JustPaste.it

الأحكام والقواعد الشرعية بين طرفين

 

 للشيخ أبي قتادة حفظه الله

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين 

أما بعد

 

فإن من فتن البيان التي أقامها الله للخلق إمكانية التحريف لمعانيه، وهذا كتاب ربنا وهو الحق من كل وجه نظر إليه الناظر ، إلا أن الله ربنا تعالى لم يعصمه من قدر التحريف والتأويل الباطل، كما ذكر هذا سبحانه في قوله تعالى في سورة آل عمران" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ " وكما قال أهل اللغة أن عموم ألفاظها من نوع الظاهر ، أي من النوع الذي يمكن أن يدخل عليه التأويل ، وهذه فتنة ربانية في أمر كوني ، وهو أعظم ما أعطيه الإنسان كما قال تعالى "علمه البيان" وبه قال أهل العقل في ذكر حد الإنسان وتمييزه عن غيره أنه ناطق، وكما أقام الله في خلقه حب الشهوة للفتنة فإنه أقام فتنة الشبهة فيه وهذا من هذه الفتن، أي فتن الشبهة، وقواعد الحق كما أصوله يمكن أن يحتج بها مبطل ومفتري، لكن هذا لا يخرجها عن كونها الحق في نفسها، ولما سئل الحبيب المصطفى: هل يأتي الحق بالباطل قال لا ، الحق لا يأتي إلا بالحق، ولكن هذا الأمر القدري من سرقة الباطل للحق والاحتجاج به إنما يقع بأسباب متعددة ، أهمها هو ترك قواعد الحق في إعماله، كتفسير لغة العرب بغير أصولها ، فالحق يعمل عمله من خلال قواعده لا من خلال الباطل، وحين يفزع الباطل للاحتاج بالحق لباطله لا يعني أن نترك هذا الحق لعمل الباطل له، وهذا هو الباب الذي يعنى به في هذا المقال.

فمن المعلوم أن الاعتناء بالمصالح الشرعية والقدرية واجب على الفقيه والمفتي، ومن شر ما يقع هو ترك النظر الى المآلات كما يقول علماؤنا، بل إن صواب الاختيار من عدمه يكون بالنظر الى مآلاته، فإن أوقع خيرا حكم الشرع بخيره كان له حكم مبتدئه، وإلا فالعكس كذلك صحيح، فالقول بالمصلحة الشرعية المعتبرة واجب لا مثنوية فيه، لكن لما انقلبت في أعين البعض المصالح الملغاة في الشرع الغاءاً كليا أو جزئيا إلى مصالح معتبرة تقدم على ما هو أعلى منها في الشرع صارت كلمة المصلحة مثيرة للرد كلما سمعت ، وكأنها تناقض الشريعة والنصوص، لأن هذا هو ما يعمله البعض فيها، إذ كلما أراد فقهاء التسيب والتحلل ومدعي التيسير أن يردوا نصاً صحيحاً زعموا أن المصلحة توجب هذا الرد، فصار في الأذهان أن المصلحة في جانب والنصوص في جانب آخر، وبالتالي صار المتعبدون بين متسيب يعمل بالمصلحة دون النظر إلى ما هو ملغي أو مؤخر وبين عامل للنصوص دون اعتبار المصالح البتة، وهي قسمة ثنائية باطلة في حكم الشرع والفقه وكلام السابقين

ولكن هذا الاعتبار والواقع لا يجيز لفقيه يلائم بين ما هو كلي وما هو جزئي ،أو لفقيه يوازن بين العمل بالنص وبين اعتبار المآل أن يلغي المصلحة لاحتجاج المبطل بها. 

هذه صورة منتشرة نراها ، وهناك صورة اخرى غيرها هي أدق منها كذلك، وهو تعليل الحديث بالواقع والقدر، فالناظر لطرق كبار أئمة الحديث رحمهم الله تعالى يرى أنهم أجرأ الناس على تعليل الحديث ورده إن خالف فطرة قدرية أو كونا مقطوعا به، حتى لو بدا للناظر الى ظاهر الحديث أنه صحيح لا علة ظاهرة فيه، واستقصاء هذا يطول، ولكنهم كذلك يعلمون أنه ما من حديث يرد لباطل في معناه إلا وفيه علة في سنده، يعملون تنقيبا وتفتيشا لها حتى يعلم من أين دخل الخطأ على الراوي وكيف جاء الوهم، فإبطال الحديث بمخالفته بداهة العقل وفطرة الخلق وجريان السنن ليس طريق أهل البدع كما يظن البعض بل هو طريق كبار أئمة الحديث رحمهم الله تعالى ، لكن لما صار رد الأحاديث الصحيحة لجهالات العقل لا لبداهته، وللأهواء لا لفطر الخلق في الوجود، ولعوارض الظن لا لجريان السنن ، ولقياسات الغيب على الشهادة توهم البعض أن من دين الله تعالى اتهام كل رد للحديث بالقواعد المتقدمة من الحق أنه من طرائق أهل البدع، فصار مجرد صحة ظاهر الحديث كاف لقبوله والعمل به دون النظر الى علله الباطنية فيه. 

ومن ذلك أحكام الحق في الحكم على الأعيان والتصورات، فإن الحكم بالكفر والردة على مستحقه دين ، بل إن تكفير الملحدين ضرورية من ضروريات الدين ، ومن لا يعتبر وجود هذا الحكم في الوجود فليس بمسلم أبداً، فإن الله تعالى هو القائل" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ " فالتكفير لفظ من ديننا ، بل هو من أهم ما يجب أن يتعلمه المرء حتى يحذر منه ومن أهله، وهو من أركان ديننا، لأن معقد الولاء والبراء فيه، فالذين ينفرون من هذا اللفظ إنما ينفرون من ركن الدين الأول في قول كل مسلم : أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه مركبة من كفر وإيمان ، فأما الكفر فهو بقول العبد لا إله، وهو كفر بكل طاغوت يعبد من دون الله تعالى ، وفي سورة الأنبياء جاء البراءة من الكافر كما البراءة من معبوده كما في قوله تعالى على لسان إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام:" أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ " وكما في سورة الممتحنة على لسانه عليه السلام كذلك ولسان اتباعه المسلمين:" إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا  وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "

ولفظ الكفر أشهر من أن يعرف به، وهو في آية من آيات كتاب ربنا ذكر ثلاث مرات ما لو فعله المرء يوما لاتهم بأشنع القول كما في سورة البقرة في قوله تعالى :" وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ

ومن صور الكفر هو الردة عن دين الله تعالى ، وهذا لفظ قراني عظيم يجب الاعتناء به، وهو مذكور في قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ " وقد فسر الله تعالى علة كفرهم بقوله جل في علاه" ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ وهذا موطن من الردة يجب الاعتناء به، ومعناه هو متابعة الكافر في بعض كفره لا كله مخرج من دين الله تعالى، ومن تأمل ما يطلبه الكافرون من المسلمين في القرآن علم أن الطلب لبعض لا لكل ، كما في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة المائدة" وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ " وفي سورة الإسراء في قوله تعالى " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ومذكور في سياق البراءة من الكافرين ؛ أعني لفظ الردة كما في سورة المائدة في قوله تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وذكر لفظ الردة وحكمه في مثل هذه المواطن يدل على خطر التعامل معها بتلعب او تهوين كما يريد البعض، فهذان الموطنان من الردة أي في موطن الولاء والثاني في موطن الاتباع والدخول في الطاعة تحذير للعاملين في دين الله ابتداءاً ولعموم المسلمين كذلك، ومن ألغى النظر في سقوط الناس في الردة فيهما جاهل بحال الناس وبواقعهم،ومغرر بهم وقد يقع فيها وهو لا يدري كما هو معلوم في باب دخول الرجل في الكفر وهو لا يشعر أخذا من قوله تعالى على لسان أسلافهم "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ "

فمن رأى جهالة الناس في باب الردة والكفر وأن المبطل الغالي فيهما يستخدمهما بالشر وعدم التوفيق فذهب ينفر من حقيقتهما الى درجة الإلغاء الواقعي، وإن زعم أنه لا يلغيهما فهو على شفى هلكة إن لم يكن حقا قد تجاوزها ووقع فيها، وهذا أمر مشاهد هذه الأيام، فإن الغلو ولا شك في التكفير قد سرى في البعض بجهالة وفساد نظر وقلة علم والبعض إنما يريد أن يمنع منهما البتة حتى على من يقع فيهما بجلاء ووضوح، فمن أنكر أن العلمانية كفر ، أو من أنكر على من كفّر من أجاز التحاكم لغير شريعة الرحمن فهو كافر بالله وبشرعه وبرسوله، هذا مع وجوب بيان هذا الكفر له إن كان جاهلا،  فهذا دين الله تعالى سواء قاله خارجي أو مرجيء فإن الحق أحق أن يتبع بلا توقف ولا زمزمة.

أما أن ندخل في ديننا الزنادقة وأولياء الشيطان، وأن تستقذر نفوسنا لفظ التكفير والحكم بالردة فهذا ضلال يعادل ضلال من كفر المسلم وحكم بردته، كلاهما في الشر سواء، هذا مع أن باب إسلام الكافر اليوم أوسع من تكفير المسلم لكن صوت الغلاة في التكفير هو الأقوى، ولشهرة ما يفعلون من اراقة الدم الحرام، وإلا فإن طائفة الشر التي تقابلهم أوسع وأكثر، والحق بينهما.

الحق هو سبيل أهل العلم في الرد على الباطل، فلو رد على الباطل بمثله لما رجع الناس إلى الحق بل لوقعوا في باطل يقابله، والله دينه الحق، ولا يرد الباطل إلا بالحق كما قال تعالى" بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" وقوله تعالى مانّا على المؤمنين" يخرجهم من الظلمات الى النور" لا من الظلمات إلى الظلمات.

والله الهادي سواء السبيل.


والحمد لله رب العالمين