JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مجموعة البُشْرَيات
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ خطبة

فتنة المصطلحات والشعارات

 

للشيخ: أبي قتادة عمر بن محمود

 

من سلسلة دروس الشيخ أبي قتادة القديمة

/files/justpaste/d244/a9790645/mkbdnn.png

إن الحمد لله نحمده -تعالى- و نستعينه و نستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ و تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المحجة البيضاء و الطريق الواضح، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، و لا يتنكبها إلا ضال؛ أما بعد:

من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا.

أيها الأحبة في الله، أساس بعثة أنبياء الله -عز وجل- جميعًا؛ أنهم جاؤوا من أجل تعبيد الناس لربهم، ومن أجل إخلاص هذه العبودية له. و الإنسان أيها الإخوة الأحبة! مفطورٌ أن يكون عبدًا بفطرته، لا يستطيع لهذه الفطرة دفعًا ولا عنها انفكاكًا. الإنسان مفطورٌ بأن يكون عبدًا؛ إما أن يكون عبدًا لله -عز وجل-، وإما أن يكون عبدًا لغيره. و العبودية تقتضي التسليم المطلق لهذا الذي تعبده، وتقتضي نبذ العبودية عن غيره؛ وهكذا هي عبودية هذا المسلم لله -عز وجل-، فإنها عبودية له وحده -جل في علاه-، لا شريك له في هذه العبودية.

وعلى المرء أن يكفر بما يعبد من دون الله -سبحانه و تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}،{اعْبُدُوا اللَّهَ}: أي وحدوه في العبادة، وحدوه فيما يتعبد الإنسان به من أعمال النسك القائمة على الحب و على الخوف و على الرجاء، ووحدوه بالطاعة والالتزام بأمره ونبذ شرع سواه، ووحدوه في الحب، ووحدوه في الخوف، ووحدوه في الولاء، ووحدوه في البراء، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

و العبارات القرآنية أيها الإخوة الأحبة! لا يمكن للمرء أن يفهم كتاب الله إلا من خلالها، ولا بد أن يعرف مدلولها؛ فحدود الشرع مبنيةٌ على فهم هذه الكلمات، والخلل في فهم هذه الكلمات، يردي المرء بالمصائب و الطامات، ونسبة الخطأ إلى كتاب الله -عز وجل-؛ فإن عدم الفهم عن الله -عز وجل- في المصطلحات وفي الكلمات التي خاطبنا الله -عز وجل- بها، يفسد دين المرء ويفسد عليه فهمه لكتابه، ثم بعد ذلك يفسد عليه عبادته لله -سبحانه وتعالى-.

وأنتم تعلمون ما جر الخطأ والفساد في فهم كلمة الإيمان التي قالها الله في كتابه، ما جر هذا الخطأ من فساد التصورات على هذه الأمة؛ فمنهم من غلا فيها وأدخل فيها ما ليس منها، أو جعل ما كان في مرتبةٍ دنيا جعله في المرتبة العليا، وكذلك العكس؛ ما جر من الفتن، وما جر من الضلالات، وما جر هذا الفساد في فهم هذه الكلمة الجليلة، الكلمة الشريفة، كلمة الإيمان؛ ما جر من الفساد في دين الله -سبحانه وتعالى-، إذ نشأت الفرق وتنازعت الأمة، وأدى فساد هذه الكلمة في تصورات الناس، إلى ترك الكثير من أمر الله -سبحانه و تعالى-.

فأنتم ترون أن بعض الناس، علق تلك الوعود الإلهية في كتابه على الإيمان؛ إذ ما من وعدٍ في كتاب الله إلا وهو معلقٌ على الإيمان، كقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، ولقوله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}. هذه الوعود الإلهية معلقة بالإيمان، فإذا فسد تصور المرء لهذه الكلمة، فسد فهمه للكتاب؛ كأن يعلق تلك الوعود الجليلة على مجرد تصور قلبه، وتصديق فؤاده على مجرد إقراره القلبي فقط، بما يخبره الله -سبحانه و تعالى-، وبما يخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وكذلك كلمة (الطاغوت)، وكذلك كلمة (الشيطان)، و كذلك كلمة (العبادة)؛ هذه الحدود و الكلمات كلمات عظيمة، تترتب عليها أحكامٌ شرعية، كما تترتب عليها أحكامٌ قدرية؛ أما الأحكام الشرعية: فأن يكون الرجل (مؤمنًا) له أحكامٌ خاصة به، وأن يكون الرجل (كافرًا) له أحكامٌ خاصة به، أن يكون الرجل (فاسقًا) له أحكامٌ خاصة به، وأن يكون الرجل (عدلًا) له أحكامٌ خاصة به.

وكذلك بقية الكلمات والحدود، التي خاطبنا الله -عز وجل- بها، له آثارٌ في حكم الله، وكذلك لها أحكامٌ قدرية كما رأينا؛ فإن الله -عز وجل- علق نصره على الإيمان، وهذا حكمٌ قدري؛ أي أن ينزل الله نصره على المؤمنين، فإذا جهل الناس هذا المعنى لهذه الكلمة الجليلة؛ رأوْا الخلف في قدر الله وفي وعده، يقولون: نحن مؤمنون، فأين نصر الله -عز وجل-؟ نحن قد آمنا فأين هذه الوعود؟ التي وعدنا الله -عز وجل- بها؟

هذه أحكامٌ قدريةٌ في الدنيا، وكذلك أحكامٌ قدريةٌ في الآخرة، وكذلك أحكامٌ قدرية...؛ فإن الله -عز وجل- علق وعد إدخال المرء جنته بأن يكون مؤمنًا، فإذا جهل المرء كلمة الإيمان، قال كما قالت اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، أو قال: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}؛ فإذًا هذه الألفاظ، كلفظ (الطاغوت) مثلًا، هذا لفظ تتعلق به أحكام شرعية؛ إذ يجب اجتنابه، و يجب اجتناب عابديه، ويجب مقاتلة جنوده، ويجب البراء منه.

فحين يجهل المرء (الطاغوت)، و ما يدل عليه من حقائق، ربما يكون جنديًا من جنود الطاغوت وهو لا يعلم، و ربما يدخل في طاعته وهو لا يشعر؛ وإذا أدخل في كلمة (الطاغوت) كذلك ما ليس منها، ربما جره إلى عقائد فاسدة كتكفير الأمة، كمن رأى تكفير المقلدين في الفروع، تحت تسمية العلماء الذين قُلدوا تحت باب المذاهب، أن يراهم هذا طواغيت؛ فيكفر من قلدهم مثلًا، وبالتالي يُدخل في كلمة (الطاغوت) ما ليس منها.

أو أن يُدخِل فيها بعض مراتبها في مراتبها العليا، فيلحق بها أحكامًا عليها، من غير أن تكون في الحقيقة في حكم الله -عز وجل-. فإذًا أيها الإخوة الأحبة! إنه من العلم الذي جهلته الأمة؛ هو علم الفهم عن الله، و علم تحديد تلك العبارات الشريفة، التي نطقها الله -عز وجل- وتكلم بها، وتكلم بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

الأمة جهلت بسببين:

أولهما: أن هذه الأمة قد ذهب عنها الكثير من فهمها للغة العرب، التي نزل القرآن بها، فإن هذا القرآن خاطب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلك اللغة، التي يفقهونها ويعلمونها ويتحاورون بها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله -عز وجل-: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، وهذه الأمة دخل فيها اللحن، ودخلت فيها العُجمة، وفسدت لغتها؛ و من هنا يأتي إفساد بعض المشايخ في التعامل مع بعض العبارات، التي تسير في الناس ولا يعرفون مدلولها.

ولذلك يجب على طالب العلم، ويجب على كل مسلم، أن يتعامل مع كل فنٍ بلغة أهله، وإلا جرته إلى المصائب؛ فمثلًا كلمة (المكلف)، فإن لها مدلولًا في لغة الفقه، كما أن لها مدلولًا آخر في كتب التوحيد؛ فإن المكلف مثلًا في كتب الفقه، شرطه أن يكون مسلمًا، كأن يقال شرط المصلي أن يكون مكلفًا، فإن شرطه الاول أن يكون مسلمًا، لكنك لو قلت كلمة المكلف في كتب التوحيد، فإنه لا يشترط فيها إلا أن يكون المرء امرئًا عاقلًا، يفهم ما يخاطب به، وليس شرطه الإسلام؛ لأن التوحيد مخاطبٌ به غير المسلم والمسلم، بخلاف الصلاة، فإن المرء لا يقوم بها، ولا يُلزم بها إلا أن يسلم؛ فهذا لفظٌ اختلف معناه من باب.

و جهل الأمة بمدلول اللغة، و بمدلول عبارات القرآن وكلام الفقهاء ـيؤدى بهم إلى التلعب في عقولهم؛ ومن ذلك ما ترون من كلمة (حربيٍ) مثلًا، حتى إن بعضهم استعاض بكلمة (المدنيين)؛ وهو لفظٌ ما دام أنه لم يطلق في كتب الفقهاء، فلا بد أن يكون معاصرًا، فلو قلبت كتب الفقه جميعها، لتعرف أين هي كلمة (المدنيين)، لا تجدها مثلًا، وهي كلمةٌ معاصرة، ولا حرج من استخدامها، لكن الأولى أن تخاطب حين يكون الخطاب فقهيًا، أن تخاطب الناس بكلمة الفقهاء، ثم أن تبين معناها بما يفهمون؛ فكلمة (المدني) نسبةٌ لمدينة، وهي مثل لو قلت (قروي) نسبةٌ لقرية، وهذه كلماتٌ لم يعلق الشرع عليها أحكامًا، أي أن يكون المرء مدنيًا، أو أن يكون قرويًا، أو أن يكون بدويُا مثلُا.

وكذلك كلمة (الحربي)، انظروا إلى تلعُب بعض المشايخ فيها من المعاصرين، فإن كلمة (الحربي) في لغة الناس العامة، يفهمون فيها من حارب: أي من قاتل؛ ولذلك يأتوا إلى كتب الفقه ليبحثوا عن كلمة حربي، ليفسروها بما جرت به العامة من هذا اللفظ، ما جرت به كلمة المعاصرين من هذا اللفظ، وليس على مدلول ما تواضع الفقهاء عليه من كلمة (حربي)، وأن الحربي: هو كل كافرٍ لم يحصل له الأمان، ولم يحصل له الإيمان؛ فيتلعبون بهذه الكلمة.

وهذا جرى عليه الكثير من المعاصرين، حيث علقوا أحكامًا على هذه الكلمات، على طريقة الإفساد بهذه الكلمات، وهو أشبه هذه اللعبة في استخدام الألفاظ؛ هي أول لعبةٍ إبليسيةٍ في إفساد أديان الناس وعقائدهم. فإن إبليس ما دخل إلى نفس آدم، إلا عندما عامله بألفاظٍ جديدة؛ حيث سمى الله -عز وجل- له الشجرة بشجرة المعصية، وقد جاء إبليس وسماها له بـ{شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ}.

ولذلك (إن من البيان لسحرًا)؛ و السحر يغير ويفسد على الناظر نظره، وكذلك الكلمات إذا استخدمت في غير مجالها، ووضعت في غير مكانها، تؤدي إلى التخييل؛ كما أن التخييل يقع على العين بسحر الساحر، الذي تواطأ مع الشيطان، فكذلك يقع التخييل في العقل من خلال إفساد المعاني لهذه الألفاظ العظيمة.

والواجب على المسلم:

أولًا: أن يتعلم تلك الكلمات بما نزلت عليه لغة العرب، فأول فساد دخل على الأمة أنها دخل فيها اللحن، وهذا الدين أيها الإخوة الأحبة دينٌ عظيم، لكن له أوعية، هذا الدين عظيم لكن أوعيته يجب أن تكون عظيمة؛ وإن الشيء العظيم ليوضع في الآنية الفاسدة فيفسد، وكذا هذا الدين. هذا دينٌ عظيم، هذا هو الحق، هذا هو الهدى؛ الحق الذي ضده الباطل، فهو حقٌ بثباته، حقٌ بصوابه، حقٌ في آثاره على القلوب، وآثاره على حياة الناس.

وإن هذا الدين هدى، والهدى هو الضوء، هو النور، هو الذي يعرفك بحقائق الأشياء، ويدلك عليها، ويحضك على سبل الحق فيها؛ أنت مهدي: أي أنت تبصر، عندك نورٌ تبصر به. وهذا الدين هدى، فهو حقٌ و هدى، حقٌ في ذاته، حقٌ في آثاره على الناس؛ وهو هدى، نورٌ في ذاته، و كذلك نورٌ للآخرين؛ لكن هذا الحق و هذا الهدى، حين ينزل على تلك الأواني الفاسدة؛ إما أن تكون تلك الأواني أوعية لفظية فاسدة، وإما أن تكون أوعية فاسدة نفسية.

إذا نزل هذا القرآن على عقل متكلمٍ فاسد، و تعامل معه بغير لغة العرب، فإلى ماذا يجره هذا القرآن؟ وأنتم ترون حتى كبار الزنادقة، يحتجون بكتاب الله -عز وجل-، حتى كبار الزنادقة و الكفرة يحتجون بكتاب الله، ألم يقرؤوا قوله -سبحانه و تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، فقالوا: (البقرة هي عائشة)، نزل هذا الكتاب الهدى على آنيةٍ فاسدة، ففسدت معانيه في نفوس أصحابه.

وهذا الذي قال الله -عز وجل- عنه: {يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، فأولًا: الأمة فسدت في لسانها، فسدت في لغتها، ولم تعرف مدلولات الألفاظ التي كان يتخاطب بها العرب؛ حيث حجمها البعض، وأفسدها عن طرائق فاسدة من استخدام لغة الآخرين، وتعاملهم مع القرآن من خلال لغتهم.

أما المصيبة الثانية: فهي جهل الأمة بالسنة. القرآن أيها الإخوة الأحبة كتابٌ عظيم، وجوامع الكلم فيه، وهو قواعد عامة جليلة، ولا يمكن للمرء أن يفهم مراتب الكتاب إلا بفهمه للسنة، لا يمكن للمرء أن يفهم كتاب الله إلا بفهمه لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ السنة شارحة و مفصلة لعمومات هذا القرآن، وجهل الأمة بهذه السنة، وبتاريخ هذه الأمة، التي فسرت كتاب الله، جعلت تلك المعاني تقع على قلوب الناس على معنًى فاسد.

فالواجب أيها الإخوة الأحبة! قبل أن نجري الأحكام، وهي مرتبةٌ تسبق على إجراء الأحكام، وهي مرتبةٌ تسبق أي جماعة تريد أن تتعامل مع الواقع؛ عليها أولًا: أن تحدد مدلول هذه الألفاظ، وأن تجليها، وأن تذهب عنها غبشها وما دخل فيها من فساد، وأن تزيل ما دخل فيها من دخن، وأن تدخل فيها ما أخرجته الأمة منه. أضرب لكم مثالًا: فقد شاع بين الناس، أن كلمة (مكروه) مثلًا لا تفيد شيئًا من تلك المعاني، التي تدل على أي نوع من الحرمة؛ فلو سألت سائلًا وقلت له: ما معنى كلمة (مكروه)؟ لقال لك: حدُها ما لم يعلق الله -عز وجل- عليه إثمًا.

لأنهم يرون أن الحرام مثلًا: هو ما نهى عنه الشارع نهيًا جازمًا، وعلق عليه إثمًا وعلق عليه عقوبة. كلمة (مكروه): كلمةٌ صارت بين الناس، وخف أثرها على قلوب المخاطبين؛ فلو سألك سائل: ما حكم هذا؟ وقلت له: مكروه؛ فإنه يستمرئ هذا الذي أطلقت عليه هذا الحكم، يستمرئه ويقبل عليه وهو لا يشعر بإثمٍ يحيك في صدره، ويقبل عليه ولا يشعر أنه معلقٌ عليه نوع حرجٍ أو نوع إثم؛ لأنه لا يرى الإثم إلا معلقًا على من اقترف ما يقال له الحرام.

وأما (المكروه) فليس فيه هذا المعنى، وليست فيه هذه الدلالة؛ مع أن كلمة (مكروه) كما يقول الشاطبي -عليه رحمة الله- بهذا المعنى؛ أي كلمة مكروه حتى ضمن وضعها في الأحكام الخمسة، أي ما كان قسيمًا للحرام، لم تُعرف في كلام السلف، لا في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا في كلام أصحابه، ولا في كلام الأوائل. فإن (المكروه) يحمل ثِقلًا من الإثم، ويحمل ثِقلًا من الحرج لو تدبره المرء.

بل كان الأوائل أيها الإخوة الأحبة! كان الأوائل ربما يطلقون المكروه على الحرام؛ يقول العالم أكره هذا، ويقصد به الحرمة، ولكنهم يفرقون بين ما جاء النص به، خصوصًا في الحرمة، فحينئذ يطمئنون إلى إطلاق لفظ الحرمة عليه، وبينما هو قد اختلف الناس فيه؛ ولذلك لو قلبت كتب السلف، كمصنف ابن أبي شيبة -عليه رحمة الله-، فإنك ترى كثيرًا من المحرمات، يعنونوها بقول: (باب كراهة كذا)، و إنما يقصد بها الحرمة.

وقد نبه على هذا جمعٌ من الأئمة؛ منهم ابن تيمية، ومنهم ابن القيم، وأصاب فيها ابن القيم -عليه رحمة الله- كثيرًا؛ وهو أن لفظ (الكراهة) في لغة السلف، ربما يقصد بها كثيرًا (التحريم)، فأين هذه الدلالة في تلك العبارة (مكروه)؟ بينما هو في نفس من سمعها من الأوائل، وبين ما تسمعها أنت إذا قيل مكروه، ربما يأتي عليها ولا يشعر بالحرج، مع أن فيها الإثم، ونوعٌ من الإثم، ولا شك فيها.

لهذا أيها الإخوة، يجب على الأمة؛ أولًا: حين تريد أن تخرج من كبوتها، يجب عليها أن تحدد المصطلحات، وأن تعرفها على حقيقتها؛ عليها أن تتعامل بها من خلال وضع الشارع لها، وبما تعامل فيه السلف؛ لأن لا تركب الكلمات على غير حقائقها؛ فيصبح العدو صديقًا، ويصبح الحبيب عدوًا.

وأنتم ترون هذا يشيع بين الناس وبين المسلمين، يستخدمون كلمات في غير موضعها، وبالتالي يعلقون أحكامًا على غير وجهها؛ هذا الأمر هو الذي أفسد الأمة، فربما يقاتل الأخ أخاه، وربما يبرأ المسلم من أخيه، وربما كذلك يصادق الرجل ويوالي عدوه وهو لا يدري؛ فأول أمرٍ في مشروع خروج الأمة من فسادها الذي هو فيه، أن تعرف دلالات الكتاب، وأن تعرف دلالات السنة، كذلك عليها أن تعرف هذه الدلالات في معانيها المطلقة، ويجب عليها أن تطبقها على واقعها، وهذا هو شأن علمائنا، هذا هو شأن الكبار في تاريخنا أيها الإخوة، وما من عظيمٍ في أمتنا إلا كان هذا نهجه، كيف؟

بصر العالم بالعلم قويًا في النظر إلى الأمور، وإدراكه للقضايا إدراكٌ ينبع من حساسيته المفرطة، من دلالة هذه الكلمات على موضوعها؛ حين قال ناسُ لأبي بكر، طبعًا أبو بكر -رضي الله عنه- حارب المرتدين، ولم يختلف الصحابة في حرب من قال بنبوة مسيلمة، ولكن رجلًا يأتي ويقول: أنا لا أريد أن أؤدي الزكاة إلى أبي بكر، أنا أؤدي الزكاة بنفسي ولا أعطيها لأبي بكر. تلك مرتبة من مراتب من قاتلهم أبو بكر، ودخلوا تحت قتال الردة إثمًا، مع الاختلاف في نوع قتالهم حكمًا.

إدراك أبو بكرٍ لتلك المصيبة، لتلك الطامة، لهذا السهم الذي يريد أن ينفلت من الجماعة، هو إدراك الرجل المؤمن المهتدي المبصر بنور الحق، أنه رأى في هذا بداية فتنة، فيما لو تركت لجرت على الأمة الفساد العظيم، وتشتتت جماعة المسلمين؛ وحينئذ لا يمكن لهذه الجماعة أن تصل إلى أهداف القرآن، ولا إلى أهداف السنة.

بصر العالم التتار عندما دخلوا، وتكلم الناس فيهم، بل إن البعض لم يرى جواز قتالهم؛ أن يأتي هذا العالم ليبصر دلالة الكتاب، ويطبقها على أفرادها وعلى أنواعها في الواقع، لم يكن لها إلا رجالٌ قلة، لم يكن لها إلا رجلٌ قال كلمة فصارت بين العلماء وكشفت الحق. الآن أيها الإخوة الأحبة! الأمة تعيش في فرقة، وتعيش تنازع، وفيها المذاهب، وفيها الأفكار، وفيها المناهج، وفيها الجماعات؛ تخرج قضيةٌ من القضايا، فيلوك الناس بها، ويتحدثون حولها، وترى البعض يجعل قائده وهاديه في حل المشكلة، ساسه وفطرته؛ لأنه يرى تلك العبارات التي يطلقها شيخٌ هنا وشيخٌ هناك، وجماعةٌ هنا وجماعةٌ هناك، وخطيبٌ هنا و خطيبٌ هناك، يراها متنازعة.

وبتلك العبارات التي تطلق فيها كتاب الله، الرجل يقول: قال الله، ما من شيخٍ إلا وهو في خطبته وفي فتواه، وهو يقول: قال الله وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقال العلماء؛ فهو يبصر إذا كان كثير التنقل، يكثر السماع بين هذا و هذا، فلا يصل إلا إلى الحيرة؛ حينئذ يسقط من قلبه التقدير لما يسمع، يرى يقول: لو كان هؤلاء يقولون حقًا لما تنازعوا، حينئذ يئوب إلى فطرته، وتلك الفطرة في هذه الأيام مدنسةٌ بالهوى، مدنسة بالمعصيةٌ، لم ينشأ واحدٌ منا في بيئة.

يقول لو كان هؤلاء يقولون حقًا لما تنازعوا، حينئذ يئوب إلى فطرته، وتلك الفطرة في هذه الأيام مدنسة بالهوى، متدنسة بالمعصية، لم ينشأ واحد منا في بيئة.

وأول ما حفظ من المحفوظات هو كلام الله، ولم ينشأ في بيئة الطاعة، في بيئة المساجد، في بيئة الجهاد، في بيئة إقامة الحدود، في بيئة ستر المعاصي، حفظ العرض، حفظ المال، قوة الإسلام؛ فمِزاجه فطرته قد فسدت، فطرته قد فسدت، ومن هنا يأتي التنازع؛ هذا التنازع الذي تقع فيه الأمة، هو بسبب جهلها، ما لو علمت دلالة هذا المصطلح، كيف تطبقه على واقعه؟

وهذا يتطلب من المرء علمًا ثانيًا: ما هو هذا العلم؟ أن يكون بصيرًا بواقعه، عالمًا بحال أهل زمانه، وأن لا يكون يعيش ببرجٍ عاج، يتعامل مع الواقع من خلال كتاب، ومع الجماعات وأحوال الأمة من خلال الرسائل؛ لا بد أن يكون حيًا مع الأمة، يعيش وسطها، يمارس ما تمارس، فإن الأعرابي كان يدخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بين أصحابه، فيقول أيكم محمدًا؟ لأنه يعيش بينهم، ولما يسمع أهل المدينة جلبة عظيمة، يخرجون إليها من بيوتهم، وفي منتصف الطريق يرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا، هم ذاهبون ليروا ما حل، ولماذا هذا الصوت؟

فيرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاسمًا من المشكلة، على فرسٍ، ليس عليه وِكاف، ليس عليه شيء، وصدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكشوفٌ عار، وهو يقول: (لا عليكم، لا عليكم)؛ ثم مدح فرسه وقال: (إني قد وجدته بحرًا).

هذا هو أمر النبوة، وهذا هو أمر أتباع النبوة، لا ينتظر أن تستقر الأمور، كمن يجلس ليمارس الجلد، ينشأ هنا جهاد، وتنشأ هنا مصيبة، وتنشأ هنا مشكلة، وتنشأ هنا قضية؛ فيأتي الناس إليه أولًا، هذا الشيخ يرفض أن يتعامل بالحكم الشرعي، بل هو يطلق العبارات ويوسعها؛ كما هو شأن العباءة، التي إذا لبسها السمين كانت عليه جيدة، وإذا لبسها النحيل كانت عليه جيدة؛ فهو يستخدم من العبارات، كما يستخدم أنواع الألبسة الفضفاضة، التي لا تميزه حتى، ويرقب من بعيد ليرى أين تسير؛ أهذا الجهاد قد أتى أكله؟

حينئذ هو مسعر حربه، ورجل القادة فيه، وصاحب الرأي الذي أفرزه، وإذا آب الناس بهزيمة، قدرها الله على فاعلها؛ بسبب عدم القدرة مثلًا، أو بسبب معصيةٍ مثلًا، أخرج عصاه من تحت عباءته، يمارس الجلد على المسلمين. انظروا، انظروا إلى قضايا المسلمين، وما هو مقدار مشاركة العلماء لقضاياهم العظيمة الجليلة؟ الأمة تعيش وعاشت حالةً مأساوية، لا يعلم بها إلا الله؛ في إندونيسيا: قطعت أعناق الشباب بالفؤوس والسكاكين، وذبحوا في الشوارع، وسالت دمائهم من فعل النصارى.

إذًا، من الذي يتحدث؟ أنهم أصحاب العواطف من الشباب، الذين خرجوا بعد خروجٍ من تلك البيئة الآسنة الفاسدة؟ فأصلحوا بعض فساد فطرتهم. وإلا فأين حديث العلماء؟ وأنتم تعلمون أن الفتن عندما تأتي ليس لها إلا العالم، وعندما تختلط الصور وتختلط المعالم في داخل الأمة، من الذي يفصل بين الحق والباطل، بين السنة والبدعة؛ من هو؟ إنما هو العالم، فأين ما يقال له العلماء؟

علماء! أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- تدفع سنويًا الآلاف من كليات الشريعة والجماعات الدينية، وكل يومٍ ترى عمامة جديدة، وكل يومٍ تسمع بمشيخةٍ حادثة، كل يومٍ ترى صورًا وأسماء وأشرطة؛ في كل سنةٍ تدفع تلك الجامعة وتلك المعاهد الآلاف من حملة الشهادات الشرعية الدينية، ومساجد المسلمين لا يخلو مسجدٌ من وجود إمام، بل إن الصراع على المساجد أمرٌ معروف بين المشايخ.

والأمر كما قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، عن أمر هذا التنازع على إمامة المسلمين وعلى مساجدهم: (إنما هم كالتيوس)؛ وصف ابن عباس العلماء حين يتنازعون على الدنيا، كما هو أمر التيوس حين، تتنازع على طعامها وشرابها، فأنت لا ترى مسجدًا إلا وفيه إمام وفيه خطيب، أين هذه الكميات الهائلة؟ أين هي من قضايا المسلمين العظمى؟ أين هو الحديث عن قضية علماء؟ أين هو الحديث -أي حديث الأمة، حديث الإرادة، حديث الفعالية- عن حل قضية عظيمة؛ هي قضية المسلمين في فلسطين؟

أين هو الحديث عن قضية الفتن، التي تمر بها الأمة وتعيشها في مصر؟ وتعيشها في الجزائر؟ وتعيشها في كشمير؟ وتعيشها في الجزيرة العربية؟ جاء الأمريكان وحطوا ركائبهم في أطهر أرضٍ وبقعة؛ التي قال عنها الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)!

أين هو الكلام الذي يعادل هذه الفتنة العظيمة؟ ويقوم لها ويبين شأنها؟ ألا تروا أن الناس يتعاملون مع هذه الأمور الجليلة، يتعاملون معها تعامل الفطرة فقط؟! ولا يسمعون كلامًا؛ وذلك لبعدهم. فواحدٌ إمامٌ لمسجد، وواحدٌ مفتي الديار، وواحدٌ قاضي القضاة، وواحدٌ وزيرًا للأوقاف، وواحدٌ موظفًا؛ أين ذلك الرجل الذي يعرف أحوال الأمة؟ أين هو ابن تيمية -عليه رحمة الله-؟ أين هو الشيخ عبد الله عزام -عليه رحمة الله-؟

أين أمثال هؤلاء الذين يعيشون مع الناس؟ فلا ترى إلا ألسنةً طويلةً تجلدهم؛ لأنها مركبة _أي هذه الألسنة_ مركبةٌ على عقولٍ تعيش في المطلق، وتعيش في الخيال، ولو وكل لأحدهم دجاجةً لما أحسن تربيتها؛ بل إننا نراه من أعجز الناس في تربية ولده، وفي قيادة أسرته، ومع ذلك هو من أعظم الناس تنظيرًا وكشفًا لأخطاء الآخرين. أين هؤلاء الذين يعيشون مع الشباب؟ حين نرى انحرافًا عظيمًا يقع للمجاهدين في سبيل الله في الجزائر؟ نرى انحرافًا عظيمًا، من الذي هو مسؤولٌ عنه؟من الذي أسقط اعتبار كلمة العلم من صدور الشباب ومن قلوبهم؟ فلا يسمعون لهم، بل ربما آلوا عليهم؛ أي مالوا عليهم بالتكفير والإبعاد.

هذه أمراضٌ تنشأ في الأمة؛ لكننا نرى صراعًا شديدًا على إمامة مسجد، نرى صراعًا شديدًا على قيادة حركة، نرى صراعًا شديدًا على فتوى؛ والأمة في أطرافها وفي مجموعها وفي أحوالها، لا تجد في بيئةٍ عالمًا واحدًا؛ أين هؤلاء المتصارعون؟ أين هؤلاء الشيوخ؟ من هذه الكتل العظيمة؛ التي تريد أمر الله، وتريد حكم الله، وتريد لمن يفتيها، حتى في المسائل التي يتم بها التعبد؛ كالصلاة والصوم والزكاة؟ كالدماء الطبيعية للنساء، كأحكام المياه؟ إذًا، الأمر الأول: أن تجدد الأمة تلك المصطلحات مما علق فيها من الفساد.

ثانيًا: أن تعرف الأمة واقعها، وأن يكون هذا الرابط ما بين هذا الحكم الجليل الحق المهدي وما بين الواقع، أن يكون ربطًا أصوليًا على طريقة السلف، في استنباط الفقه وفي التعامل مع الناس؛ ولذلك كان الأوائل هداة، وكانوا مهديين. ألم يقل الإمام الزهري: (الأمة لا تعرف كيف هو حكم المتأولين من جهة الواقع)؛ لم يقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كافرًا، لم يعرف الصحابة إلا قتال الكفار، ولم يقاتل أهل الإسلام بعضهم بعضًا؛ فلا يعرف الناس كيف يقاتل أهل التأويل.

انظروا إلى علي -رضي الله عنه-، وكيف كان إمامًا في هذه القضية! ولذلك في الحديث، الذي حسنه بعض أهل العلم: (يا علي! إنك ستقاتلهم على تأويله، كما قاتلتهم على تنزيله)؛ ولذلك علي قاتل الخوارج على تأويله، كما قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكفار على تنزيله. هذا هو شأن العالم، حين تنزل الفتنة، وحين تعم الطامة؛ وهناك من يقول: أنا أرفع يدي، هذه فتنة، سأجلس في بيتي (في حِلس بيتي)؛ وحينئذ يقوم الفساد العظيم.

حتى في تحديد معنى كلمة (فتنة) ما هي الفتنة؟ متى تكون الفتنة التي يجب على المرء أن يعتزلها؟ ومتى تكون الفتنة التي يجب على المرء أن يكون في وسطها وفي معمعتها؟ فإذا مات مات شهيدًا. حين تؤذى في بيتك، ويراد منك أن يستلب عرضك، فحينئذ تجلس في بيتك وتقول هذه فتنة؟! حين تأتي الباقعة وتعم الأخضر واليابس، ويقال كن حِلس بيتك. هذه حين يكون أهل الإسلام، كلٌ يرفع راية الإسلام على حقيقته، ولا تعرف من هو المحق ومن هو المبطل، أو يتقاتلون على أمر دُنيا؟

أما إن حين يكون الأمر بين أهل الحق وبين أهل البدعة، بين أهل إسلام وبين أهل كفر؛ حينئذ، إن من الفتنة أن تترك هذه المعامع للجهلة، ليقودوها على غير سبيلها. إذًا أيها الإخوة الأحبة! إنما هو مطلوبٌ أولًا: أن تحدد الأمة، أن يحدد علمائها تلك الألفاظ الجليلة في كتاب الله، ما هي (الجاهلية)؟ ما هو (الطاغوت)؟ ما هو (الإيمان)؟ ما هي تلك الأحكام؟ وقد نبه علماؤنا كثيرًا على هذه القضية وشددوا عليها، ورأوْا أن الفساد هو مدخلٌ إليها.

انظروا إلى كلماتٍ قالها رجل؛ وهو سيد قطب -عليه رحمة الله-، انظروا لهذه الكلمات، التي قالها على سبيل رجلٍ يتذوق كتاب الله، بصفة رجل أديب؛ كيف تعامل الناس بها؟ فأفسدت وأفسدت في عقولهم، حين لم يتعاملوا معها بطريقةٍ صحيحة: (وبهذا إن كل من أراد خطاب الأمة، بغير الحكم الشرعي وبغير ألفاظه، فاعلم أنه يخرج من المواجهة).

وشأنه هو شأن الرجل الفقيه الجاهل، الذي جلس بين الناس، فجاءه رجلٌ وقال: شيخنا! سقطت فأرة الليلة في بئري؛ هو يريد الحل. الفأرة سقطت في البئر وماتت؛ فما هو حكمها؟ الشيخ لا يدري، قال له: يا بني! لماذا لم تقفل البئر حتى لا تسقط؟ الفأرة سقطت!

لا تجلد هذا الرجل، إنما أجبه، وهذا شأن الكثير من المشايخ؛ يُسأل عن حكم الله، فيتعلق بماذا؟ بجلد السائل؛ يُسأل عن دين الله -سبحانه وتعالى- في الواقع، فيبدأ بالتنظير، ولذلك خرجوا علينا بعبارات الإسلام الحضاري؛ فكر الإسلام، تنوير الإسلام، الإسلام المستنير، وكلها تريد أن تهرُب من الألفاظ الشرعية، التي تنشئ موقفًا وإرادة.

إن تلك الكلمات التي يطلقها الكثير؛ لا تنشئ حكمًا، لا تنشئ حركة، لا تنشئ إرادة، لا تنشئ موقفًا. لا بد أن نتعامل مع الواقع، حين نطلب موقفًا من السائل، أو نطلب موقفًا من الأمة، أن نقدم له الألفاظ محددة؛ لتنشئ بعد ذلك اللفظ، أما تلك العبارات الموهمة، فإنها لا تصنع حركة و لا تحرك أمة، وهذه يستخدمونها لستر جهلهم.

كما هو شأن هذا الفقيه؛ الذي صار يجلد السائل، لماذا لم يغلق البئر؟ فلا تسقط فيه الفارة، ويستر جهله؛ لأنه لا يعرف مدلول هذه الألفاظ، فيستخدم هذه العبارات العامة المعومة، ومن أجل أن لا يحاسب، من أجل أن لا يحاسب، أن لا يراجع؛ ما لو ظهر الأمر على غير مراده، أو على اتفاقه؛ من أجل أن يبقى هو الرجل الذي لا يخطئ.

وأما أصحاب المعمعات، أما المشايخ والشباب، الذين يخوضون في غمار الحروب و الدماء؛ فهؤلاء هم أبصر وأوضح معلمًا في بيان الخطأ فيهم؛ لأنهم يمارسون عملًا محددًا؛ هذا يقاتلونه، هذا يوالونه، هذا يحبونه، هذا يعلنونه؛ حينئذ إذا ظهر الخطأ، يكون برقًا واضحًا، وهؤلاء هم الذين تمارس عليهم عملية الجلد، وعملية التأنيب، و عملية الضرب، من قبل أصحاب العمومات، التي يريدون بها أن يكونوا أهل فكرٍ، وأهل نظر ومرجعية؛ من غير خوضٍ في دماء، ومن غير خوضٍ في أعراض، ومن غير خوضٍ و بلاء، ونتيجة تترتب عليها البلايا العظيمة.

إذًا، ما هو المخرج من هذا كله؟

أولًا: أن تحدد الأمة هذه الألفاظ بمفاهيمها الصحيحة؛ (الكفر)، ما هو الكفر؟ أليس عارًا أن نسمع جماعة التف أهلها سنين طويلة فيما بينهم، فإذا وقعت فتنة؛ وإذا هم لا يعرفون مدلول كلمة (الكفر)؛ وهي أساس إيمان المرء، أن يكفر المرء بالطاغوت! فكلمة (الكفر): هي أول كلمةٍ يجب على المرء إذا أراد الإسلام أن يفهمها، كما يفهم كلمة (إسلام). إن كلمة (كفر)، كلمة (إسلام)، كلمة (نفاق)، كلمة (جاهلية)، كلمة (زندقة)؛ هذه ألفاظٌ يجب على الأمة أن تحددها، ثم أن تعرف على من تقع؟

أن تعرف على من تقع ويقع الخطأ، الاجتهاد يقع فيه بعض الصحابة؛ كأبي الطفيل عامر بن وافلة، قاتل تحت راية المختار، خدع بما رفع المختار من راية الانتصار لأهل البيت؛ فقاتل هذا الصحابي معه. يقع الخطأ هو أمر اجتهادي، ولكن العالم يعيش في المعمعة، ويبصر تحولات الأمور، كيف تسير؟ إلى هنا أم إلى هناك؟ يفهم الواقع، يحدد ما هو فيه، حتى لا يصاب بالانتكاسة؛ وأن يدخل الأمة في حروبٍ زائفة، في حروبٍ مفتعلة، في قضايا لا تخدم دين الله، و لا تصلح لحل قضاياه، ولا تخرج الأمة من تيهها، ولا من فتنتها.

أيها الإخوة الأحبة!، فالإيمان منشؤه على العلم، هذا هو الإيمان، ولا توحيد من غير علم. وأول شروط هذه الكلمة، التي تنجي صاحبها من النار، وتجعله من أهل الدخول في الجنان؛ هو أن يكون المرء عالمًا، وأن أول العلم هو هذا: أن تبصر الطريق، أن تعرف الحق كما هو محددًا مميزًا؛ فلا تختلط عليك المعالم، ولا يتلعب بالألفاظ في ذهنك، ولا تمارس عليك عملية الخداع؛ بأن تستخدم العبارات الرائعة الجميلة في ديننا، في غير موضعها.

أن تستخدم كلمة (الجهاد)؛ انظر كيف استخدمها أعداء الله؟ كيف تقاتل الأمة بعضها بعضًا في سبيل الطاغوت، ويسمونه (جهادًا)؟! حين تنشأ المعارك بين هؤلاء الحكام الكفرة المرتدين في بلادنا، ألا يرفعون راية الجهاد؟ ألا يسمونه جهادًا؟ والناس يسيرون تحت هذه الكلمة الطيبة الشريفة الجليلة العظيمة، لكنهم يموتون في غير سبيل الله؛ ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله).

إذًا الشيطان وجنده، إنما يتلعَّبون بهذه القضايا، يسمونها (التوحيد)؛ في تاريخنا، كلمة (التوحيد) أي زورٍ أصابها؟ قال المعتزلة: نحن أهل التوحيد، وحورب أهل الإسلام وسفكت دماؤهم تحت هذه الراية؛ لما قام المهدي بن تومرت في المغرب، ضد دولة المسلمين (دولة المرابطين)؛ التي أنشأها يوسف بن تاشفين –عليه رحمة الله-؛ فلما أراد أن يؤلب الناس ضد هذه الدولة السنية المباركة، رفع كلمة التوحيد، وسمى أعداءه بالمشركين والمجسمة، وانضمت إليه طوائف من البربر ومن البدو، الذين لا يعرفون دين الله، وصاروا يقتلون أهل الإسلام؛ لأنهم أهل وثنيةٍ وتجسيم، وهم أهل التوحيد!

فانظر إلى هذه العبارة المباركة، كيف وضعت على غير أهلها! وانظر إلى كلمات (الله أكبر)، كيف تستخدم في غير موضعها؟! فيغتر بها من يغتر! وانظر إلى دولة التوحيد، دولة التوحيد المزعومة، كيف يئوب طوائف من المشايخ ومن المتدينين إلى ولايتها، وإلى محبتها والدفاع عنها! لأنها رفعت شعارًا جميلًا، انخدع به من انخدع؛ ولذلك يقول ربنا -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.

كم من آية فيها كشف المنافقين وبيان دلالاتهم؟ كم من أحاديث تبين ذلك؟ ما هي صفات الكافرين؟ ما هي صفات المؤمنين؟ على من تتنزل الشياطين؟ وعلى من تتنزل الملائكة؟ هذا التفصيل كله عميت عنه الأمة وجهلت سبيله، وصارت تتبع الشعار، وتسير وراء الكلمات، التي تستخدم في غير موضعها؛ وحين أراد أعداء الله أن يُنفِروا الناس من المسلمين، قالوا: (أصولية)؛ فصارت تلك الكلمة مسار تندرٍ و استنكار. قالوا: (إرهابيين، هؤلاء إرهابيون).

وانظر إلى هذه الكلمة وما تحدثه من عصبيةٍ، حين تطلق على أهل الإسلام والمجاهدين؛ إرهابي أو يقال متطرف. وانظر إلى استخدام أهل الإسلام لها، كما يستخدمها أعداء الإسلام ضد إخوانهم. انظر إلى عدم معرفة الموازين بين مبتدعٍ و مبتدع؛ ألا ترى أصحاب اللفات، و مشايخ الزمان، ومفتي القنوات الفضائية؟! كيف يوالون الرافضة؟ كيف يوالونهم ويمدحونهم ويذكرونهم بخير؟ فإذا جاء شباب الإسلام ليقاتلوا أعداء الله، قالوا عنهم (خوارج).

ولو قارنت ما بين الخوارج اعتقادًا، على فرض صوابهم، وبئس قولهم، وليس هو من الصواب في شيء؛ فمن هم شر في دين الله (هؤلاء الروافض)، هؤلاء الروافض الذين قالوا بكفريات واضحة، وبين هؤلاء الخوارج، وانظروا بين البراءة من هؤلاء، لا يرضون بهم اجتماعًا؛ بل يرفض الواحد منهم أن يقول كلمةً طيبة في حق هؤلاء الشباب، حتى إنهم لا يقولوا كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يقرؤون القرآن)، لا يقولوا: (يقرؤون القرآن)!

بل ربما شاركوا أعداء الملة في نبزهم وسبهم، وتلبيس العيوب عليهم، وما يروا خبرًا تلوح به الصحف كذبًا وزورًا إلا وتلقفوه ونموه وأشاعوه؛ حتى صار في أذهان الناس حقيقة. فانظروا بين التوافق ما بين أعداء الله، ما بين المرتدين، ما بين قولهم في أعداء الله من النصيريين في سوريا، وبين أعداء الله -عز وجل- من البعثيين في العراق، وما بين الزنادقة و المرتدين في الجزيرة، وما بين العلمانيين صراحةً بكفرهم في الجزائر وفي تونس، وما بين المرتد الذي جرئوا يومًا بما فتحت لهم السياسة، من إعلان حكم الله فيه بالردة القذافي.

انظروا كم سمعتم -بالله عليكم- ضد هؤلاء من العبارات؟ من المشايخ وأصحاب اللفات، كم سمعتم؟ وانظروا إلى تلك الكلمات، التي تفيض بها الأشرطة كبحرٍ زهار، أو تفيض بها الصحف، أو تؤلف عليها الكتب. انظروا إلى تقديرهم، حتى لو أصابوا وهم بلا شك مخطئون مخطئون، لكن انظروا في هذه الموازنات؛ لتعرفوا أن الأمة ما زالت تقتل بعضها، وما زال البلاء فيها، وما زالت لم تعرف التفريق بين الوجه القبيح وبين الوجه الحسن؛ بين من أراد الحق فأخطأ، كما قال عليٌ -رضي الله عنه-، بين من أراد الحق فأخطأ، وبين من رام الباطل فأصابه؛ حتى هذه لم يستطيعوا لها تفريقًا.

حينها أنت ترى الأمة في نكستها، وترى الأمة لا تتفاعل تفاعلًا صحيحًا في قضاياها؛ لأنها تعيش حيرة، ومن اهتدى فيهتدي بفطرته، و الفطرة قد غيبت وأفسدت، وصار عليها الكثير من الران؛ نسأله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوالنا، وأن يرزقنا علمًا نافعًا؛ اللهم ارزقنا علمًا نافعًا، اللهم ارزقنا علمًا نافعًا، اللهم علمنا ما جهلنا، اللهم علمنا ما جهلنا، اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وشفاء أمراضنا وأدوائنا، يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم أيدهم بتأييدك، اللهم وفق بين كلمتهم، اللهم كن لهم معهم على عدوهم وعدوك، يا أرحم الراحمين.

اللهم كن معهم ناصرًا ومؤيدًا، وانصر المجاهدين في سبيلك؛ في الشيشان، وفي فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل بلدٍ ترفع فيه كلمة الجهاد.

اللهم انصر المجاهدين في الجزائر ومصر وليبيا وفي جزيرة العرب، اللهم عليك بالملاعين من المرتدين والكفرة والمشركين، اللهم كن للمستضعفين في الأرض من إخواننا المشايخ؛ الذين سجنوا ظلمًا وزورًا في سجون الكفرة والمشركين والمرتدين، اللهم فك أسرهم، اللهم فك أسرهم، اللهم فك أسرهم؛ اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأكرمنا بكرامة الدنيا والآخرة، إنك رحيم بنا.

 

/files/justpaste/d244/a9790645/oa2cc6.png