JustPaste.it

بين أفخاذ النساء وفوهات المدافع

 

رسلان عامر

 

*

file1.jpeg

 

 

يروى أنه بعد سقوط فرنسا بيد الألمان في الحرب العالمية الثانية، زار هتلر ضريح نابليون وانحنى له باحترام وقال له" :عزيزي نابليون .. سامحني لأني هزمت بلدك, لكن يجب أن تعرف أن شعبك كان مشغولاً بقياس أفخاذ النساء بينما شعبي كان مشغولا بقياس فوهات المدافع والبنادق"

وبغض النظر عن مدى مصداقية هذه الرواية كحدث، فهي تعكس بشكل دقيق الواقع الاجتماعي الذي كان سائدا في المحيط الزمني للحرب العالمية الثانية في فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول المتقدمة، فالمجتمع الفرنسي كانت تهيمن عليها نزعة الترف والشهوانية، وهذا ما يمكن أن ترمز له أفخاذ النساء، فيما كانت العدوانية ونزعة السيطرة- أو "إرادة القوة" كما يسميها عالم النفس الألماني آدلر- هي المهيمنة على المجتمع الألماني، وهذا ما ترمز إليه فوهات المدافع في روايتنا تلك.

بالطبع لا مجال للمقارنة بين أفخاذ النساء وفوهات المدافع، فالمغرم بأفخاذ النساء هو ليس كائنا عدوانيا يحمل الدمار لنفسه وللآخرين كالمغرم بفوهات المدافع، لكنه أيضا ليس كائنا فاعلا بنّاء إنسانيا، فهو شخصية مستلبة لشهوانيتها واستهلاكيتها، وهو دائما معرّض للخطر الداهم من قبل  النموذج الثاني.

أما الآخر، فهو كائن فاعل، لكن فاعليته هي من النوع الهدام، والمدمِر إنسانيا، وهو في المحصلة أيضا شخصية مستلبة للعدوانية والنزعات الدنيا!

وكما نرى فكلتا الشخصيتين تمثلان حالتين حادتين من حالات التوحش والإفلاس الإنساني، وهما نتيجتا فشل ذريع للتنشئة الاجتماعية، وللنظام الاجتماعي الذي تنتميان إليه.

 ومع أنه قد مضى حوالي ثلاثة أرباع القرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية، فواقع الحال الإنساني المعاصر لم يتغير كثيرا بالاتجاه الإيجابي، إن لم نقل العكس، والإنسان المعاصر ما يزال مستلبا في حضارة مادية استهلاكية مغرقة في الشهوانية والمتعة الحسية في الدول الصناعية الغنية، وثقافة عرفية لاعقلانية تفيض بالقهر والكبت في الدول المتخلفة الفقيرة، وفي كلا الواقعين تتنامى العدوانية بنتيجة الإحساس بالعبثية والفراغ الروحي، بل وبالحرمان الناجم عن حدة التفاوتات الطبقية عند العديد من المنتمين إلى الفئات الدنيا، في العالم المتقدم، وبنتيجة الإحساس بالغبن والحرمان والانتقاص في العالم المتخلف، والتحريض على العنف من قبل رجال السلطة أو رجال الدين أو كليهما معا، الذين يضعون خدمة لمصالحهم الخبيثة المدافع في أيدي العامة البسيطة باسم الله أو الوطن أو القوم، ليبقى العالم  في المحصلة في واقعه الفعلي، ومهما كانت الآلهة أو الرموز التي يرفع ألويتها، محكوما بشكل عام من قبل أرباب على غرار مولوخ وباخوس ومامونا وما شابه!

وما تشهده منطقتنا العربية اليوم من صراعات هو تعبير بأكثر الأشكال حدة عن هول الأزمة التي وصل إليها العالم المعاصر المنشطر بين ثقافتين لا إنسانيتين، هما ثقافة اللاثقافة والاستهلاك في الشمال الغني المترف، وثقافة التعصب اللاعقلانية والقمع في الجنوب الفقير المحروم.

 لقد فقد العالم الصناعي روحانيته، رغم ما لديه من الحريات المدنية والسياسية، ومن ترف المادة والاستهلاك وانتشار العلم والفكر المعقلن.

أما العالم المتخلف الغارق في غيبوية وغيبوبة الإيمان التقليدي الفاقد للعقلانية، والرزاح تحت جاثوم الفقر الاقتصادي وكابوس الطواغيت الدينية والاجتماعية والسياسية، فقد أنتج روحانية ممسوخة شوهاء وفاسدة إنسانيا، ووجودها أشد سوءا من عدمها!

وبالرغم من التطور الكبير الذي وصل إليه العلم الصناعي في التفكير والعلم  والتصنيع والانتاج، فهو قد فشل في إنتاج الإنسان المتكامل، وبناء الواقع الإنساني الموفّر للضرورات الإنسانية على مستوى الجسد والعقل والروح، فقد غيب الروح ووضع العقل في خدمة الجسد، ليحول الإنسان بذلك إلى جسد، ويحبسه في ذاك الجسد.

لكن الشطر الآخر من العالم، لا يستطيع بتاتا الادعاء بأن الروح فيه حاضرة، فمع حرمان وحصار الجسد، وغياب العقل لم يبق من الروح الحقيقية شيء يذكر، والسائد هنا حقيقةً هو دين، وليس روح أو روحانية، لكنه دين بلا روح، بل هو غالبا دين ضدروحاني أيضا.

 الإنسان كائن يتكامل فيه الجسدي مع العقلاني والروحاني، فلا روحانية بلا عقلانية، ولا إنسانية بلا روحانية، ولاشي من كل هذا وذاك إن لم يوضع الجسد الإنساني في مكانه الصحيح، ويحصل الجسد على حقوقه المختلفة.

 ولذا لا بد من السعي لبناء النظام الاجتماعي، العادل اقتصاديا، الذي يستطيع فيه كل الناس تأمين ضروراتهم المعاشية الاقتصادية، وهي ضرورات لازمة لكل من الجسد والعقل والروح، فالفقير مثلا لا يستطيع الحصول على العلم والثقافة بما يكفي لتنميته فكريا وهي شرط لازم لارتقائه روحيا.

لكن الوفرة الاقتصادية بحد ذاتها لا يمكنها أن نتنتج إنسانا نامٍ عقلانيا وروحيا في ظروف تسودها ثقافة الاستهلاك والإفراط الحسي، أو في ظروف من هيمنة القمع والاستبداد بأي من أشكاله الدينية أو الاجتماعية أو السياسية!

 هذا النظام يجب أن يكون عادلا بالقدر الكافي، وهذه العدالة لا يمكن تحقيقيها في إطار رأسمالية منفلتة الضوابط على غير الرأسمالية النيوليبرالية المعاصرة، وبالطبع لا يفترض أن يكون البديل نظاما اشتراكيا من النموذج الستاليني الديكتاتوري، فبين هذا وذاك ثمة العديد من الخيارات الممكنة كالنظام التكافلي أو نظام الدولة الراعية وسواهما..

ويجب أن يكون ديموقرطيا أيضا، وضامنا للحريات المعتقدية والفكرية، على عكس الديكتاتوريات السياسية والدول الدينية، التي تفرض أنساقها الإيمانية أو الإيديولوجية المغلقة بالقوة والعنف على الجميع، فتشل العقل والضمير.

ويجب أن يكون علميا وعقلانيا يقوم على مبادئ العقل وحقائق العلم، وليس على الخرافات والغيبيات والمورثات السالفة، وإلا فلن يحرر طاقات الإنسان الخلاقة ويضعها على الطريق الصحيح لبناء المجتمع المتقدم، بل على العكس.

 هم اليوم في غربهم لديهم الكثير من "التمرغ بين أفخاذ النساء" وموائد الحانات وما شابه، لكننا في شرقنا ما زالت تغلب علينا الثقافة التي ننظر فيها إلى بعضنا البعض وإلى سوانا عبر فوهات المدافع، التي نستوردها غالبا من غربهم، فعقلنا لم يرتقِ بعد إلى مستوى هذه الصناعة المتطورة تقنيا، لاسيما أنه مسكون من ضمن ما هو مسكون بأفخاذ نساء الدنيا والآخرة.

وإن كان غربهم يحتاج إلى استعادة الروح، فشرقنا يحتاج إلى استعادة العقل وتحرير الروح وتكريم الجسد.

وإن كانوا يعانون من التضخم الاستهلاكي الحسي، فنحن نعاني من التضخم الديني والسلطوي والحرماني، وليس لنا من حل إلا بتحرير عقولنا من لاعقلانية الدين التقليدي السلفي وإطلاقها في سبل العلم، وتحرير مجتمعاتنا من تسلط أرباب السلطة والدين، وضع الدين في مكانه الصحيح في المجتمع تحت إشراف العقل وفي خدمة الإنسان، وبغير هذا لا يمكننا بناء عالم الإنسان، وسيبقي كائننا البشري محكوما بأرذل أشكال التوحش الشهواني والعدواني. 

 

*

سوريا – السويداء

‏04‏/12‏/2017

*

هذا المقال منشور أيضا على

مجلة عرب تايمز

*

:ملاحظة

!رفضت إدارة الهاف بوست العربي نشر هذا المقال

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت