JustPaste.it

ما هي الغنوصية؟

 

رسلان عامر

389ad1e77b216108dac7e70bc302ba1e.png

 

 

    الغنوصية (Gnosticism) مصطلح مشتق من اليونانية (gnosis) التي تعني المعرفة، وهي تسمية تدل على مجموعة من التيارات الدينوفلسفية التوفيقية، التي ظهرت في أواخر العصور القديمة، والتي شكلت إحدى صيغ التواصل الثقافي بين المسيحية الناشئة وبين الرصيد الميثوفلسفي[1] الهلنيستي، والتعاليم الدينية اليهودية، الزردشية، والعبادات الاستسرارية البابلية.

   ومن الضروري التمييز بين مصطلحي (الغنوصية) و(الغنوص: Gnosis)،  فالغنوص– أي العرفان– هو مصطلح ذو مدلول أوسع، وهو يعني بشكل عام معرفة الأسرار الروحية.

 

 - الخلفية التاريخية للغنوصية: 

ظهرت المنظومات الغنوصية خلال القرنين الميلاديين الأول والثاني واستمرت حتى القرن السادس، وانتشرت في الإمبراطورية الرومانية وبلاد فارس، وفيها كانت تتم معالجة الوقائع  والمعطيات المسيحية في إطار من الفهم الوثني الشرقي والفكر الفلسفي اليوناني؛ وقد تميزت الغنوصية عن قريباتها من الحركات الدينوفلسفية التوفيقية كالأفلاطونية الحديثة والهرمسية  باعترافها بالمعطيات المسيحية، لكنها تميزت عن المسيحية الكلاسيكية بمعالجتها وفهمها الوثني لهذه المعطيات، وبموقفها السلبي من جذور المسيحية التاريخية الكائنة في الديانة اليهودية، وبهذا الموقف تصبح الغنوصية في موقف متميز بشدة تناقضه مع الطوائف التهويدية (Judeo-Christians)  في المسيحية من جهة، ومن جهة أخرى مع القبالا- أو القبالاه- (Kabalah)، المذهب اليهودي الباطني، الذي يمثل بدوره معالجة وثنية للمعطيات الخاصة باليهودية.

ومن المهم هنا التوضيح بأن المسيحية في قرونها الأولى انقسمت بخطوطها العريضة إلى ثلاث تيارات هي:

1- التيار التهويدي أو اليهودومسيحي، وهو يضم الجماعات الأولى من أتباع يسوع، التي كانت تتكون من اليهود الذين آمنوا بأنه مسيح اليهود المنتظر، وتبعوه معتبرين أنفسهم مسيحيين ويهودا بنفس الوقت، فلم تكن رسالة المسيح بتصورهم ديانة مستقلة، بل كانت المرحلة أو الحلقة الختامية العليا، المتممة لسلسلة حلقات اليهودية، وهذه الجماعات كانت تصر على الالتزام بناموس موسى وبالتقاليد اليهودية، وكانت تعتبر يسوع مخلوقا، ومنهم من اعتبره كبير الأنبياء، بينما اعتبره غيرهم كبير المخلوقات، وهكذا دواليك؛ أما اليهود فكانوا لا يعترفون بيهودية هذه الطوائف، ويعتبرونها مجوعات ضالة تبعت يسوع الناصري، الذي كان برأيهم مسيح دعيّ دجال، وكانوا يسمونهم بـ "الناصريين" (Nazarene)، أو(notzrim) بالعبرية، لأنهم تبعوا "الناصري" الكذاب، ومن هذه التسمية جاء مصطلح "نصارى" العربي، الذي يعمّم خطأ على كل المسيحيين، لأن الشكل المهوّد هو الذي غلب على المسيحية في بلاد العرب، أما اليهود فلم يطلقوا قطّ تسمية "مسيحيين" على أتباع يسوع، فهم لم يعترفوا قطعا بمسيحيته، وكانت تسمية "مسيحيين" ستكون فيما لو أنهم استخدموها اعترافا منهم بأنه المسيح.

وكانت أشهر طوائف هذا التيار هي: النصارى، والإيبيونيين (Ebionites)، والكسائيين (Elcesaites)، والأخيرة منها دمجت التعاليم اليهودومسيحية مع عناصر غنوصية رغم التناقض الكبير بين التيارين.

  2- التيار الأرثوذكسي، أو التيار الكاثوليكي- الأرثوذكسي، الذي اعتبر المسيحية دينا مستقلا بحد ذاته، ولكنه غير منفصل عن اليهودية، التي تغدو هنا مرحلة دينية تمهيدية للمرحلة الدينية الدائمة والنهائية المتمثلة بالمسيحية، وهو تيار معظم أتباعه من أصول غير يهودية، وإليه يرجع الفضل في تطوير ثوابت اللاهوت المسيحي، كفكرة الثالوث والبنوّة الإلهية والصلب الفدائي، وما شابه، وفي إرساء التنظيم والتقليد الكنسيين.

ويعود الفضل في نشأة هذا التيار بشكل أساسي إلى القديس بولس (رسول الأمم)، الذي أعطى المسيحية شخصيتها المستقلة ونشرها على نطاق عالمي.

 وقد امتلك هذا التيار قوة السلطة، بعد جعله مذهبا رسميا للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع، مما مكنه من القضاء على كل من اليهودومسيحيين والغنوصيين الذين كانوا بنظر أتباعه يعتبرون هراطقة فاسدي العقيدة.

وهذا التيار هو الذي استمر تاريخيا، وغدا عالميا، وهو اليوم يتفرع إلى الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت.

 

3- التيار الغنوصي الذي يقوم على رفض اليهودية بشكل كامل، ويعتبرها ديانة شيطانية باطلة، ويطابق بين إلهها يهوه وإله العالم السفلي ديميورغ، فقد كانت الغنوصية تقسم الكون إلى عالمين هما:

- البليروما (Pleroma)، وهي العالم الأعلى، وهو عالم روحاني كامل، خالٍ من الشر، ومؤلف من هرمية أرواح نقية يسمى كلا منهم إيونا (Aeon)، وقد صدرت هذه الإيونات بطريق الفيض المتسلسل عن الإله الآب الذي يشكل أصل ومركز البليروما وقمة هرمها، وكلمة بليروما تعني بالإغريقية" التمام أو الكمال".

- والكينوما (kenoma)، وهي العالم السفلي، وهو عالم مادي ناقص شرير، وقد خلقه الإله الأدنى "ديميورغ"(Demiurge) أو "الأرخون" (Archon) على شاكلة البليروما، ووضع نفسه فيه في مكانة كمكانة "الآب" في البليروما، وادّعى الألوهية المطلقة، وخلق لنفسه أتباعا هم الأرخونات الأدنى، وعبيدا هم البشر، وهذا الإله يشكل قطب أو أساس الشر في الغنوصية، التي تطابق بينه وبين يهوه إله العهد القديم اليهودي؛ أما كلمة كينوما فتعني بالإغريقية "الفراغ".

وفي الغنوصية تتطابق صورة الأرخونات الأشرار في العديد من المدارس مع صورة الشياطين في المسيحية التقليدية، فالأرخون الأعلى "ديميورغ" فيها يقابل كبير الشياطين (Satan) في المسيحية، فيما يقابل الأرخونات الأعوان بقية الشياطين.

 وهكذا نرى الخلاف الكبير بين هذا التيار والتيار الأرثوذكسي، والتناقض التام بينه وبين التيار اليهودومسيحي.

وقد استمر هذا التيار لاحقا وانتشر خارج الامبراطورية الرومانية والبيزنطية، فلعب دورا في تشكيل الديانتين المانوية والمندائية في الامبراطورية الفارسية، كما لعب بشكل غير مباشر دورا في نشأة الطوائف الباطنية والطرائق الصوفية الإسلامية، وفي نشأة الطوائف المسيحية الباطنية الأوروبية في القرون الوسطى مثل طائفة البوغوميليين (Bogomilism) أي "أحباب الله" بالسلافية، وطائفة الكثاريين (Catharism) أي"الطاهرين" بالإغريقية، وامتد أثره إلى الحركات الدينية الاستسرارية الأوروبية الأحدث كحركة الصليب الوردي (Rosicrucianism) والثيوصوفيا (Theosophy)، أي "الحكمة الإلهية"، والأنثروبوصوفيا (Theosophy)، أي "الحكمة الإنسانية"، ومؤخرا ظهرت جماعات في غرب أوربا وأمريكا في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين تعلن بصراحة أنها غنوصية.

 

 - الغنوصية والعقائد المشابهة:

لقد لعبت العوامل الدينية والفلسفية المتواجدة أدوارا مختلفة في تشكيل المنظومات الغنوصية، إلا أن العمل الفكري الخاص لمؤسسي وناشري هذه المنظومات والمدارس أدخل أفكارا أصيلة جديدة أثرت فيها بقوى مختلفة، لكن معالجة هذا الموضوع بالتفصيل بالغة الصعوبة، فالكتابات الغنوصية المتوفرة لدينا عن المنظومات والمدارس والشخصيات الغنوصية هي فقط مجموعة غير كبيرة من المقاطع الواردة في كتب خصوم يسعون إلى تفنيدها ودحضها، وهذا ما يترك مجالا كبيرا للفرضيات المختلفة، وهذه واحدة منها تستحق الذكر:

اعتبر بعض علماء ومستشرقي القرن العشرين، كالمستشرق إ.إ. سميث الغنوصية ذات صلة وثيقة بالبوذية، ومن الحقائق التي ارتكز عليها:

- أنه ومنذ فتوحات الإسكندر المقدوني غدت آسيا الصغرى، وعن طريقها كل العالم اليوناني الروماني، عرضة لتأثير الهند التي لم تعد عالما خفيا بالنسبة لهذا العالم.

-  أنّ البوذية هي آخر إبداعات الحكمة الشرقية الكبرى، والتي ما تزال حتى اليوم الديانة الشرقية الأكثر حيوية وتأثيرا.

لكن من ناحية أخرى، الجذور التاريخية للبوذية نفسها ما تزال بعيدة عن متناول العلم، وليس عبثا أن كثيرا من العلماء يرون فيها ردة فعل دينية من جانب السكان الدرافيديين (Dravidians) سمر البشرة، الذين سكنوا الهند قبل الآريين(Aryans)، والصلة الأنطولوجية بين هذه القبائل الهندية والسلالات الحضارية التي استوطنت وادي النيل القديم أكثر من محتملة، مما يعني وجود أرضية قبائلية مشتركة، كان لابد أن تنشأ عنها خلفية دينية مشتركة، تشكلت عليها في الهند بفضل التفاعل مع الآريين منظومة متناسقة متماسكة كالبوذية، التي لم يقتصر تأثيرها على الهند وحسب؛ وهكذا، يمكن إرجاع العناصر المنسوبة افتراضيا لتأثير البوذيين الهنود في الغنوصية إلى تأثير أقرب من قبل أقربائهم الإفريقيين، ولاسيما أن ريعان الغنوصية وازدهارها حدث في مصر بالذات.

لكن إذا كانت الصلة التاريخية الخارجية الخاصة بين الغنوصية والبوذية أمرا مشكوكا فيه، فمضمون هاتين العقيدتين يدل على أصولهما المختلفة، فإضافة إلى العناصر الدينية المختلفة الغريبة عن البوذية، ضمت الغنوصية قدرا من النتائج الإيجابية للفلسفة اليونانية، وهي في هذه الناحية تتموضع في درجة فكرية عقلانية أعلى من البوذية، فعلى سبيل المثال، يتم تعريف الوجود المطلق في البوذية سلبيا بالنيرفانا، وهي حالة الانعتاق والغبطة التامة التجاوزية،التي  يتلاشى فيها الشعور بالـ"أنا" المنفصلة والإحساس بالألم والشهوة، بينما في الغنوصية يعرف الوجود المطلق إيجابيا بالتمام أو الملء ( أي البليروما).

لكن من الناحية الأخلاقية، العكس هو الصحيح، فالخلاص في البوذية متاح وممكن لكل المخلوقات، وكل إنسان يستطيع تحقيق الاستنارة وبلوغ النيرفانا إن هو اتبع تعاليم بوذا، إلا أنّ هذا غير ممكن في الغنوصية.

فالمدارس الغنوصية تقسم الناس عموما إلى ثلاثة فئات فطرية، وهي الروحانيين (Pneumatics)، والنفسانيين (Psychics)، والجسدانيين (Hylics)، ويعتبر الروحانيون ذوي منشأ بليرومي، ولذا فهم يعودون إلى البليروما بعد تحقيقهم الخلاص عبر الحصول على العرفان أو المعرفة المقدسة (gnosis)، ويَعتبر الغنوصيين أنفسهم من هذه الفئة، أما الفئة الثانية، النفسانية، فهي ليست روحانية بطبيعتها، ولا يمكنها دخول البليروما، لكن الصالحين منها، الذين يحصلون على الإيمان الحقيقي ويعملون وفقا له، لا يهلكون في نهاية العالم، بل يحيون في نعيم خاص بهم خارج البليروما؛ ينما الجسدانيون لا سبيل لخلاصهم، وهم يفنون في النهاية مع النفسانيين الفاسدين ومع العالم المادي ككل.

 أما ديميورغ نفسه، فقد اختلف فيه الغنوصيون بين من يراه شريرا بطبعه ولذا فهو سيفنى في نهاية العالم، وبين من يراه طيبا بطبيعته كالمدرسة الفالنتينية الشهيرة، ولكنه يفعل الشر لأنه كائن ناقص، وهو لا يتعمّد فعل هذا الشر ولا يتقصده، بل يفعله عن جهل، ولذا فهو والنفسانيون الصالحون سينجون عند نهاية العالم، وسيكون لهم نعيمهم غير الأرضي وغير السماوي تحت المستوى البليرومي، وهذا التصنيف الثلاثي للناس هو قطعي في الغنوصية، والشخص لا يمكنه أن يختار فئته، ولا يستطيع تغييرها، فهي طبيعة جوهرية فيه، وخير كل شخص يتحقق بمعرفة هويته والالتزام بهذه الهوية، وهذه المعرفة بالطبع غير ممكنة للنفساني الفاسد والجسداني.

 

     لكن صلة لا شك فيها مع الغنوصية تمتلكها ديانة المندائيين (Mandaeism أو Mandeanism)، وهي ديانة استسرارية باطنية، ضئيلة الاتنشار، ما يزال لها بعض الأتباع  في جنوب العراق حتى اليوم، وتمتلك كتبها ذات المنشأ القديم، وتعود جذورها الأولية إلى ما قبل المسيحية بقليل، ولها علاقة غير مفهومة مع دعوة يوحنا المعمدان، لكن المضمون العقائدي للكتب المندائية يجعلنا نرى في هذه الديانة نموذجا أوليا للغنوصية، فكلمة ماندا (Manda) نفسها  تعني بالكلدانية – لغة المندائيين الأصلية– نفس ما تعنيه كلمة (Gnosis) باليونانية: "المعرفة".

وقد أخذت المندائية بالتبلور والتطور بين القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وهي تؤمن بأن يوحنا المعمدان هو المسيح، وأن تابعه يسوع كان مكلفا بمتابعة نشر رسالة المعمدان بعد إعدامه، لكنه خانه وادعى أنه هو المسيح، وهو بالتالي مسيح كاذب، ولذا يطلق البعض على هذه الطائفة تسمية "مسيحي يوحنا المعمدان".

 

     السمات الأساسية للغنوصية :

  هذه الحركة الدينية تحمل في أساسها مصالحة واتحادا ظاهريا بين الألوهة والعالم، الوجود المطلق والوجود النسبي، اللانهائي والنهائي؛ وهي ديانة خلاص ظاهري، وعقيدتها تتميز بشكل بارز عن الحكمة ما قبل المسيحية باحتوائها على فكرة السيرورة الكونية التامة الموحدة المحددة،  لكن مجرى هذه السيرورة أو العملية في جميع المنظومات الغنوصية لا يمتلك محتوى إيجابيا، فهو يؤدي في حقيقة الأمر إلى أن كل شيء باق في مكانه، وأنه لن يجني أحد شيئا، فحياة العالم قائمة على اختلاط فوضوي لعناصر مختلفة وحسب، ومغزى هذه السيرورة أو العملية يتلخص فقط في تفريق هذه العناصر، وعودة كل عنصر إلى مكانه أو مستواه؛ فالعالم لن ينال الخلاص، يخلص، أي يرجع، إلى عالم الوجود الإلهي المطلق العنصر الروحي وحده، وهذا العنصر يختص به بعض الناس الروحانيون (النيوماتيكيون)، الذين من الأساس ينتمون بطبيعتهم إلى العالم الإلهي الأعلى، وهذا العنصر يعود إلى مستواه الأعلى سليما  كاملا، لكن بدون أية إنجازات أو مكاسب من التواجد في العالم المادي الأدنى (الكينوما (، فلا شيء يصعد أو يرتقي من العالم السفلي، ولا شيء مظلم يستنير، والناس الجسدانيون (الهيولانيون)، والنفسانيون (البسيكيون) لن يصبحوا روحانيين ولن يدخلوا البليروما.

     تواجدت عند فالنتين (Valentinus)[3] العبقري الغنوصي الأكبر إرهاصات رؤية أفضل، لكنها بقيت دون تطوير ولم تتمكن من ترك أثرها على الشكل العام للمنظومة العقائدية.

أما فاسيليد (Basilides)[4] ذو العقل الفلسفي الأصفى بين الغنوصيين، فقد كان يؤيد فكرة أن سعي الإنسان إلى إعلاء وتوسيع مستوى وجوده هو سبب الشر والفوضى وحسب، أما غاية السيرورة العالمية والخير الحقيقي لجميع الكائنات، فيتلخص في أن يعرف كل واحد نفسه ومستوى وجوده بشكل حصري، وبدون أي تدخل في أي شيء أعلى أو سعي لفهمه.

   بهذا التحديد الأساسي المحدود للغنوصية تتصل منطقيا بقية الخصائص الأساسية لهذه العقيدة، وبشكل عام، الأفكار الغنوصية، بغض النظر عن غشائها الواقعي، أو الميثولوجي، هي ثمرة فكر تحليلي أكثر منه تركيبيا، فالغنوصيون يفرقون أو يبقون متفرقا ما هو في المسيحية واحدا أو موحدا، وهكذا تتحلل عند الغنوصيين فكرة الثالوث ذي الجوهر الواحد القائمة في المسيحية التقليدية إلى مجموعة من الأقانيم[17]  التجريدية المتمثلة في الإيونات، التي تعزى إلى كل منها علاقة متفاوتة مع البداية المطلقة.

 وهذه البداية المطلقة نفسها، وهي الجوهر الأول والأوحد الذي نشأ عنه كل الوجود، والمعادل لفكرة "الله" في التوحيد التقليدي، أو "المادة" في الفكر المادي، تمتلك صورا وتسميات مختلفة في المدارس الغنوصية المختلفة، فهي: "العمق" أو "الغور اللانهائي" أو "الفوضى البدئية" (Bythos) في منظومة فالنتين، وهي البذرة الكلية (panspermia)، التي ليست بحد ذاتها "شيئا ما" (ouk ónta)، غير القابلة للوصف والتي يمكن تعريفها فقط عن طرق السلب عند فاسيليد، وهي باربيلو (Barbelo) "الأم - الأب"، و"الإنسان الأول"، و"الاسم الثلاثي المزوج الجنس"، و"الأيون الخالد" عند طائفة الشيثيين- الباربيلويين (Sethite-Barbeloites)، وهكذا دواليك...

 

    تنفي المنظومات الغنوصية جذر التواصل بين الوجود المطلق والنسبي بحد ذاته، حيث تفصل بهوة لا يمكن عبورها الألوهية العليا عن خالق سماوات وأرض العالم المادي، فالإله الآب في الغنوصية مكانه الحصري في البليروما الطاهرة الكاملة، ولا شأن له بعالم الكينوما المادي الفاسد الذي خلقه صانع الشر ديميورغ، لكن هذا الآب الرحيم، رحمةً بالناس في الكينوما يرسل الرسل المخلّصين على غرار يسوع، الذين يحملون المعرفة المقدسة لتنوير وتحرير الناس من عبودية ديميورغ الذي يستجهلهم ويستغل جهلهم.

 

 إن فصل أو تفرقة بداية العالم يطابقه فصل المخلّص، والغنوصية لا تعترف بالإنسان الإلهي الحقيقي الواحد (Theoantropos)، الذي يوحد في ذاته كلية الوجود المطلق والنسبي، وهي تسمح فقط بالإله المتمظهر إنسانا، وبالإنسان المتمظهر إلها.

وهذه التعاليم عن الإنسان الإلهي الظاهري، والظاهرية (Docetism)، هي تعاليم انتشرت بشكل واسع لدى الغنوصيين وترى أن المسيح لم يمتلك جسدا بشريا ماديا فعليا، بل امتلك  وحسب صورة بشرية ظاهرية محض، وقد ذهب مفكرون غنوصيون أيضا للقول بأن المادة كلها وهم، وبالتالي فكل العالم المادي أو الأرضي هو عالم وهمي، وهذه "الظاهرية" أو "الدوكيتية" هي صفة مميزة لكل من الكريستولوجيا (Christology) (المبحث اللاهوتي في المسيح) والثيولوجيا (Theology) الغنوصية، ويتم فيها الفصل بين الإله الأعلى وخالق العالم، ففي الغنوصية خالق العالم، أي العالم المادي السفلي هو الإله الناقص ديميورغ، أما الإله الأعلى فهو فقط مكوِّن البليروما الروحانية الكاملة عن طريق الفيض.

وبما أن المخلّص ظاهري فالخلاص أيضا ظاهري، والعالم لن يكسب شيئا من مجيء المسيح، وليس هذا فحسب، بل على العكس، فالعالم سيخسر تلك البذرة الروحانية التي سقطت فيه صدفة، والتي ستنتزع منه بعد ظهور المسيح.

 

إن الغنوصية لا تعرف فكرة "سماء جديدة وأرض جديدة" (رؤيا 21: 1-8) كما تفعل المسيحية التقليدية في تصورها للملكوت الإلهي الأبدي، الذي سيحيا فيه الأخيار الصالحون بعد يوم القيامة والدينونة، فبفصل العنصر الروحاني الأعلى عن العالم، سيبقى العالم ويثبت في محدوديته وانفصاله عن الله، ومع نفيها لوحدة الله والمسيح، لا يعود مستغربا أن تنفي الغنوصية أيضا وحدة البشر، وأن تقول بجنس بشري يتألف من ثلاث طبقات، منفصلة بطبيعتها بالطبع، أي الناس الماديون، الذين سيموتون مع الشياطين في نهاية السيرورة العالمية، والناس النفسانيون، وهم الصديقون الذين سيكونون إلى الأبد في سعادة لاأرضية تحت سلطة ديميورغ اللابصير المحدود، والروحانيون أو الغنوصيون الذين سيعودون إلى مستوى الوجود المطلق، ولكن حتى هؤلاء المختارون المتميزون بطبيعتهم لن يكسبوا شيئا من عملية الخلاص هذه، لأنهم سيدخلون البليروما الإلهية ليس بكامل كيانهم الإنساني ذي النفس والجسد، بل فقط بعنصرهم الروحاني النيوماتيكي، الذي ينتمي أساسا إلى المستوى الأعلى.

 

*

   الهوامش:

[1]- mythophilosophical: هو ما يجمع بين الأسطورة والفلسفة.

[2]- فالنتين الغنوصي: هو أشهر المعلمين الغنوصيين في القرن الثاني، ولد في دلتا النيل، وتعلم وأصبح معلما في الاسكندرية، وكاد يصبح أسقفا لكنيسة روما، وقد أسس مدرسة حملت اسمه، وانتشر أتباعها في العديد من مناطق الشرق والغرب القديمين، وترك الكثير من الأعمال المكتوبة المتنوعة، لكن لم يصلنا منها إلا أقل القليل.

[3]- فاسيليد، أو باسيليد، هو الآخر معلم غنوصي واسع الشهرة، ولد في سوريا في القرن الثاني، وتتلمذ في إنطاكية، ثم انتقل إلى الإسكندرية، وتابع فيها تعليمه حتى أصبح بدوره معلما كبيرا، ويـُعتقد بأن فالنتين تعلم بدرجة ما على يد فاسيليد، وفي مرحلة متقدمة من عمره انتقل فاسيليد إلى بلاد فارس لينشر فيها تعاليمه.

[4]- مصطلح أقنوم هو مقابل سرياني لـ مفهوم (hypostasis) الإغريقي، الذي يعني لغويا "جوهر"، ويدل فلسفيا على الحقيقة أو الواقع الضمني الكامن وراء الظواهر، أما في اللاهوت المسيحي فكل شخص من شخصيات الثالوث هو أقنوم.

 

  المراجع:

  • موسوعة ويكيبيديا الروسية والإنكليزية
  • الموسوعة البريطانية الإلكترونية
  • آلاّ إيفانوفنا ييلانسكايا، أقوال الآباء المصريين، دار تشرنيشيفا، بطرسبرغ، 1993.
  • إ.س. سفينستسكايا، م. ك. ترافيموفا، أبوكريفات المسيحيين القدماء، دار ميسيل، موسكو، 1989.
  • إ.س. سفينستسكايا، الكتابات السرية للمسيحيين الأوائل،دار الأدب السياسي، موسكو، 1980.
  • يوري نيكولاييف، البحث عن الألوهة، دار صوفيا، كييف، 1995.

 

 

***

هذا البحث منشور في :

مجلة "المعرفة" السورية

العدد 552

كانون الثاني -2018

وعلى :

مدونة الكاتب على بلوغر

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت