JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم


مجموعة نخبة الفكر تقدم

(التحقيق في حرمة التحريق)

للشيخ/ أبي المنذر الشنقيطي

 

/files/justpaste/d245/a9816369/uploaddd8f150c87.jpg

WV8P68.gif

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين .

وبعد : فقد وقعت على فتوى منسوبة إلى تنظيم الدولة هذا نصها :

 

 

 

وقبل الرد على ما ورد في هذه الفتوى أود إيراد بعض الملاحظات السريعة :

 

الملاحظة الأولى :

واضح أن الغرض من الفتوى هو معارضة قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يعذب بالنار إلا رب النار" ، وإبطال معناه .

ولو كان الغرض من الفتوى هو الإرشاد إلى الحق لأشار كاتبها إلى أقوال أهل العلم الذين عملوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وحملوه على ظاهره وقالوا بحرمة التحريق .

 

الملاحظة الثانية :

قولهم في الفتوى بأن الشافعية والأحناف ذهبوا إلى جواز التحريق مطلقا كلام غير الصحيح ..

أما بالنسبة للشافعية فهم يرون حرمة التحريق ويحملون قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يعذب بالنار إلا رب النار" على ظاهره ، ولا يستثنون منه إلا حالة القصاص.

 

قال الماوردي : (ورواية ابن عباس " أن لا يعذب بالنار إلا رب النار " واردة في غير القصاص"). [1]

 

وقال النووي : (وأما في شرعنا فلا يجوز الإحراق بالنار للحيوان إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق ، فلوليه الاقتصاص بإحراق الجاني . وسواء في منع الإحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور : "لا يعذب بالنار إلا الله" ). [2]

 

وقد رد النووي على بعض القائلين بمشروعية التحريق فقال :

(فان قيل : لو لم يجز التحريق لماهم به –أي النبي صلى الله عليه وسلم-، قلنا: لعله هم به بالاجتهاد ثم نزل وحي بالمنع منه أو تغير الاجتهاد). [3]

 

بل إن بعض الشافعية نص على أن التعذيب بالنار من الكبائر كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري :

(وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة فعدوا من الكبائر القتل ...) إلى أن قال : (وإحراق حيوان ، إذ لا يعذب بالنار إلا خالقها). [4]

 

وترجم البيهقي في السنن الكبرى للأحاديث الواردة في النهي عن التحريق بقوله : "باب المنع من إحراق المشركين بالنار بعد الإسار". ثم بين البيهقي أن مذهب الشافعي هو إباحة تحريق الكفار في حالة امتناعهم ومنعه في حالة أسرهم ، فقال في معرض حديثه عن حكم التحريق :

 (وشبهه الشافعى رحمه الله برمى الصيد ما دام على الامتناع ثم النهى عن رمى الدجاجة التى ليست بممتنعة ) [5]

 

وأما الاحناف فهم مصرحون في كتبهم بحرمة التحريق ، وقد نص ابن عابدين على أن جواز تحريق الكفار في الحرب مشروط بعدم إمكان الظفر بهم بوسيلة أخرى ، حيث قال :

(لكن جواز التحريق والتغريق مقيد كما في شرح السير بما إذا لم يتمكنوا من الظفر بهم بدون ذلك ، بلا مشقة عظيمة فإن تمكنوا بدونها فلا يجوز). [6]

 

ونص على حرمة التحريق الزيلعي في تبيين الحقائق :

و عبارته :

(فيحرم كالإحراق بالنار، وقال - عليه الصلاة والسلام - «لا تعذبوا بعذاب الله»،). [7]

ونص على حرمة التحريق أيضا محمد بن محمد البابرتي ، فقال في معرض حديثه عنهه :

(وهو منهي عنه ، قال صلى الله عليه وسلم " لا تعذبوا أحدا بعذاب الله"). [8]

 

وعندما تحدث علماء الحنفية عن مشروعية عقر دواب الكفار نكاية بهم نصوا على أنه لا يشرع حرقها قبل ذبحها لما ورد من النهي عن الحرق .

 

قال شيخي زاده :

(ولا تحرق قبل الذبح ؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا ربها). [9]

 

الملاحظة الثالثة:

قولهم بأن الأحناف والشافعية حملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن النار لا يعذب بها إلا الله) على التواضع ، كلام غير صحيح وتلبيس واضح ، فهذا قول المهلب لا قول الأحناف والشافعية ..

 

الملاحظة الرابعة:

قول كاتب الفتوى : (قال ابن حجر رحمه الله : يدل على جواز التحريق فعل الصحابة ..) هذه الجملة ليست من كلام ابن حجر ، وإنما هي من كلام المهلب .

 

وكلام المهلب ورد في الفتح كما يلي :

(وقال المهلب : ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة وقد سمل النبي صلى الله عليه و سلم أعين العرنيين بالحديد المحمى وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها قاله الثوري والأوزاعي). [10]

 

وكذالك سائر العلماء الذين أوردوا قول المهلب أتبعوه بتلك الجملة التي من كلامه التي يدلل بها على صحة مذهبه .

  • ومن لأمثلة ذلك :

1-قال الشوكاني :

(قال المهلب ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة وقد سمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعين العرنيين بالحديد كما تقدم وقد أحرق أبو بكر بالنار في حضرة الصحابة . وحرق خالد بن الوليد ...). [11]

 

2-قال ابن بطال :

(قال المهلب: ليس نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وأن لا يتشبه بغضبه فى تعذيب الخلق؛ إذ القتل يأتى على ما يأتى عليه الإحراق.

 

والدليل على أنه ليس بحرام سمل الرسول عين العرنيين بالنار فى مصلى المدينة بحضرة الصحابة. وتحريق على بن أبى طالب الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل أن معنى الحديث على الحض والندب لا على الإيجاب والفرض - والله أعلم).[12]

 

3-قال ابن حجر :

(وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، وقد سمل عليه الصلاة والسلام أعين العرنيين بالحديد المحمى، وحرق أبو بكر- رضي الله عنه- اللائط بالنار بحضرة الصحابة). [13]

 

ومما يدل أيضا على أن العبارة ليست من كلام ابن حجر ، أنه أورد بعدها مباشرة قول المخالفين للمهلب فقال :

 

(وقال بن المنير وغيره لا حجة فيما ذكر للجواز لأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة كما تقدم وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة الى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم). [14]

 

وتأمل قوله : (وقال بن المنير وغيره لا حجة فيما ذكر) فإن الضمير فيه عائد إلى المهلب مما يدل على أن الكلام السابق لهذه الجملة كله كلامه ..فتأمل !

 

ثم ان ابن حجر بعد ذكره لكلام المهلب ومن ردوا على كلامه ، صرح هو بمذهبه في المسألة واعتقاده حرمة التحريق ونسخ إباحته فقال :

(وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم وهو نسخ لأمره المتقدم سواء كان بوحي إليه أو باجتهاد منه وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه). [15]

 

فمن اراد أن ينسب إلى ابن حجر قولا فلينسب إليه هذا القول ، ولا يجوز له أن ينسب إليه قول المهلب تلبيسا وتدليسا !

 

الملاحظة الخامسة :

أن هذه الفتوى عدول عن الحديث الصريح الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقوال شاذة مخالفة له ، وتتبع للرخص في أقبح صوره ، وكأن المصدرين لهذه الفتوى يقولون لقرائهم المساكين : إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم خالفه الأحناف والشافعية ، فلا ضير عليكم في مخالفته !!

 

الملاحظة السادسة :

تأملت في أسلوب كتابة هذه الفتوى فرأيته أسلوبا لا يمكن أن يصدر عن أهل العلم ، وإنما عن بعض الطلبة الصغار الذين لا أهلية لهم .

 

فمن ينسب الأقوال إلى أهل العلم بلا تحقيق ، وفي الوقت نفسه لا يميز بين كلام المؤلف ونقله عن غيره كيف يعطي لنفسه حق الإفتاء في المسائل الشرعية ؟

 

ثم إنا نسأل هؤلاء الذين سموا أنفسهم "هيئة البحوث والإفتاء" أين هي بحوثكم الشرعية التي تجعلنا نطمئن إلى مستواكم العلمي ؟

*******

  • وأبدأ في بيان الأدلة الدالة على حرمة التحريق ، فأقول مستعينا بالله :

ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريق بالنار ، منهم ابو هريرة وابن عباس وابن مسعود وعمرو الأسلمي وابو الدرداء .

ومما ورد عنهم في ذلك :

 

1-عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال:

(بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال : "إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار" ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -حين أردنا الخروج- : "إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما"). [16]

 

وهذين الرجلين وقع التصريح باسميهما في صحيح ابن حبان من رواية يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي إسحاق الدوسي ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا لقيتم هبار بن الأسود ونافع بن عبد القيس فحرقوهما بالنار ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذلك : لا يعذب بالنار إلا الله ولكن إذا لقيتموهما فاقتلوهما".

 

ووقع عند البزار من رواية بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي هريرة ، التصريح بالسبب الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتلهما ولفظه : "وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليهما حين خرجت من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم تزل ضنية حتى ماتت" .

 

2-و القصة تروى أيضا عن حمزة بن عمرو الأسلمى عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمّــره على سرية قال فخرجت فيها وقال « إن وجدتم فلانا فاحرقوه بالنار ». فوليت فنادانى فرجعت إليه فقال « إن وجدتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار ». [17]

 

وربما يكون النبي صلى الله عليه وسلم بعث كلا من أبي هريرة وعمرو الاسلمي في السرية نفسها وتكون القصة واحدة .

 

وأما ما رواه سعيد بن منصور من طريق هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا قال : (لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له : إن أمكنك الله من فلان فحرقه بالنار فلما مضى معاذ دعاه فقال له : إن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ، فإنه ليس لأحد أن يعذب بعذاب الله) فهو ضعيف لإرساله ولعله وهم من بعض الرواة .

 

3-عن عكرمة أن عليا ، رضي الله عنه ، حرق قوما فبلغ ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من بدل دينه فاقتلوه". [18]

 

4-عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنه لا ينبغى أن يعذب بالنار إلا رب النار ». [19]

 

5-عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يعذب بالنار إلا رب النار ". [20]

 

وهذا خبر بمعنى النهي، أي : لا تعذبوا بالنار لأن الله تعالى جعل ذالك لنفسه ولم يجعله لأحد .

كما في قوله تعالى : {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي: لا تلمسوا القرآن إلا وأنتم على طهارة .

وقد ورد التصريح بالنهي في بعض الألفاظ ، كما في رواية ابن عباس السابقة : "لا تعذبوا بعذاب الله".

 

وفي هذه الأحاديث دليل على حرمة التعذيب بالنار، لأن النهي دال على الحرمة في حالتين :

  1. في حالة انعدام القرينة الدالة على الكراهة.
  2. وفي حالة وجود القرينة الدالة على الحرمة.

 

قال ابن عاصم في مرتقى الوصول :

 

والنهي للتحريم إن تجردا *** أو مع قرينة عليها اعتمدا

 

وفي هذا الحديث عدمت القرينة الدالة على الكراهة ، ووجدت القرينة الدالة على الحرمة ، وهي كون التعذيب بالنار من خصائص الله تعالى ، ومنازعة الله تعالى في أي من خصائصه محرمة لا مكروهة ، كما قال في الحديث القدسي : "الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ، ألقيته في النار" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

 

وأما من ذهبوا إلى مشروعية التحريق فقولهم ضعيف ومرجوح ولا ينتهض بدليل وقد استدلوا لمذهبهم باستدلالات نذكرها مع الرد عليها :

  • الاستدلال الأول :

قالوا : سمل الرسول صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالنار .

وفي ذلك دلالة على مشروعية العقوبة بالنار

.

والجواب على هذا الاستدلال من وجوه :

 

الوجه الأول:

حديث أبي هريرة دليل على نسخ إباحة التحريق ، وحديث بن عباس دليل على أن حرمته محكمة ، فأيما نص ورد فيه ما يدل على إباحة التحريق فهو محمول على الإباحة المنسوخة .

قال في المراقي :

 

والناسخ الأخير إن تقابلا *** فعل وقول متكررا جلا

 

وقد بين ابن حجر تأخر حديث أبي هريرة عن قصة العرنيين فقال : ( يدل عليه – أي النسخ- ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهى عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه ، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي وروى قتادة عن بن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود). [21]

 

زد على ذلك أن بعض أهل العلم ذهب إلى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين منسوخ بآية الحرابة ..

 

قال ابن حجر بعد كلامه السابق :

(وروى قتادة عن بن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود ..

ولموسى بن عقبة في المغازي : وذكروا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة وإلى هذا مال البخاري وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي). [22]

 

وقال ابن جرير :(وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين , فقال بعضهم : ذلك حكم منسوخ , نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية , أعني بقوله : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الآية , وقالوا : أنزلت هذه الآية عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين....). [23]

 

وقال ابن دقيق العيد في شأن قصة العرنيين:

(وقد وقع في هذا الحديث التمثيل بهم واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم: هو منسوخ بالحدود فعن قتادة: أنه قال: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود وقال ابن شهاب - بعد أن ذكر قصتهم - وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية والتي بعدها ، روى محمد بن الفضل - بإسناد صحيح منه إلى ابن سيرين - قال كان شأن العرنيين قبل أن تنزل الحدود التي أنزل الله عز وجل في المائدة من شأن المحاربين: أن يقتلوا أو يصلبوا: فكان شأن العرنيين منسوخا بالآية التي يصف فيها إقامة حدودهم.

وفي حديث أبي حمزة عن عبد الكريم - وسئل عن أبوال الإبل؟ - فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين - فذكر الحديث - وفي آخره فما مثل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن المثلة وقال: "لا تمثلوا بشيء".

وفي رواية إبراهيم بن عبد الرحمن عن محمد بن الفضل الطبري بإسناد فيه موسى بن عبيدة الربذي - بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي بقصتهم - وفي آخره فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم سمل الأعين فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية...). [24]

 

فإذا كانت عقوبة العرنيين منسوخة كلها ، فقد زال الإشكال وسقط الاستدلال .

وإذا كانت باقية فما وقع فيها من تحريق منسوخ بحديث أبي هريرة .

 

الوجه الثاني :

التعارض بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريق وسمله لأعين العرنيين تعارض بين قوله وفعله ، وفي هذه الحالة يقدم القول على الفعل كما هو معلوم عند أهل الأصول .

 

قال في مراقي السعود مبينا تقديم القول على الفعل في باب الترجيح:

 

وقوله فالفعل فالتقرير*** فصاحة وألغي الكثير

 

وقد أشار الشاطبي في الموافقات إلى وجه تقديم القول على الفعل فقال :

(وهو-أي الفعل- يقصر عن القول من جهة أخرى: وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص، في الأحوال والأزمان والأشخاص؛ فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها، بخلاف الفعل، فإنه مقصور على فاعله، وعلى زمانه، وعلى حالته، وليس له تعدّ عن محله ألبتة، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا؛ لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين، وعلى هذه الحالة المعينة.

فيبقى علينا النظر: هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة، أو في هذه الحالة، أو يختص بهذا الزمان، أو هو عام في جميع الأزمنة، أو يختص به وحده، أو يكون حكم أمته حكمه؟

ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله: من أي نوع هو من الأحكام الشرعية؟

وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل؛ فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان؛ فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه...). [25]

 

وقال العلامة ابن بدران :

(ويقدم قوله عليه الصلاة والسلام على فعله لأن القول له صيغة دلالة بخلاف الفعل فإنه لا صيغة له تدل بنفسها وإنما دلالة الفعل لأمر خارج وهو كونه عليه السلام واجب الاتباع فكان القول أقوى فيرجح لذلك).[26]

 

الوجه الثالث :

أنه لا يشرع المصير إلى الترجيح بين النصوص المتعارضة إلا بعد العجز عن الجمع بينها..

كما قال في مراقي السعود :

 

والجمع واجب متى ما أمكنا *** اولا فللأخير نسخ بُيِّنا

 

ويمكن الجمع بين نهيه صلى الله عليه وسلم عن التحريق وسمله لاعين العرنيين باعتبار نهيه صلى الله عليه وسلم عن التحريق نهيا عن القتل بالنار ، وسمله لأعين العرنيين كيا لبعض أعضاء الجسد بالنار قصاصا ، والأمران مختلفان .

 

وقد يُقوّي هذا التوجيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة :

"إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما" .

وبما روى ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع ، قال : حدثنا المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فطلبوا رجلا فصعد شجرة فأحرقوها بالنار ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك , فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله, إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق.

 

ففي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن القتل بالنار ، وذلك لا يقتضي بالضرورة النهي عن الكي بالنار .

 

كما أن إباحة الكي بالنار لا تقتضي بالضرورة إباحة القتل بها ، فتأمل.

وإذا كان الكي يشرع جنسه للتداوي ، فلا غرابة أن يجعل وسيلة لعقوبة الظالمين.

 

وقد وقع التصريح عند البخاري بكيفية هذا السمل من رواية وهيب عن أيوب ومن رواية الأوزاعي عن يحيى كلاهما عن أبي قلابة ولفظه :( ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها).

فأقصى ما يدل عليه سمل النبي صلى الله عليه وسلم لأعين العرنيين –إن سلمنا جدلا بعدم نسخه - هو إباحة الكي لبعض الأعضاء .

 

وقد قال السيوطي في الكوكب الساطع :

 

بالمتعارضين إن يمكنِ عمل *** ولو بوجه فهو أولى في الأجل

 

وقال الشافعي : "لا ينسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجه يمضيان معا". [27]

 

وقال أيضا : "وكلما احتمل حديثان أن يُستعملا معا ،استعملا معا ، ولم يعطل واحد منهما الآخر". [28]

 

وقال الخطابي : (وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر أن لا يحملا على المنافاة ولا يضرب بعضهما ببعض ، لكن يستعمل كل منهما في موضعه وبهذا جرت قضية العلماء ).[29]

 

الوجه الرابع :

ويمكن الجمع بين أحاديث النهي عن التحريق وحديث سمل أعين العرنيين بأن مشروعية السمل خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم .

 

والمقرر في الأصول : أن النص القولي العام الذي يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا يخالفه كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم القولي ، فيكون ذلك الفعل خاصا به - صلى الله عليه وسلم - . وقد أشار في «مراقي السعود» إلى ذلك بقوله :

في حقه القول بفعل خصا *** إن يك فيه القول ليس نصا

 

  • الاستدلال الثاني :

استدلوا على عدم حرمة التحريق بما نسب إلى بعض الصحابة من التحريق ، ومن ذلك ما نسب إلى علي رضي الله عنه وخالد وأبي بكر الصديق .

 

قلت : وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم لا يقوى على معارضة النصوص الناهية عن التحريق ، لا من جهة صحة الأسناد ،ولا من جهة الرفع ، بل لم يحدث شيء من ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق .

 

وأما ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث عبد الله بن نمير، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى:

( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذ بن جبل إلى اليمن،"فأمرهما أن يعلما الناس القرآن"، فجاء معاذ إلى أبي موسى يزوره، وإذا عنده رجل موثق بالحديد، فقال: يا أخي أبعثنا نعذب الناس أم بعثنا نعلمهم ونأمرهم بما ينفعهم؟ فقال له: أسلم، ثم كفر، فقال: والذي بعث محمدا بالحق لا أبرح حتى أحرقه بالنار، فقال أبو موسى: إن لنا عنده بقية، قال معاذ: والله لا أبرح أبدا، قال: فأتي بحطب فألهبت فيه النار، وطرحه).

 

فهذا حديث شاذ لمخالفته ما رواه الثقات ..

 

فقد روى هذه القصة حميد بن هلال ، وعبد الملك بن عمير، و طلحة بن يحيى، وسعيد بن أبي بردة ،وبريد بن عبد الله بن أبى بردة ،كلهم عن أبي بردة رضي الله عنه عن أبي موسى..

وكلهم (ما عدى رواية عبد الله بن نمير عن طلحة بن يحيى ) ذكروا في القصة القتل ولم يذكروا التحريق .

 

بل ورد التصريح بضرب العنق عند البخاري من طريق شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، ولفظه : "فقال معاذ لأضربن عنقه".

 

وعند أبي داود والبيهقي من طريق حفص عن الشيباني عن أبي بردة ولفظه : "فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه".

 

وعند أحمد وعبد الرزاق في المصنف من طريق أيوب عن حميد بن هلال العدوى عن أبي بردة ،ولفظه : "فقال : والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضربت عنقه" .

 

وعند بن حبان من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه،ولفظه : "فقال (أي معاذ) : ما أنا بالذي أجلس حتى أعرض عليه الإسلام، فإن قبل وإلا ضربت عنقه، فعرض عليه الإسلام فأبى أن يسلم، فضرب عنقه" ..

 

وقد وردت هذه القصة عند أبي داود والبيهقي من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني عن طلحة بن يحيى وبريد بن عبد الله بن أبى بردة ،ولم يذكر فيها الحرق وإنما ذكر القتل .

ولفظها : (قال : لا أنزل عن دابتى حتى يقتل فقتل).

 

فبان أن رواية عبد الله بن نمير عن طلحة بن يحيى رواية شاذة ، وأن المحفوظ هو رواية الحماني عن طلحة ،الموافقة لروايات كل من روى عن أبي بردة في ذكر القتل بدل التحريق .

 

وعبد الله بن نمير الهمذاني الخارفي –وهو والد درة العراق- من رجال الشيخين ، قال العجلي : "صالح الحديث صاحب سنة". [30]

 

وقال ابن ماكولا : "أحد الأئمة في الحديث". [31]

 

إلا أنه في هذا الحديث خالف كل من رواه من الثقات ، وتلك هي صفة الشاذ كما قال العراقي في ألفيته :

وذو الشذوذ ما يخالف الثقه ... فيه الملا ، فالشافعي حققه.

***

وقد كنت رددت على الاستدلال لمشروعية التحريق بما نسب إلى الصحابة من فعله ، في رسالة "الهدي السمح في طرق القتل والذبح" ، وأنقل ما ذكرته هناك بتصرف يسير :

 

ويرد على هذا الاستدلال : أن دعوى إجماع الصحابة منقوض بمخالفة ابن عباس .

 

وبهذا يكون الصحابة مختلفين في مشروعية العقوبة بالتحريق ‘ وليس قول بعضهم حجة على الآخر .

 

قال ابن عاصم في مرتقى الوصول :

 

وليس حجة على الصحابي *** مذهب غيره من الأصحاب

 

وقال الجويني :

(واجمعوا ان قول الصحابي لا يكون حجة على الصحابي والظاهر من المذاهب انهم اذا اختلفوا يسقط الاحتجاج باقوالهم). [32]

 

وإذا سقط الاحتجاج باقوالهم في هذه المسألة لم يبق من دليل إلا اتباع السنة التي دلت على عدم مشروعية التحريق .

 

قلت : وربما يكون الصحابة الذين قالوا بمشروعية التحريق لم يبلغهم نسخه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

 

ولعل هذا هو ما أراد الجصاص التنبيه عليه عندما قال :

(..قوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يقتضى عمومه جواز قتلهم على سائر وجوه القتل ....وجائز أن يكون أبو بكر الصديق رضى اللَّه عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق والحجارة والرمي من رءوس الجبال والتنكيس في الأبار إنما ذهب فيه إلى ظاهر الآية وكذلك على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه حين أحرق قوما مرتدين جائز أن يكون اعتبر عموم الآية...). [33]

 

وقال الماوردي في الجواب على ما نسب إلى خالد رضي الله عنه من التحريق :

( قيل عنه جوابان : أحدهما : أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - أنكرا ذلك من فعله وبرئا إلى الله من فعله .

والثاني : أنها كانت حالا لم ينتشر فيها حكم النهي ، ففعل خالد من ذلك ما اقتضاه حكم السياسة عنده : لأنه كان في متقدم الإسلام ، وكانوا أول قوم تظاهروا

بالردة بعد قبض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا بمسيلمة الكذاب ، فأظهر بما فعل من إحراقهم بالنار ، أعظم العقوبات لارتكابهم أعظم الكفر ، ثم علم بالنهي فكف وامتنع). [34]

 

وقال الشوكاني –في شأن التحريق-: (فما وقع من بعض الصحابة محمول على أنه لم يبلغه الدليل). [35]

 

أما الطبري فقد اختار توجيه ما يروى عن الصحابة من التحريق : بأن التحريق المذكور وقع بعد القتل وليس في حال الحياة ، حيث قال :

(..إلا أن يقول : يقتل ثم يحرق ، أو يرجم ثم يحرق ، فيكون ذلك وجها محتملا ، فعل كثير ممن تقدم من أئمة الدين فقد ذكر عن الصديق رحمة الله عليه وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، أنهما أحرقا بعد القتل قوما ارتدوا عن الإسلام..). [36]

 

ويقوي هذا التوجيه الذي ذهب إليه الطبري ما رواه الحاكم في المستدرك وسكت عنه الذهبي في التلخيص :

عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال : لما جاءوا بابن ملجم إلى علي قال : إصنعوا به ما صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم برجل جعل له أن يقتله فأمر أن يقتل و يحرق بالنار .

واستحسن هذا القول إسحاق بن راهويه كما قال ابن رجب :

(ورُوي عن عليٍّ أنَّه أشار على أبي بكر أنْ يقتلَه ثم يحرقه ،بالنار ، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه لئلا يكون تعذيباً بالنار.) [37] انتهى الاستشهاد من رسالة "الهدي السمح في طرق القتل والذبح" .

 

وروى البيهقي في السنن الكبرى عن سفيان قال : رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمار الدهنى اجتمعوا فتذاكروا الذين حرقهم على رضى الله عنه فحدث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه بلغه قال : لو كنت أنا ما حرقتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :« لا تعذبوا بعذاب الله ». ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :« من بدل دينه فاقتلوه ». فقال عمار : لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم حتى ماتوا .

 

وقال ابن عبد البر :

(قد روينا من وجوه : أن عليا إنما أحرقهم بعد قتلهم ، ذكر العقيلي قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا شبابة وذكره أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني محمد بن حاتم قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا خارجة بن مصعب عن سلام بن أبي القاسم عن عثمان بن أبي عثمان الأنصاري قال جاء ناس من الشيعة إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين أنت هو! قال من أنا؟ قالوا أنت هو! قال ويلكم من أنا ؟ قالوا أنت ربنا! قال ويلكم ارجعوا فتوبوا.. فأبوا فضرب أعناقهم ثم قال يا قنبر ائتني بحزم الحطب فحفر لهم في الأرض اخدودا فأحرقهم). [38]

 

وقد ورد عن علي رضي الله عنه ما يقتضي تصويبه لإنكار ابن عباس ، فقد قال البغوي بعد ان روى حديث بن عباس :

(هذا حديث صحيح، أخرجه محمد عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، ورواه عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، وزاد: فبلغ ذلك عليا، فقال: صدق ابن عباس..). [39]

 

وروى الدارمي والبيهقي أن سليمان بن حرب زاد في حديث جرير : فبلغ عليا ما قال ابن عباس رضي الله عنهم ، فقال : ويح ابن أم الفضل ، إنه لغواص على الهنات! [40]

 

ومن الأدلة على أن ما ينسب إلى بعض الصحابة من التحريق كان على وجه الخطأ وان كبار الصحابة وعلماءهم لم يكونوا يرون مشروعية التحريق بالنار : ما رواه عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه قال حرق خالد بن الوليد ناسا من أهل الردة فقال عمر لأبي بكر : أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله ؟!

فقال أبو بكر : لا أشيم سيفا سله الله على المشركين.

وفي هذا دليل على أن ما نسب إلى الصديق رضي الله عنه من التحريق لا صحة له .

وقد ذكر الطبري في "تهذيب الآثار : أن عبد العزيز بن مروان أخذ رجلا خالط البهيمة فحرقه ،

 

ثم قال الطبري معلقا :

(وهذا فعل لا أعلم له فى الصحة وجها يوجه إليه إلا أن يقول قائل : للسلطان أن يعاقب بما يرى من العقوبة من فعل ذلك ليردع به رعيته عن ركوب مثله من الفواحش ، وذلك قول إن قاله خارج من أقوال أهل العلم ، ولما ورد به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نهيه أن يعذب أحد أحدا بعذاب الله تعالى ذكره). [41]

 

الاستدلال الثالث :

قولهم بأن أكثر العلماء يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وتحريق المراكب.

والجواب على ذلك :

أن ما ورد من النهي عن تحريق شخص بعينه لا يتناول تحريق الحصون والمراكب ، بل ورد في السنة ما يدل على مشروعية ذلك ، وقد بوب البخاري لذلك فقال : "باب حرق الدور والنخيل".

 

وأورد فيه حديث قيس بن أبي حازم قال : قال لي جرير قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تريحني من ذي الخلصة ، وكان بيتا في خثعم يسمى كعبة اليمانية قال فانطلقت في خمسين ومئة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل قال : وكنت لا أثبت على الخيل فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا فانطلق إليها فكسرها وحرقها ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فقال رسول جرير والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجوف ، أو أجرب قال فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

 

ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم" .

 

قال ابن حجر تعليقا على هذا الحديث : (لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا لأنه يمكن الفرار منه أو الاخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والارهاب) . [42]

 

وصرح البيهقي بأن إباحة تحريق المشركين خاص بحالة امتناعهم ، وأما في حالة الأسر فلا يشرع حرقهم ، حيث قال :

(وأما حديث أسامة بن زيد حيث أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحرق على أبنى وما روى فى نصب المنجنيق على الطائف فغير مخالف لما قلنا إنما هو فى قتال المشركين ما كانوا ممتنعين.

وما روى من النهى فى المشركين إذا كانوا مأسورين ..وشبهه الشافعى رحمه الله برمى الصيد ما دام على الامتناع ثم النهى عن رمى الدجاجة التى ليست بممتنعة ). [43]

 

وروى سعيد بن منصور أن عبد الله بن قيس الفزاري ، كان يغزو على الناس في البحر على عهد معاوية ، وكان يرمي العدو بالنار ويرمونه ويحرقهم ويحرقونه ، وقال : لم يزل أمر المسلمين على ذلك.

 

وقال ابن رشد :

(واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف..). [44]

***

الاستدلال الرابع :

قولهم بأن الحرق يشرع قصاصا..

وجوابا على ذلك نقول :

نعم .. ذهب الشافعية ؛ وبعض المالكية ، و الحنابلة ، إلى أن القاتل يقتل بما قتل به ولو نارا . فيكون القصاص بالنار مستثنى من النهي عن التعذيب بها عندهم.

واستدلوا بقوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} وقوله تعالى : {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

فكأنهم جعلوا تلك الآيات مخصصة لما ورد من النهي عن التحريق .

 

كما قال القرطبي :

(وقوله : "لا يعذب بالنار إلا رب النار" صحيح إذا لم يحرق ، فإن حرق حرق ، يدل عليه عموم القرآن). [45]

 

قلت : والقول بأن الآيات الدالة على مشروعية القصاص مخصصة للنهي عن التحريق قول يحتاج إلى دليل .

 

والذي يظهر والله اعلم أن النهي عن التحريق والآيات الدالة على مشروعية القصاص بينهما عموم وخصوص وجهي ..

 

أي انه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها وهي القتل حرقا ، وفي هذه الحالة يتعين الترجيح كما قال في المراقي :

وإن يك العموم من وجه ظهر *** فالحكم بالترجيح حتما معتبر

 

ومن أمثلة العموم الوجهي :

قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} مع قوله تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.

 

قال النووي :

(قال الجمهور وقد تعارض عموم هاتين الآيتين، و إذا تعارض العمومان وجب الرجوع إلى مرجح لتخصيص أحدهما وقد وجد هنا حديث سبيعة المخصص لأربعة أشهر وعشرا وأنها محمولة على غير الحامل). [46]

 

أما المسألة التي بين أيدينا فهناك ثلاث مرجحات يمكن أن نرجح بها عموم حرمة التحريق على عموم آيات إباحة القصاص :

 

المرجح الأول :

أن عموم آيات القصاص يفيد الإباحة ، وعموم النصوص المحرمة للقتل يفيد التحريم ، وفي معرض الترجيح يقدم التحريم على الإباحة على الصحيح من قول أهل العلم .

 

قال في الكوكب الساطع في بيان ما يقدم عند التعارض:

 

والأمر والحظر على الإباحة *** ثالثها سواء الحظر وتي

 

وقد قال عثمان رضي الله عنه ، لما سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين : "أحلتهما آية وحرمتهما آية، فالتحريم أحب إلينا" .

 

وإنما ترجح الأخذ بالتحريم للاحتياط كما قال ابن عاصم في مرتقى الوصول:

 

وإن يكن فيهن ذو احتياطي *** وفي النصوص الأخذ بالمحتاط

 

قال القرافي :

(والقاعدة أن الشرع يحتاط في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من الخروج من الإباحة إلى الحرمة لأن التحريم يعتمد المفاسد فيتعين الاحتياط له). [47]

 

وهناك سبب آخر لتقديم الحرمة على الإباحة أشار إليه بن نجيم بقوله :

(إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم ، والآخر الإباحة قدم التحريم ، وعلله الأصوليون بتقليل النسخ ؛ لأنه لو قدم المبيح للزم تكرار النسخ ،لأن الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا جعل المبيح متأخرا كان المحرم ناسخا للإباحة الأصلية ، ثم يصير منسوخا بالمبيح .

 

ولو جعل المحرم متأخرا لكان ناسخا للمبيح ، وهو لم ينسخ شيئا ؛ لكونه على وفق الأصل). [48]

 

المرجح الثاني :

أن ما يحرم لذاته ، لا يشرع جعله وسيلة للقتل ..

 

قال بن قدامة :

(إذا قتله بما يحرم لعينه كتجريع الخمر واللواط أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقا ويقتل بالسيف). [49]

 

والتحريق بالنار محرم لذاته لكونه من خصائص الله تعالى ، فلا يشرع أن يكون وسيلة للقتل .

ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابي هريرة إلى قتل من يشرع قتله بوسيلة اخرى غير التحريق .

 

المرجح الثالث :

أن علة تحريم الحرق بالنار تقتضي عمومه في جميع الحالات.

 

فحديث أبي هريرة يفيد أن العلة في المنع من التحريق هي كون التعذيب به من خصائص الله تعالى ،وقوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار »-كما في لفظ ابي داود وغيره-

 

ولهذا قال الشوكاني : ( النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد الأمر بإحراق رجلين مشركين قد بالغا في الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقا القتل ثم علل ذلك بهذه العلة التي تفيد أنه لا يجوز التحريق بالنار لأحد من عباد الله سواء كان مشركا أو غير مشرك وإن بلغ في العصيان والتمرد على الله أي مبلغ). [50]

 

وترتيبه كون التعذيب بالنار من خصائص الله تعالى بالفاء على النهي ، يدل على أنه هو علة النهي ، لأن الفاء من حروف التعليل ..

 

وقد قال الشيخ سيدي عبدُ الله في مراقي السعود في مراتب النص الظاهر - مشيرا إلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ، ثم الراوي الفقيه ، ثم الراوي غير الفقيه - :

 

فالفاء للشارع فالفقيه *** فغيره يتبع بالشبيه

 

قلت : وإذا كانت العلة في تحريم التحريق بالنار هي كونه من خصائص الله تعالى ، فإن هذه العلة تقتضي عموم التحريم في كل الحالات ، ومنع تخصيصه بالآيات الدالة على مشروعية القصاص ..

 

وقد تقرر عند أهل الأصول أن العلة قد تقتضي عموم الحكم ، كما قال في المراقي :

 

وقد تخصص وقد تعمم *** لأصلها لكنها لا تخرم

 

  • ومن أمثلة تعميم العلة للحكم :

قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.

 

فإن تعليله تعالى لوجوب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة ، قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ،وعدم اختصاصه بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن أطهرية القلوب كما يحتاج إليها أزواج النبي صلى اللله عليه وسلم ، يحتاج إليها سائر نساء المسلمين .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة : «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» ، فأن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر ، كالجوع والعطش ، والحقن والحقب .

 

وبهذه المرجحات الثلاث يظهر أن أحاديث النهي عن التحريق أعم من الآيات الدالة على مشروعية القصاص

 

وأن أظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية : هو منع التحريق ولو قصاصا .

ولا يهولنك كثرة القائلين بلا تحقيق !

 

ومن لا علم له بأقوال أهل العلم قد يظن هذا القول خارجا عن مذاهب الفقهاء داخلا في شذوذات الآراء !

 

لكنه بعد البحث سيدرك أن هذا القول ذهب إليه جمع من اهل العلم من السلف والخلف.

 

قال ابن حجر :

(واختلف السلف في التحريق فكره ذلك عمر وبن عباس وغيرهما مطلقا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصا ..). [51]

 

وذهب إلى هذا القول الأحناف وبعض المالكية والحنابلة .

 

قال المواق :

(قال القاضي أبو بكر : من قتل بشيء قتل به إلا في وجهين وفي وصفين:

الوجه الأول : المعصية كالخمر واللواط .

الثاني :النار والسم). [52]

 

وقال أصبغ : "لا يقاد بالسم ولا بالنار". [53]

 

وقال الباجي :

(روى ابن المواز عن ابن الماجشون أنه قال من قتل بالنار لم يقتل بها). [54]

 

وقال ابن بطال :

(قال ابن الماجشون : يقتل بالعصا وبالخنق وبالحجر ولا يقتل بالنار . وقال أبو حنيفة وأصحابه : بأى وجه قتل ؛ فلا يقتل إلا بالسيف . وهو قول النخعى والشعبى ...). [55]

 

وقال بن قدامة الحنبلي :

(وإن حرقه فقال بعض أصحابنا لا يُحرّق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه و سلم : "لا يعذب بالنار إلا رب النار" ولأنه داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة ). [56]

 

تنبيه :

وحتى على مذهب القائلين بمشروعية الحرق قصاصا ، فينبغي التنبه إلى أن القصاص يعني أن يعامل الجاني بمثل فعله ولا يزاد عليه ..

 

قال ابن رشد :

( القصاص إنما أخذ من قص الأثر وهو إتباعه ، فكان المعنى أن يتبع الجارح والقاتل فيفعل به ما فعل بالمجروح والمقتول ، وقد جاء في السنة بيان ذلك ). [57]

 

وحاصل ما أوردته سابقا : أن إباحة التحريق منسوخة ، وأن النهي عنه للتحريم لا للكراهة ، وأن ما ورد معارضا له في بعض النصوص أو فعل الصحابة لا يقوى على رد الأخبار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

 

وأن النهي عن التحريق أعم من الآيات الدالة على مشروعية القصاص ، فلا يشرع الحرق قصاصا ، و لا يشرع حرق أي مخلوق لأي سبب من الأسباب .

والله أعلم

 

والحمد لله رب العالمين .

كتبه :

أبو المنذر الشنقيطي .

 ________________________

[1] الحاوي الكبير للماوردي ـ (12/ 140).

[2] شرح النووي على مسلم ـ(7/ 412).

[3] المجموع شرح المهذب (4/192).

[4] أسنى المطالب في شرح روض الطالب (4/341).

[5] السنن الكبرى للبيهقي (9/ 72).

[6] رد المحتار (15/ 436).

[7] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (6/32).

[8] العناية شرح الهداية (15/157).

[9] مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ـ (4/303).

[10] فتح الباري - ابن حجر (6/150).

[11] نيل الأوطار (8/58).

[12] شرح ابن بطال (9/226).

[13] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (5/ 148).

[14] فتح الباري - ابن حجر (6/150).

[15] فتح الباري - ابن حجر (6/ 150).

[16] صحيح البخاري (3016).

[17] رواه أبو داود وأحمد والبيهقي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الكبير.

[18] صحيح البخاري: (6922).

[19] رواه أبو داود واللفظ له، والطبراني في المعجم الكبير وابن أبي شيبة في المصنف والبزار في مسنده.

[20] رواه البزار.

[21] فتح الباري - ابن حجر (1/341).

[22] فتح الباري - ابن حجر (1/341).

[23] تفسير ابن جرير (8/369).

[24] إحكام الأحكام (ص: 439).

[25] فتح الباري - ابن حجر (1/ 341).

[26] المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (ص: 210).

[27] الرسالة للشافعي (ص: 342).

[28] اختلاف الحديث للشافعي (ص : 487).

[29] معالم السنن للخطابي (3/68).

[30] الثقات للعجلي (2/64).

[31] الإكمال (3/236).

[32] الاجتهاد (ص: 121).

[33] أحكام القرآن ـ للجصاص (4/270).

[34] الحاوي الكبير للماوردي ـ (14/384).

[35] السيل الجرار(ص: 953).

[36] تهذيب الآثار للطبري (6/439).

[37] جامع العلوم والحكم (19/14).

[38] التمهيد (5/317).

[39] شرح السنة للبغوي (10/238).

[40] انظر: في الرد على الجهمية (ص: 199)، في السنن الكبرى (8/351).

[41] تهذيب الاثار للطبري (1/561).

[42] فتح الباري - ابن حجر (2/130).

[43] السنن الكبرى للبيهقي (9/72).

[44] بداية المجتهد (1/385).

[45] تفسير القرطبي ـ (2/359).

[46] شرح النووي على مسلم (10/109).

[47] أنوار البروق في أنواع الفروق (5/428).

[48] الأشباه والنظائر (ص: 109).

[49] المغني (9/391).

[50] السيل الجرار(ص: 953).

[51] فتح الباري -(6/150).

[52] التاج والإكليل (11/413).

[53] البيان والتحصيل (15/461).

[54] المنتقى (4/243).

[55] شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال (8/501).

[56] المغني (9/391).

[57] البيان والتحصيل (15/461).

 

ZXPt2b.gif