JustPaste.it

حوار في الاشتراكية والرأسمالية


رسلان عامر


%D9%81%D9%87%D8%B1%D8%B3.jpeg

هذا المقال هو رد على زميل محاور مدافع عن الرأسمالية في "شبكة الإلحاد العربي":

تحياتي زميلي، وأنا حقيقة جد مسرور من هذا الحوار، وأهم ما فيه أنه يقدم وجهات نظر مختلفة، وهذا جيد حتى للمتحاورين أنفسهم، لأنه في العديد من الأحيان ينبههم إلى ضرورة عدم التمركز في زوايا نظرهم التقليدية، التي لا تقدم إلا صورا مجتزئة!

وأوافقك الرأي حول ما قلته عن أيام شبابنا ووفرة الكتب السوفييتية والإسلامية فيها، وندرة الكتب التي تتحدث عن الثقافة الغربية والتجارب الديمقراطية فيها.

  و أنا متفق معك حول الدور الضخم للتجهيل الثقافي والسياسي، الذي لم يختلف فيه كما بدا واضحا المتأسلمون والقومجيون  وأنصاف اليساريون، الذي يشتركون جميعا في طبيعتهم الديموغاجية والتوتاليتارية، ومواقفهم التكفيرية أو التخوينية أو التشويهية من الآخر، وشيطنتهم الجوفاء للغرب اليوروأمريكي.

 ولكن عند الحديث الناقد، والناقد بشدة للرأسمالية، ولاسيما النموذج النيوليبرالي منها، فيجب التمييز بينها وبين تاريخ تلك الأمم الغربية وحضارتها، وواقعها المعاصر، و يجب أيضا أن نكون موضوعيين في ما يتعلق بالرأسمالية  نفسها وأن نعترف بما لها من حسنات، فلا نقع في شراك شيطنتها كما يفعل أعداؤها التقليديون، وكما يقع بشكل معاكس في تقديسها المبهورون بعظمة الحضارة الغربية.

 وعند نقد الرأسمالية، وطرح فكرة الاشتراكية، التي تبدو اليوم ليس فكرة نظرية وحسب، بل و(تبشيرية) أيضا، فيجب علينا ألا نحصر أفكارنا بالنموذج السوفييتي، الذي أثبت الواقع عمليا أنه نموذج غير صالح، ولكن بالمقابل هذا يقتضي منا الموضوعية في قراءة التجربة السوفييتية، وعدم شيطنتها وتسفيهها.

وفي الوقت الذي كتب فيه الغربيون، وما زالوا يكتبون، الكثير عن قيام وسقوط الاتحاد السوفييتي، ودرسوا وحللوا هذا بكثافة وعمق، فهذه التجربة بالنسبة لهم هي في المحصلة جزء من التاريخ الغربي، وما يزال ماركس – مثلا- بالنسبة لهم واحدا من أكبر فلاسفة واقتصاديي هذا التاريخ، الحافل بالاختلافات والخلافات بل وحتى التناقضات، ولكنهم تعلموا جيدا أن هذا هو الواقع الذي يجب أن يعترف به الإنسان ويتقبله، وأن الحضارة الإنسانية الحقيقية لا تقوم بدون تنوع واختلاف؛ أما في شرقنا فقيام وسقوط الاتحاد السوفييتي كان بالنسبة للأكثرية مجرد جزء من مؤامرة ماسونية عالمية تسعى لإفساد العالم لكي يتمكن اليهود من السيطرة عليه، وقد انضم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أغلبية من تبقى من الشيوعيين إلى هذه الجوقة قاصرين المؤامرة الماسونية الصهيونية فقط على عملية الإسقاط.

لكن الموقف العقلاني لا يمكنه إلا أن يعترف بموضوعية أسباب كل من قيام وسقوط الاتحاد السوفييتي، الذي – باختصار- قام بنتيجة واحدة من الثورات التي سببها فساد الرأسمالية التقليدية يومها، وسقط نتيجة فساده الداخلي الخاص، واليوم ثمة مفكرون اشتراكيون يطلقون على التجربة السوفييتية تسمية "رأسمالية الدولة" وليس "الاشتراكية".

 واليوم نحن أمام واقع حقيقي، فيه رأسالمية حديثة تختلف كثيرا عن الرأسمالية التقليدية، وهي ما تزال قائمة، في الوقت الذي انهار فيه بديلها السوفييتي المنافس، لكن هذا لا يعني أن التاريخ انتهى إليها كنظام أمثل.

فإذا ما عدنا إلى تاريخ الرأسمالية التقليدية سنرى أنه في جانبه السيئ، والشديد السوء، هو تاريخ استعمار، وتاريخ إبادة جماعية في جزء منه، وتاريخ  صراعات وحروب رأسمالية- رأسمالية، توجت بحربين عالميتين، أودت أولاهما بحياة حوالي 15 مليون إنسان، والثانية بحياة حوالي  50 مليون.

 لكن إذا أردنا الاعتماد على مبادئ العقلانية اليوم، فعلينا أن نقرأ الواقع الغربي بعيون مفكريه، وبمعطياته الواقعية،  قبل أي شيء آخر إن استطعنا، و ألا نبالي بالدعايات الساقطة فكريا وقيميا التي يروجها ديماغوجيو العرب والمسلمين الفاسدين.

فإذا ما نظرنا في الواقع الغربي نفسه بشكل موضوعي، فسنجد ثمة ملايين من العاطلين عن العمل، وأكثر منهم من الفقراء الذي لا ينالهم من الكعكة الرأسمالية إلا فتاتها.

و سنجد ثمة أيضا كما كبيرا من النقد لطبيعة الرأسمالية فكرا وأدبا وإعلاما وفنا، و يمكنني في عجالة ذكر بعض الكتب مثل "مالديموقراطية"، "فخ العولمة"، "الكذبات العشر للعولمة"، "اقتصاد يغدق فقرا"، "انهيار الرأسمالية"، و أذكر الآن أفلام هوليودية حديثة على غرار "الحلم الأمريكي"  و"ذئب وول ستريت"، و بالطبع ثمة غير ذلك الكثير..

ناهيك، وهذا شديد الأهمية، أن اليسار الغربي ما يزال قطبا رئيسيا في الحلبة السياسية، وهو يسار ممثل بشكل رئيسي، ولاسيما في أوروبا، بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، التي ما تزال بالنسبة لها فكرة الاشتراكية قائمة، على الأقل كنظرية.

 صحيح أن الاتحاد السوفييتي سقط، لكن الرأسمالية النيوليبرالية، ليست قطعا في أمان، فنتائج الأزمة الاقتصادية ا الأخيرة الوخيمة، ما تزال تنعكس  بشكل أو بآخر على معظم بلدان العالمـ، ناهيك عما أهدرته من مليارات الدولارات واليورهات، وما خلفته من ملايين العاطلين عن العمل، وهي انعكست بأكثر أشكالها قباحة على واقعنا العربي لتمتطي ظهر استحقاق "الربيع العربي"، وتدفعه بعيدا عن مساره المستحق، مدخلة إياه في دوامة الإرهاب، الذي يستخدم اليوم كشكل من أشكال تصدير وتمويه الأزمة الغربية.

 وهذه الأزمة كانت قد وضعت اقتصاد العالم كله على شفير الهاوية، والذي أنقذ الوضع هو تدخل الحكومات، وليس قدرة "اقتصاد السوق" على التعافي، ولو ترك الأمر كليا لـ "اقتصاد السوق"، لكنا اليوم حتما نعيش في مرحلة فوضى ما بعد الانهيار الرأسمالي، لكن قلة منا تقرأ وتعترف بهذه الحقائق، فنحن فعليا "أمة تسخر من جهلها الأمم".

مستقبل العالم، ليس محصورا بين نموذجين هما: السوفييتي أو النيوليبرالي، هناك مثلا نموذج "اقتصاد السوق الاجتماعي"، الذي نشأ في ألمانيا واستمر لأكثر من نصف قرن، وما يزال، و لكنه شهد تراجعا جديا على يد – وهذه مفارقة- الاشتراكي الديمقراطي غيرهارد شرودر في "خطط 2010"، التي أقصته بالنتيجة عن سدة الحكم، وهذا النظام ما يزال متبعا بشكل أساسي في دول شمال غرب أوروبا، ولاسيما الدانيمارك، التي صنف شعبها في الأعوام الأخيرة من قبل الأمم المتحدة، كأسعد شعب في العالم.

نظام "اقتصاد السوق الاجتماعي" يجمع الكثير من حسنات  النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وهو خيار ممكن للمستقبل، ولكن المشكلة، أنه لا يمتلك البنية السياسية المتبلورة الخاصة، التي تستطيع الدفاع عنه وحمايته دائما، فكما تراجع عنه شرودر في ألمانيا، كان راسموسن على وشك أن يفعل ذلك في الدانيمارك نفسها في نفس الفترة، لكنه عاد فتراجع عن "التراجع"، وحمى أفضل تجربة اقتصادية اجتماعية في العالم!

 إن ما يحتاجه العالم هو نظام متبلور يجمع بين حسنات الاشتراكية والليبرالية، ويجب هنا الحذر من المطابقة التامة بين الرأسمالية والديمقراطية والليبرالية نفسها، فالنهج النيوليبرالي الذي يعطي كامل الحرية للسوق، ويقلص دور الدولة إلى أبعد الحدود، هو فعليا مصادرة تامة للقرار الاقتصادي من قبل أرباب رأس المال، وهو فعليا "ديكتاتورية اقتصادية"، وبما أن الاقتصاد هو قاعدة الاجتماع البشري، فهذه السياسة هي إفراغ للديمقراطية السياسية من جوهرها الفعلي، وممارسة لديكتاتورية حقيقية غير مباشرة، وهو في المحصلة لا يختلف كثيرا عن الديكتاتورية السياسية المباشرة الفظة في النموذج السوفييتي، التي أفسدت التجربة الاشتراكية وأدت إلى سقوطها.

بالطبع الكلام في هذه القضية لا يمكن إيجازه في مقال أو مداخلة، والحديث لن يتوقف فيها، وسنتابعه في مناسبات أخرى ومواقع أخرى.

ولك ولكل من تقدم بمداخلات أو تعليقات أو آراء الشكر، وربما يمكنني القول أن الحجم الجيد للاهتمام بالمقال الأساسي، يدل على أن "فكرة الاشتراكية"، ما تزال موضع اهتمام بالنسبة للكثيرين.

و للعلم، أنا درست في الاتحاد السوفييتي في أيامه الأخيرة، وشاهدت سقوطه لحظة بلحظة، وقبل هذا السقوط السريع، كان الواقع السوفييتي صادما منذ لحظة وصولي إلى مطار موسكو الدولي، وبالأخص أني كنت شابا متحمسا جدا للاشتراكية يومها، لكني اليوم أستطيع الكلام بموضوعية عن التجربة السوفييتية مميزا بين حسناتها وعيوبها.

*

هذه المداخلة منشورة ضمن تعليقات مقالة

"ويبقي المستقبل حلما اشتراكيا"

المنشورة على "شبكة الإلحاد العربي"

 

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت