((حسن العهد من الإيمان))
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه معين
أما بعد
كان من عادة والدي ولا زالت بفضل الله تعالى أن يقوم مبكراً في الليل، فيصلي ويراجع حفظه ما ساء، ويكون أول من يفتح المسجد ، فإن صلى الناس الصبح خرج مسرعاً إلى مطعمه ليعد لهم مواد البيع فيه، وهذا قبل أن يستقيل منه ويتركه لأخواني، فإذا صليت الصبح معه جلست وأخواني في المسجد بعده للضحى ثم أذهب إليه في مطعمه، ويكون عادة وحده أو معه بعض الزبائن لأن الوقت يكون مبكراً قليلاً.
جئت يوماً إليه وقد جلس أحدهم على طاولة المطعم وأبي يعمل ويكلمه، فما أن دخلت حتى قال : تعال وله( وهي كلمة تختصر كلمة ولد، يقولها الناس لأبنائهم ولغير ذلك على وجه التحقير من غير الوالد ) ، فأقبلت إليه مسلماً، فأخذ بيدي وأجلسني إلى الرجل قائلا:
يا ولد، أنا آمرك وأطلب منك أن لا ترى هذا الرجل في حياتك أو أحداً من ذريته إلا أكرمته وأحسنت إليه وتأدبت معه.
فقلت : تحت أمرك، ثم بدأ الوالد يقص قصة والد هذا الرجل معه.
كان والدي يأتي من بيت ساحور بجانب بيت لحم إلى عمان ليعمل من أجل إطعام أهله، ويمشي من بيت ساحور إلى مكان مطار ماركا مرات، وقد حدثت معه حادثة في أول يوم جاء للعمل، وعمله هو (دقاقة الحجر)أي جعل الحجارة جاهزة للبناء بطرق قديمة وذلك بالمطرقة والأزميل،وذلك قبل دخول المناشير التي تعينهم فتيسر عليهم كثيراً من عمل اليد، وكانت عملية بطيئة ، إذ ربما لا يستطيع المتقن أن يصنع أكثر من ثلاثة أحجار في اليوم، والوالد هو أول يوم له في هذا العمل الذي تركه بعد ذلك لا كأخيه الوحيد الذي بقي فيه ليوم وفاته.
بدأ الوالد عمله وهو يظن أنه سينتهي من حجر واحد في أول يوم ليرحل إلى زوجه وبيته بخمسة قروش هي مقدار أجرته المطلوبة والمؤمل حصولها،وقد كان، وفي خاتمة النهار وهو فرح بقرب انتهاء الحجر كانت الفاجعة عنده التي تلائم سقوط فلسطين!
ما أن ضرب الضربة الأخيرة في الحجر حتى انفلق الحجر إلى قسمين، فذهب كل جهده، ولا أدري أقال لي: طفرت الدمعة من عينه أم لا.
كان معه في العمل( الورشة) والد هذا الرجل، فلما رأى هذه الفاجعة، نادى والدي وأخذ بيده، وأعطاه حجراً من حجريه الإثنين الذين صنعهما، وقال له: خذه وارجع لأهلك بما يطعمهم. وكان ثمن هذا الحجر خمسة قروش فقط، لكنها الدنيا يومذاك.
كان هذا الفعل هو ما جعل والدي يفعل ما فعل ويأمرني بما أمرني به.
هذا الرجل لو رأيته لا أعرفه، ولن أعرفه، وبالتالي لن أعرف ذريته ،لكنها الكلمات التي ما زلت أذكرها، وجعلتني أفهم معنى( حسن العهد من الإيمان).
أذكر هذا الفعل من رجل أشبه بالعامي، حفظ القرآن على كبر، ولم أعهد عليه كذبة كذبها في حياتي كلها، وقد سلخ أربعة عشر عاما وهو يحفظ كتاب الله، وهو الآن أشبه في حالة خلوة في مسجد قديم ينام فيه ويعيش فيه، ويرفض أن يخرج إلا لحاجات قليلة ولأوقات قليلة، يعبد الله ويدع الناس من شره.
قارنوا بينه وبين من يزعم الدعوة إلى الله وإحياء الأمة وقد رمى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم( حسن العهد من الإيمان) وراء ظهره، من أجل أن يرضي الجهلة، أو من أجل خلاف يسير،وهو يعلم من نفسه الجهل والهوى، وهما سبب كل شر.
اللهم اغفر لأبي، فما نسيت قصته طوال عمري، وأسأل الله وقد عجزت عن أن أحسن لابن هذا الرجل أو لذريته لأني لا أعرفهم ولا يعرف أبي عنهم اليوم شيئاً أن يجعلني باراً بمن أحسن إلي حسنة واحدة، وأن أشكر كل من علم المسلمين حرفاً من الحق، وقدم لدين الله تعالى لو دقيقة واحدة من وقته مخلصاً بها لوجه الله ونصرة الدين.
امين
والحمد لله رب العالمين