JustPaste.it

النصيحة العلنية.. وشَغَب الجامية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدلله، أما بعد؛

 

فإنَّ للنَّصيحة أهميةً عظيمة، لكونها عمادُ الدِّين وقوامه، وبِها يَصلح العباد، ويسود الأمن، ويزيدُ الإيمان، ويعمّ الرَّخاء في البلاد.

 

كيف لا، وقد جاء في الحديث عن أبي رقية تميمِ بن أوس الدّاري - رضي الله عنه - أن النبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: (الدّين النصيحة)، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتِهم)؛ رواه مسلم.

 

ولأنّ النصيحة بهذه المنزلة العظيمة، وبهذا الأثر الكبير؛ فقد سعى الشيطان وأعوانه في تحجيمها وتكبيلها وتقييدها بحيل خبيثة، وأساليب ملتوية، وطرائق متنوعة، كان أخبثها وأخفاها ما يشغب به الجامية على الناصحين والمصلحين، وسأحاول في هذا المقال الموجز تفكيك شبههم والرد عليها مبتغياً الحقّ بعون الله وتوفيقه.

 

أولاً: النصيحة العلنية العامة لا تقتضي قصدَ عينِ الحاكم

 

يُلاحظ الجميع أنّه ما إن ينبري مصلحٌ لإنكار منكر في دائرة أو مؤسسة أو جهة، إلا تكالب عليه الجامية بنصوص النصيحة السرية، وبصرف النظر عن فهمهم السقيم لتلك النصوص؛ فإنّ هذا تشغيب لا يصحّ، وإنزال للنصوص في غير محلها، وخساسة في الاستعداء والتأليب؛ لأنّ الحاكم غير مطّلعٍ على جميع ما يجري في دولته، وكم من فساد يتم بلا إرادته ولا علمه؛ ولذلك أُنشِئت هيئات مكافحة الفساد، ووضعت أرقام التبليغ عن المفسدين.

 

فالناصح إنما يقصد المسؤول المباشر عن تلك المخالفة، كأن يكون موظفاً، أو مدير دائرة، أو رئيس قسم، ونحو ذلك، ولو قصد الحاكم بعينه فإنّه سيخصّه باسمه أو وصفه، ولكن الجامية يعتسفون المقاصد ويتمحّلون التأويلات، فيجعلون نية الناصح موجهةً إلى حاكم البلاد مباشرة؛ لسببين:

 

أ: لينزلوا عليه نصوص النصيحة السرية بفهمهم السقيم المخالف لتطبيقات السلف.

ب: ليرهبوا الناصحين ويمنعوهم عن الجرأة على النصيحة علناً.

 

ثانياً: النصيحة لا تعني الحقد

 

يحاول الجامية إيهام الناس بأنّ الناصحين يبيّتون حقداً على المنصوحين، وبغضاً لهم، وتمنياً لزوالهم، وكرهاً لمناصبهم، وهذا لمرض في عقولهم وقلوبهم؛ فإنّ الناصح من أشفق الناس على المنصوح، ولا يُسعده شيء مثل توبة ضال، أو تراجع مخطئ، أو زوال منكر، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ولك أن تنظر كيف يتم الاحتفاء والاحتفال بالمتراجعين عن أخطائهم، والتائبين من معاصيهم.

فالتصوّر بأنّ المحتسبين لا ينكرون لوجه الله، وإنما لأحقاد وأضغان وحظوظ شخصية إنما يدل على قلوب عليلة، تشرّبت سوء الظن بالمسلمين.

 

ثالثاً: الناصحون ليسوا معصومين

 

لا أنكر وجود دخلاء على الاحتساب، ولا أنكر وجود أخطاء عند الناصحين؛ فقد يأخذهم الحماس والعاطفة، وقد تخونهم العبارات أحياناً. ولكن إذا تأكدنا من سلامة المقصد فالمعالجة تكون بأسلوب المُحبّ لهذه الشعيرة، والمقوّي لها، والمعزّز لوجودها، وليس بأسلوب الكاره لها والمتمني زوالها.

ثم إني لا أدعو إلى النصيحة العلنية مطلقاً، بل أدعو لمراعاة المصلحة والمفسدة، وتغليب الراجح فيهما بفهم صحيح متوازن بلا إفراط ولا تفريط.

 

رابعاً: لماذا يحاربون (النصيحة الدينية) ويرحّبون بـ (النصيحة الدنيوية) ؟

 

اقرأ أي جريدة، وافتح أي قناة، واستمع لأي إذاعة، وشنّف أذنيك بأنواع النصائح العلنية في أمور الدنيا: إما حول فساد مشروع طريق، أو حول أخطاء طبية، أو حول قصور خدمات بلدية، أو حول تهالك مباني مدرسية، أو حول اختلاسات مالية، وغيرها وغيرها.

بل قد تصل أحياناً إلى التشهير بمسؤول كبير، أو وزير ونحو ذلك، ويحصل جرّاء ذلك من الغضب العارم، والهيجان الشعبي مالا يخفى على أحد.

أين الجامية عن إنكار تلك النصائح؟

لِمَ لا يعتسفون مقاصد أصحابها - كما يفعلون مع المصلحين - فيتهمونهم بتأليب الرأي العام؟

لِمَ لا يجعلون تلك النصائح من وسائل إيغار الصدور؟

إذن؛ حربهم وخصومتهم فقط لمن يهمّه صلاح الدين، وأما من يهمّه صلاح الدنيا دون الدين؛ فلا حرج عليهم أن ينكروا وينصحوا ويصلحوا كيفما شاؤوا!

 

خامساً: تحميل العلماء والدعاة مسؤولية المصائب السياسية

 

عشناً رجباً فرأينا عجباً .. رأينا من الجامية من يُحمّل الشيوخ الفضلاء: العريفي والطريفي والشريم وغيرهم مسؤولية ما يحدث في العالم العربي من نكبات سياسية ومآسي إنسانية ومصائب اقتصادية، حتى نسينا بشار وإيران والصهاينة والنصيرية وأمريكا وروسيا، ومعرفة هذا القول يكفي لإبطاله.

ولكن من باب المجاراة أوجه سؤالاً للجامية:

لماذا لا نراكم تحمّلون قناة روتانا مثلاً مسؤولية الانحراف السلوكي بين الشباب؟

لماذا لا نراكم تحملون قناة ام بي سي مسؤولية انتشار ظاهرة التفحيط والخطف والاغتصاب والمخدرات؟

لماذا لا تحملون الأفلام الوثائقية التي تبثها العربية عن الثورات الغربية مسؤولية التحريض على المظاهرات؟

وإذا كان أولئك المشايخ يتحملون مسؤولية شرّ أعمالهم – على زعمكم – فلماذا أيضا لا تجعلونهم سبباً فيما يوجد من خير وصلاح وهداية نتيجة دروسهم ومواعظهم ودعوتهم؟

إذن، العلماء والدعاة والفضلاء لا يصدر عنهم  إلا الشرّ، ويتحمّلون نتائج ذلك الشرّ.. وأما القنوات العلمانية المتمردة، وقنوات الرقص المتفحشة، وقنوات الأفلام المتفسّخة، فلا يجوز تحميلها  مسؤولية ما يجري على الواقع؛ إذ كل إنسان مسؤول عن نفسه وعن أخلاقه وعن أفعاله، ولا علاقة لتلك القنوات به.

 

أحسب أنّ هذه الوقفات كافية للرد على شبه الجامية حول النصيحة العلنية، وساردّ على ما يستجد منها في حسابي.

 

والله أعلم

عبدالله الفيفي

@alfaifawi_a