JustPaste.it

سر شولاميت

  بين العشق الجنسي و الحب القدسي في سفر نشيد الأناشيد

 

رسلان جادالله عامر

*

____________________small.jpg

 

فهرس المحتويات:

 

العنوان

البداية

تعريف بالنشيد

شخصيات النشيد

لغة السفر

إشكالية السفر

سر شولاميت  الآية الأكثر إشكالية

ماذا يقول العلماء؟

السفر بين الهحوم و الدفاع عربيا

مفارقات نشيد الأناشيد

النشيد في الثقافة العالمية المعاصرة

خاتمة

قائمة اختصارات الأسفار الكتابية

قائمة اختصارات الترجمات الكتابية

فهرس المحتويات

 

 

"تحت سقف المنزل الفارغ المتجمد
أنا لا أعد الأيام العديمة الحياة،
إنني أقرأ رسائل القديسين،

و كلمات مرتل المزامير.
    
 وتصبح النجوم زرقاء، ويصبح الصقيع رقيقا،
 
وكل لقاء رائع ،
 
و في الكتاب المقدس ورقة قيقب حمراء
 
موضوعة على نشيد الأناشيد."

أنّا أخمينوڨا-1915م

 

"سحر هذا النشيد الأدباء و أهل الفنون على توالي العصور، و لعل أشهر من فتن به في العصور الحديثة رينان و أندريه جيد، فوضعه كل منهما في صيغة جديدة"

 توفيق الحكيم-1940م

 

 

       ربما يكون نشيد الأناشيد، هو السفر الأكثر إثارة للجدل في الكتاب المقدس رغم أنه يحظى و منذ غابر الأزمنة باعتراف كل من اليهود و المسيحيين.

    فهذا السفر في نصه المباشر هو عبارة عن حوار مسرحي بين حبيبين، و الأدق بين عشيقين، و هما الشخصيتان الرئيستان فيه، يعبران عن عشقهما، بلغة عشقية حارة صريحة جريئة، غنية بتعابير الوصف الجميل البليغ، و الغزل الرهيف، و العواطف الجياشة، و الرغبة الجنسية في شكلها الطبيعي الحار الشفاف، البعيد عن الخلاعة و الانحطاط، و هذا ما شكل سببا لاعتراض البعض عليه، فماذا يفعل نص عشقي جنسي في كتب مقدس؟! و هذه الإشكالية ما تزال مطروحة حتى اليوم، و هذا سنعود إليه لاحقا في هذا المقال.

 

 

   تعريف بالنشيد:

 

   هذا النشيد وفقا للتقاليد اللاهوتية اليهودية و المسيحية تم إدراجه في الكتاب المقدس في القرن الخامس قبل الميلاد من قبل الكاهن الشهير عزرا بعد عودة اليهود إلى أورشليم من السبي البابلي، و ينسب تألفيه تقليديا إلى الملك سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد، و هذا الرأي اليوم لم يعد جازما في كلا اللاهوتين اليهودي و المسيحي، حيث بات مقبولا احتمال أن يكون مؤلف النص- أو بالأصح شاعر السفر- شخصا آخر كتبه لسليمان أو عن سليمان، و ليس محتما أن يكون هذا قد تم في القرن العاشر قبل الميلاد.

 

     أما علماء التاريخ و الاجتماع و الدين، فالنص برأيهم مقتبس من أناشيد الحب و الخصب التي كانت سائدة لدى قدماء المصريين و السوريين، و التي بينت اللقى الأثرية  الشبه الكبير بينها و بين هذا النشيد، وهذا الكلام بالطبع مرفوض لاهوتيا على حد سواء من قبل كل من اليهود و المسيحيين، الذين يرون أن السفر موحى به و أنه كتب بإلهام من الروح القدس، فبرأي أحبار اليهود: « العالم كله لا يساوي ذلك اليوم الذي أُعطيَ فيه نشيد الأناشيد لإسرائيل! الكتاب كله مقدس، و نشيد الأناشيد هو  قدس الأقداس. » كما قال الرابي عقيبا (Rabbi Akiba) في مجمع جامينا في أواخر القرن الميلاد أول ([1])، و برأي المسيحيين : « كل الكتاب موحى به من الله، و هو نافع للتعليم و التوبيخ، للتقويم و التأديب الذي في البر» كمال يقول القديس بولس الرسول في (2تيم 3: 16).

 

 

   شخصيات النشيد:

 

    يرى بعض الباحثين أن هذا النشيد فيه شخصيتان أساسيتان هما شولاميت راعية الغنم، و سليمان الملك، بالإضافة إلى شخصية ثانوية هي "بنات أورشليم"، و القصة فيه تدور عن حب سليمان و شولاميت.

   فيما يضيف آخرون شخصية ثالثة إلى الشخصيات الأساسية، و هي "الراعي"- غير المذكور اسمه- الذي يتبادل الحب الصادق مع شولاميت، التي لا تفلح كل إغراءات الملك سليمان بفك عراه الراسخة وانتزاع هذه الحسناء من حبيبها، و العبرة من القصة برأيهم، هي الوفاء في الحب.

 

  لا نعرف شيئا عن شخصية الراعي المفترض، أما سليمان (Solomon)، فحسب التقليد اليهودي، هو ملك إسرائيل بعد أبيه داوود في القرن العاشر، و هو ابن بثشبع الزوجة السابقة لأوريا الحثي القائد في جيش داوود، و قد قتله داوود بمكيدة بعد أن حبلت بثشبع منه سفاحا، ثم تزوجها، لكن الابن غير الشرعي مات بعد ولادته بأيام كعقوبة من يهوه على جريمة داوود هذه، و بعد ذلك عادت فولدت له سليمان (2صمو 11: 2-27)، ثم  لعبت لاحقا دورا هاما في وراثته المـُلك (1مل 3: 1)؛ و هو- حسب التقليد اليهودي- باني الهيكل، و قد عرفت مملكة بني إسرائيل في عهده أوج ازدهارها، لكنه كان محبا للنساء، و كان له سبعمائة زوجة و ثلاثمائة محظية، و من بين أشهر زوجاته بنت فرعون (1مل 1: 11-47)، و قد استمالته النساء الأجنبيات في أواخر أيامه إلى آلهتهن الوثنية فبنى هياكل لعبادتها (1مل 11: 1-8).

  و في الكتاب المقدس ينسب إليه اليهود و البروتستانت" أسفار "الأمثال" و " الجامعة" و "نشيد الأناشيد"، و يضيف إليها الكاثوليك و الأرثوذكس سفر"الحكمة.

 

     أما شولاميت (Shulamite) فيرى البعض أنها راعية غنم من بلدة شولم (Shulem)، و يعني اسمها "التي من شولم" أو "الشولمية"، و شولم برأيهم هي نفسها شونم (Shunam)، و تسمى أيضا "سولم"، و هي بلدة فلسطينية تقع على السفوح الجنوبية الغربية لجبال الدحي في مرج ابن عامر في فلسطين، و يعود تأسيسها إلى أيام الفراعنة، و الشخصية الثانية المشهورة من شونم هي "أبيشج الشمونمية"، الفتاة الفائقة الجمال التي كانت ترعى الملك داوود في أواخر شيخوخته، و تضطجع معه دون معاشرة لبعث الدفء في جسده الذي كان يعاني من البرد الدائم (1مل 1: 1-4)، و قد قتل سليمان أخاه آدونيا عندما طلب الزواج من أبيشج (1 مل 1: 13-25)، لأن محاولة الزواج من إحدى نساء الملك أو معاشرتها بأعراف ذلك الزمان كانت تساوي المطالبة بالعرش أو إعلان انتزاعه، و كان آدونيا  قد سبق له أن حاول انتزاع العرش في أواخر أيام أبيه داوود قبل أن يوصي به لسليمان، ثم عفا عنه سليمان بعد ذلك، لكن طلبه الزواج من أبيشج اعتبر محاولة ثانية لانتزاع الملك فاستحق القتل؛ و يذهب البعض أيضا للمطابقة بين شولاميت و أبيشج الشونمية، التي لم يكن من مانع يمنع زواج سليمان منها طالما أن داوود لم يجامعها، و بذلك لا يخالف سليمان وصية التوراة القائلة: «لا تتزوج امرأة أبيك لأنها زوجة أبيك» (لاو 18 :8).

   فيما يرى آخرون أن (Shulamite) هي الصيغة المؤنثة لـ (Solomon) ([2])، و هو اسم سليمان العبري، وكلاهما يعود إلى كلمة (shalom) التي تعني بالعبرية "السلام"، و يصبح معنى الاسمين بالتالي "المسالم" و "المسالمة"، و قد سميت شولاميت بهذا الاسم الذي يقابله بالعربية "سليمانة" لأنها أصبحت قرينة الملك سليمان.

   و يرى فريق ثالث أن شولاميت هي "خارو" ابنة الفرعون (مرنبتاح) من النوبة في مصر القديمة([3])، و لهذا فهي سوداء- أو سمراء – كما تقول عن نفسها في النشيد (نش 1 :5) «سمراء أنا، و لكنني رائعة الجمال يا بنات أورشليم، أنا سمراء كخيام قيدار. أو كسرادق سليمان  و جميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان» ([4])، و هي عندما تقول عن نفسها " أنا وردة شارون، سوسنة الأودية"(نش 2: 1)، فهي تشبه نفسها بـالسوسن المصري المعروف بـ "عرائس النيل"، و تستخدم كلمة"شوشناه" العبرية ذات الأصل الفرعوني التي تدل على هذه الأزهار، و هذا الرأي كان يقول به اللاهوتي الشهير ثيودوروس المصيصي (350-428م.).

   بينما اقترح فريق رابع فكرة المطابقة بين شولاميت و "ملكة سبأ" (بالعبرية:מלכת שבא ملكت شفا) بناء على نفس الآية التي تتحدث فيها عروس السفر عن سمارها ([5])، لكن الكتاب المقدس لا يتحدث عن أية علاقة حب أو زواج بين سليمان و هذه الملكة، و لا يذكر حتى اسمها، و المذكور فقط هو زيارتها لسليمان و إعجابها بعظمة ملكه و حكمته و تبادلها الهدايا الثمينة معه(1مل 10: 1-13)، و  لاحقا أعطت الأساطير العربية هذه الملكة اسم (بلقيس)، و زوجتها من سليمان؛ فيما أعطتها الأساطير الإثيوبية  اسم "ماكيدا" (Makeda)، و اعتبرتها ملكة إثيوبيا، معززة رأيها بآيات إنجيل متى (12: 42) و إنجيل لوقا (11: 31)  التي يرد فيها الحديث عن "ملكة الجنوب"([6])، و طرحا من هذا القبيل نجده عند العلامة أوريجانوس في "أحاديثه عن نشيد الأناشيد" حيث يصف الجمال المحكي عنه في الآيات (1: 4-5) النشيد بـ "الجمال الإثيوبي"([7]) .

 

  

    لغة السفر:

   

    السفر في نصه المباشر هو عبارة عن حوارية حب جنسي بين عشيقين، يفصحان بكل صراحة و جرأة عن مكنون علاقتهما بكل أبعادها العاطفية و الشهوانية، و يستخدمان تعابير تعبر عن جيشان العاطفة، و حرارة الرغبة، و تتحدث عن الوصال الحميمي، و تصف حتى الأجزاء المحرمة من الجسد، و تستخدم ألفاظا مثل نهد و فخذ و سرة، وسواها، و كأن السفر بذلك  ينتهك تابو اللغة العامة، فما بالك باللغة المقدسة.

 

 و من التعابير الشهوانية فيه مثلا،ما تقوله الحبيبة عن الحبيب:

«ليلثمني بقبلات فمه،لأن حبك ألذ من الخمر. » (نش 1: 2)

«حبيبي صرة مر لي، هاجع بين نهدي. » (نش 1: 13)

«شماله تحت رأسي، و يمينه تعانقني. » (نش 2: 6)

«طوال الليل على مضجعي طلبت بشوق من تحبه نفسي، فما وجدته. » (نش 3: 1)

«فمه عذب و كله مشتهيات. هذا هو حبيبي و هذا هو خليلي يا بنات أورشليم! » (نش 5 : 15)

 

    ومن الغزل الجريء الصريح ما يقوله الحبيب للحبيبية:

«نهداك كخشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن» (نش 4: 5)

«ما أرشق قدميك يا بنت الأمير! فخذاك المستديرتان كجوهرتين صاغتهما يد صانع حاذق. سرتك كأس مدورة، لا تحتاج إلى خمرة ممزوجة، و بطنك كومة حنطة مسجية بالسوسن. » (نش 7 : 1-2)

«ما أجملك أيتها الحبيبة و ما ألذك بالمسرات! قامتك هذه مثل النخلة، ونهداك مثل العناقيد. قلت لأصعدن إلى النخلة و أمسك بعذوقها، فيكون نهداك لي كعناقيد الكرم، وعبير أنفاسك كأريج التفاح. فمك كأجود الخمر. » (نش 7 :  6-9)

 

   لكن التعابير الشهوانية و الغزل الجريء ليسا كل ما في السفر، ففيه لغة وصف جمالي رفيعة الذوق، و تعابير عشقية تنم عن عواطف رقيقة مرهفة، و مشاعر حارة متدفقة، و هذا ما نجده في كلام العروس:

«هذا هو صوت حبيبي! ها هو آت طافرا على الجبال واثبا فوق التلال. حبيبي كظبي أو كالأيل الفتي. » (نش 2 :  8- 9)

«استيقظي يا ريح الشمال، و هبي يا ريح الجنوب ، هبي على جنتي ، فينتشر عبيرها. ليقبل حبيبي على جنتي و يتذوق أطيب ثمارها. » (نش 4: 16)

«عيناه حمامتان عند مجاري المياه، مغسولتان مستقرتان في موضعهما. » (نش 5: 12)

«خداه كخميلة طيب تفوح عطرا، و شفتاه تقطران مرا شذيا. » (نش 5 : 14)

«ساقاه من ذهب نقي، طلعته كلبنان، كأبهى أشجار الأرز» (نش 5 : 15)

« أنا كسور و نهداي كبرجين، حينئذ صرت في عينيه كاملة. » (نش 8 :  10).

«أسرع إلي كالهارب يا حبيبي، و كن كالظبي أو الأيل الفتي على جبال الأطياب! » (نش 8 :  14)

«أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح، فإني مريضة حبا. » (نش 2 :  5)

«أنا لحبيبي، و حبيبي لي، و هو يرعى بين السوسن. » (نش 6 : 2)

 

   و في رد العريس عليها :

«كم أنت جميلة يا حبيتي، كم أنت جميلة! عيناك حمامتان! » (نش 1 :  15)

«أنت جميلة يا حبيبتي كتـِرصة ([8])، حسناء كأورشليم، و جليلية كجيش يرفع أعلامه (نش 6 : 4)

«أشيحي بعينيك عني، فقد قهرتاني» (نش 6 : 5)

«من هذه الطالعة كالفجر، الجميلة كالبدر، المشرقة كالشمس، الجليلة كجيش يرفع أعلامه» (نش 6 : 10)

 

   كما نجد إحساسا حيا عميقا بجمال الطبيعة، التي تشكل الخلفية المشهدية للوحة الحب المتكاملة هذه، التي يتكامل فيها  الحب و الجمال و الحيوية في كل من الإنسان و الطبيعة.

 فها هي عروس السفر تقول:

«أنا وردة شارون، سوسنة الأودية. » (نش 2 :  1)

«حبيبي بين الفتيان كشجرة تفاح بين أشجار الوعر، تحت ظله اشتهيت أن أجلس، و ثمره حلو لحلقي. أتى بي إلى قاعة احتفاله، و رأيته فوقي محبة. » (نش 2 :  3-4)

«أنا لحبيبي، و إلي تشوقه. تعال يا حبيبي لنمض إلى الحقل و لنبت في القرى. لنخرج مبكرين إلى الكروم، لنرى هل أفرخت الكرمة، و هل تفتحت براعمها، و هل نوّر الرمان؟ هناك أهبك حبي. قد نشر اللفاح أريجه، وتدلت فوق بابنا أفخر الثمار، قديمها و حديثها، التي ادخرتها لك يا حبيبي»  (نش 7 :  12-13)

«خاطبني حبيبي و قال: انهضي يا جميلتي و تعالي معي، فها الشتاء قد انقضى، و كف المطر و زال. و أزهرت الأرض، وحل موسم التغريد، و تردد هديل اليمام في أرضنا. قد أنبتت التينة فجها، و نشرت الكروم المزهرة أريجها، فانهضي يا حبيبيتي يا جميلتي و تعالي. » (نش 2 :  10-13)

 

   ثم نجد لديها هذا المقطع البديع في عمق الإحساس و التعبير الإنساني، عندما ترتـّل هذه الكلمات الملهمة في الحب، التي تذكرنا بأنشودة المحبة العظيمة للقديس بولس في (1كور 13: 1-13)، و لن نجد كلاما ملهما في الحب و المحبة يفوق ما كتب في تلك المقطوعة و هذه:

«اجعلني كخاتم على قلبك، كوشم على ذراعك فإن المحبة قوية كالموت، و الغيرة قاسية كالهاوية. و لهيبها لهيب نار، كأنها نار الرب! و لا يمكن للمياه الغزيرة أن تخمد المحبة، و لا تستطيع السيول أن تغمرها.لو بذل الإنسان كل ثروته بيته ثمنا للمحبة لاحتقرت أشد الاحتقار. » (نش 8 :  6-7)

 

     و مع ذلك فهذه اللغة الجميلة في السفر انعكست عيه سلبا، و جعلته قديما و حديثا عرضة للانتقاد و الهجوم و السخرية في كثير من الأحيان.

 

 

    إشكالية السفر:

 

    كما سلف الذكر تكمن الإشكالية في السفر في كونه يستخدم تعابير جنسية، و يتكلم في العشق الجنسي، و هذا- المعترضين عليه - لا يليق بسفر مقدس، يفترض فيه الحديث في المقدسات و الإلهيات، و تبعاتها في عالم الإنسان على الأرض، و السفر بما فيه من شهوانية و غزل فاضح- برأيهم- يتناقض مع الرسالة التي يفترض أن تحملها الأسفار المقدسة، و لذا ظهر و ما زال يظهر من يشكك بهذا السفر و من يهاجمه و يدينه.

   فمثلا، في القرن الأول اعترض عليه الحاخام شمعـَي (Shammai)، و سعى لحذفه من الكتاب المقدس، لكن مسعاه رفض من قبل مدرسة هليل (Hillel) اليهودية التقليدية التي أكدت قانونية السفر([9])، و أعيد تأكيد قانونيته في مجمع جامينا الذي عقد في أواخر القرن الأول، و قد لعب الحاخام عقيبا الذي سلف ذكره دورا هاما في ذلك..

    كما اعترض عليه لاحقا الأب تيودوروس المصيصي (350-428م.) ، الذي اعترف بنسبه لسليمان، لكن اعتبره مكتوبا من قبله بمناسبة زواجه من ابنة فرعون الوثنية (1مل 11: 1) في حين ينهى إله إسرائيل عن الزواج من الوثنيات، و لذا لا يجوز برأيه إدراجه في الكتاب المقدس، لكن المصيصي أدين لاحقا على هذا الرأي([10]).

     و في المحصلة بقي السفر في الكتاب المقدس، لكن كلا من المفسرين اليهود و المسيحيين نحوا منحى تفسيره الرمزي، الذي وجدوا فيه تفاديا للإشكالية الجنسية القائمة في معناه المباشر.

   و هكذا أصبح النص برأي اليهود نصا تمثيليا معبرا عن الحب الإلهي في العلاقة بين يهوه الذي يمثله الحبيب و إسرائيل التي تمثلها الحبيبة في النشيد، فيما صار الحبيبان مسيحيا هما المسيح و الكنيسة، أو المسيح و النفس البشرية.

  و قد كثرت التفاسير و تعددت و اختلفت في التفاصيل بين الطرفين و عند  كل طرف، لكن التفسير التأويلي هيمن حتى عصر النهضة، حيث بدأت تظهر أصوات تدعو للاعتراف بالحب البشري بجانبيه الروحي و الجسدي الموجود في النشيد، و لا تراه متناقضا مع الحب الإلهي بل متكاملا معه .. و بالتالي فالنشيد يعترف بالحب البشري و يعبّر به عن الحب الإلهي حسب هذه المقاربة ([11]).

 

 

     "سر شولاميت"

     .. الآية الأكثر إشكالية..  

          

     مع تطور الفكر العلمي و الإنساني المعاصر خصوصا في الغرب الأوروبي و الأمريكي، بلغ النقد الموجه للكتاب المقدس و اللاهوتين اليهودي و المسيحي أقصاه، و هذا دفع بالمفكرين و علماء اللاهوت من كلتا الديانتين إلى إعادة النظر في التقاليد العقائدية و التفاسير الكتابية، و إعادة طرحها بما يتناسب مع العقل و العلم المعاصرين، و هذا بالطبع أعطى مجالا واسعا و درجة عالية من الحرية لهؤلاء المجددين لطرح أكثر الأفكار جرأة و خروجا عن المألوف، و لعل أفضل مثال على هذا الأمر هو الآية التي تتحدث عن "سرة شولاميت"، و من الخير هنا إيراد المقطع الذي ترد فيه هذه العبارة كاملا:

«ما أرشق قدميك يا بنت الأمير! فخذاك المستديرتان كجوهرتين صاغتهما يد صانع حاذق. سرتك كأس مدورة، لا تحتاج إلى خمرة ممزوجة، و بطنك كومة حنطة مسيّجة بالسوسن.  نهداك كخشفتي ظبية توأمين. عنقك مصقول كبرج من عاج. عيناك عميقتان ساكنتان كبركتي حشبون عند باب بث ربيم. أنفك شامخ كبرج لبنان المشرف على دمشق، رأسك كالكرمل، و غدائر شعرك المتهدلة كأرجوان» (نش 7 : 1-5).

  و كما نرى فالحبيب هنا يصف حبيبته من أخمص قدميها تصاعديا و بالتسلسل حتى رأسها و غدائرها، لكن هناك قفزة من الفخذين إلى السرة، و إعادة وصف للبطن و كأن التصاعد و التسلسل ينقطع في هذه النقطة بالذات، فما الأمر و ما هو السر فيه؟1

  هذا الجواب نجده عند عدد من الباحثين الغربيين و بعض العرب، و عن هذه النقطة بالذات يقول الأب لويس خليفة - و هو العالم في اللغة العبرية- في كتابه المشترك مع الأب يوحنا قمبر"نشيد الإنشاد أجمل نشيد في الكون" ([12]) : «سرتك – و افهم ما السرة- كوب لا يفرغ من الخمور.»، ثم يقول الأب قمبر بكلام لا لبس فيه: « الوصف جريء، و تشبيه السرة بكوب لا يفرغ من الخمر يعني الإشارة بها إلى العضو النَسَوي إشارة لطيفة» ([13])، و هذا الكلام نجد له تأكيدا في "التفسير الحديث للكتاب المقدس" الصادر عن دار الثقافة في مصر لنخبة من العلماء الإنجيليين([14])، حيث يقال أن كلمة "سرة" هي برأي بعض الباحثين ترجمة خاطئة للأصل العبري، و أن الترجمة الصحيحة هي "الفتحة التناسلية للمرأة"، و الكتاب الأصلي هو  من تأليف القس ج. لود كار (G. Lloyd Carr) أستاذ الدراسات الكتابية و اللاهوتية بكلية غوردون بجامعة ويتهام في ولاية ماساشوسيتس الأمريكية، كما يمكننا أن نجد شرحا مفصلا لهذا الموضوع على موقع (net.bible) ([15]) ، حيث يقال أن الكلمة الواردة في الآية هي بالعبرية (שֹׁרֶר) (srr)، وهي حسب رأي بعض الباحثين – و الكلام للمقالة على الموقع- تقارب باللغة العربية كلمة (سِرّ)، التي تعني (مكان سري، أعضاء جنسية، مجامعة، زنى)، و يدعم هؤلاء رأيهم بالحجج التالية:

  أ- إن مديح العروس يتم بشكل صاعد بدءا من قدميها و حتى شعرها، و الحركة من فخذيها إلى فرجها ثم إلى بطنها تتوافق مع هذا الصعود.

 ب- وصف سرتها بكأس الخمر في هذا المشهد سيبدو عنصرا غريبا و نافرا، فهل سرتها رطبة أو ممتلئة بالسوائل؟، لكن المشهد سيبدو متناسبا إن كان فرجها هو الموصوف.

 ج- السرة هي بشكل ما رديف في المعنى للبطن الذي تدل عليه كلمة (בִּטְנֵך) (btnkh) في السطر التالي، و لأن الآيات (نش7 : 1-7) ليس فيها ترادفات ثنائية، فـ مصطلح (שֹׁרֶר) يجب أن يعني شيئا آخر غير البطن.

   هذا الطرح الجديد نسبيا، له العديد من المؤيدين في الغرب، و لاسيما خارج الأوساط الدينية، و قد اعتمد منذ وقت غير بعيد في فيلم وثائقي بعنوان "الجنس في الكتاب المقدس".     

 

   لكن مع ذلك ثمة من يعارض هذا الرأي بحقيقة أن المصطلح المذكور نفسه قد استخدم في العديد من الحالات في الكتاب المقدس و الكتب الدينية اليهودية بمعنى "سرة"، منها مثلا (حز 16: 4)، و (أمث 3 :8) ([16]).

   غير أن الاعتراضات لا يمكن اعتمادها بشكل نهائي لتحديد المعنى الدقيق للمصطلح المذكور، فالنسخ المختلفة من ترجمات الكتاب المقدس لم تجمع على ترجمته كـ "سرة" أو كـ " جسد"، و قد ترجم بهذه أو تلك في أكثر من موضع من الكتاب المقدس، و منها إضافة إلى آية سفر النشيد التي يتم الحديث عنها، آية سفر الأمثال المذكورة أعلاه، و هذا يبقي المعنى الدقيق للمصطلح ضبابيا.

   فعلى سبيل المثال، في الترجمات الإنكليزية الحديثة مثلا، تترجم نسخة (NHEB) و (ASV) مصطلح (בִּטְנֵך) في سفر النشيد بـ "جسد" (body) ([17])، و كذلك تفعل (MSG)، فيما تترجمه نسخة (BBE)بـ "معدة" (stomach)، أما نسخ (NET) ، (NIV)، (NASB)، (NLT)، (KJV)، و غيرها فتترجمه بـ" سرة" (navel) ([18])، و مثل هذا الاختلاف نجده أيضا في ترجمة بقية الآيات التي يرد فيها نفس المصطلح.

   أما الآية (أمث 3 :8) فهي مثلا: «فيتمتع جسدك بالصحة و عظامك بالارتواء» في ترجمة "كتاب الحياة" للكتاب المقدس ([19])، لكنها « فيكون شفاء لسـُرتك، و سقاء لعظامك » في ترجمة (فاين دايك Van Dyke Version).

 

   حقيقةً، إن كل الترجمات القديمة و الحديثة من السيبتواغينتا اليونانية (ق3. ق. م تقريبا)، إلى الفولغاتا اللاتنيية (ق4. م تقريبا) ، إلى ترجمة الملك جيمس في بداية ق. 17م.، و الترجمات الإنكليزية و العبرية الحديثة  و العربية، و سواها تستخدم مصطلح "سرة" أو "جسد" مقابل (שֹׁרֶר).

 لكن مع ذلك  يبقى احتمال أن كل هذه الترجمات تمت في إطار نفس التقاليد المعتقدية التي أعطت نشيد الأناشيد معناه المجازي وربطته بالحب السماوي، و رفضت بسبب موقفها المدين للجنس التعامل معه كسفر حب جنسي، و بالتالي لا يمكن لذلك المصطلح في مثل هذه

الأجواء أن يترجم بمعنى "العضو الأنثوي"، هذا من ناحية.

   و من ناحية ثانية، يبقى دائما موضوع دقة الترجمة أمرا  قائما، و بهذا الخصوص يقول الباحث الفرنسي فيليسيان شالي: «أساء التراجمة الأغارقة فهم معان كثيرة في النص العبري، بل أن القديس جيروم (هيروننيموس) فعل مثلهم في الفولغاتا»([20]).

 

   و على أية حال يبقى هذا الموضوع مثارا للجدل و الاجتهاد، و بما أن اللغة العبرية القديمة كان لديها و لابد كلمتها الصريحة المعبرة عن العضو الأنثوي، و هي بالتأكيد ليست الكلمة التي يدور حولها الجدل، و إلا لما دار،  يصبح لابد من طرح السؤال عن السبب الذي جعل المؤلف لا يستخدمها في النشيد أو ربما جعل محررا لاحقا يقوم باستبدالها باللفظة الحالية فيه.

   وهذه المسألة قد يبدو عرضها جد مستهجنا لدينا في الشرق، لكن البحث فيها أصبح مقبولا كليا في الغرب، و طرحها فيه أصبح أمرا يتم التعاطي معه بشكل عادي حتى في الأوساط الدينية المعنية، و لا يعد هذا مثارا للحفيظة و الغضب، و كأنه ثمة استعداد من حيث المبدأ لقبوله فيما لو أثبت.

 

   و يرى بعض اللاهوتيين أن وصف جسد المرأة أيا كان في السفر لا يشكل مشكلة، فالسفر يعيدنا إلى أصالة التكوين و بدايته الطاهرة في الجنة، فالله قد خلق حواء أنثى بهذا الشكل كله، كما خلق آدم ذكرا، و كلاهما كانا عريانين في الجنة قبل الخطيئة، و لم يكونا يخجلان من عريهما أمام بعضهما البعض و لا أمام الله نفسه (تك 2: 25 ) ، فالخجل من الجسد ابتدأ مع الخطيئة (تك 3: 10 ) ، و المشكلة ليست إذا في الجسد بكل أعضائه، و لا في الجنس، لأن الله هو من خلق آدم و حواء ذكرا و أنثى ليثمرا و يتكاثرا (تك 1:  27-28 ) ، بل المشكلة هي في الطريقة الآثمة التي يتم فيها التعاطي مع كل من الجسد و الجنس.

 

   إذا، و حسب هذه المقاربة، يمكن الاستنتاج أنه حتى لو ثبت بالدليل القاطع أن مصطلح(שֹׁרֶר) الوارد في النشيد يدل على العضو الأنثوي، فبنظرة عقلانية منفتحة يمكن الجزم بأن هذا لا يشكل بتاتا انتقاصا من قيمة السفر، بل على العكس، إنه يعطيه قيمة تامة لأنه يتعامل مع الحقيقة الإنسانية بتمامها، و لا ينحدر إلى مستوى الفضيلة الزائفة التي تعاكس الطبيعة الإنسانية بطابعها الجنسي، فترمي الجنس بالنجاسة ثم تتحرق نزوعا إليه.   

 

ماذا يقول العلماء؟

 

  بالنسبة لعلماء التاريخ و الأديان و علم الاجتماع، الظاهرة الدينية ككل هي عبارة عن نتاج بشري محض، و بالتالي فليس ثمة أية أسفار موحى بها أو منزلة، و الأديان الإبراهيمية الثلاث ينظر إليها كحلقات في سلسلة تشكل و تطور أديان الشرق القديم، و  سفر نشيد الأناشيد  يعتبر استمرارا لأناشيد الحب و الخصب التي كانت سائدة في عبادات الخصب في هذه المنطقة، و هو يقرأ بالتوازي و التقاطع مع الأناشيد المشابهة التي عثر عليها في آثار وادي النيل و الهلال الخصيب و بلاد اليونان، و سواها..

   و يذهب العديد من الباحثين على ضوء المعطيات الأركيولوجية الحديثة إلى أن مدينة أورشليم  كانت مدينة كنعانية، على مر تاريخها، و أنه لا وجود لأية قومية عبرية، و لا لأي دخول عبري مزعوم إليها و لا إلى أية منطقة أخرى في فلسطين كلها لا بشكل سلمي و لا بشكل حربي، فاليهود هم أساسا فئة من الكنعانيين كانت تعبد "يهوه" قبل السبي البابلي، و لم يكونوا موحدين (monotheists)، بل كانوا عبدة إله واحد (henotheists)، و  لم يكن يهوه أكثر من "إله مدينة أورشليم"، لكن عند احتكاك اليهويين ذوي المعتقد البدائي خلال السبي بالثقافة البابلية الأرقى التي كانت على مشارف التوحيد، أخذوا عنها فكرة الإله الواحد، ثم بعد سقوط بابل بيد الفرس أخذوا عن الثقافة الفارسية – و هي بدورها أرقى من ثقافتهم- فكرة الشيطان كقطب شر كوني، و فكرة المخلـّص المنتظر.

   و في ما يتعلق بكل من سليمان و داوود فهما في هذه الأطروحة ليسا إلا ملكين كنعانيين يتبعان آلهة الكنعانيين([21]).

   و هكذا يصبح ممكنا الجمع بين محتوى "نشيد الأناشيد" العشقي الجنسي، ونسبه إلى سليمان الملك الكنعاني المثابر على تقاليد "الخصب " الكنعانية و الملتزم بها، و للباحث السوري المعروف فراس السواح رأي شيق بهذا الصدد، فهو يقول في لغز عشتار: «تسللت سيدة الحب الجنسي إلى كتاب التوراة العبرانية، و شغلت سفرا كاملا من أجمل أسفاره، ألا و هو نشيد الإنشاد المنسوب للملك سليمان الذي كان طيلة حياته من عبدة الآلهة السورية، و خصوصا عشتاروت (عشتار) و بعليم (بعل). فالسفر بكامله أنشودة حب و عشق دنيوي متقد، مرفوعة إلى عشتار، مهما حاول اللاهوتيون إقحام تفسيراتهم الروحية و رموزهم الدينية عليه.» ([22]).

   و هذا الكلام يؤيده الكتاب المقدس بقوله عن سليمان :  « و ما لبث أن عبد عشتاروت إلهة الصيدونيين، و ملكوم إله العمونيين البغيض» (1مل 11:5).

 

   إن القرابة في الشكل و المضمون بين نشيد الأناشيد و أناشيد الخصب القديمة واضحة، و يمكننا مقارنته مثلا مع أناشيد الحب المصرية القديمة ، حيث نجد أحد هذه الأناشيد يقول:

«...

 آه لو كنت خاتمها ملتفا حول أصبعها فسوف تحميني
 كشيء يزين حياتها
آه ..لو كنت مرآةً لك فتنظري إلي دوماً
ليتني كنت ثوباً ترتديه دوماً ..
ليتني كنت ماءً يستحم به جسدك
 أو بلسماً يا حبيبتي فأستطيع دهانك
 أو صدرية لنهديك
أو درة في عنقك

... »([23])

 

  و قد تم العثور على العديد من الأناشيد و المقاطع الشعرية المشابهة، و من أشهرها النشيدين الموجودين على "بردي هارّيسن 500" و "بردي تشيستر بيتّي I" ([24]) .

 

   و النشيد بمحتواه الذي تبدو فيه بشكل جلي المرأة مساوية تماما للرجل، و شريكة ندية تامة في علاقة الحب الجنسي الصريحة، هو أقرب إلى تقاليد الخصب و الأمومة، التي تحتفظ فيها المرأة و العلاقة الجنسية بمكانتمها العالية، منه بكثير إلى التقليد اليهوي الإسرائيلي  المغرق في الذكورية، التي تتدنى فيها مكانة المرأة و تتدنى معها القيمة الإنسانية للجنس المرتبطة بها، و تفقد المرأة الندية و التساوي مع الرجل، و هذا ما نجده مثلا في قصة سقوط الإنسان التي ابتدأت بمعصية حواء (تك 3: 1-24)، و غير ذلك من مواقع الكتاب المقدس.

   بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك و القول بأن النشيد أيضا يميل للتركيز على بطلته، فالحبيبة فيه هي الشخصية الأكثر حضورا و الأعلى صوتا في مشاهده، فهي التي تفتتحه و هي التي تختتمه، و هي تظهر 17 مرة، و تنشد 72 آية بمفردها، و تشترك في آية واحدة مع الحبيب، و تتفرد بالإصحاح الثالث بكامله.

  أما الحبيب فيظهر عشر مرات، و ينشد 40 آية، و يشترك في آية واحدة مع الحبية هي الآية (7: 9)، و بآية أخرى مع بنات أورشليم هي (8: 7) فقط.

   و حديث الحبيبة هو الأغنى و الأشمل، فحديث كلا الحبيبين يتضمن الوصف الجميل للآخر، و التعبير عن جمال حبه و حلاوة وصاله، فيما تنفرد شولاميت بالحديث عن معاناتها الخاصة كما هو الحال في كلامها عن حراس المدينة الذي آذوها عندما خرجت تبحث عن حبيبها، و في وصفها الذاتي لنفسها بأنها سمراء، و أنها وردة شارون و سوسنة الأودية و ما شابه، و في حديثها عن قوة و عظمة المحبة في أواخر النشيد.

  و هذا دليل إضافي على أن تقاليد الخصب الأمومية هي أقرب من الذكورية اليهوية إلى هذا النشيد.

 

 

   السفر بين الهحوم و الدفاع عربيا:

    

    ما نزال في شرقنا العربي  نعاني أشد المعاناة من إنغلاقنا العقلاني و الروحاني، و من فصلنا للمقدس عن الإنسان، و عدم قدرتنا على الاعتراف بإنسانية الإنسان و المصالحة معها.

    و ما زلنا نتعامل بأشد أشكال المحافظة مع الدين و الجنس، اللذين ينتميان إلى أكثر زوايا التابو حدة.

   و ما زال تعاملنا مع الآخر يفتقد لمبدأ الاعتراف و المساواة، و مركزا على مساعي الإلغاء أو التشويه.

   و في هذا المناخ غير السوي، ليس غريبا أن نجد الكثيرين ممن لا يوفرون فرصة في مهاجمة الغير و الحط من ثقافته و معتقداتهم، و هؤلاء يجدون في العبارات الجنسية في سفر النشيد مادة دسمة لوصم هذا السفر بالوثنية و الإباحية بشكل خاص، و للهجوم على الأديان التي تعترف به سفرا مقدسا بشكل عام، و كأن هذا السفر يشكل حجة دامغة على بطلان هذه الأديان.

  و هذا ما يفعله الكثير من الإسلاميين و بعض العلمانيين الذين يستغلون هذا السفر و سواه للهجوم على اليهودية و المسيحية.

 

   يتركز الهجوم على "الجنس"، فهو "عيب" و هو "دنس" و هو " انحطاط"، و هذا يبدو قاسما مشتركا عند من يهاجـِمون و عندما من يهاجـَمون، فعندما يرد هؤلاء، فهم يبنون دفاعهم على نفي تهمة "الجنس" عن سفر النشيد، بل و يقومون غالبا بهجوم معاكس على من يرى أن السفر سفر"حب جنسي " حتى و لو كان لا يتقصد الإساءة لهم و النيل منهم.

  و هذا حال أكثرية رجال الدين المسيحي في المنطقة العربية، الذين ما يزالون في محافظتم المغرقة دينيا و جنسيا يقرنون الجنس بالدنس، و يصرون على التأويل الرمزي للنشيد الذي يبتعد به كليا عن معناه المباشر، و يؤكدون أنه سفر معبر عن حب المسيح للكنيسة و حب الله للإنسان، و يفسرونه آية آية في هذا السياق و النطاق العقائدي، و هذا ما نجده مثلا عند معظم أعلام الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية المصرين على رمزية السفر، و رمزيته الحصرية ([25]).

 

   لكن قلة من رجال الدين المسيحي العرب، امتلكوا القدر الكافي من الوعي و الجرأة، ليعترفوا بـ "الشطر البشري" من الحب المطروح ، فاعترفوا بأنه نصا يتحدث عن الحب الجنسي من ناحية، و عن الحب الإلهي من ناحية ثانية، و منهم - رغم الاختلافات الجمة في المقاربات- الأبوان يوحنا قمبر و لويس خليفة في كتابهما المذكور آنفا بدرجة رئيسة، و بدرجة ما الأب بولس الفغالي في شروحاته على النشيد([26])، و الأب بيتر حنا مدروس([27])،و سواهم.

 

 في مقاربة يوحنا قمبر و لويس خليفة يوجد تجديد جذري، فهنا نجد فهما مباشرا للنشيد كعلاقة حب جنسي، لا يدخل فيه أي تفسير رمزي أو تأويل، و النص يعبر عن الحب الإنساني المتكامل  بين المرأة و الرجل، أما وجوده في الكتاب المقدس فهو اعتراف بمكانة هذا الحب و مباركة له، و تقديما له كجزء من الحب الإلهي الأشمل و الأكمل و تصويرا للحب الإلهي من خلاله، وغاية النشيد في الخلاصة هي إضفاء الكرامة و البركة على الحب الجنسي، وربطه بالحب الإلهي، و تمثيل للحب الإلهي عن طريقه.

    و الربط هنا يتم من حيث المبدأ و الفكرة العامة، و لا تدخل فيه التفاصيل الجزئية بتاتا فهي خاصة فقط بمضمونه المباشر كأنشودة عشق جنسي.

 

    أما بولس الفغالي فلديه نوعا ما بعض من التجديد، فهو يقبل بإمكانية أن نقرأ في النشيد تصويرا جميلا و نبيلا للعلاقة الزوجية و أن ننظر إليها من خلال النشيد كعلاقة مباركة ممجدة، لكنه يصر على أن الغاية الأساسية من إدراج السفر في الكتاب المقدس هي تصوير محبة الله الإنسان و المسيح للكنيسة، و لذا فهو يتمسك بالتأويل التفصيلي لكل آيات النشيد.

 

  بينما تتميز مقاربة بيتر حنا مدروس بثنائية تأويلية جميلة تجمع بين المعنى المباشر و التأويل المجازي التقليدي، فهو يرى في صورة الحب الجنسي المثالية المعروضة في النشيد إعادة لهذا الحب إلى أصله الطاهر الكامل الذي كان عليه في الجنة قبل سقوط الإنسان، و تقديما له بالشكل الأرقى الذي يراه الله فيه و يريده له، و هذا هو الحال الذي كانت عليه العلاقة بين آدم وحواء قبل الخطيئة، و بهذه المعيارية الإلهية يمكن لهذا الحب الجنسي المثالي المتكامل أن يكون خير ممثل للحب الإلهي و معبر عنه، و بالتالي فالنشيد يحمل معنيين مرتبطين متتامين، و هما التذكير بالمعيارية الإلهية لعلاقة الحب الجنسي و التركيز عليها، و بالترابط و التزامن مع ذلك تمثيل

الحب الإلهي من خلالها.

 

   و ما تقدم من مقاربات يمكننا أن نجد خلاصته الفكرية المشتركة بشكل موجز في التمهيد الذي تقدمه ترجمة "كتاب الحياة- ترجمة تفسيرية للكتاب المقدس" ([28]) للنشيد، التي تقول: « إن المعنى الظاهر لهذه الأناشيد القصصية هو الحب الإنساني الذي كرمه الله. و هو حب ممتع و مقدس طالما مارس صاحباه هذا بطاعة كاملة لوصية الله. فضلا عن هذا فإن كثيرين من المفسرين وجد في هذا الكتاب رموزا تشير إلى محبة المسيح للكنيسة، و هذا يتفق مع تعليم العهد الجديد بأن الله محبة (1يو 4: 8) ».

 

 

    مفارقات نشيد الأناشيد:

    

     لا يمكن لأي نص أن يقرأ اعتمادا على مكوناته الداخلية فقط و بمعزل عن ارتباطاته الموضوعية، فإذا فصلنا مثلا قصيدة من "خمريات ابن الفارض" عن شخصية ابن الفارض الصوفية و عن التقاليد الصوفية، و قرأناها كنص مجرد مقتصرين على معطياتها الداخلية، فلن نجد فيها أكثر مما يتضمنه معناها المباشر الذي يتحدث عن الخمرة و الحب الاعتيادي، لكن عند قرائتها في بيئتها الصوفية يمكننا إدراك المعنى المجازي الكامن فيها.. و المدلول الرمزي لكل من الحبيب و الخمرة، و هذا يجعل القصيدة مفهومة بشكلها الصحيح فقط في تفسيرها القائم على التقليد الصوفي.

  هذا من ناحية النص، و لكن هناك أيضا أمر لا يقل أهمية عنه و مرتبط بالقارئ، فقراءة النص أيضا مرهونة بموقع و طبيعة و خصوصية القارئ من الناحية الثقافية.

  و عليه، ففهم أي نص يبقى متعلقا بكل من محتوياته الذاتية و ارتباطاته الموضوعية، و بالتالي فكل من الإطار الثقافي و السياق الفكري لكل من المؤلف و القارئ يلعبان دورا جوهريا في فهم معنى النص.

 

  و هكذا سنجد أن التباين و الاختلاف في فهم و تفسير نشيد الأناشيد سيبقى أمرا حتميا بين القراءات المختلفة تبعا لاختلاف قرائه، و هذا ما نجده في اختلاف القراءات اليهودية و المسيحية و الإسلامية و العلمانية و سواها.

 

  فاليهودي  يقرأ هذا السفر في إطار الإيمان التقليدي اليهودي، ويفسره بما ينسجم مع هذا التقليد؛ و في ظل ثقافة ذكورية و انتقاصية  في موقفها من كل من المرأة و الجنس لا مفر من تفسير هذا السفر تفسيرا رمزيا، يتم من خلاله حل المشكلة الجنسية في لغة النص المباشرة عبر معنى باطني مفترض، يصبح النص فيه معبـّرا عن حب الإله يهوه لشعبه إسرائيل.

   ففكرة الحب الجنسي المطروح في سفر النشيد بما يتضمنه من جنسية التعبير لا يمكنها أن تجد مكانا لها في قراءة دينية من قبل تقليد يعاب فيه الجنس و تنتقص فيه مكانة المرأة، و هكذا يؤمـّن التفسير الرمزي أو التأويل لأصحابه إمكانية الهروب من مشكلة اللغة الجنسية في النص، لكن هذا يطرح السؤال عما كان عليه الموقف في المدة الممتدة لقرون بين لحظة تقنين السفر و بداية تأويله، و كيف نظر اليهود إلى هذا السفر و تعاملوا معه؟1 و يجعل فكرة أن يكون الموقف الديني اليهودي من الجنس قد بقي فضفاضا على مدى هذه القرون، و الحسم بالتدريج لصالح الموقف القيمي السلبي منه، مقبولة.

 

   هذا النهج ، و لنفس الأسباب و أسباب سواها تابعته المسيحية، فهي بدورها لا تستطيع أن تقبل سفرا جنسيا في كتابها و تقليدها المقدسين، و لاسيما أنها ذهبت بطهرانيتها الجنسية إلى حد أبعد من اليهودية، فقرنت الجنس بالدنس، و أقصته عن ميلاد مؤسسها يسوع المسيح الذي ولد بحبل بلا دنس، و هي أيضا لم يكن بمستطاعها إنكار المنهجية التأويلية التي نشأت عند اليهود في تفسير النص، فهي قد اعترفت باليهودية و اعتبرتها "كنيسة العهد القديم" الممهدة السبيل لـ "كنيسة العهد الجديد"، و إضافة إلى ما تقدم، دفعت المسيحية بدورها منهجية تأويل الأسفار المقدسة قدما إلى الأمام، و ركزت على التفسير الرمزي لأسفار اليهود أكثر من تركيزهم هم أنفسهم على ذلك بكثير، فهي كانت بحاجة لذلك لكي تتمكن عبر هذا التأويل من إيجاد مكان مركزي ليسوع المسيح في العهد القديم، تربط به بين الإيمان المسيحي و جذوره اليهودية، و هكذا وصلت المسيحية إلى مقاربة تأويلية لسفر النشيد، تجعل الحب المطروح فيه بشكل جنسي حبا رمزيا يدل على محبة المسيح للإنسان جماعةً كنيسية و نفسا فردية.

 

     إسلاميا، ينظر المسلم إلى النشيد بصفته سفرا في كتاب يعتبره محرّفا، و بذهنية تدين الجنس و تقبحه أيضا، و هذا قاسم مشترك بينه و بين كل من اليهودي و المسيحي التقليدي، و هذا يعطيه الفرصة  ليجعل ما في لغة النشيد من جنسية في التعبير مادة مناسبة لمهاجمة السفر و كتابه و أصحابه، و رؤية السفر سفرا إباحيا و ثنيا شيطانيا، و اعتبار تآويله ألاعيب احتيالية باطلة يقوم بها اللاهوتيون الكتابيون للالتفاف على الحقائق.

 

  علمانيا، يرى العلمانيون في الدين ككل ظاهرة بشرية المنشأ، و هم يشاركون العلماء رؤيتهم نشأةَ كل من اليهودية و المسيحية بكل ما فيهما من معتقدات و تقاليد و أسفار فصلين في عملية نشأة و تطور الأديان في الشرق الأوسط القديم، و بالتالي يـُقرأ النشيد في سياق ديني كتابي مرتبط بسلفيات وثنية و متطور عنها، و يغدو استمرارا لتقاليد الخصب الشرقية السابقة في لبوس يهودية أو مسيحية، و تصبح التفاسير الرمزية للسفر بدورها جزءا من عملية الإنتاج العقائدي الديني التي يقوم بها الإنسان، و استكمالا لضرورات عقائدية تدخل فيها كل من الأخلاق السلبية تجاه الجنس، و الحاجة لبلورة و تمتين القوالب العقائدية في توصيف العلاقة ين الإله و الإنسان، ممثلة بيهوه و إسرائيل يهوديا، و بيسوع و الكنيسة مسيحيا.

   و في قرائته للسفر لا يعاني العلماني من ضغط التابو الجنسي أو الإرث العقائدي، و هو يستطيع أن يقرأه قراءة عقلانية حرة و أن يضع الحب الجنسي فيه في موقعه الإنساني الصحيح للحب و الجنس، و أن يضع السفر نفسه بصفته سفرا دينيا في مكانه الإنساني الصحيح للدين.

 

   إن وجود سفر النشيد كسفر عشق جنسي في كتاب مقدس لا ينتمي إلى تقليد الخصب أو الجنس المقدس، هو أمر إشكالي بحد ذاته، فماذا يفعل هذا الكتاب في مثل هذا السفر، و ما الغاية من وجوده فيه؟! و مهما كانت العلاقة بين النشيد و الأناشيد الوثنية المشابهة، فحقيقية وجوده في شكله اليهودي يبقى مثارا لأسئلة هامة:

  • عن غاية مؤلف النص من تأليفه ([29]).
  • و عن غاية مقنن النص من تقنينه.

 

    ليس لدينا تقريبا أية معطيات تاريخية موثقة عن شخصية مؤلف النشيد، و تاريخ تأليفه للسفر، و لا عن البيئة الثقافية التي كان ينتمي إليها، و لا عن غايته من تأليف النشيد، و لا عن المنهجية التي كان يستخدمها سواء كانت المباشرة أو الرمز، و لا يمكن الجزم النهائي في ذلك، و لكن إذا نظرنا إلى تاريخ السفر الذي ليس فيه أية معلومات موثقة عن تأليفه، فسنجد في المقابل أن أكثر من ستة قرون تفصل بين تقنينه و بدايات ظهور تأويله، وخلال كل هذه المدة ليس ثمة ما يشير إلى وجود أية منهجية في "التعبير التمثيلي" و ما تقتضيه من "تفسير رمزي" مرتبط بها في التقليد اليهودي، أما ما فعله بعض يهود الإسكندرية و أشهرهم فيلون، فكان عبارة عن إسقاطات تأويلية على الكتاب المقدس مرتبطة بتأثير الثقافة اليونانية أو المواجهة معها.

 

   ما تقدم يصب في مصلحة "المعنى المباشر لتأليف النص"، و مثل هذا الكلام ينطبق بدرجة كبيرة أيضا على مقنن النص، الذي لا نعرف دافعه الحقيقي و لا غايته الحقيقية من التقنين، لكننا نعرف انتماءه إلى التقليد اليهودي المتعارض مع التقليد الخصبي، و مع غياب ما يدل على أي فهم رمزي لهذا السفر على مدى قرون بين التقنين و التأويل، و عدم وجود أية معطيات عن أية غاية مرتبطة بالإعلاء من شأن الحب الجنسي .. و وجود ما يدل على العكس من ذلك، يصبح مرجحا احتمال إدراج هذا السفر في كتاب اليهود المقدس فقط بناء على شيوع فكرة نسبه إلى الملك سليمان، الذي تصفه أسفار اليهود بالإبداع الإنشادي و بمحبة النساء، و هذا يعطي إمكانية الجمع بين هاتين الخصلتين في ذهن المقنن، و تقنين السفر بالارتباط معهما.

 

  كل نص عند قراءته يحتمل العديد من التفاسير، و كل تفسير منها مطالب بتقديم الإثباتات و البراهين على مصداقيته، و من حيث المبدأ كل نص يحمل إما معنى مباشرا أو مجازيا أو كلاهما، و لكن من المنطق القول أن افتراض المجازية في معنى النص هو ما يحتاج إلى الإثبات، و ليس "المباشرة" عندما يحمل النص معنى مباشرا واضحا، فإن تعذر إثبات "المجاز"  رجحت كفة المباشرة.

   فهل من سند لمجازية تفسير نشيد الإنشاد؟

 

   عند الكلام عن المجازية في الشعر الصوفي الإسلامي نجد الكثير من الإثباتات، فالمنهج الرمزي عند المتصوفة كان معروفا، و كانت أساليبه معروفة، و هذا ما نجده في كتابات و تآليف المتصوفة أنفسهم أو عند من كتب عنهم منذ بواكير نشأة الصوفية، و هذا يعني أن "فكرة التفسير بالمجاز" للأدب و الفكر الصوفيين لم تكن نتاج قرون لاحقة، مما يجعلها موضع مساءلة، و يجعل احتمال كونها إسقاطا غيريا كبيرا.

   فماذا لدى المؤولين الكتابيين من هذا القبيل، و هل لديهم من أدلة تثبت استخدام الرمز و الكناية في التعبير الكتابي؟

  نعم ثمة شيء من هذا القبيل،  فأسفار "إشعياء، إرميا، حزقيال، و هوشع" النبوية  مثلا تستخدم لغة المجاز في وصف علاقة يهوه و إسرائيل، و تشبها أحيانا بعلاقة العريس و العروس، و غالبا بعلاقة الزوج و الزوجة، حيث يمثل يهوه العريس أو الزوج، و إسرائيل العروس أو الزوجة.

   لكن المجاز هناك واضح لا لبس فيه، بل يمكن القول أنه مجاز مباشر لا يحتاج إلى تأويل، و المعنى فيه واحد تقريبا، حيث تلعب إسرائيل دور الزوجة الزانية ، التي تخون يهوه بالزنا مع الأغراب، أي بعبادة الآلهة الوثنية أو بإتباع العادات الوثنية، فيما يلعب يهوه دور الزوج الغيور، المنتقم، و لكن المتمسك بزوجته، و المواظب على حبها، و الدائم السعي لاستعادتها و إقناعها بالتوبة.

   هذه صورة نمطية في تلك الأسفار، و هي تقدم في هذا الشكل العام، و بدون أية تفاصيل، فيما يحفل النشيد بالتفاصيل و التعابير الدقيقة، و يمضي كله على هذا المنوال، فهل يكفي وجود تلك الصورة التشبيهية العامة في تلك الأسفار لتصبح القاعدة التي تفسر فيها تفاصيل النشيد الجزئية؟ و كيف يمكننا مثلا أن نقتنع بأن القبلات المذكورة في مطلع النشيد تعني "الشوق للتواصل المباشر مع الله" كما يقول العلامة أوريجانوس([30])، أو "انتظار التوراة" حسبما يقول الحاخام صموئيل بن مئير([31])، و من منهما المحق و هما يؤوّلان باختلاف؟1 و على أي أساس يمكننا أن نقبل "أن الثديين يعنيان اللوحين الذين كتبت عليهما وصايا الناموس" كما يقول الحاخام جاك أبراموفيتش([32])؟ و كيف نحسم مسألة من تمثل شولاميت، وهل هي إسرائيل؟ أم الكنيسة؟ أم السيدة العذراء؟ أم غير ذلك؟ كما تقول التآويل المختلفة!

 

  إن وجود تلك التشابيه في الأسفار النبوية المذكورة أعلاه لا يمكنها أن تشكل قاعدة لتأويل سفر النشيد، فهي بحد ذاتها واضحة و لا تحتاج إلى أي تأويل رغم استخدامها الكناية و التشبيه الواضحين كليا بدورهما، أما سفر النشيد فليس فيه ما يدل على أنه يستخدم لغة مستترة أو تورية، و المجازية فيه غزلية واضحة و لا تتعدى ما فيه من غنى بالمحسنات البديعية، و وفرة في الكنايات التعبيرية و التشابيه الجمالية.، أما اللغة المجازية المفترضة التي تجعله يتحدث عن علاقة إلهية – بشرية ما، فيجب استعارتها و إسقاطها عليه من أسفار أخرى، تختلف بدورها عنه في مضمون و شكل الخطاب، ففي تلك الأسفار تصور الشخصية المؤنثة في الحديث عن علاقة يهوه بإسرائيل بصورة سلبية تقرنها بالخيانة و الزنى المستمرين  كما هو الحال في الآية التالية التي يخاطب فيها يهوه إسرائيل: «و لكنك اعتمدت على جمالك و زنيت اتكالا على شهرتك. أغدقت عهارتك على كل عابر سبيل راغب فيك، و أخذت بعض ثيابك فصنعت لنفسك مشارف للأصنام ملونة ً زنيت عليها زنى لم يكن له مثيل و لن يكون» (حز6: 15-16)، فيما تصور الشخصية الذكرية بصورة إيجابية تعبر عن الحب الدائم للطرف الآخر رغم أنه لا يستحقه بحد ذاته، كما تعبر عن الاستعداد الدائم للمسامحة، وعن الوفاء التام الذي لا يستبدل الزوجة بأخرى رغم خياناتها الكثيرة والمتكررة ، و هذه الصورة هي بحد ذاتها ذات طابع ذكوري جلي، فالجانب الخيّر فيها مقترن بالذكر و الشرير منها بالأنثى، أما سفر النشيد، فلا وجود فيه لمثل هذه الصورة، فالحبيبان فيه متكافئان في الحب، و كلاهما يحب الآخر بمنتهى الحرارة و الصدق، و كلاهما يصور بأجمل تعابير الجمال، و لا وجود لأي قبح مسلكي من قبل أي منهما بحق الآخر! بل نجد أن الحبيبة فيه هي صاحبة المبادرة في حديث الحب، و هي التي تتكلم أكثر و تعرب عن حبها و أشواقها لحبيبها و شدة سعيها إليه، و هكذا تظهر العلاقة في النشيد مثلى، و هي في غاية الجمال، و هي لا تشبه العلاقات الموصوفة في الأسفار النبوية الغارقة في القبح بكل ما فيها من خيانة و انتقام، وهذا يعطي الإمكانية للقول بأن سند المجازية التصويرية المستمد من أسفار أخرى يصبح واهيا جدا عند سحبه إلى نشيد الأناشيد.

 

  تأويل سفر النشيد لا يقوم فعليا على المجاز، بل على "التبطين"، أي فرض وجود معنى باطني حقيقي وراء المعنى الظاهر الظاهري، و هذا لا تحتاجه الأسفار الأخرى ، الواضحة تماما في معناها المباشر،، أما إسناد التفسير الرمزي للنشيد على مجازات الأسفار الأخرى، فهو لا يقوم على منهجية منطقية ، و هذا ما يمكن إيجازه بالأسباب التالية :

  • عدم وجود أي دليل داخلي واضح على الغاية الرمزية في النشيد، أما الأسفار المذكورة فالكناية فيها واضحة و مباشرة.
  • عدم حاجة تلك الأسفار إلى أي تأويل يدفعها إلى معنى باطني مختلف عن معناها الظاهر، بينما يحتاج النشيد إلى التأويل بالكامل ليتوافق مع التشابيه الواردة في تلك الأسفار عند أقصى مستويات عموميتها.
  • اختلاف خطاب النشيد جذريا عن خطاب تلك الأسفار، سواء في صورة العاشقين أو في صورة العلاقة بينهما.
  • لم يختلف المفسرون على تفسير آيات تلك الأسفار النبوية التي تصف العلاقة بين يهوه و إسرائيل، و لم يحتاجوا إلى أي تأويل لها، فيما اختلف المؤولون اليهود مع بعضهم البعض، و مع المؤولين المسيحيين، الذين لم يتفقوا بدورهم في ما بينهم على ما طرحوه من تآويل.

 

   و ما تقدم يجعل محاولات تأويل النشيد بناء على تشابيه و كنايات الأسفار الأخرى كمحاولة تأويل قصائد ابن زيدون الغزلية مثلا بالاعتماد على منهجية ابن الفارض الصوفية.

 

   مما لا شك فيه أن الدافع الأساسي لتأويل النشيد كان و ما يزال هو لغته الجنسية!

    لكن هل هرب التأويل حقا من إحراج الجنس؟

   هل التعبير بعبارات و أوصاف جنسية عن علاقة الله بالإنسان أمر مسموح و مقبول، و هو ليس كذلك عند الكلام عن علاقة الرجل المرأة؟!

   و إن كان الجنس دنسا، و الكلام فيه عيبا، فهل يجوز استخدام لغة الجنس المعيبة الدنسة لوصف الحب الإلهي المقدس؟

   و هنا أوليس الجواب بالإيجاب يعني إمكانية تصوير فيلم إغراء أيروتيكي و تقديمه على أنه يوصف مجازيا علاقةً ما بين الله و الإنسان؟

 

   إن الهرب من الجنس في المدلول في النشيد إلى حب مفترض في السماء، لم يوفر بتاتا إمكانية الهرب من الجنس في الأسلوب في  كل من اللفظة والفكرة، فما زالت القبلة تعني القبلة، و الثدي يعني الثدي، و الفخذ  يعني الفخذ، و السرة تعني السرة، و إلخ..  و كل الأفكار المتعلقة بها في النص تعني بالضبط ما تعنيه، و في جو عقائدي يحتقر الجنس و يعيبه، سنجد أنفسنا أمام تناقض فظيع لا تقبله إلا الذهنية الإيمانية المعتادة على السمع و الطاعة و التسليم! 

  ذاك من ناحية، و من ناحية ثانية، ما تزال العلاقة السلبية مع الجنس في الموقف اللاهوتي المسيحي التقليدي هي محرك التأويل الأساسي  للنشيد ، لتتعزز به بدورها، لكن هذا الموقف من الجنس ما زال يعطي الإمكانية الكبيرة للهجوم على النشيد و المسيحية معه ككل من قبل الآخرين، كالإسلاميين و بعض العلمانيين، و الأصح أنصاف العلمانيين، مثلا عبر بوابة الجنس.

   و لذا، إن أرادت المسيحية أن تخلص من التناقض بين سماوية المدلول و رجاسة الأسلوب في الصورة التقليدية للنشيد المقترن باحتقار الجنس، أو أرادت الخلاص من إحراج التعبير الجنسي في السفر، فليس أمامها إلا حل واحد في كلتا الحالتين، و هو تغيير المنظور الجنسي تماما، و إسقاط وصمة السوء و التفاهة و الدنس عن الجنس، و وضعه في مكانه الإنساني الطبيعي، و النظر إليه كعلاقة نبيلة جميلة خلقها الله، و  يجب أن تتم  بما ينسجم مع إرادته و كلمته و ناموسه لتحافظ على نبلها و جمالها، و هنا لا يعود ثمة أية إشكالية بتاتا في الربط بين الحب الجنسي و الحب السماوي عبر النشيد، بشكل يحقق بينهما الانسجام و التكامل، و لا يعود ثمة داع لاختراع قوالب تأويلية و إسقاطها قسرا على آيات النشيد، و سيكون كافيا القول أن هذا النشيد يعبر و بكل صراحة عن الحب الجنسي بكافة أبعاده الجسدية و العاطفية و الروحية، و هو موجود في الكتاب المقدس بهذه الصورة المثلى، لكي نرى فيه الشكل الأمثل للعلاقة بين الرجل و المرأة، الذي يعيدنا إليها في أصالتها الجنـّوِية قبل سقوط  الإنسان، و هذا من ناحية اعتراف بها كعلاقة مباركة تنسجم مع الحياة الدينية القويمة، و فسح للمجال لتقديمها كعلاقة سامية يمكن من خلالها تمثيل العلاقة بين الله و الإنسان، أو بين المسيح و الكنيسة أو بينه و بين النفس البشرية.

 

    في هذه المقاربة، يمكن العودة إلى سفر التكوين و ما يقوله عن خلق و علاقة، آدم و حواء  للرد على أي  اعتراض داخلي مصرّ على دناسة الجنس و عيبيته، فآدم و حواء – كما يقول سفر التكوين- خلقا ذكرا و أنثى و لم يكونا من نفس الجنس، و خلقهما ذكرا و أنثى لم يكن بالطبع عبثا و لا عرضا، بل كان بغاية أن تقوم بينهما علاقة على أساس الذكورة و الأنوثة، علاقة جنسية فعلية، و ليس علاقة مع وقف التنفيذ، و هي علاقة روحية و جسدية تامة، فالجسد حتى في عريه لم يكن معيبا في الجنة و لا أمام الله قبل السقوط.

 

  أما في ما يتعلق بالإسلاميين، فالمشكلة في العرف الإسلامي  تتشابه مع مثيلتها في العرف المسيحي التقليدي في نظرتها الشديدة الانتقاص لكل من المرأة و الجنس، فإن كان الجنس دنسا  في المسيحية التقليدية، فهو فحشاء في التقليد الإسلامي، و حتى الحب العاطفي أصبح عيبا بين الجنسين، و الزواج الشرعي لا يعدو كونه ترخيصا لهذا الفحش أو ذاك الدنس في كلا العرفين، الذي اتفقا في نظرتهما الدونية للجسد، و لاسيما جسد المرأة و إن اختلفت الأساليب، و هذا ما قاد في النهاية إلى عدم اقتران العورة بالعضو الجنسي فحسب، بل إلى سحبها على كامل كيان المرأة لتصبح إسلاميا كلها عورة، و هذا التطرف الذكوري الموقفي من المرأة في العرف الإسلامي يعود في جذوره إلى التطرف الضد جنسي، و هو نفس المبدأ الذي يؤسس للتأويل الهروبي لسفر النشيد مسيحيا و يهوديا.

 

   و بالتالي يمكن الرد على هجوم الإسلاميين على النشيد من منطلق جنسي بسؤالهم عن الصورة الحقيقية للجنس و الجسد في الإسلام، فهل هما رجس و شر؟ و ما هو البرهان على ذلك؟!

   إن ذلك لا يستوي قطعا مع الصورة التي نجدها لهما في الإسلام، فالجنة الإسلامية مزينة و مزدانة بالحوريات ذوات الأجساد البلورية الطاهرة و الخالية من أي عيب ([33])، الدائمات العذرية، اللاتي يمكن للمؤمن أن يطأهن دحما دحما ([34])، و ليس في ذلك مخالفة لإرادة الله، بل تمتعٌ بنعمته الفردوسية على المؤمن، فأصحاب الجنة شغلهم افتضاض (مضاجعة) العـذارى([35])،ولا يعيب الواحد منهم أن يأتي إلى يوم الحساب عاريا كما ولدته أمه([36])، فالله قد خلق الإنسان بما فيه من روح و جسد، و بكل ما في الجسد من أعضاء في أحسن تقويم؛ كما أنه قد كرم نبيه سليمان من بين ما كرمه فيه بإعطائه القدرة على أن يطوف حتى على عشرات النساء في ليلة واحدة([37])، كما كرم المؤمن في الجنة أيضا بأن أعطاه القدرة لیصل في الیوم إلى مائة عذراء([38]).

   و حتى على مستوى الألفاظ، ثمة اليوم ألفاظ يعتبر استخدام بعضها مشينا، و بعضها الآخر مكروها، و لكنها استخدمت إسلاميا عند الحاجة بدون أي حرج، و منها ما ورد في الحديث، و منها ما ورد في القرآن، و هي ألفاظ أكثر صراحة في جنسيتها من ألفاظ النشيد([39]).

    و المشكلة ليست في اللفظة و لا في الفكرة بحد ذاتيهما، بل في الإطار الثقافي المحيط بهما و موقع ما تعبـّر الفكرة عنه أو ما تشير اللفظة إليه  فيه من الناحية القيمية، فإن كانت اللفظة أو الفكرة مرتبطة بالجنس في ثقافة تعهره و تحتقره، فالتحقير و التعهير سيطال حكما كل ما يرتبط به من فكر و تعبير و لفظ  و كل شيء آخر ينتمي إليه، و ما يعانيه نشيد الأناشيد بسبب لغته الجنسية من هجوم إسلامي أو سواه.. و من هروب يهودي و مسيحي تقليديين إلى التأويل يعود إلى الموقف السلبي المشترك عند كل هؤلاء الأطراف من الجنس.   

 

  إن الألفاظ و الأفكار الجنسية الصريحة في النشيد، ليس فيها مشكلة بحد ذاتها، فالمشكلة- كما سلف القول- ليست في اللفظة و لا في الفكرة نفسهما، بل في السياق الذي تستخدمان فيه، و حين تعاد إلى الجنس مكانته الطبيعية و الخلقية، لا يعود من مشكلة في استخدام اللفظة الجنسية في التعبير عن الحب الجنسي، و لو عدنا إلى الأدب العربي قديمه و حديثه، فسنجد فيه قدرا وافرا من الشعر و الأدب و الفكر الذي يتحدث عن أمور الحب الجنسي و الجمال الحسي و لم يقصّر في وصف ساق أو بطن أو ردف أو نهد،  بل و ذهب أبعد من ذلك إلى ما نعتبر الكلام فيه محرما اليوم، و قصائد مثل "اليتيمة " و "المتجردة" و  العديد من مثيلاتها، و قصص ألف ليلة و ليلة بما فيها من غراميات و مشاهد جنسية، و الكتب العديدة التي تناولت الجنس فقها و علما و أدبا و ترفيها خير دليل على ذلك ، فهذا كله كان أمرا طبيعيا و لم يكن يعاب أو يدان في ظروف ثقافة نامية كانت تتعامل بواقعية و أريحية مع قضية الجنس، لكن عندما فقد العرب حضارتهم، فقدوا معها كلا من الواقعية و الأريحية الجنسيتين، و انحطت كل جوانب ثقافتهم بما فيها الجانب الجنسي، و لذا ليس غريبا أن نجد اليوم مع ما نعانيه من حطة ثقافية شاملة هجوما إسلاميا كثيفا عنيفا على نشيد الأناشيد، في حين لم تعرف أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية أي شيء من هذا القبيل، و هذا الواقع الراهن المزري ينعكس بدوره استمرارا في الهروب من صريح النشيد إلى الـتأويل عند المسيحيين العرب.

 

   حري بكلا الطرفين أن يسألا نفسيهما عن السبب الذي يجعل الجنس مسألة من السوء بحيث تستحق المهاجمة أو الهروب منها، و سنجد أنهما يفعلان ذلك على أساس ديني يتناقض مع الدين نفسه، ففي ما تقدم نجد في الإسلام ما يناقض موقف الإسلاميين الجنسي، و لو فرضنا جدلا بأنهم محقون في تعهير الجنس، فهذه الحقيقة ستنعكس بأشد أشكال السوء على الإسلام نفسه بما فيه من خطاب جنسي صريح و هام،  لكن بما أن الإسلاميين يدّعون فقط بناء كل مواقفهم على الإسلام،  فهذا يبرئ الجنس من أباطيل أوهامهم التي تنافى مع الإسلام بشكل جلي، و لو أنهم بنوا مواقفهم على الإسلام بشكل فعلي لتغير وجوبا و إيجابا واقع موقفهم الجنسي، و مثل هذا الكلام يمكن قوله للمسيحيين و اليهود، و هو يعني أن عليهم أن يؤسسوا موقفهم الإيجابي من الجنس على سفر النشيد الكتابي، و ليس العكس بأن يسقطوا موقفهم السلبي منه المؤسس على تقاليد و أعراف ليس لها من سند إيماني أو منطقي أو علمي، و هي تتناقض بشكل صارخ مع إنسانية الإنسان.

     

  أما أنصاف العلمانيين، فالاعتراف بجنسية حب نشيد الأناشيد في حدود نظرة صحية سليمة للجنس كنشاط و كعلاقة إنسانيين،  يعري زيفهم  و تردي مستوى تفكيرهم، و عدم تحررهم من عقدة الجنس التقليدية في الثقافات المتخلفة، في وقت تقوم فيه العلمانية الحقة على الإنسانية و العقلانية، اللتين تعترفان بإنسانية الجنس و لا تلصقان به أي سوء أو مذمة بتاتا.   

 

   في وقت لم يكن فيه من إمكانية لقراءة النشيد إلا في إطار ارتباطه الموضوعي بالكتاب المقدس و التقليد الإيماني، أمـّن المنهج التأويلي لهذا السفر للمسيحية على مدى القرون التوازن الداخلي و  تفادي الحرج الجنسي في أجواء ثقافية كانت صورة الجنس فيها مشوهة، كما أمن لها واحدة من أهم إمكانيات مركزة يسوع المسيح في العهد القديم، و على مدى القرون ساهم هذا المنهج بشكل فعال في إنتاج الكثير من الأدب التأويلي و الروحي الجميلين و نمو التصوف المسيحي و ما فيه من سمو لطرح فكرة المحبة الإلهية و لشكل العلاقة بين الله و الإنسان، رغم أنه في الناحية المقابلة كرس الصورة السيئة للحب الجنسي.

   و اليوم و مع تطور الفكر المعاصر و العلوم المعاصرة، أصبح ثمة إمكانية لقراءة النشيد قراءة متجددة مسيحيا و علمانيا  في أجواء الفكر و الثقافة العقلانية الحديثين المنفتحين إنسانيا و دينيا و جنسيا، و التواصل مع مكتشفات العلوم الحديثة في الأركيولوجيا و التاريخ الديني و سواهما، مما يعطي الإمكانية لظهور مقاربات تفسيرية كنسية يتوازن فيها الحب الجنسي في النشيد مع المحيط الإيماني و فكرة الحب الإلهي المنتشرة فيه، و  للنظر إليه علمانيا كمنتج إبداعي تاريخي إنساني جميل، يقدم صورة تاريخية و عصرية عن شكل رائع للحب يتكامل فيه جمال الكيان الإنساني كله و العالم الطبيعي في لوحة عشقية بديعة. 

  و هذه يلتقي مع ما يقوله القديس بولس:

 «عند الطاهرين، كل شيء طاهر. أما عند النجسين و غير المؤمنين، فما من شيء طاهر، بل إن عقولهم و ضمائرهم أيضا صارت نجسة» (تيطس 1: 15).

 

 

 

النشيد في الثقافة العالمية المعاصرة ([40]):

 

   كان هذا السفر و ما يزال مصدر إلهام كبير لكثير من الباحثين اللاهوتيين و العلميين، و للمفكرين و الأدباء و الشعراء و الفنانين، الذين أنتجوا حوله أو بوحي منه العديد من الروائع في مجالات شتى، و يمكن أن نذكر منها:

 

     في  الفن التصويري:

    - لوحة "الملك سليمان على العرش" للرسام الفلمنكي ـ مارتين دي فوس (Maarten de Vos) 1590م.

     - نقش "وردة شارون" من مجموعة " الكتاب المقدس في لوحات" لـلرسام الألماني يوليوس شنور فون كارولسفيلد. (Julius Schnorr von Carolsfeld) في القرن الثامن عشر.

     - لوحة "المحبوبة" لـلرسام الإنكليزي دانتي غابرئيل روستي ( Dante Gabriel Rossetti) بين عامي 1865-1866 م.

     - لوحة "العذراء شولاميت" لـلرسام الفرنسي Gustave Moreau من القرن التاسع عشر.

 

      في الأدب و النثر :

  • تحقيق نشيد الأناشيد (Précis du Cantique des cantiques) للمفكر الفرنسي الشهير فولتير،1759م.
  • قصيدة "سليمان و شولاميت" الشعرية التفسيرية للشاعر الروسي درجافين (Derzhavin)، 1808م.
  • قصة "شولاميت" (Sulamif) للكاتب الروسي كوبرين (Kuprin) ، 1808م.
  • قصة شعرية بعنوان (نشيد الأناشيد) لـلكاتب اليهودي شوليم أليخيم (Sholom-Aleykhem) بين عامي 1909- 1911م.
  • قصيدة كوميدية بعنوان " نشيد الأناشيد" للـمؤلف الروسي ساشا تشورني (Sásha Chornyy) الذي عاش بن عامي 1880-1930م.
  • قصيدة " نشيد الأناشيد" للشاعر الألماني هنريخ هاينه (Heinrich Heine) في أواسط القرن التاسع عشر

 

      في الموسيقا:

  • معزوفة "نشيد الأناشيد" للموسيقار الإيطالي جيوفاني بييرلوجي دا باليسترينا. (Giovanni Pierluigi da Palestrina) من القرن السادس عشر.
  • معزوفة "نشيد الأناشيد" للموسيقار الروسي ديميتري نيكولايفيتش سميرنوف ( Dmitriy Nikolayevich Smirnov)، 1997م.
  • معزوفة "نشيد الأناشيد" للموسيقار الروسي مارك لافري (Mark Lavri) الذي عاش بن عامي (1903-1967م.).

 

    في الغناء:

  • أغنية "نشيد الأناشيد" لميخائيل شبيليفسكي (Mikhail Shpilevskiy).
  • أغنية "نشيد الأناشيد" لفرقة أورشليم الجديدة (Novi Ierusalim) البيلوروسية،عام 2002
  • أغنية "شولاميت (Sulamif) للمغنية الروسية إيرينا بوغوشيفسكايا (Irina Bogushevskaya)، 1998
  • مقطوعة كورَس لـ ديفيد لينغ في فيلم " الشباب" لـلمخرج الإيطالي باولو سورّينتينو (Paolo Sorrentino ) 2015 .
  • كما تجدر الإشارة إلى أن أغنية فيروز "أنا لحبيبي و حبيبي إلي" هي أيضا مستوحاة من هذا النشيد.

 

      في الفلك:

  • تكريما لشولاميت أطلق اسمها على الكويكب الفلكي (752)، الذي اكتشفه عالم الفلك الروسي غريغوري نيؤيمين (Grigoriy Neúymin) عام 1913.

 

 

     خاتمة:

    

     عندما يتحرر العقل و يمضي الفكر في طريق العقلانية، و تنطلق النفس و تزكو، تنمو روحانية الإنسان و تسمو إنسانيته، فيقرأ بنور العقل و حرارة القلب كلا من الأسطورة و الدين، و يضعهما مطهـّرين من كل ما يناقض الإنسانية في مكانهما الصحيح، محا فظا على ما فيهما من جمال و سحر يبعثان في وجدانه النشوة و في  نفسه الدفء، فمنهما يفوح عبق التاريخ.. و فيهما تتراقص جذوة الرمز، و عبر هذا و ذاك يربط الإنسان ذاته مع الزمن في بعده السرمدي، و مع الكون في معناه المتعالي.

   و نشيد الأناشيد هو سفر يجمع بين العشق الجنسي في صورته الأبهى و بين الانتماء إلى عالم الأسطورة و الدين بكل ما فيه من جاذبية السر و حلاوة الإيمان، و هو بذلك نشيد قابل ليـَنشـُد الإنسان و يـُنشـِد فيه الحب بكافة وجوهه المتكاملة في وحدة الوجود بين الأرض و السماء.

    إنه نشيد يستحق القراءة بعقل طليق يمضي مع شولاميت إلى حيث تقوده في كشف سرها بلا قيود، و بقلب منفتح يتلقى من هذا السر ما تهبه بلاحدود.

    و هو المسرح الطبيعي الجميل الذي تتقابل فيه عشتار النابضة بالحب و الخصب مع المسيح المكلل بالمحبة و السلام، ليكونا أقنومين في لاهوت كوني حيوي شامل، يحياه الإنسان في ذاته  المتكاملة المتسالمة مع إنسانيتها، و المرتقية فيها إلى المطلق اللانهائي.

   و ربما إذا أصغينا في سكينة سنسمع هذه النغمة في همسة شولاميت النابضة بالحب، القادمة من أعماق التاريخ و من قلب الحياة تدعونا إلى أعماق الكون و أعالي السماء.  

 *

 

 

 

 

   قائمة توضيحية لاختصارات أسفار الكتاب المقدسة الواردة في البحث،

   كما  وردت في "كتاب الحياة- ترجمة تفسيرية" للكتاب المقدس ([41]):

 

1كو: رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس

1مل: سفر الملوك الأول

1يو : رسالة القديس يوحنا الأولى

2تيم: رسالة القديس بولس الثانية إلى تيموثاوس

2صمو: سفر صموئيل الثاني

ار: سفر إرميا

اش: سفر إشعياء

أمث: سفر الأمثال

تك: سفر التكوين

تي: رسالة القديس بولس إلى تيطس

حز: سفر حزقيال

لاو: سفر اللاويين

لو: الإنجيل حسب لوقا

مت: الإنجيل حسب متى

نش: سفر نشيد الأناشيد

هو: سفر هوشع

 

 

 

   قائمة توضيحية لاختصارات ترجمات الكتاب المقدس (البيبليا) الواردة في البحث:

 

 

ASV- Ameican Standard Version

النسخة القياسية الأمريكية         

BBE- Bible in Basic English

 البيبليا في الإنكليزية الأساسية          

KJV- King James Version

نسخة الملك جميس         

MSG- The Message: The Bible in Contemporary Language

الرسالة: البيبليا في اللغة المعاصرة          

NASB- New American Standard Bible

البيبليا القياسية الأمريكي الجديد            

NET- New English Translation

الترجمة الإنكليزية الجديدة         

NHEB- New Heart English Bible

بيبليا القلب الجديد الإنكليزية          

NIV- New International Version

النسخة العالمية الجديدة        

NLT- New Living Translation

الترجمة الحية الجديدة         

 

 

*

 

 حواشي الدراسة:

[1]  Song of Songs,What does God want to teach us through this,

http://www.answering-islam.org/Andy/Songs/commentary.html      

[2] - https://en.wikipedia.org/wiki/Shulamith

[3] - استخدمت هنا، و ستستخدم لاحقا، الترجمة العربية لنشيد الإنشاد في نسخة الكتاب المقدس "(كتاب الحياة، ترجمة تفسيرية، جي.سي. سنتر، القاهرة، ط4، 1992).

[4] - آيات العهد القديم في هذه الدراسة مقتبسة من نسخة الكتاب المقدس (كتاب الحياة، ترجمة تفسيرية).

[5] -https://ru.wikipedia.org/wiki/Суламита

[6] -https://en.wikipedia.org/wiki/Queen_of_Sheba

[7] -https://ru.wikipedia.org/wiki/Суламита

[8] - ترصة هي مدينة كنعانيّة قديمة، صارت عاصمة لإسرائيل، مملكة الشمال، عند انقسام مملكة سليمان ، وظلّت كذلك حتى بنى عمري مدينة السامرة وأقام فيها، و قد مثّلت ترصة مملكة الشمال، فيما مثلت أورشليم مملكة الجنوب.

- عن موقع الأب بولس الفغالي

[9] - موقع الأنبا تكلا هيمانوت، شرح الكتاب المقدس - القمص تادرس يعقوب، تفسير سفر نشيد الأنشاد - المقدمة

[10] - Mark Giszczak,Was Theodore of Mopsuestia condemned for his views on the Song of Songs?, http://catholicbiblestudent.com/2011/01/was-theodore-of-mopsuestia-song-of-songs.html

[11] - Christine Christ-von Wedel, Erasmus of Rotterdam: Advocate of a New Christianity,University of Toronto Press, 2013,page 245.

[12] -  يوحنا قمبر ولويس خليفة "نشيد الإنشاد، أجمل نشيد في الكون"،  كلية اللاهوت الحبرية، جامعة الروح القدس، الكسليك، لبنان،1994، ص 10.

[13] -  يوحنا قمبر ولويس خليفة، المرجع السابق، ص 68.

[14] - ج.لود كار، نشيد الإنشاد، ترجمة إدوارد وديع عبد المسيح، دار الثقافة، القاهرة، 2001، ط1، ص 101.

[15] - http://classic.net.bible.org/verse.php?book=Sos&chapter=7&verse=2.

[16] - نفس المرجع السابق.

[17] - http://biblehub.com/songs/7-2.htm

[18] - http://classic.net.bible.org/verse.php?book=Sos&chapter=7&verse=2.

[19] - الكتاب المقدس، كتاب الحياة- ترجمة تفسيرية، جي.سي.سنتر، ط4، القاهرة، 1992.

[20] -  فيليسيان شالي، موجز تاريخ الأديان، ت. حافظ الجمالي، دار طلاس، دمشق، 1991، ط1، ص 157.

 [21] - يمكن بهذا الصدد الرجوع إلى ثلاثية فراس السواح " الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم"،" آرام دمشق وإسرائيل - في التاريخ والتاريخ التوراتي"، و "تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود".

[22] - فراس السواح، لغز عشتار،دار علاء الدين، دمشق، 1996، ط6، ص194.

[23] - محمد أبورحمة، أغاني الحب بمصر القديمة.

[24] - آن ماري بلتييه، نشيد الأناشيد،ت. أنطون الغزال، سلسلة دراسات في الكتاب المقدس، دار المشرق،بيروت، 1994، ص 20.

[25] - موقع القديس تكلا هيمانوت، دراسات و تفاسير سفر نشيد الإنشاد،

http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Tafaseer-index/24-The-Book-of-Solomon-Song-Commentary.html

[26] - موقع مؤلفات و أعمال الخورأسقف بولس الفغالي، نشيد الأناشيد،

http://boulosfeghali.org/2017/frontend/web/index.php?r=site/text&TextID=1899&SectionID=29&CatID=225

[27] - http://boulosfeghali.com/boulos/index.php/site/content?ID=624&Cat=254

[28] - الكتاب المقدس، كتاب الحياة- ترجمة تفسيرية، جي.سي.سنتر، القاهرة، 1992، ط4، ص819.

[29] - يعتقد في التقليد اليهودي أن هذا السفر دون بعد العودة من السبي البابلي سنة 538 ق.م.، و قنن بعد ذلك من قبل الكاهن عزرا في القرن الخامس ق.م.

[30] - نشيد الإنشاد للعلامة أوريجانوس، ترجمة حنا بسطا، كنيسة العذراء بالإسكندرية، عدد ظهور الصليب المجيد 17 سبتمبر 1976، ص 7.  

[31] - موقع منتديات الكنيسة، تفسير سفر نشيد الانشاد للرابي اليهودي شموئيل بن مئير 

[32] -  موقع فريق اللاهوت الدفاعي، التفسير اليهودي لسفر نشيد الانشاد للرابي جاك أبراموفيتش

[33] - ورد في الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ اطَّلَعَت امْرَأة مِن نِسَاءِ أَهْل الْجَنَّة عَلَى أَهْلِ الأَرْض لأضَاءَت مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَت مَا بَيْنَهُمَا رِيْحاً وَلَنَصِيفها عَلَى رَأْسِهَا خَيْر مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»

[34] - ورد في الحديث: انَّهُ قِيلَ لَهُ (أي للنبي): أَنَطَأُ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - دَحْماً دَحْماً فَإِذَا قَامَ عَنْهَا رَجَعَتْ مُطَهَرَةً بِكْرا».

[35] - تفسير القرطبي لآية «إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ» (سورة يس- آية 55)

[36] - ورد في حديث عن عائشة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:« يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً»، قلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: « يا عائشة الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك».

[37] - ورد في الحديث: قال سليمان بن داود: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئًا إلاَّ واحدًا ساقطًا أحد شقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله»، و قد روي هذا الحديث بطرق متعددة ،  وعدد الأزواج فيه مختلف (ستون 60، سبعون 70، تسع وتسعون 99، مائة 100).

[38] - ورد في الحديث: قیل: یا رسول لله، أنفضي إلى نسائنا في الجنة ؟ فقال : إن الرجل لیصل في الیوم إلى مائة عذراء .

[39] - ورد في الحديث: «لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا. لاَ يَكْنِي، قَالَ: نعم. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ ».

[40] - https://ru.wikipedia.org/wiki/Песнь песней Соломона

[41] -  الكتاب المقدس، كتاب الحياة- ترجمة تفسيرية، جي.سي.سنتر، القاهرة، 1992، ط4.

 

***

هذا البحث منشور أيضا على:

 * موقع الأوان

* موقع الامبراطور

* موقع الأنطولوجيا

* موقع صوت العلمانية

***

و أهلا و سهلا بكم إلى

مدونة رسلان عامر على جست بيست إت

***