JustPaste.it

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾، ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبا﴾، ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾.

أمّا بعد :

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.

وبعد: هذه رسالة وجيزة تحثّ المسلم على أن يشتغل بما يعنيه ويترك ما لا يعنيه طاعة لله ورسوله ليفوز بدنياه وآخرته، لأنه من الغباء أن يُعطيَ أحدنا حسناته لغيره، ويأخذ من سيّئاته، ومع الأسف الشديد هذا الذي نعيشه في دنيانا اليوم إلا من رحم الله، والله المستعان.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

[صحيح الترمذي].

قال أبو داوود -رحمه الله- كتبت عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته وجمعت في كتابي هذا أربعة آلاف حديث وثماني مائة حديث من الصحيح، وما يُشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسانَ لدينه من ذلك أربعة أحاديث:

أحدها: إنما الأعمال بالنيات، والثاني: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والثالث: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه، والرابع: الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك مشتبهات.

قال الشاه عبد العزيز الدلهوي في [بستان المحدّثين ص119]: (... الحديث الأول: يكفي لتصحيح العبادات، والثاني: لمحافظة أوقات العمر العزيز، والثالث: لمراعاة حقوق الجيران والأقارب وأهل التعارف والمعاملة، والرابع: لدفع الشكّ والتردّد الذي يحصل باختلاف العلماء واختلاف الأدلة، فهذه الأحاديث الأربعة عند الرجل العاقل كالشيخ والإسناد، والله أعلم) [عون المعبود ص 7].

وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد   ابن أبي زيد القيرواني إمام المالكية في زمانه أنه قال: جماع آداب الخير وأزمّته تتفرّع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم

: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»، وقوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه »، وقوله للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب» وقوله: «المؤمن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه».

فهذا شيخ المالكية في عصره ابن أبي زيد القيرواني الذي كان يلقّب بمالك الصغير لغزارة علمه يقول هذا القول النفيس الغالي، حيث جعل الحديث المذكور أصلا من أصول الخير، وزماما من أزمّته، وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على عظم الحديث ومكانته في الإسلام.

إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى خُلُق عظيم من أخلاق المسلمين الذي أهمله الكثير من أبناء أمة الاستجابة إلا القلة القليلة التي تحاول أن تكون وقّافة عند حدود الله ولا تتعدّاها.

مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه:

مِن: ما المقصود من حرف الجرّ (من)؟ نحن نعلم أن (من) لها معاني عديدة منها: لبيان الجنس، لبيان البعض، للابتداء، للتأكيد، للبدل، للظرف، للسبـب

والتعليل، وتأتي بمعنى (عن).

ففي هذا الحديث المقصود منها هو البعض، أي: إنّ ترك ما لا يعني هو بعض ما يحصل به إحسان الإسلام.

إذاً فما هو حسن الإسلام؟ فقد اختلف العلماء إلى قولين:

القول الأول: إحسان الإسلام أن يأتي بالواجبات وينتهي عن المحرّمات، وهذه المرتبة تسمّى بمرتبة المقتصدين الذين حافظوا على الفرائض واجتنبوا على المحرّمات، وتركوا كثيرا من المستحبّات، وارتكبوا كثيرا من المكروهات، وهذا الصنف هو المذكور في قوله -جلّ وعلا-: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظـالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم

سابق بالخيرات بإذن الله﴾ [فاطر: 32].

والقول الثاني: أن يرتقي العبد إلى درجة الإحسان في العبادة التي بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك». فالذي حسّن إسلامه هو من وصل مرتبة الإحسان إما على درجتها الأولى وهي المشاهدة، أو على درجتها الثانية وهي المراقبة. وبعض العلماء يسمّي الدرجة الأولى بدرجة الرّغبة والطلب، أي يحبّ العبد أن يصل إلى المولى، ويسمى الدرجة الثانية بدرجة

الخوف والهرب، أي يهرب من عذابه.

بل حُسن الإسلام يختلف من شخص لآخر، فقد قال ابن عبّاس رضي الله عنه وغيره من المفسّرين: إن الحسنة بعشر أمثالها لكلّ أحد، وهو ما قاله الله -تعالى-: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها﴾ [الأنعام] فقال: هذا لكلّ أحد والزيادة تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله كالنفقة في الجهاد وفي الحج... ودليله هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامَه فكلّ حسنة يعملها تُكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكلّ سيّئة تُكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل» [مسلم: 129].

ومن هنا يتّضح أن الظالم لنفسه ليس من أهل إحسان الإسلام [شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ].

وإذا صنّفنا أنفسنا فأين نحن؟! لا إله إلا الله ...

إذاً حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني من المحرّمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يُحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه. فمَن عَبَد اللهَ حتى وصل درجة المراقبة أو المشاهدة فقد حسن إسلامه، وتولّد من هذين المقامين الاستحياء من الله وتركُ كلِّ ما يُستحيى منه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الاستحياء من الله -تعالى- أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما وعى، ولتذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حقّ الحياء» [صحيح الترمذي، المسند].

وبناء على هذا الحديث قال بعض العارفين:

استحْيِ من الله على قدر قُربه منك، وخِف الله على قدر قدرته عليك.

 

وقال بعض العارفين: إذا تكلّمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكتّ فاذكر نظره إليه.

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه حتى وإن كانت نيّته سليمة، ويظهر ذلك في هذين الأثرين:

الأول: عن أنس رضي الله عن قال: تُوُفيّ رجل فقال رجل آخر -ورسول الله يسمع-: أبشر بالجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَلا تدري؟ فلعلّه تكلّم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا يَنْقُصُه» [صحيح الترمذي، صحيح الترغيب 2/97].

فالنبي صلى الله عليه وسلم ردّ على القائل، لأنه اشتغل بما لا يعنيه، اشتغل بأمر غيبيّ مع حسن نيّته -كما يبدو-.

الثاني: عن أنس أيضا قال: استشهد رجل منّا يوم

أُحد، فوُجد على بطنه صخـرة مربوطة من الجـوع،

فمسحت أمُّه التراب عن وجهه وقالت: هنيئا لك يا بنيّ الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يدريكِ؟ لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضرّه» [صحيح الترغيب 2/97].

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فما هو الذي يعني وما هو الذي لا يعني؟

أولا: ما معنى العناية؟ هي شدّة الاهتمام بالشيء، أو الشيء المهمّ الذي يُهتمّ به. فما هو هذا الشيء؟ إنه فقه الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.

ثانيا: ومن أهمّ الأشياء التي يعتني بها المسلم:

1- التوحيد: أن يوحّد الله في ذاته وفي أسمائه وصفاته، وأن يُفرد الله بعبادته، وأن يوحّد الله في ربوبيته.

2- أركان الإسلام: أن يعلم معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأركانَها، وشروطها، ونواقضَها، وأن يعلم معنى شهادة أن محمدا رسول الله، ويعلم شروطها ونواقضها، وأن يعلم ما يتعلّق بالصلاة من شروط صحّتها وأركانها وواجباتها ومستحبّاتها، وأن يعلم مكروهاتها ومبطلاتها، وكذلك أن يتعلّم ما يتعلّق بالزكاة إن كان من أهلها، ويتعلّم ما يتعلّق بالصوم وما يتعلّق بالحجّ إن كان من أهله.

 

3- أركان الإيمان: عليه أن يعلم القدر المجزئ في باب الإيمان بالله، ولا يتمّ ذلك إلا بالإيمان بأربعة أمور: وجود الله وإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأن يتعلّم القدر المجزئ في باب الإيمان بالملائكة، ولا يتمّ له ذلك إلاّ إذا آمن بأنهم مخلوقون مربوبون لا يعصون الله ما أمرهم، وفيهم من يأتي بالوحي إلى الرسل، وعليه أن يتعلّم القدر المجزئ في باب الإيمان بالكتب ، أي يؤمن بالكتب إجمالا وبالقرآن تفصيلا، وعليه أن يتعلّم القدر المجزئ في باب الإيمان بالرسل والأنبياء، أي يؤمن بأن الله أرسل إلى خلقه أنبياء ورسلا إجمالا، وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم تفصيلا، وعليه أن يتعلّم القدر المجزئ في باب الإيمان باليوم الآخر، وهو الإيمان بالبعث والحساب والجنة والنار، وعليه أن يعلم القدر المجزئ في باب الإيمان بالقضاء والقدر، أي أن يعلم أن كلّ ما في الكون هو بقدر الله وقضائه.

4- الاشتغال باللغة العربية: وهذا مما يعني المسلم، أي: يتعلّم ما يستقيم به لسانه، وليس مطالبا أن يكون كسيبويه أو غيره.

5- إكتساب الأخلاق الحميـدة: وهـذا مما يعني المسلم في حسن إسلامه، فإذا أراد أن يحسّن إسلامه فعليه أن يحسّن خُلقه، والخُلق قسمان:

الأول: خلق واجب: وهو نوعان:

أ- خلق وجب التحلّي به: كالصدق والأمانة ...

ب- خلق وجب التخلّي عنه: كالكذب والزنا..

الثاني: خلق مستحبّ: وهو نوعان:

أ- خلق يُستحبّ التحلي به: كالابتسامة في وجه المسلم، والإيثار في أمور الدنيا.

ب- خلق يُستحبّ التّخلّي عنه: ككثرة الضّحك...

6- معرفة الحلال والحرام: مما يعني المسلم أن يتعلّم هذا الأمر في دينه.

7- ما يتعلّق بالحرفة والمهنة: وهذا مما يعني المسلم،

فإن كان تاجرا مثلا فعليه أن يعرف أحكام البيع والشراء وأحكام الزكاة وما يباح بيعه وما يحرم.

8- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو ممـا يعني المسلم في دينه، ولا يتمّ ذلك إلا بمعرفة الضوابط والشروط.

بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما يعنيهم:

وإذا نظرنا في السيرة والسنة وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه ما يعنيهم، ومثال ذلك:

  1. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت»، ثم قال: «ألا أدلّك على أبواب الخير؟» قلت بلى يا رسول الله. قال: «الصوم جُنّة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل» ثم تلا قوله: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع﴾ حتى بلغ ﴿يعملون﴾ ثم قال: «ألا أدلّك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «كفّ عليك هذا » وأشار إلى لسانه. قلت: يا نبيّ الله: وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ قال: «ثكلتك أمك وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم». الثّكْل: فقد الولد، دعا عليه بالموت، والموت يعمّ كلّ أحد، فإذاً عليه كلا دعاء، وهو في الحقيقة لا يقصد به الدعاء، بل من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب، ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك وقاتلك الله. [صحيح الترغيب 3/89].

في هذا الحديث نجد أن معاذا سأل عمّا يعنيه في دينه، وهو النجاة يوم القيامة من النار والفوز بالجنة.

لو اشتغل أحدنا بهذا طول عمره ما التفت إلى أحد ولا تكلّم في أحد ولا ولا ولا ...

انظر أخي العزيز: هذا معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام يسأل عن الأمور التي تعنيه حتى يشتغل بها، وهو الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ معاذ بن جبل كان أمة قانتا لله حنيفا، فقيل: ﴿إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا﴾ [النحل 120]. فقال: ما نسيت، هل تدري ما الأمة وما القانت؟ فقال راوي الأثر وهو فروة بن نوفل: الله أعلم. فقال: الأمّة: الذي يعلّم الناس الخير، والقانت: المطيع لله عز وجل وللرسول.

وكان معاذ بن جبل يعلّم الناس الخير وكان مطيعا لله عز وجل ورسوله [صفة الصفوة: 1/256].

وأنت يا أخي الكريم: هل تعلّمت؟ هل أطعت الله ورسوله؟ هل علّمت الناس؟ ماذا عن الغيبة؟

ماذا عن تتبّع عورات إخوانك؟ ...

يقول ابن مسعود عن معاذ: كنّا نشبّه معاذا بإبراهيم الخليل. كان أمّة قانتا لله حنيفا وما كان

من المشركين. [السير: 2/83].

ونجد أن معاذا طلب ما يعنيه في دينه من رسـول الله، إذاً عليك أن تطلب ذلك ممن يملكه، إنه العالم الربّاني الذي يسير على الكتاب والسنة.

2- عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أوصني.

قال: أوصيك بتقوى الله فإنّها رأس الأمر كلّه، قلت: يا رسول الله زدني. قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنّه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء. قلت: يا سول الله زدني. قال: إيّاك وكثرة الضّحك فإنّه يميت القلب ويَذهب بنور الوجه. قلت: يا رسول الله زدني. قال: عليك بالجهاد فإنّه رهبانيّة أمّتي. قلت: يا رسول الله زدني. قال: أحِبّ المساكين وجالسهم. قلت: يا رسول الله زدني. قال: انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنّه أجدر ألاّ تزدري نعمة الله عندك. قلت: يا رسول الله زدني. قال: قل الحقّ وإن كان مرّا. قلت: زدني. قال: لا تخفْ في الله لومة لائم [صحيح الترغيب والترهيب 3/92].

فأبـو ذرّ يطلب الوصية من الرسـول صلى الله عليه وسلم ، وهل تدري ما معنى الوصية؟ الوصية هي العهد إلى الشخص بالأمر الهام. إذاً فأبو ذرّ كان يبحث عمّا يعنيه، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.

 

3- وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه تذكر عنه أم الدرداء   -رضي الله عنها- عندما سئلت: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء ؟ قالت: التّفكّر والاعتبار. [صفة الصّفوة]

التّفكّر في ملكوت الله والاعتبار في ذلك، من تفكّر في هذا ترك ما لا يعنيه.

بل كان رضي الله عنه يحثّ على الاشتغال بما يعني فيقول:

اغدُ عالما أو متعلّما أو مستمعا، ولا تكُ الرابع فتهلك.

قال راوي الأثر للحسن: ما الرّابع؟ قال: المبتدع [صفة الصفوة: 1/319].

وكان رضي الله عنه يحثّ على الذكر والاجتماع على طاعة الله لأنّ ذلك مما يعني المسلم. قال رضي الله عنه : ما تصدّق مؤمن بصدقة أحبّ إلى الله عز وجل من موعظة يعظ بها قومه فيفترقون وقد نفعهم الله عز وجل [صفة الصفوة].

بل ترْكُك ما لا يعنيك يزيدك نورا يعلو وجهك، فعن زيد بن أسلم قال: دُخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلّل، فقيل: ما لوجهك يتهلّل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أمّا إحداهما فكنت لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليما [صفة الصفوة].

1- وهكذا لمّا تعلّم الصحابة تَرْكَ ما لا يعني مـن الرسول صلى الله عليه وسلم علّموا ذلك للتابعين، فمن هؤلاء سلمان الفارسي رضي الله عنه . جاءه رجل فقال له: أوصني. قال: لا تَكلّم. قال: لا يستطيع من عاش في النـاس ألاّ يتكلّم

قال: فإن تكلّمت فتكلّم بحق أو اسكت. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنّه لَيغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك. قال: زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأدّ الأمانة [صفة الصفوة: 1/281].

2- وبلغ مالكا أن لقمان الحكيم قيل له: ما بلغ ما نرى -يريدون الفضل- فقال: صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني. [شرح الأربعين لابن دقيق العيد].

3- ويُروى عن الحسن أنه قال: من علامة إعراض الله -تعالى- عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه. [شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد].

 

4 - وهذا ريـاح القيسيّ قال عنه الذّهبي: زاهد متألّه كبير القدر، قليل الحديث كثير الخشية والمراقبة.

قال رياح عن نفسه: لي نيّف وأربعون ذنبا قد استغفرت لكلّ ذنب مائة ألف مرّة. هكذا يشتغل العبد بما يعنيه، إنها الذنوب والعيوب التي لا يعلمها إلا الله -جلّ وعلا-.

ذات يوم زار رياح القيسيّ ضيغم بن مالك بعد العصر، فقيل له: هو نائم. فقال: أنوم في هذه الساعة؟ أهذا وقت النوم؟ ثم ولى منصرفا، فتبعه أحدهم ليقول له: ألا نوقظه لك؟ فلمّا أدركه سمعه يتكلّم مع نفسه وقد دخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: قلتِ نوم هذه الساعة؟ أفكان هذا عليكِ؟ ينام الرجل متى شاء، وقلتِ: هذا وقت نوم؟ وما يدريكِ أن هذا ليس بوقت نوم؟ تسألين عمّا لا يعنيكِ، وتتكلّمين بمـا لا يعنيكِ،

أمَا إنّ لله عليّ عهدا لا أنقضه أبدا ألاّ أوسدكِ الأرض لنوم حولا إلاّ لمرضٍ حائل أو عقل زائل. سوءة لكِ. أما تستحين؟ كم توبَّخين! وعن غيّكِ لا تنتهين! وجعل يبكي. [السير: 6/90، خير القرون: 2/304].

5- وهذا عمرو بن قيس الملائي، قال عنه الذهبيّ: الحافظ من أولياء الله.

أقام عشرين سنة صائما ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدوا إلى الحانوت فيتصدّق بغدائه ويصوم وأهله

لا يدرون. وكان يقول: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل بـه ولو مرّة تكن من أهله.

وقال عنه سفيان الثوري: عمرو بن قيس هو الذي أدّبني، علّمني قراءة القرآن، وعلّمني الفرائض، وكنت أطلبه في سوقه، فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته،

إمَّا يصلّي وإمَّا يقرأ في المصحف كأنّه يبادر أمورا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعدا يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدا ينوح على نفسه.

[صفة الصفوة: 3/65].

هكذا يكون العبد مع نفسه، في شغل دائم، لا يكلّ ولا يملّ، حتى يلقى الله.

أما في هذا الزمان فقد انبرى كثير من الشباب للاشتغال بما لا يعنيهم وترك ما يعنيهم، ومن فعل ذلك فقد أساء كما قال الإمام السعدي -رحمه الله-: (أن من لم يترك ما لا يعنيه فإنه مسيء في إسلامه، وذلك شامل للأقوال والأفعال المنهيّ عنها نهي تحريم أو نهي كراهة). [شرح الأربعين النووية].

فممّا لا يعنيك أخي المسلم: التبديع والتفسيق الذي أخذ القسط الوفير من حياة الشباب، فتركوا ما يُنجيهم في دينهم ودنياهم واشتغلوا بهذا الدّاء العضال، حيث قال العلاّمة صالح الفوزان في [المنتقي من فتاويه]: (لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم مِن العامّة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق لأن ذلك أمر خطير، وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضا هذا يُحدث العداوة والبغضاء بينهم. فالواجب عليهم الاشتغال بطلب العلم وكفّ ألسنتهم عمّا لا فائدة فيه، بل فيه مضرّة عليهم وعلى غيرهم).

بل من اشتغل بما لا يعنيه تشبّه بالمنافقين، قال عبد الله بن محمد بن مُنازل: المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثرات إخوانه [أدب الصحبة للسّلمي].

ومن اشتغل بما لا يعنيه فقد مُكر به، يقول بكر ابن عبد الله المزنيّ: إذا رأيتم الرّجل مُولَعًا بعيوب الناس ناسيا لعيوبه فاعلموا أنّه قد مُكر به. [ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا].

ومما لا يعني المسلم في حياته اليومية امتحان الأشخاص، إما هاتفيا بقوله: ما قولك في فلان؟، وهذا كلّه مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

 

وقد أجاب الشيخ عبد المحسن العباد البدر -حفظه الله- في شرحه للحديث الثاني عشر من الأربعين النووية عن سؤال طرح عليه: ما حكم توبة المبتدع؟: فأجاب -حفظه الله-: (من ابتدع بدعة وتاب منها، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها ومن تاب تاب الله عليه. ثم إن الإنسان إذا أضاف إلى آخر بدعة سواء كان بدعة مُسَلَّماً بها أو غير مُسَلَّمٍ بها، فإذا ردّ عليه وبَيَّنَ فقد أدى ما عليه، ولا يجوز أن يُشْغَلَ الوقتُ كلُّه بمتابعته، وبامتحان الناس به، وأن من لم يبدعه يعتبر مبتدعاً، ثم يتهاجر الناس ويُفتن الناس في ما بينهم، وتعم الفتن في كلّ مكان بسبب هذا الامتحان في موقف الإنسان من فلان الفلاني الذي اعترض عليه فلان الفلاني بكذا وكذا، فمثل هذا لا يسوغ ولا يجوز، وليست هذه طريقة السلف، والله عز وجل يقول:

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:21-22]، والإنسان ليس عليه إلا البلاغ،

ولا ينبغي أن يشغل وقته في متابعة من يرد عليه، ثم يذهب الوقت كله في ردود واعتراضات وسباب،

ثم ينقسم الناس إلى مجموعتين، مجموعة تؤيد هذا، والمجموعة الأخرى تؤيد هذا، ومن لا يبدع هذا يُهجر، فتنتقل هذه العدوى إلى مختلف الأماكن وإلى مختلف البلاد. ومثل هذا العمل كله من الجهل، ومن المعلوم أن أهل السنة ليس هذا عملهم.

وقال أيضا -حفظه الله-: (ومن البدع المنكَرَة: ما حدث هذا الزمان من امتحان بعضٍ من أهل السنة بعضا بأشخاص سواء كان الباعث على الامتحان الجفاء في شخص يُمْتَحَن به أو كان الباعث عليه الإطراء لشخص آخر.

وإذا كانت نتيجة الامتحان المُوَافَقَةَ لِمَا أراده الممتَحِن: ظفر بالترحيب والمدح والثناء، وإلاّ كان حظه التجريحَ والتبديعَ والهجرَ والتحذيرَ).

  • ومما لا يعني المسلم، بل يسوءه ويضرّه، تعمّدُ البحث عن زلاّت الغير: فقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- كما جاء في [شرح حلية طالب العلم]: (يوجد الآن مع الأسف عند بعض طلبة العلم أنهم يتعمدّون البحث في أشرطة وكُتَيِّبات عن زلاّت بعض العلماء الذين نحسبهم على الطريق الصحيح، هل -يا شيخ- هذا الأمر جائز؟

فأجاب -رحمه الله-: (هذا لا يجوز تتبع عورات المسلمين ولا سيّما العلماء محرّمة، فقد جاء في الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته»).

وقال -رحمه الله- في [الشرح الممتع في كتاب الجنائز]: (وإذا وردت كلمة من إنسان تحتمل الخير والشر فاحملها على الخير ما وجدت لها محملا، وإذا حصل فعل من إنسان يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير ما وجدت له محملا لأن ذلك يزيل ما في قلبك من الحقد والعداوة والبغضاء ويريحك. فإذا كان الله عز وجل لم يكلّفك أن تبحث وتُنَقّب فاحمد الله على العافية، وأحسن الظن بإخوانك المسلمين وتعوّذ من الشيطان الرجيم ... إلى أن قال: وهذا هو اللائق بالمسلم، أما مَن فُتن -والعياذ بالله- وصار يتتبع عورات الناس ويبحث عنها، وإذا رأى شيئا يحتمل الشر ولو من وجه بعيد طار به فَرَحاً ونشره، بأنْ «مَن تتبع عورة أخيه تتبع الله عـورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته»).

ولنتذكّر دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [البخاري: 10]، أي أفضل المسلمين مَن جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، وهذا الحديث علامة على حسن إسلام المسلم، كما دلّت علامات على المنافق، وقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم اللّسان بالذِّكْر لأنه المعبِّر عمّا في النفس، وكذلك اليد لأن أكثر الأفعال بها، وقَدَّم ذكر اللسان على اليد لخطورة ما يخرج منه، لأن اللسان يمكنه الطّعن في الماضين والحاضرين والمستقبلين.

هذا وختاما، تذكّر أخي الكريم أنّك موقوف بين يدي الله يوم القيامة، وسائلك عن هذا، فأعدّ الجواب.

وصلّى الله على نبيّنا محمّد وسلّم.