JustPaste.it

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d239/a9623682/0027-small2.gif

logo-small_small.gif

من أبنية الورق لشيخ المعرة

هاجس الاغتراب والقلق

للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أبو العلاء أحمد بن عبدالله المعري؛ قنطرة في تاريخ لغتنا العربية لا يمكن تجاوزها بغير اهتمام.

عده بعض العلماء زنديقا مثل ابن عقيل الحنبلي وتلميذه ابن الجوزي كما في "المنتظم" و "تلبيس إبليس"، والإمام ابن الوزير اليماني كما في كتابه "نصر الأعيان على شعر العميان".

ودافع عنه آخرون كالشيخ كمال الدين بن الزملكاني الشافعي كما في "نكت الهميان"، والأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أباطيل وأسمار" والشيخ طه الراوي كما في كتيبه "أبو العلا في بغداد" والشيعي محسن الأمين العاملي كما في "أعيان الشيعة" .

ولعل أوسع الكتب تفسيرا لشعره على وجه يحمل الدفاع عنه هو كتاب محمد سليم الجندي "الجامع في أخبار أبي العلاء" في ثلاث مجلدات..

استغل أعداء الدين الكثير من كلام أبي العلاء في نقد الدين، وحاولوا النفخ في كثير من عباراتة، وحملوها رهقا من المعاني، حتى صار شيخ المعرة هو الحائط الذي يستند إليه كلامه لنقد الإسلام والمسلمين..

في هذه "الأبنية من الورق" كما وصف هو كتابه "اللزوميات" - أعلن في المقدمة أن فيها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد. ولكن فيه الكثير من نقد واقعه السياسي والاجتماعي والتدين الجاهل، فلا يضرنا شىء إن ما شينا شيخ المعرة في نقده للناس - علية وسفلة -

أول بيت قاله في لزومياته:

أولوا الفضل في أوطانهم غرباء

تشذ وتنأى عنهم القرباء


كانت الغربة هاجس الشيخ، وهي هاجس أهل الفهم والعلم، فإما أن تطحنهم، وإما أن يسقون بلحائها، فتصلب أعوادهم وتتفتق أذهانهم. هاجس الغربة لقلة الصديق، وعي السامع، وجلد الفاجر، وعجز التقي، لازم الشيخ حتى آخر أبياته:

الدهر لا تأمنه لقوة

تزق أفراخا لها بالسلى

إن يرحل الناس ولم أرتحل

فعن قضاء لم يفوض إلي

خلفت من بعد رجال مضوا

وذاك شر لي وشر علي


كلماته هذه هي ترديد كلمات عائشة الصديقة المبرأة من فوق سبع سماوات:

ومضى الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب


أما الموت فهو راحة هذا القلق، وهو القاطع لهذه الغربة: "بل الرفيق الأعلى" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الشيخ فيقول:

بني الدهر مهلاً إن ذممت فعالكم

فإني بنفسي لا محالة أبدأ

متى يتقضى الوقت والله قادر

فنسكن في هذا التراب ونهدأ

تجاوز هذا الجسم والروح برهة

فما برحت تأذى بذاك وتصدأ


هل هناك إنصاف أكثر من هذا: لقد ذمتت أفعالي قبل أن أذم أفعالكم. إنه قلق وهاجس البحث عن المعالي وشرف المكارم:

كم وعظ الواعظون منا

وقام في الارض أنبياء

فانصرفوا والبلاء باق

ولم يزل داؤك العياء


لكن ماذا يفعل من يعيش بين:

أراهم يضحكون إلي غشا

وتغشاني المشاقص والحظاء [1]

فلست لهم وإن حربوا أليفا

كما لم تأتلف ذال وظاء


وهل له غير الشكوى إلى الله:

إلى الله أشكو مهجة لا تطيعني

وعالم سوء ليس فيه رشيد

حجى مثل مهجور المنازل دائر

وجهل كمسكون الديار مشيد


أما إن أردت المعاشرة ولم ترض بالهروب فلا بد من الصبر:

من عاشر الناس لم يعدم نفاقهم

فما يفوهون من حق بتصريح


قل لنا يا شيخ ما شرهم:

ومن عاش بين الناس لم يخل من أذى

بما قال واش أو تكلم حاسد


نعم إنه إما واش يكذب عليك الشر، نمام منافق، أو حاسد يتمنى زوال الخير.. إنها طامة وأي طامة.. مع هاجس الغربة ماذا يطلب الشيخ والى ماذا يسعى؟

من أحسن الدهر وقتاً ساعة سلمت

من الشرور وفيها صاحب حدث


لكن أنى له هذه الساعة وأين سيجد هذا الصديق؟

عرفت سجايا الدهر أما شروره

فنقد وأما خيره فوعود


وحين نستنطق الشيخ عن الزمن الذي يعيبه، والوقت الذي يشتمه يسارع مجيبا:

ألا أن أخلاق الفتى كزمانه

فمنهن بيض في العيون وسود


زدنا يا شيخ ماذا تريد؟ وماذا يريد الناس منك؟

خذ رأيي وحسبك ذاك مني

على ما في من عوج وأمت [2]

وماذا يبتغي الجلساء عندي

أرادوا منطقي وأردت صمتي


هيه! ماذا أيضا:

فأطيب أرض الله ما قل أهله

ولم ينأ فيه القوت عن يدك السفر


لم نرتو بعد نسمع:

وجدت الناس كالأرضين شتى

فمن دمث يرتع أو حرار

جليس الخير كالداري ألقى

لك الريا كمنتسم العرار [3]

ولكن ضده في الربع قين

أطار إليك مفترق الشرار

يباكر ظالما جنفا وغراً

كما بكر الظليم إلى العرار [4]


فماذا عن صوفية زمانك؟

صوفية شهدت للعقل نسبتهم

بأنهم ضأن صوف نطحها يقص

تواجد القوم من نسك بزعمهم

والله يشهد ما زادوا كما نقصوا [5]


أوغيرها؟

صوفية ما رضوا للصوف نسبتهم

حتى ادعوا أنهم من طاعة صوفوا

تبارك الله! دهر حشوه كذب

فالمرء منا بغير الحق موصوف


فهل معنى ما تقول انك تنكر التعبد؟

ذوو النسك خير الناس في كل موطن

وزيهم بين المعاشر خير زي


فهل لك قول في التوراة؟

قل لنا عن الرهبان: أتركوا الدنيا زهدا أم لماذا؟

يا آل يعقوب ما توراتكم نبأ

من وري زند ولكن وري أكباد(6)

إن كان لم يبد للأغمار سركم

فأنه لي في أكنانه بادي

لقد أكلتم بأمر كله كذب

على تقادم أزمان واباد

ورابني أن أحبارا لكم رسخوا

في العلم ليسوا على حال بعباد

الراهب المسجون فرط عبادة

من حب دنياه الكذوب موله

أعرفتم أصحابكم بحقيقة

أم كلكم عنه غبي أبله؟

ذكر التأله فادعوه تخرصا

ما هذه أفعال من يتأله


وأخيرا ماذا عن أهل السياسة عندكم؟

يسوسون الأنام بغير عقل

فينقذ أمرهم ويقال ساسه

فأف من الحياة وأف مني

ومن زمن رئاسته خساسه


أما الحال ففي البلاد بلاء:

يكفيك حزناً ذهاب الصالحين معاً

ونحن بعدهم في الأرض قطان

إن العراق وإن الشام من زمن

صفران ما بهما للملك سلطان

ساس الأنام شياطين مسلطة

في كل مصر من الوالين شيطان

من ليس يحفل خمص الناس كلهم

إن بات يشرب خمراً وهو مبطان

متى يقوم إمام يستقيد لنا

فتعرف العدل أجيال وغيطان


وحفظك الله..


(1) المشاقص: النصال العريضة، والحظاء: السهام الصغيرة.
(2) ارتفاع.
(3) الدراي: بائع المسك، والعرار: حب بهار رائحته طيبة.
(4) يقول أن ضد الخير الذي يرويك وتشم منه الطيب هو الرجل العبد الذي يرمي لك بالشر وكثرة الصياح، ويلاقيك بصوت صارخ ظالما ومائلا عن الحق.
(5) النقص: الصياح والرقص.
(6) الزند هو بمعنى العقل ووري الكبد هو قيحها.

tealscrollroses_small.gif

جمع وتنسيق النخبة للإعلام (تويتر)