JustPaste.it

سر القدر في القرآن الكريم(٤):

فضيلة الشيخ ابو قتاده الفلسطيني حفظه الله

قال تعالى:
‎ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
هذا دعاء شرعي من نبيين عظيمين، هما خليل الله إبراهيم، وابنه الذبيح اسماعيل، عليهما السلام، وهو يتعلق بخلق قدري، وبفعل رباني، فيه النصرة لدين الله، والهداية للخلق، ونشر الشرع الرباني.
في سورة الأنبياء، وقد أكرمني الله بتفسيرها، ذكرت هناك اختصاص السورة بشوق الأنبياء الإنساني والبشري، وبحاجاتهم الحياتية، مع اختلاط هذه الحاجات بحالة التعبد الإيماني، فهذا نبي يطلب الولد الذي يرثه، كشأن زكريا عليه السلام، وهذا يطلب الشفاء من مرضه، وفيها ذكر مطالبهم وأدعيتهم التي حققها الله لهم، وابراهيم عليه السلام إمام عظيم شرحت حياته في كل أطوارها لأهميتها في تمثل القدوة لمن بعده، ويكفيه شرفاً في هذا الباب،أن قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد شرح حاله في سورة النحل: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين).
وهذا الدعاء المتقدم من هذين النبيين قد تحقق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذا في موطنين : في سورة البقرة في قوله تعالى(كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) وفي سورة آل عمران في قوله تعالى(لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
هذا الدعاء الذي ذكره الله تعالى على سبيل المدح لمقام ابراهيم واسماعيل، وهو يعني قبوله ، وأنه سيقع لا محالة، هذا الدعاء الشرعي، كم احتاج من زمان قدري حتى يقع قدره ؟
لقد جرت النبوة في فرع اسحاق عليه السلام، فكانت في يعقوب ابنه، وجرت سائرة في بني اسرائيل، كلما مات نبي بعث الله نبياً آخر يسوس الناس ويقيم فيهم الشرع،وغابت النبوة العظيمة الموعودة بإجابة هذا الدعاء زمناً طويلا، من اسماعيل عليه السلام حتى كانت في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
القدر له سره المخبوء، يمشي بحسب الحكمة، فيخفى شأنه على الناس، ويغيب عن أنظارهم، حتى يقع في وهمهم أن أمر ما يطلبون وينتظرون قد ذهب ولن يكون، ولكن خلق القدر وتدبيره المغيب عن العيون البشرية التي تعيش عالم الشهادة يكون جارياً في الفعل ليكون في وقته المقدر له.
هناك عالم مشهود، يلاحظه الناس، وهناك عالم الغيب، يخفى عنهم، هو سر الغيب، وسر القدر، وسر الابتلاء لهم، لا يجري على معنى التدبير المتراكم في عالم الشهادة ليبصروه متدرجاً، فلا فجأة، بل هو يجري على معنى التدبير الغيبي، ويظهر للناس على معنى الفجأة غير المرتقبة، بل من تأمل جريان هذا النوع من القدر علم أن عالم الشهادة يجري في ظاهره لمستقر يخالف ما يدبر من عالم الشهادة المنظور، ولذلك تقع الصدمة، وتتحقق الفجأة.
وهذا بيّن هنا، فالنبوة تجري في فرع من الأبناء، ويكون فيهم الكتاب، ويتعرفون على النبوة عن قرب، ويتحضرون لها لأنهم أهل اختصاص بها، وهم أهل شريعة غيبية، ويقابل هذا فرع خلا كلياً من النبوة بعد اسماعيل عليه السلام، هم أميون، لا كتاب لهم، ولا نبوة فيهم، وليس لها من خبر عندهم إلا ظلالاً ضعيفة، وهذه الظلال مزورة مبدلة مطموسة، ومع ذلك يخرج منها النبوة العظيمة، ويتحقق الدعاء بعد سنين، يجزم المخلوق الضعيف أنها صعبة الحصول.
سر القدر هنا هو امتحان الناس بتصديق الخبر، تطحنه السنون، وتغالبه الأقدار التي تضاد الوعد، وتسير على وفق يخالف ما وُعد به، كل ذلك ليبقى الغيب كاسمه غيباً، به يمتحن الخلق.
الأمور مع قدر الابتلاء الإيماني ليس حملاً لجنين يبصره الناس متعاظماً حتى يكون يوم الميلاد، فلا يفاجؤهم، بل هو على الضد من ذلك في هذا الباب، إذ تسير مقدماته على وجه يخالف ما ينتظره الخلق، ثم تكون الخاتمة التي قدرها الله نصراً للمؤمنين وهزيمة لأعدائه.
( حتى إذا استيأس الرسل) هذه مقدمات النصر،وهذا يعني أن أفق التغيير مسدود مغلق.
(الفجأة)، ليست في الزمن، ولكن في النتائج على خلاف المقدمات، فجأة يسبقها يأس وقنوط، أن الأمر قد استقر على حال من الجريان، ولن يقع التغيير.
ثم (فجأة) من جهة العطاء، فهذا اسماعيل عليه السلام يقع من ذريته بعث النبي الخاتم العظيم، والذي يتحقق به شروق شمس الحق من فاران ، كما وعدت الكتب السابقة.
الفعل الخفي في هذا الباب وهو عالم الغيب لا يعجزه أن يحول السجين فجأة إلى عزيز المملكة، ولا الأمي إلى أعظم معلم، ولا الضعيف إلى أعظم القوة، فهو الله القادر على كل شئ، وهو مع هذا يجريها على معنى اللطف ولكن فيها الغلبة.
مع طول الزمن يحصل في الخلق أمران: خداع للظالم، فيستمرئ المعصية( ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) فيفسد، ويجرم، ويزداد غلوا في معصيته، وبهذا يتحقق الإعذار الإلهي، ويقابله يأس يغزو القلوب، وإحباط يعتري النفوس، وهن

نشر المقال بتصرف مع حفظ حقوق النشر كامله لفضيلة الشيخ ابو قتاده

غرفة الفجر الاسلاميه - موقع العلم والمعرفه www.ilmway.com