JustPaste.it

مفهوم الخير بين الاستلاب الغيبي والقيم الإنسانية

رسلان عامر

*

file1.jpeg

فكرة الخير، هي فكرة إشكالية، وهي تختلف في مفهومها باختلاف طبيعة الفكر ومرجعيته عند الأشخاص المختلفين، فهي ذات معنى ومغزى عقلاني إنساني تام بالنسبة للإنسان الإنساني، الذي يتخذ من العقل حـَكـَما، ومن الخير الإنساني مبدأ وغاية في فهمه ومفهومه لفكرة الخير، فتكون مرجعية فكرة الخير ومنطلقها عند هذا الإنسان  قائمة على العقل والمنطق، وموجهة معياريا وقيميا بالأخلاق الإنسانية المرتبطة والهادفة غائيا لتحقيق خير الإنسان، بمفهوم "الإنسان" غير المشروط ؛ لكنها عند الإنسان الإيماني أو المتدين تتخذ معنى ومغزى يحدده النسق الإيماني الذي يتبعه هذا المؤمن، وهي هنا قد تكون عقيدة دينية مؤطرة في حدود تقاليد مبنية على "نص مقدس" و"نقل مسلـّم به"، أو إيديولوجيا سياسية أو فلسفية تحل محل "المرجع المقدس" وتلعب دوره، وكأنها بدورها تتحول إلى ما يشبه الدين في موقفها السالب للعقل الفاعل الناقد، رغم أنها لا تقدم نفسها بأي شكل من الأشكال كشكل من أشكال الدين.

في الحالة الأولى، المرجعية التي تقوم عليها فكرة الخير هي مرجعية داخلية تفاعلية مفتوحة، وهي تنمي إلى الإنسان الذي يقيمها ويقيـّمها بناء على إنسانيته عقلا وضميرا، أما في الحالة الثانية، فالإنسان غائب وإنسانيته غائبة معه في الموقف من فكرة الخير، فالمرجعية خارجية، إنها دينيا في السماء، مرتبطة بكائن فوق إنساني، وهي مفروضة على الإنسان على مبدأ الطاعة، الذي يضع الإنسان في موقع الانفعال المحض إزائها، وهذا الحال يكاد لا يختلف في حال الإيديولوجيات الوضعية الشمولية، التي غالبا ما تقوم على فكرة عبادة الفرد وتأليه الزعيم.

إن المفاعيل المرتبطة بفكرة الخير، يمكنها أن تختلف اختلافا جذريا يمكن أن يبلغ درجة التناقض بين هاتين الحالتين، ففي الحالة التي يقوم فيها الخير على أسس العقل والصالح الإنسانيين، يصبح الخير بحد ذاته فكرة لها كيانها الخاص، وهي فكرة مرتبطة بشكل جوهري مع فكرة "الإنسانية"، بحيث تصبح كلتا الفكرتين رديفتين لبعضهما البعض، وبالتالي فكل موقف أو فعل يربط ويقيّم ويحكم عليه وفقا لانعكاسه الإنساني ومدى موافقته لخير الإنسان، والإنسان هنا هو الإنسان بالمطلق، وهويته إنسانية محضة، وهي لا ترتبط أو تحدد بجنس أو دين أو طائفة أو قوم أو عرق أو طبقة أو مهنة أو رأي، وهلم جرى، فكل ما يمكنه أن يؤذي أي إنسان أيا كان هو شر، إلا إذا كانت الغاية منه درء فعل عدواني متجرد من الإنسانية من قبل جهة ما! وقياسا على ذلك فكل ما ينسجم مع الصالح الإنساني العام، هو حكما خير، بغض النظر عن شخصية فاعله ومتلقيه وهويتيهما (أو هوياتهما).

هذا الموقف، لا يفرق بين إنسان و إنسان، ولا يلغي الآخر من نطاق الخير، وفي حقيقة الأمر هو تجاوز لمفهوم الآخر، فعند الانطلاق من مبدأ الإنسان والتركيز عليه يكون هناك إنسان وحسب، وليس ثمة "إنسان" و"إنسان آخر"، فالهوية الإنسانية جامعة ولا معنى فيها لمفهوم الآخر، وعندما يتخذ الخير مبدأ وبعدا إنسانيا محضا، فهو عندها يكون "خيرا للجميع"، ولكل إنسان بلا استثناء.

لكن فكرة الآخر موجودة على مستوى الدين والطائفة والعرق والقومية، والطبقة والمهنة، والعقيدة وهلم جرى، وهنا تنشأ علاقة بين الذات والآخر، وهذه العلاقة هي التي تحدد مفهوم الخير وانعكاسه على الآخر.

في الأنساق العقائدية المغلقة، الدينية والوضعية منها، تتعرض فكرة الإنسانية لشكلين من أشكال الاستلاب:

أولهما: هو استلاب الهوية، فالشخص في هذه العقائد يحدد هويته العليا ليس كإنسان محض، بل وفقا لمذهبه العقائدي أو لواقعه الانتمائي، فهو مثلا مسلم، أو مسيحي أو هندوسي، عربي أو هندي أو أمريكي، كادح أو برجوازي، شيوعي أو ليبرالي، وإلخ.. وكل من هذه الهويات لها الأولوية على إنسانية الإنسان، فكل منها تجعل كلا من صاحبها وأصحاب سواها أغيار وآخرين بالنسبة لبعضهم البعض؛ وهنا قد تثير فكرة اعتبار القومية أو الطبقة وما شابه نسقا عقائديا مغلقا اعتراضا، وهذا مبرر طبعا كونها لا تتمتع بمنظومة عقائدية محددة على غرار المذهب الديني أو الحزب السياسي، ولكن مع ذلك فهي في شكلها التقليدي تشبهما في وجود حالة شعور انتمائي إلى القوم أو الطبقة وما شابه، مترافق عادة بإحساس بالتمايز عن الغير، وبامتلاك مجموعة من التقاليد الفكرية والعقائدية والسلوكية وأمثالها، التي تربتط ارتباطا جذريا بهذا الانتماء، الذي يكون فيه الفرد عادة في موقع الخاضع والمنفعل لما هو سائد في الجماعة المنتمى إليها، ويضاف إلى ذلك القابلية التامة لهذه الانتماءات للتسييس أو التنظيم، والتحول إلى حركات سياسية أو اجتماعية منظمة.

ثانيهما: هو استلاب المرجعية، ففي هذه الأنساق، عادة ما تكون مرجعية الحقائق المعترف والملتزم بها من قبل المنتمي للنسق خارجية، فهي إما رسالة مقدسة منزلة، أو شخصية كاريزمية بشرية معظمة مبجلة، أو تقاليد جمعية تاريخية راسخة، وفي كل من هذه الحالات، يشعر المنتمي إزاء هذا المرجع المتعالي (مقدس، كاريزما، عرف...)  المرفوع عن مستوى البشر العاديين باضمحلال وتلاشي شخصيته، ويتموقع في موقع التبعية التامة له؛ وفكرة الخير هنا لا تبنى بفاعلية بأدوات العقل وعلى أساس الخير الإنساني، فهذه الفكرة تـُتلقى انفعاليا، وأساس الخير فيها هو الإيمان بصدورها عن شخصية مقدسة سماوية أو شخصية إنسانية عظمى أو بوجودها كتقليد جماعي متواتر، وهنا لا محل للإرادة والقناعة الذاتيين، بل من حيث المبدأ، لا محل للذات نفسها، لأن المنتمي هنا يتحول إلى مجرد موضوع لإرادة الفاعل المرجعي الخارجي، الذي قد يكون إلها سماويا، أو إنسانا معظما، أو جماعة أمّا!

هذان الاستلابان متكاملان في جدلية الهوية والمرجعية و تأثيرها التفاعلي المتبادل، وهما في المحصلة، عبر تغريبهما أو تهميشهما لفكرة الإنسانية، يقودان إلى تغريب وتهميش فكرة الخير الإنساني، وإلى الفصل بين مفهومي الخير والإنسان!

وهكذا يتخذ الخير صورة متماهية مع المرجعية الغير إنسانية، ويخص مبدئيا الهوية الغير إنسانية؛ فعلى سبيل المثال، الخير بالنسبة لليهودي النموذجي يتطابق مرجعيا مع "الديانة اليهودية"، التي شرعها الإله "يهوه"، وهو يخص "اليهود" وحدهم، ليس بصفتهم بشرا، بل بصفتهم أتباع يهوه و شعبه المختار، ونحن هنا لا نجد أي أساس عقلاني أو أخلاقي تقوم عليه فكرة الخير اليهودية، فالخير هو إرادة  يهوه لأنه وحسب إرادة يهوه، الإله الذي كان إلها خاصا بمدينة أورشليم في مرحلة الواحدية الإلهية (henotheism) من تاريخها الديني، ثم رفع إلى مرتبة التوحيد الديني (monotheism) في مرحلة لاحقة، ولكنه مع ذلك بقي ربا قوميا خاصا.

في فكرة الخير اليهودية هذه، التي يغيب عنها المفهوم الإنساني، نجد أن هذا الخير العنصري لا يتناقض بتاتا مع إبادة الآخرين بالكامل، فالآخرين هم مجرد "غوييم" (goyim)، وهم نجسون، وهم أحط من البهائم، ولا مانع عند يهوه وشعبه المختار من إبادتهم، وتطهير أرض الميعاد منهم، وهذا ما نقرؤه في مواضع عديدة من أسفار العهد القديم، منها على سبيل المثال في العبارة 13 من الإصحاح الرابع من سفر ميخا: (قومي ودوسي يا بنت صهيون، لأني أجعل قرنك حديدا، وأظلافك أجعلها نحاسا، فتسحقين شعوبا كثيرين)، وهذه السياسة ما تزال مستمرة لدى الصهاينة حتى اليوم!

هذه الحالة من التطرف العنصري ليست حكرا على اليهودية، وليست حالة دينية محض، فدينيا، لم يكن سلوك كنيسة القرون الوسطى أفضل، فالخير بالنسبة لها كان كانت مرجعيته محصورة في الكتاب المقدس واللاهوت الآبائي و في إطار فهمها الخاص لهما حينها، ومقصورا على الكنيسة ورعاياها، أما الآخرون، فهم هراطقة أو وثنيون أو كفار، ولا مانع حتى من إبادتهم إن اقتضت الحاجة كما حدث مع طائفة الكاثاريين وسواها، و مثل هذا الحال نجده اليوم عند الحركات التكفيرية في الإسلام، فالخير بمفهوم داعش مثلا يتماهى مع فهمها الخاص للإسلام ويخص من يتبع مذهبها فيه، أما الآخرين فهم كفار يحل قتلهم وسبيهم وتشريدهم وهلم جرى!

وخارج إطار الدين، نجد حالات مشابهة في العنصريات الوضعية، فبالنسبة للنازي الألماني، كان الخير متماهيا مع الهوية الألمانية والفكر النازي ، فـ "ألمانيا فوق الجميع"، ولم يكن من المناقض لهذا الخير ممارسة أقصى درجات العنف ضد الآخرين، ومثل هذه الحالة نجدها عند الطورانيين الأتراك، الذي توافق وترافق فهمهم العنصري للخير مع مذابح دموية بحق الأرمن والسريان وغيرهم، وحتى الشيوعية لم تسلم بدورها من مثل هذه العنصرية في العديد من الحالات، فرغم طابعها الأممي، فقد مركزت مفهومها للخير حول الفكر الاشتراكي الماركسي، وربطته بالإنسان الاشتراكي، وأسقطت بدرجة أو بأخرى فكرة الخير عن البرجوازي والارستقراطي والليبرالي والمتدين وسواهم، وقد تسبب التطرف في هذا المنحى في القضاء على الملايين في عهد ستالين وأيام الثورة الثقافية في الصين، وعلى يد الخمير الحمر في كمبوديا، وغيرها...

إن اقتران فكرة الخير بإيمان غيبي تؤسس عليه هوية عنصرية، تكون حصيلته عادة عنصرة مفهوم الخير وإفراغه كليا أو جزئيا من محتواه الإنساني، وحجبه بنفس الدرجة عن الغير؛ أما التسامح في الأنساق العقائدية المغلقة و الهويات الفئوية عندما يتواجد، فيكون مقرونا بمساحة الهامش الإنساني الذي تتيحه على محيط دائرة الخير المغلقة الخاصة بها، وهذه المساحة تضييق طردا مع نمو حالة التعصب، ومع وصوله إلى درجات متفاقمة يتلاشى هذا الهامش، ويصل المتعصب إلى حالة شيطنة الآخر، فبالنسبة للمتعصب، الآخر دينيا هو كافر، وسياسيا هو خائن، وأخلاقيا هو فاسق، وهو عدو للحق والحقيقة، ومجسـِّد للشر وعدو للخير، ولذا لا مانع من التعامل معه بكافة وأقصى أشكال العنف، ولكن لو تأملنا قليلا في هذه الحالة التي يشيطن فيه المتعصب الآخر على أساس عنصري، سنجد أنه في حقيقة الأمر يشيطن نفسه بالمعنى الإنساني، ويتبنى معيارية باطلة بالسة للخير، وليست فقط مفرغة من الجوهر الإنساني بل ومعادية له.

المتعصب العنصري، هو في جوهره لا يختلف عن عابد الأصنام، الذي كان يتقرب من ربه بالضحايا البشرية كعبدة مولوخ مثلا، فهذا المتعصب يضحي بالإنسان والإنسانية على مذبح صنمه، وهذا ما كان يفعله عرب ما قبل الإسلام الذين جعلوا من شرفهم الذكوري الجاهلي صنما تنحر بناتهم قربانا له في تقليد الوأد، و في مثل هذا الجو العنصري اللاغي للإنسانية و الإنسان، لا يعود غريبا مثلا ألا يرى متعصب مسلم في ديانة سلام وتسامح كالبوذية إلا ديانة وثنية، وفي عقيدة محبة كالمسيحية إلا ديانة ضالة، وفي نظرية عدالة ومساواة كالشيوعية إلا مذهبا كافرا، وفي نظام حضاري كالليبرالية إلا مسلكا فاسقا؛ ولكن هذا المسلم المتعصب ومعه المسلم غير المتعصب يغدوان بدورهما هدفا لهذه الرؤى التي تغيب عنها  العوامل الإنسانية، فالنسبة للمتطرف الغربي، الإسلام كله، بكل تاريخه وكل حضارته ونوابغه وكل المنتمين إليه هو تخلف وتطرف وإرهاب، وكما يعجز المتعصب المسلم عن رؤية عناصر الخير والحق والجمال لدى الآخرين، فالمتعصب الغربي، وأي متعصب آخر يفعل الشيء نفسه في علاقته مع سواه، فالمتعصب الشيوعي بدوره، لا يرى كل ما في الأديان من قيم و مثل ورموز ومعان إنسانية، فهي بالنسبة له ليست إلا "أفيونا للشعوب"، وبالنسبة له أيضا تفقد كل الفلسفة المثالية كل قيمها وإيجابياتها وتغدو مجرد "ثمار فاسدة على شجرة المعرفة"، وهذا الغياب الإنساني هو ديدن المتعصبين، المغيبين للعقل، جميعهم في كل زمان ومكان.

إن الخير الباطل، الذي تتبناه الذهنية العنصرية اللاعقلانية، هو أشد سوءا من الشر الموعى السافر، والخير الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون خيرا إنسانيا عقلانيا عالميا، وهذا المفهوم للخير لا يمكن إدراكه بوجود أرضية من الإيمان الغيبي بأية عقيدة دينية أو وضعية، فبدون تحرر العقل وجعله المرجعية العليا على أساس أخلاقي إنساني عند الإنسان، ستبقى إنسانية الإنسانة مستلبة مفقودة، وسيبقى الخير الإنساني ضائعا ومعياريته ممسوخة مشوهة، ويبقى الإنسان ضحية لشرور أوهامه، التي تصور له الباطل حقا و الشر خيرا، وتدفعه في دياميس الأبالسة واهما أنه يمضي قدما في سبيل الله.

 

*

سوريا- السويداء\ 13-9-2017

*

هذه المقالة منشورة أيضا على مجلة "ذوات -The What"

http://magazine.mominoun.com/flash/thewhat42/files/assets/basic-html/page-98.html

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت