JustPaste.it

عمارة اليمنى

(شاعر فاطمى كبير انتهت حياته بمأساة)

بقلم د. إبراهيم عوض

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ

عمارة اليمنى

عمارة اليمنى (515- 569هـ) شاعر ومؤرخ من أهل اليمن. وُلِد بتهامة، ومات بالقاهرة. واشتغل فترة بالتجارة ثم استقر بمصر وصار شاعرا من شعراء الدولة الفاطمية، فمدح الفائز والعاضد ووزراءهما. وحين سقطت دولة العبيديين رثاها رثاء حارا،  ثم تحول إلى مدح صلاح الدين، الذى أسقطها، لكنه قُبِض عليه وأُعْدِم لانكشاف تآمره بغية إرجاع الدولة الفاطمية كرة أخرى. وهناك خلاف حول مذهبه كما سوف نرى. وقد خلَّف ديوانا شعريا كبيرا وعدة كتب منها "المفيد فى أخبار زَبِيد، وأخبار اليمن، والنكت العصرية فى أخبار الوزارة المصرية".

وفى ترجمة ابن كثير لعمارة اليمنى فى كتابه: "البداية والنهاية" يقول: "كان عمارة شاعرًا مطيقًا بليغًا فصيحًا، لا يُلْحَق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور. وقد ذكرته في "طبقات الشافعية" لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي. وله مصنَّف في الفرائض، وكتاب"الوزراء الفاطميين"، وكتابٌ جَمَع سيرةَ نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبًا فاضلًا فقيهًا، غير أنه كان يُنْسَب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان يُنْسَب إلى الرفض. وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العمادُ في "الخريدة" أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلمُ مذ كان محتاج إلى العَلَمِ         وشفرة السيف تستغني عن القَلَمِ

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجلٍ         سَعَى إلى أن دَعَوْه: سيد الأممِ

ويجوز أن يكون هذا البيت معمولًا عليه، والله أعلم... ومما وُجِد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أَسَفِي على زمان الإمام العاضدِ         أسفُ العقيم على فراق الواحدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت،         يا ابن النبي، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك التي         كانوا كأمواج الخضمِّ الراكدِ

قَلَّدْتَ مؤتمن الخلافة أمرهم، فكَبَا         وقصَّر عن صلاح الفاسدِ

فعسى الليالي أن ترد إليكمو         ما عَوَّدَتْكم من جميل عوائدِ

وله من قصيدة أخرى:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلها: والله ما التحمت         فيكم قروحي ولا جُرْحِى بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل ابْنَيْ أمير المؤمنين عَلِي؟"

ويقول ابن خلكان فى "وفيات الأعيان" إن عمارة اليمنى كان فقيها شافعيا شديد التعصب لأهل السنة. وقد تلقف كل من د. محمد كامل حسين (فى "أدب مصر الفاطمية") ود. عمر فروخ (فى المجلد الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربى") هذا الحكم وتبناه. ولكن لو كان شاعرنا فعلا شديد التعصب لأهل السنة فكيف يا ترى لم تسترح نفسه إلا فى ظلال الدولة الفاطمية، التى تخالف أهل السنة فى كثير من الأمور مخالفة شديدة؟ وكيف انتهى به المطاف بعد زوال الفاطميين على يد صلاح الدين إلى التآمر على الرجل ودولته السنية لإرجاع الدولة العبيدية من خلال التعاون مع الصليبيين أعداء الإسلام؟ ثم كيف نفسر ترديده فى قصائده لمعتقدات الإسماعيليين ترديد المؤمن المحتفى بها المتعصب لها؟ نعم لقد ذكر عمارة فى "النكت العصرية" أن الفاطميين فى مصر حاولوا أن يَثْنُوه عن مذهبه إلى عقيدتهم، لكنه صمد لهم وأفهمهم أن ذلك خارج المسألة. وهذا ما أخذ به د. محمد كامل حسين فى كتابه: "فى أدب مصر الفاطمية"، فهو يقول إنه تأثر فى شعره بعقائد الفاطمية واستخدم اصطلاحاتهم، لكنه ظل رغم ذلك سنيا شافعيا، وإن عاد فقال إنه من شدة تأثره بتلك العقائد فى أشعاره يخيل لنا أنه قد صار فعلا فاطمى العقيدة. لكن الواقع يقول شيئا آخر كما نرى. وليست العبرة بالكلام والدعاوَى بل بالمواقف والأفعال.

وصحيح أيضا أنه مدح صلاح الدين وأثنى عليه ثناء شديدا، لكنْ صحيح كذلك أنه تآمر عليه وعلى دولته السنية. كما أن مدحته الأولى له لا تخلو من وقاحة وتقحُّم. ترى هل وجد أن صلاح الدين لم يعطه ما كان يؤمِّل منه إذ لم يعامله نفس المعاملة التى كان يلقاها من الفاطميين أموالا وجاها وترحيبا؟ ترى هل وجد أن القاضى الفاضل، وكان لا ينطوى له على حب، قد قربه الأيوبيون إليهم تقريبا كبيرا فى الوقت الذى لم يصنعوا ذلك معه هو، فتحركت عقارب أحقاده؟ ترى هل مَنَّاه الفاطميون المتآمرون على الدولة الجديدة بمنصب من مناصب الوزارة مثلا فأداروا عقله وأفقدوه رشده؟ ذلك أن مواقف عمارة إبان الدولة الفاطمية وإبان الدولة الأيوبية محيرة لا تنسجم ولا تتسق!

ويحاول د. شوقى ضيف، فى كتاب "عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران"، فك هذا اللغز قائلا إن ذلك قد يصدق عليه فى أوائل حياته حين كان لا يزال يدرس الفقه الشافعى فى بلاده، أما بعد ذلك فقد اتصل بآل زُرَيْع الإسماعيليين فى اليمن، وبأمير مكة الزيدى. ونضيف نحن إلى ذلك مقابلته، فى عدن أيام كان باليمن، بعض دعاة الفاطميين حسبما ذكرت مادته فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature"، ثم تداخله مع الفاطميين أنفسهم فى مصر وحبه الجارف لهم وإكرامهم البالغ له على ما هو معروف. ثم يمضى د. شوقى ضيف مفترضا أن يكون كتاب "النكت العصرية"، الذى ذكر فيه عمارة أنه قد طلب من رجال الفاطميين فى مصر الكف عن محاولة تشييعه لأنه لا يمكن أن يترك مذهبه السنى، قد أُلِّف فى عهد صلاح الدين، فأراد عمارة أن يتظاهر أمام الحكام الجدد السنيين أنه سنى مثلهم. وهو افتراض لا أجد ما يمكن أن أعترض به عليه. وهذا الافتراض، إذا صح، يحل لنا كل تلك العقد المتشابكة فى حقيقة أمر عقيدته. ثم يورد الأستاذ الدكتور، من أشعار عمارة، ما يدل بقوة على أنه كان يعتقد اعتقادات الفاطميين وأنه كان ينظر إلى أئمتهم وخلفائهم بنفس نظرتهم. وهذا الرأى الذى ارتآه د. ضيف قد قال به بعض الأقدمين من قبل، فقد نقل مثلا يوسف بن يحيى صاحب كتاب "نسمة السَّحَر فى ذكر من تشيَّع وشَعَر" عن "تاريخ الجندى" أن عمارة "كان أول حاله سنيا ثم اعتقد مذهب الإسماعيلية، وشعره شاهد بمذهبه". ومن ذلك قوله ينافح عن حق الفاطميين فى الخلافة نصا لا تقليدا زاعما أن أئمة الفاطميين ماثلون فى كل وجود إنسانى:

أغنى عن التقليد نصُّ إمامةٍ       والنص يَبْطُل عنده التقليدُ

لا شيء من حَلٍّ وعقدٍ في الورى       إلا إلى تدبيره مردودُ

ملكٌ أغاث المسلمين، وحاطهم       منه وجودٌ في الزمان وَجُودُ

وأن التوراة والإنجيل والقرآن قد ذكرته فى نصوصها مادحة:

لا يبلغ البلغاءُ وصفَ مناقبٍ       أثنى على إحسانها التنزيلُ

شِيَمٌ لكم غرٌّ أتى بمديحها الـــــــــــــــــــــفرقانُ والتوارةُ والإنجيلُ

سِيَرٌ نسخناها من السُّوَر التي       ما شَانَها نسخٌ ولا تبديلُ

وقوله مشيرا إلى ما يعتقده الإسماعيلية من أن للقرآن ظاهرا للعامة لا يعتد به، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة بالتأويل الذى انفردوا وحدهم بالقدرة عليه:

كم آيةٍ رُوِيَتْ لكم أسرارُها،       آلَ الوَصِيِّ، وللوَرَى إعلانها!

فكأنما تأويلكم أرواحها       وكأنما تفسيركم أبدانها

وكأن علمَ الكائنات وديعةٌ       مخزونةٌ، وصدوركم خُزَّانُها

وقوله مدعيا أن أئمتهم مخلوقون من نور، وأن ذلك النور مستمد من نور الله:

أئمة خُلِقُوا نورا، فنورهمو                                              من نور خالص نور الله لم يَفُلِ

والله لا زُلْتُ عن حبى لهم أبدا                                    ما أخَّر الله لى فى مدة الأجلِ

فمن الممكن أن يكون شافعيا فعلا لدن مجيئه مصر، أوأيام كان لا يزال فى زبيد، ثم مع الأيام واتصاله بآل زريع فى اليمن الشيعيين الإسماعيليين وبحاكم مكة الشيعى الزيدى والفاطميين الشيعيين الإسماعيليين فى مصر وإكرامهم الشديد له وإلحاحهم على محاولة تشييعه تغير قلبه وتحول إلى المذهب الإسماعيلى. وقَوِىَ هذا عنده رغم تحوله إلى مدح صلاح الدين، الذى لم يبرأ فيه من التعلق بذكرى الفاطميين والإشادة بمناقبهم وما كانوا يكرمونه به من أموال طائلة، إذ وجد أن صلاح الدين لا يهتم به الاهتمام المنتظَر ولا ينيله ما كان يناله من أعطيات فى عصرهم، فكان أن انخرط فى تآمر العبيديين والمتعاطفين معهم على إرجاع دولتهم، التى هدمها صلاح الدين وأزالها من الوجود، وإن كان محرر مادة "عمارة اليمنى" فى "The Encyclopaedia of Arabic Literature" يزعم على غير أساس أن مدح الشاعر للفاطميين وحزنه على سقوط دولتهم هو السبب الذى حدا بصلاح الدين إلى قتله.  ولو كان ذلك صحيحا فلم أخر صلاح الدين عقابه وتركه يعيش فى أمان تحت سلطانه مدة من الزمن كفلت له الوقت اللازم للاتصال برجال الفاطميين ووضع مؤامرة للانقلاب على البطل الأيوبى؟

وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى: "قال المؤرخ: ولما خُلِع العاضد ومات واعتقل الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف أولادَه بالقصور مر القاضي الأرشد عمارة اليمني الشاعر بالقصور، وهي مغلقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها، فأنشأ قصيدته المشهورة التي رثى بها القصور وأهلها، وهي من عيون المراثي، وأولها:

رميتَ، يا دهرُ، كَفَّ المجد بالشللِ         وجِيدَه بعد حسن الحَلْيِ بالعَطَلِ

سعيتَ في منهج الرأي العَثُورِ، فإن         قدرتَ من عثرات الدهر فاسْتَقِلِ

هدمتَ قاعدة المعروف عن عجلٍ         على فجيعتنا في أكرم الدولِ

قدِمْتُ مصرَ، فأولتْني خلائفُها         من المكارم ما أَرْبَى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كَسْب الألوف. ومن         جمالها أنها جاءت ولم أَسَلِ

ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة،         لك الملامة إن قَصَّرْتَ في عَذَلي

بالله زُرْ ساحة القصرين، وابْكِ معي         عليهما لا على صفين والجملِ

وقل لأهلهما: والله ما التحمت         فيكم جراحي، ولا قَرْحي بمندملِ

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة         في نسل آل أمير المؤمنين عَلِي؟

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما         ملكتم بين حكم السبي والنَّفَلِ؟

مررت بالقصر، والأبواب خالية         من الوفود، وكانت قِبْلة القِبَلِ

فمِلْتُ بوجهي خوف منتقدٍ         من الأعادي، ووجهُ الودِّ لم يَمِلِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداة خلتْ         حالُ الزمان عليها، وهي لم تَحُلِ"

وفى تلك القصيدة إشارات إلى أنه كان لا يزال يأمل أن تعود دولة الفاطميين. وقد تكون تلك الإشارات دليلا على علمه منذ ذلك الوقت المبكر بوجود مؤامرة ضد بنى أيوب ودولتهم السنية:

لربما عادت الدنيا لمعقلها                      منكم، وأضحت بكم محلولة العُقُلِ

والله لا فاز يومَ الحشر مبغضُكم        ولا نجا من عذاب النار غير وَلِى

ومن قصيدة أخرى له نقرأ الأبيات التالية التى تشير فى نفس الاتجاه وتدل على نفس المغزى:

أسفي لمُلْكٍ عاضديٍّ عُطِّلَتْ       حجراته بعد الندى والبَاسِ

أخذتْ بنانُ الغزّ من أمواله       ورجاله بمخانق الأنفاسِ

وعسى الليالي أن تردَّ زمانَه       لَدْنًا كعُود البانة الميَّاسِ

وفى قصيدة ثالثة يقول:

أسفى على زمن الإمام العاضد         أسف العقيم على فراق الواحدِ

جالستُ من وزرائه وصحبتُ من         أمرائه أهلَ الثناء الخالدِ

لهفي على حجرات قصرك إذ خَلَتْ،         يا ابن النبيّ، من ازدحام الوافدِ

وعلى انفرادك من عساكرك الذي         كانوا كأمواج الخِضَمِّ الراكدِ

قلّدت مؤتَمن الخلافة أمرهم         فكَبَا وقصَّر عن صلاحِ الفاسدِ

فعسى الليالي أن تردّ إليكمو         ماعودتْكم من جميلِ عوائدِ

ويصف ابن كثير فى "البداية والنهاية" مصير عمارة اليمنى قائلا: "سبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكامًا فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرًا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك. ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين. فخرج توران شاه، ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه. وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالأوا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالًا جزيلة، وأفاض عليه حللًا جميلة.  ثم استدعاهم السلطان واحدًا واحدًا فقرَّرهم، فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم، فأَفْتَوْه بقتلهم. ثم عند ذلك أمر بقتل رؤوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديًا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده، فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان، لا تسمع منه. فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك. فندم ندمًا عظيمًا. ولما ذُهِب به ليُصْلَب مَرَّ بدار الفاضل فطلبه، فتغيَّب عنه، فأنشد:

عبدُ الرحيم قد احتجبْ         إن الخلاص هو العجبْ"

وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير فى حوادث سنة  569هـ: "في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب جماعةً ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد. وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج.

وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: "يكون الوزير منا"، وبني شاور قالوا: "يكون الوزير منا". فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجَلِيَّة الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصَلَبَهم.

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يومًا، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر. فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه. فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم".

وفى كتاب عمارة اليمنى: "النكت العصرية" فخرٌ جامحٌ منه بقومه وثرواتهم وسؤددهم وشرفهم وكرمهم وأعطياتهم وبطولاتهم لا أظن ما قاله فيه صحيحا على إطلاقه. ورغم ذلك كله نراه يشير إلى أنه قد طامن من حقيقة الحال لأن شرف قومه وسؤددهم وكرمهم فوق ذلك كثيرا وأن ما دفعه إلى هذا التقليل هو تخوفه من تكذيب الناس لكلامه لو ساق الحقيقة كما هى.

ومع هذا نراه يتفاخر بأنه سلب زوجين من الخلاخيل الذهبية من رِجْلَىْ سيدتين كانتا ضمن قافلة تضم آلاف الحجاج مع زوجة الأمير ونامتا على جانب الطريق فى هودجيهما، فأخذ زَوْجَىِ الخلاخيل وهما لا تشعران، وتقرَّب عن طريقهما إلى أم الأمير وحظى عندها ونال مالا كثيرا وصارت له وجاهة، وإن كنت لا أدرى كيف لأن القصة لم توضح الأمر توضيحا كافيا. وقد كاد رغم ذلك يُقْتَل على أيدى أهل زَبِيد لأن بعضهم لفق عنه ما يستوجب قتله، إلا أنه نجا من ذلك المصير التعس بأعجوبة، وهرب إلى الحجاز، ومن هناك رحل فى مهمة سفارية إلى مصر حيث اتصل بالخليفة الفاطمى ووزيره طلائع بن رُزِّيك.

وجاء فى الكتاب أنه كان حاضرا مجلسا من مجالس الوزير  الفاطمى الطلائع بن رزيك فى مصر، وخاض بعض الحاضرين فى أبى بكر وعمر، فاستوحش من ذلك ونهض مغادرا، وتخلف عن الحضور أياما، ولما سئل عن سبب غيابه وأخبرهم به عجبوا واستغربوا من ذلك السبب، إلا أنه أكد لهم أنه لولا أبو بكر وعمر ما بقى الإسلام، الذى يستظل هو وهم بظله الآن. ثم لما حاولوا اجتذابه إلى مذهبهم رجاهم أن يسدوا هذا الباب وأن يتركوه وما يعتقد دون محاولة لِثَنْيِه عما فى ضميره، فاستجابوا.

قال: "وكانت تجرى بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر مِنْ ذِكْر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله عز وجل: "فلا تقعدْ معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، ونهضت فخرجت، فأدركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بت النهار فوجدته في البستان المعروف بـ"المختصّ" في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي وقال: "خيرًا!"، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر. فإنْ أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة، وفي الملوك كثرة. فعجب من هذا وقال: سألتك بالله: ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولا هما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأت قول الله تعالى: ومن يرغبُ عن ملة ابراهيم إلا مَنْ سَفِهَ نفسَه؟"، فضحك. وكان مرتاضا حصيفا قد لقى في ولاياته فقهاء السنّة وسمع كلامهم.

ومما يلتحق بهذا الفصل أني لم أشعر في بعض الأيام حتى جاءتني منه رقعة فيها أبيات بخطّه ومعها ثلاثة أكياس ذهبا. والأبيات قوله:

قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من         أضحى يؤلف خطبةً وخطابَا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى         قل: "حِطَّةٌ"، وادخلْ إلينا البابا

تلقَ الأئمة شافعين ولا تجد         إلا لدينا سنة وكتابَا

وعليَّ أن يعلو محلُّك في الورى         وإذا شفعتَ إليَّ كنتَ مجابَا

وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة         صلةً وحقِّكَ لا تُعَدُّ ثوابَا

فأجبته مع رسوله بهذه الأبيات:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا         يا خير أملاك الزمان نصابا!

لكن إذا ما أفسدتْ علماؤكم         معمورَ معتقدي وصار خرابا

ودعوتمو فكري إلى أقوالكم         من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشْدُدْ يديك على صفاء محبّتي         وامْنُنْ عليَّ وسُدّ هذا البابا"

كما دارت مناقشة بينه وبين سيف الدين حول حكم غسل الرجلين فى الوضوء: أهو واجب لا يصح الوضوء بدونه؟ أم يكفى المسح فى هذه الحالة كما يعتقد الشيعة؟ ولنتركه يحكى ما وقع بقلمه: "أذكر يومًا أنه توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما، فتناولت الإبريق فسكبت الماء على رجله فجذبها وهو يضحك، فقلت له: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة فما نُعْطَى ولا نعاقَب على غسلهما. وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة لأنكم تتركون غسل الرجلين، وهو فرض. فكان يقول لي بعد ذلك: الله! لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء. وقال لي يومًا، ونحن على خلوة: أعلمت أن الصالح طمع فيك أن تصير مؤمنًا من يوم دخل الأشتر بن ذي الرئاستين في المذهب؟ ولولا طعمه فيك أن ترجع إلى مذهبه ما سامح ابن ذي الرئاستين بدرهم. فأنشدته قولي:

مجالس الأنس تطوى         على الذي كان فيها

فقال: قل، ولا حرج. قلت: لو لم أكن على بصيرة من مذهبي لمنعتْني النخوة من التنفل. فكان بعد ذلك يقول للصالح: ما لكم فيه طمع. فاتركوه".

ومما قاله أن أباه، حين تبين له أنه شاعر، استحلفه وأخذ منه الميثاق ألا يهجو مسلما، فأعطاه العهد ألا يفعل ذلك أبدا والتزم بما عاهد أباه عليه، اللهم إلا مرة يتيمة حين هجاه أحدهم ببيتين فى حضرة الملك الصالح، الذى حرضه على الرد عليه، فهجاه متأولا بأنه إنما ينتصر لنفسه من الظلم الذى حاق به. ومع هذا نجد فى شعره ما يخالف هذا كما فى النصوص التالية:

إلى كَمْ أَحُوك الشعر في الذم والمدحِ         وأخلع بُرْدَيْه على المنع والمنحِ

وأفتح من أبوابه كل مقفلٍ         يشنّ عليها خاطري غارة الفتح

ويَشْرَكُني في نظمها كلُّ ناقصٍ         يعارض بالمصباح شارقةَ الصبح؟

يعيب دعيُّ القوم غُرَّ قصائدي         وليس له فيه صريحي ولا صَرْحي

عصتْه زناد الشعر إذ رام قَدْحَها         فأداه ضعف القدح عنها إلى القَدْحِ

تخلَّف عن شَأْوِي فجَمَّل نفسَه         بنقد كلامي، وهو من نقد السَّرْحِ

*   *   *

قل لابن دخان إذا جئته         ووجهه يندى من القرقفِ

في اسْت امِّ جاري ولو أنه         أضعاف ما في سورة الزُّخْرُفِ

واصْفع قفا الذل ولو أنه         بين قفا القسيس والأسقفِ

مكَّنك الدهرُ سبالَ الورى         فاحْلِق لحاهم آمنًا وانتفِ

خلا لك الديوان من ناظر         مستيقظ العزم ومن مشرفِ

فاكسب وحَصِّلْ وادَّخِرْ واكتنزْ         واسرق وخُنْ وابطش وخُذْ واخطفِ

واستغنم الفترة من قبل أن         يرتفع الإنجيل بالمصحفِ

هذا دخان الشعر أرسلتُه         إلى دخان المشعل الأسخفِ

كما نرى فى أشعاره أهاجى مفحشة كما فى النصوص التالية:

وهذه عجوزةٌ         خلفها القفندرُ

بنحسها وشؤمها         مات الوزير جعفرُ

لو صَبَّحَتْ إسكندرا         ما أفلح الإسكندرُ

سيئة الخلق، لها         مقابحٌ لا تُحْصَرُ

تَعْظُم عند نفسها         وقدرها محتقَرُ

عَيْبَةُ عيبٍ لم يزل         يُعْرَف منها المنكرُ

كأنما أدَّبها         ذاك اللعين الأعورُ

سوداء ما في جسمها         أبيضُ إلا الشَّعَرُ

نوبيةٌ مشْفَرُها         مُشَقَّقٌ مُشَتَّرُ

تَبْسِم عن كوادمٍ         طحلبهن أخضرُ

قلت، وقد تنفستْ:         هذا خرًا أم بَخَرُ؟

بالله قولي واصدقي:         هذا فمٌ أم مَبْعَرُ؟

*   *   *

لو كان للشعر عند الله منزلة         ما ساغه قط من أشداقه الجفل

إنْ كَوْسَج النتفُ خديه وشاربَه         فإن لحيته فوق الخُصَى خُصَلُ

يا كاتبًا فوق خصييه وعانته         من المداد ومن حبر استه كتلُ

ومن يحكَّ أكالًا تحت عصعصه         لا تأكلنَّ مع الأملاك إن أكلوا

وذكر مرة أنه قد نوى الإحجام عن المديح وعن قبول العطايا عليه وصارح أحد رجال الدولة الكبار بهذا القرار. ومع ذلك فإنه لم يتوقف لا عن المديح ولا عن تلقى الهبات الضخام جراءه، فضلا عن أنه كان يضيق إذا ما تأخرت عطاياه على المديح وغير المديح، وكان يعاتب على ذلك أحيانا. كما كانت تصله أعطيات كثيرة من مختلف الوجوه ومن كثير من كبراء رجال الدولة. وهو يُطْنِب فى الحديث عن هذا إطنابَ مفاخِرٍ سعيدٍ. وقد اغتنى اغتناء هائلا بسبب هذه الإتحافات والهدايا. ولقد ظل يطلب العطايا ويلحف فى الطلب حين تتأخر قليلا. بل إنه فى عهد صلاح الدين نفسه ينظم شعرا يُلْحِف فيه ويشكو ولا يتحرج من شىء كما فى قوله محاولا، فى شىء من الوقاحة، إثارة حمية الرجل بالحديث عما ناله من غنى وجاه لدى الفاطميين من خلفاء ووزراء مما حمل صلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوَفَيَات" على أن يقول: "والذي أظنُّه وتقضي به ألمعيَّتي أنَّ هذه القصيدة كانت أحد أسباب شنقه، والله أعلم، لأنَّ الملوك لا يخاطَبون بمثل هذا الخطاب، ولا يواجَهون بهذه الألفاظ وهذا الإدلال الذي يؤدِّي إلى الإذلال. وأظنُّ أن هذه القصيدة ما أجْدَت شيئا. فمال عمارة حينئذٍ وانحرف، وقصد تغيير الدولة، والله أعلم، وكان من أمره ما كان:

أَيا أُذُنَ الأيام، إن قلتُ فاسمعِي         لنفثة مصدور وأنّة مُوجَعِ

تَقاصَرَني خطبُ الزمان وباعُه         فضيّق من ذرعي وقصَّر أَذْرُعِي

وأَخرجني من موضع كنتُ أهلَه         وأسكنني بالجود في غير موضِعي

فيمَّمتُ مِصْرًا أطلبُ الجاهَ والغِنَى         فنِلْتُهما في ظلّ عيشٍ ممنَّعِ

وزُرْتُ ملوك النِيل إذ زاد نَيْلُهم         فأَحمدَ مرتادي وأَخصَب مرتعِي

وفُزْتُ بألفٍ من عطيّة فائزٍ         مواهبُه للصنع لا للتصنُّعِ

وكم طوقتْني من يدٍ عاضديّةٍ         سرتْ بين يَقْظَى من عيون وهُجَّعِ

وجاد ابنُ رُزَّيْكٍ من الجاه والغنى         بما زاد عن مَرْمَى رجائي ومطمعِي

وأَوحى إلى سمعي ودائعَ شعره         لخِبْرته منّي بأَكرمِ مُودَعِ

وليست أيادي شاورٍ بذميمةٍ         ولا عهدُها عندي بعهدٍ مضيَّعِ

ملوكٌ رعوْا لي حرمة كان نَبْتُها         هشيما رعتْه النائباتُ وما رُعِي

مذاهبُهم في الجود مذهبُ سُنّةٍ         وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّعِ

فقُلْ لصلاح الدين، والعدلُ شأنه:         مَنِ الحَكَمُ المُصْغِي إليّ فأَدَّعِي؟

سَكَتُّ، فقالت ناطقاتُ ضرورتي:         إذا حَلَقاتُ الباب أُغْلِقْنَ فاقْرَعِ

أقمتُ لكم ضيفا ثلاثةَ أشهر         أقول لصدري كلّما ضاق: وَسِّعِ

أُعَلِلُ غلماني وخيلي ونسوتي         بما صُغْتُ من عذرٍ ضعيفٍ مُرَقَّعِ

ونُوّابُكم للوفد في كلّ بلدة         تُفَرِّقُ شمل النائل المتوزَّعِ

وكم من ضيوف الباب ممّن لسانُه         إذا قطعوه لا يقوم بإصبعِ

مَشَارعُ من نعمائكم زُرْتُها، وقد         تَكدَّر بالإسكندريّة مشرعِي

وضايقني أهلُ الديون، فلم يكن         سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعيَ الإسلام، كيف تركتَها         فريقَيْ ضياع من عرايا وجُوَّعِ؟

دعوناك من قُرْبٍ وبُعْدٍ، فهَبْ لنا         جوابك، فالبازي يُجيب إذا دُعِي

قنعنا، ولم نسْألك، صبرًا وعفّةً         إلى أن عدمنا بُلْغةَ المتقنِّعِ

ولمّا أَغَصَّ الريقُ مجرى حُلُوقِنا         أتيناك نشكو غصّة المتجرّع

فإن كنتَ ترعى الناس للفقه وحدَه         فمنه طرازي بل لثامي وبُرْقُعي

ألم تَرْعَني للشافعيّ، وأنتمُو         أجلُّ شفيع عند أَعْلَى مشفَّعِ؟

ونصري له في حيث لا أنت ناصر         بضرب صَقيلاتٍ ولا طعنِ شُرَّعِ

لياليَ لا فِقْهُ العراق بسجسجٍ         بمِصْرَ ولا ريحُ الشَّآم بزعْزَعِ

كأني بها من أهل فِرْعَونَ مؤمنٌ         أُصارِعُ عن ديني، وإن حان مصرعِي

أَمِنْ حَسنات الدهر أم سَيِّئاته         رِضاك عن الدنيا بما فعلتْ معِي؟

ملكتَ عنان النصر ثمّ خذلتَني         وحالي بمَرْأًى من عُلاك ومسمعِ

فما لك لم تُوسِعْ عليّ وتلتفتْ         إليَّ التفاتَ المُنعِم المتبرِِّعِ؟

فإمّا لأنّي لست دون مَعاشِرٍ         فتحتَ لهم باب العطاء الموسَّعِ

وإمّا لما أوضحتُه من زعازعٍ         عصفْنَ على ديني فلم أتزعزعِ

ورَدِّي أُلوفَ المال لم أَلتفت لها         بعيني ولم أحفل ولم أَتطلْع

وإمّا لفنٍّ واحدٍ من معارفي         هو النَّظْمُ إلاّ أنّه نظمُ مُبْدِعِ

فإن سُمتَني نظمًا ظفرتَ بمُفْلِقٍ         وإن سُمْتَني نثرًا ظفرتَ بمِصْقَعِ

سألتُك في دَيْنٍ لياليك سُقْنَه         وأَلزمتَنيه كارها غيرَ طَيّعِ

وهاجرتُ أرجو منك إطلاقَ راتبٍ         تَقرَّرَ في أزمان كِسْرَى وتُبَّعِِ

فيا واصلَ الأرزاق، كيف تركتَني         أَمُدُّ إلى نَيْل المُنى زند أَقْطَعِ؟

أَعندك أنّي كلَّما عَطَسَ امرؤٌ         بذي شَمَمٍ أَقْنَى عَطَسْتُ بأَجْدَعِ؟

ظُلامةُ مصدوع الفؤاد. فهل له         سبيلٌ إلى جبر الفؤاد المصدَّعِ؟

وأُقسِم لو قالت لياليك للدجى:         "أَعِدْ غاربَ الجوزاء" قال لها: "اطْلُعِي"

غدا الأمرُ في إيصال رزقي وقطعه         بحكمك، فابْذُلْ كيفما شئتَ وامْنَعِ

كذلك أَقدارُ الرجال. وإن غدتْ         بأمرك فاحفظْ كيف شئتَ وضَيِّعِ

أما أسلوبه النثرى كما يبدو فى كتابه: "النكت العصرية" فمترسل مباشر سلس بسيط وجذاب ليس فيه بوجه عام تحذلق أو محسنات، إلا أنه أحيانا ما يباغتنا بالخروج عن هذا الأسلوب المترسل إلى السجع كما فى قوله تعقيبا على قصيدة أنشدها الخليفةَ الفاطمى آنذاك الفائز بن الظافر ورجال حاشيته ممجدا الخليفة ودولته: "وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارًا والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب، ثم أفيضت علىَّ خِلَعٌ من ثياب الخلافة مذهّبة، ودفع لي الصالح خمس مائة دينار، وإذا بعض الأستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي إلى منزلي، وأُطْلِقَتْ لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة ونَظَمَني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت على صِلاتُه وغمرني بِرُّه. ووجدتُ بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعاني ابن الحباب والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء وأبا الفتح محمود بن قادوس والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانيّة، والرئاسة الإنسانية، بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعى في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم، ونَظَموني في سلك فرائدهم. هؤلاء جلساؤهم من أهل الأقلام، وأما أهل السيوف والأعلام فمنهم مجد الإسلام ولده وصهره سيف الدين حسين  وإخزان فارس المسلمين بدر بن رزيك وعز الدين حسام قريبه. وهؤلاء هم أهله، فأما غيرهم من أمراء دولته المختصين بمجالسته في أكثر أوقاته فمنهم ضرغام، ونال الوزارة. ومنهم على بن الزّبد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة...".

ونراه يستعمل الأعداد استعمالا يختلف فى بعض الأحيان عما نعرفه فيقول مثلا: "ثلاثة ألف رجل"، و"خمسة ألف مثقال" و"تسعة عشر امرأة". كما يستعمل اسم العلم فى موصع البدلية من اسم الإشارة مثل "أحب هذا يحيى كثيرا" بدلا من "أحب يحيى هذا كثيرا". ونحن قد مَرَدْنا على أن يكون البدل هنا اسما معرفا بالألف واللام مثل "أحب هذا الرجل كثيرا". وقد وجدت الشيخ عبد العزيز البشرى من كتاب العصر الحديث فى مصر يستعمل ذلك التركيب فى بعض كتاباته. كذلك قابلت فى الكتاب كلمة "ثمانى" منكرة مخفوضة مثبتة الياء، والمعروف أن تحذف الياء ويعوض عنها بالتنوين. ومن استعمالاته الغريبة جمعه "أستاذ" على "أستاذون" كما وجدتها فى بعض كتب علماء تلك الفترة بدلا من "أساتذة/ أساتيذ" رغم أنها ليست علما ولا صفة بل اسم جنس. ومما لفت نظرى من تراكيبه وعباراته أيضا قوله: "قبل أن يُعَدِّى إلى الغربية"، "عَدَّيْتُ إليه بعد العشاء"، وهو تعبير عامى مصرى. فهل كان عمارة متأثرا فى استعماله بالمصريين؟ وفى الجملة التالية نراه يعامل جمع الأشياء الجامدة معاملة العاقل معيدا عليها الضمير: "هم" بدلا من "ها"، فقال: "استعملهم لنفسه" بدلا من "استعملها": "وصادفت عند وداعه رسولا له كان بدمياط يستعمل شروبا، فدفع لي ممل إليه في تلك الساعة شقة خزائني ولفافة وتلثيمة طولها ثلاثون ذراعا رقم الجميع نسجة واحدة كان استعملهم لنفسه".

ومن استعمالاته قوله: "هرب تحت الليل" بدلا من "هرب فى جنح الظلام" مثلا. ومنها "اترك لنا الخيمة نتفسح أنا وفلان". ونحن المصريين نستخدم كلمة "نتفسح" بمعنى "نتنزه"، وهو معنى لا يبعد عن المراد هنا، إذ المقصود أنهم يريدون أن يأخذوا راحتهم فى الحديث والانبساط فيه كما يأخذ الواحد منا راحته فى النزهة فى الخلوات وبين الحقول والرياض. ومنها كلمة "بدلة" لضرب من الملابس، وكلمة "تلِّيسة"، التى يستعملها الفلاحون فى قريتنا كثيرا، وإن كنا ننطقها بفتح التاء بدلا من كسرها كما ضُبِطَتْ فى ا لكتاب، وكلمة "أردب"، وهو كيل مصرى معروف، وكلمة "شكائر" (جمع شكارة"). ويلفت النظر أن أسماء الأقاليم المصرية فى ذلك الوقت كما ألفيتها فى الكتاب هى هى التى نعرفها اليوم كـ"الغربية" و"الشرقية" و"البحيرة" و"الصعيد" و"الواحات".

 أما فى كتابه: "تاريخ اليمن" فأسلوبه بسيط غاية البساطة يوصل المعلومة للقارئ فى عبارة مباشرة مفعمة بالحيوية وكثير من التفاصيل الواقعية مع إلقاء الضوء على من تتحدث عنهم من الأشخاص دون اهتمام أيا كان بتعمل أو تحسين. وهو يشبه أسلوب الصحافة المباشرة التى تريد أن تضع الجمهور فى قلب الحدث دون أية غاية أخرى، ومن أيسر سبيل وأوجزه وأبسطه. وهذا نموذج من ذلك الأسلوب: "كان القائد أبو محمد سرور الفاتكى رحمه الله يخرج إلى مسجده بعد نصف الليل أو ثلثه، وكان أعلم الناس جميعا بالمنازل وبالأنواء، ويقول: "أنا أخرج فى هذا الوقت لعل أحدا من أهل البيوتات وأرباب الستر لا يقدرون على الوصول إلى عندى بالديار إما لكثرة الناس أو لفرط الحياء". فإذا صلى الصبح ركب إما إلى فقيه يزوره أو مريض يعوده أو صيحة ميت يحضرها أو وليمة أو عقد نكاح. وما يخص بذلك أكابر الجند والعلماء والتجار دون أصاغرهم، بل مَنْ دعاه أجابه. وكان المتظلم من الرعية يجفو عليه ويُفْحِش له فى القول وهو آمِنٌ من حَمِيَّته وعِزِّه وغضبه. وكان يُدْعَى إلى الحاكم، فيحضر ولا يُوَكِّل، ويقعد بين يدى الحاكم تواضعًا لا وضاعةً، ودخولًا لأوامر الشرع تحت الطاعة. ثم يعود بعد ركوبه بالغداة فيسلم على السلطان ثم يخرج إلى المسجد فى زوال الظل فلا يشتغل بشىء سوى المسندات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، ثم يدخل داره ويخرج قبل المغرب إلى المسجد. فإذا صلى المغرب تناظر الفقهاء بين يديه إلى العشاء الآخرة، وربما تطول المناظرة فى بعض الليالى، وركب حمارا وأخذ وصيفا واحدا بين يديه حتى يجتمع بالحُرَّة الملِكة للمشورة. ولم يزل هذا حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قُتِل فى مسجده هذا رحمه الله بزَبِيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من رجب. قتله رجل يقال له: "مجرم" من أصحاب على بن مهدى، ثم قُتِل قاتله فى تلك العشيَّة بعد أن قتل جماعة من الناس. ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، ومَلَكَ زبيدَ وأعمالَها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة...".

إلا أن هناك رسالة إخوانية وصلتنا عن عمارة كتبها لصديقٍ له والٍ على أسوان تجرى على النحو التالى الذى يختلف تماما عن نثره السابق، إذ نلاحظ هنا اهتماما بالسجع والجناس والازدواج والترادف والمزج بين النثر والشعر، وهو ما لم نره فى كتاباته النثرية الأخرى. كما جاءت الجمل قصيرة، فإذا طالت بعض الطول قُسِّمَتْ إلى سجعتين:

"إنْ جرى بيننا وبينك عتْبٌ                       أو تناءتْ منا ومنك الديارُ

فالوداد الذى عَهِدْتَ مقيمٌ                         والدموع التى شهدتَ غِزَارُ

كان عزمي، أطال لله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب، بما لا يُسْتَطَاب، وأقيم أَعِنّة القوارص، وأسدِّد أَسِنَّة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين روِيَّته وارتجاله، وأجهّز تعنيفًا يضيق له البحرُ بمراكبه، والبَرُّ بمواكبه، ثم قلت: السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافعٌ أوّلِيّ، ووفاءٌ سَمَوْءَلِيّ، فلاطفاني حتى لَزِمَا كفي، وخزمَا أنفي، فعدت من شَبّ نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببُعْدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصوَّرَ لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولَعَلِمْتَ أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شُغْل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومَطْرحه:

يا حبذا سفوانُ لى من مُتَرَبَّعٍ                                ولربما جَمَع الهوى سفوانُ

بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:

وأيامًا لنا ولكُمْ نَعِمْنا                     زمانًا فى حواشيها الرِّقاقِ

ليالىَ نحن فى غفلات عيشٍ               كأن الدهر عنا فى وَثَاقِ

هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوُّق، لا سقيم التسوُّق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي ووَدْق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألُّم من عدم وفائك. يا أعصى من العُود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة، وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأَرْيَحِية، ولا شِيمة النفس المضرحيّة، ولا استفزك المنصب الأبيّ ولا الحسب الغريّ، قطعتَ من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنتُ أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبًا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مَرَّ بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرًا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غَشَّى فؤادَك منها ما غَشَّى، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، مَنْ منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة، لأنه طبعٌ جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك: كم هنالك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم؟ أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقرّ الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمَن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر؟".

وقد خلف عمارة وراءه أشعارا كثيرة معظمها قصائد طوال منها ما هو مديح وما هو فخر وما هو رثاء وما هو هجاء وما هو عتاب، ولكن ليس فيها خمر ولا نسيب، اللهم إلا ما جاء فى مقدمات بعض قصائده من غزل. وعبارته قوية محتدمة شديدة الأسر، نادرة الحُوشِىّ، وتخلو من الإسراف البديعى. وقد مدح الخلفاء الفاطميين على عهده ووزراءهم وقوادهم وبعض العلماء والأصدقاء. بل لقد مدح صلاح الدين بعدما زالت دولة الفاطميين، وإن أتى مديحه له مشوبا بعتاب وشىء من التقريع لا أدرى كيف جرؤ على أن يضمنه قصيدته فيه.

وهذه بعض أبيات من أول قصيدة قالها فى مصر فى حضرة الخليفة الفاطمى الفائز بن الظافر ومعه كبار رجال الدولة، وفيها يقسم بالخليفة الفاطمى، ويخلع عليه لقب "إمام العصر"، ويحوطه بهالة قدسية. فهل كان ذلك كله وغيره مجرد مدح كاذب لا رصيد له فى القلب؟ ولو كان مدحا كاذبا فهل المسلم الغيور على عقيدته يقبل أن يصنع هذا؟ قال:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم * حمدا يقوم بما أولتْ من النِّعَمِ

لا أجحد الحق عندي. للرِّكَاب يَدٌ * تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قَرَّبْن بُعْد مزار العز من نظري * حتى رأيتُ إمام العصر من أَمَمِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرم * وفدا إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته * ما سرت من حرم إلا إلى حرم؟

حيث الخلافة مضروب سرادقها * بين النقيضين من عفو ومن نقمِ

وللإمامة أنوار مقدسة * تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوة أبيات ينص لنا * على الخفيين من حكم ومن حكمِ

وللمكارم أعلام تعلمنا * مدح الجزيلين من بأس ومن كرمِ

وللعلا ألسن تثنى محامدها * على الحميدين من فعل ومن شِيَمِ

وراية الشرف البذاخ ترفعها * يد الرفيعين من مجد ومن هممِ

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا * فوز النجاة وأجر البِرّ في القسمِ

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما * وزيره الصالح الفراج للغُمَمِ

اللابس الفخر لم تنسج غلائله * إلا يدا لصنيع السيف والقلمِ

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت * وجوده أعدم الشاكين للعدمِ

قد مَلَّكَتْه العوالي رِقَّ مملكة * تُعِير أنف الثريا عزة الشممِ

أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني * في يقظتي أنها من جملة الحُلُمِ

يوم من العمر لم يخطر على أملي * ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها * عقود مدح، فما أرضى لكم كَلِمي

وقال أيضا فى مدح العاضد الفاطمى:

مقامك من فضل وفصل خطاب         مقام هُدًى من سنّة وكتابِ

مقام له بيت النبوة منصب         ومن مستقر الوحي خير نصابِ

إذا اسْتدَّ عَنّا بابُ رزق ورحمة         حططنا المنى منه بأوسع بابِ

وكل دعاء لم يشيَّع بذكره         فليس بمرفوع ولا بمُجَابِ

ومن شرف الإخلاص أن وليَّه         يؤوب إلى طُوبَى وحُسْن مآبِ

محاسن مجدٍ أعجزتْ كل حاسب         وفائض إحسان بغير حسابِ

نبوة جَدٍّ أحرزتها بنوةٌ         لكم دون أعمام ودون صحابِ

فما لقُصَيٍّ، وهي منها قصيَّةٌ،         تمالئ في ميراثكم وتحابي؟

فقل لرجال زاحموكم غباوة         على حقكم أو زاحموا بتَغَابِ:

سَلُوا آخر "الأنفال": من يستحقها؟         ففي آخر "الأنفال" خير جوابِ

أليس أُلُو الأرحام أولى ببعضهم؟         فلِم تحجب القربى بغير قرابِ؟

ومُذْ طلعت من جانب الغرب شمسكم         أضاء بها في الأرض كل جنابِ

وآبت إليكم دولةٌ علويةٌ         أقرت علاكم عينها بإيابِ

وما هي إلا الرمح عاد سنانه         إليه، وإلا السيف نحو قُرَابِ

وقال يمدح رُزِّيك بن صالح:

لولا جفونٌ ومُقَلْ         مكحولة من الكَحَلْ

ولحظاتٌ لم تزل         أرمى نبالًا من ثعلْ

وبَرَدٌ رِضَابُه         ألذّ من طعم العسلْ

يظما إلى وروده         مَنْ عَلَّ منه ونَهَلْ

لمَا وصلتُ قاطعًا         إذا رأى جِدِّي هزلْ

مخالف لو أنه         أضمر هجري لوَصَلْ

وأَغْيَدٌ منعَّمٌ         يميل كلما اعتدلْ

يهتز غصن قده         لِينًا إذا ارتج الكَفَلْ

غِرٌّ إذا جَمَّشْتَه         أطرق من فرط الخجلْ

أُرَيْعِنٌ مدلَّلٌ         غُزَيِّلٌ يأبى الغَزَلْ

سألته في قبلة         من ثغره، فما فعلْ

راضتْه لي مشمولةٌ         تري النشاط بالكسلْ

حتى أتاني صاغرًا         يحدوه سُكْرٌ وثَمَلْ

أمسى بغير شكره         ذاك المصونُ يُبْتَذَلْ

وبات بين عِقْده         وبين قُرْطه جدلْ

وكدت أمحو لَعَسًا         في شفتيه بالقُبَلْ

فديته من مبسم         ألثمه، فلا أملْ

كأنه أناملٌ         لمجد الِاسْلام الأجلّ

معروفهن أبدًا         يضحك في وجه الأملْ

الناصر بن الصالح الهـادي من المدح أجلّ

لكن يُعَدّ مدحه         للصدق من خير العملْ

من نستعيد باسمه العـالي إذا خطبٌ نزلْ

أبلج من شبابه         نور الشباب المقتبَلْ

يبدو به في غرة الدنيـا سرور وجَذَلْ

ويسرق الملك به         أجلى وتفخر الدولْ

لم يلتفت كماله         لعلة من العللْ

نزَّه سمع مجده         عن ذكر ليتٍ ولعلّ

ما رام قَطُّ شرفًا         ممنَّعًا إلا حصلْ

ولا رأى مكرمة         مهجورة إلا وصلْ

ذو شِيَمٍ بمثلها         في الدهر يُضْرَب المثلْ

طاهرة أعراقه         آخرهنَّ والأُوَلْ

كريمة أخلاقه         إن جَدَّ فيها وهزلْ

رفيعةٌ همتُه         من دونها نجمُ زُحَلْ

ليث ردًى، غيث ندًى         إن طال يومًا أو بذلْ

ما من سطاه وعطا         ه ثَمَدٌ ولا وَشَلْ

يشرق نور صدقه         إن قال قولًا أو فعلْ

تقدست أوصافه         عن ذكر جبن أو بَخَلْ

وأصبحت علياؤه         مديحها لا يُنْتَحَلْ

نداه يملي قلمي         والفضل فضل من أَمَلّ

وقال مفتخرا بشعره:

ونَهْجٍ سعت إليك فيه طرائفٌ         فبرزْتَ إذ خافتْ وخابت سعاتُهُ

بذلتُ به الدرّ المَصُونَ لأَرْوَعٍ         تصدِّق دعوى المادحين هباتُهُ

تجنبتُ مطروق الكلام، وهذه         سلافة ما أنشأتُه وابتدَاْتُهُ

ولم أر مثل الشعر يرجو بُغَاثُه         مطارًا بجوٍّ قد حمته بزاتُهُ

توهم قوم أنه الوزن وحده         وقد غاب عنهم سِرُّه وسراتُهُ

فذلك لون الماء في العين واحد         وما يتساوى مِلْحُه وفُرَاتُهُ

متى رمتُ منه رقة وجزالة         فإن كلامي ماؤه وصفاتُهُ

وغير بهيم الخط شعرٌ أقوله         وأوصافكم أوضاحه وشِيَاتُهُ

ومع هذا نراه يقول فى صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على دولة الفاطميين:

ركبنا إلى نيل الغِنَى كاهل العَنَا         على سعة الأرزاق، والرزق ضيّقُ

عجبت من الأرزاق أمتصّ ثَمْدَها         وتَرْوَى بصافيها رجالٌ وتغرقُ

وما تجهل الأيام أن جمالها         وزِينَتَها في منطقي حين أنطقُ

ولكنْ أظن الرزق يهوَى تحرُّقي         عليه، وطيب العود حين يحرَّقُ

وأحسب أن الجود إما حكاية         مضى أهلها أو صورة ليس تُخْلَقُ

وإلا فما بالي كسدتُ، وفي فمي         معادن دُرٍّ سُوقُها الدهرَ يَنْفقُ؟

لعل بني أيوب إن علموا بما         تظلمتُ منه أن يَرِقُّوا ويُشْفِقوا

وأن ينقذوني من تملُّك عبدهم         وخادمهم، وهو الزمان، ويُعْتِقوا

ملوك حَمَوْا سرب الهدى بعزائمٍ         بها يفتح الله البلاد ويغلقُ

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بغزوةٍ         جهارًا، وطَرْفُ الشرك خزيانُ مُطْرِقُ

وزاروا مصلَّى عسقلانَ بأرعنٍ         يفيض إناء البَرِّ منه ويَفْهَقُ

جلبتَ لهم من سَوْرة الحرب ما التقى         بوادره سورٌ عليهم وخندقُ

وأخربتَ من أعمالهم كل عامر         يمر به طيف الخيال فيَفْرَقُ

أضفتَ إلى أجر الجهاد زيارة الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخليل، فأَبْشرِ:ْ أنت غازٍ موفَّقُ

وهيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة         يطول بها منه إليك التشوقُ

تركت قلوب المشركين خوافقًا         وبات لواءُ النصر فوقك يخفقُ

لئن سكن الإسلامُ جأشًا فإنه         بما قد تركتم خاطر الكفر يقلقُ

سَمَتْ بصلاح الدين سنةُ أحمدٍ         فطائرُها فوق السماك محلِّقُ

لك الخير قد طال انتظاري، وأُطْلِقَتْ         لغيريَ أرزاق، ورزقي معوَّقُ

كأنك لم يسمع بجودك مغربٌ         ولم يتحدث عن عطائك مشرقُ

وإنيَ من تأريخ أيامك التي         بها سابق التاريخ يُمْحَى ويُمْحَقُ

صَدَقْتُك فيما قلتُ أو أنا قائل         بأنك خير الناس، والصدق أوثقُ

وحَسْبِيَ أن أُنهْيِ إليك وأنتهي         وأُحْسِن من ظني، وأنت تحقِّقُ

وقال معاتبا:

يا أحسن الناس وجهًا         وأكرم الناس عهدا

لكن إذا رام جودًا         أعطى قليلًا وأَكْدَى

لئن وصلتُك سهوًا         لقد هجرتُك عَمْدا

وإن هَوِيتُك غَيًّا         لقد سلوتُك رُشْدا

جاوزتَ بي حد ذنبي         وما تجاوزت حَدّا

عركت آذان شعري         لما طغى وتحدَّى

وآل رُزِّيك أَوْلىَ         مَنْ قَلَّد الشهبَ عِقْدا

لأنهم ألحفوني         من الكرامة بُرْدا

وخوَّلوني، ولكن         خلطتُ جاهًا ونقدا

وغرَّني كل وجه         من البشاشة يَنْدَى

وقلت: أصلٌ كريمٌ         وجوهرٌ ليس يَصْدَا

فاردد عليَّ مديحي         فلست أكره رَدَّا

والطم به وجه ظن         قد خاب عندك قصدا

وسوف تأتيك عني         ركائب الذمِّ تُحْدَى

يقطعن بالقول غَوْرًا         من البلاد ونَجْدا

ينشرن في كل سمع         ذمًّا ويطوين حَمْدا

وقال فى الأهرام:

خليليَّ، هل تحت السماء بَنِيَّةٌ         تُماثِلُ في إتقانها هَرَمَيْ مصرِ؟

بناء يخاف الدهر منه. وكل ما         على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ

تنزَّهَ طرفي في بديع بنائها         ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال فى رثاء طفل له صغير:

قل للمَنِيَّة: لا شَوَى         لم يُخْطِ سهمُك إذ رَمَى

أفقدْتِني في ابني الذي         قد كان ذخري للغِنَى

داويتُه حتى إذا         لم يبق في الدنيا دوا

ساهَرْتُه حتى جفتْ         أجفانُه طِيبَ الكَرَى

وطبيبه لم يدر ما         يشكوه من ألم الأذى

خابت مداواتي له         بل خاب نذري والرُّقَى

وأَيِسْتُ منه إذ رأت         عيناي نازلةَ البَلا

حار الطبيب وحرتُ في         ما قد دهاه من الضنى

ما كان أقصر عمره         وبقاءه بين الورى

ما كان إلا سبعة         وثلاثة ثم انقضى

واسْتُلَّ من أترابه         كالنجم من وسط السما

غدر الزمان بنا، وما         أبقى علينا واعتدى

أحُسَيْنُ، عندك علم ما         في القلب من ألم الجَوَى؟

أعلمتَ أن مدامعي         منهلّةٌ تجري دما؟

يا ويلتي لما أتى         بالنعش في وقت الضحى

وأتى الحداةُ مهروليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ليحملوه إلى الثَّرَى

ناديتُ: يا حادي السريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، عساك تمهل بالسُّرَى

ارحم كئيبًا هائمًا         ثكلان منهدَّ القُوَى

قد ذاب. لولا نطقه         ما كان مخلوقًا يُرَى

وارفق بجسم ناحل         منه السقام قد اشتفى

قد كان يأوي في سُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا القلب مني والحشا

وارحمتا بل حسرتا         لرزيَّةٍ لا تُرْتَجَى

هيهات أرجوها، وقد         عَلِقَتْه أشراك الرَّدَى

لو كان يُفْدَى شخصُه         والموت يرضى بالرِّشَى

لفديتُ منه قلامةً         بسواد عينيَ إذ أتى

لكنه ما كلّما         يرجو امرؤ يُعْطَى الرَّجَا

وقال يستغيث بالله ويبتهل له، وهو قليل فى شعره:

يا رب، نَفِّسْ خناقي        وحُلَّ عقد وَثَاقِى

واسْتُرْ عليَّ، فإنى             أخاف هتك خَلَاقِي

وقال يدعو ربه أيضا. وهو آخر ما قال من شعر:

يا كاشف الضر إذ ناداه أيوبُ         وجامع الشمل إذ ناجاه يعقوبُ

وعالم السر والنجوى إذا خفيتْ         ضمائرٌ سِرُّها بالغيب محجوبُ

لعل معروفك المعروف ينقذني         من لوعةٍ جَمْرُها بالثُّكْل مشبوبُ

هَبْ لي أمانك من خوفٍ يبيت به         للهَمِّ في القلب تصعيدٌ وتصويبُ

وقد فزعتُ بآمالي إليك، وفي         رحاب جودك للعافين ترحيبُ