JustPaste.it

مقالات شرك العبادة

د.لطف الله خوجه

 

1- بين السنة والمرجئة :

جوهر الخلاف بين السنة والمرجئة: العمل. فالسنة جعلوه ركنًا كالقول سواء بسواء، فقالوا: الإيمان قول وعمل. والمرجئة نزلوا بمرتبته، فجعلوه شرط كمال، فنزعوا عنه صفة الركنية، وقالوا: الإيمان (قول - تصديق - معرفة) على خلاف بينهم. قال البخاري: "كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، لم أكتب عمّن قال: الإيمان قول. وكتبتُ عمّن قال: الإيمان قول وعمل". ولما كان الكفر ضد الإيمان، ففيه الخلاف نفسه بين الفريقين؛ فالكفر عند السنة: بالقول والعمل(=قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح). وعند المرجئة: لا يكون الكفر بالعمل في ذاته، بل بالاعتقاد وحده. فالبحث إذن في العمل: هل يقع كفر بنفسه، أم يشترط له الاعتقاد؟. هذه المسألة فيها خلط أورث تداخلاً في الحكم، فمن الحسن تحليلها لتمييزها عن بعضها، وذلك بدراستها في حالين: في العمل نفسه بقطع النظر عن فاعله، ثم حين يتصل بالفاعل. فالله جعل للذنوب مراتب وأوصافًا ثابتة؛ لتعرف مرتبة كل ذنب في التحريم، وهي: الصغائر مثل اللمم. والكبائر كالزنا والربا، وفيها حدّ أو عذاب. والنواقض وهي: الكفر والشرك الأكبر والنفاق العقدي. وبهذا أمكن تصنيف الذنوب بقطع النظر عن مرتكبيها. تلك المراتب تتنزل عليها الحركات بأقسامها الثلاثة المتعلقة: بالقلب، واللسان، والجوارح. فكل مرتبة لها من كل قسم نصيب. ثم يأتي بعد هذا الحكم على الفاعل غير المعين: فمن فعل صغيرة فالفرائض تكفرها. والكبيرة تكفرها التوبة أو الحسنات العظيمة، أو يكون تحت المشيئة. والنواقض تجب لها التوبة، أو يخلد في النار. هذا فيما بينه وبين الله، أمّا في أحكام الدنيا، لتنزيل الحكم على المعين، فيشترط في العمل الظاهر الناقض إقامة الحجة؛ للتحقق من انشراح الصدر بالكفر؛ لأن الكفر في حقيقته مرتبط بالقلب، لقوله تعالى: (مَن كفرَ باللهِ مِن بعد إيمانِهِ إلاّ مَن أُكره وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ ولكنْ مَن شرحَ بالكفرِ صدرًا فعليهم غضبٌ مِن اللهِ ولهم عذابٌ عظيمٌ). فاشترط الانشراح، لكن أليس قد رجعنا بهذا إلى قول المرجئة: أن الكفر لا يكون إلاَّ بالقلب؟ كلا، فاتفاقهم على كفر القلب شرط لتكفير المعين، لا يعني اتفاقهم في كل شيء، فالنصوص أثبتت الكفر العملي والمرجئة نفوه، هذا أولاً. وثانيًا: قالوا: الفعل نفسه ليس بكفر مطلقًا، حتى لو سبَّ اللهَ ورسولَه، أو داسَ المصحفَ، أو صلّى لغيرِ الله، إلاّ إن أعربَ بلسانه عن تكذيب قلبه. فمنعوا اتصاف أعمال بالكفر، لا تتأتى بوصف دون ذلك. وثالثًا: قالوا: ليس في الذنوب العملية ما هو كفر، وعليه: فلا حاجة إلى إقامة حجة ولا استتابة إلاّ إن أعرب. وكل هذه خالفهم فيها السنة، وقالوا بالتلازم بين الظاهر والباطن، ففي الحالة السوية: لا يتصور كفر عملي يخلو من اعتقاد. وفي غير السوية ممكن، لفوات شرط أو حصول مانع؛ لذا شرعت إقامة الحجة للتحقق. لكن المرجئة فرضوا إمكان وجود حالة سوية، تقترف العمل الكفري وقلبها مطمئن بالإيمان، بناء على نفي وجود عمل كفري في ذاته، هذا التناقض لم يقبل به السنة لمخالفته للفطرة ونصوص التلازم، فالعمل الكفري إمّا أنه علة الكفر وسببه، فيبتدئ ويطرأ من الظاهر، ثم ينتقل إلى الباطن، فهو مورث محدث للكفر، أو العكس فهو كاشف عن كفر الباطن، فحقيقة التلازم: هو أثر أحدهما في الآخر: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد)، (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم). فهذه أربعة أوجه للخلاف.

 

2- الكفر منوط بالانشراح :

فكرة الإناطة مبنية على أن: القلب هو الموجه للحركات الظاهرة، ففي الأحوال المعتادة: لا تصدر حركة إلا عن إرادة، ولا إرادة إلا عن عقيدة، أما غيرها فاستثناء له حكمه الخاص لا ينفي الأصل، وقد أشارت إليهما -وإلى تقرير أن مناط الكفر: الانشراح- الآية:(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)، وفيها جملتان لحالين تداخلتا بوساطة أداة الاستثناء "إلا"، والاستدراك "لكن"، فالاستثناء للمكره ألا يُحكم بكفره، والاستدراك لبيان أن المختار يشترط لكفره: "الانشراح". فلو انحلتا إلى جملتين منفصلتين بـإزالة أداة الاستدراك، فالأولى في الفاعل للكفر الظاهر باختياره، بدليل استثناء "المكره" بعد ذلك، وصورتها: (من كفر بالله من بعد إيمانه)، (وشرح بالكفر صدرا)، (فعليهم غضب ولهم عذاب عظيم)، فهذه ثلاثة أمور مرتبطة: كفر الظاهر (كفر بالله)، وكفر الباطن (شرح بالكفر صدرا)، والعقوبة (غضب وعذاب).. وفق هذا الارتباط: فكفر الباطن (الانشراح)، شرط للعقوبة وليس كفر الظاهر وحده.. يؤكد هذا الجملة الثانية: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).. فهذه فيها أمران: كفر الظاهر (أكره)، وإيمان الباطن (مطمئن). هنا نرى أمرين أيضا: مخالفة الظاهر للباطن، والخلو من العقوبة وعلتهما: الإكراه، فاستفيد منه: إمكانية الكفر على الجوارح مع إيمان القلب، لكن ليست هذه بالحالة المعتادة بل استثناء؛ لذا لا عقوبة لأجل هذا العذر، وتلحق به في المعنى أعذار مشابهة كـ: الجهل، والاشتباه، والجنون، فوجه تأكيد الجملة على الشرط: أنه لم يعتدّ بكفر الظاهر وحده، لإيقاع الكفر على المعين؛ للعذر (الإكراه) الكاشف عن سلامة الباطن من الانشراح، وبهذا فسر أهل اللغة والتفسير والصحابة الآية؛ قال بعض نحويي البصرة: "صار قوله: (فعليهم)، خبرا لقوله: (ولكن من شرح)، وقوله:(من كفر بالله)، فأخبرهم بخبر واحد، فـ"من" في الموضعين لواحد لا اثنين، فالأول حال كفره ظاهرا، والثاني حال كفره باطنا.

قال ابن جرير: "الرافع لـ (من) من الأولى والثانية قوله: (فعليهم غضب من الله)، والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء، إذا استأنفت أحدهما على الآخر"، وقال ابن عباس: "فأما من أكره فتكلم به لسانه، وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم".. [تفسير ابن جرير] فتأمل: "عقدت.. إلخ" يؤيده سبب النزول في عمار لما أكره.. إن الكفر كفران: الباطن، والظاهر، فكفر الباطن يبتدئ منه ويسري إلى الظاهر، وهذا الكفر الاعتقادي (قول وعمل القلب)، وكفر الظاهر يبتدئ منه ويسري إلى الباطن، وهذا الكفر العملي (قول اللسان وعمل الجوارح) الذي ينكره المرجئة، هذا الحكم فيما ليس فيه عذر وهو الأصل، والذي فيه العذر -وهو الاستثناء- فباطن لا ظاهر له، وظاهر لا باطن له، فهذه أورثت إشكالا عند بعضهم، ولا ينحل إلا بهذه القسمة: أصل هو الحال المعتاد، واستثناء هو الحال غير المعتاد، وفي المحصلة: لا كفر يؤاخذ عليه إلا كفر الباطن، بدأ منه أو سرى إليه من الظاهر

 

3- حد التكفير :

في عملية التكفير ثلاثة أطراف: العمل، والعامل، والعقوبة. وتبيين حقيقة كل طرف في نفسه، وفي علاقته بالأخرى: يجلي عن حد التكفير؛ متى يكون، ومتى يمنع؟. فالكفر العملي على قسمين: منه ما لا يتأتى إلاّ كفرًا من كل وجه، وهذا الكفر المطلق، ومنه الذي له وجهان: كفري، وغير كفري. فهذا الكفر المقيد. والفرق في الأثر: أن المطلق لا يشترط له ما يشترط للمقيد. وأمّا العامل فلا يكفر عينا إلاّ بشروط هي: "العقل" يقابله الجنون وما في حكمه كالوسواس القهري، و"العمد" (=الاختيار) يقابله الإكراه، و"الذكر" يقابله النسيان، و"العلم" يقابله الجهل، و"التبيّن" (=تحقيق المسألة) يقابله التأول والاشتباه. فهذه الشروط وموانعها، لا يثبت على أحد كفر إلاّ بها، وهذا بالإجمال، وعند التفصيل يتبين: أن بعضها شرط دائم. لأن الشروط هي آلة التحقق من وجود الإيمان أو عدمه، وفي حالاتٍ، بعض الشروط كافية للتحقق. فمن أتى العمل الكفري المطلق، لم يشترط له سوى ثلاثة: العقل، العمد، الذكر. فيكفر بها ولو تخلف في حقه: العلم، والتبيّن. أي لو قصد الفعل دون الكفر (قصد الكفر يحصل مع العلم)؛ لأن الإيمان يزول بـ:العمل الكفري المطلق مع الشروط الثلاثة الآنفة. ذلك أن بتحقق الشروط الثلاثة، تتحقق الإرادة الحرة والإدراك للفعل، فإذا نتج عنها عمل كفري مطلق، أزاحت الإيمان كليا؛ لأنهما لا يجتمعان. وأمّا العقوبة فبين دنيوية من اختصاص الحاكم، فلا تثبت إلاّ بتلك الشروط، فإن ثبتت استتيب، وإلاّ فالحد. وأخروية أمرها إلى الله تعالى، والفرق: أن الدنيوية لا يفتش عنها ولا تقع إلاّ بإظهار العامل لكفره، فلو استتر ترك. ولنضرب مثلاً نوضح به أطراف عملية التكفير، هو: السب أو الاستهزاء بالله ورسوله وآياته وإهانة المصحف. هذا من الكفر المطلق؛ إذ لا يحتمل غير ذلك، لأنه دال على الاستخفاف مطلقًا، فلا يصدر من قلب معظم ألبتة، كما قال الرازي: "الاستهزاء بالدين كيف كان كفرًا بالله؛ وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال". [التفسير 16/124] دليله قوله: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). كفّرهم ظاهرا باستهزائهم، وباطنا بشهادة الله عليهم، سواء القاصد منهم الكفر أو الفعل؛ لذا قال: (إن نعفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)، فالأولى قصدت الفعل فتابت منه فعفا، والأخرى قصدت الكفر فعذبت، وكلا الطائفتين لم ينفعها: (إنما كنا نخوض ونلعب). أي ما أردنا إلاّ الفعل لا الكفر، فالاستهزاء لا يصدر من قلب معظم، فإن كان فيه إيمان فقد زال به. وعليه: فالعقوبة الدنيوية تقع بـ: الشروط الثلاثة مع الفعل؛ لزوال الإيمان بهما، بدون الحاجة إلى شرطي: العلم، والتبيّن. فيستتاب وإلاّ حُدّ، ومثله من أنكر: وجود الله، ربوبيته، النبوة. أما في الكفر المقيد، فقصد العمل وحده لا يكفر به؛ لاحتمال إرادته الوجه غير الكفري منه، كمن ذبح أو طاف بمضمار وأراد اللحم أو الرياضة، لكن لو ترجح بالقرائن إرادته الكفر بالتعبد، كالذابح عند قبر أو الطائف به، فيعرض على الشروط كلها للاختبار؛ للتحقق من قصده الكفر، فإن ثبتت كلها كفر عينا واستتيب، وإن تخلفت واحدة سلم. وبهذا نعلم: أن إقامة الحجة شرط في كل أنواع الكفر لكن بتفاوت. ونلاحظ أن العمل الكفري المطلق عند المرجئة لا يثبت كفرا إلاّ أن يريد الكفر لا مجرد الفعل؛ لأنهم يمنعون وصف الفعل بالكفر مطلقا إلا بشرط الاعتقاد، وهذا مخالف للسنة.

 

4- الشرك العملي والكفر العملي :

مهدنا فيما مضى -في ثلاث مقالات- ما تصوّرناه علة للخلل في حدّ الشرك؛ بنفي "العملي" منه والاقتصار على "الاعتقادي" فحسب. فالمقالة الأولى عالجت ما بدا باعثًا لهذا الخلل؛ وهو التلبس بقول المرجئة في نفيهم للكفر العملي أو التأثر بهم. لكن بعضهم ظن أن حصر الشرك في حقيقته على الاعتقادي (=الربوبية)، سبيل لكبح جماح التسرع في التكفير. ولو أنه أحاط علمًا مفصلاً بقانون "إقامة الحجة"، لعرف أنه ضمان من هذه الآفة، بدون الحاجة إلى نفي شيء من الحقائق الشرعية كـ"الشرك العملي"، وهذا ما عالجته المقالة الثانية والثالثة. وبعد أن قضينا من تلك المقدمات المهمّة، التي عالجت العلل البعيدة لهذا القول المحدث، نأتي الآن إلى صلب المسألة، وهو: تحديد المناط في شرك العبادة (=الألوهية)، أهو الاعتقاد، أم العمل؟. فنقول: "الكفر" مصطلح عام يشمل جميع المعاصي، ممّا يخرج من الملة حتى ما دون ذلك، يدخل فيه الشرك بأقسامه؛ ذلك أن نقيضه "الإيمان" يعم جميع الطاعات، فالشيء ونقيضه وإن اختلفا بما يبين تناقضهما، ففيهما توافق عام في الأقسام والحدود يحقق التقابل بينهما. قال أبو هلال العسكري: "الكفر اسم يقع على ضروب من الذنوب؛ فمنها: الشرك بالله". [الفروق اللغوية ص189]. والله تعالى يقول: (قال أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا). ففسر الكفر بالشرك. وقد ثبت فيما مضى: أن الكفر: قول، وعمل. نظرًا إلى أن الإيمان: قول، وعمل. فأين الشرك؟. أفي القول، أم العمل، أم في كليهما؟. في مبتدأ النظر يفترض به أن يقع في كليهما، فيكون منه: الشرك القولي، والعملي. إلاّ إن دل الدليل على استثنائه من أحدهما أو بعض الواحد منهما، وبما أن الأمر محتمل، سنبقيه في دائرة الاحتمال، حتى نحدد موقعه من الكفر بدقة، فأول ما ننظر في معنى التوحيد فإنه يعين على جلاء المسألة باعتباره نقيض الشرك؛ إذ يكشف عن أقسام نقيضه، فالتوحيد على قسمين: علم (=أسماء، ربوبية)، وعمل (=عبادة). فهو: علمي، وعملي. قال ابن تيمية: "حب الله تعالى أصل التوحيد العملي".[قاعدة في المحبة ص68] وقال: "أصل الإشراك العملي بالله، الإشراك في المحبة".[قاعدة في المحبة ص69]. وقال الصنعاني: "إفراد التوحيد اعتقادًا وعملاً لله وحده، وهذا واجب العلماء؛ أي بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم، وأنه عين ما كان يفعله المشركون".[تطهير الاعتقاد ص47] يضاف: إن التوحيد في تعريفه العام: "إفراد الله بخصائصه". والعملي منه: "إفراد الله بالعبادة". وهو ما اختص به من عمل، وفي مقابله الشرك العملي: "بذل ما اختص به لغيره عملاً". وإذا ما جئنا إلى النصوص فقوله: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). فسمى دعاءهم بألسنتهم غير الله: شركًا. وقوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له). سمّى عمل الصلاة والذبح لغيره: شركًا. وبهذا يزول الاحتمال ويثبت اليقين في انقسام الشرك إلى: قولي، وعملي. وتفصيله: شركٌ هو: قول اللسان كدعاء غير الله ما لا يقدر عليه إلاّ الله. وشركٌ هو: عمل القلب مثل حب غير الله كحبه تعالى: (أندادًا يحبونهم كحب الله). وشركٌ هو: عمل الجوارح كالصلاة والذبح لغيره تعالى. فأمّا قول القلب فهذا كفر لا شرك؛ لأنه تكذيب وجحود، فالكفر أعم.

 

5- حد الشرك في العبادة :

الشرك ضد الانفراد، وهو الشيء يكون بين اثنين لا ينفرد به أحدهما (معجم مقاييس اللغة)، 

والعبادة هي: الطاعة من تذلل وخضوع (النحاس)، وأقصى غاية الخضوع والتذلل (الزمخشري)، وغاية الحب والذل (ابن تيمية) فشرك العبادة إذن: بذل غاية الذل والخضوع والحب والطاعة لغيره تعالى. هذا ما تؤديه اللغة، وتشير إلى تضمن العبادة للأمرين معًا: الظاهر، والباطن. فالباطن (=عمل القلب) يدور على: غاية المحبة. والظاهر(=عمل اللسان والجوارح) يدور على: غاية الطاعة. وإذا قصدنا القرآن للكشف عن المعنى، وجدناه متفقًا ودلالة اللغة، قد جعل هذا الشرك على ثلاثة أقسام: الأول: قلبي أصله المحبة، {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله}؛ أي كما يُحَب -أو يحبون- الله. والمحبة تتضمن: الإخلاص:{وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، والتوكل:{فاعبده وتوكل عليه}، والخوف: {فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين}، والرجاء:{ويرجون رحمته}. فهؤلاء الأربعة أعراضها الخاصة اللازمة، وبقية أعمال القلوب لازمة كذلك. والثاني: قولي هو: الشهادة، الذكر، الدعاء بأنواعه (=استغاثة، استعاذة، شفاعة، سؤال)، {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البر إذا هم يشركون}؛ أي بدعاء غيره. والثالث: عملي وأمثلته عديدة، كـ: الصلاة، والصيام، والحج، والذبح، والنذر،{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}؛ أي لا أبذلها لغيره فأشرك به. وثمة شرك معدود في "شرك الألوهية" أيضًا، هو "شرك الطاعة"، قال:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون}. وفي حديث عدي سمّى طاعة أهل الكتاب للأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، فقال: (تلك عبادتهم إيّاهم). فتوحيد الألوهية أمران: العبادة: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا}، والطاعة: {ولا يشرك في حكمه أحدًا}، جمعا في قوله: {إن الحكم إلاّ لله أمر ألا تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدين القيّم}. فتحصل من هذا: أن الشرك في الألوهية يكون على: الباطن، والظاهر. وهذا هو الإيمان عند السنة. وعليه: فحدود العبادة: أعمال قلبية (=المحبة ولوازمها). وأقوال على اللسان (=الدعاء والذكر). وأعمال على الجوارح تسمّى "نسكًا". وإنما سمّيت كذلك، لأن الأعمال على قسمين: "تعبدية"، و"عادية". ولم نجد لـ"العادية" كـ: البر، والصلة، والإحسان. ذكرًا ضمن أعمال التوحيد أو الشرك، فيكون مشركًا مَن لم يخلصها لله، كلا، بل في النصوص: أن النية الخالصة شرط للثواب عليها، كقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في في امرأتك، فإن لك بها أجرًا)، وقول معاذ -رضي الله عنه-: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي). فهي تشبه التعبدية من جهة الثواب عليها، ولا تشبهها من جهة ذاتها. وبهذا تخرج العادات من أعمال الألوهية، فتقصر على التعبد المحض (=النسك)، إذن، فالتعريف الجامع للعبادة بعد تخليصها من تداخل العادات، هي: "ما أمر الله به، باطنًا من أعمال القلوب، وظاهرًا من الذكر والنسك والحكم". فما "أمر به" يشمل: الواجب، والمستحب. و"أعمال القلوب" يخرج به قول القلب، و"الذكر" يخرج به الكلام العادي، و"النسك" يخرج به الأعمال العادية. و"الحكم" هو ما أنزل الله من القضاء بين العباد.

 

6- حد شرك الربوبية :

التوحيد لغة: "الانفراد". وفي الاصطلاح: "إفراد الله بخصائصه". وخصائصه أنه: رب، معبود، كماله مطلق. قال:{رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا}. وهو قسمان: علمي، وعملي. فالعملي: توحيد الألوهية. وهو: إفراده بالعبادة(=أفعال العباد). والعلمي: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية وهو: "إفراده بخصائص الربوبية". أو كما هو المشهور: "إفراده بأفعاله" الملكوتية (=المتعدية كالخلق، لا اللازمة فلا يلزم عنها أثر لذاتها كالنزول). أو "إفراده بالخلق والملك والتدبير"(ابن عثيمين). وبعضهم يزيد الحكم والتشريع(اللجنة الدائمة)، وهو هنا بغير المعنى الوارد في توحيد الألوهية، هناك من جهة التزام الناس به(=شرك الطاعة)، وهنا من جهة صدوره من الرب، فيعتقد أنه وحده الذي له الحكم(=شرك الحكم): (إن الحكم إلا لله). هذا التوحيد عكس الألوهية؛ فموضوعه أفعاله لا أفعالنا(=عبادة)، وإذا تعلق الموضوع بالأفعال الإلهية، فحظنا منها ليس إلا الاعتقاد، وما وراءها من أثر يصدر عنا في صورة عمل، فهو من التعبد (=الألوهية)، لأجله قيل: توحيد الألوهية لازم للربوبية. فالمطلوب لتوحيد الربوبية: الاعتقاد(=عمل القلب). بخلاف الألوهية، فمطلوبه على ثلاثة من أركان الإيمان الأربعة: عمل القلب، والجوارح، وقول اللسان. وسبب قصر الربوبية على الاعتقاد: أنه علم، ثم إنه تعلق بما هو غيب غير محسوس، وهذا كله محله القلب والعقل، حتى لو تعلق بمشهود، فلا يكون إلا بالاعتقاد، فيكون معناه حينئذ: "الاعتقاد أنه وحده المؤثر بذاته في جميع أحوالنا بلا استثناء شيء". ومما يؤكد أنه اعتقاد: فطريته؛ بمعنى: ابتداء خلق الإنسان به، فقد ركز في فطرته: الاعتقاد بتفرد الرب بهذا الخلق والملك والتدبير. ولأنه كذلك فقد أقر به المشركون؛ في الخلق:(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)، وفي الملك:(قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله)، وفي التدبير:(ومن يدبر الأمر فسيقولون الله). وفي النفع والضر:(ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون). وهم مع إقرارهم بهذا كله مشركون؛ إذ أشركوا في العبادة، فجمعوا إلى الإيمان الإنكار:(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). فهذا التوحيد حجة على العباد لا لهم؛ فما اكتسبوه بل فطروا عليه، واكتسابهم منه فمن جهة النماء لا الأصل، فمن لم يجمع إليه توحيد العبادة لم ينتفع به، فالألوهية يلزم الربوبية، لكن اللازم قد يتخلف، كالولد يلزمه البر وقد يعق. فالرسل بعثوا بالعبادة:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). وقد قسم الشرك في الربوبية إلى:"تعطيل" هو: "نفي شيء من خصائص الربوبية عنه وإلحاقه بغيره". كشرك فرعون نفى الربوبية عنه: (وما رب العالمين)، وادعاها لنفسه:(أنا ربكم الأعلى}، والفلاسفة نفوا خلقه، وادعوا أنه صدر وفاض عنه، وأن الذي خلق هو العقل الفعال. و"التسوية" وهي: "نسبة شيء من خصائص الربوبية لغيره، من غير نفيها عنه". ومساواته بغيره شرك قال:(إذ نسويكم برب العالمين}، (والذين كفروا بربهم يعدلون)، فـ"العدل" هو "التسوية"، وهو أن يجعل معه إلها آخر، كالمجوس قالوا: للعالم إلهين: للخير، وللشر. والنصارى اعتقدوا أن الآلهة ثلاثة. وعبدة الكواكب اعتقدوا أن للكواكب تأثيرًا ذاتيًا. كذلك من اتخذ شفعاء معتقدًا أنهم يضرون وينفعون، سواء اعتقد استقلالهم، أو أنه أعطاهم هذا المقام؛ فإن المشاركة في الاختصاص لا تصح بأي وجه كان، لأنها نفي للفارق بين الخالق والمخلوق.

 

7- فوائد التعريف بحد الشرك :

بعد ذكر الحدين لشرك الربوبية والألوهية، نخلص إلى نتائج مهمة: فأولًا: أن شرك العبادة مستقل بذاته، مناطه نفسه، فمن وقع فيه، وقع في الشرك بلا شرط اعتقاد الربوبية (= النفع والضر)، الذي اشترطه القبوريون. فقد درسنا معنى العبادة لغة، فما وجدنا فيها شرطًا كهذا، بل وجدنا: غاية الحب والطاعة. وهذا غير الربوبية. وقد نص القرآن على محل شرك العبادة(= أعمال القلوب، واللسان، والجوارح)، وما ذكر هذا الشرط. ثانيا: مناط شرك الربوبية: اعتقاد أن لأحد شيئًا من خصائص الربوبية، سواء كان استقلالا أو عطاءً. وهو من أعمال القلوب، التي منها المتعلق بالربوبية، ومنها المتعلق بالألوهية، وليستا بلازمتين بل تنفكان. ثالثا: يترتب على اعتبار شرك الألوهية مستقلا بذاته: الوصف بـ"الشرك". لكل عمل ظاهر تعبدي يتقرب به إلى غير الله، بمجرده بلا شرط الاعتقاد. فإذا فعل الفاعل شيئا من هذا، فقد فعل الشرك بصورته وحقيقته ظاهرا، فهذه رتبة في الحكم. فإن انشرح به صدرا؛ بثبوت الشروط وانتفاء الموانع (=قيام الحجة)، فقد أشرك ظاهرا وباطنا، وهذه رتبة أخرى من الحكم. رابعا: المرجئ ومن وافقه ينازع في الأعمال التعبدية الظاهرة إذا بذلت لغيره تعالى، كدعاء غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو، فيمنع من وصفها بـ:"الشرك" حتى يقوم الدليل: على أنه اعتقد النفع والضر في المخلوق استقلالا، فإن كان عطاءً امتنع أيضا من وصفه بالشرك، بل يسوغه – بدعوى السببية - إن كان قبوريًا!. أما أهل السنة، فلا يترددون في وصف العمل بـ"الشرك"؛ لأنه في حقيقته وصورته شرك لا ريب، وكيف لا، إذا دعا فقال: يا حجر! ارفع عني الإصر والأغلال التي علي، ومنّ علي بعفوك. يا عبدالقادر يا جيلاني! يا مصرف في الأكوان؟. فهذه ألفاظ لا تحتمل إلا الوصف بـ"الشرك"، لكنهم لا يحكمون على الفاعل حتى تقام عليه الحجة. خامسا: العطاء الإلهي إنما يكون في حدود الخلْقية لا الربوبية، فمن زعم أن الله أعطاه خصائص ربوبية، كالتأثير الذاتي أو التدبير أو علم الغيب المطلق، فضلا عن الخلق، فتسوية حقيقية بين الخالق والمخلوق ولو في بعض الخصائص، وهذا عين الشرك في الربوبية، لكن من زعم أنه أعطي ما هو خلقي، كعلم بعض الغيب أو شيء من التصريف، فكفر وليس بشرك؛ لأنه ادعاء بلا دليل وافتراء للكذب على الله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا}. سادسا: حد شرك العبادة: "صرف العبادة لغير الله". وحد العبادة: "ما أمر به باطنًا من أعمال القلوب، وظاهرًا من: الذكر، والنسك، والحكم". فحد الشرك مفصلًا: "صرف ما أمر به - باطنًا من أعمال القلوب، وظاهرًا من: الذكر، والنسك، والحكم - لغيره". فما تمحض للعبادة فلا إشكال في انطباق الحد عليه كالصلاة والنذر، لكن ما تردد بين العادة والعبادة كـ: الحب، والدعاء، والذبح. فالحد وحده غير كافٍ لبيان الشرك فيه، من هنا وضع العلماء ضوابط تميز المأذون به من الشرك في هذا المختلط، فضبطت المحبة الإلهية بأنه: "التقديم المطلق" لقوله: {أحب إليكم}. فإن قدم مخلوقا تقديمًا مطلقا، فهو شرك المحبة. والدعاء بـ: "أن يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله" لقوله: {من لا يستجيب له}. الذبح بـ: "أن يذبح لغيره بنية التقرب". وقد يضاف في الحد شرطًا ليقال: "ما أمر ببذله له وحده..". ليتميز به التعبدي من غيره، مع عدم الاستغناء عن الضابط، وهذا لا يضعف الحد، فالصلاة محدودة في الاصطلاح بحد، وهي بحاجة إلى شروط لتمييز المقبولة.

 

8- حقيقة شرك المشركين :

أمران هما اللذان كشفا حد "شرك العبادة": اللغة، والقرآن. وقد مضى تفصيله، وهنا نضيف ثالثًا، هو: حقيقة ما عليه شرك المشركين. فشركهم في العبادة ممّا لا يستراب فيه، بل قد غلب عليهم، فإنهم ذلوا وخضعوا وأحبّوا وأطاعوا آلهة اصطنعوها لأنفسهم كما يعبدون الله وأشد: (ومن الناسِ مَن يتّخذ من دون اللهِ أندادًا يحبّونهم كحب الله)، (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم)، فلما جاء الرسول لأجل توحيده تعالى في الألوهية، استعجبوا من إفراد إله واحد بالعبادة: (أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب)، (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بسلطان مبين). أما توحيد الربوبية فعامتهم أقروا به بدلالة القرآن: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)، أقروا بقضايا الربوبية الكبرى: الخلق، والملك، والتدبير. لكنهم أشركوا في الألوهية:(وما يؤمن أكثرهم بالله إلاَّ وهم مشركون). ابن عباس: "من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السموات؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله. وهم مشركون". وقد كان فيهم من جمع بين الشركين باعتقاد النفع في الآلهة لا أنها تخلق: (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم)، (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا). فالآية تحتمل بيان تناقضهم؛ إذ يعبدون ما يعلمون أنه لا ينفع، والتناقض من طبع البشر للجهل أو الهوى. وتحتمل اعتقادهم أنه ينفع، والعادة: أن الإنسان لا يعبد إلا ما رجى نفعه، لما فيه من أنفة فطرية، تأبى عليه الذلة والطاعة إلاَّ من ضرورة لا يقوى عليها إلاّ بهذا المطاع، لكن هذه العادة تخلفت في أناس عبدوا الآلهة لعلل أخرى. فهما احتمالان ممكنان، وهذا يكشف طرفًا ممّا عليه شرك هؤلاء؛ فمنهم الذي أشرك في الربوبية والألوهية، ومنهم الذي في الألوهية. قال الصنعاني: "تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم في العبادة، ولا يغني عنهم من الله شيئًا، وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون وينفعون، وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يستغفرون لهم".[تطهير الاعتقادص37]، وقال الشوكاني: "وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله لم يكن إلاّ باعتقادهم: أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله، وتشفع لهم عنده، مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها وخالقهم".[الدر النضيد ص45] "وأمّا اعتقادهم أنها تضر وتنفع، فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد، لم يدع أحد منهم ميتًا ولا حيّا".[ص47] قولهما يحتمل: أن كل من أشرك في العبادة فعلِّته: اعتقاده النفع والضر في الشفعاء؛ أي لا شرك في الألوهية إلاَّ بالربوبية، فيكون الثاني مناطًا للأول، وفيه نظر. ويحتمل قصدهما: أن بداية الشرك كانت لهذه العلة، ولا يلزم نفي العلل الأخرى، ولعل ما ذكره الكفوي يوضح هذا: "وشرك التقريب: وهو عبادة غير الله؛ ليقرب إلى الله زلفى، كـشرك متقدمي الجاهلية. وشرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعًا للغير، كـشرك متأخري الجاهلية".[ص533] فعلة المتقدمين: التقريب (=ربوبية، ألوهية) والمتأخرين: التقليد (=ألوهية). ولو فرض الاحتمال الأول، فلا يلزم عنه توقفهما في وصف الأعمال التعبدية الظاهرة لغيره بـ:"الشرك". حتى يكون معه شرك في الربوبية، كلا، فهذه قضية أخرى، ينظر لها في طريقة إثباتهما للإيمان. والشرك الظاهر ربما صدر عن اعتقاد (=ربوبية)، لكن ذلك لا يمنع من صدوره عن علل أخرى كالتقليد والهوى، فليس كل شرك المشركين كان بقصد التقريب (=الشفاعة).

 

 

9- شرك التقليد :

اعتقاد النفع والضر ليس (العلة الوحيدة/المناط/ الشرط) لشرك العبادة؛ فاستقراء الأعمال الشركية، يُظهر أن لها عللا؛ فقد تبين أن اعتقاد النفع والضر يورث الشرك، فهذا غير مستنكر، إنما جعله "مناطا" وحيدا لا يكون الشرك إلا به؛ فالنظر والاستقراء كشف عن علل أخرى لشرك العبادة، منها: التقليد. والتقليد: "تعليق شيء على شيء، وليّه به"[ابن فارس]. ومعناه: الإحاطة بالشيء على جهة التبع. وأحسن ما يصوره: القلادة؛ معلقة، ملويّة بالعنق تابعة لا متبوعة. ومثله قولهم: قلّده الأمر؛ أي صَيّر الأمر تبعا له. فحقيقة التقليد: اتباعٌ لمتبوعٍ؛ بمحاكاة فعله حذو القذة بالقذة. وتقع في أفعال خاصة لا مطلقة، كالتقليد في العبادة وهو موضوعنا، فهؤلاء المشركون أشركوا بهذا المعنى؛ اتبعوا آباءهم وكبراءهم كما تتبع القلادة العنق، وكأنه لا إرادة لهم، في جبر اختياري لا قسري، يجدون راحتهم في التقليد مع عجز عن الانفكاك منه ما دام الآباء أحياء، حتى إذا ماتوا أو آمنوا، أسرعوا إلى الإيمان، بما يدل على: انحلال عقدة التقليد، وأنه المانع من الإيمان. وآية ذلك: إسلام عامة الأتباع – في كافة الأزمنة والأمكنة - بإسلام كبرائهم من غير سؤال عن العلة. والقرآن مليء بذكر هذا الدافع للشرك: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون). وقد عاتب إبراهيم قومه: (قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون). فهذا جوابهم، وفيه إقرارهم أنهم لا يعتقدون فيهم النفع سوى التقليد. ومفهوم التقليد يوحي بمتقدم ومتأخر، فالمقلَّد متقدم، وكون شرك المقلدين متأخرا، وهو معلل بعلة التقليد، فما علة شرك المتقدمين إذن؟. العلة هي: التقريب (=الشفاعة). وهذا ما يتصور الابتداء به في الشرك، وهو ما جاء عن ابن عباس في أصنام قوم نوح: "كانوا قوما صالحين من آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم"[تفسير ابن جرير/سورة نوح] في الكليات للكفوي: "والشرك أنواع: شرك الاستقلال... وشرك التقريب، وهو: عبادة غير الله؛ ليقرب إلى الله زلفى، كـ: شرك متقدمي الجاهلية. وشرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعا للغير، كـشرك متأخري الجاهلية". [ص533] فلم يجعل لشرك التقليد سببا سوى: التبع للغير. وفرّق بينه وبين شرك "الشفاعة" وسماه: "التقريب"، وهو الذي فيه اعتقاد النفع والضر. قال الميلي: "ومشركو العرب كأغلب من قبلهم لم يكونوا يعتقدون في شركائهم أنهم يماثلون الله في صفاته، أو يشاركونه في إيجاد المخلوقات، وإنما كان شركهم شرك تقريب وتقليد" [رسالة الشرك ص129]. فجعله شركين: التقريب، والتقليد. والجاهلي كان يحمل معه معبوده، فيتخذه صنما من حجر، فيستبدله بآخر أعجبه، ويصنعه من تمر، فإذا ما جاع أكله، فهل كان ليعتقد فيه نفعا وضرا، ثم يرمي به أو يأكله فيمضغه بفمه، إلا أن يكون مقلدا في ذلك قومه؟. حقيقة شرك المقلِّدة متطور عن شرك المتقربين طالبي الشفاعة؛ فالمتقرّب طلب النفع من معبوده، والمقلّد طلبه ممن قلّده (=المتقرب)، حين استرضاه بتقليده في التقرب رغبة ورهبة، فهو غير خالٍ من قصد النفع، لكن ليس ممن عبده؛ إذ طبع الإنسان وجبل على: ألا يتحرك إلا فيما يجلب له نفعا ويدفع عنه ضرا. فإن أخطأ فمن جهة الإصابة لا النية والقصد.

 

10- شرك الهوى :

ثمة شرك آخر ليست علته: اعتقاد النفع والضر. هو: شرك الهوى. فالهوى معبود نصًّا، قال تعالى: (أرأيتَ مَن اتّخذ إلهَه هواه). وفيه قولان: الأول: اتّخذ إلهه ما يهواه. والمعنى: اتّخذ معبودًا بمحض الهوى والرغبة والمزاج، فمقياس الاختيار: الإعجاب والرغبة. لا المزايا التأثيرية الخارقة في المعبود، وهكذا لا يظهر اتصال بين هذا الشرك واعتقاد النفع والضر في المعبود. والثاني: اتّخذ هواه إلهًا. فهوى النفس يغدو هو المألوه والمعبود، فكل ما رغبت فيه أطيعت، وفي هذا ينتفي الاعتقاد؛ لأن المعبود هي النفس ذاتها. فأي نفع وضر يظنه المرء بنفسه، وإنما محض الرغبة؟، حتى إنه ليفعل الشيء وهو يعلم علم اليقين ضرره وعدم نفعه، فلا يملك إلاَّ أن يطيع الهوى صاغرًا

(وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها)

فهذا هو شرك العبادة، ولا علاقة له بوجه بشرك الربوبية. ومن شرك الهوى: شرك العشق (=الإفراط في المحبة). وهو يترك العاشق ذليلا خاضعًا خضوعًا مطلقًا للمعشوق، ولو طلب إليه تأليهه ما تردد، كما قال أبو عبدالله المغربي:

(لا تدعني إلاّ بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائي)

يطلب شهوته فحسب، ولا يمتنع من قتل نفسه لأجله، كما قال عاشق لمعشوق: مت. فمات، نقله الغزالي في الإحياء. فهذا شرك خالٍ من اعتقاد النفع؛ أي التأثير بالتصرف الكوني أو الشفاعة. وشرك ثالث من أنواع شرك الهوى: شرك الحسد. يعرف الحاسد أن النافع الضار هو الله وحده، والحق كله فيما جاء به النبي، لكن يصر على شركه؛ لسبب وحيد، هو: حسده النبي؛ أن آتاه الله النبوة. وهذا عبر عنه أبو جهل لما سأله الأخنس بن شريق عن امتناعه من الإسلام: "تنازعنا وبنو عبد المطلب الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا وأعطينا، حتى إذا تجاثينا بالركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟. والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه". ومثله يهود فإنهم عرفوا النبي بأوصافه في كتابهم: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)، لكن كفروا به؛ إذ لم يكن منهم، روت صفية بنت حيي قالت: "سمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟. قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟. قال: عداوته والله ما بقيت".(بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده). وكثير من الكافرين سبب كفرهم هذا الحسد، قال تعالى: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق). فقد تبيّن لهم الحق، وعرفوه وميّزوه عن الضلال فلا شبهة، فما عاد شركهم بسبب اعتقادهم النفع في الآلهة، ولو كان لما حسدوا؛ إذ يظنون أنهم على هدى، إنما حسدوا لأن هذا الحق ما بدأ وظهر من عندهم: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). حكى ابن الكلبي في "الأصنام" عن رجل قُتل أبوه، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخَلَصَة، فاستقسم عنده بالأزلام فخرج سهمه ينهاه، فقال: لو كنت يا ذا الخَلَص الموتورا * مثلي وكان شيخك المقبورا * لم تنه عن قتل العداة زورا. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس. وكان بساحل جدة صنم يقال له سعد، فأقبل رجل بإبل ليقفها عليه للتبرك، فلما أدناها نفرت وذهبت كل وجه، وأسف فتناول حجرًا فرماه به، وقال: "لا بارك الله فيك إلهًا، أنفرت عليَّ إبلي"، وقال:

أتينا سعدًا ليجمع شملنا

فشتتنا سعد فلا نحن من سعد

وهل سعد إلاّ صخرة بتنوفة

من الأرض لا يدعى لغي ولا رشد

أهذا حال من يعتقد النفع في هذه الآلهة وتعظيمها، أم محض الهوى؟

 

11- أقوال العلماء في شرك العبادة :

رأي ابن تيمية: أولًا: شرك العبادة مستقل بذاته، قال: "هو نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية. فأمّا الشرك في الإلهية، فهو: أن يجعل لله ندًا. هذا هو الذي قاتل عليه رسول الله مشركي العرب؛ لأنهم أشركوا في الإلهية. وأمّا الربوبية فكانوا مقرين بها". ثانيًا: من الشرك ما ليس فيه أثر من شرك الربوبية: "وما اعتقد منهم قط: أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرنا: اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئًا دون الله كما يحب الله، فقد أشرك". ثالثًا: الشرك ليس منوطًا بالربوبية: "ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله، ويصوم لها، وينسك لها ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة، فإذا جعلتها سببًا وواسطة لم أكن مشركًا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن هذا شرك". رابعًا: من أشرك بالربوبية، فلم يشرك إلا في بعضها: "إنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقًا خلق بعض العالم"، وضرب مثلًا بـ: الثنوية، والقدرية، والفلاسفة الدهرية. قال: "فإن هؤلاء يثبتون أمورًا محدثة بدون إحداث الله إيّاها، فهم مشركون في بعض الربوبية". خامسًا: من المشركين من اعتقد النفع في الآلهة، لكن ليس كلهم: "وكثير من مشركي العرب وغيرهم، قد يظن في آلهتهم شيئًا من هذا، وأنها تنفعه وتضره بدون أن يخلق الله ذلك".[الفتاوى 1/91، الدرء 1/227، الأصبهانية 133، الطحاوية 38] ابن القيم: أولًا: شرك الألوهية قسم مستقل: "التعطيل أصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها، وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه، وتعطيل الصانع عن كماله المقدس، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد". ثانيًا: الشرك يقع في توحيد الألوهية وحده: "حقيقة الشرك هو: التشبه. فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في الخصائص الإلهية؛ فإن منها: التفرد بملك الضر والنفع، ومنها: الكمال المطلق. ومنها: العبودية، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه في خالص حقه، ومنها السجود، فمن سجد لغيره، فقد شبه المخلوق به". ثالثًا: وقوع الشرك في العبادة لعلل أخرى سوى اعتقاد النفع والربوبية: "أمّا الشرك في العبادة، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلاّ الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلاّ الله، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، وهذا حال أكثر الناس".[بتصرف الجواب الكافي 138-146] المقريزي: أولاً: شرك الألوهية مستقل: "وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية، فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، والنوع الثاني: الشرك به في الربوبية، وكثيرًا ما يجتمع الشركان في العبد، وينفرد أحدهما عن الآخر". ثانيًا: الربوبية ليس مناط الشرك: "الشرك شركان: شرك متعلق بذات المعبود وأسمائه، وشرك في عبادته وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته". ثالثًا: عامة المشركين أقروا بتوحيد الربوبية، وفيهم من أشرك فيه: "فأبان سبحانه أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهية لا الربوبية، على أن منهم من أشرك في ربوبيته". [التجريد: 42، 46، 50] إذن، كافة هؤلاء وغيرهم اجتمع رأيهم على اعتبار شرك العبادة مستقلًا، ليس منوطًا بشرك الربوبية، وهذا يوافق ما عرض من حقيقة شرك المشركين، وتقرير القرآن، والمعنى اللغوي.

 

12- شرك التقريب :

لن ننهي هذه المباحث حول "شرك العبادة"، من دون التطرق إلى نوع من الشرك شاع في المشركين وعمّ، حتى ظن الظان: أن لا شرك غيره!. وهو: "التقريب". كما سماه الكفوي وتبعه الميلي، من قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). والمتأخرون ممن تعاطوه يسمونه: "وسيلة". من قوله:(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة). وهو المعروف بـ"شرك الشفاعة" من قوله: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). وعلة كون هذا النوع شركا، ثلاثة أمور: أولا: أنه فَرْضٌ للشفيع على الله بغير إذنه، والفرض تحكم وتأثير، فهذا الشفيع مؤثر لا شافع مشير فحسب، ولو من طريق أدبي بغطاء الولاية، وهكذا يغدو مشاركا في الحكم والأمر الإلهي، لذا قال: (ولم يكن له ولي من الذل). ثانيا: أن هذه المكانة – المزعومة – للشفيع، أغرت بالغلو في تعظيمه باعتقاد النفع والضر فيه لذاته، بما أدى إلى: ثالثا: التقرب إليه بالعبادة بما لا يجوز بذله لغيره تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا..)، (ويعبدون من دون الله..)، وقد تقدمتا آنفا. بل زادوا في عبادته على عبادة الله بالحب:(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله)؛ أي يحبونهم كحب المؤمنين لله، أو كما يُحَبُ الله، وهذا فيه تقديم حب الآلهة على حب الله، وهذا تجلى في مثل قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون). ففي سبب نزوله: أن الريح إذا ألقت مما كان للآلهة إلى ما كان لله: أعادوه. وإذا ألقت مما كان لله للآلهة: لم يعيدوه. وتظهر منزلة هذا الشفيع في تصورهم: أنهم جعلوه في بعض الأحوال ولدًا للإله كالملائكة(ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون). (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا). فهذا منهم جمع بين الشرك والافتراء على الله، وبين شرك الألوهية والربوبية، وهو نوع من الشرك، ليس هو الوحيد، لكنه الشائع، بل هو أصل علة الشرك، ثم تعددت العلل بعدئذ. وقد حدّ القرآن حدودها منعًا للشرك، فأثبتها بشرطين: الإذن، والرضا. لئلا يفترى بفرض شفيع، فآية ذكرت شرطا: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وآية ذكرتهما: (وكم من ملك في السموات والأرض لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). ورد الشفاعة كلها إليه وحده، هو من يملك، ومن يهب:(أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون). فهذا شرطها، لا تنفع بدونها: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)، ثم إن الشفاعة لا تتقدم في الدنيا، ولا تطلب من الشافعين إلا في الآخرة: (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء)، وقد حدّت في أمر منصوص عليه هو: الشفاعة في القضاء، ودخول الجنة. وهذا للنبي صلى الله عليه وسلم، والشفاعة في: أهل الكبائر، والأعراف، والتخفيف من العذاب، ورفع الدرجات. وليس من الشفاعة طلب الحوائج وكشف الكرب، فهذا شرك ليس بشفاعة، وإن سماها كذلك أهل الشرك قديمًا وحديثا، ولو قصدنا تتبع جذر فكرة الشفاعة، فإنها تشبه فكرة "الواسطة" عند الفلاسفة القدماء؛ فالمخلوق لا علاقة له بالله؛ لعدم المناسبة بينهما، لعلو وتنزه الرب، فلا بد من واسطة، من خلاله ينزل الفيض الإلهي، وتصعد رغائب المخلوق، فأشبه بعضهم بعضًا.

 

13- خاتمة :

كان غرض هذه المقالات المتتابعة، وقد بلغت ثنتي عشرة مقالة: إثبات عدم افتقار شرك العبادة لشرط خارج عن ذاته. والرد على من جعل اعتقاد الربوبية في مخلوق أو اعتقاد النفع فيه، مناط هذاالشرك؛ يلزم من عدمه العدم، ومن وجوده الوجود. وقد سلكنا فيها طريقي: التأصيل، والتمثيل. فالتأصيل تضمن أدلة الإثبات، وفيها ظهرت دلالة اللغة على المقصود، ودلالة القرآن أيضا، وموافقته لأصول السنة، وموافقة ضده لأصول المرجئة؛ حيث إن السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، يقابله الكفر وهو قول وعمل كذلك، فيثبتون إيمانا عمليا وكفرا عمليا، خلاف المرجئة الذين يثبتون القولي فيهما (=الإيمان والكفر) فحسب، وهذا انعكس على قولهما في الشرك، فأثبت السنة شركا عمليا هو شرك العبادة، ونفاه المرجئة فقصروه على شرك الاعتقاد(= الربوبية). فكان النافي لشرك العبادة - شركا مستقلا - في قوله شبه من قول المرجئة. وفي القرآن نص على أعمال شركية لم يشترط لها اعتقاد النفع كشرك التقليد، بل عامة ما في القرآن دال على أن المشركين كانوا يثبتون الربوبية لله وحده، ومع ذلك كانوا مشركين بالعبادة:(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)؛ أي بالدعاء (=شرك عبادة) دون اعتقاد في ربوبية آلهتهم. واللغة دلت على أن معنى العبادة هو: غاية المحبة والذلة والطاعة. نص على هذا أهل اللغة كالزمخشري والنحاس، فالطاعة على الجوارح، سواء كان طاعة لله(=توحيد)، أو طاعة لغير الله(=شرك)، وبه يثبت تضمن العبادة للعمل الظاهر كتضمنه للباطن، وليس اعتقادا فحسب. ولم يتسع الكلام لتتبع أقوال العلماء فاكتفينا بثلاثة منهم هم: ابن تيمية، وابن القيم، والمقريزي. كان قولهم صريحا في نفي افتقار شرك العبادة لشرط خارج عنه. ولم نمر على ما سبق دون التنويه والذكر لما كان عليه شرك المشركين، وهذا هو طريق الآخر: طريق التمثيل. فوجدنا فيهم شركا في العبادة غير مرتبط بالربوبية، أنواعا هي: شرك التقليد. وهو اتباع الآباء، ففيهم من ترك الشرك بمجرد إسلام الآباء أو زوالهم، ولو كان عن اعتقاد ما تركوا. وشرك الهوى وهو النفس، ومن عبد نفسه فأي نفع يرجوه منها؟. وشرك العشق وليس فيه سوى إرادة قضاء الوطر، وليس في هذا اعتقاد. وشرك الحسد وصاحبه يعلم صدق الرسول، وهو بالقطع لا يعتقد أن معبوده يضر وينفع. فقد فُحصت جميعها ودُرست، فلم يُر فيها أثر لشرك الربوبية على جهة اللزوم، لكن على الإمكان والاحتمال، فثبت به وتبين: أن الاعتقاد ليس مناطا في شرك العبادة. ولم يتسع المقال والحال للتطرق إلى قضية مرتبطة بهذه المسألة، وهي: أن هذا الشرط لم يعرف ويشتهر إلا عن القبورية؛ الذين يدفعون عن أنفسهم وأتباعهم تهمة التلبس بالشرك بمثل هذا التعليل؛ زعموا: أن الشرك الواقع عند القبور ليس بشرك إلا بشرط الاعتقاد، وإلا فلا. وهكذا قال بعض المتأخرين اليوم، والفرق: أن القبورية تعللوا بهذا، وزادوا أنهم على بر وطاعة، وأن هؤلاء الأولياء أسباب مجعولة من الله للتقرب إليه، وأما هؤلاء فإنهم يحرمون أفعال القبورية، لكن يمنعون من تسميتها شركا، حتى يكشف عن اعتقاد في القلب؛ بأن ما يتقرب إليه ينفع ويضر، هذا مع أن صورة العمل شرك لا صورة له إلا ذاك؛ لأنه هو ما كان يفعله المشركون عينه. وهنا نبين أن هذه المسألة أخطأ فيها فريقان: الفريق الذي نرد عليه من أول المقالات، والآخر الذين ظنوا أن المشركين كافة كانوا يقرون بالربوبية، ويعتقدون أن آلهتهم لاتنفع ولاتضر، وأن شركهم كافة وجميعا كان في الألوهية فحسب، كلا، فالتعميم هنا خطأ، فهم وإن أقروا بقضايا الربوبية الكبرى(=الخلق، الملك، التدبير) إلا أن فيهم من اعتقد النفع في الآلهة؛ ولذا كثر نفي هذا في القرآن:( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم). (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولايضركم). فالحاصل: أن شركهم كان أنواعا منوعة، فمن جعله نوعا واحدا وقع في الخطأ ولا ريب، والحمدلله رب العالمين.