JustPaste.it

إدارة التوحش بين الرؤية الإستشرافية وصدمة الواقع

للشيخ أبي قتادة حفظه الله


(أول من تكلم عن إدارة التوحش في كتابه الجهاد والاجتهاد أو بين منهجين)

 

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من واجب القول قبل الإبتداء أني وقد انتهيت من قراءة كتاب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي أن أقول إن كثيراً مما يقوله الناس عن هذا الكتاب إنما هو ضرب وتخمين، بل هو مجرد استطلاع لعنوان الكتاب فقط، وتحليل ذاتي لرؤية ذاتية، أي إن هؤلاء يمارسون اسقاطاً ذاتياً على هذا الكتاب، والكتاب بريء منه، وهذا يؤكد لطالب العلم أن لا يقرأ شيئا بعيون الآخرين مهما ادعو الفهم والعلمية والموضوعية كما يسمونها، فهؤلاء يظنون أن الكتاب صناعة للتوحش، وليس إدارة له، إذ خلاصة الكتاب أن التوحش قدر لازم للبناء حين يكون البناء الجديد رافض لأصول القديم، وليس لأدائه فقط، وهذا هو مطلب المسلم، أو بعض المسلمين الذين يرفضون مفهوم الإصلاح على أساس تقويم الموجود، كون هذا الموجود وإن التقى مع الإسلام في بعض مظاهره، إلا أنه مناقض في أصله لأصول الإسلام، وهذه قضية حملها كثير من الدعاة، أصل لها قرآنيا الأستاذ سيد قطب، ثم استمدت فقهها تنزيلاً على الوقائع من فقهاء السلف كابن تيمية رحمه الله تعالى،فالذاهبون لهذا المعنى رأوا أن هناك مرحلة قادمة، قدراً لازما لمثل هذا التصور، هذه المرحلة هي التوحش، وتعني غياب الإطار الجامع للأمم، لأن الإطار الجامع لها هو السلطان، ومن خلاله تكون الأمة واحدة في أعلى تجلياتها الوجودية، ولما كان الإسلام ينهى عن التعرب وجعله من الكبائر، ولما حمد يوسف عليه السلام ربه أن أخرج أهله من البدو، عُلم أن البداوة والتعرب حالة شاذة، هي حالة التوحش، لأنها فرط للعقد الجامع لأمة من الأمم، فالتوحش لا يمكن أن يكون مطلباً نهائياً لمسلم، لكن ضرورة قدرية في ظروف معينة، منها ما تقدم من عدم التقاء الإسلام مع الجاهلية في وسط الطريق، ومنها قدرة هذه الجاهلية واتساع سلطانها ، وهو الذي يمنع تسليما سلساً لوارث هو سلطان الإسلام، وذاهب منهزم هو الجاهلية، فطبيعة العلاقة بينهما وهي الصراع تنتج لزوما فترة تتساقط فيها أطراف الجاهلية ممتدة نحو العمق، وتذهب تدريجياً ليد المسلمين، وخلال هذا التحول لا بد أن تنشأ فترة رخوة من السلطان هي ما اتفق على تسميتها بفترة التوحش، وحيث هي قادمة لا محالة فلا بد من الوارث أن يتجهز لإدارتها،وذلك عن طريق فقه يسمى ( إدارة التوحش).
إذاً، صاحب الكتاب لا يشرع الذهاب للتوحش كما يظن الناظرون للعنوان فقط، لكنه يدعو للتربية والتعليم من أجل استغلالها والتعامل معها بسننية وفقه شرعي وقدري.
إذا علمت هذا بان لك الأخطاء التي مارسها مدعو الفكر والنظر في شتمهم أو ذمهم لهذا المفهوم وهذا المعنى.
اذاً هو: إدارة التوحش لا صناعته.
والذين لا يعجبهم الكتاب عليهم الرد على طروحاته كما هي ، لا على تصوراتهم نحوه، وهي تصورات مناميّة فقط، لا تمت للواقع بصلة.
والكتاب استشرافي كما هو بين من معانيه ومواضيعه، ولذلك لا يحمل أي خطورة لفرض تصور على واقع، لأن صاحبه كما هو بين مرة أخرى لا يدعي تعالياً على الواقع، بل هو يقول لك: إن حضرت هذه الفترة، ووقع هذا التصور فعليك بهذه القوانين والتشريعات والممارسات، ومن تأملها لم يجد فيها أي خروق كبيرة تخرج صاحبها عن النظر الصحيح، بل هو لا يطرح أي سلوك ضمن إطار التكتيك، بل يضع قضايا كلية عامة لازمة لتلك المرحلة، وابتعاد الكاتب كما هو بين مرة أخرى وكبيرة عن فرض الرؤية الذاتية على واقع ما يخرجه من أي ملامة، بل هو يقع على وفق ما قاله الشاعر:
إن صح قولكما فلست بخاسر ***** وإن صح قولي فالخسار عليكما
هذا أولاً.
أما ما هو مهم، فهل هذه الرؤية الإستشرافية التنبؤية جاءت معالمها، أم أن الواقع يسير ضدها، وشواهده تهدمها من أصولها؟
قضية الإنتقال السلس للسلطة ، والتحول الحضاري من بناء أمة على وفق الجاهلية ، والتي تعددت أشكالها، ثم انتهت إلى اختزال أمة في عائلة ، أنهت الدولة القطرية لا القومية فقط إلى بنائها على وفق الكتاب والسنة، قد انتهت وبادت ولم تعد تقنع أحداً، وبالتالي كل الذين يتصورون التحول على أساس الإصلاح قد تواروا بعيدا عن ساحة الجدال والمدافعة، فالدولة الجاهلية دولة صلبة شرسة، لا تقبل المشاركة أبداً، ولا تقبل مفهوم التداول السلمي، وأظن أن هذه لم تعد بأقل قوة من إشراق الشمس في الصباح، ولو تكلم بها لأخذ كلامه على معنى الأداء المسرحي الفكاهي، والذي يجابه بالضحك والتندر.
الدولة العميقة كما سماها بعضهم، وهي دولة صلبة قوية وشرسة ستحاول إعادة الجميع على السكة السابقة من لعبة الآمال الكاذبة، بأن هناك إصلاح وتداول وبناء متدرج، لكن هذا يكون بعد تمام السيطرة ، وتحول المخالف إلى جثة هامدة تحسن فقط تقليب اللسان داخل فنجان.
وهذا ما يؤكده نتائج الربيع العربي تماماً، والحق أن هذا هو أكبر دليل قدري مادي على اختيارات وتأصيلات سيد قطب ومن قبَله ومن بعده، والمسألة حين حضور القدر يجب الإتفاق عليها، ولو حصل الخلاف بعد ذلك فيحق لأحدهما أن يقول للآخر: هذا جنون.
مسألة الإختيارات لم تعد مؤسسة على فقه، ولا اجتهاد، لكن من يختار طريق الإصلاح من داخل النظم الجاهلية إنما أخذ هذا لأنه أقر بالواقع، ورآه حسناً، وهو يستحيي الإستقالة، ويخاف مغبتها، فرضي منصب المزين والمجمل لعرس أعدائه.
إذاً، أساس استشراف مرحلة التوحش قد فرض لاختيارات خارجية عن مراد الفاعل الإسلامي، بل الآخر هو من فرض إيقاعه على نوع معين، فكان موقع العالم أجمع رغم أنفه إن لم يرد أن يسير في هذا الإتجاه، وحيث حمل المرء للحلبة فمن العار أن لا يقاتل.
هذه طبيعة الوجود وسننيته، والذين عندهم تصور آخر لهم الحق أن يقولوه، ولكن من الخير أن لا ينظر المرء اليوم استشرافاً للمستقبل لأننا بحق نعيشه بكل تجلياته، فالواقع يفرض إيقاع التوحش على المستوى المحصور للمنطقة وكذلك على العالم أجمع، وليس من الخير ولا احترام العقل المسلم أن لا يقبل قولي لأني صاحب لحية، ويصغي باهتمام إن أحضرت له : قال جون وابن عمه أنطوان، ثم إن نظرة سريعة ترى هذا التقلب العالمي الدال على عدم الاستقرار ، وهو مؤذن بزلزال وانهيار.
لا أحد يتمنى التوحش كما تقدم، لأنه نقيض اسم الإنسان القائم على الأنس، ولكن سنن الحياة لا تصاغ من خلال الكلمات الجميلة بل من خلال حقائق الحياة، إذ يلد الإنسان صارخاً، ويعيش في كبد، وستقوم الساعة على شرار الخلق والروم أكثر الناس.
بقيت قضية أرى بعضهم يمارسها بطفولية، وهو العيب على الذين يعيشون على الهوامش اضطراراً، ويذهبون إلى الأطراف بدون اختيار، وهو ما اضطر إليه حاملو مبدأ التغيير الجذري، وهؤلاء حالهم كحال المستهزيء بالذاهب إلى المناجم باحثاً عن رزقه وجواهر الأرض التي اختبأت هناك، وهذا المسكين يذهب إليها اضطراراً للحفاظ على حياته، ومن أجل التقاط مقوياته ليحضر قوياً إن استكمل قوته، أو حصلت له فرصته.
كان من أقدار هذا الدين والجهاد أن عاش مضطراً على الهامش أو في الأطراف، لكنه ليس كذلك الآن، ووجود البعض على هذه الحالة ليس اختياراً ذاتياً، بل هو على قاعدة: " إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها "
وعلى هذا المستهزئ أن يقرأ تاريخ هؤلاء، فإنهم لما حصلت لهم فرص العمل في المركز أحسنوا أيما إحسان، ووفقوا أيما توفيق، لكن خصومهم يرفضون نجاحاتهم فأتوهم بالسلاح والدم والقتل، فاضطروهم اضطرار أهل الكهف رضي الله عنهم.
لا يعاب المرء على العجز ولكن يعاب على الكسل والجهل والظلم، وهذا نراه في خصوم هؤلاء ، وهم من هذه الخصال براء.
لم تنضج الجاهلية بعد، لكن الخراب فيها بدأ بالإنتشار، وما زال فيها عروق لا عرق تنبض، لكنه ولا شك ليست هي على ما كانت عليه قبل عشر سنين فقط، ولا أقول أكثر.
نتمنى أن لا يحصل فراغ التوحش، بل يرث المؤمنون الأرض وهي سليمة غير محروقة، وآمنة غير خائفة ، ومستقرة غير مضطربة، بل نتمنى أن تهتدي الجاهلية:
منى إن تكن حقاً فهي أجمل المنى وإلا فقد عشنا لها زمنا طويلاً.
ختاما: أحسن صاحب إدارة التوحش مع خفاء شخصيته في نصحه لأمته، وقطعا إن كاتبه ليس هو صاحب هذه الكلمات، وليس هو من يصنع، ولا غيره يمكن له أن يصنع التوحش، لكنه كما يقول التاريخ والواقع أنه قدر يصعب الهروب منه بسبب غباء وطغيان وإجرام الجاهلية، وكيف لا تفعل ذلك وهي ابنة إبليس الذي لا يقبل الهزيمة ولا الإيمان، والله يقول: " قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " (الفتح 16).
هذا قدر الوجود، وهذا سنة التاريخ، والله يرحمنا ويغفر لنا ذنوبنا.
والحمد لله رب العالمين