JustPaste.it

i_f4f1e277a41.gif

 

مُؤسَّسَة التَّحَايَا
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ

الدرس التاسع والعشرون
من شرح الشيخ عمر محمود أبو قتادة
لكتاب (الموافقات) للإمام الشاطبي -رحمه الله-

photo_2015-09-20_18-39-46_small.jpg

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين وإمام المتقين محمد بن عبد الله عليه الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين المطهرين وعلى صحبه الغر الميامين، أما بعد؛

فهذا هو الدرس التاسع والعشرون من دروس شرح (الموافقات) للإمام العلامة المحقق الأصولي أبي إسحاق الشاطبي -رحمة الله عليه-، وصلنا إلى المقدمة الثانية عشرة وقلنا بأن هذه المقدمة هي مقدمة مهمة لأنها تتعلق بطرق تحصيل العلم، وسنناقش الشيخ ونرى ما يقول، ونرى ما يقول غيره، وكيفية أخذ العلم عند سلفنا.

المقدمة الثانية عشرة:

"من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.

وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا، ثم علمه وبصره، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا؛ غير أن ما علمه من ذلك على ضربين:

ضرب منها ضروري، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا -هذا من المحسوسات-، وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات.

وضرب منها بوساطة التعليم، شعر بذلك أو لا؛ كوجوه التصرفات الضرورية، نحو محاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر -في المعقولات".

نحن قلنا سابقًا ونكرر بأن قواعد العلم التي تكلم عليها علماؤنا هي قواعد كونية، ليست خاصة بهذا الدين ولا بهذه الأمة، وهذه نقطة مهمة، ولذلك علماؤنا لما يتكلمون عن العلم بأُفقه الأعلى وتجلياته الكلية لا يذكرون العلم الذي يختص بهذه الأمة ولا قواعد العلم التي تختص بها الشريعة؛ إنما يتكلمون عن العلم الإنساني، وهذا يدل على أن علماءنا كانوا يرون أنفسهم قادة التاريخ وقادة العالم، فالمسلم لا يراقب محيطه فقط ولا يهتم فقط بأن يكون صغيرًا ضمن هذا المحيط حتى لو كانت هي دولة الإسلام، إنما يربى على أنه إنسان كوني، يراقب حركة الوجود، وبالتالي يفهم أنه ينبغي أن يقود هذا الوجود. والإنسان حين يكون كذلك؛ يبني حتى أصغر القضايا والأسماع على وفقه هو، على وفق رؤيته هو، ويصبح العالم كأنه غير موجود، فلما يقول ربنا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}؛ كأن الوجود مربوط بمكة، فهو "أقصى" بالنسبة لمكة، كما هم يقولون: الشرق الأقصى والشرق الأدنى والشرق الأوسط -وهي أسماء استعمارية- بحسب رؤيتهم لأنفسهم أنهم مركز وأساس الوجود.

فعلماؤنا يتحدثون عن قواعد العلم الكوني، ولذلك الشيخ شاكر -رحمه الله-يقول في إحدى مقالاته بأن عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- عندما تكلم عن أساس اللغة إنما كان تكلم عن اللغة باعتبارها إنسانية وليس باعتبار اللغة العربية فقط.

وهذه تكلمنا عنها سابقًا لما قلنا أن أعظم إدراك عند الإنسان هو المحسوسات وليس المعقولات، فالمحسوسات هي التي ترتفع إلى درجة المعقولات، ويقول الجرجاني –رحمه الله- أن هذا خلاف ما عليه الإنسان الأول، فآدم بدأ بالعلم: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}، أما بالنسبة لأولاد آدم؛ فيقول أن الإنسان يدرك المحسوسات أكثر من إدراكه المعقولات، وأن المعقولات تبنى على المحسوسات، ونحن الآن تبنى عقولنا على النماذج الباطلة، وتكون المحسوسات أوضح من الجبال أمامنا ثم يزعم زاعم أن الدين لا يهتم لها، وأن الدين هو الذي يقرر الحقيقة، وكأن الحقيقة الدينية تخالف الحقيقة الكونية! هذا مع أننا عرفنا أن الشرع حقٌّ بمطابقته للتكوين.

إذًا ما يقوله هنا الشاطبي -رحمه الله- إنما هو حديث عن كيفية حصول العلم لدى الإنسان، وهو يريد أن يقول بأن أعظم طرق العلم منفعةً والتي ينبغي أن تبقى في وجدان هذه الأمة هو أن يتلقى المرء العلم عن طريق الشيوخ المتحققين به كمالًا وتمامًا، ولا يجادل أحد بأن أفضل طرق العلم أن تثني ركبك عند العلماء، وهو ليشرح هذه النقطة؛ بدأ بكيفية حصول العلم لدى الإنسان، فقال بأن أولًا هناك ما هو مغروز في فطرته وغريزته، وهي حركات لا يختلف فيها الإنسان عن الحيوان: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}: قدر أي صنع الوجود على وفق قدر، ثم هدى، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}: إذًا الأصل هو التكوين، فالدين لا يأتي بشيء بخلاف واقع الوجود، وهذا قلناه في قضية التحسين والتقبيح العقلي بأن الشرع لا يأتي بمحالات العقول ولكنه يأتي بغير ما تعلمه العقول.

"ضرب منها ضروري، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا -هذا من المحسوسات، وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات":

إذًا هناك علم يتلقاه الإنسان عن طريقة فطرة وجوده، عن طريق الغرز الإلهي، وهذه قضايا إنسانية ليس فيها تميز بين إنسان وإنسان ولكن قد يتميز قدرًا، كإنسان يسمع وإنسان يخرج من بطن أمه لا يسمع، فهذه قضايا مركبة فطرة لا يعاب ولا يمدح فيها الإنسان، بل هي عطاء إلهي، وفتنة للناس. وتنوع الخلق القدري يدل على قدرة الله المطلقة، أما لماذا يعطي الله ويمنع؛ ف: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}، لا ندري، فقط نعرف أن الله -عز وجل- جعل المريض والأعمى من أجل أن يعلم البصير حكمة الله ورحمته، وحتى يبتلي صاحب البلاء بالصبر.

فالشيخ يرصد أولًا كيفية حصول العلم مطلقًا.

"وضرب منها بوساطة التعليم، شعر بذلك أو لا؛ كوجوه التصرفات الضرورية، نحو محاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر -في المعقولات":

ثانيًا: يتحدث عن علوم طريق تلقيها هو الحياة، العقل يدركها في بداهة النظر، وهي قضايا يجتمع فيها الناس جميعًا. ولا يفارق في هتين المرتبتين إلا من حرم قدَرًا من نعمة الإدراك أو نعمة الوجود الكوني في العطاء الإلهي، بأن لا يكون له عقل ويخرج مجنونًا إلى آخره.

والشيخ يمهد الآن لقضية أن أفضل طرق التعلم هي أخذ العلم عن طريق الشيوخ المتحققين به كمالًا وتمامًا.

"وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر":

إذًا هو يخرج هتين القضيتين السابقتين من الحديث عما أراد ونصب له المقدمة، فإذًا هو العلم الذي يحتاج إلى نظر وتبصر.

"فلا بد من معلم فيها وإن كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا، فالإمكان مسلَّم ولكن الواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل؛ كاختلاف جمهور الأمة والإمامية -وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة، من جهة أنها مختصة بالأنبياء -عليهم السلام-، ومع ذلك؛ فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم، علما كان المعلَّم أو عملا، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع، وجريان العادة به كاف في أنه لا بد منه، وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال"، وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال؛ إذ ليس وراء هتين المرتبتين مرمى عندهم، وأصل هذا في الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء)، الحديث، فإذا كان كذلك؛ فالرجال هم مفاتحه بلا شك":

لقد صار حول هذه الكلمة مدار بحث طويل بين الشيوخ وبين المقلدين وبين المذهبين وبين دعاة عدم المذهبية، وهي قوله: "إن العلم كان في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال":

إذًا الشيخ يريد أن يقول لنا بأن هتين القضيتين الأوليين لا يحتاج فيهما المرء إلى بصر، الأولى هي في غريزته عندما خرج من بطن أمه، الثانية أخذها دون شعور منه، وقد يشعر ولكن هي تجري فيه في حياته، الآن جاء إلى العلم الآخر، وهو ما احتاج إلى بصر ونظر، مثل الفنون: فليكون الإنسان نجارًا أو حدادًا أو حائكًا لا بد أن يتعلمها، والطريقة التي جرت بها العادة في حصول هذا العلم هو أخذها عن طريق الرجال.

لكن هل هناك علم الإلهام؟

يقول أن هذا واقع، وهنا نأتي إلى نقطة مهمة جدًا، وهي في التكوين كما في التشريع، وهي أنه لا بد من وجود الأصل:

عندما أراد النبي ﷺ أن تحصل المعجزة بخروج الماء من بين أصابعه الشريفة؛ ما الذي احتاجه النبي ﷺ ليحصل الوجود بغير موجده السببي الكوني؟ احتاج أن يحضر الماء، ولم يحصل أن خرج الماء من غير وجود أصله -وهو وجه المعجزة-، بل جيء للنبي ﷺ بإناء فيه ماء فوضع أصابعه الشريفة ففاض الماء وجعل يشغب من بين أصابعه. وعندما أراد النبي ﷺ أن تحصل المعجزة بالتكثير للطعام في غزوة تبوك؛ ما الذي احتاجه؟ جمعوا له ما بقي من طعامهم وجعلوا يأكلون، فكان لا بد من الأصل، وهكذا في قضية جابر -رضي الله تعالى- عنه في غزوة الخندق.

وهذا نستفيد منه في مسائل التشريع والعلم: نعجب لمن يريد أن يبني العلم وأن يحصل العلم الكثير ويشغب العلم من قلبه على لسانه إلى الناس من غير وجود الأصل!؟ فيأتي رجل من أجهل خلق الله لا يعلم شيئًا ولم يدرس، ثم يتصورون من حال هذا الرجل أن يجلس مجلس العلماء ويفتي في مذاهب الفقهاء، ويتحدث عن العلوم وعن القضايا العظيمة، وهو يقول هذا فتح إلهي! هذا كذب ولا وجود له، ولم يحصل في تاريخ أمتنا قط، الممكن أن يكون لديه أصل العلم، ثم قد يحصل أن يبارك الله -عز وجل- في هذا العلم فيحصل فيه البركة والخير الكثير وينمو كما نما الماء؛ ويخرج من قلبه، ولكن لا بد من وجود الأصل.

وهذه النقطة التي ذكرتها يجب تعمميها في قضايا النصر والهزيمة كذلك: أمة جالسة لا وجود للأصل عندها ولا حركة، ثم تريد أن تحيا! هذا لا وجود له، لأن الله -عز وجل- أقام لهذه الأمة الأسباب وأوجب عليها الأخذ بها، حتى الأنبياء لم يحصل لديهم النصر المطلق بأن خرجوا على أعدائهم فصرخوا صرختهم وانتصروا عليهم، هذا لا وجود له، بل لا بد من وجود الأصل.

إذًا عندما يتحدث الناس عن الإلهام؛ قديمًا كانوا يريدونها عن طريق الكرامة والمعجزة، واليوم يريدونها عن طريق البرشام، بحيث يأخذ حبة فيصبح حافظًا عالـمًـا لصحيح البخاري! والناس في زمان علي كأنه وقع في قلوبهم هذاـ فقالوا: (هل خصكم رسول الله بشيء؟)، وهذا دليل على أن الفتن والبدع سريعة الحدوث، كما قال النبي ﷺ: (ما أسرع ما تنسون)، لما دخل الرجل فسلم فذكر له النبي ﷺ أجر السلام، ثم لما قام الرجل لم يسلم، فقال النبي ﷺ: (ما أسرع ما تنسون، ليست الأولى بأحق من الثانية)، وقال الصحابة: ما أسرع ما غيرتم وما بدلتم، فقد بدأ التغيير والتبديل بمجرد وفاة النبي ﷺ، وهكذا هي لعبة الشيطان مع الإنسان.

فينبغي أولًا أن نبني البناء ثم نرجو البركة، والناس يريدون البركة بلا أصل ولا بناء، ويطلبون العلم من غير طريقه.

"فالإمكان مسلم -وهو حصول الإلهام- ولكن الواقع في مجال العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه بالجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، كاختلاف جمهور الأمة والإمامية -وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة، من جهة أنها مختصة بالأنبياء -عليهم السلام-":

تحدث هنا الشيخ عن قضية الإمامية، والحقيقة أن الإمامية هم أقل أهل الباطنية فسادًا، وإلا فالسبعية -أي الزنادقة- وغيرهم مجرمون، وعندهم أن العلم يأتي بمجرد الولادة إلى غير ذلك.

"فإذا تقرر هذا؛ فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به، وهذا أيضا واضح في نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفًا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال":

شروط المعلِّم:

بعد أن قرر الشيخ -رحمه الله- أنه لا بد من وجود المعلم؛ جاء إلى شرط هذا المعلم: "فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به": أي تحقق بالعلم، بعد ذلك شرح كيفية تحقق المرء بالعلم:

"إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق؛ -أولًا- أن يكون عارفًا بأصوله":

إذًا أولًا:

لا يجوز للرجل أن يسمى عالِمًا في علم من العلوم حتى يعلم أصوله، وكيف انبنى هذا العلم، وهذا من فقه العلم. الناس الآن يأتي الرجل منهم يتحدث عن علم الحديث، يتحدث عن علم الفقه، يتحدث عن الاجتماع، ولا يعرفون كيف انبنت هذه العلوم، فإذا كان الحديث عن العلوم بفروعها يحتاج إلى هذا؛ فما بالكم بعلم التراث كله؟ كيف يحقُّ لإنسان أن يتحدث عن تراث أمة دون أن يصل إلى أصولها وجذورها، ودون أن يغوص فيها إلى أعماق هذه العلوم ويعرف كيف انبنت وكيفية حدوثها وبنائها، وكيف تطورت، وما الذي دخل عليها، وكيف حصلت.

ولذلك من مهمات علم أصول الفقه التي لا يُمر عليها كثيرًا: أصول أصول الفقه، كذلك عندما يعلِّم بعضهم مصطلح الحديث؛ يرصون تاريخًا مكتوبًا لعلم الحديث ولا يرجعون إلى كيفية نشوئه، هذا علم اجتماع، هذا علم حياة، والحديث لا يجب أن يكون فقط عن تطوره التاريخي ومن كتب فيه أولا ومن هو متأخر، بل يجب معرفة كيف حصل هذا العلم في هذه الأمة، ما هو دافعه، ما هي علاقته بالشريعة؟ وهذا يحتاج إلى قراءة العلم على وجه كونه إنتاج أمة.

وهناك مسألة عليكم أن تنتبهوا إليها، وهي أنه لا يوجد عالم نشأ من غير وجود مجتمع يحوط هذا العلم وينتجه، وإذا حصل لا يُحدث أثرًا في حياة هذه الأمة ولا يستطيع أن يبث علمه ولا أن يعلمه، فلو رأينا مَن حول الشافعي من العلماء مثلًا، وهم يعدونه المجدد الثاني بعد عمر بن عبد العزيز؛ لرأيتم بيئة علمية ولغوية تنتج هذا العالم، فهو من معاصري بن هشام اللغوي العظيم، ومن معاصري الإمام أحمد، وابن تيمية لم يكن فريد عصره بحيث لا يوجد حوله المجتمع الذي ينتج هذا العالم، لو رأيتم من حوله لعلمتم أن هناك ثورة علمية كان يعيشها وكان هو مبرزها وقائدها؛ كان هناك الذهبي، كان هناك ابن القيم، حتى الذين يخالفونه لو رأيتم إنتاجهم لعلمتم أنهم عظماء، كأبي السبكي، كالبرزالي، كابن عبد الهادي صاحب (الصارم المنكي)، هذه بيئة علم، فحين تحدث في الأمة ثورة العلم وثورة الإرادة؛ يبرز العلماء، لكنه يكون إنتاج مجتمع.

يقول الشيخ: "أن يكون عارفًا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم":

فإذًا هو يتحدث عن الأصول ويتحدث عما ينتج عن فروع هذا العلم، وهنا نأتي إلى قاعدة مهمة هي: قاعدة توافق العلوم، فلا يوجد عالم تفسير لا يعلم بالأصول ولا يعلم بالحديث ولا يعلم باللغة، أو عالم فقه لا يعلم التفسير ولا يعلم الحديث، قد يكون الرجل عالما بهذه العلوم لكنه يبرز في التفسير، ولكن في تاريخنا لا بد من النظر إلى إنتاج الجمع، وهذه كلمة أحسن النظر فيها عابد الجابري عندما جاء إلى نقد العقل العربي، وهو رجل شيوعي في الأصل، وأراد أن يطبق نظرياته على الإرث الإسلامي، وبعد ذلك ورثه القوميون، فعابد الجابري قرأ العقل الإسلامي -هو سماه العقل العربي-، قال بأن العقل الإسلامي ثلاثة عقول: عقل الأشاعرة، عقل الغنوص، وعقل المعتزلة، وهو يريد أن يقول بأن الذي دمر الأمة، والذي أنتج هذا الانحطاط الذي تعيشه الأمة هو انتصار عقل الأشاعرة باختلاطه بعقل الغنوص.

  • والغنوص المقصود به هو أخذ المعرفة عن طريق الإلهام، فالغنوص يعني الصوفية، وهي مبدأ إنساني، ليس هو حديث الإسلام ولكنه صناعةٌ في البوذية، وصناعةٌ في الطاوية -التي في الصين-، وهو صناعةٌ في النصرانية واليهودية، كل الأديان فيها هذا الاعتقاد -أن المعرفة ممكن أن تأتي عن طريق الغيب-.
  • والعقل الأشعري هو الذي يريد أن يوافق بين العقلي والنقلي عن طريق تأويل النقل.
  • والمدرسة الثالثة هو عقل المعتزلة، وشرحنا في الدرس السابق لماذا دعى من دعى إلى إحياء فقه المعتزلة، على أساس أن فقه المعتزلة يلتقي مع الأنسنة -تعظيم الإنسان-.

فهو يقسم التاريخ إلى هذا، وقد اتهم بالعصبية للمغرب، فهو أدخل ابن حزم في الفقه العقلاني! على الرغم من أن ابن حزم لا يلتقي لا فقهًا ولا أصولا مع هذا، لكن لأن ابن حزم مغربي، وكذلك عظم ابن رشد.

وهذا الإنتاج الذي يفصل العقل المسلم رد عليه الأستاذ طه عبد الرحمن بما قلناه في قضية التقاء العلوم وأنه لا يوجد هذا التفريق، فابن رشد مثلًا كان أقرب إلى الأشاعرة الذي يزعمون أنه كان فيلسوفًا، وكذلك الغزالي لا نستطيع أن نصنفه.

فالرد على هؤلاء بأن هذا التفريق في العقل المسلم بين مدارس موجودة منفصلة تفريق خاطئ، والدليل عندنا نحن في علم الأصول أن علم الأصول هو إنتاج فقهي وإنتاج كلامي.

الأمر الآخر للرد عليه: أنتم تعلمون أن ما سمي بالعقل الكلامي أو العقل المعتزلي يعده علماؤنا اختراقًا لعقل المسلم الموحد الذي صنع التاريخ الإنساني؛ فالصحابة صنعوا التاريخ من الكتاب والسنة، وبدأ الانحدار في تاريخ أمتنا لما جاء الفكر الإغريقي اليوناني ودخل عليه، فما يريدون أن يحيوا به الأمة هو أساس فسادها، إلا إذا كنا على مذهب أبي النواس:

دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ   ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ

قال -وهذه مهمة كذلك تكلمنا عنها سابقًا ولا نريد أن نقف عندها-:

"قادرا على التعبير عن مقصوده فيه":

ثانيا:

لا بد للعالم أن يكون قادرًا على التعبير عن مراده، وهذا الفرق بين العالم وبين غيره، وقلت لكم سابقًا بأنه كلما اتضحت المسألة في نفس الرجل؛ كان أقدر على الإبانة عنها في لسانه، لكن كيف هذا يلتقي مع الكلمة التي قلناها عن الشافعي أنه قال: "تتلجلج في نفسي أمور بينة لا أستطيع الإبانة عنها"؟

هنا حديث عن العلم في الأصول والعلم بالقضايا العامة والبينة، وهناك حديث عن النفس، وقلت لكم سابقًا إن أشق حديث يقابله العالم الحديث عن النفس، أما المسائل المادية والكونية والواضحة والعقلية فهي مجردة وواضحة لدى العالم، ولكن حين يأتي الحديث عن النفس؛ هو يحاول أن يصيدها، وأعلمُ الناس صيدًا للحديث عن النفس هم الشعراء.

القصد أن الفرق بين العالم وبين العامي أن العامي يتعامل مع الفطرة في العلم -كثير من الناس يسحون به، ولكن لا يعرفون التعبير عنه-، والعالم يتعامل معه بقواعد العلم، فيستطيع أن يعبر عنه.

وهل يتمايز العلماء في التعبير؟ الجواب: نعم، يتمايز العلماء في التعبير، والتعبير له أهميته وله ضرورته، وقد يُدخل معانٍي لو عُبر عنها بلفظ آخر أضعف لَغابت تلك المعاني.

قال: "قادر على التعبير عن مقصوده فيه، عارفًا بما يلزم عنه":

ثالثًا: أي عارفًا بما يترتب على هذا العلم.

قال: قائمًا على دفع الشبه الواردة عليه فيه:

رابعًا: سبق أن قلنا بأن العلم استشهاد واعتضاد ودرء الاعتراض؛ فالعالم إذًا عليه أن يكون عالمًا بكيفية رد الشبه الواردة على هذا العلم.

"فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال".

 

"غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض؛ اشتبهت":

مجمل ما يريده الشاطبي في قضية العلم هو أن يميزه، فهذه الشروط التي وضعها هي ليستطيع الرجل أن يميز العلم عن غيره من العلوم، ويميزه عن الخطأ الذي يدخل فيه، فيقول هنا أنه ليس من شرط هذا العالمِ المتحقق ألا يخطئ.

لماذا الخطأ؟ نحن قلنا أن كل حركة في الوجود -كما كل شرع شرعه الله- إنما هو أثر من آثار صفات ربنا، والله -عز وجل- هو العزيز وهو المتكبر: (والعزة إزاري والكبرياء ردائي)، فلا بد أن يخطئ الإنسان حتى يعلم أن الكمال لا يكون إلا لواحد -وهو الله-، فالنبي لهذا المعنى يخطئ، ومن الحِكم التي تُذكر عن الفاروق في عزله لخالد أنه من أجل أن يعلم الناس أن النصر لا يكون بخالد، وهناك قاعدة لعمر –رضي الله عنه-، دائمًا ضعوها وطبقوها في حياتكم هي: "مات النصراني":

لما اتخذ أبو موسى الأشعري كاتبًا نصرانيًا؛ سأله عمر عن سبب هذا فأجاب أبو موسى أنه لم يجد غيره، فقال عمر: "مات النصراني! دبر حالك، أعتبره مات، وهذا مثل لما تطلب من رجل حضور عمل صالح فيعتذر بدكانه، نقول له: "انحرق الدكان"، فهذه قاعدة عظيمة حين تطبقونها تسعدون في حياتكم، ليس هناك شيء في الوجود لا تستطيع الاستغناء عنه إلا الدين والقيم، لأنك خلقت من أجلها، لكن للأسف الكثير طبق هذه القاعدة على الدين، أما مسائل الدنيا من فأقاموا الدنيا من أجلها ولم يقعدوها. فعندما يريد رجل أن يخرج للجهاد، ويعتذر بأهله وأن لا مطعم ولا عائل لهم سواه؛ نقول له: مت! اعتبر نفسك خرجت فضربتك سيارة؛ كيف سيعيشون حينها؟! "مات النصراني" طبقها تسعد في دينك ودنياك.

"لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض اشتبهت":

الأشياء تتمايز حين تكون في تجلياتها الكلية، فإذا أردت أن تعرف الفرق بين التراب والماء مثلًا؛ لا بد أن تحضر ترابًا في تجلياته الكلية بأن لا يكون فيه ماء، والماء لا يكون فيه تراب، حينئذ تستطيع أن تميز بين التراب والماء، ولكن إذا بدأ الاقتراب، ودخلت بعض الرطوبة في التراب، والقليل من التراب في الماء؛ حينها يقتربان حتى يدخل الماء كله في التراب ويلغى وصف التراب ووصف الماء، فيصبح حينئذ طينًا، الذي هو شيء جديد.

فهذه قاعدة علينا إعمالها، وهي أنه ما نضربه في الكونيات يطبق في الشرعيات أيضا، فالله سبحانه ضرب بنوره: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}، ونوره سبحانه وتعالى أزلي، وربنا غير مخلوق فصفاته غير مخلوقة، ومع ذلك ضرب بالمثال الذي نعيشه حتى نفهم، فما قلنا عن التراب والماء نقوله كذلك عن العلوم؛ العلوم تقترب وتختلط حتى ربما تمتزج فيصبح هناك علم آخر.

"وربما تُصوِّر تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد فأشكلت":

لَمَّا يريد العلماء أن يبنوا الفرع؛ فهناك من يبنيه على أصل، وآخر يبنيه على أصل آخر فتُشكل لهذا، وهذا علم عظيم سمي في تاريخنا بتخريج الفروع على الأصول، ولذلك عليكم أن تشتروا وتقرؤوا كتاب (تخريج الفروع على الأصول) للإمام الأسنوي، وهو كتاب مهم جدا اختص بهذا الباب، واعترف الأسنوي أن هذا الفن لم يسبقه به أحد، وقد كثر بعد ذلك.

والخلاف بين العلماء الذي يذكر في مسائل الفقه؛ على ماذا يبنى؟

  • هل هو مبني على مسألة صحيح البعض لحديث وتضعيف آخرين له؟
  • هل انبنى على مسألة أصولية عندهم؟
  • هل انبنى على مسألة لغوية؟

الصواب أنه يكون هذا وهذا، وإذا نظرتم إلى كتاب (بداية المجتهد) لابن رشد الحفيد الفقيه الأصولي -الذي يقولون عنه فيلسوفًا-؛ فإنه يذكر مسألة الاختلاف وأسبابه.

"أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول":

ولذلك هناك قاعدة للشنقيطي صاحب (مراقي السعود): "والشأن ليس إبطال المثال إذ يكفي فيه الفرض والاحتمال"، هذه تحتاج شرح طويل والله، هذه قاعدة من قواعد (صاحب مراتب الصعود)، كم أحزن مرات في حوارات الإخوة، فواحد يتكلم في قاعدة فيذكر مثالا لها، والمثال قريب وليس أصليا في القضية بل يقاربها به، فتجد من يرد ويحقق في حدوث المثال من عدمه! وهذا ليس من العلم في شيء، لأن الشأن ليس في إبطال المثال والاعتراض عليه، بل إذا ذكرت قاعدة فينبغي معالجتها لا الخوض في مثال ضرب لها؛ إذ يكفي فيه الفرض، أي يكفي في المثال أن يفترض أنه موجود، ويكفي فيه الاحتمال أن يصيبه ويقاربه، وإذا فُهم هذا؛ تعرفون كيف كان علماؤنا يتكلمون وكيف الناس يتكلمون اليوم.

قال: "أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول فأهملها العالم من حيث خفيت عليه":

إذًا يمكن للعالم أن تخفى عليه عند النقاش مسألة أصولية فلا يعيد الفرع إليها، أي أنه يخفى عليه أن المسألة تعود لذاك الأصل،

وهذا يقع كثيرًا في كلام علمائنا.

"وهي في نفس الأمر على غير ذلك، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر":

الأمور قد تكون متقاربة فلا يدري أيعيدها إلى هذا أو يعيدها إلى هذا، كالإجارة والبيع، هما متقاربان فيخفى على العالم إلى أيهما يعيد المسألة.

"فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح، وأشباه ذلك؛ فلا يقدح في كونه عالما":

نحن أمام مسألة مهمة جدًا، والشافعي أرسى معالمها في (الرسالة)، وهي أن هناك أمور في الشريعة بينة لا يجوز للمعارض أن يخالفها، وهي التي اعتمادها على النص، وهذه مذكورة في وجوه حصول الاختلاف بين الناس، وهي التي يسميها المعاصرون بالثوابت، وهناك أمور مبناها على الاجتهاد، وهذه يجوز فيها الخلاف، ولذلك الشيخ -رحمه الله- يؤصل لنا هنا أسباب اختلاف العلماء، وهي مسألة قديمة كتب فيها العلماء كثيرًا، وكتب فيها ابن حزم ولكن بغير تفصيل ربما في قريب من صفحة يذكر كيفية اختلاف العلماء وأسبابه، وابن تيمية أخذ كلامه من كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) وزاد فيه وبنى عليه وفرع عليه وصنع كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

"ولا يضر في كونه إماما مقتدًى به، فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص":

إذن العالِم إذا نقصت فيه الأصول فلا يدخل في مرتبة الكمال حتى يحصلها، وليس شرطًا فيه ألا يخطئ في الفروع والأحكام، وأنتم تعلمون بأن العالم المقتدى به (الإمام) لا يكون كذلك حتى تكون له أصول خاصة، فلماذا يقولون هذا مجتهد المذهب؟ يعني أنه يجري على مجرى أصول إمامه وإن خالفه في الفروع، لماذا يقولون محمد بن حسن الشيباني حنفي؟ لأنه يجري على أصول أبي حنيفة مع أنه خالفه في ثلثي المذهب هو وأبو يوسف، ولكنهم يجرون على أصوله.

"فصل:

وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر، وهي ثلاث:

إحداها: العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد، والحمد لله":

الشاطبي من أول ما بدأنا إلى الآن وهو يعود إلى هذا الأصل المكين وهو أن الرجل لا يكون عالِمًا حتى يعمل بعلمه، ما خلت مقدمة من هذه الفائدة العظيمة، وهذه ليت الذين يتحدثون عن الشاطبي يبرزونها.

وأصحاب التربية يعدون أعظم طرقها هي التربية بالمثال، لأنها لا تُنسى، فلما تقابل جيش المسلمين مع جيش الروم وانغمس انغماسي مجاهد في صفوف الروم؛ قال الناس أنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فرد عليهم أبو أيوب الأنصاري بسبب النزول، وهو أنه حضر المثال الذي نزلت فيه هذه الآية، وهذا تجدونه في الجهاد، تجدونه في السجن، تجدونه في العمل؛ إذا كنت في العمل فجاءت الآية استقرت في نفسك، أما أن تجلس تعلِّم وتعلم فالعلم يصبح كالطعام، وإدخال الطعام ينسي بعضه بعضًا، والكلام على الكلام كالطعام على الطعام، لكن الرجل الذي يعيش مع العلم، تأتي إليه النازلة فيحتاجها فيسأل، هذا لا ينسى ويترسخ لديه العلم؛ فالعلم الذي يتحقق به العمل هذا لا ينسى، ويصبح ملكة نفس.

أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح":

{فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}، الولي المرشد مهم جدًا بالنسبة لطالب العلم والمبتدئ، ولكن الكلام عن الأصل لا يعني إلغاء وجود الاستثناء، وهذا نتحدث عنه لاحقًا إن شاء الله، لكن هنا علينا أن نمشي مع الشيخ ولا نخالفه في هذه المسألة: أن من تربى على يد الشيوخ ليس كمن تربى على يد الكتب، لكن دائمًا لا بد في الحياة من وجود تحويلة، وأنتم تعلمون أن السلفية المعاصرة قامت على تدمير الشيوخ؛ فلما أرست شيوخها أعادت إنتاج القواعد التي هدموا بها الشيوخ لاتباع مشايخهم، وهذه سنأتي إليها فهي من مهمات ما سنتحدث عنه قادمًا بأن الأصل أن تمشي الطريق المعهود، فإذا أُقفل أو فسد؛ لا بد أن نجد تحويلة لأن هذا هو مناط العلم، وهذا ما يبينه النص وليس من عندي.

إذًا لا بد للعالم أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم بأخذه عنهم وملازمته لهم، ولذلك كانت النساء ترسل أبناءها إلى مجلس أحمد ليتعلموا منه سمته، فالجلوس مع العلماء يسهل لك الطريق.

والله -يا إخوة-، أنا أعرف من نفسي كيف أن بعض المسائل المعضلة بذلتُ سنين وأنا أبحث عنها لأعرف معناها، وهذه الكلمة لماذا قيلت، وما هي مطابقتها لما قيلت له، وكيف أطلقت على هذا الأمر، لو قلت لكم اضطربتُ فيها عشر سنوات وخمسة عشرة سنة والله صدقوني! وأنا أعطيكم إياها في جلسة واحدة!

والذي يفيدك في هذا العلم هو أن تبني عقلك بطريقة رياضية، إياك أن تذهب إلى النتيجة من غير المقدمات، ومفسدة علوم المعاصرين أنهم يذهبون للنتائج دون مقدماتها، وهذه تحتاج شرح طويل، وهي مسألة: ما هو سبب فساد الشيوخ المعاصرين، وما هو سبب عدم وصول المشايخ المعاصرين إلى مقررات هي بينة عند سلفنا؟ وظلت هذه المسألة تدور في عقلي لأكثر من أسبوعين، والسبب أنهم ذهبوا إلى النهايات دون أن يعجنوا أنفسهم مع المقدمات.

القصد أيها الإخوة الأحبة أن الشيخ ضروري، فمن أراد ألا يكون له شيخ، فسوف يتعب، ولذلك من نعمة الله على طالب العلم أن يجد شيخًا يقطع له الطريق، وعندما تعرض له المسألة يسأله فيجيبه.

لكن لا تظنوا أن شيوخنا وأن سلفنا العلماء كانوا يأخذون فقط عن الشيوخ ولا يقرؤون الكتب، لم يصنع عالم في تاريخنا من غير قراءة، ولكنهم يقعدون القواعد والأصول عن طريق الشيوخ، ويأتون إليهم يسألونهم، ولذلك نشأ علم يسمى "السؤلات": سؤالات أبي داوود لأحمد، سؤلات الآجري لفلان، وهكذا ونشأت كتب عظيمة، كتاب (العلل) للداراقطني هو كتاب عظيم أملاه الداراقطني بالسؤلات على تلميذه البرقاني.

وهذا حديث مؤلم وبلاد في زمن يُصَوح فيه العلم، أي أنك تصرخ ولا تجد عالِمًا.

"فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض والحكمة التي لا ينكسر قانونها ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.

وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟

قال: "بلى ".

قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟

قال: "بلى ".

قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟

قال: "يا بن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا ".

فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.

فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.

قال: فنزل القرآن على رسول الله بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: "نعم". فطابت نفسه ورجع":

وسيأتي كلام للشيخ نافع مهم يحتاج إلى تعليق فيما قدمنا من بعض الإشارات.

جزاكم الله خيرًا وبارك الله فيكم والحمد لله رب العالمين.