JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مجموعة البُشْرَيات
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ خطبة

العقل

 

للشيخ: أبي قتادة عمر بن محمود

 

من سلسلة دروس الشيخ أبي قتادة القديمة

/files/justpaste/d251/a10028307/1444288973881.png

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وتركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المحِجَّة البيضاء والطريق الواضح، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكَّبُها إلا ضال. أما بعد:

من يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا.

أيها الأحبة؛ كان من قدر الله -سبحانه وتعالى- وهو قدر وافقه الشرع وأتى على مِنْواله أن يُقيم الله -سبحانه وتعالى- أركان الأشياء في هذه الحياة على زوجين؛ ليس من قبيل الزوجين المتضادَّين ولكنه من قبيل الزوجين الذي يُكمِّل كل زوج منهما الآخر؛ فالبيت لا بد من ذكر وأنثى، وكذلك ما تعلمون من كل الحياة. هذه الزوجية ينبغي أن نفهمها عندما نريد أن ندرس دين الله -سبحانه وتعالى- دراسة صحيحة، والقصد من هذا أنه لا يمكن أن ينتج إسلام أو مسلم رباني ولا يمكن أن ينتج مسلم عابد لربه تمام العبودية إلا على شيئين اثنين، لا يمكن أن يقوم أحدهما دون الآخر وإذا وُجد واحد منهما دون الآخر سيقع الفساد والعَطَب، كالطائر الذي يُكسر له أحد الجناحين، أو كالرَّجل الذي تُكسر له أحد الرِّجلين فسيكون أعرج في مشيه أعرج في حياته، هذان الزوجان هما الشرع والعقل.

لا يمكن للشرع وحده أن يُنتج مسلمًا متعبِّدًا لربه، فقد تأتي الآيات العظيمة والأحاديث الشريفة على رجل مختلِّ العقل بليد الفهم جاهلٍ بالنظر إلى عواقب الأمور لا يقدِّر الأمور تقديرًا صحيحًا، فيكون فهمه للشرع -لا الشرع بذاته ولكن بعد أن يجري عقله على الشرع- فسيكون المنتَج من هذا الإجراء ومن هذه العملية مُفسِدًا لهذا الإنسان، مدمِّرًا لسلوكه قاضيًا على حياته. وكذا لو كان المرء عاقلًا لبيبًا ذكيًا فطنًا مُستبصِرًا لـمَّاحًا ولم يأتِ إليه الشرع الإلهي ليستخدم هذه الفِطنة وهذا الذكاء وهذه الأَلمعيَّة على وجهها الصحيح، فسيكون هذا الإنسان كذلك مفسدًا لنفسه وللحياة، ولن يصل إلى تمام العبودية لرب العالمين.

والعُبودية -يا قوم- هي ذلك الإنسان المتوازن الذي يصل إلى مُبتغاه في هذه الدنيا بلا شرور، ويحصِّل أهدافه السامية في هذه الدنيا بأقصر الطرق، ثم هو بعد ذلك يحصِّل الآخرة من غير مشقة، فهو إنسان متوازن يسير في دروب الحياة مع الـمُتعارِضات ومع الموانع التي تقف أمامه، يصل إلى أهدافه وإن تعطَّلت بسبب عجزه فلن يكون نهاية ما وصل إليه من منتصف الطريق أو من رُبعه، يصل إلى خيرٍ لا يصل إلى شر.

فعندما يفقد المرء العقل، وعندما يفقد المرء الشرع، فإنه يصبح هذا الإنسان الشاذّ المعطَّل المنحرف، الذي سمّاه الله -سبحانه وتعالى-: "الكَلْ"؛ {كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}، وكما وصف أحد السلف ملوك زمانه قال: "فَقَدِ ملوكنا شيئين؛ فقدوا عقول أهل الجاهلية وفقدوا دين أهل الإسلام أو إيمان أهل الإسلام".

فعندما يفقد المرء عقله فالشرع لا ينفعه؛ لأنه سيستخدم الشرع لأهوائه وشهواته، ودين الله -سبحانه وتعالى- متوازن فيه الحكمة في باب وفيه الشِّدة في باب، فيه الكلمة الطيبة في باب وفي الكلمة الغليظة في باب، فيه الإحسان وفيه الانتقام، فيه العفو، فيه العدل، فيه الرحمة؛ لأن الشرع مُشتَقُّ من أسماء الله -سبحانه وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- رحيم، وكذلك منتقم، ففي الشرع كذلك ما هو يجري مجرى الرحمة وما يجري مجرى الانتقام، والله -عز وجل- غفور، والله -سبحانه وتعالى- عادل الذي يوجِب القصاص إذ العدل يوجب القصاص، فكذلك في الشرع ما هو باب عظيم من أبواب القصاص القائم على العدل، وفيه كذلك أبواب عظيمة مبنية على الرحمة التي مبناها على العفو وعلى المغفرة.

فعندما يأتي هذا الشرع المتعارِض في وصفه الكليّ، المنسجم عند إنزاله على أحداثه الواحدة المعيَّنة، عندما يقع هذا الشرع على العقل الفاسد وعلى العقل الذي قد اختلطت لديه المفاهيم فإنه سيستخدم الشرع على وجه باطل، فسيضع الرحمة موضع العقوبة وسيضع العقوبة موضع الرحمة، فيضع الكلمة القاسية في موضع الرحمة والعفو والدعوة بالإحسان والموعظة والحكمة الحسنة، وسيضع كذلك الكلمة التي ينبغي أن توجَّه بالحكمة والموعظة الحسنة فيضعها موضع العقوبة؛ وهذا كله لا بسبب خطأ الشرع ولكن لأن عقل المرء لا وجود له فهو يفقد الاتجاهات لا يعرف {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}، وانظروا إلى قوله جلَّ في عُلاه: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} والموجِّه يعطيه المسيرة؛ أي يُبيِّن له الطريق الذي سيسلكه، والموجِّه كذلك يهديه ويبيِّن له كذلك عمله في هذه الطريق، ولكنه لن يكون مصاحبًا له في كل عين من أعيان الأحداث وفي كل حدث من أحداث المسيرة، فإنما هو سيأخذ هذه الأوامر وسينظر فيما يَقدُم عليه من أحداث في هذه الطريق فيتعامل مع هذه التوجيهات التي أعطاها إياه الموجه ويتعامل مع الحدث الحاضر لديه، ومع ذلك -مع وجود الطريق الذي وُجِّه إليه ومع وجود الأوامر العامة والهادية لما سيقوم به في هذه الطريق- ومع ذلك ترسله لإحضار رحمة فيحضر لك العقاب، وترسله لإحضار العقاب فيأتي لك بالرحمة! {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}.

ما سبب هذا؟ أنه لا عقل لديه، وإذا فقد الجانب الآخر -وهو جانب الشرع- فهو يدرك الأمور على حقيقتها، ولكنه لا يدري ما هو الملائم لها في شرع الله -عز وجل- فيتخبَّط، ويتعامل من جهة عقله، وليس من جهة عقله فقط؛ لأن الإنسان ليس بالعقل وحده يحيا إنما له الهوى وله العاطفة وله الشعور وله المحبة وله الغضب، له ما يحب وما يكره، فستطغى هذه الأمور على فهمه الصحيح فيختلُّ لديه العمل فلا يأتي بخير، {كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} .

فيا أيها الأحبة، عندما يفقد المرء العقل وعندما يفقد المرء الشرع يصبح هذا الإنسان الشاذ الذي لا يأتِ بخير، وعندما قال هذا السلفي هذا العالم الرباني أن لأهل الجاهلية عقلًا استدلّ على أنه يمكن للمسلم أن لا يكون له عقل، كما قال ابن تيمية بجواز اجتماع الدولة المسلمة مع الظلم كما أنه يجتمع الإسلام مع عدم العقل، أي مكن أن يكون المرء مسلمًا ولا عقل له، ويمكن أن يكون عاقلًا -كحال أهل الجاهلية- ولا إسلام عندهم، ولكن السؤال كيف يُنتَج الشرع في عقل المرء وكيف ينتج العقل في ذات المرء؟

أيها الإخوة الأحبة، إن الطريق الأول أن يكتشف المرء نفسه، فمن احتاج إلى أن يُعرِّفه الناس بنفسه وأن يكشفوا له ذاته في كل صغيرة وكبيرة هذا رجل ميؤوس منه، فبداية الطريق لنا، نحن لا نتحدث عن أغيار لا نتحدث عن كافرين لا نتحدث عن غير من يسمع إنما نتحدث مع أنفسنا؛ مع أهل الإسلام ومن يبتغي الحق، هل اكتشف المرء ميزانًا يقيس فيه عقله؟ وقيل قديمًا: لما قَسَم الله الرزق القليل من قبل واعترض الكثير على هذه القسمة، لكن لما قسم الله العقل رضي كل امرئ بعقله وظن أن عقله هو منتهى العقول وهو الجامع لكل عقول البشر، وهذا هو منتهى الانحراف في اكتشافه لنفسه ومقدار فهمه لذاته. فكيف ينتج العقل؟ كيف كان العقل ينتج عند أهل الجاهلية؟

لو قرأنا سيرة أهل الجاهلية لنرى ما هي الطريقة التي كانت تنتج عقولًا لأفرادها، عقولًا تخرج منهم الحِكَم، تقرأ لهم القصائد المليئة بالعِظات والعِبر، والمليئة بالحِكَم، كانت لهم الحكم العظيمة، وكانت لهم القضاة، إنّ أول أمر يجب أن يفرض نفسه في أي مجتمع لا بد أن يكون فيه العقل أن يكون هناك مثال، وهذا المثال لا يُقصَد به الرمزية التي تُحتَذى فقط ولكن يقصد به القائد الذي يجب أن يطيعه الناس، بهذا عندما ينتج المرء أو يعيش في داخل مجتمع يتعامل مع قواعد من أعظم قواعده هو وجود قائد، إذا تكلّم احترمه الناس، وإذا قضى سار الناس بحكمه وقضائه، فإنه ينتج المرء متعلِّمًا مُجبِرًا نفسه أن يستمع.

وهذه قضية المراقبة الذاتية مفروضة من خلال عُرف المجتمع، والأعراف معروفة لدى كل العقول أنها أقوى من كل القوانين، فعندما ينشأ الفرد الصغير على نظام يعيش فيه وعلى وجود كبير لهم، قائد عشيرة له سلطة عظيمة في تقرير الأمور، فيتعلم هذا الإنسان على ما يسمى بالانضباط والطاعة وعدم الانفلات.

المجتمع الذي تنفلت فيه القيود هذه السلطة هو مجتمع يُنشِئ عاهات من البشر، أنا وأنتم ثماره ونراه على أرض الواقع؛ لأنه حين يتكلم لا يمكن لأحد أن يردَّه. فلو جاء كبير أو جاء عالم أو جاء رجل حكيم فتكلم معه فينبغي أن يتنازل بسبب سطوة هذا العُرف، وسطوة هذا القانون الداخلي المفروض أن ينقاد لرأيه، فيحبس هواه ويحبس شهوته ويُمضي هذا القول، ويُمضي هذا الحكم ويُمضي هذه الحكمة، فيتعوَّد على الانضباط الذي يكبح شدة شهوته في شبابه أو شدة نَزَقه في كِبر سنه.

هذا المجتمع هو مجتمع سليم يُعلِّم كيف ينتج العقل؛ لأن العقل مشتق من معناه، يقال: عَقَلتُ الدابة أي ربطتها، منعتها أن تتحرك كما تريد؛ عندما تكون الدابة منفلته لا عقل لها فإنها تتحرك بحسب ما تبصر وما تشعر من شعور بَهيميّ حيواني يتلاءم من كونها دابة، فهي تنفلت لا تتقيّد بإسار البيت التي هي فيه، ولا تتقيَّد بأمر، لا عقل لها.

فالعقل معناه هو الضبط، هو الربط، فإسار أو إظهار منشأ وجود العقل أولًا هو مُجتَمع موجود فيه على أي شكل من الأشكال وجود هذا الانضباط الذي يُحدِّد هوى الشخص ويحدد مسيرة الشخص، وكل من البشر فرعون يريد أن يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، هذا هو منتهى الهوى وهذا هو منتهى الشهوة، فمن الذي يضبطه؟ يضبطه وجود المجتمع الذي فيه الضوابط من وجوده هذه القيادة. ومن هنا فإن المجتمع أو البيئة أو أي مجتمع فهو إن صغر أو كبر، تجمُّع لا قيادة له تفرض نفسها وسلطانها نِتاج هؤلاء الأفراد، نتاج هؤلاء الناس، نتاج حركات البشر هي حركات بهيميّة شهوانيّة.

أنا لا أريد أن أتكلم كيف ينتج الشرع لأنكم تعلمون (إنما العلم بالتَّعلُّم)، وإن صرتم وصرتُ وصار الشباب المسلم يؤمن أن الفتح الرباني بمجرد أنه مسلم قادر على أن يحلّ أعظم المشاكل، هذا موجود عندكم، موجود عند الشباب، يشعر أنه ليس بحاجة أن يتعلم شيئًا بل هو بمجرد أن صار مسلمًا وفهم شيئًا من الدين فإنه يستطيع أن يقرر عظائم الأمور، وأن يقرِّر أخطر القضايا ويحلّ ويحرِّم بحسب "روح الشرع كما يزعمون! ألا رحمةً لأوقات علمائنا التي بذلوها من أجل أن يُفتوا في مسألة في الطهارة وما كان الأمر إلا سهلًا كما هو عندي وعندكم، أن يستطيع الواحد منا أن يقرِّر أعظم الفتاوى بمجرد أنه صار مسلمًا يفكِّر بعقله بطريقة خاصة، (وإنما العلم بالتعلم) هذه لا وجود لها في حياتنا والدليل أنا وأنت.

أما كيف ينتج العقل؟ فالعقل كذلك إنتاج، ليس هو فقط فطرة تنشأ مع الطفل من مولده، لكنها تربية، كيف يصبح هذا المرء عاقلًا؟ لا بد أنه تربَّى على أن يكون لديه عقل، لا تربى على أن يكون لديه أخلاق فهذه مسألة أخرى وعالية (وإنما بعثت لأتمم مراتب ومنازل ومكارم الأخلاق)، ولكنّ العقل أولًا هو الذي يستطيع أن يتعامل مع البشر. كيف ينتج العقل؟ أولًا لا بد من مجتمع له قانون، وعامة شباب الإسلام من الشُّذوذ الذي عاشوا فيه اليوم نشأوا -بفضل الله- على الكفر بقوانين أي مجتمع عاشوا فيه؛ لأنهم أدركوا أن هذه القوانين هي قوانين جاهلية وباطلة وهذه مرتبة عظيمة، ولكنه لم يدخل في الهدى، لم يدخل في ضبط الشرع ولا في موازين أهل الإسلام، بل بقي منفردًا مُنفلِتًا، لا منفردًا بل منفلتًا كالدابة العَقُور يتحرّك من خلال سُعره وسُعاره وهواه وشهوته، يتحرك من خلال هذه الأمور.

ولذلك أيها الإخوة عندما ترون في مجتمعات شباب الإسلام لا عقل، فسببه أنه لا يضبطون ولا يوجد سلطة تقرر لهم فيحترمونها، والناس قديمًا في مجتمعاتهم يقولون حتى في أمثال أهل مصر "اللي ما إله كبير يشتريلو كبير" لماذا؟ لأنه لا يمكن أن تسلم حياته إلا بوجود هذا الضابط، في مثل بيئاتنا هذه انفلات الشخص بأن يتحرك كما يريد، وهذا يعده المرء من تمام العقلانية ومن تمام الحرية ومن تمام البطولة، "أنا رجل مستقل، أنا لا يوجد لأحد علي سلطة"؛ معنى هذا أنه صار كلبًا عقورًا، عندما ينطق بمثل هذه العبارات، أو لا ينطق بها ولكنه يمارسها، لا يوجد لأحد عليه سلطة بمعنى أنه قد انفلت من عقله فصار كلبًا عقورًا يتحرك من خلال هواه ومن خلال شهوته.

وهذا هو الواقع، أنا لا أتحدث عن مُثُل ولكني أتحدث عن واقع نعيشه، والكلب العقور لا يفرق بين التمرة والجمرة، لا يفرق بين الصديق عقور يعقر صاحبه قبل عدوه، فبعد أن انتهى شبابنا من عَقْر كل أعداء الإسلام -لأنه عقور وكان يعقرهم لأنه عقور لا بسبب هوى الدين ولا بسبب شهوته- صار يعقر إخوانه، ويضرب بأنيابه ويفرز سمّ لعابه، الكلب صار يفرزه في إخوانه لأنه لا ضابط له، ولا يوجد مثل مشقة فلتان هذا العقل وعدم انضباطه لأنه لا حبل له ولا عقل -الحبل هو العقل-، فابحثوا عن هذا الكلب، أيّ رجل يريده أن يقبض على عقله من أجل أن يوقف سمه وأن يوقف ضلاله وأن يوقف عقره لإخوانه فلا تجد أحدًا يقبض عليه، وهذه هي علَّة الأمر وفساد الأمر فيما بين الناس هو الذي نعيشه.

فالبيئة التي يعيشها شباب الإسلام من الانفلات من قوانين الجاهلية وهذه عظيمة، وعدم دخولهم في عقل أهل الإسلام وربطهم، صار شباب أهل الإسلام يَعقِر بعضهم بعضًا، ويفتن بعضهم بعضًا، ويسيء بعضهم إلى بعض. وإذا جاء عاقل ليقول: "أَسْكِتوا سفيهكم"، فلا يوجد أحد يستطيع أن يبحث له عن هذا الرجل الكبير وعن هذا العقل المدبِّر الذي يستطيع أن يُوقِف هذا السُّعار المنفلت من هذا المجنون الملتحي، المسلم المجنون الذي لا عقل له.

إذًا أول إنتاج العقل هي تلك البيئة التي تعلم وجود العقل، أن يربطه وأن يقيد حركته، والإنسان هذا الرجل الكبير العاقل ينظر إلى مصلحة الكل، ولكن هذا الإنسان المنفلت من العَصْفُوريّة -أي من مستشفى المجانين- هذا الإنسان لا ينظر إلا إلى مصلحة نفسه، ولا يقدِّر الأمور إلا من خلال ذاته فتنفلت الأمور، فحينئذ يصبح مجتمع الغاب كل له عقله، كل له هواه، كل له شهوته، وهذه الدنيا ستتضاعف.

إذًا أول مُنتَج أو أول بيئة أو أول شرط لإنتاج العقل هو وجود المجتمع الذي له الضوابط.

ثانيًا؛ لا بد حتى يكون هناك عقل أن يكون هناك مِثال للتجربة، وأقصد من هذا أن يقدّم ذلك الإنسان الذي مارس الحيا ورأى التجارب ولَذَعته الحياة بأَكْويَة من نار فهو في كل تجربة عاشها قد اكتوى نارًا، فبعد أن اكتمل عقله في كبره صار هاديًا، وهذه النقطة داخلة في النقطة الأولى ولكن لها انفِرادًا مهمّا وهو وجود المثال، هذا الإنسان المجرِّب الذي يعلِّم. كان أهل الجاهلية الكبير يعلم الصغير، كم حفظت لنا كتب التاريخ من تلك الاجتماعات؛ أن يجتمع الكبير مع أبنائه فيعلمهم ويقول لهم حكمة ما فتسري بهم ويهتدوا بها، يعلمهم ويلقّنهم إياها، فيتلافظ الناس والأجيال هذه الحكم فتصنع مجتمعًا سليمًا، إذًا لا بد من وجود الإنسان المجرِّب.

وعامة المجتمع الإسلامي الذي نعيش فيه هو شباب لا مِثال لهم، لا كبير لهم يهدي لهم التجارب، المرء بدون عقل وبدون تجربة ينظر إلى قوّته ولا ينظر من خلال فهمه الكامل إلى ماذا سيقع من المقابِل، وهو الذي يسمى حتى عند الدول بـ"الرَّدع"؛ يعني عندما يأتي الشاب وينظر إلى قوته فهو يقرر القضية من خلال قوته. لو كان صاحب مال يقرر من خلال فهمه، لو أراد أن يشتري شيئًا فهو ينظر إلى الشيء وينظر إلى المال ولا ينظر إلى الشيء المحيط به؛ لأنه إنسان قاصر النظر لا تجربة لديه. وإذا تخاصم مع إنسان وأرد أن يفتح شرًّا عليه فهو ينظر إلى مقدار قوته في إحداثه للأذى إلى خصمه ولكنه لا يفكر بنتائج هذا الأمر باعتبار المآل؛ لأن هذه لا تُدرَّس في المدارس، هذه تنتج من خلال التجربة والخبرة والمعاملة ومُعاطات الحياة. فهو لا ينظر إلى الردع، هو ينظر إلى قوته، إلى مقدار عطائه. هذا مثال إلى ضرورة وجود الرجل المجرِّب في مجتمع يُعلِّم الناس ويبين لهم.

(...) البأس في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عمر -رضي الله عنه- تعلمونه ما من مشكلة تقع في قضية إلا ويُشهر سيفه، فمن الذي يرد السيف؟ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "دعني أضرب عنقه يا رسول الله، هذا منافق" هذه ألفاظه في مجتمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن كم مرة فعلها عمر عملًا في زمن خلافته؟ لا يُذكر أبدًا، نعم كان يحمل الدرة -رضي الله عنه- فيؤدِّب هذا وهذا، ولكن "دعني أضرب عنقه" كم رجل ضرب الله عمر -رضي الله تعالى عنه- بالسيف في زمن خلافته؟ لم يُذكر أبدًا قط أنه ضرب، ولكن لو عددنا المرات التي قال فيها عمر أمام حدث من الأحداث: "دعني أضرب عنقه" لرأينا أحداثًا كثيرًا، لا يوجد حديث واحد أنه فعله وهو خليفة لا يحتاج أن يستأذن أحدًا من الناس ليقول دعني أضرب عنقه، هو الخليفة ويستطيع أن يضرب، لكن لماذا؟

قال هذا المحلِّل -ولعله أصاب في بعض الجوانب-: أن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يعتمد على وجود الضابط في حركته؛ فهو لأن الضابط خارجي يتحرك العقل في غيره في كثير من الأمور وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إن لم يكن لك عقل داخلي فلا بد من وجود عقل خارجي، إن لم يكن لك حبل ذاتي له مسافة محددة تسمح لك بهذه الحركة التي أعطتك هذه المسافة من الحبل في نفسك فلا بد من حبل خارجي، فعمر -رضي الله تعالى عنه- كان يعتمد على هذا الإِسار وهذا العقل الخارجي، يتحرك فهو -الإطار الخارجي- يضربه ويرجع، ولكن لما انتهى هذا الجدار، لما انتهى هذا الربط، فتصوروا أن عمر لم ينتج لديه ولم تتربى لديه ملكة الضبط الخارجي بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكم سيقتل من الناس؟ وكم سيتحرك من خلال "دعني أضرب عنقه" من أحداث؟ الكثير، ولكنه تربى -بعد أن انهار هذا الإطار الخارجي من الحدود- تربى لديه الحدّ الداخلي في تقليده بنفسه، الرحمة العظيمة.

حتى أنه لـمّا مات أبو بكر -رضي الله عنه- وولّى عمر خلفه -رضي الله تعالى عن الجميع- قالوا: "كيف ستقابل ربك وقد ولّيت علينا أقسى القلوب؟"، رجل لا يعرف إلا الضرب، لكنه لما صار خليفة -رضي الله تعالى عنه- له هيبة، ولكنه كانت له الرحمة العظيمة ولا يُعرف أنه أبدًا حمل السيف وكلما خالفه رجل ضرب عنقه. بل لما خالفه جمهور من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم- في قضية الخَرَاج بعد أن فتح سواد العرق ورفض عمر -رضي الله تعالى عنه- أن يوزع الأرض وإبقاءها بيد قومها على أن يؤدوا إليه خراجًا في كل عام، خالفه الصحابة، لم يستخدم معهم صوتًا، جادلهم بالحُجّة مع صبره، وجلس يجادلهم وبعضهم -كما يقال- ضغط عليه في الحديث ضغطًا شديدًا كأمر بلال، ولكنه لم يصنع شيئًا ولم يحرك سيفًا، بل قال فيما قال: "اللهم اكفني بلالًا وصحبه"، فقط دعا ربه، أهذا كنتم تعهدونه في زمنه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ الجواب لا، لأنه كان يعتمد على هذا المقيِّد الخارجي، أما وقد مات المقيد الخارجي فلا بد أن يكون قد تربَّى لديه عقل داخلي يجب أن يفرضه على نفسه.

فمن لم يتربى من خلال وجود المثال الأول الذي ضربناه، وهو الرابط الأول الذي يقيّده من خلال سلطان ما يرضاه المرء لنفسه رغم أنفه، يجب على المرء إن كان عاقلًا أن يكون له سيد، أن يكون له من إذا أمره أطاع. ثانيًا أن يكون لديه المثال الذي يقدِّم إليه التجارب ليعلمه كيف يبني عاقلًا داخليًا ما لو انهار هذا العقل الخارجي أن يضبطه بذاته. وشباب أهل الإسلام خرجوا من إطار إِسار الشيوخ الذين أوصلونا إلى هذه الحالة، وعاشوا شبابهم من غير وجود مثال يعلمهم العقل في الحياة، وهم ظنوا -هؤلاء الشباب- أن حفظ الكلمات يؤدي إلى فهمهم في التعامل مع الأحداث.

أيها الإخوة، أيها الأحبة، إن معلومة ما، حكمة ما -أقولها الآن- لا تعني أنها هي المؤثرة على حركتي عند عمل ووقوع حدث ما، قد تكون هذه المعلومة موجودة في غلاف الرأس لكنها لا تسير مع قرارات المرء لجهله وضعفه، فلا بد للمرء أن يبني عقلًا من خلال النظر إلى المثال، وهذا يفقده شباب أهل الإسلام.

هاتان قضيتان وكثير غيرها تبيّن لنا أن العقل عندما يُفقد أو عندما لا توجد بيئته فلا يكون هناك عقل لشباب أهل الإسلام، فبعد أن ينتهي المرء من أن يكون كلبًا مسعورًا يعقر من كان خارج دائرة أهل الإسلام، فإنه -لأنه مسعور لا يفرِّق- فإنه سيعقر أهل الإسلام، وهذا هو شان الكثير بسبب عدم وجود البيئة التي تُنتج الإنسان العاقل؛ وأقصد بالعاقل هذا الإنسان المضبوط الذي له حبل إما خارجي وإما داخلي يقيّد الهوى والقرار الذي يُنتج هذا العقل وهذا الحكم.

العقل -أيها الأحبة- هو المادة الأولى لكل عمل، العقل بدونه لا شرع، أتظنون أن في التاريخ الإسلامي فقد الناس الكتاب والسنة؟ الكتاب والسنة موجود ولكن هذا الإطار الذي يتعامل مع الكتاب والسنة قد دخلت فيه الشوائب، أتظنون أنه يمكن للمرء أن يكون خَلُوقًا متخلّقًا بأخلاق النبوة من غير عقل يضبط؟ وما هي الأخلاق؟ ما هو الخُلق؟ الخلق هي مَلَكة -هذا من تفسيرات الأقدمين- قالوا هي ملكة، ونقصد بالملكة ليس العلم العقلي ولكن ملكة باطنية تضبط الحركة، الأخلاق هي ملكة تضبط مسيرة الشخص.

انتبه إلى هذه الألفاظ التي صارت مفقودة؛ العقل من العقل من الربط، من التقييد، لا تظن أن قدرتك على الحركة وأن تستطيع أن تفعل كل شيء ثم تساير هذه القدرة وبعد ذلك تسمي نفسك عاقلًا مفتخرًا، دلّ هذا على أنه لا عقل -لا ربط- لديك؛ الأخلاق هي ضبط، ملكة تضبط سلوك الشخص، تضبط يعني أن يكون لك ضابط يحبسك، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)؛ الملك هو القبض، الملك هو وضع اليد، يملك نفسه مالك لما يَجُوش من صدره من أمور، سواء كان مبناها على الحب أو مبناها على البغض، مبناها على العطاء أو مبناها على المنع، لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب.

هكذا أيها الإخوة عندما يفقد الناس الشرع وعندما يفقد الناس العقل، وقد يفقد الناس -أيها الإخوة- الشرع مع وجود عقل، لديهم فالحياة تسري وتمضي وتدوم، كما هي القاعدة التي ذكرناها كثيرًا من قول ابن تيمية -عليه رحمة الله-: "إن الله لينصر الدولة الظالمة المشركة.."؛ النصر يعني الدَّوام، دوام هذه الدولة وطول حياتها، أن تدوم حياتها. "وإن الله ليخذل ويهزم الدولة المسلمة الظالمة"؛ فحياتها تكون قصيرة، فكذلك إن الله ليديم الحياة في مجتمع من المجتمعات وبيئة من البيئات وإن كانت كافرة ولكن لها عقلًا يهديها، وإن الله ليدمّر البيئة وإن كان فيها الشرع والصلاة ولكن لا عقل لديها، فمبنى دوام الحياة على العقل، ومبنى دوام الحياة على إدراك الأمور من خلال هذا الربط وهذه الملكة وهذا الضبط، هذا هو مبنى الحياة.

والحياة لا تدوم بمجرد صلاتك ولا بمجرد ذكرك لله، أقصد ذلك الحياة الاجتماعية، الدولة، ببقائك أنت ربما هذا قدر لك أما هذه الروابط الاجتماعية، ونحن كثيرًا ما قلنا أن قانون المجتمعات ليس هو قانون الأفراد، هذا خطأ شرحت ذلك كثيرًا؛ قانون المجتمعات له قوانين المجتمع والجماهير، والتجمّعات لها قوانين خاصة تختلف عن قانون الفرد، ومن أراد أن يجعل قانون الفرد مُعَمَّمُا على الجماعة هذا خطأ كبير، فقانون المجتمع هو هذه الروابط بين المجتمع، هذه الروابط لا يمكن أن تدوم أو أن تبقى أو أن تقوى إلا بالعقل، وقد تتفكّك مع وجود الشرع، وقد تتفكك مع وجود الدين لكل فرد؛ لأن العقل هو الذي يُديم هذه الدولة أي هذا التجمع.

ولذلك إن المجتمع الذي لا عقل فيه -لا ضبط فيه- لا في داخل أفراده ولا باعتبار سلطان فيه، هو مجتمع متفكّك مهترِئ، يضرب بعضه بعضًا، وباسم الدين، والشرع -ذكرت في بداية الخطبة- فيه المتضاربات، يستطيع المرء إذا ضرب أخًا أن يذهب فيقول لك: "أنا أحتج بعمر دعني أضرب عنقه"، وإذا أراد الرجل أن يحتج بالجبن قال لك: أنا أحتجّ بهذا الصحابي الذي قال..، أو كما احتجّ بعضهم بقول ابني آدم: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}، فليست المشكلة في الاحتجاج، هذا الاحتجاج سهل أن ينتقي المرء ما يريد، ولكن المشكلة أن تنظر إلى النتيجة؛ النتيجة تُكذِّب احتجاجك وتكذِّب دليلك، النتيجة بيّنت أنك قد أفسدت الاحتجاج وإن كنت أنت قد اعتنقت أنك قد أتيت بالدليل من الكتاب والسنة.

أيها الأحبة ما هي النتيجة في مجتمع لا عقل له؟ هو التفكك، وهو انتشار الكلاب المسعورة، والمآلات التي يستطيع كل واحد أن يُفرز هواه، لكن بعد ذلك ما هي النتيجة الكلية؟ هي الهلاك، هي الضرب الإلهي على قلوب البعض، أن يضرب قلوب بعض هذا المجتمع بعضه ببعض فحينئذ هي الحالِقة، بمعنى أن فساد العقل يعود على الشرع بالإفساد، إن فساد العقل يعود على فساد الشرع في الإفساد، فسيكون شرع المرء فاسدًا، وكيف يصلي الرجل بجنب أخيه وكل منهما كلب ينتظر أن يعقر وأن يفترس أخاه؟! فسيعود على صلاته وعلى دينه وعلى عبوديته وعلى قبول أعماله عند الله، (إن الله لينزِلُ في ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل أحد إلا لمشرك أو مُشاحن)؛ فساد العقل يعود على فساد الدين في الإفساد.

فالأصل هو صلاح عقلك، ولا أقول العقل أي الفَهْلَوة، للأسف العقل عند الناس رجل عاقل أي رجل ذكي، ارجعوا إلى أصل كلمة العقل أنه له ضابط، له ضابط إذا خلت نفسه بشيء، إذا أرادت نفسه كلمة أن يفكِّر فيها قبل أن يُخرجها، إذا غلى قلبه بغضب أن يحبسه وأن يُقنِّنه تقنينًا صحيحًا، هذا هو العقل، هذه هي الملكة، هذا هو الضبط. أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمُنَّ علينا بالعقل.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وتُب علينا وأصلحنا وألحقنا بالصالحين، اللهم إنا نسألك دولة يُعزّ فيها أهل طاعتك ويُذلّ فيها أهل معصيتك. والدولة هي العقل، كم تشريعات الدولة لداخلها وكم تشريعاتها مع مَن خارجها من الكفار أو البُغاة؟ الدولة هي لتعليم من لا عقل له من المسلمين العقل، ولإيقاف الناس عند حدودهم، فنسأل الله أن يرزقنا دولة تجلد ظهورنا إن شَطَطنا عن الحق وأقبلنا على الباطل.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وتُب علينا، وأصلحنا وألحقنا بالمجاهدين الصالحين وانصرهم يا أرحم الراحمين.

 

الخطبة الثانية

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وتركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المحجة البيضاء والطريق الواضح، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكَّبُها إلا ضال. أما بعد:

من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا.

أيها الأحبة؛ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ففي هذه الآية العظيمة بيان لما قدَّمناه في الخطبة السابقة من ضرورة العقل والسمع، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فانحراف المرء في هذه الحياة الدنيا والذي يعقبه الخسار في الآخرة هو بعدم اتباعه العقل وبعدم أخذه بما جاءت به الرسل -عليهم صلوات الله جميعًا وسلامه-، فالعقل هو المحطة التي يتنزَّل عليها الشرع فإذا كان منحرفًا في فهمه، ضالًا في منهجه، غير سوي في فهمه لما يُلقى عليه فإنه سيحرِّف ما، يسمع سيحرّفه ويُقَولِبه إلى قالب يشتهيه، وإلى مراده هو لا إلى مراد المتكلم.

القرآن وهو أجلّ بيان وأفضل خطاب، وأسمى ما يتكلم به متكلم، ففضل كلام الله -عز وجل- على كلام خلقه كفضل الله -عز وجل- على خلقه، وهو الخالق وخلقه هم عبيده، ومع ذلك فإن هذا القرآن تتلوه الأمة بعد القرون الأولى المفضَّلة وهو لا يصنع فيهم خيرًا ولا يحرِّك فيهم إلى فضيلة، وهم يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار ومع ذلك لا يصنع فيهم المراد بالخروج من الضلالة إلى الهدى ومن الظلمة إلى النور، لماذا؟ لأن العقل الذي يتلقى هذا القرآن هو عقل منحرف استقرّت لديه قواعد باطلة وأنماط من التفكير سيئة، فنزل هذا القرآن، فبدل أن يأخذه كما هو ويتلقَّاه تلقّيًا مُسلَّمًا به، جعل يحوِّر هذا القرآن، وهو الذي سمّاه أهل العلم بالتأويل أو التحريف؛ حيث تؤخذ الآيات ويُعمل بها تقصيرًا حينا عن المراد أو تطويلًا حينًا آخر عن المراد، من أجل أن يتلاءم مع العقل الذي يتلقى القرآن، ففسد كتاب الله. حتى قال الصاوي -وهو أحد الشُّراح على (تفسير الجلالين)-: "إن الأخذ بظواهر القرآن كفر"، هكذا وصل انحراف أناس يُعدُّون من الأئمة! يقول إن الأخذ بظواهر القرآن كفر، كما زعم هذا المفتري، وسبب هذا أنه يريد -كما يزعم- أن ينزل إلى بواطن القرآن المزعومة لأنها هي التي توافق هواه ولا دليل عليها، ولذلك نشأ في الإسلام من يقال لهم "الباطنية"؛ وهم الذين يقولون أن للقرآن باطنًا؛ يعني إن له من المعاني التي ليست على ظاهر ما ينطق به أو ما يقوله، وليت هذه البواطن تلائم ما فهمه السلف وما فهمه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ظاهر الخطاب، ولكنها تنقض هذا الظاهر بكل ما جاء فيه.

إذًا أيها الأحبة ليس العلم الذي تسمعونه هو كثرة ما يلقى عليكم، ولكن العلم في ابتدائه هو تحرير العقل من قوالبه السابقة الفاسدة، العلم الصحيح هو تحرير العقل الذي يسمع ويتلقى من قوالبه الفاسدة وأنماطه السائدة، حتى تتلقّى ما يُلقى إليك وما تسمعه متحرِّرًا من أفكار وأنماط فاسدة فتكون سويًا.

ومن تدمير العقل ومن أشد ما يعتري العقل من التدمير هو الكذب، خاصة إذا اسْتَمرَأه الإنسان؛ واستمرأه أي صار له مَلَكة وفطرة، لأن الكاذب لا يعود على الآخرين بالإفساد فقط بأن يلقي إليهم المفاسد والكذبات، ولكن هذا الكاذب أن أكثر ما يُفسد عقله هو؛ لأنه بعد مدة لا يتلقَّى الأمور على ما هي عليه بل يُلقيها كما يتلقَّاها حتى أنه يصبح ينفعل مع الأخبار الكاذبة التي هو يعرف كذبها أو التي هو صنعها، ألا ترى أن الإنسان في أوائل كذبه تظهر عليه سيما الكذب في حركته، في لفظه، في سكونه، إذا تكلم فإنك تقول: أرى عليه سيما الكذب؛ لأنه يضطرب بألفاظه وتختل موازينه، ومن هنا فإن بعض من اكتشف سنن الله في خلقه رأى أن الإنسان عندما يغير هذه الأسطوانة العقلية مما تعلم من الحقائق إلى غيرها من الكذب فإن أعصابه تضطرب، وهذا ما يسمى بجهاز كشف الكذب، فإنما هو جهاز يقيس حركة الأعصاب، والإنسان عندما يكذب تضطرب أعصابه، ولكن إذا استمرأ المرء الكذب فإنه لا يصاب بهذا الاضطراب لأنه يكون مقتنعًا بأن ما يلقي إلى الناس أنه الحقيقة فتفسد أخلاقه، ويأتي إليه التكذيب لكل ما يُلقى إليه. ومن هنا فإن من كذَّب الحق هو في حقيقته قد استمرأ أن يُلقي على الناس غير الحق، هذه طامة كبيرة، على المرء أن يعالج نفسه منها.

كيف يُنمِّي الإنسان عقله؟ هذا هو الموضوع، وهو موضوع مهم، كان أئمتنا بسبب ما نشأوا عليه من الفطرة لا يتحدثون عن هذا الباب كثيرًا، أي لا يتحدثون عن صياغة العقل، ويتحدثون عن ثماره حتى أنهم لما أرادوا أن يفسّروا لنا ماهية العقل، أن يفسروا لنا ما هو العقل، إنما فسروه بثماره، ما هي ثمار العقل؟ قالوا: "العقل هو الأخذ بالمحاسن وترك الرذائل"، وهذه ليست هي ماهية العقل إنما هي ثماره، فالعقل بضبطه لحركة الإنسان من حيث كونه عاقلًا، أي حبلًا رابطًا لحركته تقيّده من أن يقوم بالشر لأنه عاقل، فهذا العقل هو الأخذ بالفضائل وترك الرذائل، وهذا ليس هو العقل هذه هي ثماره.

قال ابن حزم: "العقل هو اتباع السنة"، ليس هذا هو العقل هذه هي ثمار العقل، فكانوا يتحدثون لسلامة تلك المجتمعات الأولى التي لم تدخل إليها شرور الباطل عن ثمار العقل كأنه العقل، ولذلك إن من كفر في الأزمان الأولى ذكر القرآن أن سبب كفرهم ليس هو عدم اقتناعهم بالحق بل لعدم رضا الأهواء لهذا الحق {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}؛ كفرهم بسبب الظلم مع معرفتهم بالحق. ولكننا نرى في زماننا هذا أن الكثير بل الأغلب في كفر من كفر من الأمم هو بسبب انحراف عقولهم عن الجادة، ومحاولة مشايخ العصر إقناع الآخرين بسلامة الإسلام إنما هو مأتاه أنهم عادوا على الإسلام بالتحوير والتزوير ليوافق عقولهم، وهذا يدل على أن العقول قد أصابها الانحراف.

لماذا عقولنا –نحن أهل الإسلام- أصابها الانحراف؟ هذه مسألة طويلة تحتاج إلى تحرير وإلى بيان شديد، لها أسباب بسبب ممارسات بِدعية أثرت على أنماط عقولنا، فمن ذلك الصوفية؛ فإن أساس الصوفية يقوم على تحليل الأحداث عن طريق "الكَشْف" أو ما يسمى بـ"الجَذْبَة"، وهي قضية لا سنة فيها ولا برهان فيها، هكذا زعم الشيخ، هكذا حلَّل الإمام، هكذا فكَّك القائد، هذا فتح رباني.

هذه قضية منها الصوفية، الحديث عن علل وأسباب انحراف العقل المسلم تحتاج إلى طويل بيان يا قوم، أنتم أيها الإخوة ونحن بسبب أمراض كثيرة صرنا نعدُّ أن العلم هو استطاعة المرء أن يحفظ الكمية لا أن يُكيِّف هذه الكمية بعلم صحيح، نحن نجزم أن بعض الناس في زماننا هذا يحفظ من الأحاديث واطلع على الشريعة المروية أكثر مما اطلع عليها كبار الصحابة، فلماذا هذا الصحابي فاعل في حياته، مؤثر في محيطه، واصل إلى مبتغاه عن طريق صراط مستقيم أي بأقرب الطرق؟ ولماذا كثرة الرواية عند رجل لم تصنع منه رجلًا فاعلًا كما كان عند الصحابة؟

أتريدون أن تحفظوا الروايات؟ أتريدون أن تحفظوا كمية هائلة؟ إنها لا تصنع شيئًا مع عقل فاسد {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ}.

ولما رجعت من خطبة الجمعة السابقة جعلتُ أُقلِّب القرآن باحثًا عن آية جامعة بين السمع وبين العقل، بين النقل وبين العقل، بين ضرورة اجتماعهما؛ لأني شعرتُ أني لم أقدم آية فيما ذكرت، والمسألة هداية من الله -عز وجل-، فلما نظرت وتفكرت فوجدتُ هذه الآية، ولم أقرأ في شيء من كتب التفسير مبيّنة لهذا الفضل {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} وهو النقل الذي يأتي به النبي، {أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، فالسعير يصل إليه المرء لعدم عقله أو لعدم سمعه، وتكون الطامة الكبرى من دلالات هذه الآية حينما يكون المرء سامعًا لا عقل له، كما قال الله: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} إذًا هو يسمع ولكن لا يأتي بخير بسبب عدم عقله.

أردت أن أنبه في هذه الخطبة على قيمة التاريخ، على قيمة القراءة الواعية للتاريخ؛ لأنه يحرر العقل من أوهام الخرافة، ويحرر العقل من أوهام المكذوبات، إذ التاريخ -يا قوم- هو سنة الله في الحياة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، النظر في الأخبار الماضية عبرة وعظة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، فقراءة التاريخ تحرر العقل وتنظفه، ولذلك كان من شأن الأئمة السابقين أن يكتبوا التاريخ، وقد ألف كثير من الأئمة في قيمة هذا العلم وأهميته بالنسبة إلى الإنسان، ومنهم الإمام السخاوي -عليه رحمة الله- في كتابه (التوبيخ لمن ذم التاريخ)، فإن أُناسًا يظنون أن قراءة الحياة التي هي تاريخ الأقوام السابقة هي مضيعة للوقت، التاريخ قراءة الأخبار، قراءة ما تم في حياة الأمم كيف نشأت وكيف بادت، قراءة أخبار الصالحين وأخبار كذلك الهالكين الصالحين، إنما تنوِّر القلب وتكشف للإنسان عبثية هذه الحياة بالنسبة لمن أرادها عبثًا أنه سينتهي، وكرامة هذه الحياة لمن أرادها سنة يسير فيها خطوة بخطوة.

وقراءة التاريخ تعلمك -يا رجل- كرامة السُّنة وأنها لا تُحابي أحدًا؛ فإن الإنسان عندما يقرأ تاريخ الأقوام السابقين من الملوك ومن العلماء من الثقات، من الكفرة من الصالحين من الفجرة، فإن المرء يدرك أن هذه الحياة تسير في سنة لا يمكن أن يكون فيها شيء من العبثية أو يكون فيها شيء من الصدفة، وهو الشيء الذي يحكم عقول المسلمين بالنسبة في خروجهم من مأزق الحياة. كيف هذا؟ إن كثيرًا من المسلمين ينتظرون في هذا العصر آية من السماء تنزل فتنقلب الأحوال من هذا الواقع السيء إلى واقع حسن، إن قراءة التاريخ تقول لك هذا من العبثية التي تتبرأ عنها سنة الله -سبحانه وتعالى-، وأن هذه الحياة لا بد أن يسير المرء فيها سيرًا سُننيًا.

قراءة التاريخ تُسقط من قلبك التعلق من هذه الحياة؛ لأنك ستدرك أنه مها بلغ شأن دولة ما أو شأن رجل ما فإن مصيره إلى مصير أدنى رجل وأرذل رجل، وإنما قيمة الحياة فيما يأخذه المرء معه إلى قبره {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}.

وإني لاقف حائرًا في أخبار كثيرة في هذا العصر، الناس يؤمنون بها إيمانًا قويًا على أنها على جهة ما وعلى هيئة ما، يعني لو ذكرت لكم بعض الأخبار التي تسيطر علينا بحكم دراستنا في مدارس معينة أو بحكم اطلاعنا على وسائل إعلام ما، لوجدنا أن في عقولنا استقرارًا لـمُسلَّمات وأفكار أو لأخبار؛ لأنه قد جرى تعمية الخبر الصحيح وإفشاء عن طريق وسائل البيان والدعوة والإعلام الخبر الفاسد، ولكن التاريخ يا قوم أبى إلا أن يُظهر المخالف، عندما يقول سفيان الثوري -عليه رحمة الله-: "لو فكر رجل في سحر الليل أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصبح الناس يقولون فلان كذاب"؛ بمعنى هذا أنك تستطيع أن تلعب حينًا، وتستطيع أن تخدع الحقيقة حينًا، تستطيع أن تُخادع الناس حينًا، وأن تتلاعب تلاعب الساحر والحايل، وأن تزوِّر على المحيط بك خبرًا أو قضية، ولكنها مضت سنة الله -عز وجل- أن يَبين الحق وأن يظهر الحق وأن يكتشف الناس هذا.

مضت سنة الله على أن سنة الله في التاريخ لا تحابي أحدًا من البشر، فكثير من الناس لبسوا مسوح الضأن والرهبان، فما هي إلا أحداث ما حتى تكشَّفت بواطنهم عن ذئاب وكلاب، عن ذئاب شرسة وكلاب خادعة مسعورة.

سنة الله تُبيُّن لك في هذا إن خدعت الناس حينًا فإن التاريخ لا يرحم وسيظهر كل شيء، سنة الله -سبحانه وتعالى- قضت أن يبرِّئ الله البريء وأن يكشفه، هؤلاء علماء ماتوا بسبب ظلم الناس لهم فرفع الله شأنهم، لما ألف الإمام مالك كتابه (الموطأ) وجعل الله له الصيت في الأرض، سارت به الركبان في شرق الأرض ومغربها، أراد الناس أن يسيروا على منواله وأن يكتبوا موطئًا حتى يكون لها الشهرة التي لموطأ الإمام العظيم المبجل الإمام مالك، فكتبوا، فجاء إليه بعض تلاميذه يقول له: يا إمام لقد كتب الناس كما كتبت فانتشرت الموطَّئات، فقال: "ما كان لله يبقى"، قال الراوي: "وكأنها غارت في بئر"؛ أي لا يسمع الناس شيئًا عن خبر الموطئات الأخرى، ولم يبقَ إلا النجم موطأ الإمام مالك، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

خديعة الله -عز وجل- لا تتم، وحركة الحياة التي هي التاريخ حركة الحياة هي سنة الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، والله إن رجلًا يخادع الناس مهما كان شأنه سيفضحه الله -عز وجل- ولو في جوف بيته، وسيسير في الناس الكلام فلان كذاب فلان صادق، وستتكلم النساء في خدورها عن الحق، هكذا يغشى الحقُّ القلوب، يغشى قلوب الناس وهكذا يظهر الباطل.

سنة الله -عز وجل- تعلِّمك أنه ليس بنفسيتك ولا بأهوائك ولا بأمانيك وإن كنت صالحًا يُعطي الله النتائج {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أمانيكم لا قيمة لها، هؤلاء هم العرب كلهم يتمنون أن يكون أولادهم ذكورًا، فماذا صنعت تلك الأماني؟ هل أتى أولادهم ذكورًا؟ كلكم يتمنى نصرة الإسلام وهزيمة الشرك فماذا كانت لأمانيكم؟ إنما قيمة الحياة بالعمل لا بالأماني، وإن كانت الأمنيات والتمني لها الأجر العظيم عند الله -عز وجل- في الآخرة؛ لأنها تبين عن رغبة الإنسان وعن شهوته، فإن كانت شهوته وأمنيته للدين لا يضيع الله له أجرًا، ولكن لا يتم في هذه الحياة من أثر ولا يقع من مُسبَّب إلا بعمل، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}،{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ}.

سنة الله -عز وجل- في الكون تردع الجاهل الغافل الذي يعيش في أحلامه أو الذي يتَّبع تماجر غيبه أو تماجر سُكره.

سنة الله -عز وجل- تعلِّمك وهي التاريخ في قراءتها تكشف لك عظمة الله، وقدرة الله -سبحانه وتعالى-، فإذا أردت أن تعيش ألف سنة فاقرأ كتب التاريخ التي تُعرِّف لك ماذا حدث في ألف سنة، الإنسان يستطيع أن يطوِّل عمره وأن يكتشف الحياة بقراءة كتب التاريخ. اقرؤوا كتب العلماء لتتنور العقول وتتنظف من أوساخها ومن جهالتها، إنها سنة الله التي يجب على المرء أن يحترمها، وهي لأنها لا تُبدَّل ولا تُحوَّل، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينظف عقولنا مما علق بها وفيها من إطارات الشر والفساد.

أيها الأحبة، إن أول أمر طلبه أئمتنا هو أن نقرأ كتاب الله، وكتاب الله -عز وجل- فيه من الأمور التاريخية التي خفت أو التي تبيَّن أمرها الشيء الكثير، في كل يوم جمعة أنت مطالب أن تقرأ سورة الكهف وفيها من الأخبار التاريخية ما الله به عليم، فيها أخبار أهل الكهف، فيها أخبار ذي القرنين -رحمه الله-، هكذا هو القرآن.

ثم طُلب منا أن نقرأ السنة وفيها من الملح العظيمة في أخبار التاريخ ما ينبغي أن يهتم بها المرء.

وعلينا أن نقرأ كتب أهل العلم في كتب التاريخ، وأنتم تعرفون بعض الكتب منها (تاريخ الأمم والملوك) للإمام محمد بن جرير أبي جعفر الطبري -عليه رحمة الله-، وعليكم أن تهتموا بقراءة السند؛ لأن هناك الأخبار الكثيرة التاريخية التي ذكرها أئمتنا على جهة الرواية لا على جهة الإقرار لها، ولكن من لم يسعه ذلك -أي أن يحقِّق كل رواية من هذا الكتاب- فعليه أن يرجع إلى بعض الكتب المهمة.

ومن أفضلها تصويرًا للحالة وأصدقها في بيان كذلك الحالة هو كتاب الإمام ابن الأثير الجَزْري المسمى بـ(الكامل في التاريخ) فهو كاسمه أي هو كامل؛ مدحه أئمتنا وذكروا عنه كما ذكر ابن حجر -عليه رحمة الله- أنه يصف لك الخبر كأنك تُعاينه، وإن كان الإمام ابن الأثير منحرفًا عن صلاح الدين لأنه كان معظِّمًا للدولة الزنكية وصلاح الدين هو الذي ورث الدولة الزنكية فكان منحرفًا عن بعض أخباره.

ومنها كتاب (البداية والنهاية) وعلى المرء أن يتجنب تلك الأخبار الأولى في بداية الخلق؛ لأن عامة ما أُخذ إنما أُخذ من التوراة، من (سفر التكوين) في بداية التوراة.

عليه أن يقرأ كتاب (الـمُنتَظَم) لابن الجوزي -عليه رحمة الله-.

هذه بعض الكتب، وهناك كتب كثيرة تسمى بالطبقات، أو ككتب التاريخ التي تهتم بالرجال وخاصة رجال الحديث، هذه كتب على المرء أن يطالعها وأن يُكثر النظر فيها ليرى سنة الله، كيف مضى إن فلانًا كذّاب وفلان صادق وفلان ثقة، ولم تحابي سنة الله -سبحانه وتعالى- أحدًا، لم تحابي ملكًا ولم تحابي رئيسًا ولم تحابي جاهلًا، من كان له شأن في حياته كتب الله أن يُخلِّد اسمه وصفته هل هو من خير البشر، هل هو من شر البشر.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يستر علينا عيوبنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا وأصلحنا، ووفقنا لعمل الصالحات وترك المنكرات، واجعل باطننا كظاهرنا واجعل باطننا خيرًا يا أرحم الراحمين، واجعلنا من أتباع سنة سيد المرسلين.

وأقم الصلاة.

 

/files/justpaste/d251/a10028307/oa2cc6.png