JustPaste.it

سؤال: الأن انتشر بين الأعاجم قضية تكفير العاذر، وأن من لم يكفر المشركين ومن يعذر بالجهل فقد كفر، وعليه فتم تكفير خلق كثير من الناس بحجة أنهم يعذرون المشركين، وينطلق هؤلاء من أقوال أئمة الدعوة النجدية، فهل فعلهم صحيح؟!

الجواب: هذه من المسائل التي قد راجت وانتشرت مؤخرًا، فأما تكفير من لم يكفر المشرك والكافر فهذه قاعدة صحيح مُجمع عليها، وبها طفحت كتب أهل العلم من أئمة الدعوة وغيرهم، ولكنها قاعدة عامة، وإنزال هذه القاعدة العامة على الأعيان تحتاج الى النظر في الشروط والمانع، "فتكفير المطلق هو: تنزيل الحكم بالكفر على الفعل والقول؛ فيقال: من قال كذا كفر، أو من فعل كذا كفر، دون تنزيل الحكم على المعين وإن كان قد أتى بالفعل أو القول المكفر، وتكفير المعين هو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل الكفر، أو قال بعد التحقيق من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع"[1]، وفي نصوص أئمة الدعوة ما يُثبت أن المسألة ليست بهذه الصورة التي يَعملُ بها الجُهّال من إسقاط الكفر دون النظر في الموانع والشروط وكأنها مسألة رياضية عبارة عن (1+1=2)، وأئمة الدعوة لم يفعلوا ما فعله هؤلاء الجهلة المارقين، رغم تنصيصهم على أن من لم يكفر المشرك فهو مثله.

- فمثلًا قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :

(بسم الله الرحمن الرحيم إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد : ما ذكرتم من قول الشيخ : كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة ؛ وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً ؟!)[2].

فهنا طلاب الإمام قد شكوا في كفر الطواغيت المشركين، ومع ذلك لم يكفرهم الإمام محمد ابن عبد الوهاب بل ابتدئ رسالته بالسلام وسماهم بالإخوان بدلًا من أن يسميهم بالمشركين أو المرتدين!! فهل أصبح هؤلاء الجهلة يعلمون التوحيد أكثر من إمام التوحيد نفسه؟!

- وقال أيضًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

(وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفّر من لم يكفّر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه. فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله )[3].

فانظر كيف عد القول بتكفير من لا يكفر من الكذب و البهتان!!!!

وأيضًا عندما علق الشيخ سليمان بن سحمان على السائل الذي يحاول أن يلزم الأئمة بتكفير من لم يكفر الجهمية من العلماء، فهل قال له ابن سحمان كلامك صحيح؟! بل انظر ماذا قال:

(لو قدر أن أحداً من العلماء توقف عـن القول بكفر أحد مـن هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية أو الجهال المقلدين لعباد القبور أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي، ولا بدع أن يغلط فقد غلط من هو خير منه، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" عشرة أسباب في العذر لهم فيما غلطوا فيه وأخطأوا وهم مجتهدون؛ وأما تكفيره أعني المخطئ والغالط فهو من الكذب والإلزام الباطل فإنه لم يكفر أحد من العلماء أحدا إذا توقف في كفر أحد لسبب من الأسباب التي يعذر بها العالم إذا أخطأ ولم يقم عنده دليل على كفر من قام به هذا الوصف الذي يكفر به من قام به؛ بل إذا بين له ثم بعد ذلك عاند وكابر وأصر"، ولكن الجهل وعدم العلم بما عليه المحققون أوقعك في التهور بالقول بغير حجة ولا دليل بالإلزامات الباطلة والجهالات العاطلة وكانت هـذه الطريقة مـن طرائق أهل البدع)[4].

و قال أيضا:                                              

(وإن كان الكلام فيمن يذب عنهم ويجادل بالباطل دونهم خطأ فالذي بلغنا عن الإخوان من أهل عمان أنهم يبرؤون إلى الله من تكفير هؤلاء الذابين والمجادلين وعن أنهم لا يكفرون بالعموم كما يزعمون الخصوم، ويقولون إنما الكلام في الجهميه وعباد القبور والأباضية ويقولون لم يصدر منا على من جادل عنهم إلا الإنكار عليهم وهجرهم وترك السلام عليهم)[5].

- والشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وهو نفسه الذي ينقل هؤلاء الغلاة قولة: (من سمى الكفر إسلاماً، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر، فيكون هذا كافراً) نسوا أو تغافلوا أنه قال أيضًا: (من يقول: غيرهم كفار، لا أقول إنهم كفار; فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء: على أن من شك في كفر الكافر، فهو كافر)[6]!!

أي لا يكفر مباشرة بل لابد من بيان!

وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ:

(من خصص بعض المواضع بعباده أو اعتقد أن من وقف عندها سقط عنه الحج فكفره لا يستريب فيه من شم رائحة الإسلام ومن شك في كفره فلا بد من إقامة الحجة عليه وبيان أن هذا كفر وشرك وأن اتخاذ هذه الأحجار مضاهاة لشعائر الله التي جعل الله الوقوف بها عبادة لله فإذا أقيمت الحجة عليه وأصر فلا شك في كفره)[7].

فلو كان الشخص العاذر يكفر من غير أن تُقَّام عليهِ الحجّة فلماذا أشترط الإمام محمد بن عبد اللطيف إقامة الحجة وأنه لا يكفر إلا بعد البيان؟!

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن لعبد العزيز الخطيب وكأنه يرد على غلاة هذا الزمان:

(وقد رأيت سنة أربع وستين، رجلين من أشباهكم، المارقين، بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه، هو وأمثاله، ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده، الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها.

قالا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت ; ومن جالسه، فهو مثله ; ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول; فزعموا أولا: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس.

وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب)[8].

وأما قول الشيخ الحازمي أنها مسألة معلومة من الدين بالضرورة، فلا حاجة لإقامة الحجة، فهذا من الخطأ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

(فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي، بحسب حال المعتقدين، ليس هو وصْفًا للقول نفسه، فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة، أو بالنقل المعلوم صِدْقُه عنده، وغيره لا يعرف ذلك لا قطْعًا ولا ظنًّا، وقد يكون الإنسان ذكيًّا، قويَّ الذهن، سريع الإدراك، فيعرف من الحق، أو يقطع به ما لا يتصوره غيره، ولا يعرفه لا علمًا ولا ظنًّا، فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة لازمة للقول المتنازع فيه، حتى يقال: كل من خالفه خالفَ القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدِل المعتقِد، وهذا مما يختلف فيه الناس)[9].

إذن المسائل تتفاوت، فما يكون لديك قطعي وواضح، قد لا يكون نفسه عند غيرك، وعليه لا يجوز لك أن تُحاكم الآخرين بناء على وضوح المسألة لديك.

وأخيرًا مسألة العذر بالجهل، هي من المسائل الدقيقة والعويصة، فالشيخ ابن عثيمين يقول عنها مثلًا: (مسألة العذر بالجهل؛ مسألة عظيمة شائكة، وهي من أعظم المسائل تحقيقاً وتصويراً)[10]، ومع ذلك يخوض فيها الجهال ويتكلمون بكل أريحية وكأنها مسألة بسيطة يقوى عليها كل أحد، فمثلًا من شروط الاجتهاد التي تخولك لئن تصل إلى درجة تستطيع أن تتكلم بالأحكام الشرعة هو المعرفة باللغة العربية، فهاهو شيخكم الحازمي يقول:

(سنُبَيِّن في هذه الجلسة ما يتعلق بلسان العرب من حيث الأهمية ومن حيث تَعَلُقُهَا بأصول الفقه ومن حيث الحكم الشرعي الذي يترتب على تَعَلُمْ هذه اللغة ونبين إجماع العلماء أن اللغة العربية والعلم بها إنما هو شرط في تحقق الاجتهاد، فلا يحل الاجتهاد لأي شخص كان إلا بتعلم لسان العرب، فإذا كان مليًّا بلسان العرب حينئذٍ حلّ له الاجتهاد مع بقية العلوم، وإن كان خِلْوًا عن هذا العلم أو كان مقصرًا فيه فحينئذٍ لا يحل له أن ينظر في نصوص الوحيين إلا على جهة التقليد لغيره من الأئمة، إذن تعلم اللغة العربية واجبٌ وليس شيء مستحب يظنه الطالب أنه إذا تعلم لسان العرب فالأمر واحد وانه لن يضره في العلم شيئًا؟ كلا، وإنما يتوقف فهم الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا لا تقليدًا وادعاءً، إنما ينظر فيه بنظر المستنبط الناظر المجتهد إذا كان ذا لسان عربي، وأما إذا لم يكن كذلك حينئذٍ فقد أهم آلة في الاجتهاد، فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذا أعظم دليل استدل به الأصوليون على وجوب تعلم اللغة العربية لمن أراد الاجتهاد في الكتاب والسنة، أما المقلد فلا يجب عليه)[11].

 بينما قد تجد شخص لا يعرف حتى الحروف الأبجدية العربية ومع ذلك يجعل نفسه مفتيًا في الكلام عن أشد القضايا تعقيدًا كما يصفها أهل العلم الكبار! حقًا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن لم تستحي إصنع ما شئت)[12].

وأما من يناطح العلماء ويرد أقوالهم ويقول نحن رجال وهم رجال، فهذا شخص يقر على نفسه بالجهل، لأن لا يوجد أحد من العلماء ابتداءًا من الصحابة حتى علماء يومنا هذا قالوا أن الذكورة هي الشرط الوحيد للاجتهاد!

فهاهي أمنا عائشة كانت ضمن أكثر 6 قد رووا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهي من أعلم الناس بالأحكام الشرعية التي وردت عن الرسول رغم أنها إمرأة، وكان الصحابة يتلقون ويتعلمون منها، بل وقد جاء في ترجمة الإمام ابن الجوزي أنه أخذ العلم عن 3 نساء[13]، فالعبرة ليست في الجنس، بل في الأهلية التي تخولك أن تتكلم في مثل هذه القضايا الشرعية المعقدة، فهل أصبحت لديك الأهلية؟! وكونك رجل أو إمراة لا يؤثر على المسألة، فلذلك لا تقولي أنك رجل حتى تتكلم بما تشاء!!

وحتى تعلم أن هذه المسائل من المسائل المعقدة، فعندما استدل الشيخ الحازمي بقولهِ تعالى: {كَفَرْنَا بِكُمْ}، على تكفير العاذر بدلالة اللغة، رد عليه الشيخ أبو عبد الرحمن الباشا رد عميق في اللغة العربية، حتى أن رده لم يفهمه الكثير من العرب في إبطال استدلال الشيخ الحازمي بالمدلول اللغوي من هذه الآية، فإن كان الكثير من العرب لم يفهموا هذا الرد رغم أن الرد كتب بلغتهم ويناقش قواعد خاصة ومعقدة في لغتهم، فكيف بالعجم الذين لا يعرفون الحروف الأبجدية العربية ولا يعرفون من اللغة العربية إلا كلمة (أخي)! حقًا كما قال الإمام عبد الرحمن بن حسن: (ما أعظم مضرة الجهل على أهله)[14]!!.

 

أحمد الحمدان

كتبه في 30 ذو القعدة من عام 1437 هـ - جزيرة العرب

 

ملاحظات:

  • عرضتُ الرد على الشيخين عادل الباشا والشيخ (المعتز بالله النجدي) وهذا الأخير ممن أُشتهر بهذه المسألة حتى أن الشيخ خالد المرضي قد عرض عليه كتابه" شرح نواقص الإسلام"، وقد أقروه وكلاهما قال أن الرد مناسب لمن لم يتعمق في هذه البدعة، وفي أثناء ترجمة هذه الرسالة، قد أصدر الشيخ أبو عبد الرحمن عادل الباشا مقال يناقش أصل وجذور تكفير العاذر بشكل معمق ودقيق، فهي من أنفع وأضبط المقالات في الرد على هؤلاء، وأتمنى أن يُترجم إلى عدة لغات كون هذه المسألة قد انتشرت إلى عدة لغات.
  • المرجع الذي أعتمده في النقل من كتاب الدرر السنية هو من الطبعة السادسة الصادرة في عام (1996/1417)، لمن أراد التثبت من النقولات.

_____________

[1] ضوابط تكفير المعين عند شيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب وعلماء الدعوة النجدية للشيخ أبي العلا بن راشد الراشد - ص41، ومما يجدر بالذكر أن هذا الكتاب من أكثر الكتب انتشارًا في السجون السعودية، في تقرير مسألة عدم العذر بالجهل في مسائل الشرك الأكبر. وصاحب الكتاب من أكبر المأصلين لهذه المسألة. وله كتاب آخر يرد عليه على الذين يعذرون باسم (عارض الجهل).

[2] الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/93).

[3] الدرر السنية (1/104).

[4] كشف الأوهام والإلتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس (ص 16).

[5] كشف الشبهتين (ص 69).

[6] الدرر السنية (10/443).

[7] الدرر السنية (8/160).

[8] الدرر السنية (1/467).

[9] مجموع الفتاوى (19/211).

[10] الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/193).

[11] شرح الكوكب الساطع نظم جمع الجوامع - الدرس الرابع.

[12] صحيح البخاري: 6120.

[13] انظر: كتاب "أخبار الظراف والمتماجنين" لابن الجوزي - ص15، من تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي.

[14] الدرر السنية (8/201).