JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم


مجموعة نخبة الفكر تقدم

تكفير الخوارج.. بين رغبات الطغاة والهوى المارج

للشيخ / أبي محمد المقدسي

/files/justpaste/d263/a10383587/i-00c0561ac91.png

WV8P68.gif

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فممَّا دعاني لكتابة هذا ما شاهدته من مقابلة بعض الناس لغلو جماعة الدولة بغلو مثله

بل أحيانا بغلو شر منه، مُنبَطحٍ لطلبات الطواغيت، مُتناغم مع رغباتهم، أو مُنَفِّذ لأجنداتها.

وأنا هنا لست في صدد تسمية أناس وضرب أمثلة؛ ولكن الـمُتابِع يعرف أن الكتابة في هذا الباب والتَّنبيه عليه صارت حاجة مُلحَّة بعدما رأينا أن بعض الناس من شدة هجمة الغلاة عليه ونكايتهم به وقهره ترك كل الأعداء وتفرَّغ لملف الخوارج؛ ينبش التاريخ عليه، ويستدعي منه كلَّ ما يناسب هواه. وتعرَّى بعضهم من الإنصاف بعد أن فقد البوصلة من شدة عداوة أو بغي الغلاة عليه؛ فصار يُرجِّح المرجوح ويروّج للقول المظنون، بل ويُنْزِله في غير مظانّه، مودِّعًا الطريقة العلمية عند المنتسبين للعلم منهم، ومُفارقًا للنَّهج الأكاديمي عند من هم من أهله.

ورأينا من العوام والرِّعاع من اغترَّ بإطلاقات وفتاوى العلمانيين!، ومصطلحات الطُّغاة وفرحوا بها، كقول أحد الحكام: "لا يوجد فرق بين داعش ونظام الأسد !"؛ وهذا جهل وفقدان للبوصلة وتخبُّط ممَّن قَبِلَه منه واتِّباع للهوى.

ولا شك أن لعدوان الغلاة وإجرامهم في حقِّ مُخالفيهم دور في هذا الانحراف والخلل؛ حيث صاروا فتنة للناس. وإنْ كان طالب الحق ينبغي أن لا يضرَّه مَنْ خالفه، وأن لا يقول إلّا ما وافق الدليل ولا يفعل إلا ما يُرضي الله، لا أن يكون مَدفُوعًا للقول أو مُنفَعِلًا بأفعال وأقوال خصومه.

وكان الأَوْلى مع تجرُّئ الغلاة على دماء المسلمين عدم فتح هذا الملف، وإبقاء نصوص الوعيد على إطلاقها لتبقى رادعة لرِعَاعِهم عن تكفير المسلمين، طاردة طغاتهم عن دماء المعصومين، كما هي طريقة السلف في إجراء وإبقاء نصوص الوعيد على ظاهرها  لتكون أدعى في الزجر؛ فإن معصية وَصَفَها اللهُ بالضَّلال أو وصفها رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالـمُرُوق من الدين ليست كغيرها، وحِكمة الشَّارع أطلقت هذا لحكمة وعلم؛ منها عِلْمُه سبحانه أنَّ مِنَ الـمُنتَسِبين للقبلة من سيتقحَّمُ الدماء المعصومة مُستخِفًا بها، فإطلاق الوعيد وإبقاؤه على ظاهره أدعى للزجر.


ولذلك لما سُئل الإمام أحمد: هل الخوارج كفار؟
قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فاكتفى بإمرار الوعيد.


وروى الخلَّال في (السُّنة) [ص145 رقم 111] بإسناده فقال: "وأخبرني يوسف بن موسى أنّ أبا عبدالله قيل له: " أكفر الخوارج؟
قال: هم مارقة.
قيل: أكفار هم؟    
قال: هم مارقة مرقوا من الدين." اهـ. واكتفى بذلك.


وروى الخلال أيضًا [ص 146 رقم 112] فقال: "وأخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدَّثهم أنّ أبا عبدالله سئل عن الحرورية والمارقة: يكفرون؟
قال: اعفني من هذا، وقل كما جاء في الحديث".


لكن ومع حدوث ما استفتحنا بالإشارة إليه من مفسدة مواجهة الغلو بغلو مثله، وردود فِعْل مَنْ كفَّر الغلاة كما كفَّروه، وتسارع الناس في التكفير كردَّة فعل على غلو الغلاة؛ سنضطر إلى تفصيل هذا القول، وبيان معنى مروقهم من الدين، وهل يكفرون ويخرجون من الإسلام، والمناط الذي كفَّرهم به مَنْ كفَّرهم مِنَ السلف.


أولًا: وحتى لا يُنسب إلينا أننا نجادل عن الخوارج أو نهوِّن من جريمتهم في حق الشريعة والدين نقول:


قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الخوارج: "وما روي من أنهم شرُّ قتلى تحت أَدِيمِ السماء، خيرُ قتيل من قتلوه، في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره. أي أنهم شرٌّ على المسلمين من غيرهم؛ فإنهم لم يكن أحدٌ شرًا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مُستَحِلِّين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مُكفِّرين لهم، وكانوا مُتديِّنين بذلك لعِظَم جهلهم وبدعتهم الـمُضِلَّة". (منهاج السنة) [5/248].


وقال رحمه الله في (الفتاوى) [13/210]: "فإنَّ الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتِّباعها، وكفَّروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم، ولهذا تأوَّل سعد بن أبي وقاص فيهم هذه الآية: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 26 - 27]، وصاروا يتتبَّعون الـمُتشابِه من القرآن فيتأوَّلونه على غير تأويله، من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم ولا اتِّباع للسنة ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن." اهـ.


وقال الآجرّي في كتابه ( الشريعة ) [1 / 325] : "لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا على أن الخوارج قوم سوءٍ، عُصاة لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإنْ صلّوا وصاموا، واجتهدوا في العبادة فليس ذلك بنافع لهم؛ لأنهم قوم يتأوَّلون القرآن على ما يهوون، يُموِّهون على المسلمين. وقد حذَّر الله تعالى منهم، وحذَّر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحذَّرناهم الخلفاء الراشدون بعده، وحذَّرناهم الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم..".


قال ابن كثير في (البداية والنهاية) [5/387] في سياق كلامه عن الخوارج: "وهذا الضَّرْب من الناس من أغرب أشكال بني آدم, فسبحان من نوَّع خَلْقَه كما أراد, وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.


ثانيًا: المعنى الرَّاجح للفظ (يمرقون من الدين):
قوله صلى الله عليه وسلم : (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).

والرمية: هو الصيد الـمَرمي؛ شبَّه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه، ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي ﻻ يعلق من جسد الصيد بشيء.

قال الجزري في (النهاية): "أي يجوزونه ويخرقونه ويتعدَّونه كما يخرق السهم الشيء المرمي به ويخرج منه" اهـ.

(يمرقون من الدين)؛ قال الخطابي: "أراد بالدين الطاعة؛ أي أنهم يخرجون من طاعة الإمام الـمُفْتَرَضِ الطاعة، وينسلخون منها" اهـ.

وذلك أنَّ الخوارج يخرجون من طاعة ولاة الأمر المسلمين فلا يعودون إليها.


وأورد على هذا التأويل بعضهم ما يُعكِّر عليه من رواية سعيد بن مسروق قال:  (من الإسلام) بدلًا (من الدين)، قالوا: "والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما فسرته الرواية الأخرى"، لكنهم عادوا لنفس النتيجة وهي عدم التكفير حين قالوا: "وخرج الكلام مَخْرَج الزَّجْر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل"، والمراد بالكمال هنا: واجبات الإسلام وليس مستحبَّاته؛ لأنَّ الوعيد لا يرد على خروج من مستحب.


وعلى هذا التأويل فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قَتْل عاد)، يُحمل على تشبيه قَتْلهم بقتل عاد، أو بقتل من لا يتورَّع بقتله من الكفار؛ أو يُقتلون قتلًا ذريعًا لينكفَّ شرُّهم كعاد وثمود، وليس المراد أن حكهم في الكفر كحكم عاد.


ثالثًا: خلاصة القول في تكفير الخوارج:


اعلم أن القول بتكفير الخوارج قول مرجوح، جمهور العلماء على خلافه؛ قال ابن بطال كما نقل الحافظ عنه في (فتح الباري): "ذهب جمهور العلماء، إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله –أي في الحديث-: (يتمارى في الفوق) لأنَّ التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يُقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين. قال: وقد سئل عليّ عن أهل النهر، هل كفروا؟ فقال: مِنَ الكُفر فرُّوا."  اهـ.


بل بالغ الخطابي فنقل الإجماع على ذلك فقال: "أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم، فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وقبول شهادتهم وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام." اهـ.


فإن أراد بذلك من أدرك أوائلهم من الصحابة والتابعين فيصح، وأما من بعدهم  فقد تشعَّبت فرق الخوارج ويصعب ادِّعاء الإجماع فيها. ومما يعضد ذلك ما صح نقله إلينا من توريث الصحابة والتابعين ورثة حروراء ودفنهم في مقابر المسلمين وإجراء أحكام الإسلام عليهم. وكونه قد صح عن بعض أهل العلم بعد ذلك تكفيرهم لبعض فرق الخوارج، كمن أنكروا سورة يوسف ونحوهم ممن ارتكبوا ما يُوجب تكفيرهم.


وقد ورد في كتاب (الفَرْق بين الفِرَق) ذِكر طائفتين من الخوارج أتوا بمكفِّرات وهما: (اليزيدية): أتباع يزيد بن أنيسة الخارجي وكان إباضيًا، ثم ادَّعى أن الله سبحانه سيبعث رسولًا من العجم يُنزل عليه كتابًا ينسخ الشريعة المحمدية.


و(الميمونية): وهم أتباع ميمون العجردي، وقد أباح نكاح بنات الأولاد، وبنات أولاد الإخوة والأخوات. وقال في علة ذلك أن القرآن لم يذكرهُنَّ من المحرمات، وروي عن هؤلاء الميمونية أنهم أنكروا سورة يوسف، ولم يعدُّوها من القرآن؛ لأنها قصة عشق في زعمهم، فلا يصحُّ أن تُضاف إلى الله وتُذكر في القرآن!! ولا شك أن هذا من حمقهم.


فتأمل إلى من كفّر هذه الفرق الخارجية بم كفرهم، وما هي مناطات تكفيرهم، وكيف أنه لم يُطلق القول في تكفير عموم فرقهم.


ولذلك وقع الخلاف في تكفير الخوارج بين العلماء، والمشهور في ذلك قولان للعلماء.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى) [28/518]: "فإن الأمة مُتَّفِقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد، وفي مذهب الشافعي أيضًا نزاع في كفرهم.

ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى:

أحدهما: أنهم بغاة.

والثاني: أنهم كفار كالمرتدين، يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسيرهم، واتباع مُدْبِرهم، ومن قُدر عليه منهم استُتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قُتل." اهـ.


وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) [12/313] جملة من العلماء الذين قالوا بتكفير الخوارج كالبخاري حيث قرنهم بالملحدين، قال: "وبذلك صرَّح القاضي أبو بكر بن العربي في (شرح الترمذي) فقال: ‏الصحيح أنهم كفار لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (يمرقون من الإسلام)... إلى قوله:‏ ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتَّخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم". اهـ.


وكذلك ممن قال بتكفيرهم السبكي،‏ قال الحافظ: "وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، فقال في فتاويه: احتج من كفَّر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمُّنه تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهادته لهم بالجنة،‏ قال: وهو عندي احتجاج صحيح." اهـ.


تأمل هنا إلى عِلَّة التَّكفير وهي: (تكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهادته لهم بالجنة).

وهذا يجعلك تتورّع في تكفير من وافق الخوارج في بعض صفاتهم في زماننا ولم يوافقهم في شيء من علل التكفير هذه، فمثل هذا لا يصح تكفيره ما لم يأتِ بمكفِّر صريح ظاهر مُنضبط، وإلا شاركهم الـمكفِّر في غلوهم؛ لأن من ثبت له الإسلام بيقين لا يجوز أن يُزال عنه إلا بيقين.


ولذلك استدلَّ من لا يرى تكفير الخوارج بأمور عديدة منها:

أنهم شهدوا الشهادتين ودخلوا في الإسلام والتزموا أركانه؛ وهذا يمنع من تكفيرهم حتى يأتوا بناقض ظاهر.

 

وهذا قول أكثر أهل الأصول من أهل السنة؛ قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) [12/314] : "وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فُسَّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك." اهـ.

 

وتقدَّم عن شيخ الإسلام أن القول بعدم تكفير الخوارج رواية عن الإمام أحمد ورواية عن الإمام مالك وهو قول الشافعي في رواية.


قال الطالبي: "وأما الإمام الشافعي فإنه لم يُفرِّق بين مذهب الخوارج وبين غيره من مذاهب الفرق الأخرى في عدم التكفير بها" اهـ.


وكذلك النووي في (شرح مسلم) [2/50] قال: "المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون: أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع." اهـ.


وقال ابن قدامة في (المغني) [8/106]: "الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب، ويكفِّرون عثمان وعليًا وطلحة والزبير، وكثيرًا من الصحابة، ويستحلُّون دماء المسلمين وأموالهم، إلا من خرج معهم، فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم. وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور الفقهاء، وكثير من أهل الحديث." اهـ.


وقال الشاطبي في (الاعتصام) [2/185]:  "وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم" اهـ.


وقال شيخ الإسلام في (منهاج السنة) [5/247] : "ومما يدل على أن الصحابة لم يكفِّروا الخوارج أنهم كانوا يصلُّون خلفهم، وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة يصلُّون خلف نجدة الحروري، وكانوا أيضًا يحدِّثونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلمُ المسلمَ، كما كان عبدالله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان، وما زالت سيرة المسلمين على هذا؛ ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق.


هذا مع أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم في الأحاديث الصحيحة، وما روي من (أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه) في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره؛ أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحدٌ شرًا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرّين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم الـمُضِلَّة.


ومع هذا فالصحابة والتابعون لهم بإحسان لم يكفِّروهم، ولا جعلوهم مرتدين ولا اعْتَدَوا عليهم بقول ولا فعل، بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة." اهـ.


وتأمل إلى كلامه الأخير فإنه من عدل السلف الذي تضيق به صدور الخلف ممن حُرموا هذا العدل وتحكَّمت بهم حظوظ النفس والأهواء كما تحكمت بالخوارج، ويريدون أن يسيروا فيهم سيرة لا شرعية بل دولية طاغوتية.


ومن أهل العلم من توقَّف في شأنهم كما تقدم عن الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام في (الفتاوى) [12/486]: "وأما القدريَّة الـمُقرِّون بالعلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية، والجهمية والخوارج: فيُذكر عنه - أي الإمام أحمد- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق، مع أن الغالب عليه التوقُّف عن تكفير القدريَّة الـمُقرِّين بالعلم والخوارج، مع قوله: ما أعلم قومًا شرًا من الخوارج." اهـ.

خاتمة فيها خلاصة المبحث:
جمهور العلماء على عدم تكفير الخوارج لما تقدم من أدلة.

ومنهم من توقَّف في شأنهم وأطلق ما ورد في حقِّهم من الوعيد ليَزْجُر عن نهجهم.

وبعض العلماء كفَّرهم لظواهر بعض الأحاديث، وهذا القول قول مرجوح دلَّت عليه الأحاديث نفسها وسيرة الصحابة فيهم.

وممن كفَّر الخوارج مِنَ العلماء مَنْ كفَّرهم لمناطات مُحدَّدة، وليس لمجرَّد غلوِّهم وقتالهم المسلمين؛ كتكفير بعض فرقهم للصحابة المشهود لهم بالجنة، وكإنكار بعضهم لسورة يوسف، أو رد صريح القرآن وما عُلم من الدين بالضرورة كقطع يد السارق، وإنكار بعضهم الرؤية وحدَّ الرَّجم.

ومن هذا تعلم أن القول بتكفير عموم من نُسب إلى الخوارج أو وافقهم في شيء من أقوالهم التي لم يكفرهم العلماء المحققون بها خطأ وغلو يُقابَل به غلوهم، والخطأ لا يُدفع ولا يُعالج بخطأ مثله. فهؤلاء انتقدوا على الغلاة غلوَّهم في التكفير ومارسوه!

 

أخيرًا نقول: ليس هذا دفاعًا عن الغلاة ولكنه تحقيق وتدقيق لمسائل التكفير بعد أن رأيتُ انفلاتًا من عِقَال ضوابطها طرأ على كثير من الناس، كردَّة فِعْل على غلو وجرائم الغلاة.

مع العلم أننا لو حاكمنا الغلاة وكثيرًا من أنصارهم إلى بعض أدواتهم ومناطاتهم الباطلة التي يُكفِّرون بها مخالفيهم لكفَّرناهم؛ لأنهم وقعوا بأشياء منها أو مثلها في مناسبات شتى، لكننا لا نفعل، بل نضبط أحكام التكفير بالضوابط والأصول الشرعية الصحيحة، وليس بمناطات الغلاة ولا بردود الأفعال عليهم.

أسأل الله تعالى أن يهدينا وإياهم إلى سواء السبيل، وأن يُرينا الحقَّ حقًا ويرزقنا اتِّباعه، ويُرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وكتبه/ أبو محمد المقدسي.
صفر 1437هـ

ZXPt2b.gif