JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مُؤسَّسَة البُشْرَيات
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ

متى يجوز الخروج على الحاكم

من سلسلة "الجواب المفيد على أسئلة أهل التوحيد"   

للشيخ: أبي قتادة عمر بن محمود

تحقيق وتخريج:

أبو محمود الفلسطيني

من سلسلة دروس الشيخ أبي قتادة القديمة

/files/justpaste/d239/a9633925/0ozlb0.png

 

مقدم اللقاء: بعد أن بارك الله في أعمال المجاهدين ضد الطواغيت وكثر الناقدون لهذه الأعمال؛ فهناك سائل يسأل ويقول: هل لك أن تبين لنا -فضيلة الشيخ- متى يجوز الخروج على الحكام؟

الشيخ أبو قتادة -حفظه الله-:

هذا كذلك من المسائل التي بسطها أئمتنا أئمة السلف قديما، وقد ضل فيها أقوام ما بين مُفرط ومفرّط. والمسألة تحتاج في الحقيقة إلى كتب أوسع وأشمل من التي كتبها القدماء مثل كتاب (الغياثي)[1] للمعالي الجويني، وكتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي. ينبغي أن نقرأ كلام الأئمة من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ومن التابعين من السلف الصالح، ونحاول أن نفهمها فهما صحيحا.

الخروج على الحاكم ليس ممنوعا بإطلاق وليس جائزا بإطلاق، الخروج على الحاكم ينبغي أن يحدد من نوع العلاقة وما نوع العقد بين الأمة وبين الحاكم. الآن يوجد من لا يتقي الله -عز وجل- ومن دخل في نصرة الطواغيت المبدلين لشريعة الله ويتعامل مع الحاكم تعاملًا مقدسا وأنه رجل مقدس، والناس في هذا العصر قد أدركوا ضلال هذه النظرة؛ فما كان يقوله شعراء المسلمين في حكامهم قديما من التعظيم وأنه لم يأخذ الإمامة إلا لسر فيه ولو أتت لغيره لزلزلت الأرض زلزالها، هذا كلام باطل. علماؤنا وسلفنا تحدثوا وعلمونا أن الحاكم هو أجير من قبل الأمة (مستأجر)، والحاكم أجير ليس لسر فيه، لم يأخذ الإمامة لأن الله -سبحانه وتعالى- اختاره من بين بقية البشر لسر فيه بل قد يكون الحاكم من أكفر خلق الله ومن أعدى خلق الله سبحانه وتعالى؛ ولكن لأخذه بالطرق السننية في الوصول إلى الحكم، أو بسبب استخفافه لشعبه ولأمته كما قال الله -سبحانه وتعالى- عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الرخرف 54)، فيصبح حاكمًا.

إذًا، ينبغي أيها الإخوة أيها الأحبة، أن نتعامل مع الحاكم تعاملا صحيحا سننيا شرعيا أن هذا الحاكم هو من الناس؛ يخطئ ويصيب، وانظروا إلى تلك السيرة العظيمة التي هي نبراسنا وهادينا في التعامل مع الحكام، وإلى الطريقة الصحيحة للتعامل مع الأمة، انظروا إلى سيرة أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، انظروا إلى سيرة عمر، انظروا إلى سيرة عثمان، إلى سيرة علي، أناس من الناس يقف أحدهم على المنبر ويخاطب الأمة ويحدثها ويقول لها: أعينوني، أنا بحاجة إلى إعانتكم، ويقول لهم: إن وجدتم فيّ اعوجاجا فقوموني. الآن أُلغيت كل هذه الأحكام الجليلة العظيمة في التعامل مع الحكام من أذهان أقوام ينتسبون إلى السلف كذبًا وزورًا، ويريدون من الأمة أن تتعامل مع الحكام تعامل القداسة، وكأن الحاكم دخل فيه سر إلهي خاص ينبغي تقديسه؛ حتى وصل البعض أن يقول بعدم جواز الحديث عن الحاكم وأن غيبته من أعظم الجرائم عند الله -سبحانه وتعالى-!

هذا الحاكم هو رجل من الأمة استأجرته ليقوم بشؤونها؛ فهو خادم لأمة الإسلام، يقوم برعاية ما اتفق عليه بينه وبين الأمة. فهناك عقد بين الحاكم والمحكوم، وهذا العقد يحدد العلاقة بينه وبين هذه الأمة التي بايعته وعقدت له، وكانت هي السلطة هي القوة التي تقف وراءه لتطبيق جميع القرارات التي يصدرها والتي فيها مصلحة الأمة. ولذلك قال أئمتنا[2]: أعمال الإمام ينبغي أن تكون لمصلحة الأمة.

وأريد أن أبين بعض مسائل هذا العقد بشيء من الإيجاز والتفصيل، وهي فيه وفي كل اتفاق به صيغة العقود.

أركان العقود هي[3]:

  1. الإيجاب والقبول الدالان على الرضى.
  2. المعقود عليه.
  3. العاقدة.

هذه هي أركان العقد، وحيث وجد نقب[4] لأحد هذه الأركان؛ يجوز للأمة أن تخرج على الحاكم.

حالات جواز خروج الأمة على الحاكم:

الحالة الأولى:

الإمام مالك[5] -عليه رحمة الله -كان يفتي بجواز الخروج على الخلفاء العباسيين لأن العقد بين العباسيين والأمة لم يقم على أساس الرضا، ولذلك كان يقول: ليس على مستكره طلاق، ويشير بهذا أنه ليس بين الأمة وبين الحاكم بيعة، وإذا لم تكن بيعة فيجوز لك أن تخرج عليها لأنه جاء بقوة وغلب وأكره الأمة على الحكم؛ فيجوز للأمة أن تخرج على الحاكم إذا تغلب الحاكم عليها.

ولكن يبقى السؤال: هل هذا الجواز معلق بالمصلحة؟

الجواب: نعم، ينبغي النظر إلى المصلحة، ولكن نحن نتحدث عن أن سلفنا كان من فتاويهم جواز الخروج على الحاكم لعدم وجود الرضا لهذا الحاكم (عقد تم بإكراه)، وإذا وجد الإكراه؛ بطل العقد، لأن أساس قيام العقود الصحيحة هو الرضا.

الحالة الثانية:

الآن نأتي إلى المعقود عليه، على ماذا قام العقد بين الأمة وبين الحاكم؟

قام على وجوب أن يقوم هذا الحاكم بمهمات الشريعة التي جاءت بها وكلفت بها الأمة[6]، وهذه نقطة مهمة: أن الأعمال التي يقوم بها الإمام؛ مثل إقامة الحدود وإعلان الجهاد واستقبال الوفود ورعاية شؤون الأمة القضائية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، القيام بمهمات الدين والدنيا[7] بحماية البيضة؛ هذه هي المعقود عليها، وهذا هو الذي من أجله تم العقد، فإذا لم يوجد من الحاكم رعاية لهذا المعقود عليه؛ يجوز حينها للأمة أن تخرج عليه، بل يجب على الأمة أن تخرج عليه؛ لأن مفسدته حينئذ ببقائه حاكما وبعدم قيامه على المهمات والواجبات التي أنيطت به، وهذا يجعل المفاسد للأسف أعظم من المصالح.

وقلت أن المهمات أو الواجبات التي تناط بالحاكم هي في الحقيقة واجبات على الأمة، والشارع كلف بها الأمة: الأمة بمجموعها مكلفة بأن تقيم الحدود، الأمة بمجموعها مكلفة بالجهاد في سبيل الله، الأمة بمجموعها مكلفة بحماية البيضة، الأمة بمجموعها مكلفة بنشر الإسلام، ولكن لا يمكن للأمة أن تقوم من غير رعاية حاكم، فالذي حصل، ولأن الإنسان مدني بطبعه ولا يمكن أن يصلح بشر أو قوم من الأقوام إلا بوجود إمام؛ فالأمة انتخبت ورضيت رجلًا يصلح لهذه المهمة، فعقدت معه عقدًا على قيامه بهذه المهمات معها، ولذلك قال الله -عز وجل-: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة 47)، قال: {أهل الإنجيل}، ولم يقل الحكام؛ فالأمة مكلفة بالحكم بما أنزل الله، ولكن لا يستطيع كل واحد أن يكون قاضيا؛ فلا بد من وجود قاض للأمة، لا بد من وجود حاكم هو الذي يصدر أمر الجهاد، كون هذه الأعمال هي أعمال جماعية ولا يمكن أن تقوم بتشتت؛ فلا بد من وجود هذه الجماعة، ولا يمكن أن تسمى جماعة إلا بوجود إمام يقوم بشأنها.

إذاً، التكاليف المذكورة في كتب أئمتنا من واجبات على الحاكم هي في الحقيقة واجبات على الأمة أصلا، ولكن الأمة عقدت عقدا مع الحاكم أن يقوم بهذه الشؤون معها معها لا خارجا عنها، فلو أن الحاكم أصدر أمرا بالجهاد فمن الذي يجاهد؟ الجواب: الأمة، إذا الحاكم أصدر أمرا بإقامة حكم ما لقتال بغاة أو لقتال خوارج أو لإقامة حدود؛ من الذي يقوم بهذه الأحكام الشرعية؟ الذي يقوم بها هي الأمة، ولكن الأمة بحاجة -حتى تسمى أمة- لأمير وقائد. هذا مثل صلاة الجماعة: الأمة مكلفة بالصلاة ومكلفة بصلاة الجماعة ولا يمكن أن تكون هناك جماعة تقوم بهذه الصلاة إلا بوجود الإمام، وهذا الإمام مكلف من قبل الأمة أن يقوم بما اتفق عليه وأمر الشارع به من كونه إمامًا.

إذاً، إذا غلب الحاكم من غير رضا يجوز للأمة أن تخرج عليه، وهذا الجواز معلق بالمصلحة ولا شك، وهذا كلام السلف ولكن، هل تكون آثمة إن خرجت؟ الجواب: لا تكون آثمة لأنها تريد أن تسترد حقها في أن يحكمها رجل رضيت عنه؛ إذ لا يجوز ولا يجبر أحد من الناس أن يلتزم بعقد يكره عليه، ولكن ينظر إلى المصلحة لأن المسألة ليست مسألة شخص واحد، ولكن مسألة أمة، ثم ينظر إذا قام الحاكم بالواجبات التي كلفته الأمة بها -طبعا بتكليف الشارع-، فالسيادة للشرع ولكن السلطة الأمة، فينظر إذا تخلف الإمام عن قيامه بهذه الواجبات فيجب على الأمة أن تقوم عليه.

ونحن هنا لا نتكلم عن ذات الحاكم –هل كفر بذاته-، فقد يأتي بعمل يتعلق بالأمة ولكن فيه المعصية البواح وفيه الكفر البواح، قد ينشر الظلم، قد يدعو إلى الزنا، قد يسهل المعاصي ويلاحق أصحاب الطاعات، وقد يمنع نشر الإسلام وسب الكافرين، وقد يدخل في طوائف الكفر، وهذه قضايا متعلقة بالأمة؛ حينئذ يجب على الأمة أن تخرج عليه.

والحديث الذي يدور الآن بين إخواننا وبين المخالفين حديث يدور حول كُفر الحاكم، الحاكم كفر أم لم يكفر بالنظر إلى ذاته! ولذلك هم يقولون: هو يصلي. أنا الآن لا أتكلم عن ذاته ولكن أتكلم عن قيامه بالواجبات التي أناطت الأمة به أن يقوم بها؛ فيجب على الأمة إذا نشر الظلم وإذا لم يقم على الجملة بمهمات الإمامة أن تخرج عليه، وهذا الذي جاء في الحديث: (إلا أن تروا معصية بواحا)[8]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إلا ان تروا)، فإذا رأينا معصية بواحا[9] تتعلق بأمر الأمة؛ وجب على الأمة أن تخرج عليه لأنه حينئذ قام بضد ما جيء به من أجله، هو جيء به للقيام بمهمات ولكنه الآن جاء بضدها، فيجب على الأمة حينئذ أن تخرج عليه، سواء قلنا حينئذ أنه كفر بذاته أم لم يكفر، نحن نتكلم الآن عن: متى يسقط العقد بين الأمة وبين هذا الحاكم، ولا شك أنه من لم يحكم بالشريعة فقد كفر، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة 44)، ولكن قد تكون المعصية ليست بكفر، قد ينشر الظلم والبغي في الناس ويفتح البلاد للسراق والقتلة والكفرة، قد لا يكفر بهذا العمل، ولكنه قام بعمل يضاد المهمة التي استأجرناه نحن الأمة من أجلها.

الحالة الثالثة:

بالنظر إلى العاقدين، ونحن هنا نتكلم عن الحاكم ولا نتكلم عن الأمة، لأن الأمة إذا وجد فيها من بطل عقده مع الإمام بأن كفر مثلا أو بغى أو خرج؛ فللحاكم -والأمة بامتثال أمره- أن تعالج هذا الذي كفر بإقامة الحكم عليه، أو إن بغى على الحاكم وظلم ونقض العهد بما لا يجوز له شرعا أن ينقض هذا العقد. ولكن نحن نتكلم الآن عن الحاكم، انظر إلى كلام الأئمة في ذات الحاكم في كتب السياسة الشرعية، يقولون: إنْ أضر الحاكم عُزل، يعني إن أصابه ضرر بالعمى عُزل، لما[10]؟ السبب في ذلك -لا يوجد دليل نصي- أنه بالضرر يحصل في حقيقة الأمر عدم وجود قدرة لديه على القيام بمهمات الأمر الذي أنيط به.

إذًا، الآن بالنظر للعقد؛ يجب أن يكون هذا العاقد عنده القدرة على القيام بالمعقود عليه، فرجل تزوج امرأة وهي صالحة عابدة قائمة قانتة، ولكنها لا تصلح للمعقود عليه -والمعقود عليه هو أن تسلم المرأة نفسها للرجل-، قد تكون عابدة قائمة صالحة، ولكن قد تكون لا تصلح للرجال؛ حينئذ يجوز للرجل أن يبطل العقد، ولا يقال حينئذ لأنها كفرت ولا لأنها فسقت ولا لأنهالم تحترم عرضه، ولكن يبطل العقد لعدم إمكان هذه المرأة القيام بمهمات المعقود عليها.

فهل يا أيها الناس، هل يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، هل يكون عقد الإمامة أدنى مرتبة في أذهانكم من عقد النساء !!!؟؟؟ وعقد النساء يكون ضرره على شخص وأسرة، وعقد الإمامة تسير مفاسده -إن فسد- في الأمة أجمع.

فثالث نقطة تجيز الخروج على الحاكم هي بالنظر كما قلنا إلى العاقدين، أي إلى الحاكم إذا لم يكن عنده قدرة وأصابه ضر اقتضى ألا يقدر على القيام بمهمات المعقود عليه، وقال أئمتنا بنص الحديث: (إلا أن تروا كفرا بواحا)، يعني إذا كفر الحاكم بذاته، وأنا لا أتكلم عن كفر الحاكم بعدم قيامه بالواجبات الملقاة عليه، ولكن أتكلم عن الحاكم بذاته.

هل إذا فسق الحاكم، إذا شرب الخمر، إذا زنا الحاكم، إذا ظلم بيده ولم ينشر الظلم ولم يدعُ له ولكن ظلم؛ هل يخرج عليه أم لا يخرج؟ هذا خلاف بين أهل السنة.

إذًا، الجزم بأن مذهب أهل السنة هو عدم الجواز مطلقا هذا كلام باطل، وما خروج الحسين بن علي -رضي الله عنه-، وما خروج عبد الله بن الزبير إلا بسبب رؤياهم للفسق والظلم الذاتي المتعلق بالحاكم. ثم استقر الإفتاء عند جمهور أهل السنة -كما قال ابن حجر في (فتح الباري) عليه رحمة الله-[11]، فإن بعد موقعة الحرة[12]وما أصاب الأمة من قتل وما أصابها من ظلم من قبل يزيد بن معاوية، وبعد موقعة دير الجماجم،[13] وبعد أن هزم أهل العلم من قبل الحجاج وكان أمير أهل العلم يومئذ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ نظر أهل السنة وتغيرت نظرتهم إلى قضية جواز الخروج، فصار مذهب أهل السنة بالنسبة للحاكم وفسقه -وليس الحاكم وقيامه على مهمات الحكم الشرعي أو مهمات الواجب الملقى عليه إذا رأينا هذا العقد-، متى يقبل ومتى يجوز للأمة أن تخرج عليه، ولكن للأسف جاء أقوام وقالوا: لا يجوز، انظروا إلى شدة فساد هذا القول!

أعظم عقد في الوجود هو عقد الأمة مع الحاكم، لذلك خيانته من أعظم الآثام، وإبطاله لا يجوز إلا بإبطال الشارع له، بمعنى إذا وجد العقد بين الأمة وبين الحاكم؛ لا يجوز للأمة أن تبطل هذا العقد بعد ذلك إلا إذا الشارع هو الذي أبطله. الأمة لها أن تختار من تريد، وواجب عليها أن تختار الأفضل والأقوى والأمين، وإذا وجد العقد فالأمة بعد ذلك سُلب منها حق إبطال العقد وينبغي أن يبطله الشارع بإبطال ما ذكرنا: إما بعدم وجود العقد الصحيح، وإما بفساد الحاكم لعدم قدرته بالقيام بالمعقود عليه، وإما كذلك بأن يطرأ شيء على هذا الحاكم على خلاف في المسالة الثالثة[14] بين أهل السنة والجماعة.

جاء أقوام في هذا العصر وقالوا أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا إذا كفر، وينظر إلى الكفر لا بما يقوم بمهمات الأمة ولكن لكفره الذاتي، ولا يجب الخروج عليه ولو نشر الظلم ولو عطل الجهاد ولو حكم بغير الشريعة ولو استباح الفروج ولو نشر الخنا[15] وباع الأمة. الآن الحكام يبيعون البلاد والعباد والعرض إلى الكفار، ويدخلون الكفار ويجعلونهم أسيادا، وقالوا لا يجوز الخروج عليهم إلا إذا كفروا! وكيف يكفرون؟ قالوا: يكفر الحاكم إذا كفر بذاته. ولذلك يقولون: هذا حاكم يصلي، قضية العقد، قضية الحكم؛ ما دخلها في صلاة الحاكم ؟! إنما دخلها في النظر إلى الحاكم، وهو كما قلنا في القسم الثالث -وهما العاقدان في النظر إليهما-، ولكن نحن نتكلم عن الحكم وعن مهمات الحاكم في هذا العقد العظيم الذي تم بينه وبين الأمة. قالوا: "لا يجوز الخروج على الحاكم إلا إذا كفر بذاته"، لو أبطل كل شيء ولكن لم يكفر بذاته فإنه لا يجوز الخروج عليه، وقالوا ليس لنا أن نحكم بكفره -في التعليق على التسلسل الممتنع [16] الذي لا يمكن أن يقع-، لا يجوز لنا أن نحكم بكفر الحاكم حتى نعرف ما في قلبه من نظرته إلى الإسلام، لا يجوز الخروج على الحاكم إلا إذا كفر ولا يجوز لنا أن نكفره حتى نننقب على قلبه فنعرف أكفر بقلبه أم لا، يعني لو وقع منه الكفر العملي -ليس الكفر الأصغر، لكن الأعمال التي حكم الشارع بكفرها كالحكم بغير ما أنزل الله-، كسب الدين، كالاستهزاء بالسنة؛ قالوا: هذه الاعمال لا يجوز لنا أن نكفر بها الحاكم حتى نعرف ما في قلبهM استحلها أم لم يستحلها! حينئذ في الحقيقة يصبح حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا قيمة له: (إلا ان تروا كفرا بواحا)،[17] ولا يمكن أن تقع الرؤية إلا بالنظر إلى الشيء الظاهر؛ فلماذا يطالب منا وتطالب الأمة ألا تكفر رجلا، ولا يجوز الخروج عن الحاكم حتى ننقب قلبه؟؟

وقد أدرك الحكام هذه اللعبة، فإنهم يفعلون كل الأعمال المكفرة –التي جاء الشارع بتسميتها كفرُا- ثم يخرجون أمام الناس ويقولون: نحن مسلمون، وحينئذلم يجز للأمة أن تخرج عليه. فصار دين اليهود والنصارى ودين العلمانيين في باب السياسة الشرعية أجلّ وأعظم من دين الإسلام الذي يعتقده هؤلاء الجهلة.

أعظم عقد يتعلق بمهمات الإسلام العظيمة من نشر الإسلام وقيام الخير والعدل جاء الإسلام ليقيم الدين في الأرض وينشر العدل ويقيم الحق ويعبّد الناس لرب العباد هو العقد بين الحاكم والأمة، وصارت النظرة إلى ما يتعلق بأعظم قضية وأعظم عقد بالنظر إلى ذات الحاكم ولا يمكن أن نحكم عليه إلا بمعرفة ما في قلبه، وحينئذ نحتاج إلى آلات حفر شديدة جدًّا لا توجد في هذا العصر -ولا في أي عصر- لمعرفة ما في قلبه: استحل أو لم يستحل، هل يحب الإسلام وهل يكره الإسلام.

والحاكم عرف أن هذه أمة غبية لا تعرف العقد ولا تعرف ما معنى الحكم ولا تعرف ما معنى الحاكم؛ فحينئذ يصنع الحاكم بمثل هذه الأمة التي تعتقد هذا الاعتقاد ما يشاء، ويخرج عليهم ويقول: "نحن أهل السنة، نحن أهل الإسلام، نحن نحب الإسلام ونريد للإسلام أن ينتشر"، انتهت القضية.

فلهذا؛ واقع الأمر أن أحقر أمة في هذا الوقت هي أمة الإسلام، وأن أكبر طواغيت في هذا العصر هم الطواغيت الحاكمون للمسلمين، يفعلون ما يشاؤون.

تعالوا إلى بلاد الغرب، هل يوجد حاكم يستطيع أن يفعل في بلده ما يفعل هؤلاء الحكام في بلادنا؟ يتاجرون بها، يبيعون مقدراتها، يستبيحونها، والناس لا يسألونه ماذا يفعل، لا يُسأل الحاكم الآن عما يفعل ولا يجوز أن يُسأل لأنه حاكم ولأن سؤاله يؤدي إلى إثارة البغضاء في قلوب الناس عليه -حسبنا الله ونعم الوكيل-. الآن هؤلاء الحكام في بلادنا يصنعون ما يريدون وما يحبون وما يشاؤون، ولا يجوز لنا أن نخرج عليهم حتى يكفروا، ولا يجوز لنا أن نكفرهم حتى ننقب عمّا في قلوبهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إلا أن تروا كفرا بواحا)، فكيف نرى ما لا يمكن أن نراه وهو ما في القلب؟!

إذًا، أيها الإخوة، متى يجوز الخروج على الحاكم؟

قد بينَّا أنه لا بد أن ننظر إلى العقد نظرةً شرعية صحيحة، وأن ننظر إلى دين الله -عز وجل- بعيدا عن دخان الكهانة ودخان التعظيم والتقديس للحاكم،كما وقع في أزمان المسلمين وإلى يومنا هذا، وينبغي أن تعلم الأمة أن الواجبات الملقاة على الحاكم هي في الأصل واجبات ملقاة على مجموع الأمة، ولكنها استأجرت الحاكم ليقوم بقيادة الأمة لأداء هذه الواجبات. هذه هي الصورة الحقيقية لعلاقة الحُكم والحاكم والمحكوم في الإسلام. وعليه فقد تبينَّ لنا متى يجوز الخروج عليه.

تبقى مسألة: متى يجب الخروج على الحاكم إذا أتى بعمل مكفر؟

يجب الخروج على الحاكم إذا كفر -بإجماع الأمة بلا خلاف-، و"إذا كفر"، بمعنى إذا أتى عملًا من أعمال الكفر، بغضِّ النظر عن قلبه، بغض النظر عن نيته، بغض النظر عن مقصده هل جحد أو لم يجحد: (إلا أن تروا كفرا بواحا)، إذا أتى بعمل مكفر، سواء أكان هذا العمل مكفر بقضية ذاتية، كأن سب الدين بينه وبين نفسه -كأن يدوس المصحف بينه وبين قلبه-، أو بعمل مكفر يتعلق بمجموع الأمة، هذا أمر.

الأمر الثاني: يجب الخروج على الحاكم إذا ترك مهمة من مهمات الحكم الكبرى؛ مثل إقامة الشريعة، إقامة العدل ونشره ونشر الإسلام -أي الجهاد في سبيل الله-، فإذا عطل الحاكم قضية من قضايا الأمة العظمى المناطة به؛ فيجب على الأمة أن تخرج عليه[18].

هذا وبالله التوفيق.

 

________________________

[1] - عنوان الكتاب: (غياث الأمم في التياث الظلم)؛ المؤلف: إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، ويعرف كذلك بعنوان (الغياثي).

[2] - قال الماوردي: وإذا تمهد ما وصفناه من أحكام الإمامة وعموم نظرها في مصالح الملة وتدبير الأمة.

قال الجويني: لإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا.

وقال ابن خلدون: والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.

قال النسفي في (طلبة الطلبة): والسياسة حياطة الرعية بما يصلحها لطفًا وعنفًا.

[3] - انظر (عمدة الأحكام) و(الموسوعة الفقهية)، ذهب جمهور الفقهاء إلى أن للعقود أركانًا ثلاثة هي: العاقدان- المعقود عليه- المعقود به وهو الصيغة. وذهب الحنفية إلى أن: العقد له ركن واحد وهو الصيغة أو ما أطلقوا عليه الإيجاب والقبول.

[4] - نقب أي خرق أو ثقب، المقصود خرق لأحد أركان العقد.

[5] - أفتى الإمام مالك بجواز خروج عبد الله المحط النفس الزكية على أبي جعفر المنصور وأفتى للناس بخلع بيعة المنصور لأنه لا بيعة لمكره .

[6] - قال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.

[7] قال الجويني: الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين.

[8] - هذه الرواية عند أحمد قال: "ما لم يأمروك بإثم بواحا" ( 5/321). وعند ابن حبان: "إلا أن يكون معصية" (ح 4562 بإسناد حسن). وعنده أيضاً: "إلا أن تكون معصية لله بواحاً" (ح 4566 بإسناد حسن). وأصل الحديث ما أخرجي ومسلم البخاري ومسلم عن عبد الله بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان).

[9] - قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ) هكذا هو لمعظم الرواة وفي معظم النسخ (بواحا) بالواو، وفي بعضها:"براحا"، والباء مفتوحة فيهما، ومعناهما: كفرا ظاهرا.
والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومعنى: "عندكم من الله فيه برهان"، أي: تعلمونه من دين الله تعالى" .

[10] -راجع كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي، باب: بما يعزل به الإمام.

[11] - قال ابن حجر: وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر وبمثل هذا الرأي لا يقدح في رجل قد ثبتت عدالته واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام والحسن مع ذلك لم يخرج على أحد. (تهذيب التهذيب ترجمة الحسن بن صالح بن حي)

[12] - وقعة الحرة كانت بين أهل المدينة من طرف ويزيد بن معاوية والأمويين من طرف آخر، وفيها أن أهل المدينة نقضوا بيعة يزيد بن معاوية لما كان عليه من سوء ولما حدث في معركة كربلاء ومن مقتل الحسين بن علي، فطردوا والي يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان ومن معه من بني أمية من المدينة، فأرسل على إثرهم يزيد جيش من الشام وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري فوقعت بينهم وقعة الحرة وانتهت بمقتل عدد كبير من الصحابة وأبناء الصحابة والتابعين وكانت عام 63هـ.

[13] - خرج ابن الأشعث على الحجاج ودارت بينهم معركة سنة 82 هجري في منطقة تقع بين البصرة والكوفة اسمها دير الجماجم وانتصر فيها الحجاج وقتل من العلماء وأهل الفضل الكثير من الذين خرجوا مع ابن الاشعث بسبب ظلم الحجاج، وكان ممن خرج على الحجاج التابعي سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج بعدها.

[14] - أي الحالة الثالثة التي يعزل بها الإمام وهي إن أصابه ضرر يمنعه من القيام بمهمات الإمامة.

[15] - الخَنا: الفَحْشُ في الكلام وخَنا الدَّهْرِ: آفاته ونَوَائبه. (المعجم الوسيط).

[16] - التسلسل الممتنع هو تسلسل أمرين يعتمد وجود الأول على وجود الثاني ويعتمد وجود الثاني على وجود الأول، أي استحالة وقوع أحدهما.

[17] -أصبح الحديث لا قيمة له لسببين: الأول الذي ذكره الشيخ، وهو استحالة معرفة كفر الحاكم لأنهم اشترطوا عملا قلبيا وهو الاستحلال وهذا يدخلنا في الدور الممتنع الي يستحيل وقوعه، والسبب الثاني: قد أخرج المناط المعلق عليه الخروج من الحديث، لأن نص الحديث يقول بالخروج لمجرد أن نرى الكفر البواح، كفر الحاكم بذاته أو لم يكفر لا يعنينا بقدر ما يعنينا تحقق وقوع الفعل الكفري، لأنه قد يقع المرء بالكفر ولا يكفر من باب التفريق بين الفعل والفاعل، وهنا النص النبوي أن نرى الكفر البواح وكفر الحاكم بذاته ولم يكفر لا يعنينا، فالحكم بغير ما أنزل الله كفر، فمجرد الحكم بغير ما أنزل الله جاز الخروج كفر الحاكم بذاته أو لم يكفر لأن الكفر البواح قد ظهر ورأيناه وهذا كاف.

[18] - والشيخ -حفظه الله- هنا لا يقول بالخروج دون النظر إلى تحقيق القدرة التي اشترطها أهل العلم، بل يكون الخروج حين توفر القدرة التي يحددها أهل الاختصاص. فمن اجتهد لى أصول قواعد الاجتهاد واعتبر وجود القدرة فلا يحق لأحد تخطئته البتة. وعدم وجود القدرة لا يعطي الحق لمن انتسب للعلم أن يضفي الشرعية على الطواغيت ويحكم لهم بالإسلام ويجعل من يقول بالخروج عليبهم من الخوارج، بل قائل هذا من علماء السوء الذين يقلبون الحق باطلا والعكس.

 

/files/justpaste/d239/a9633925/oa2cc6.png