافاتها وتقاليدها الخاصة، ولم تستورد لا ثقافة الغرب ولا تقاليده، وهذا ما جرى في كل من اليابان والهند وكوريا الجنوبية على سبيل المثال.

 

-حكومة الكهنة (hierocracy): وهي شكل الحكم الذي يتولى فيه السلطة ومناصبها الكهنة أو رجال الدين بشكل مباشر أو يتحكمون فيها بشكل غير مباشر، ومع ذلك، فعدم وجود نظام كهنوت، أو سلطة رجال دين مباشرة، لا يعني بعد أن الدولة علمانية وليست دينية (theocracy)، فلكي لا تكون الدولة دينية عليها هي نفسها ألا تقوم بفرض أي دين أو مذهب محدد على مواطنيها، وأن تتركهم يختارون ذلك بأنفسهم وبإراداتهم الخاصة، وليس ذلك فحسب بل عليها أيضا احترام وحماية هذه الخيارات، ومنع أي اضطهاد أو صراع  أو تمييز عقائدي في مجتمعها.  

 

-اللائكية (laicism): هي في الأصل النموذج الفرنسي من العلمانية (Laïcité)، وصارت هذه التسمية تطلق على تجارب العلمنة المشابهة، التي تقوم بفرض عملية الفصل بين الدين والدولة بالقوة، ما يجعل مسار العلمنة صداميا ومتسما بالقطيعة مع الإرث الديني، ويؤسس لعلاقة خصامية بشكل عام  بين الدولة والدين، وهذا النموذج مصاحب عموما للثورات والانقلابات العنيفة كما كان الحال في الثورتين الفرنسية والروسية وفي الحركة الأتاتوركية التركية، ولكن مع ذلك، فهذه الحالة يمكن أن تتغير نحو الأفضل مع تطور الدولة اللائكية نفسها، ليتحول موقفها من الدين من العداء والصدام والخصام إلى التعايش والاحتواء والاحترام، وهذا هو حال فرنسا وروسيا الحديثتين.

 

أما العلمانية (بفتح العين) (secularism): فهي في العربية مشتقة من كلمة "عَلْم" (بالعين المفتوحة) التي تعني "العالَم"، ومصطلح (secularism) صاغه الصحفي والناشط العمالي والعَلماني الإنكليزي جورج هوليوك(George Holyoake)  عام 1851، وقد اشتقه من الكلمة اللاتينية (saeculum) التي تعني "عالمي بمعنى دنيوي، أو وقتي أو مؤقت، أو منتمٍ إلى جيل معين"، وقد عرّفه في عمله المسمى "مبادئ العلمانية" بـأن "العلمانية هي السعى لتطوير الطبيعة المادية والمعنوية والفكرية للإنسان إلى أعلى نقطة ممكنة، الذي يعتبر واجبا مباشرا للحياة يرسخ الاكتفاء العملي للأخلاقيات الطبيعية بمعزل عن الإلحاد أو الإيمان أو الكتاب المقدس، والذي يختار الوسائل المادية كطرائق إجرائية لتعزيز عملية التحسين الإنساني، ويقترح هذه التوافقات الإيجابية رابطةً مشتركة للاتحاد على جميع الذين ينظمون الحياة عن طريق العقل ويرقّونها بالعمل النافع".

 

أما نهرو-أول رئيس وزراء للهند- فيقول: "نتكلم عن علمانية الهند، البعض يظن بأن ذلك معارض للدين وهذا خطأ واضح، ما تعنيه حقيقة تلك العلمانية هي بأن الدولة تقدّر العقيدة الدينية للجميع بالتساوي وتمنحهم فرصا متساوية في كل شيء، ولدى الهند تاريخ عريق من التعايش الديني. في بلد كالهند حيث يوجد العديد من العقائد الدينية لا يمكن أن تبنى الوطنية على أي أساس غير علماني".

 

للعلمانية جذور قديمة في التاريخ، فنموذج الدولة المنفصل عن الدين قدمّه في الصين مثلا حكماء مثل كونفوشيوس وموتزي، وفي اليونان فلاسفة مثل أبيقور وأفلاطون وأرسطو وسواهم، كما عرفت مناطق أخرى من العالم القديم مثل هذا الطرح.

 

أما العلمانية الحديثة فقد تطورت على يد عددٍ من مفكّري عصر التنوير مثل جون لوك ودينيس ديدرو وفولتير وباروخ سبينوزا وجيمس ماديسون وتوماس جفرسون وتوماس بين، ومفكّري العصر الحديث من أمثال بيرتراند راسل وكريستوفر هيتشنز.

لقد تطور مفهومها ليصل إلى ما  طرحه جورج هوليوك بأنها تنظيم مشترك للحياة على أساس العقل بشكل منفصل عن الدين والإيمان والإلحاد.

وطرح هوليوك هذا يأتي انسجاما مع التجربة والتاريخ البريطانيين، الذي وصلت فيه بريطانيا بشكل سلمي وتطور عفوي إلى العلمانية، وهذا الأسلوب تم أيضا في دول أخرى كألمانيا والولايات المتحدة، وفي هذا النمط من العلمانية تكون العلاقة بين الدولة والدين أكثر إيجابية، وتصبح أقرب إلى التعاون والتكامل العملي غير المقنن بقانون وإنما بواقع الحياة الفعلي، أما قانونيا فيتم تقنين فصل الدين عن الدولة واستقلالية المؤسسات والنشاطات الدينية عن الدولة، وبالعكس، وهنا كما نرى ثمة اختلاف عن اللائكية التي يأخذ الفصل فيها منحى القطيعة وليس الاستقلالية.

أما كلام نهرو فيتضح منه فعليا موقف الدولة العلمانية من الدين الذي تقدره وتضمنه للجميع بشكل متساو، وفعليا التجربة الهندية في العلمانية هي نموذج مختلف عن اللائكية والسيكولارية الغربيتين، فالأولى فرضتها الثورة بالقوة، أما الثانية فقد تطورت بشكل عفوي تدريجي سلمي، أما علمانية الهند فقد أقرتها الدولة بشكل سلمي رغم أن المجتمع الهندي ما يزال شديد التدين والانقسام إلى أديان وطوائف.

 

واليوم رغم التجربة التاريخية الكبيرة في هذا المضمار، فالفكر العلماني ما زال يتطور ويتجدد، والكثير من المفكرين الغربيين الكبار لم يعودوا يتحدثون عن العلمانية بصيغة المفرد، ما يعني تأطيرها في نسق محدد، وتقديمها في شكل واحد، ويحولها في المحصلة إلى شكل من أشكال الإيديولوجيات المغلقة.

فالحديث اليوم يتم عن علمانيات مختلفة، كما يفعل المفكر الفرنسي الشهير والأستاذ الجامعي جان بوبيرو(Jean Baubérot) المختص في العلمانية في كتابه "العَلمانيّات في العالَم"، الذي يتحدث فيه ويعترف بتعددية علمانية وتنوع علماني، وبناء على رأيه يمكن للعلمانية المنفتحة أن تتأقلم مع مختلف المجتمعات والتقاليد الدينية، وهذا يتجلى في وجود علمانيات مختلفة، فرنسية وألمانية وأمريكية ومكسيكية وسواها، ما يعني أنه من الممكن يوما ما ظهور علمانية عربية أو علمانية إسلامية، بحيث لا تكون أي منهما معادية للإسلام بتاتا.

 

خلاصة، يمكن القول بإيجاز أن العلمانية هي نظام يقوم على مبدأ بناء الدولة وتنظيم أعمالها بشكل مستقل عن الدين، وهذا الطرح يبدو للمجتمعات المتدينة وكأنه عداء صارخ للدين، وما يعزز هذه النظرة وجود العديد من حالات الصراع المختلفة بين الحركات العلمانية والبنى الدينية، وهذا تاريخ لا يمكن إنكاره، ولاسيما في التجربة الأوربية.

لكن بنظرة علمية فاحصة على التجربة الأوروبية وغيرها من التجارب، يمكننا أن نستنتج أن معظم حالات الصراع كانت الأسباب الأساسية فيها سياسية ومصلحية وليست عقائدية، ففي البلدان الأوروبية التي تصارعت فيها الحركات العلمانية مع الكنائس، جرى ذلك بسبب النزاع على السلطة، حيث كانت الحركات العلمانية تسعى لإبعاد الكنائس ذات الثقل والنفوذ الكبيرين عن مؤسسة الدولة، فيما حاولت الكنائس المحافظة على نفوذها وسلطانها، وعلى أية حال، في أكثرية الدول الغربية نفسها تم فصل الدولة عن الكنيسة بشكل سلمي تدريجي.

أما في الموقف المباشر من الدين، ففي الفكر العلماني ليس ثمة أي موقف رافض له من منطلق معتقدي أو إيماني، فالعلمانية نفسها ليست عقيدة ولا هي بإيديولجيا، وليس فيها نسق أو هيكل عقائدي محدد في ما يتعلق بالمسائل السماوية والروحية لكي تختلف أو تتناقض مع هذا الدين أو ذاك.

أما قضية الفصل بين الدين والدولة، فهي لا تعني الفصل بين الدين والحياة الاجتماعية في هذه الدولة، ومفهوم الدولة نفسه في هذه الفكرة يجب التعامل معه بدقة وحذر، فمصطلح دولة بحد ذاته، يمكنه أن يفهم بأكثر من شكل، فبشكله الواسع يمكن أن يعني الكيان البشري الجمعي المستقل والمنظم اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا، وبشكله الضيق يمكنه أن يعني الدولة كمؤسسة أو كجهاز سلطوي حكومي إداري، وبالمعنى الواسع لمفهوم الدولة لا يمكن أن يكون هناك فصل بينها وبين الدين، ففرنسا مثلا وهي تعتبر من أسبق وأكثر الدولة علمانية، ما يزال فيها حتى اليوم حياة دينية ناشطة مسيحية وغير مسيحية، وهذا يعني أن فصل الدين عن الدولة له معنى مؤسساتيا فقط، وهو يعني فصل الدين عن مؤسسة الدولة، وهذه حالة موسعة من القول مثلا بفصل الدين عن وزارة الصناعة أو عن وزارة الداخلية كمؤسستين.

 

عربيا تتضارب المواقف من العلمانية بشدة، وتتحكم بمعظمها العصبيات والأهواء والعواطف والغايات المغرضة، ويغيب عنها المنطق والعلم والموضوعية.

 فبالنسبة للمتطرفين الإسلاميين، ولاسيما لدعاة الإسلام السياسي المتعصب منهم، تعتبر العلمانية مذهبا كافرا فاسقا، ويعتبر كل من يطبقها أو يدعو إليها كافرا بدوره، ولذا ليس عجبا أن يردد هؤلاء مقولة "الغرب الكافر" باستمرار، ولدى أكثرية هؤلاء لا يتوقف التكفير عند الغرب وحده، بل يمتد حتى أقصى الشرق، مارّا ببلدانهم نفسها ليغدو فيها بنظرهم كل من يخالفهم الرأي أيضا كافرا.

وما يجدر التنويه إليه، هو أن الكثيرين من دعاة الإسلام السياسي يهاجمون العلمانية بعنف بالغ في حقيقة الأمر ليس من منطلق فكري أو عقائدي، بل من منطلق سياسي بشكل أساسي، أي لأنها تشكل مشروعا منافسا لمشروعهم الذي يستغلون فيه الدين للاستحواذ على السلطة، وهذا أقل ما يمكن أن يقال عنه بلغة السياسة أنه عبارة عن "انتهازية".

بالمقابل نجد عينة تعتبر نفسها علمانية لا تختلف في تعصبها عن هؤلاء التكفيريين في شيء، وهؤلاء- وإن كانوا قلة – لا يوفرون فرصة لمهاجمة الدين، والافتراء عليه بشتى الأباطيل.

كما يمكن أن نجد فئة أخرى من العلمانيين المنبهرين بالغرب، لا يميزون بين المنهجية العلمانية وبين التجربة الغربية، وفي دعوتهم "للعلمنة" هم فعلا يدعون "للغربنة"، وتكرار تجربة الغرب، ولذا تأتي معظم طروحاتهم منفصلة عن الواقع، وكأنهم يعيشون في عالم آخر.

وإضافة إلى ما تقدم نجد من يقول، بأنه ليس ثمة تعارض بين الإسلام والعلمانية، فالإسلام برأي هؤلاء هو "دين علماني"، ففي الإسلام ليس هناك نظام أو تراتبية كهنوت، والدولة الإسلامية هي من حيث المبدأ لا تقوم على "رجال دين"، وهكذا يصبح برأيهم نظام الحكم الإسلامي وكأنه الشكل العلماني الخاص بالمجتمعات الإسلامية!

هذا الكلام هو إشكالي إلى حد كبير، ووصف الإسلام بأنه "دين علماني" هو وصف مثير للكثير من الجدل، وربما من الأفضل في هذا السياق الذي يمكن أن يطول الحديث فيه الكلام عن "مدنيّة إسلامية" بدلا من الكلام عن "علمانية إسلامية".

كما يمكننا أن نجد من يعتبر العلمانية مجرد ظاهرة خاصة مرتبطة بتطور الغرب الحديث، أي يعتبرها نتاجا غربيا حصريا، وليس نتيجة تطور حضاري واجتماعي وعقلاني إنساني عام، وبهذا الشكل لا تعود العلمانية مسارا ملزما لتطور المجتمعات الأخرى، ومنها طبعا المجتمعات العربية، التي عليها أن تتطور وفق خصوصياتها الخاصة، وألا تقتبس التجربة الغربية أو تقتدي بها.

وثمة أيضا الكثيرون من ذوي التفسير المؤامراتي للتاريخ، وبنظر هؤلاء العلمانية ليست أكثر من بدعة أوجدها الأخطبوط الماسوني اليهودي الذي يتحكم بالتاريخ الغربي الحديث على الأقل، وبرأيهم الغاية منها هي ضرب الأديان والثقافات الدينية الأخرى لتخريب مجتمعاتها ودولها، وتسهيل سيطرة اليهود عليها بالتالي، وبالنسبة لهؤلاء لا تقتصر المؤامرة الماسونية على العلمانية وحدها، بل تمتد لتشمل معظم جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الغربية الحديثة، وعن طريق الغرب الذي تهيمن عليه تمد أذرعها التآمرية والتخريبية بعيدا إلى معظم مناطق العالم الحديث، وبشكل خاص إلينا كعرب ومسلمين.  

ولكن بالرغم من كل ذلك تبقى ثمة قلة ممن يقفون من العلمانية موقفا علميا نقديا موضوعيا، وبناء على هذا يبينون حسنات وسيئات التجارب العلمانية الواقعية المختلفة، وما يمكننا نحن أن نستفيده منها وأن نتجنبه فيها.

 

وبعد ذكر تلك المواقف المتناقضة أو المختلفة من العلمانية على الساحة العربية، يجدر بنا طرح السؤال عن الموقف الأفضل منها، وهل من الأجدى تجاهلها أو محاربتها أو تقليد الآخرين فيها؟!

وببعض الواقعية والعقلانية يمكننا الوصول إلى نتيجة مفادها أن كل ما تقدم خطأ، وأن الموقف الصحيح منها لا يكون لا بالتجاهل ولا بالمحاربة ولا بالتبعية، وإنما بالتعامل معها بموضوعية وعقلانية كظاهرة عالمية، وبفهمها فهما صحيحا ومعرفة ما لها وما عليها، وما يمكن لنا أن نستفيده منها.

وهذا الموقف لا يخرج عن المنهج الذي بنيت عليه الحضارة العربية الإسلامية، التي لم تغلق أبوابها بوجه نتاجات غيرها من الحضارات وترفضها كلها، ما كان ليحرمها عندها من كل الثمار الصالحة لتجربة تلك الحضارات، وهي بالمقابل لم تفتح لها أبوابها على مصراعيها وتأخذ كل ما لديها، ما كان بالتالي ليعني فقدانها لشخصيتها وخصوصيتها.

 

 

**

المقالة منشورة على

مجلة الحوار السعودية\ العدد 33 ربيع 2019

***

وأهلا وسهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت