JustPaste.it

التَّعقُّب على كلام الشيخ عبدالعزيز الطّريفي - لأبي القاسم الأصبحي

بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد : -
فقد وقفت على كلامٍ لعبدالعزيز الطَّرِيفي وفقه الله جاء فيه بكلامٍ باطلٍ لا يصح السكوت عليه وإمراره حتى لا يغترّ به أحدٌ ممن وثق به .
وكلامه هذا قد جاء في قناة الرسالة التي يملكها قارونُ آل سعود والسّاعي في الأرض فساداً الوليد بن طلال – عليه من الله ما يستحق - .
وإنّ المرءَ ليعجب أن يخرج شيخٌ يدّعي النصح والإشفاق في هذه القناة التي ما عُرف عنها إلا الدعوة إلى مساوئ العقائد والأخلاق , فالمعازف والسفور في هذه القناة ظاهرٌ لكل ذي عينين بله المجموج من العقائد الباطلة ولا ينكر هذا إلا من عميت بصيرته .
وخروجُ الطَّريفي في هذه القناة هو إقرارٌ لباطلها ولصاحبها سواءً قصد ذلك أم لم يقصده !!
وفعله هذا هو من تكثير سواد أهل الباطل بل هو من تكثير سواد قارون آل سعود عليه من الله ما يستحق وهذا ليس بخافٍ على أحد .
وكان الأولى بالطَّريفي إن كان - ناصحاً مشفقاً - أن يحذّر قارون آل سعود وأن يخوِّفه الله عز وجل من أليم عقابه ونقمته لسعيه في إفساد الناس ولإشاعته الفاحشة بين المؤمنين .
وكان الأولى به أيضاً أن يذكر حكم من يسعى في الأرض فساداً ويحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً ويريد أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فإن حكم أمثال هؤلاء هو الحرابة قطعاً كما هو معلوم .
ولكنَّ الطريفي نَسِي ذلك كلّه وسلِمَ منه قارونُ آل سعود , ولم يسلم منه عباد الله المجاهدين القائمون على أعظم ثغور المسلمين .
ومن المتقرّر أن جنودَ أمير المؤمنين أبي بكر الحُسني الهاشمي نصره الله ونصرهم هم القائمون اليوم على ثغور العراق بلا مدافعة فالجهاد قائمٌ بهم هناك وإسقاطهم هو إسقاط الجهاد في العراق شاء من شاء وأبى من أبى .
وأما في الشام فإن كثيراً من الثغور فيها يقوم عليها جنودُ أبي بكرٍ نصرهم الله .
فهلّا اتّقى الله من أطلق اللسان فيهم وعابهم تلميحاً أو تصريحاً ؟!
وهلّا راعى حالهم الذي هم فيه من دفع الصائل عن المسلمين والذود عن حريم المسلمين ؟!
وإنّ من خِصالِ المنافقين أن يصدفَ المرء عن نصرة المجاهدين في سبيل الله ويُجهد نفسه في تتبع عثراتهم وتخذيلهم عن جهادهم بمَمجوج القول ومقبوحه !!
فالطَّريفي لم ينصر المجاهدين في العراق ولا بحرفٍ واحدٍ مع أنهم من أحوج الناس اليوم إلى النصرة والمؤازرة وهم أحوج للنصرة من الطاغوت المرتد مرسي الذي ناصره الطريفي وناصر جماعته المبتدعة ولم ينكر عليهم ما وقعوا فيه من كفرٍ بواح , ولم يكتفي بذلك بل جمع إلى عدم النصرة تخذيل المجاهدين والطعن فيهم تصريحاً أو تلميحاً ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد قضيت من ذلك العجب والله , فكيف يدّعي امرؤٌ نصرةَ دينِ الله ثم هو يخذّل المجاهدين القائمين على ثغور الإسلام بل ويناصر المرتدين المقترفين للشرك الأكبر كمرسي وغيره من الطواغيت ؟!
فحريٌّ بمن هذا حاله أن يكف لسانه عن الطعن في عباد الله المجاهدين وأن ينظر في حاله ويتدبر في عمله ويسارع بالتوبة إلى الله , فوالله إن الحياة الدنيا لهوٌ ولعبٌ ويوم الآخرة حسابٌ وعقابٌ عسيرٌ ولات حين مناص والله المستعان .
والنَّاصح المُشفق لا بد أن يراعي مراتب المُنكرات فينكر الأشدّ خطراً منها فالأشد وهكذا حتى يأتي على سائر المُنكرات لا أن ينكر أشياءً أقلّ ما يُقال فيها أنها من الخلاف السائغ ثم يسكت عن إنكار ما عُلم خطره وضرره .
فلا يصحّ أن ينكر امرؤٌ على أحدٍ شيئاً أقلّ ما يُقال فيه أنه من الخلاف السائغ , ثم هو يصدفُ عن إنكار منكرات معلومة ظاهرة في الشام اليوم وهذا عينُ ما وقع فيها الطَّريفي وقد سبق الإشارة إلى شيءٍ من هذا في رسالتي السابقة إلى الطَّريفي .
ومن حرص في إنكاره على المسائل التي يسوغ الخلاف فيها وأطلق النكير فيها وزعم أنه ناصحٌ مشفق , ثم هو يُحجمُ عن إنكار ما عُلم ضرورةً قُبحه وخطره بل كفره ولا يشير إلى شيءٍ من ذلك ولا ينكر على أربابها , فحينئذٍ لم يكن الناصح الذي وقع في مثل هذا مقبولاً نصحه إذ كالَ بمكيالين وحاد عن العدل والإنصاف في نصحه .
وعبدالعزيز الطَّرِيفي بارعٌ في الحديث ورجاله وعلله خاصّةً دون سائر العلوم , فإتقانه للحديث أكثر من إتقانه لغيره .
والعبد الفقير ممن حضر له دروساً عديدة وثنى الرُّكب عنده لتلقي العلم عليه فقد حضرت عليه طرفاً من شرح عمدة الأحكام وغيرها .
ولم أذكر ذلك حتى أستكثر بشيوخي أو مراءاةً بعملي , ولكن حتى أَسُدَّ على المشغبين باباً أرادوا الولوج منه للطعن في رسالتي هذه , فإن للطّريفي منزلته وهو من جملة بني آدم يصيب ويخطئ .
ولن ينتفع من رسالتي هذه من أصمّ أذنيه عن الحق الظاهر وتعلّل بأن الطريفي عالمٌ فاضل ولا يجوز أن يردّ عليه المجاهيل !!
فأمثال هؤلاء غيرُ مخاطبين برسالتي هذه ولا يشملهم كلامي والأولى بهم أن يشتغلوا بشيءٍ آخر ينفعهم , فالحق والحكمة ضالّة المؤمن الذي ينشُد الحق ولو جاء بهما كافرٌ لقُبل منهما فما بالك إن جاء به مسلم ؟!
ومن ينتفع من رسالتي هذه هو من جعل الكتاب والسنة والإجماع ومنهج السلف ميزاناً يَزِنُ به الرّجال ولم يُحكّم الرّجال في الحقّ وهو مع ذلك لا يهاب في الحقّ أحداً ولا تأخذه في الله لومةُ لائم .
فهذا وأمثاله هم المخاطبون برسالتي هذه وعليهم أعوّل في تفهم خطابي .
وهذا آوان الشروع في ذكر كلام الطريفي ثم التعقّب عليه بما فتح الله سبحانه وتعالى :
* قالَ عبدُالعزيزِ الطّريفي :
« وإذا كان الناس منشغلون في حربٍ فإن تلك الولاية تكون ولاية قتال وحرب خاصة مع تعدد الفصائل كما هو الآن موجود في الشام حتى يستقر الأمر ثم بعد ذلك يكون الأمر شورى بينهم . » انتهى نصّ كلامه .
قلتُ : معنى كلام الطريفي ههنا أن نصب الإمامة واجتماع الكلمة لا يكون حين الاشتغال بالحرب بل يكون بعد أن تضع الحرب أوزارها فحينئذٍ يكون الأمر شورى بينهم .
وهذا القولُ باطلٌ يقيناً ولا أصل له , بل الأولى هو نصبُ الإمامِ واجتماع الكلمة في حين الحرب ؛ لحصول مصالح عظيمة لا تخفى على ذي لبّ .
ومن أظهر تلك المصالح هو اجتماع أمرِ المجاهدين على قلبِ رجلٍ واحد وقتالهم كالبنيان المرصوص .
أما إذا كان أمر المجاهدين شتّى فإن هذا الحال أَدْعَى إلى الانهزام وذهاب الريح , والنزاع والتفرق قرينُ ذهابِ الريحِ في كتاب الله فقد قال الله سبحانه وتعالى : [ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] .
فالتنازع والتفرق مُؤَدٍّ للفشل وذهاب الريح ضرورةً ولزاماً .
ودونك أيها المُتبصّر حال المناطق التي استرجعها النصيرية قبل أيامٍ , فإن السبب الأول والأظهر في ذلك هو عدم اجتماع المجاهدين تحت إمارةٍ واحدةٍ فأصبح كلٌّ منهم يخرج من أرض المعركة دون مشاورة إخوانه المجاهدين ففشلوا وذهبت ريحهم وتمكّن النصيرية من استرجاع بعض المناطق وكفى بهذه مفسدة حتى يُعلم باطلُ كلامِ الطَّريفي .
والمقتفي لسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد كلامَ الطَّريفي هذا مناقضٌ لصريحِ أفعالهم , فإن الردّة لما وقعت في جزيرة العرب لم ينتظر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضع الحرب أوزارها ويُقضى على الردّة ثم يجمعوا كلمتهم ويُنصبوا إماماً !!
بل بادروا إلى نصبِ أبي بكر الصديق رضي الله عنه قبلَ أن يقاتلوا أهل الردّة ؛ لأن ذلك أدعى إلى حصول النصر وتيسر أسبابه .
وحسبُ البصير هذا البرهان فإنه شافيٌّ كافيٌّ لكلام الطريفي هذا .
فحينئذٍ عُلم بطلان كلام الطَّريفي الذي نقلناه لك وعدم اعتباره .
فكيف إذا علمت أيها المتبصر أن الطريفي قد ناقض نفسه في موضع آخر وذهب إلى أنّ الاجتماع في زمن الحرب أولى من الاجتماع في زمن السلم ؟!!
فقد قال في تغريدةٍ مشهورةٍ له على برنامج التغريد :
« إلى المجاهدين في الشام :
إن لم تجتمعوا زمن (الحرب) لن تجتمعوا زمن (السلم) ، الشدائد تجمع ، والأمن يُفرّق ، لا تتدافعوا فأنتم على رأس جبل ! » انتهى نصّ كلامه .
فهذان نصّان متعارضان من كلامه , ففي الأول قرّر بأن اجتماع الكلمة لا يكون إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها , وفي الآخر قرّر بأن المجاهدين إن لم يجتمعوا في الحرب فلن يجتمعوا في السِّلم !!
فحُقِّ للبصير أن يعجب لهذا التناقض والتضارب الظاهر , فلعمري بأي نصَّيه نأخذ وبأيهما نعتبر ؟!!
ومن راقبَ الله في نفسه ولم يسعى بين المجاهدين تحريشاً ولا سعى في تفريق كلمة المُتَّحدين ولا في خلع بيعةِ من له بيعة في عنق أميره فإن الله سيعصمه من التناقض , ومن عمل بضدّ ذلك عاقبه الله وخذله وفضحه فظهر في كلامه التناقض والتضارب والله المستعان .
* قالَ عبدُ العزيزِ الطَّرِيفيّ وفقه الله :
« فإذا اجتمع أفرادٌ بعينهم أو فصيلٌ من هذه الفصائل وادّعى البيعة لفردٍ فيهم ولم يكن له من جهة جمهور هذه الفصائل من ذلك قبول وموافقة فإن هذا لا يُعدُّ بيعةً شرعية بل هي بيعة بدعية !! » انتهى نصّ كلامه .
قلتُ : قبل الشروع في نقضِ كلامه هذا لا بد من التنبيه على غلطٍ لُغويٍّ يقع فيه الكثير بدون تبصُّرٍ ولا تمعُّن وقد وقع فيه الطّريفي ههنا .
وهو إطلاقهم كلمة « فصيلٍ » على معنى جماعة مُجاهدة .
قلتُ : وهذا المعنى دخيلٌ مُحدَثٌ على لسان العرب ولم يُؤثر عن أحدٍ ممن يُعتدُّ به في علوم اللسان .
فالاعتداد والاعتبار في علوم اللسان لا يكون إلا بكتابٍ أو سنّة أو جاهليّ أو مُخضرم , وفي غيرِ هؤلاء اختلاف ليس هذا محلُّ بسطه ومن رام بسطةً له فليراجع كتب فِقهِ اللُّغة .
ومن تتبَّع تصرُّف العربُ الأقحاح في كلمة « فصيل » وجدهم لا يطلقونها إلّا على معنين :
أحدهما : على ولدِ النَّاقة إذا فُصل عن أمِّه , فيُقال له : فصيلٌ .
والآخر : على كل حائطٍ دون السور , فيُقال له : فَصيلٌ .
ولا أعلم معنىً آخر غيرَ هذين , بل لا يوجد أحدٌ من العرب أطلق كلمةَ « فصيل » وقصد بها نفرٌ من المجاهدين أبداً .
ولو قُدِّر لذي لسانٍ فصيحٍ أن يسمع ما استحدثه بعض المستعربين لتمثّل بالبيت الذي أنشأتُه في هذا المعنى :
ماذا جنيتُ من المستعربين ومنْ *** قبيحِ قولهمُ هذا الذي اتخذوا ؟!
حينئذٍ كان لزاماً على من انتسب للعلم أن يَزِن كلامه ولسانه بقسطاس من لسان العربِ مستقيم , لا أن يُتابع كلّ من هبّ ودبّ فيواطؤهم في ألفاظهم حتى لو كانت دخيلةً محدثةً لا أصل لها .
فلا ينسبن امرؤٌ إلى العرب لفظاً ويريد به معنىً لم يخطر لهم على بال ولم يَرِد ذكره على لسانهم .
ولو تتبعنا الدخيل والمُحدث في كلام المعاصرين المُستعجمين لطال بنا المُقام , وهذا استطرادٌ مهمٌ لا بد منه .
قلتُ : مُحصَّل كلام الطَّريفي ههنا هو جعل البيعة التي انعقدت بجمهور أهل الحل والعقد بيعة شرعية أما البيعة التي لم تنعقد بجمهورهم فهي بيعة بِدعية !!
قلتُ : بل إن كلام الطَّريفي ههنا بِدْعٌ من الأقوال مُحدثٌ لا نعلم قائلاً به سواه .
ويلزم من كلامه هذا عدّة لوازم باطلة يقيناً يُستدلُّ بها على بطلان ملزومها ألا وهو كلام الطَّريفي هذا .
فأول هذه اللوازم : هو الحكمُ بِبِدْعيّة الإمام المعهود له من إمامٍ سابقٍ , ووجه هذا الإلزام أن الإمام السابق يجوز له أن يعهد بالإمامة إلى إمامٍ بعده دون مشاورةِ أحدٍ .
فحينئذٍ يلزمُ على الطريفي أن يحكم ببدعية هذه الإمامة , ولو حكم بذلك لكان مبتدعاً متنكِّباً لإجماع المسلمين على انعقاد البيعة بالعهد .
قال الماورديُّ رحمه الله في الصحيفة الحادية عشر الأحكام السلطانية المطبوع بدار ابن قتيبة :
« وأما انعقاد الإمامة بعهدِ مَنْ قَبْلَه فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته » انتهى كلامه .
فهو مما انعقد الإجماع على صحّتِه ولا نعلمُ في ذلك مخالفاً بل ولا نعلم أحداً اشترط مشاورة أحدٍ من أهل الحل والعقد في ذلك أبداً , وإنما الاختلاف بين أهل العلم في اشتراط ظهور رِضى أهل الحل والعقد من عدمه ولم يشترط أحداً مشاورتهم أبداً .
قال الماوردي رحمه الله في الصحيفة الحادية عشر :
« فإذا أرادَ الإمامُ أن يعهدَ بها فعليه أن يجتهدَ رأيَهُ في الأحقِّ بها والأَقْوَم بشروطها , فإذا تعيّن له الاجتهاد في واحدٍ نظر فيه فإن لم يكن ولداً ولا والداً جَازَ أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه وإن لم يستشر فيه أحداً من أهل الاختيار , لكن اختلفوا هل يكون ظهور الرضى منهم شرطاً في انعقاد بيعته أو لا ؟
فذهب بعض علماء أهل البصرة إلى أن رضى أهل الاختيار لبيعته شرطٌ في لزومها للأمة ؛ لأنها حقٌّ يتعلق بهم فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار .
والصحيح أن بيعته منعقدة وأن الرضى بها غير معتبر ؛ لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضى الصحابة رضي الله عنهم ولأن الإمام أحق بها فكان اختياره فيها أمضى وقوله فيها أنفذ » انتهى كلامه .
فانظر رحمني الله وإياك كيف قرّر ما قلناه سابقاً واستدلّ على ذلك بأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على اشتراط رضى الصحابة رضي الله عنهم .
حينئذٍ إن لم يلتزم الطَّريفي بلازمِ كلامه الباطل هذا علمنا وتيقّنا بطلان ملزومه , وعلمنا كذلك بطلان زعمه بِدعيّة البيعة التي تنعقد بدون جمهور أهل الحل والعقد .
وثاني هذه اللوازم : هو الحكمُ بِبدعية بيعةِ الإمام المُتغلِّب بالسيف قهراً , ووجه هذا الإلزام أن الفقهاء قد أجمعوا على صحة بيعته وشرعيّتها وتحريم الخروج عليه وعلى ذلك استقرّ أمرُ أهل السنة والجماعة .
وقد نصّ على هذا الإجماع أحمدُ ابن حجرٍ رحمه الله في الصحيفة الخامسة من الجزء الثالث عشر من فتح الباري المطبوع بمكتبة ابن تيمية :
« وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السُّلطان المُتغلِّب والجهاد معه وأنَّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه لما في ذلك من حقنِ الدِّماء وتسكين الدهماء » انتهى كلامه رحمه الله .
بل قد نصّ أحمدُ بن حنبل رحمه الله على إمامةِ المُتغلّب وشدّد فيمن رفض بيعته ولم يره إماماً عليه , فقال كما في رواية عبدوس بن مالكٍ القطّان : « ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفةً وسُمِّي أمير المؤمنين لا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم والآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه , برًّا كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين » انتهى .
فانظر رحمني الله وإياك كيف حرّم ابن حنبل رحمه الله على المؤمن أن يبيت ولا يرى الإمام المُتغلّب بالسيف دون مشورةٍ إماماً .
فحينئذٍ لزم على عبدالعزيز الطريفي أن يحكم بِبدعية أحمد بن حنبل رحمه الله لأنه أثبت انعقاد الإمامة في غير جمهور أهل الحل والعقد , بل لزمه أن يُبدِّع جميع العلماء الذين اتفقوا على صحة بيعة الإمام المُتغلّب .
حينئذٍ عُلم بطلان لازم كلام الطريفي وتيقنّا بطلان ملزومه .
وثالث هذه اللوازم : هو الحكم بِبِدْعيّة فئامٌ من أهل العلم الذين قرّروا أن البيعة تنعقد بأقل من جمهور أهل الحل والعقد , ووجه هذا الإلزام أن أهل العلم اختلفوا في عدد أهل الحل والعقد الذين يحصل بهم انعقاد البيعة , ولم يحكموا ببدعية من لم يقل باشتراط بيعة جمهور أهل الحل والعقد كما زعم الطَّريفي .
وقد نقل الماوردي رحمه الله خلافَ أهل العلم في الصحيفة السابعة من الأحكام السلطانية وسبقت الإشارة إلى طبعته فقال ما نصّه :
« فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة فهم على مذاهب شتّى .
فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل في كل بلد ليكون الرضاء به عامًّا والتسليم لإمامته إجماعاً .
وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها وكذلك بويع في الشورى من لم ينتظر ببيعته قدوم .
وقالت طائفة أخرى أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضاء الأربعة استلالاً بأمرين :
أحدهما : أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقد بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح وأُسيد بن حُضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم .
والثاني : أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليُعقد لأحدهم برضى الخمسة .
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة .
وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة منهم يتولاها أحدهم برضى الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين .
وقالت طائفة أخرى : تنعقد بواحد ؛ لأن العبّاس قال لعلي رضوان الله عليهما : امدد يدك أُبايعك فيقول الناس : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان , ولأنه حكم وحكم الواحد نافذ » انتهى كلامه رحمه الله .
فانظر رحمني الله وإياك كيف وصف اشتراط بيعة جمهور أهل الحل والعقد بأنه مذهبٌ مدفوعٌ واستدلّ على ذلك بإمامة أبي بكرٍ رضي الله عنه إذ أنها انعقدت ببيعة من حضرها ولم يشترطوا في انعقاد البيعة حضور جمهور أهل والعقد .
بل انظر رحمني الله وإياك كيف عدّد أقوال أهل العلم في عدد أهل الحل والعقد الذين يصحّ بهم انعقاد البيعة , فمن قائلٍ أنها تنعقد بأقلّ من خمسة وبه قال أكثر فقهاء البصرة ومن قائلٍ أنها تنعقد بثلاثة وطائفةٌ أخرى تقول بانعقاد البيعة بواحدٍ !!
فانظر كيف اختلف أهل العلم في هذه المسألة ثم يأتي الطَّريفي ويُسَفِّهُ خلافهم ويُبدِّع كلَّ من لم يقل بقوله الباطل كما هو لازم قوله .
ولا شكّ أن هذا من تحجير الواسع , فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة ولم يُبدِّع بعضهم بعضاً , فما بالك وقول الطَّريفي مدفوعٌ كما نصّ عليه الماوردي ؟!!
كيف وقد نُقل الإجماع على أنّ البيعة تنعقد بمن تيّسر حضورهم من أهل الحل والعقد بدون اشتراط استيفائهم أجمعين ولا استيفاء جمهورهم كما يزعم الطَّريفي ؟!!
قال النووي رحمه الله في الصحيفة السابعة والسبعون من الجزء الثاني عشر في شرحه على صحيح مسلمٍ المطبوع بالمطبعة المصرية بالأزهر :
« أما البيعة فقد اتفق العلماء أنه لا يُشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يُشترط مبايعة من تيسَّر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس » انتهى .
فالنووي قد نقل الاتفاق على انعقاد البيعة بمبايعة « من تيسّر منهم » ولم يشترط في ذلك جمهورهم ولا أوجب استيفائهم .
فيلزم حينئذٍ على الطَّريفي أن يُبدَّع سائر الأئمة الذين جعلوا انعقاد البيعة منوطٌ بمن تيسر من أهل الحل والعقد ولم يشترطوا جمهورهم .
وهذا لازمٌ باطلٌ من لوازم كلام الطريفي نستدلّ به على بطلان كلامه وعدم اعتباره .
حينئذٍ علمنا أن قول الطريفي ببدعية البيعة إذا لم تكن من جمهور أهل الحل والعقد إنما هو قولٌ باطلٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم سلفاً ولا خلفاً ولم يُسبق الطَّريفي إليه ألبتّة .
والحق عندي أن الإمامة تنعقد بمن تيسر حضوره كما نصّ عليه النووي رحمه الله والمرء الناظر في أقوال أهل العلم يجد عجباً حين اختلفوا في العدد الذي تنعقد به البيعة .
فإن الإجماع انعقد على عدم اشتراط الإجماع في ثبوت البيعة لإمامٍ , فإذا كان إجماعهم غيرُ مشترط بالإجماع حينئذٍ لا يوجد نصٌّ ظاهر من كتاب أو سنّة يشترط انعقاد البيعة في عددٍ مخصوص وهذه أظهر حجّة نردّ بها على الطريفي ومن قال بقوله .
وقبل أن أختم هذه الرسالة أعرّج على ذكر كلامٍ نفيس لأبي المعالي الجُويني مفيدٌ في تقرير ما قلتُه آنفاً وقد ذكره في الصحيفة الثالثة والخمسين من كتابه غياث الأمم في التياث الظلم المطبوع بدار الدعوة :
« ذهب بعض العلماء إلى أن الإمامة تنعقد ببيعة اثنين من أهل الحل والعقد , واشترطت طوائف عددَ أكملِ البيِّنات في الشرع وهو أربعة , وذهب بعض من لا يعد من أحزاب الأصوليين إلى اشتراط أربعين وهو عدد الجمعة عند الشافعي رضي الله عنه .
وهذه المذاهب لا أصل لها من مأخذ الإمامة .
فأما الذي ذكر الاثنين فالذي تخيّله أنّ هذا العدد أقلّ الجمْع , ولا بدّ من اجتماع جمعٍ على البيعة .
ومن شرط الأربعة قال : الإمامة من أعلى الأمور وأرفع الخطوب فيعتبر فيها عدد أعلى البيّنات .
ومن ادّعى الأربعين استمسك بقريب ما قدمناه واعتبر من يتخير إمام المسلمين بمن يقتدي بإمام الجمعة .
وهذه المسالك من أضعف طرق الأشباه وهو أَدْوَن فنونِ المقاييس في الشرع ولستُ أرى أن أحكم بها في مواقع الظنون ومظانّ الترجيح والتلويح , فما الظن بمنصب الإمامة ؟!
ولو تتبع المتّبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع لم يُعدم وجوها بعيدة عن التحصيل في التشبيه .
وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بوبكر وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن رضي الله عنهما وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحدٍ من أهل العقد .
ووجه هذا المذهب أنه تقرر أن الإجماع ليس شرطاً في عقد الإمامة ثم لم يثبت توقيفٌ في عدد مخصوص والعقود في الشرع يتولّاها عاقد واحد وإذا تعدّى المتعدي عن الواحد فليس عددٌ أولى من عدد ولا وجه للتحكيم في إثبات عدد مخصوص فإذا لم يقم دليل على عدد لم ثبت العدد .
وقد تحققنا أن الإجماع ليس شرطاً فانتفى الإجماع بالإجماع وبطل العدد بانعدام الدليل عليه فلزم المصير إلى الاكتفاء بعقد الواحد .
وظاهر قول القاضي يشير إلى أن ذلك مقطوعٌ به وهذا وإن كان أظهر المذاهب في ذلك فلسنا نراه بالغاً مبلغ القطع » انتهى .
وكلامُ الجُويني هذا نفيسٌ في بابه , فلا يوجد توقيف منصوص على عددٍ مخصوص وبه يُرد على اشتراط الطّريفي مبايعة جمهور أهل الحل والعقد , إذ أن الجمهور عددٌ يرتفع عن النصف , وهو بهذا الحدّ لا دليلَ عليه من كتابٍ ولا سنّة .
وهذا آخر المقصود , والله يغفر لنا وللطّريفي ولجميع المسلمين .

*****