JustPaste.it

استنباطات خاطئة من القرآن

(نماذج من تويتر)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه من والاه، أما بعد:

فإننا نشهد اليوم بحمد الله عنايةً كبيرةً بفهم معاني القرآن وتدبر آياته، حتى إن بعض الناس يوفق إلى فوائد لـم يذكرها من سبق، ولذا جاء الحث على تدبر القرآن، قال تعالى: (كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته)، ولو أنَّ دروس القرآن وعبره قد استوعبها السابقون لـم يأت الندب إليه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كتاب الله لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء". وقال الـمُناوي: "كم من معان دقيقةٍ من أسرار القرآن تخطر على قلب المتدبر تخلو منها كتب التفاسير، ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين"([1]).

ومع ذا كنت أقف أحيانًا على بعض الاستنباطات الخاطئة التي طارت في الآفاق، ويؤسفني أن لا أجد من ينبه على الخطأ.. فكثيرًا ما ترى نقاشًا أو استدراكًا حول قضية فكرية أو سياسية أو تقويم لفظ، أو تصحيح إعراب، وقلَّ أن تراه حول صحة استنباطٍ من آية أو حديث.

إنَّ ردَّ الاستنباط الخاطئ ذبٌّ عن كتاب الله، وإحسانٌ للكاتب والناشر، وتنبيهٌ لآخرين من دونـهم بالتأمل والتريث، فلو عَلِمَ الكاتب أنَّ قوله سَيُعْرَك ويُفرَك لتأمَّل قبل أن يكتب.

هذا، وللاستدلال الصحيح ركنان:

الأول: صحة النص، فلا يصح الاستدلال بحديث ضعيف.

الثاني: صحة الدلالة، أي: أن يدل الدليل على المدلول.

وقد ذكر ابن تيمية أن المدلول لا يخلو من حالين:

أحدهما: أن يكون باطلاً في نفسه، فهنا نقطع ببطلان الدلالة، لأنَّ الباطل لا يكون عليه دليلٌ يقتضي أنه حق، وهذا النوع لا يقع إلا من جاهلٍ أو ضال، ويوجد كثيرًا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم.

والثاني: أن يكون حقًّا في نفسه، لكن اللفظ لا يدل عليه، وهذا النوع هو الذي يقع فيه الاشتباه والغلط وهو ما يسمى (التفسير الإشاري)، وهو لا يخلو من أمرين:

أولهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مرادٌ باللفظ فهذا افتراء على الله.

وثانيهما: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ فهذا من نوع القياس، وهو ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك([2]).

ولصحة هذا النوع -الذي هو حقٌّ في نفسه- شرطان:

1- أن تحتمله لغة العرب، وذلك لأن القرآن عربيٌّ فلا بد أن يكون الاستنباط جاريًا وفق لسان العرب، وإلا فهو من القول في كتاب الله بغير علم([3])، وهذا الشرط يوجب على المستنبِط دراسةَ علوم العربية، وعلمِ أصول الفقه.

2- أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباطٌ وتلازُمٌ، وإلا فلا معنى لجعله مستنبطًا منها([4]).

وقد تتبعت بعض (الوسوم) في (تويتر) التي تعنى بالتدبر، ووقفت على طائفةٍ من الأخطاء سأقتصر على ذكر تسعةٍ منها، ذاكرًا وجه الخطأ، مع بيان الصواب، والإشارة إلى بعض القواعد، ليتبين القارئ أن الاستنباط ليس فوضى ولا (نـهبًا صيح في حَجَراته)، وإنما هو مبنيٌّ على أصول وقواعد.

وسأذكر (التغريدة) كما وردت بخطِّ غليظ، ثم أتبعها بالتعليق:

1- تدبر القرآن وفهم معانيه يعين على تكاليف الأعمال وتحمُّل الشدائد: (ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).

فيه نقصٌ تـمامه: قيام الليل وترتيل القرآن... إلخ. قال تعالى: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، فجملة: (إنا سنلقي عليك...) علة لما سبق، وهو الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، وهنا قاعدتان: الأولى: أن التعليل بعد الجمل المتعاطفة يرجع إليها جميعًا إلا بدليل، وذلك لأنـها إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة. والثانية: أن الحكم إذا علق بأمرين فلا يصح تعليقه بأحدهما كما تقرر في الأصول.

ويمكن أن يقال: إن جملة (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، علةٌ للأمر بقيام الليل وحده، ويدخل فيه الأمر بالترتيل، قال الإيجي: "والجملة كالعلة لقيام الليل، فإن الطاعة سيما في الليل تعين الرجل على نوائبه وتسهل عليه المصائب"([5]). ويكون المعنى والله أعلم: ورتل القرآن في قيامك من الليل، وذلك لأنَّ الكلام قبله وبعده في قيام الليل، ولهذا حكى الطيبـي بأنَّ جملة: (ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، اعتراضية([6]). وكونـها اعتراضية جار على اصطلاح البيانيين لا النحاة.

2- بِرُّ إبراهيم مع والده قال في نـهايته: (إنه كان بي حفيا)، فيدل على لطف الله وحفاوته وعنايته بالبار لوالديه.

ولا دلالة في الآية على ذلك، وبه يختل نظمها، قال تعالى: (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا)، فقوله: (إنه كان بي حفيا)، جملةٌ تعليلية لما قبلها: (سأستغفر لك ربي)، والمعنى كما ذكر ابن جرير وغيره: سأستغفر لك ربي إنه حفي بي فيجيب دعائي، وبه يتضح معنى الآية.

3- (وكنا نخوض مع الخائضين): ليس من العقل والحكمة والمصلحة، أن تخوض في كل قضية ونازلة.

المقصود بالخوض هنا: الخوض في الباطل. وأما حمله على من تكلم في كل قضية فلا يصح، وذلك لأنَّ المتكلم في كل قضية إما أن يتكلم بحق أو باطل؛ فإن كان بحق فقد أحسن ولا وجه لذمه، وإن كان بباطل فينظر فإن كان مجتهدًا وقد استفرغ وسعه فله أجر اجتهاده ولا وجه لذمه، وإن تكلم بلا علم، أو تعمد الباطل، فهو المذموم، وهو الداخل في الآية، ومنه خوض المنافقين: (إنما كنا نخوض ونلعب).

ووجهٌ آخر: أنه حتى لو حمل (الخوض) على معنى الكلام بالحق فليس في الآية ما يدل على النهي عنه في كل مسألة؛ إذ الآية ليست عامة.

وقول الكاتب: (ليس من العقل والحكمة والمصلحة، أن تخوض في كل قضية ونازلة)، صحيحٌ في نفسه من جهة أن الكلام في كل قضيةٍ مظنةُ الزلل، ولكن الآية تدل على عقوبة الخائضين، وهو أمرٌ وراء ذلك.

4- (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى): من أقبل عليك إياك أن تصدَّ عنه.

هذا الاستنباط غير صحيح، وذلك لأنَّ فيه إهمالاً لقيدٍ وهو قوله: (وهو يخشى) وهي جملة حالية، والحال قيد، وقد تقرر في الأصول أنَّ القيد إذا أمكن إعماله فلا يجوز إلغاؤه، فالصواب أن يقال: من أقبل عليك وهو يريد الهداية فإياك أن تصد عنه. وليس المقصود أن كل من أقبل فلا يجوز الإعراض عنه.

5- (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) الشكر يولد الشكر.

ما ذكره الكاتب غير صحيح، وإنما المعنى: من شكر فَنَفْعُ شكره لنفسه، وذلك لأنَّ الله يثيبه عليه.

6- كان الناس يشترون للحاجة، واليوم يشترون للتصوير والمباهاة: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا). احذروا فالنتيجة: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه).

تمام الآية: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا. ودخل جنته وهو ظالمٌ لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا)، فقد كان ظالما لنفسه وأنكر البعث وكفر بالله، فكانت النتيجة أن أحيط بثمره، فالاستدلال المطابق من الآية أن هذه العقوبة تكون لمن فخر على غيره وكان ظالما لنفسه وكفر بالله، أما جعل العقوبة بسبب الفخر وحده فيفتقر إلى دليل، والله أعلم.

7- (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين): أَخْذُ أموال الناس بغير حقٍّ أصلُ الفساد والإفساد في الأرض.

هنا خطأ وتنبيه:

أما الخطأ فهو أنَّ (البخس) أصل الفساد، فليس في الآية دلالة على ذلك، وإنما فيها أنه من الفساد، وفرقٌ بين الأمرين، فالواجب (الدقة) في نسبة معنى إلى كلام الله.

وأما التنبيه فهو أنَّ (البخس) ليس أخذ أموال الناس بغير حق، بل هو النقص من حقوقهم، ولذلك قال قبل ذلك: (أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم).

وأما أخذ الأموال بالباطل فعبِّر عنه في القرآن بــ(أكل المال)، كما في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، وقوله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما...).

نعم، يصح أن يستدل بالآية على النهي عن أخذ الأموال، من باب فحوى الخطاب؛ فإذا نُـهِي عن البخس فالنهي عن الأخذ أولى، وإنما أردت التنبيه إلى أن (البخس) ليس مطابقًا لمعنى (أخذ المال).

8- إياك والقنوط، لعل ذاك الذنب كان سببا للإنابة إلى الله والرجوع: (وإن تصبهم سيئة إذا هم يقنطون).

السيئة هنا المقصود بـها: الشِّدَّة بإجماع المفسرين، وليس المراد الذَّنْب، قال تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون). أي: إذا أصابتهم شدةٌ وعقوبةٌ وبلاءٌ في أنفسهم أو أموالهم أو ديارهم أو غير ذلك قنطوا.

9- كم تُفرحنا كلمة (من عيوني) إذا أتتنا ممن نحبهم فما بالك لو قالها لك ربك؟ قال تعالى: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا).

وهو غلطٌ ظاهرٌ من وجوه:

الأول: أن التركيبين مختلفان، فالآية: (بأعيننا) وليست (من أعيننا).

الثاني: أن قول الناس اليوم: (من عيوني)، يفيد عندهم إجابة الطلب مع المحبة والتفاني في الخدمة، ولا علاقة لهذا المعنى بسياق الآية.

الثالث: أن المعنى الذي يريده الناس اليوم من قولهم: (من عيوني)، حادثٌ لا تعرفه العرب، وقد تقرر في الأصول أنه لا يجوز حمل كلام الله على الاصطلاح الحادث، وإنما الواجب حمله على معهود الأميين في الخطاب، وهم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم. فمعنى قوله: (فإنك بأعيننا): أي: بمرأى منا وفي حفظنا وحراستنا، كقوله: (تجري بأعيننا)، وقوله: (ولتصنع على عيني).

هذه تسعة نماذج أردت منها حثَّ نفسي وإخواني على إعادة النظر والتأمل كثيرًا فيما نكتب، وأن نرجع إلى أهل العلم فيما التبس علينا، فإن القول في كتاب الله عظيمٌ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ". رواه الترمذي وفي إسناده سهيل بن أبي حزم ضعفه البخاري وغيره. قال ابن تيمية: "فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر"([7]).

ويمكن لِمن ارتاب في معنى أن يسأل أهل العلم، فهناك مراكز متخصصةٌ في (التفسير) و(التدبر) يقوم عليها نخبةٌ من أهل العلم والفضل، ويمكن التواصل معهم بيسرٍ في حساباتـهم في (تويتر) لِعَرْضِ ما أشكل.

وختامًا.. كأني بقائلٍ يقول: لقد تحجَّرتَ واسعًا.. والأمرُ يسير، وإنما نحن نجتهد، ولا نعدم من أجر أو أجرين.

فأقول: نعم، من اجتهد فهو بين الأجر والأجرين، ولكن هل أنت مجتهد؟ ثم لو كنتَ كذلك، فإن الاجتهاد بذلُ الوسع، فهل بذلتَ وسعك في المعاني التي تنسبها إلى كتاب الله؟

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وتجاوز عن تقصيرنا.

وكتب

ياسر المطيري

1 جمادى الآخرة 1438هـ

 

([1]) فيض القدير (1/495).

([2]) مقدمة التفسير (ضمن مجموع الفتاوى 13/240) بتصرف.

([3]) التبيان في أيمان القرآن (124)، الموافقات (4/232).

([4]) التبيان (124). وبقي شرطان ذكرهما ابن القيم يدخلان في قولنا: (حق في نفسه).

([5]) فتح البيان (4/396).

([6]) حاشية الطيبي على الكشاف (16/90).

([7]) مجموع الفتاوى (13/371).