JustPaste.it

الخطاب الحداثي وتعزيزه شرعية الغلاة    

 

ارتبطت الحداثة بأسس فلسفية مؤثرة خلخلت القناعات والثوابت الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية في الواقع الأوروبي، وكانت هي المنهج المعرفي الذي شكل اتجاهات الحداثة الفلسفية، والأسس التي شكلت المحور الرئيس في سمات الحداثة هي الذاتية والعقلانية والعدمية، فهذه المفاهيم المتعلقة بالوجود والمعرفة والقيم هي التي تمثّل في العمق تلك الأسس.
- فالذاتية:
من المفاهيم التي شكلت قاعدة الحداثة في مجالها الفلسفي، ويعني مفهوم الذاتية "مرجعية الذات الإنسانية، وفاعليتها وحريتها وشفافيتها وعقلانيتها، وهي أكثر خصائص الحداثة وضوحًا وتداخلًا مع جوهرها وموضوعها، فهي العين التي التي ترى بها الحداثة الوجود، فالإنسان وفق هذه الرؤية يُصبح مركز الكون، بوصفه ذاتًا مستقلة، هي معيار تصوراته، يتصور الوجود حسب إدراكه الإنساني، دون سلطة خارجية لها مرجعيتها تُجبره على فهم حقيقة هذا الوجود، ومعنى ذلك "أن الإنسان الحديث أضحى يرى صورته في المرآة مجلوة فيتمثّل من خلالها العالم بعد ما كان ضباب القرون الوسطى اللاهوتي يحجب عنه هذه الرؤية الواضحة".
هذا المفهوم شكّل ما سُمّى بالنزعة الإنسانية، وهذه - النزعة الإنسانية -  لها آثارها المدمرة، والتي عانى منها أصحابها، ولمعرفة شيء من ذلك راجع كتاب ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث للشيخ سلطان بن عبد الرحمن العميري ، المجلد 1 من ص239 - 301.
- العقلانية:
هو المبدأ القائل ((لكل شيء سبب معقول)) بمعنى إخضاع كل شيء لقدرة العقل التي هي في بحث دؤوب عن الأسباب والعلل، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي من شأنه أن يُعلّل وجود الأشياء ويسوغه، ومن ثمّ فإنّ أيّ شيء فاقد لمعقوليته ولحجيّته وعليّته - أي لأساس وجوده - ليس شيء يعتبر. 
- العدمية: 
تُعرف العدمية في شكلها الفلسفي بأنها إنكار وجود كل شيء، وإنكار قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة، فالعدمية الأخلاقية - مثلًا - هي إنكار القيم الأخلاقية وإبطال مراتبها، وأن لا قيمة للقيم؛ أي ما كان في العصور السالفة مبادئ راسخة ثابتة ومُثل عليا سامية صار مع مجيء الحداثة عدمًا أفقد القيم كل معنى أو حقيقة.
فجاء إعلان نيتشه العدمية الكاملة (موت الإله) - والتي لا تنزعج من انهيار القيم - والتي تُعد الوجه الشرس للعدمية؛ لأنها تعني إقصاء كل حقائق الألوهية والدين عن المشهد الأرضي، وهذا يعني أن كل المرجعيات أو معايير الإلزام تتبدد، وأن القيم العليا تخسر قيمتها.
ولعلّ أهمية القول بالعدمية تكمن في إعطاء حيز كبير للنسبية.
وبطبيعة الحال، فالخطاب الحداثي العربي استنسخ النموذج الغربي كما هو، دون مراعاة "واعتبار للفروق المفصلية بين الشرط الذي قام عليه الفعل الحضاري عندنا في الثقافة العربية الإسلامية، والشرط الذي قام على أساسه قانون الطفرة الحداثية في الغرب." 

بعد هذه المقدمة المهمة والمختصرة نلج في الحديث عن الفكرة الأساسية للمقال، فنقول:
إن الخطاب الحداثي اعتمد على المقولة الآخذة بنسبية الحقيقة؛ حيث شغلت حيزًا كبيرًا في خطابه، وهي نتيجة حتمية - أعني مقولة نسبية الحقيقة - لتلك الأسس التي قامت عليها الحداثة؛ وتعامل بها مع نصوص الوحي على أنه لا حقيقة ثابتة لها، وأن كل قارئ يفهم معنى غير الذي يفهمه القارئ الآخر (موت المؤلف)، ولا شك أن المقولة الآخذة بنسبية الحقيقة باطلة، وبيان ذلك: أن يُقال لمن يتبنى هذه المقولة: أن مقولة "الحقيقة نسبية" هل هي نسبية أم لا؟، فإن أجاب بـ (نعم) ، فقد نقض قوله ولم يعد لهذه المقولة قيمة، وإن أجاب بـ (لا) فقد وقع في التناقض بالضرورة؛ لأن التسليم لها يتنافى مع كون الحقيقة نسبية، فلو كانت الحقيقة نسبية فكيف يكون أخذه بها مطلقًا؟ّ! 
ومن الأمور التي تُبيّن بطلان هذه المقولة وفسادها وقوع أصحابها في التناقض السلوكي؛ "إذ تجد الذين يقولون بنسبية الحقائق وأنها تابعة للتصورات - ومنهم أتباع الخطاب الحداثي المعاصر - يسعون جاهدين في إبطال أقوال المخالفين لهم، وينتقدون تصرفاتهم الخاطئة بحجة أنها خالفت الصواب والحق، ولو وُجدت طائفة ترى إباحة السرقة وقتل الأطفال والنساء، فإنهم لا يرضون بهذه الأراء، ولا يقبلون بوجودها، وتراهم يعلنون الإنكار والتشنيع عليها صباح مساء، وكل ذلك يعد تناقضًا سلوكيًا."
من الأمور المُتفق عليها بين العقلاء الأسوياء ذم الغلو ونقد تصرفات الغلاة؛ لكن كيف يُمكن لأصحاب مقولة نسبية الحقيقة وتعدد التفسيرات مواجهة الغلو والتطرف؟!!! ، "لا شك أنهم سيقعون في إشكال مع مفهوم الغلو؛ لأن الغلو سيبقى حينها أحد هذه التفسيرات، فمن لا يملك تصوُّرًا صحيحًا مبنيًا على أدوات وشروط موضوعية لتحديد التفسيرات المقبولة فكيف يمكن له أن يرفض الغلو؟
هذه ورطة عميقة ليس لها جواب علمي صحيح، فما دمت تقبل كل التفسيرات المتعلقة بأحكام الإسلام، أو تراها كلها محتملة أو ظنية، فلا بد أن تقبل الغلو بوصفه أحدَ هذه التفسيرات."
فيهذا تبيّن - إن شاء الله تعالى - أن الفكر الحداثي لا يملك القوة الذاتية في مواجهة التطرف والغلو، وإنما يعين على انتشاره؛ إذ يتعامل مع الشريعة بعبثية وفوضى.
فالأكفى والأقوى في معالجة هذا الأمر هم أهل العلم أصحاب المنهج السوي، والذين يملكون منهجية منضبطة في التعامل مع نصوص الشريعة.

ولا بد من بيان نقطة هامة تزيد الفكرة وضوحًا - بإذن الله تعالى - :
عندما يأتي من يطعن في التراث الإسلامي، ويصفه بأقبح الأوصاف وأشنعها، ويعتدي على حرمة علماء الأمة، وأن فهمهم للدين ساهم في نشر الغلو والتطرف، ماذا تتوقع من المتطرف؟، لا شك أنه سينحاز لأهل العلم الذين وصفتهم بأوصاف هم منها براء، فلم يعد الأمر مجرد أفكار منحرفة، واجتهادات أُناس متهورين.
لذلك من يرى أن معالجة الغلو والتطرف هو في تمكين أصحاب الخطاب الحداثي المنحرف ومن على شاكلته،  فهو واهم، ولن يرى هذه الأفكار إلا في انتشار، ومعتنقيها في ازدياد؛ بسبب ما يرونه من فسادٍ عريض يعبث بالشريعة الغراء، ويتلاعب بأحكامها، فهذا الفساد وانتشاره هو أحد أقوى الأسباب التي أدت إلى تقوية جانب ظاهرة الغلو في التكفير بلا شك ولا ريب، وليس هذا تبريرًا لهم، إنما أُريد أن أُبيّن أن أتباع الخطاب الحداثي ومن على شاكلتهم من أصحاب الأفكار الهدامة - والتي يُراد لها التمكين في بلدان المسلمين - لن تنجح في مواجهة التطرف والغلو.
وأختم بكلام للشيخ عبد العزيز الطريفي - حفظه الله - يقول فيه: 
"بلاء الإسلام بـ (الغلاة) و (المنسلخين) يتغذى أحدهما من انحراف الآخر، ومن الخطأ أن يشارك أحدهما بعلاج الآخر فالنظر المعوج لا يرسم خطاً مستقيماً" 

 

عمر محمد عمر الشاعر
ليلة الإثنين 
4 جمادى الأولى 1439هـ
21 يناير 2018م