JustPaste.it

لا أنتمي إلى المسيحية كمتدين، ولكن المسيحية تنتمي إلي كإنسان

رسلان عامر

*

fe8838ad1a58e8bf2e1af18f3be03dcb.jpg

أن تحتفل بعيد الميلاد وألا تكون مسيحيا بالمعنى التقليدي للمسيحية، يطرح بعض الأسئلة ويثير الاستغراب، لاسيما في البيئات ذات التدين التقليدي، حيث تنحصر مثل هذه الاحتفالات في أطرها الدينية الضيقة، وحيث تتخذ المواقف منها على نفس الأرضية الدينية، قلا تقتصر مواقف البعض على اللامعنية من عيد الميلاد، بل تتعداه إلى الهجوم عليه بحجة أنه عيد وثني، وهذا ما يفعله مثلا العديد من المسلمين وشهود يهوه وبعض العلمانيين!

 

إن الأصل الوثني لعيد الميلاد لا تنكره الكنائس، لكنه مسألة بحاجة لبعض التدقيق، وفي الحقيقة ليس هذا العيد بل تاريخ الاحتفال به هو ذو الأصل الوثني، حيث كان يحتفل في هذا اليوم بعيد ميلاد إله الشمس، الذي كانت عبادته منتشرة في الشرق القديم وفي الإمبراطورية الرومانية بأسماء مختلفة، وفي روما نفسها كان الرومان يحتفلون بعيد "ميلاد الشمس التي لا تقهر" (Dies Natalis Solis Invicti)، وفي وقت لاحق أصبح سول إنفيكتوس (Sol Invictus ) "الشمس التي لا تقهر" هو إله الشمس الرسمي للإمبراطورية الرومانية وراعي للجنود. وفي 25 ديسمبر من عام 274 م  جعل الإمبراطور الروماني أوريليان ( Aurelian) عبادته رسمية إلى جانب العبادات الرومانية التقليدية، وتاريخ هذا اليوم مرتبط بالانقلاب الشتوي، ففيه يبدأ النهار بالازياد، ولذلك يعتبر هذا اليوم أيضا عيد ميلاد الشمس وبالتالي عيد ميلاد النور !

بعد أن أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية قي روما عام 325 م، لم يعد مقبولا أن يبقى هذا العيد الوثني جماهيريا فيها، ولكن إلغاؤه لم يكن أمرا سهلا بسبب جماهيريته، لذلك قررت الكنيسة جعله عيدا مسيحيا، وبدلا من أن يكون عيد ميلاد إله الشمس جعلته الكنيسة عيد ميلاد المسيح، فالمسيح عندها هو النور، فعنه يقول الإنجيل: "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم" (يوحنا 1: 9)، وهو يقول عن نفسه : "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشى في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 8: 12)، و يقول أيضا "أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة" (يوحنا 12: 46)، كما أن كتابات آباء الكنيسة كانت ومنذ مرحلة مبكرة، تشير إلى أن المسيح هو "شمس البر" كما تنبأ النبي ملاخي"ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها،..." (ملاخي 3: 2)، ومن أبرز الكتابات التي قارنت المسيح بالشمس، كانت كتابات يوحنا فم الذهب الذي اعتبر أنّ "الشمس لا تقهر هي شمس البر وشمس العدل، أي يسوع المسيح ذاته"، أما تاريخ الميلاد الحقيقي ليسوع فهو غير معروف، وليس ثمة معطيات كافية في الأناجيل لتحديده.

هذه القصة لا تنكرها الكنائس، ولا تثير عندها أي قلق، فرمزية العيد وطبيعته هي الأهم من تاريخه أو أصله، وعيد الميلاد كنسيا هو مسيحي بالكامل، ولا أحد من المسيحيين يحتفل بهذا العيد وفي ذهنه أي تكريم أو تذكار لإله الشمس.

وبالتالي ففكرة وصم هذا العيد بالوثنية ليست أكثر من شوشرة تعصبية، ولو أن الكنيسة اختارت تاريخا آخر للاحتفال الرمزي بعيد ميلاد المسيح، لما كان بمقدور أحد أن يتسلح بهذا التاريخ ليهاجم العيد بدعوى الوثنية، لكن هذا وجده المتعصبون في تاريخ العيد الذي أعطاهم الفرصة للهجوم على المسيحية بشكل عام عبر هذا التاريخ!

 

منطقيا لو نظرنا إلى هذا العيد من وجهة نظر علمانية، فليس هناك أية مشكلة في تاريخه أو اقترانه بأصل وثني، فالوثنية- وهذا مصطلح بحد ذاته يجب التحفظ عليه، وهو مصطلح يفضل العديد من علماء التاريخ والاجتماع وعلم الأديان وما شابه الابتعاد عنه، لأنهم يدركون أن الأوثان لم تكن تعبد لذاتها، وأنها ليست أكثر من صور رمزية للآلهة التي كان يؤمن بها من يسمون بالوثنيين- هي في النهاية إرث إنساني وتمثل مرحلة طويلة من التاريخ الإنساني، وفيها من الإيجابيات أكثر بكثير مما فيها من السلبيات، وبالنسبة للعلماني ليس ثمة فرق بين الوثنية والمسيحية أو أي دين آخر من ناحية سماويتها وألوهية مصدرها، فكلها تعتبر نتاجا بشريا، والمفاضلة بينها تتم وفقا لمحتواها الإنساني، ولذلك فالعلماني ينظر نظرة احترام إلى أساطير الثقافات القديمة لما فيها من معان وعبر إنسانية، وبالنسبة له ليست الشخصيات الأسطورية اليوم أكثر من رموز جميلة، وهذا الموقف يمكن للعلماني أن يسحبه بشكل أو بآخر على الأديان الموجودة في العالم المعاصر، وأن يتعامل معها بعيدا عن مزاعمها السماوية، ودون أن يحكم عليها حكما صارما من وجهة نظر العلم أو الفلسفة النظامية ليراها "خرافات وحكايا" بعيدة عن حقائق العقل والعلم، ويمكنه أن ينظر إليها نظرة الإنسان إلى جزء كبير من تاريخه الإنساني الموضوعي، محترما ما فيها من قيم ومثل ورموز، بل ومعطيا لهذه القيم والرموز إمكانية الولوج إلى عالمه الروحي، لتسهم برمزيتها ومعنويتها بإثراء هذا العالم، وإغنائه بصور الحق والخير والجمال!

 

كثيرون اليوم من غير المسيحيين يحتفلون بعيد الميلاد، بل أن العديد من المسيحيين أنفسهم، ولاسيما الغربيين منهم يحتفلون به كعيد مدني أو اجتماعي أكثر منه عيدا دينيا! وربما يفعل البعض من هؤلاء أو أولئك ذلك بدافع الاحتفال من أجل الاحتفال والخروج من روتين الحياة، لكن كثيرون يفعلون ذلك ولديهم إحساس مدرك أو غير مدرك بقيمة هذا العيد من الناحية الرمزية الإنسانية، التي تتجاوز شكله الديني التقليدي.

 

بهذا المعنى يمكنني كعلماني، لا يربطني بالمسيحية أصل أو معتقد، أن أحتفل بعيد الميلاد انطلاقا مما تمثله رمزية شخصية المسيح من الناحية الإنسانية، ويمكنني أن أسحب هذا الموقف على غيره من المسائل المسيحية، ومنها مثلا عيد الفصح، وعقيدة المحبة، وسواها، وهذا الموقف أستطيع أن أعممه على كل ما في العالم من معتقدات وأديان، ناظرا إليها كتاريخ وتراث إنساني، ومركزا على ما فيها من محتوى إنساني!

وهنا لن يعود أي منها عقيدة أجنبية أو غريبة، ولا خرافة منافية للعقل والعلم، بل ستصبح كلها ألوانا من النتاج البشري الذي ينتمي إلي كإنسان، وستصبح جميعها معتقداتي وأساطيري وأدياني بقدر ما تنسجم مع إنسانيتي، وهذا الكلام ينطبق أيضا على الفلسفات والمدارس الفكرية والأدبية، وكل أشكال الإبداع الإنساني الأخرى، التي يصبح الدين والأسطورة جزآن منها كالفن والأدب!

عند هذه الدرجة يمكنني تخطي مستوى التسامح والتعاطف مع الآخر الذي لا يهدد إنسانيتي، والمشاركة الودية معه بصفته آخر، فهنا لا يعود الآخر آخر، بل يصبح جزءا مني في إطار شخصيتي الإنسانية الشاملة اللامحدودة، وما أقبله أو أرفضه فيه أقبله أو أرفضه على أساس إنساني محض، وبشكل محدد تماما دون التعميم على شخصيته من ناحية الدين أو الثقافة أو القوم وما شابه، تماما كما أقبل أو أرفض حيثيات شخصيتي كفرد!

وهكذا تصبح المسيحية والإسلام والبوذية وسواها من الأديان، والشيوعية والليبرالية وسواها من الأنظمة، والفلسفة المادية والمثالية والوضعية وغيرها من الفلسفات، وغير ذلك من مجالات النتاج الإنساني أجزاء تنتمي إلى الإنسانية التي أنتمي إليها كإنسان بلا حدود ولا قيود!

*

ميلاد مجيد

25‏/12‏/2017

*

هذه المقالة منشورة أيضا على

مجلة عرب تايمز

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت