JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم



مُؤسَّسَة التَّحَايَا
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ
دروس في التفسير

- الدرس الأول -

للشيخ/ أبي قتادة عمر بن محمود

 

 

/files/justpaste/d264/a10427734/upload288d47866d.jpg

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين وإمام المتقين حبيبنا وإمامنا وقائدنا وسيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه الغرّ الميامين وعلى من تبعهم بإحسان وهدى وتقى إلى يوم الدين، جعلنا الله -عزَّ وجلَّ- وإياكم منهم، آمين.


أيها الإخوة الأحبة، هذا أول درس لنا من دروس التفسير، وكنا قد شرعنا في تفسير سورة الأنعام في شهر رمضان ولم نتم هذا التفسير لأسباب منها ما هو شخصي. ما يهمنا هنا أيها الإخوة الأحبة هو أننا في هذا الدرس سنبدأ فقط في تفسير سورة الفاتحة، وبعد الانتهاء من تفسير سورة الفاتحة إن شاء الله نقدّر ونستخير الله -عزَّ وجلَّ- هل نتم ما وراء الفاتحة من سورة البقرة أم أننا نعود إلى سورة الأنعام لنتم السورة وما فيها من فوائد. فالحمد لله قد انتشر ما تقدم من تفسير سورة الأنعام ووصلنا إلى قوله تعالى {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.


والآن نحن نعود ليكون هذا التفسير منهجيًا ويكون إن شاء الله متتابعًا عسى الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع به القائم عليه وينفع به كذلك القارئ.

عادة يبدأ أهل التفسير بمقدمة في التفسير تتعلق بعلوم القرآن، تتعلق بعلوم التفسير، تتعلق بتاريخ التفسير. وكذلك يكون الكلام عن مسائل يحتاجها السامع لهذه الدروس. وهذه قد كثرت، والذي رأيته أن هذه المقدمات التي يقوم بها المشايخ في دروسهم وكذلك يقومون بها في مؤلفاتهم ومصنفاتهم، فالكثير منهم يبدأ تفسيره بهذه المقدمة التي تتعلق بأصول التفسير، وتتعلق بعلوم القرآن.


فمنهم مكثر، ومنهم مقلّ، ومنهم من لا يفعل. يعني لو رجعتم إلى بعض التفاسير لا تجدون أي مقدمة لها، سواء كانت تفسيرًا بالأثر أو التفسير بالرأي، فمثلًا لو رجعتم إلى تفسير أبي السعود مثلًا القاضي العثماني المشهور فلن تجدوا أي مقدمة، ولو رجعتم إلى تفسير النسفي لن تجدوا أي مقدمة، لكنكم لو رجعتم إلى تفسير الطبري تجدون كلامًا طيبًا في المقدمة.


وأنا الذي رأيته ألا أشرع في أي مقدمة، وإنما ندخل في التفسير مباشرة. وإذا عرض لنا مسألة من مسائل علوم القرآن ومهمات التفسير فإن شاء الله نعرّج عليها ونبيّن ما هو لازم في الباب الذي نحن فيه، فهذا أفضل إن شاء الله تعالى.


وإذا قُدّر لطالب العلم أن يسمع أو يقرأ أصول التفسير فهذا جيد، وقد تكلم فيها العلماء كلامًا طويلًا وأفاضوا فيها وبيّنوا ما فيه الخير العظيم.


فقط أنا أريد أن أقول بأن أوّل علم تعلمه الصحابة رضي الله عنهم هو علم التفسير. والمقصود بالتفسير أي الكلام عن القرآن. والكلام عن القرآن يتعلق إما بألفاظه (بمبانيه) وإما بمعانيه، فالألفاظ الذي يُسمى بعلوم القراءات، وهي تتعلق بالقراءات وتدبر روايتها وتدقيق اللفظ فيها، وهذه نشأ لها علوم عند أهلها والمتخصصين فيها.


وهناك علم آخر وهو علم المعاني وهو علم التفسير الذي نحن فيه، الذي يتعلق بتفسير القرآن الكريم. والصحابة لأنهم لم يتربوا إلا مائدة واحدة وهي مائدة القرآن فبالتالي كان أول ما يحتاجونه هو أن يتعلموا كتاب ربهم، وهذا العلم نشأت بقية العلوم منه، هو العلم الأساس الذي انبثقت منه كل العلوم الإسلامية بعد ذلك. يعني يترافق مع التفسير أن يتعلم المرء التوحيد. من أين يُؤخذ التوحيد؟ من القرآن. كيف يأخذه؟ من علم التفسير.


الفقيه عندما يريد أن يتعلم أحكام الشريعة فلا بد أن يذهب إلى القرآن، لا بد أن يذهب إلى القرآن إلا من خلال علوم التفسير، وكذلك اللغة التي اهتم بها علماءنا من أجل أن تكون آلة، إنما احتاجوا إليها من أجل علم التفسير.


فالقصد بأن القرآن -وهذه كلمة نكررها في كل درس، وعلينا أن نعيد تجديدها؛ لأن الناس قد هجروها ورفعوها شعارًا لكنهم هجروها فعلًا، وهو أنه لا بد من العودة إلى القرآن أولًا.


إن أي عودة لا تبدأ بالعودة إلى القرآن أو أي عودة المقصود بها العودة إلى الإسلام وتجديده والعودة إلى نصرته إن لم تعد إلى القرآن فهي عرجاء أو عمياء أو أنها كسيحة لا تنتج شيئًا. فلا بد من العودة إلى القرآن، كما أن الصحابة هم نتاج القرآن والقرآن هو المادة الوحيدة التي أنتجت الجيل الصحابي العظيم فلا بد إذا أردنا أن نعيد بعض معاني هذا الجيل أن نعود إلى المصدر الذي ربّاه.


وإذا عدنا إلى السواقي دون أن نعود إلى المصدر (إلى الأنهار) فسيدخل الدخن. وإذا دخل الدخن كانت العوائق.


هناك فقط شبهة يسيرة أمر عليها وهي أنهم يقولون إن العودة إلى التفسير أو العودة إلى القرآن يحتاج على علوم، وهذه العلوم شاقة، ولا يذكرون هذا الكلام من قبيل التشجيع على علوم الآلة التي تؤدي إلى فتح باب علم التفسير، لا يقولون هذا الكلام على هذا المعنى. إنما يقولونه على المعنى الذي به يريدون إبطال الذهاب إلى القرآن، بمعنى يصعّبون الطريق للوصول إلى القرآن من أجل أن يقولوا إن الوصول إلى القرآن صعب فيذهبون إلى غيره.


وهؤلاء في الحقيقة لا يعرفون القرآن، وهؤلاء لا يعرفون سنن الله -عزَّ وجلَّ- في إحياء هذه الأمة. ذلك لأن أي قضية يتعلمها المسلمون من أجل العودة إلى عزتهم تحتاج من العلوم أقل من علوم القرآن. يعني كيف يريد أهل الإسلام أن يعودوا إلى العزة دون أن يكون عندهم ثمة علم. هاتوا لنا علمًا ما تزعمون أنه لازم للنهضة، لازم لزوال انحطاط المسلمين، فإن أي علم تقولونه يحتاج إلى مشقة، ويحتاج إلى جهود هي أكثر بكثير مما يحتاجه المفسر للعودة للقرآن.


فلا بد من العلم، ولكن هذا العلم يسير وسهل وليس شاقًا.


النقطة الثانية في هذا الباب أن القرآن -وهذا ذكرته كثيرًا، وذكرته في سورة الأنعام، وأعرّج عليه هنا-. معلوم أن القرآن هو مادة عظيمة لغذاء القلب لكل مسلم ولكل البشرية، فبالتالي يستطيع كل مسلم أن يستقي منه مادته اللازمة له، فما عنده من العلوم وما عنده من المعارف وما عنده من الأدوات تصلح أن تعطيه هذه المعارف والآلات تصلح أن تعطيه المادة اللازمة من القرآن.


عندما يذهب العامي لقراءة القرآن فإنه يذهب إلى السطح، بمعنى إلى المعاني الجلية البيّنة الواضحة التي قال عنها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عندما ذكر أنواع التفسير فقال هناك من التفسير ما لا يجهله أحد. العامي إذا قال الحمد لله رب العالمين، يذهب إليها فيستقي منها من المعاني التي تلزمه والتي تليق بعقله والتي تليق بحاله. فإذا ذهب إليها آخر عنده من أدوات العلم أكثر من العامي فإنه يذهب إلى هذه الأرض العظيمة النابتة بالخيرات أو إلى هذا المنجم المليء بالكنوز فيذهب إليه بمقدار ما معه من ضوء ومن آلات. فكلما ازدادت آلات المرء ذهب أعماقًا وذهب أبعد.


وبالتالي القرآن مادة لكل الناس، ولكل أحد. ولا يجوز لأحد أن يقول إن القرآن شاق، وهذه الأكذوبة إنما وُضعت ليس فقط على القرآن، وإنما وُضعت على كل تراث هذه الأمة للأسف؛ إذا جئنا إلى السنة قالوا السنة أصعب من كلام الفقهاء، وإذا ذهبنا إلى كلام الفقهاء قالوا إن كلام الفقهاء إنما ينفع لزمانهم، وإذا جئنا للقرآن قالوا إنه عمومات أو قالوا بأنه لا يصلح له إلا بأن تكون كذا وكذا.


مع أن هؤلاء الذين يُسمون بالمفكرين يذهبون إلى مناهج البحث والنظر ويتعبون في الدراسة من أجل الوصول إلى إدراك مصطلحات العلوم التي يتعلمونها؛ الاجتماعية والسياسية والثقافية ما يبذلون به الجهد الكثير. ومن راجع كتبهم وكلامهم يحس بالشفقة عليهم أنهم بذلوا سنين طويلة من أجل تعلم المصطلحات التي يقولها فلان من المفكرين والفلاسفة، ولو بذل هؤلاء من الجهد أقل مما بذلوه في هذه العلوم بذلوه في مادة آلات العلوم الشرعية اللازمة وعلوم الآلة اللازمة لتفسير القرآن لبلغوا من تفسير القرآن ما يحتاجونه من حصول النجاة وحصول المعارف الإيمانية.


فنحن في هذه الدروس نريد أن نقول بأن كتب التفسير إنما قيلت لمعاني زائدة عما يحسه العامي، ومرات يتكلمون عما يحسه العامي ولا يزيدون. يعني إذا ذهبتم إلى كتب التفسير بعض الناس يذهب فيجد كلامًا هو يعرفه، هذا ليس من العيب، بل هذا يدل على أن هذا القرآن هو كالنهر العظيم الذي يستقي منه كل وارد عليه ما يحتاجه وينتفع من العلم والإيمان {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} فينتفع هذا الإنسان الوارد مهما كانت درجة علمه وتحصيله لأدوات وآلات العلوم فإنه إذا ذهب لهذا القرآن رجع من العلم حاملًا، ورجع من الإيمان حاملًا ما معه من الآلات، ما معه من الأواني التي تلزم بها ... هذه قضية يجب أن نفهمها من أجل ألا يقول أحد أنا أقرأ فقط القرآن من أجل أن آخذ الأجر في تلاوته فقط، مع أن هذه التلاوة كذلك فيها الأجر العظيم حتى لو لم يفقه معناها. هل هناك أمور العامي يقف عندها؟ الجواب نعم، بل هناك من معاني القرآن ما لم يعرفه أحد وهو تأويل الأخبار، هذا لا يعرفه أحد، والله استأثر به، كأسماء الله وصفاته فهذه لا يعرف كيفيتها أحد. وهناك من العلوم ما نهانا الشارع عن النظر فيها لا لأنها باطلة في أصلها بل لأننا لا نستطيع إلى فهم أعماقها كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الناظر في القدر كالناظر إلى الشمس كلما ازداد نظرًا ازداد تحيرًا).


يعني هناك من العمق من المعاني ما لا يبلغه أحد، لا يستطيع أن يصل إليه أحد. فهذا مما ينبغي أن نهتم به وبالتالي هذا الذي نقوم به نحن نحاول في هذه الدروس ولا نزعم أننا سنأتي بأشياء جديدة، ولا نزعم بأننا سنفتح آفاقًا لم تُفتح من قبل، إنما أطوف قبل هذا الدرس مع كتب أهل العلم، فننتقي منها ما يلزمنا وما ينفعنا إن شاء الله، وإن كان عامة ما يُلقى في كتب أهل العلم هو نافع وضروري لهذا الوقت ولكل وقت.


لكن ما هي فضائل مثل هذه المجالس؟ هي فضائل العلم، هي فضائل الإيمان. إن أفضل ما يتدارسه الناس هو كتاب ربنا. هذا كلام الله، وكلامه الذي تضمّن العلم الذي هو ضروري لحياتك، هذا القرآن وكلام الله يتضمن العلم الذي هو ضروري لحياتك الدنيا والآخرة وهو بيان لماذا خُلقت.


عندما يصنع الصانع مادته -ولله المثل الأعلى- عندما يصنع الصانع مادته وآله فإنه يضع معها الإرشادات، ويسمونها الناس الكتالوج، من أجل أن يعرف كيف يمشي، فنحن في هذه الدنيا لماذا خُلقنا؟ فلا بد أن يكون هناك كتاب (إرشادات) يعرّفنا كيف نعيش. هذا القرآن هو كلام الله؛ ولأن الأمر عظيم لم يحمّله إلا كلام عظيم. يعني المهمة التي خُلقت من أجلها هي مهمة عظيمة يجب أن يحمل هذه المهمة وسيلةٌ عظيمة، هذه الوسيلة هي كلام الله.
الوسيلة التي بها يصل الناس إلى مقصد وجودهم وكيفية حياتهم هو كلام الله، لماذا؟ لأنها أعظم الإرشادات في الوجود، ولأنها تحمل أعظم المقاصد في الوجود. هذه المقدمة فقط سأستعجل وأقول إن أحد علماء الإسلام الذين لهم باع طويل في البلاغة والتفسير قال بأن هذه الإرشادات لا بد من استدعاء أولي معها، ومن غير هذا الاستدعاء لا يمكن أن تلج إلى هذه الكتب. كلمة إرشاد هذه مني ولكنه يقول عن الفاتحة لولا الفاتحة لما علمنا القرآن، لنظرنا إليه ماذا يريد منا. هذا الشيخ دراز يقول هذه الكلمة، يقول إن الفاتحة تمثل الاستدعاء لما بعدها من مهمات الإرشاد اللازمة للحياة.


يعني لولا وجود الفاتحة ما علمنا لماذا القرآن، فهي ضرورية. اسمها الفاتحة، لولا وجود هذا المفتاح لكان ما وراء هذا الباب مغلق علينا لا نعرفه، فهي فاتحة تفتح لك المعاني.


فالذي أريد أن أقوله نحن نحاول أن نتذوّق هذا الكلام. نتذوّقه من خلال كلام الله، لأن كلام الله يحمل علمًا ويحمل إيمانًا. العلم هو الذي يغذي عقولنا والإيمان هو الذي يغذي إراداتنا، قال {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} فلا بد من العلم والإيمان.


وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول إن أعظم ما جاء به القرآن هو العلم والإيمان. فالعلم أين توجهه؟ توجهه إلى معرفنا، إلى عقولنا. وأين توجه الإيمان؟ إلى إراداتنا. فهذا القرآن يحمل العلم الحقيقي، وكذلك بالورود إليه لا بد أن تصدر -ليس فقط في المعرفة، لا تصدر من القرآن فقط بالمعارف، لكنك تصدر كذلك بالإرادات من أجل النشاط لما يحبه الله ويرضاه.


القرآن هو غذاء ليس فقط للعلم -يعني عندما تذهب أنت إلى كتاب فلسفي ماذا تشتاق منه؟ لو افترضنا أنه فقط فيه العلوم، والكتاب الفلسفي لا يكون فيه إلا مسائل العقل والنظر، بغض النظر عما تقول من حق وصواب ماذا تخرج من هذا الكتاب؟ بمعارف عقلية، ولكن لا تخرج بمعاني قلبية، لا بد من نور. المعاني القلبية خاصة بهذا الكتاب وما اشتُق منه، وذلك مثل السنة، ومثل مواعظ العلماء، ولكنه هو الأصل. وذلك أنك إذا جئت إلى القرآن من أعظم منافعه أنه يقدم لك العلم، وهذا العلم طريقه التدبر.


وأما الإرادة قال {لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. التدبر هو الذي يعطيك العلم. "وليتذكر أولوا الألباب": ما معنى التذكر هنا في هذا الباب؟ يذكرك بمآلات ما تصل إليه. أن هناك جنة، هناك نار، هناك حساب، هناك موازين. هذه الذكرى تذكرك بالمآل فتوجب عليك السلوك الصحيح إليها وتنشط إرادتك للذهاب إلى ما تريد منها.


فالقرآن مادة عظيمة لا يوجد لها مثيل. إذا أردت أن تقوي إراداتك من أجل الطاعات، كأن تعجز عن قيام الليل، عجزت عن إدامة الذكر، عجزت عن الصلوات، عجزت عن الصلوات، عجزت عن أداء الزكاة، فأكثر من قراءة القرآن، فهو يعالج هذه الإرادات التي هي مضادة للهوى، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}. الظن يتعلق بالعلوم، والهوى يتعلق بالإرادات.


"وما تهوى الأنفس" هذا فساد الإرادة. ماذا أجاب الله -عزَّ وجلَّ-؟ قال: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} فالهدى لا بد أن يعالج العلم ويعالج الإرادة، ولذلك إذا أردت الخير كله فعليك بقراءة القرآن. فإذا أردت العلوم تدبّرت، وإذا أردت الإرادة قال {وَلِيَتَذَكَّرَ} يذكرك بالآخرة، ويذكرك بلقاء الله، وتنشط إرادتك للطاعات. ولذلك لما كان القرآن هو الذي ربّى الصحابة لم ينشئ لديهم معارف فقط بل أنشأ لديهم المعارف وأنشأ لديهم الإرادات.


لما الناس ابتعدوا عن القرآن وأخذوا ذات اليمين وذات الشمال ويريدون الموعظة من هذا الكلام أو من هذا الكلام ولم يذهبوا إلى القرآن ربما نشأت لديهم المعارف الصحيحة في باب من الأبواب لكنها لا تنشئ لديهم الإرادات اللازمة للفعل.


أنا أريد من إخواني أن ينظروا في القرآن ليروا أن الآيتين على عدم التدبر رُبطتا بالنفاق والردة، أريدكم أن تقرؤوا بأنفسكم. أين جاء قوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ}؟ مع أن لفظ التدبر في القرآن جاء مواطن متعددة، لكن العيب على عدم التدبر أين جاء؟ في سياق من؟ هل جاء في سياق العلم، أم جاء في سياق الإرادة؟ في أول آية ورد فيها هذا في سورة النساء -وطبعًا نحن ممكن نقول رقم الآية على أساس أن المصاحف الوحيدة المنتشرة الآن هي بخط عثمان، فلا بأس أن نذكر رقم الصفحة وإن كان هذا ليس هذا من الطريقة العلمية في نسبة الآية كما ذكرنا في تفسير الأنعام، الأصل أن الآية تُنسب إلى رقمها والسورة فقط، لكن لا تُنسب إلى الصفحة.


انظر إلى الآية رقم 81 و82 وما بعدهما في سورة النساء: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} عمن يتحدث؟ يتحدث عن المنافقين. "ويقولون طاعة" أي بظاهرهم وألسنتهم. "فإذا برزوا من عندك بيّت" ذكر النية بعد أن ذكر اللفظ ما هم عليه في موافقتهم للمؤمنين، كشف البواقي. يعني يتحدث عن المنافقين الذين يخالف ظاهرهم باطنهم. قال "بيّت" فذكر باطنهم ويقولون، وذكر ما يقولون. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} ما ذكر يكتب ما يقولون لأن هذا شيء مقرر، لكن هنا يكتب ما يبيّتون وذلك لما فيه من شر.


قال {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} إذًا السياق يتحدث عن المنافقين. ثم قال {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} جعل علة النفاق عدم التدبر في القرآن. المنافق لا يجهل الحق على الأغلب، وإن كان بعضهم يجهل الحق، لكن على الأغلب المنافق يعرف الحق ولكنه يعارضه هواه. فجعل رد الهوى الذي عارض به الحق الذي يعلمه بماذا عالجه؟ بتدبر القرآن {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً}.


ما أريد أن أقوله أن تدبر القرآن جعله علاجًا للهوى، فليس القرآن فقط مجرد معاني ومعارف ولكنه كذلك نور تُحرق بهذا النور نوازع الهوى في النفس، وتعطي الإرادة القوة من أجل النشاط للفعل في الطاعات وما يحبه الله ويرضاه.


فهذا موطن التدبر سياقه في الرد على المنافقين، لأن الناس يظنون أن التدبر من أجل المعاني فقط. فأنت تدبر القرآن من أجل أن تأخذ المعاني والمعارف، ولكن هل تدبر القرآن ينشئ لديك الإرادة للفعل؟ القرآن يقول هذا هو المقصد. بل لم يُذكر هذا اللفظ وهذا السياق في قوله {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} إلا في هذا الموطن وموطن آخر هو كذلك مثله، انظروا إليه في سورة محمد سورة القتال آية عشرين إلى ما بعدها: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} انظر السياق عن من، وكيف أن النفاق ملتصق بردة.


{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} يعني هوى. {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} ماذا قال بعدها؟ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ}.


ما الذي يعالج النفاق؟ بل ما الذي يعالج ما هو أعلى من النفاق بعد ذلك وهو الردة، ما الذي يعالجه؟ القرآن. إذًا مشكلة النفاق سواء كان مما يتعلق بالعلم لأن هناك منافقون كثر يتعلق نفاقهم بالعلم وهذه تحتاج إلى شرح. وهناك نفاق يتعلق بالهوى والإرادة، والذي يعالج ذلك هو القرآن.


وإذا رأيت نفاقًا في باب من أبواب العلم أو رأيت نفاقًا في باب من أبواب السلوك فاعلم أن سببه هو هجر القرآن وعدم النظر فيه وقراءته. ولذلك هذا القرآن علامة الإيمان، حتى قال بعض أهل العلم إن أشق شيء على المنافق أن يقرأ القرآن. وفي الحديث: (الجوف الذي لا قرآن فيه كالبيت الخرب).
البيت الخرب ماذا يكون فيه؟ يكون فيه قاذورات، هذا النفاق. ويكون فيه حيّات وعقارب، هذا نفاق. لأنه ليس فيه نور.


فإذا أردت أن تطرد النفاق من حياتك وتطرد الكسل إلى الطاعات فعليك بقراءة القرآن، لا يمكن أن يجتمع حب القرآن والنفاق في القلب، لا يمكن. ولا تجد رجلًا صاحب عزائم في دين الله إلا والقرآن هو مادته التي يستمد منها قوته، ويستمد منها غذاء إرادته.


يقول بعدها {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} الحديث هنا عن علوم أم عن أهواء؟ فإذا لم تنشغل بالقرآن فاعلم أن مادة قلبك ليست سوية. وإذا لم ينشغل طالب العلم والداعي إلى الله، والعالم المفتي، والمجاهد في سبيل الله، إذا لم يكن له انشغال بالقرآن فاعلم أن مادته فيما تقدم من الأمور مادة غير نظيفة وغير صافية. وإنما يحصل الصفاء بمقدار تدبرك للقرآن والإتيان إليه.


قال {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} هذه الآية جاءت كأنها برزخ بين قضيتين تلصقهما في حال واحدة، هنا جانب وهو جانب النفاق، وهنا جانب وهو جانب الردة. ما هو الشيء الجامع بينهما؟ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ}. هنا تأتي أهمية العودة، الأمة التي لا يوجد فيها دروس ومحطات لتعليم القرآن هي أمة ضعيفة في فهما لدين الله وقيامها لحق الله. والجماعة التي لا تبني أفرادها على الاهتمام بالقرآن جماعة غير مهدية. ووضع العوائق أمام القرآن بما تقدم من أمثلة من كونه أنه لا يذهب إليه إلا من استوفى وكأن الذهاب إلى كتب الفلاسفة والمفكرين لا تحتاج إلا إلى رحلة صيد من أجل أن يفهمها! مع أنه يتعب حتى يفهم هذه المصطلحات الغربية والمصطلحات الجديدة وينفق من عمره الوقت الطويل من أجل بلوغ مراد أصحابها، فإذا قيل له تعال إلى القرآن جعل له العوائق.


وأعظم العوائق التي وضعت كما وضعت أيضًا على كل علوم الأمة؛ على تاريخها، على شعرها، على أدبها، على تراثها، وهو التشكيك فيه. وأعظم تشكيك وجدته في الجماعات الإسلامية، في الجماعات الإسلامية أعظم تشكيك يرد على الناس في مسألة القرآن هو قولهم إن القرآن عمومات.
هذه كبيرة من الكبائر، وفاقرة من الفواقر. فاقرة لأنها تكسر الفقار. ما معنى الفقر؟ أُخذت من الفقار لأن الفقير إذا كُسر فقاره لا يستطيع القيام، هذا هو أصل مادة الفقر. فهذه فاقرة تكسر إرادات الأمة.


إذا قيل إن القرآن فقط كتاب عمومات أعرض الناس عنه لأنه يقول كتاب عمومات إذًا أين أملئه؟ من أين تملأ هذه العمومات يا شيخ؟ أملئها من نفسي، من اجتهادي، من كلام العلماء. إذًا أذهب إلى التفصيل مباشرة!


مع أن النبي صلى الله عليه وسلم -وهذه قلتها لكم من قبل وأكررها لأهميتها- لو اجتمع البشر جميعًا معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في واد وتشاوروا في أمر من أمور الدعوة والجهاد والعلم والإيمان فقال الناس جميعًا قولًا وقال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قولًا نجزم أن قول رسول الله -إذا جاءه من عند نفسه لما هداه الله، ولما أوتي من الحكمة، ولما أوتي من براءة الهوى، لو جاءه من عند نفسه وليس وحيًا وفقط إنما قاله من جهة بشريته، لجزمنا أن قوله هذا هو أصوب من قول الأمة جمعاء.


ومع ذلك الله -عزَّ وجلَّ- نزع منه حق أن يقول قولًا من جهة رأيه فقال {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. فإذا قال له "اتبع ما يوحى إليك من ربك" ونزع منه أن يقول شيئًا برأيه، هل ترى أنه ترك له شيئًا ليملأ منه هذه العمومات؟ يعني أعطاه العمومات وقال له املأها، كما تريد الجماعات والمشايخ اليوم؟!


يريدون ملأ القرآن عمومات، ولكن كيف نفعل؟ نذهب إلى أهوائنا وإلى آرائنا وإلى اجتهاداتنا!


وما سبب هذا؟ هو كمن جاء إلى قشرة الطعام، فرأى فيها مادة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كافية، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} كافية، لكن أن يغوص فيها من أجل أن تجيب على أفراد والمسائل الفرعية في كل المسائل هذه .... القرآن هي تحتاج إلى نبط، تحتاج إلى حفر. ولأنهم لا يريدون الحفر في القرآن، لا يريدون النبط، لا يريدون التدبر، لا يريدون العيش مع القرآن فقالوا مثل هذه الكلمة الكبيرة العظيمة التي جعلت شباب الإسلام أكثر ما يعرضون عن كتاب ربنا. يقرؤون لهؤلاء وهؤلاء وإذا سألتهم كم تبذل من ساعة في قراءة القرآن فحينئذ ترى الجواب!


والشيء لا تُعرف حقائقه ولا تُعرف جوانبه ولا تُعرف خفاياه إلا بالملازمة والمصاحبة. هل يحق لك بأن جلست معي جلسة واحدة أن تذهب فتتكلم عن كل جوانب إنسانيتي؟ الكرم، والشجاعة، والقول، ومعاملتي مع أهلي، هل أنا صادق في تجارتي، هل أنا وفي في وعودي، إلى آخره؟ لا تستطيع، كيف تستطيع أن تعرف كل جوانب حياتي؟ بالمصاحبة والملازمة.


وقد قلنا إن هذا القرآن هو كتاب الإرشاد لهذه الآلة التي خلقها الله، لهذا الوجود الذي أقامه الله. هذا الإرشاد لا يمكن أن تعرفه إلا بطول الملازمة. ولذلك أنا مع الأستاذ أبي الحسن الندوي -رحمه الله- لما قال -وهو أصلًا أوراده مؤرخ وله قراءات في التاريخ رائعة، ومن قرأ رسائله في رجال الفكر والدعوة للإسلام علم أنه يقرأ الرجال قراءة صحيحة وجيد، قال: أنا تعقبت جميع الذين نُسبوا إلى التجديد في هذه الأمة فوجدت لهم قاسمًا مشتركًا واحدًا وهو قيام الليل.


قيام الليل يعني ليست بركعة أو ركعتين، يعني أورادهم في قيامهم. ومن هنا جاء الحض (من قرأ عشر آيات لم يُكتب من الغافلين) كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح ابن حبان. من قرأ مائة آية كذا، ومن قرأ مائتي آية كذا. تقرأ، وإذا لازمته علمته، وفتح الله -عزَّ وجلَّ- عليك بالمعرفة.
وذلك أول ما ينبغي أن نهتم له، وهو أن نعيد الأمة إلى القرآن. وحديث عثمان (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أبو عبد الرحمن السلمي قال ما أجلسني في مسجد دمشق ثلاثين عامًا أعلم القرآن إلا هذا الحديث! ثلاثين سنة وهو جالس في مسجد دمشق يعلم المسلمين القرآن، الأطفال والنساء، ثلاثين سنة ما أجلسه إلا لقوله -صلى الله عليه وسلم- (خيركم).


وبعض الناس يظن أن (خيركم) يعني في الآخرة فقط. خيركم من تعلم القرآن وعلمه بمعنى أنه إذا قيل من خيركم في العلوم؟ هو من تعلم القرآن وعلمه. من خيركم في الفقه؟ من تعلم القرآن وعلمه. من خيركم في تعلم سنن الحياة؟ من تعلم القرآن وعلمه.


والذين يريدون فقط الذهاب للتدبر دون الذهاب إلى الحياة معه وأن يعيشوه هؤلاء جهلة لا يعرفون، فقط هو يريد أن يأتي لساعة من أجل أن يتدبر في القرآن أو يأخذ درسًا في تفسير القرآن فيزعم أنه بهذا حصل التدبر هذا باطل لا بد أن يعيش معه.


وهذا القرآن كتاب عزيز ومكنون. ما معنى مكنون؟ له كن، يعني مغلّف. وإذا كان الشيء مكنونًا لا يُذهب إليه إلا بالمشقة والذهاب والتعب. من أجل هذا أعظم من يستفيدون من القرآن من قاموا به، ولأجل هذا يرتبط قيام الليل بالقرآن. مرتبة القرآن بقيام الليل، ارتبط به، لأنه فيه مشقة، أن تقوم من نومك فتفتح القرآن وتقرأ جزءًا أو جزأين وتقرأ للنصف ساعة أو ساعة أو ساعتين إلى غير ذلك، لأنه بالمشقة هذا القرآن أُنزل من أجل العمل به، وهذا لا يمكن الوصول إليه حتى تتحرر إرادتك. الذي يحرر إرادتك هو القرآن.


فلا يكفي أن تقول أنا جئت وحضرت الدرس فحصل لي التدبر، هذه مقدمة، وبعد ذلك ما يُدرس في داخل الأمة إنما هو من أجل إعادة التذوق للقرآن. والله يفتح من المعارف والمعاني ما تصلح لك. والكثير ممن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه فيبكي، لأن الله يقول {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ} والجبل صماء عجماء.


هل ضروري أن يكون فهم هذا السقف الذي في الدار إذا جاءت عليه قذيفة أن تستشيره؟! أن يكون بينهما معرفة ليتم الفعل؟ هذا القرآن أعظم من القذيفة. هو قذيفة الحق تغزو القلوب ولكن لا بد من وجود هذا المعنى وهو أنه كتاب مكنون، تذهب إليه من أجل المشقة.


وما معنى عزيز؟ أعجب يا إخوة، خذوها مني: لا يمكن لرجل يهجر القرآن ويظن أن فيه خير، لا يمكن. من الذي يعرف الخير في القرآن؟ الذي يأتي إليه. لو واحد نظر قال القرآن ما فيه شيء كثير وإيش يعني "الحمد لله رب العالمين" فيضرب عليه، فكلما هجره كلما قلّت قيمة القرآن في قلبه. يقول ما الذي في القرآن، لأنه بعيد عنه. هو فقط كالناظر إلى صندوق، فإذا جاء قيل له ما هذا؟ يقول هو مجرد إناء حديدي! متى يعرف قيمة ما فيه؟ حتى يذهب إليه وينقّب، وكلما ازداد النور في قلبه كلما ازداد اكتشافه لدقائقه. هذه الدقائق هي التي تجلب القلب إلى الله. هذه الدقائق هي التي تحصل الرقي في درجة الإحسان.


ولذلك تروا جماعة تهتم في بناء أفرادها أن يتعلقوا بالقرآن ليل ونهار، هو فقط يقول لهم ادرسوا كذا وافعلوا كذا، وهذه كتب جيدة لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو الذي يُحض عليه، والقرآن كتاب عمومات ولا يعرفون منه شيئًا! ولا يحافظون على قراءته، وليس لهم أوراد في قراءة القرآن! أنا أعجب واحد يريد أن يعرف مراد الله عند النوازل ولا يعرف كتاب ربه!


كيف يعرف أن الله يريد كذا دون أن يعرف ما في الكتاب، وكيف يعرف ما في الكتاب إن لم يكن ملازمًا له. والقرآن عزيز، القرآن أشد تفلتًا من الإبل في عقلها، ليس هذا فقط في ألفاظه كذلك في معانيه. هذا عام، الحافظ إذا غاب عن القرآن يذهب منه، وكذلك الذي عنده العلوم من القرآن إن لم يأت إليه مرة بعد مرة ويتذلل إليه لأنه عزيز، الله سماه عزيزًا، فعليك أن تذهب إليه بتذلل، فإذا ذهبت إليه بذل لك العطاء.


فلا بد أن يهتم الذين يريدون إحياء الأمة بالقرآن، أن يعيدوا الأمة إليه، ولا حياة للأمة من غير القرآن، لا حياة للأمة من غير القرآن. القرآن هو الذي أنشأ هذه الأمة. ما من معرفة نشأة في هذه الأمة، ما من هداية، ما من رجل أحدث تاريخًا أو أحدث تحولًا لهذه الأمة أو أحدث تجديدًا في هذه الأمة إلا وكان قد استقاء غذائه ومعرفته من القرآن.


ولذلك القرآن يجب أن يكون رفيقًا لك في ليلك ونهارك، وفي حلك وترحالك، وهو كتاب مع عزته قال {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ} إذا جئته وتذللت إليه يسّره مع عزته. هو عزيز فلا يبذل نفسه للمعرض عنه فإن جئته أعطاك، وحينئذ ترى من المعاني العظيمة التي تشكر الله عليها وتفرح لها، وحين تقرأها تتمنى لو أن الدنيا كلها عُرضت عليك مقابل هذا المعنى الإيماني في القرآن والله لا تقبل أن تستبدل هذا بهذه. ويفتح الله -عزَّ وجلَّ- عليك من الأمور التي بها يتخذك إمامًا.


لا يمكن أن تكون إمامًا في هذا الدين من غير القرآن، لا يمكن. يكذبون، هؤلاء الذين يقدمون فيما تسمعون كلامًا فيطرب لهم الناس، أنتم رأيتم ولا أريد أن أمثّل، كم من الشيوخ ظهروا كأنهم النجوم ثم انطفأت أضوائهم؟ كم خلال عشرين سنة؟ كم من الأسماء مرّت أين ذهبوا؟ كم بقي من كلماتهم النافعة للأمة؟! شان كلامهم كشأن العلكة (اللبان) حلوة بعد أن تنتهي فمجرد جلدة. لأنها ليست حقيقية، أما إن جاءوا مع القرآن ومعارفهم أعطوها للقرآن هذه تتجدد.


من هنا لما قال ... المفكر الألماني لما جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قال هذا رجل بذر في الأرض قنابل منها ما تفجر ومنها ما ينتظر التفجير. من الذي أعطى هذا الرجل أعطى لكلماته هذه القوة بأن تحيا مع كل محاولات إماتتها، من الذي أعطاه هذه القوة؟ هو نور القرآن؛ لأن الرجل كان يعيش مع القرآن. وهكذا من الذي أبقى كلمات الشافعي إلى يومنا هذا؟ هو نور القرآن. من الذي أبقى كلمات أحمد إلى يومنا هذا؟ هو نور القرآن، وما كان في معناه بلا شك، لكن نتحدث عن الأصل، نتحدث عن الباب الأول، نتحدث عن النهر العظيم وهو كتاب ربنا، ثم بعد ذلك تأتي السواقي. وما السنة إلا من سواقي التي هي أخذت من القرآن.


إن لم نفهم هذه المسألة بقينا في عجز وفي خلاف و... إلى آخره، فمن الذي يعطي القوة للكلمات؟ هو القرآن. ما الذي يعطي هذه القوة لهذه الكلمات بأن تضيء وأن تحدث الأثر في العالم وأن تزيل الظلمات هو نور القرآن لأنه لا نور إلا منه.


هذا الذي نريد أن نهتم له أيها الإخوة الأحبة، فإذا جئنا إلى التفسير فقط من أجل أن نكشف بعض الأثواب التي أكنّت هذا القرآن. هذا القرآن أثواب، ثوب وراء ثوب، ثوب وراء ثوب، لا تنتهي لقوله .... فلا يوجد أثواب تنتهي.


وإن كان القرآن نزل مرة واحدة ولكن تنزّلاته لا تنتهي إلى يوم القيامة حتى يُرفع. نزل مرة، لكن تنزّلات معارفه ومعانيه لا تنتهي إلى يوم القيامة.
وهذا الذي نريده لبعض هذه الدروس، وإنما نأتي إليها حتى نكشف بعض معاني هذا القرآن العظيم فنتذوق هذه المعاني وتصبح لدينا الرغبة بأن نعود إليه وأن نقرأ فيه وأن نتلوه. وأقول لكم: والله لو وقف الناس على شفير القرآن ما وقفوا لم يُعطوا منه أعظم ما يُعطوا إلا إذا قرؤوه في قيام الليل والصلاة. هذه قاعدة، إذا أردت معاني القرآن فعليك بهذا السبيل.


الأمر الثاني وهو أن تعيش القرآن. من أكثر الناس عيشًا مع القرآن هم الذين يقومون به الليل، والطائفة الثانية هم الذين يعيشون به في النهار جهادًا وهم المجاهدون. ومن أجل هذا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، ولا سبيل لمعرفة الحق -لنهدينهم سبل من؟ سبيل الله، وأين هو سبيل الله؟ القرآن، يعني إذا جاهدت علمت القرآن، وإذا قمت الليل علمت القرآن.


الحمد لله رب العالمين، يكفي هذا وأنا قلت ما أريد مقدمة لكنها شيء مهم حتى نذهب إليه وفي قلوبنا التشوّف لبعض ما أكنّه ربنا عنا وعلمه العلماء فنحن نذهب إليهم. نحن فقط عالة، لا نستطيع أن نأتي بشيء إلا إذا كان أصله في كلام علمائنا. من الصعب اليوم أن يأتي أحد بشيء جديد، وإنما إذا أتى فيكون الأصل من كلام العلماء وأن نفرّع منه، نأخذ من هنا وهنا على عادة المتسوّلين والفقراء.


إذًا ما هو أول علم تعلمه الصحابة؟ وما هو أول علم مارسه الصحابة؟ علم التفسير؛ لأنهم يريدون أن يعرفوا ماذا يريد الله منهم. فإذا أرادوا الفقه جاءوا إلى التفسير، إذا أرادوا التوحيد جاءوا إلى التفسير، وهكذا.


وعدنا أن نبدأ بسورة الفاتحة أيها الإخوة الأحبة. وهذه السورة أيها الإخوة الأحبة هي فاتحة القرآن، وأعيد كلمة الشيخ لأنه لا بد عندما تريد كتاب الإرشادات أن يكون له مقدمة التي تعرّفك ما الذي تريده أنت، فأنت تكتب في هذه المقدمة تكتب هذا الإرشاد لكذا، وأريده لكذا، وبعد ذلك تأتي التفاصيل في الداخل، لكن في البداية لا بد من العنوان. فالفاتحة تمثل هذا الأمر.


والقرآن لم ينشئ فقط العلوم، لكنه أنشأ كيفية هيكلة وإنشاء العلوم. يعني من الذي علّم الأمة وجود المقدمات للكتب؟ الفاتحة. أنا لا أتكلم عن قضية ما في الفاتحة من معاني، لكن الذي علم الأمة كيف تكتب الكتب هو القرآن، وبالتالي يكتبون المقدمة، إذا ذهبت إلى المقدمة علمت لماذا ألّفه، وما هي ظروف تأليفه، لمن يقدّم هذا الكتاب، فذهبت إليه في المقدمة.


فالذي علّم الأمة إنشاء المقدمات هو القرآن لأن الفاتحة كذلك. وهذه السورة عند علمائنا حاوية للقرآن كله. وهذه السورة كلها في جوف كلمة فيها وهي "إياك نعبد وإياك نستعين". فهذا القرآن عند علماء الإسلام إنما كله في جوف سورة الفاتحة، وسورة الفاتحة كلها في مرتبة "إياك نعبد وإياك نستعين"؛ لأن الدين كله مبني على هذا، أن نعبد الله وأن نستعين به كما سنبيّن أنها شاملة لقواعد الدين، فجميع قواعد الدين في هذه السورة، وسوف نبيّن هذا بالدليل وليس بمجرد كلمات عامة، سنبيّن أن هذه السورة شاملة لكل ما أتت به الشريعة من التوحيد، والشرائع، والمآلات، وما هو الحق في ذاته، وما هو الحق في مقابل غيره. بل سنرى أنها شاملة لأنواع التوحيد؛ شاملة لتوحيد ربنا في ربوبيته، وشاملة لتوحيد ربنا في ألوهيته، وشاملة لتوحيد ربنا في أسمائه وصفاته.


فهذه سورة عظيمة، والتفكر فيها واجب. وكلما كان الشيء ضروريًا كان أبذل، هذه قاعدة كونية وهي كذلك في الشرائع. من أكثر ضرورة الهواء أم الماء؟ الهواء أكثر ضرورة من الماء. إذًا كلما ازدادت الضرورة كان أبذل، من أكثر الماء أم الهواء؟ الماء يبيعونه لكن الهواء لا أحد يعطيك ... هواء على أنفك أو فمك لأنه ضرورة.


من أكثر أهمية الغذاء أم الماء؟ الماء، ولذلك هو أبذل. فكلما كان الشيء ضروريًا كان أبذل، ولما كانت الفاتحة وما فيها من معاني هي أعظم ما في كتاب ربنا وضرورية لهذا الباب، أي ضرورية لدين المرء؛ ضرورية لدينه، وضرورية لآخرته، وضرورية من أجل حياته كانت أبذل. وهي أبذل من جهة القدر، فكما ترون قبل أن تفتتح البقرة تفتتح بهذه السورة.


وكذلك أبذل من جهة الشرع. لو قيل لك ما هي أوجب سورة عليك أن تتعلمها إن أسلمت؟ الفاتحة، لأنه لا تقوم الصلاة إلا بها، فهي أبذل لأنها ضرورية. ومن هنا كان اسمها السبع المثاني.


ما معنى المثاني؟ الذي يُثنى. لماذا يُقال ثُني هذا الشيء؟ لأنه يتكرر مرة بعد مرة، لما أنت تثني الشيء يعني جعلت شيئًا فوق شيء، لأنه يتكرر فثُني. فسُميت السبع المثاني لأنها تتكرر. كم مرة تتكرر؟ بعدد ركعات الصلاة التي تصليها. يعني كم ركعة واجبة في اليوم؟ سبع عشرة ركعة.


والنبي -صلى الله عليه وسلم- كم كان يصلي في يومه من النوافل من غير الواجبات؟ ثلاث وعشرين ركعة، فمجموع صلاة النبي أربعون ركعة. يعني كم مرة تُثنى الفاتحة؟ إذا أراد المرء أن يقوم بما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- من السنن والواجبات، فهي أربعين مرة فثُني.


وإذا أمر الله بشيء وكرره علمت أنه يحبه أو لا يحبه؟ إذا الله أمرك أن تأتيه مرة بعد مرة وأن تكرره أكثر من غيره علمت أنه يحبه أكثر من غيره، فهذا دليل على أن الله يحب هذه السورة أكثر من غيرها. ولذلك أعظم سورة في القرآن هذه الفاتحة، أما أعظم آية فهي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

ذلك لأن هذا القرآن أيها الإخوة الأحبة هو كلام الله، وأعظم ما في الكلام هو ما يتحدث عن الله، فأعظم آية اقتصرت في الحديث عن الله هي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ففيها عشرة جمل كلها تتحدث عن الله.


لماذا أحب الصحابي سورة الصمد؟ قال لأنها صفة الرحمن. جماعة يتفكرون، ما أعظم آية يا أبي قال {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فقال له (ليهنك العلم يا أبا المنذر). هذا رجل يتدبر، لأنه يعلم أن أعظم ما يتحدث عن القرآن هو الحديث عن الله. نعم الحديث عن شرائعه شيء عظيم، الحديث عن الجنة والنار والمآلات والعقاب شيء عظيم، لكن أعظم منه هو أن يحدثنا ربنا عن نفسه.


من أجل هذا قال الصحابي لما قيل له لما تحبها قال: "لأن فيها صفة الرحمن". ولماذا اكتشف أبي أن أعظم آية في القرآن هي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؟ لأنه علم أن فيها الحديث عن الله. لكن علمنا أن أعظم سورة في القرآن هي الفاتحة ذلك لأن الله أمرنا أن نكررها، يحبها فيحب أن يسمعها من عبيده. ولأن في هذه السورة يُعطى من الأجور ما لا يُعطى على غيرها. لماذا؟ لما فيها من الفائدة، سواء فائدة الأجر أو فائدة العلم.


هذه السورة لعلها أكثر سورة في القرآن لها أسماء، والعرب عندهم قاعدة -وهذا شيء نفسي- عندهم قاعدة كلما كثر أشياء الشيء كان عظيمًا في نفس المتكلم. لأن ما هي أعظم الأشياء عند العرب؟ السيف، فكم اسم له؟ والحصان كم اسم له؟ أسماء عديدة، لأنهم يحبونه. فكلما كثرت محبة الشيء عند امرئ كثر تردده، وكلما أكثر تردده لا يحب أن يبقى على ذكر واحد له، لا بد أن ينوّع الأسانيد في وصفه، وفي إطلاق الأسماء عليه.


هذه لأنه يحبها الله ويحبها عبيده فأكثروا لها من الأسماء. ولكن أشهر أسمائها هو الفاتحة. لماذا الفاتحة؟ لما تقدم ذكره، لأنها من غيرها لا تستطيع أن تدخل على القرآن، كما قال الشيخ دراز وذكرنا ذلك عنه. وفيها مفتاح علوم القرآن، وهي التي إذا أردت دخول القرآن تدخل من خلالها؛ تدخل من خلالها قراءة، وتدخل من قراءتها علمًا.


الناس يقتصرون الفاتحة أنها أول ما يُدخل على القرآن من خلالها في القراءة، لكن في الحقيقة إذا أردت أن تدخل على القرآن علمًا لا بد أن تدخل من خلالها، من خلال هذه السورة. فهذا أشهر أسمائها الفاتحة.


وأشهر أسمائها كذلك أنها أم القرآن. وهذا نفس المعنى الأول، وإنما ينوّع الناس الأسماء على حقيقة واحدة؛ فأم الشيء أصله الذي يُرجع إليه ومنشئه، ولذلك سُميت مكة بأم القرى، قال لأنها أعظم القرى عظمة، وأعظم القرى مكانة عند الله، فهي أم القرى في العظمة. وقال بعضهم أكثر من ذلك حتى زعم أنها أم القرى لأن الله دحى الأرض منها فهي مركز الكون من جهة الوجود ومن جهة الجغرافيا. وهذا كلام منهم من يثبته إلى اليوم وإلى الآن يتحدثون عن هذا.


فالقرآن له أم يعود إليه، ويُذهب إليه من خلاله، وهو أصل القرآن، وهي هذه الفاتحة. ولذلك سُميت بأم القرآن، كأن القرآن منشئه من الفاتحة، كأن القرآن نشأ ما فيه من علوم، ومعاني، ومعارف، وهداية، وأنوار من أمه، هي التي أنتجته، فالفاتحة هي أم القرآن.


التسمية الثالثة السبع المثاني. وهذه سُميت بالسبع المثاني للنص، النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسبع (ألا إني أتيت القرآن والسبع المثاني) وهذه لها معاني عند أهل العلم. هذه التسمية ذكرناها، ولكن كون أنها سبع، فهذه نأتي إليها إن شاء الله، وهل الفاتحة جزء من السورة، وممن احتج بأنها جزء من السورة أنه لا يمكن أن تكون الفاتحة سبع آيات إلا بالبسملة كما يقول الشافعي، وفيها كلام نأتي إليه إن شاء الله.


فهذه هي أشهر أسماء هذه السورة، أولًا الفاتحة. فلا تستصغرون هذه السورة أيها الإخوة الأحبة، الناس لا يعرفون قيمة الهواء حتى يفقدوه. وعلى قاعدة كلما زاد الاضطرار زاد البذل، وكلما زاد البذل قلّ الاعتناء.


الشمس مبذولة لكل الناس، ولأنها مبذولة من يتفكر فيها؟! مع أنها أعظم مخلوقات الله للإنسان من أجل حياته. من يتفكر في الهواء؟! فلكثرة بذله وانتشاره يقل الاعتناء به مع أنه ضرورة، والقاعدة أنه لكثرة الضرورة كثر البذل. وكان ينبغي أن يكون الأكثر تفكرًا لأن الحاجة عليه، لكن حكمة الله أنه يستر المعاني بمثل هذه الابتلاءات.


اعلموا أنه ما من عطاء إلهي إلا وهو مستور بابتلاء. فلا بد من الابتلاء من أجل أن تدخل إليه فتفهم عليه. ومن الابتلاء هو البذل، أن الشيء العظيم للتفكر فيه ابتلاء أنه مبذول فيقل الاعتناء. إذًا من يعتني به؟ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ومن أولي الألباب؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ} هذا العلم بالإيمان؛ التذكر والتفكر، الذكر والفكر. فهذا لا بد أن تربطوه لما تقدم.
لكن القصد أن من الابتلاء أن الله ستر كثيرًا من آياته العظيمة سترها بكثرة البذل من أجل الجاهل يمر عليها كل يوم، ولا تثير اهتمامه، يمر عليها لا يهتم بها لكثرة بذلها. لكن ما الذي يرقب أهميتها؟ ما الذي يرصد قيمتها؟ العين البصيرة التي تعرف للأشياء قيمتها.


فهذه الفاتحة انتبهوا كيف العلماء يجعلونها أعظم سورة فإذا قيل لأحد ... يقول الفاتحة، يتحدث كأنها شيء قليل. وإذا قيل له ما الفاتحة؟ يقول الكل يعرفها يا رجل. فالله ستر ما فيها من العظيم لكثرة البذل لها.


فهي الفاتحة، وهي السبع المثاني، وهي أم القرآن. ولها أسماء كثيرة، يسمونها الكنز وأسماء كثيرة غير ذلك يُرجع إليها في الكتب لكن هذا ما نهتم به في الأسماء.


وما ينبغي أن نهتم به كذلك هو الحديث عن ذكر قبل أن تقرأ القرآن. وهذا له علاقة فيما نحن فيه ونقف عنده إن شاء الله تعالى للدرس القادم، وهو الحديث عن الاستعاذة. وإن كانت الاستعاذة ليست من القرآن، لكن الشيء إذا كان عظيمًا لا بد من التهيؤ له، والتهيؤ له لا يكون منه، يكون من خارجه؛ فمن أجل هذا وُضعت الاستعاذة للدخول في القرآن {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}.

نقف عند هذا إن شاء الله إلى درس قادم، وجزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم.
والحمد لله رب العالمين.


* * * * * * *

http://s02.justpaste.it/files/justpaste/d264/a10427734/0o4arp2.gif