JustPaste.it

سر القدر في القرآن الكريم( ٣):

فضيلة الشيخ ابو قتاده الفلسطيني حفظه الله

قال تعالى:۞ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) البقرة.
في هذا الخبر عن أبي الأنبياء عليه السلام، بيان خفاء جريان العطاء من النعم للخلق، وأن ابراهيم عليه السلام، وقد رأى اختصاص الإمامة بشرط عدم الظلم، ظن أن بقية ما هو من النعم المادية يجري على هذا المعنى من وجود شرط العدل، فقوّم الله ظنه بقول: ومن كفر، آي له من العطاء الدنيوي ونعيمها.
وهذا الوهم الجاري في الخلق اليوم، وفي كل زمن، من ربطهم بين غدق الدنيا ونعيمها، وبين رضى الله تعالى، هو ما يوقعهم في تعاقب المعاصي وعدم التوبة، مع أن القرآن يقرر أن الأصل في العطاء الدنيوي أن يجري غدقاً للعاصي، لولا ما في هذا من فتنة للناس، قلما يخرج منها أحد إلا القليل، لقوله تعالى: ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون).
وهذا من سر القدر الذي فيه معادلة غريبة: رحمة الله بالمؤمنين الضعفاء، وإغواء الله تعالى لطالبي الدنيا دون رجاء الدار الآخرة.
هذا الخبر القرآني المتقدم عنوانا هنا فيه بيان خفاء المعاني الدقيقة على الخلق، حتى لو كانوا أنبياء، وهذا المعنى سيتكرر في مواطن عدة، وستأتي، منها: خفاء الشرط على نوح عليه السلام لما قال: (إن ابني من أهلي)، وخفاؤه على عمر رضي الله تعالى عنه لما جادل في صلح الحديبية لما قال: ألم يعدنا أن ندخل المسجد الحرام!؟
وهذا هو ما كان يخافه الحبيب المصطفى في غزوة بدر، مع وعد الله تعالى له بالفتح: (إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم)، فمع الوعد، فقد قام يدعو مناشداً ربه مناشدة شديدة، لم يفهم وجهها أبو بكر رضي الله عنها، ولذلك قال: كفاك مناشدتك ربك، فسينجز الله لك ما وعدك.
فأنت تعلم أن يقين النبي صلى الله عليه وسلم على وعد الفتح أعظم بكثير من يقين أبي بكر، ولكن أبا بكر نظر في الوعد، فغلب عليه هذا المعنى، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خوف ذهاب الوعد بتخلف شرط ، هذا الشرط هو على معنى ما قاله الله تعالى لإبراهيم: (لا ينال عهدي الظالمين).
ولذلك رأى أن المقام يحتاج دعاء ثبوت الوعد، ورجاء عدم تخلفه، بالخوف والإنابة والمناشدة، فهذا حق العبد عند الوعد، يزداد تذللاً ليقع، ويخاف رفعه بسبب تخلف الشرط،وهو مقام النبوة، والذي هو أعظم من مقامات أخرى تحصل للخلق، وتغلب على قلوبهم.
تفهم هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم انشدك عهدك ووعدك،ثم انظر إلى سياق الخبر في موطنه، ترى هناك وعدا بإحدى الطائفتين، ثم هناك مناشدة جليلة كريمة مبكية، فيها التذلل والإخبات، وموقف العبد في أشرف منازله، ثم يخرج بعدها قائلاً( بابي هو وأمي) سيهزم الجمع ويولون الدبر.
وذلك لتعلم أن نزول الوعد يحتاج لعبادة خاصة لتحققه، حتى وهو وعد سابق.
خفاء المعاني في موضوع القدر المتعلق بالوعد، هو ما يمنع الإطمئنان على مجرد الوعد، والذي يقع به الكسل والخمول، وارتقاب الوعد بلا عمل، فيقع تخلف الوعد لتخلف شرطه، والناس من جهلهم يتساءلون: لم وقع هذا؟!
ما قاله تعالى لإبراهيم عليه السلام ينفي مذهب الجبر، وهو أن زعامة رجل تعني أن الله اختاره، ولم يختره إلا لرضاه عنه، واستحقاقه هذا المقام،فما طلبه الخليل عليه السلام هو إمامة الدين، والتقوى، والعلم، فهذا المقام يرفع الله له عباده المستحقين له، وليس هذا مقام إمامة الدنيا ورياستها، فلا يكون الرجل إماما في هذا الباب إلا برفعة ربانية، لا يكونها الرجل حتى يستحقها، ولذلك على الناس أن يعلموا أن هذا المقام ينفي خبثه كما تنفي المدينة خبثها، يقوم بذلك ربنا بالأقدار العجيبة التي تكشف الخبيث في هذا الباب، ومقام وراثة النبوة كمقام النبوة في هذا المعنى،لا يدعيه كاذب إلا فضحه، وأكذبه الله كما أكذب مسيلمة، يخزيه، ويذله، ويقدر له من المقادير ما يكشفه حتى لأدنى العقول،فلا يحتاج الناس فيها إلى كبير عناء، ومن تفكر في هذا في تاريخ العلم ووراثة النبوة وجده بيناً واضحاً،وكنت دائما أرد على الشباب المتحمسين في كشف ما يعلمون من البعض، وخفاء حالهم على آخرين: انتظروا، سياتي منهم ما لا يخفى على أحد ،وسترون منهم الشر الظاهر الذي يصنع لهم الفضيحة، كشأن الكذابين في ادعاء النبوة، أو الكذابين على النبوة.
هذا سر القدر في العطائين، العلم والدين، والثاني: متعة الدنيا وزهرتها.

نشر المقال بتصرف مع حفظ حقوق النشر كامله لفضيلة الشيخ ابو قتاده

غرفة الفجر الاسلاميه - موقع العلم والمعرفه www.ilmway.com