JustPaste.it

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d239/a9623572/0027-small2.gif

logo-small_small.gif

نظرة جديدة في الجرح والتعديل؛الألباني

للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني

من نافلة القول أن نذكّر الإخوة أن الشيخ الألباني هو هو، حيث بارك الله تعالى بجهوده في خدمة السنّة المظفّرة، فانتشر بين طلبة العلم منهج النّقد في علم الحديث، وتوقّف المسلم عن الجرأة على سوق الأحاديث على هناتها دون تمحيص أو مراجعة، ثمّ حصل من الخير ما يلاحظ من تسهيل نوال السنة النبوية بين يدي المسلمين عامّة وخاصة، حيث قُرِّبت السنة ومصادرها، فصار التّعامل مع كتب الحديث النبوي مباشرة، فذهبت تلك العصور التي كان يُنظر فيها إلى كتب الحديث أنها كتب السّر، أو ما يسمّى بكتب البركة، لا تخرج من مكانها إلا من أجل قراءة طلب الأجر، لا من أجل العلم والعمل والإتّباع، كل هذه الثّمرات وغيرها مثل محاربة التقليد والتّعصّب المذهبيّ، كان للشيخ ناصر الألباني اليد الطولى في نشره وبثّه، وهذا يستدعي منّا أن ندعو له في خلواتنا، وأن نشكر له فضله بألسنتنا وقلوبنا. فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء. ولا يشكر الله من لم يشكر الناس، والشيخ ناصر الألباني من خيار الناس في هذا الزمان.

ولمّا كان الشيخ ناصر من العلماء، ومن أهل السنّة، بل من مقدّميهم، وكان ممّن ينظر إليه ليُقتدى به، كان من الواجب على من عرف مزالق الشيخ، أو وقع له على أخطاء يخاف منها أن تصبح ديناً يُتّبع، أو منهجاً يُسلك أن ينبّه عليها، أو يَكشف عنها أداء لأمانة التّبليغ، وقياماً بحقّ هذا الدين على كل مسلم، وليس هذا من كشف العورات، ولا من فضح المخبوء، لا والله، بل هو من واجب البيان الذي أمر الله تعالى به، وهو دلالة صحة في هذه الأمة، وعندما يأتي الوقت (ونحن نعيش فيه) الذي يصبح فيه الأشخاص أوثاناً، فيَحرُم الاقتراب منه، وعندما يقدَّس الرجال على حساب الفكرة، فحينئذٍ تكون هذه علامة شرٍّ في هذه الأمة، ودلالة سوء تنذر بضياع دين الله تعالى، وللذّكر فالعبد لله كاتب هذه السّطور لا يُحزنه ولا يُغضبه أن يغضب أهل التّقليد، أو أن تحمرَّ أنوفُ من يعبد الذوات البشرية والرموز، لا والله بل يُفرحه أشدّ الفرح، ويرجو من الله أن لا يضيع أجره ولا يخيب ظنه، ولعلّ لي العذر أن أقدّم هذه المقدّمة وأنا أكتب عن الشيخ ناصر فهو رجلٌ من النّاس يخطئ ويصيب، وربّنا وحده هو القدوس، لكني أعلم أن قوماً أبغضوا الشيخ، وغالوا في البغض، حتّى هلكوا، وقوماً أحبّوه وغالوا في حبّه حتى هلكوا، وأنا بشرٌ أرقب زفرات الغضب من مبغضيه حين أمدح، وأرقب نظرات الغضب من محبّيه حين أكشف شيئاً، لكن على الله توكّلنا فهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والشيخ حبيبٌ إلينا، والحقّ أحبُّ إلينا منه.

من المهمّ أن ننبّه على أمرٍ ملاحظٍ في مسيرةِ الشّيخ وفي حركة حياته، وهو أنّ الشيخ كان دوماً يُستغل من قِبل الآخرين في إثارة المعارك، وفي اتّخاذه من قبل الآخرين دريئة، ومحارباً على حساب الآخرين، وهذا أمر ملاحظ، وإلى الآن للأسف الشّديد: وإليك البيان في سورية، عندما مات المراقب العام للإخوان المسلمين ومؤسّس التنظيم هناك، الشيخ الدكتور مصطفى السّباعي - رحمه الله تعالى - وكان الشيخ الدكتور في منهجه العلميّ قريباً من المنهج السَّلفي، ولاعتباراتٍ تاريخية وحياتيّة كان الإخوان المسلمون في سورية قد انقسموا إلى قسمين من ناحية المنهج، فهناك أهل الشّمال وخاصة مدينة حماة يميلون إلى التّقليد واتّباع المذاهب، وكانوا على الأغلب متأثّرين بالشيخ محمّد الحامد، وهو من مناصري المذهبية، وكان أهل دمشق في الجنوب على الضدِّ من ذلك، فهم سلفيّة أو قريباً منها، وكانت الخصومة هناك دائرة ين الاتّجاهين، حتّى كان كتاب فقه السنة للسيد سابق يدرّس في حلقات دمشق، وكان هذا الكتاب يَحْرُم النّظر فيه في حماة.

وعندما مات الدكتور مصطفى السباعي، آلت القيادة إلى الأستاذ عصام العطّار، وهو من تيّار دمشق، ولكن تيّار المذهبية والمقلّدة لم يسكن ولم يستكين، فما أن ظهرت أوّل بادرة وفرصة لتيّار حماة حتّى استغلّها ونقل القيادة إلى حماة، ذلك لأن عصام العطار خرج إلى الحجّ، وعندما أراد العودة عن طريق البرّ من الأردن منَعته السلطات السوريّة من دخول سورية، فاجتمعت القيادة في سوريّة وقرّرت أن القيادة يجب أن تكون ميدانية، وقرّروا نقل القيادة إلى الشيخ المذهبي عبد الفتّاح أبي غدّة وهو حلبي، وعلى ضوء هذا الحدث تمّ الخلاف في داخل صفوف الإخوان، فبعضهم رفض هذا الانقلاب، ورفض الأستاذ عصام هذا التغيير كذلك، وبعضهم رضي ذلك، وكان تيّار دمشق مع العطار في أغلبه، وعندما عرض هذا الأمر على القيادة المصريّة، أيّدت إمارة عبد الفتاح أبي غدة، فما كان من تيّار دمشق إلاّ الانفصال، وحينها سمّي هذا التنظيم بالطلائع، وكان من المنفصلين والمؤيّدين للأستاذ عصام زهير الشّاويش، وهو رجل مهتمٌّ بنشر الكتب وطباعتها، وكان الشيخ ناصر الألباني يشتغل في المكتب الإسلامي لصاحبه زهير الشاويش، وبذكاء يُعترف به استطاع زهير الشاويش إدارة الشيخ ناصر الألباني في هذه المعركة تحت ستار محاربة المذهبية والصوفية والأشاعرة، نعم عبد الفتاح أبو غدّة هو كذلك مذهبيّ صوفيّ ماتُريدي، لكن لماذا هذا الاهتمام كله من قبل الشيخ ناصر بأبي غدّة، وهناك من هو أكثر عداءً للسلفية في بلاد الشّـام، حتى وصل الأمر أن يفتتح طالب العلم كتب العقيدة الصحيحة بهذه الخصومة بين الشيخ ناصر وبين أبي غدّة، بل خصّ الشّيخ ناصر أبا غدّة بكتابٍ مستقل في التعليق عليه، وكشف أخطائه وهفواته، بل ومراقبة خُطَب أبي غدة وملاحقته في كشف حقيقته عندما ذهب للجامعات السعودية للتدريس فيها، وهو أمرٌ لا يستطيع أن يفسّره المرء المطلع إلا استغلالاً من قبل زهير الشاويش للشيخ ناصر في خصومةٍ لم يكن الأصل فيها خلافاً بين سلفية ومذهبيّة أبداً.

وبقي الشيخ ناصر مُستغلاّ من قبل صاحب المكتب الإسلامي في إدارته كمحاربٍ ضدّ الخصوم.

رَحل الشيخ ناصر إلى الأردن وبدأت السلفيّة كشعار تحمل اتّجاهاتٍ متعدِّدة، فهناك سلفيةٌ ترى خوض العمل السياسي، وترى وجوب التنظيم، وترى خوض غمرات الحياة، وهي كذلك خطوط متعددة، فبعضها يرى العمل من خلال البرلمانات الشركيّة، وبعضها يحرّم ذلك، وبعضها يرى التّنظيم العلمي، وغيره يرى التنظيم العسكريّ، وهناك سلفيّة اصطلح بعضهم عليها إطلاق لفظ العلميّة، فهم يحرّمون العمل السّياسي.

والأدلة على ذلك متضاربة بينهم، فهناك منهم من يرى حكّام هذا الزّمان أنّهم مسلمون والخروج عليهم بغيٌ وعُدوان، وهناك من يرى عدم جدوى الحديث في هذه الأمور، وهذا التيّار يرى حرمة التنظيم وأنّه بدعة جديدة، وهناك وهناك ممّا يصعب حصره وذكره، وكلّ هذه الاتجاهات خرجت من عباءة السلفية، بل إنّ هناك من التّيارات السلفية ما ترى أنّ فِقه الواقع هو عين الجهل بدين الله تعالى، وهناك من يرى وجوب فقه الواقع.

وكلّ له دليله، وبعضهم له دليلّ وحيد فقط، هو أنّه سلفيّ.

هذه التيّارات المتضاربة تحت شعار السّلفية، حاولت كلّ جهة أن تضمّ الشيخ بثقله إلى جانبها، وتستخدمه في حروب طاحنة ضد خصومهم، وللذّكر فإنّ الخصومة بين هذه التيّارات شديدة، ووصل الأمر بها إلى الاتّهام بالعمالة، والاتّهام بالغلوّ والخروج.

قلنا حاول كل تيّار أن يجذب الشّيخ إليه، والشيخ دوماً كان يعترف أنّه لا يفقه في العمل الحركي، وهذا أمر سنبسُطه قريباً - إن شاء الله - واستطاع تيّار معيّن، بما يملك من ثقلٍ مالي ودعائي وحكومي، وقُرب من الشيخ كذلك، أن يدفع الشيخ إلى داخله فيجيّره إلى حسابه. هذا التيار هو تيّار السلفيّة المزعومة بقيادة هذا التيار في الأردن والحجاز.

كان الشيخ دوماً ينبّه على أخطاء بعض تلامذته، وأعلن مراراً أنّه استطاع أن يعلِّم لكنه لم يستطع أن يربِّي، ولكن للأسف كان وصار الشيخ أسيراً لهؤلاء التلاميذ الذين اعترف أنّه لم يستطع تربيتهم.

والأمانة العلميّة تقتضي منّا أن نكشف ستر هذا التيّار الذي شكى منه كل منصف، وتأذّى منه كلُّ عاملٍ لدين الله، ولم يَسلم من لسانه أحد حتى الذين رفعوا شعار السلف والسَّلفيّة، بل إن الكثير من الأحكام الحركية، والخصومات المعلنة بين الشيخ وخصـومه في الأشرطة والأحاديث بل ومقدّمات بعض الكتب هي من صنع هذا التيّار.

قلنا إنّ الشيخ ناصر - للأسف - يُستغل بما يملك من ثقلٍ علميّ من قبل بعضهم في صدِّ خصوم هؤلاء البعض، وفي إثارة المعارك التي لا تخدم قضيّة الإسـلام بمقدار ما تخدم أهواء ورغبات هؤلاء البعض، والمتابع لما يخرج من الشيخ ناصر من أحكام تتعلّق بالأشخاص والحركات الإسلامية يرى أنّها تصنع أولاً ثمّ تُسيَّر بطريقةٍ لا تخدم قضيّةً علميَّة، ولا تكشف حقيقة غائبة، بل هي أقرب إلى انتصار الخصوم على غير فكرة، ومنازعة المتشاكسين على غير دليل، وقبل أن أكشف عن هؤلاء البعض وعن أفكارهم وأقوالهم، قد يسأل سائل: ما فائدة هذا الأمر بالنسبة للمجاهد فيما يخصّ الشيخ ناصر؟ وهل هناك من فائدة ترجى من وراء ذلك؟.

فأقول وبالله التوفيق: نعم لها عظيم فائدة، لأنّها تبيّن آلية صدور الكثير من الأمور من الشيخ ناصر وتكشف حقيقة الواقع الذي يصبغ عقليّة الشيخ كذلك، ومن خلالها يندفع منه ما نسمع ونرى، وإذا انكشف لنا هذا علمنا أنّ ما يقوله الشيخ ناصر فيما يخص العمل الحركي والتنظيمات الإسلامية وما يخص الشخصيات الإسلامية إنّما هو رأي، والرأي لا يُلزم لأنّه ليس بدليلٍ معصوم بل هو خاضع للنّظر قبولاً وردّاً، وإذا كان عمل الشيخ هو خدمة السنّة النبوية فليس يعني هذا أن كل ما يخرج منه هو سنّة نبوية معصومة، ثمّ إذا علمنا هذا زال عنّا العجب عن وضـع الشيخ ناصر فيما يخصّ هذا الباب واضطرابه فيه، وإن الشيخ ناصر - علم أم لم يعلم - هو أسيرُ مَن حوله، منهم من يوجّهه حيناً لتجريحِ السروريَّة (كما يزعمون) فهذا شريطٌ في نقاشٍ مع سُروريّ، وحيناً لتجريح دعاة فهم الواقع، فهذا شريط ضدّهم، وحيناً شريط له عنوانٌ فاقع، مثل "الردّ على مدّعي الجهاد"، في نقاش لكتاب العمدة في إعداد العدة لعبد القادر بن عبد العزيز، وحيناً في إسقاط علمية وأخلاقيّة عبد الرحيم الطحّان، وحيناً في إخراج عبد الرحمن عبد الخالق من دائرة السلفية، وحيناً وحيناً، وهي مناقشات لم نر فيها من العلمِ شيئاً، بل نرى فيها سماتٍ غريبة عن واقع العلم وأهله، مع ما فيها من جهل بحقيقة المُتَكلَّم عليهم، فهي أمور جدُّ هزيلة ومضحكة، وللأسف أنّها تتكلّم عن الجوانب الحسنة في هذه الشخصيات، وتنبزها بالسوء، فالسرورية جريمة لأنّها تنظيم أو حزب، ولأنّها من دعاة فهم الواقع، وعبد الرحمن عبد الخالق متَّهم بنفس التّهَم، ولأنّه يؤمن بالعمل السياسي (الاتّهام كمبدأ وليس حول شرعيّة الأساليب)، عبد الرحيم الطحّان ماكر، ويتلبّس بالسّلفيّة وليس هو كذلك، ولم نسمع منهم عنه شيئاً إلاّ عندما قال كلمة حقٍّ في الطواغيت، أمّا كتاب العمدة فواضح لكلّ ذي عينين أن الشيخ لا يعرف عن الكتاب إلاّ اسمه، وأن هؤلاء الصِّبية (من حول الشيخ) أضحكوا على الشيخ القاصي والدّاني، فكان الشيخ يردّ بكتاب العمدة على كذب هؤلاء الصبية على كتاب العمدة، وهكذا يُكشف لنا مِن هذا وغيره أن الشيخ مُستخدم لضرب جوانب الصّواب في الحركات والشخصيات الإسلامية، وحين نقول أنّ آلية حدوث هذه الأفعال هو بما ذكرنا فهذا لا يعفي الشيخ من المسئولية، وعِلم الحديث أوّل ما يُعلّم وجوب التبيّن.

ونحن سنناقش الشيخ فيما سيأتي في منهجه للتغيير بما طرحه من شعار التصفية والتّربية ونبيّن حقيقة هذا الشعار السّلفي المزعوم الملتفّ حول الشيخ ناصر الدين الألباني:

قلنا إنّ التيّارات السلفية المتعددة، الصادق منها والمدّعي بلا برهان، حاولت أن تكسب الشيخ إلى صفّها، وهذا من قديم، فقد دُعي الشيخ كثيراً إلى تشكيل تنظيم سلفيّ، وقد بذلت الجهود إلى أخذ المباركة منه لبعض الأعمال من السلفيين، ولكن هناك تيّارٌ استطاع دفع الشيخ إلى داخله، والاستفادة من اسمه وتأطيره إليه، وهذا التيّار له أفكارٌ وميّـزات، وبعيداً عن البحث في آلية حدوث هذه الأفكار السلفية الغريبة. سواء من الجوانب النفسية كالجُبن وغيره. أو جوانب الانتماء الحكومي فإنّنا سنبرِزُها بصورة مجرّدة كما هي، وهذه الأفكار هي:

(1) إسباغ الشرعية على الواقع: حكوماتٍ ومجتمعات، فالحكومات في ذهنية هذا التيّار هي حكوماتٌ إسلامية، لم تفقد من أركان الإسلام شيئاً، نعم صحيح هي حكومات متغلِّبة وظالمة، ولكنَّها حكوماتٌ لها البيعة في عنق تابعيها، والخروج عليهـا بغيٌ وعدوان، فآل سعود هم حكّامٌ مسلمون، ومن تكلّم عليهم بسوءٍ فقد وضع رجله في سبيل أهل البدع، ومناقشتهم فيما يفعلون هو تطاول على وليِّ الأمر، ومثل آل سعود كذلك الملك حسين فهو مسلم إلى مشاشه، بل هو من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تجب محبّتهم، ويُعلن شيخ هذا التيّار في الأردن محمد بن إبراهيم شقرة في كثير من مجالسه: أنّه يُحِب الملك حسين في الله، وكذلك حكَّام الخليج، بل الأغرَب من ذلك أن ذيل هذا التيّار في الجزائر كان يعلن أن الخروج على الشاذلي بن جديد هو بغي على وليّ الأمر المسلم.
وأمّا المجتمعات فهي مسلمة في كلّ شيءٍ إلا في عدم لبس الثّوب العربي إلى منتصف السّاق، وفي حمل السّبحة حين الذكر، وفي تزيين المصاحف والمساجد، وأمثالها.

(2) تحريم العمل التنظيميّ ووسمه بالبدعة الجديدة، وصرف الجهود من أعمال تأليفيّة وخطب وندوات في صرف الناس عن العمل الجماعي، وكأنّه جريمة المسلم المتديّن في هذا العصر، ولذلك هم يصبّون جام غضبهم ويشتدّ احمرار أنـوفهم عندما يسمعون أن تجمّعاً قام، أو أنّ تنظيماً حدث، فيسارعون - ولا ندري بمبـاركة من؟ - إلى فضحه على رؤوس الأشـهاد والتنفير منه، وللأسف أن الكثير من التنظيمات الإسلامية السرّيّة قد كُشفت على يد هؤلاء القوم، لأنّهم يعتبرون أنّه من القربة إلى الله كشف هؤلاء المبتـدعين (كما يظنّون). وبدل أن تنـتشر في المسلمين الروح الجماعية، والعمل التنظيـمي تعمّقت لديهم الفردية المقيتة، وصار الانتماء إلى تنظيم أو إلى حركة في نفس المسلم رذيلة ومنقصة يحاول أن يتبرّأ منها، بل ويتبجّح للتدليل على نزاهته في الحكم، واستقلاله في الرؤية: أنّه ليس في تنظيم، بل ولا (منتمي).

(3) إسقاط حكم الجهاد القتالي في هذا العصر والإعلان أنّ كلّ من حمل السلاح مجاهداً في سبيل الله هو من أصحاب الفكر المبتدع، فهو إمّا خارجي أو باغٍ، وهذا الإسقاط له أدلّة متنوّعة داخل هذا التيّار، فمرّة تحت دليل أنّ الجهاد لا يجوز إلا تحت إمام عامّة، فإذا سُئلوا: هل نجاهد لتنصيب إمام عامّة؟، قالوا: هذه بدعة، وهو دَوْر منطقيٌّ فاسد، لا حل له في عقولهم، ومرة تحت دعوى: أنّ الجهاد يجرّ المصائب على المسلمين، فطريق السّلامة أولى وأسلم، ومرّة تحت دعوى أن أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر، فلماذا تتركون أفضل الجهاد إلى أدناه وهو حمل السلاح، ومرّة ومرّة... أدلّة لو عُرضت على النهج السلفيّ الحق لاستقاء منها تقزُّزاً.

(4) رفع شعار (إنّ من فقه الواقع أن تدع فقه الواقع لتكون من أفقه الناس بفقه الواقع) ولذلك هم يشنّون الغارة تلو الغارة على من حـاول فهم واقعة من خلال متابعته للأحداث الحياتية والسـياسية، أو إذا اعتمدها المتحـدث في بناء أحكامه وتصوراته عن واقعه وحياته، وهم يحتجّـون في تنفيرهم من هذه المنقبة العظيمة أنّها تُلهي عن طلب العلم الصحيح، وعلى صيغة سؤال يُقال لك: ما الأولى والأفضـل لطالب العلم، أن يقرأ كتاب فقهٍ ويحفظ حديثاً نبويّاً أو يضيّع وقته في سماع الأخبار وقراءة الجريدة؟. وهو سؤال يجد له صدىً في نفسيّة المسلم المتخلِّفة، بل وعقليته المنحطّة.

هذه أبرز سمات هذا التيّار وهي سمات وخصائص لا يسمح هذا التيار لنفسه أن يتخلّى عن شيءٍ منها.

العالم كالحاكم، إن كانت له بطانة صالحة كان حكمه صالحاً، وإن كانت فاسدة فستكون أحكامه فاسدة، وإذا كانت البطانة جبـانة كانت أحكامه تخدم الجبن والخوف، وهكذا. ولعل شريط الشيخ ناصر بعنوان: "ردُّ شبهات مدّعي الجهاد" هو خير دليلٍ على أنّ بطانة الشيخ لا تُحمد، وأنّها تدفع الشيخ إلى غير طريق الصّلاح والهُدى، وعلى الجملة فيما نعلم - وما شهدنا إلاّ بما علمنا - أنّ القائمين على هذه الأشرطة لا يخدمون علم الشّيخ بمقدار ما يستخدمون الشيخ للطّعن في خصومهم، وبعضهم يظنُّ أنّه بمجرَّد قُربه من الشيخ، أو إحسانه لطعام الشّيخ، أو سياقته لسيّارة الشيخ صار أثرياً وجهبذاً، وعلى الحقيقة أنّ بعضهم بحاجة إلى تحسين قراءة سورة الفاتحة قبل أن يخوض في كبار المسائل وعظائم الأمور.

الشريط المذكور: "ردّ شبهات مدعي الجهاد" قام فيه بعضهم بتوجيه أسئلةٍ للشيخ ناصر، وهؤلاء البعض حتى تتّضح الصورة "ليبيّون". وكانت أسئلتهم تدور حول إسقاط قيمة كتاب العمدة في إعداد العدة لعبد القادر بن عبد العزيز، والكتاب هو عمدة تيّار الجهاد في العالم الإسلامي، وهو في جملته بمثل منهج أهل السنة والجماعة في البحث والنظر وعرض المسائل الشرعية ودراسة واقع المسلمين وما يجب عليهم تجاهه.

يبدأ الشيخ ناصر الكتاب بقوله: أين هذه الطائفة التي تقاتل بالسَّيف والسّنان، إنّ ادّعاء وجودها مكابرة وجحدٌ للواقع.

فالشيخ ينفي وجود جماعات الجهاد المسلّح في العالم الإسلامي، ثم يبدأ السائل بتحريض الشيخ للردّ على أدعياء الجهاد، فيقول له: وهم لهم شبهة (أي جماعات الجهاد) بأنّه يجوز الجهاد بلا إمام؟ ويردّ الشيخ بأنّ هناك جهاد بلا إمام، وجهادٌ لابدّ له من إمام. ويعرض في رده القول: بأنّ جهاد الطلب يحتاج إلى إعداد عدّة وتأمير إمام حتى يكون جهاداً شرعياً. أمّا جهاد الدفع فيقول: أن هذا الجهاد لا يرد عليه موضوع الإمارة والاستعداد الواجب. ثم يتابع: أن الخروج على الحاكم الكافر كفراً صريحاً لا بدّ له من الإعداد والإمارة.

ثم يبدأ الشيخ في نقض أفكار جماعات الجهاد قائلاً: هل سبيل إقامة الدولة المسلمة بمثل هذه الوسائل التي ابتلي بها الكثير ممّن يدّعون العمل للإسلام، والجهاد في سبيل الله، هل هكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بدأ بإقامة الدّولة المسلمة؟، كل مُسلمٍ يعرف أنّ مثل هذه التصرفات (أي تصرّفات جماعات الجهاد) لم تقع إلا في العهد المدني، أي بعد أن أوجد النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً الطّائفة المنصورة، أوجدهم وعلّمهم ممّا علّمه الله، وربّاهم على عينه، وبدأ يجهّز هؤلاء لقتال الكفار.

ثمّ يقول: ونحن نعلم أنّ أوّل معركة قامت بين المسلمين وبين الكافرين لم تقم ابتداءاً من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وإنّما دفاعاً عن بلد المسلمين الذي غُزي من قبل الكافرين كما هو معروف في السيرة في قصة غزوة بدرٍ المعروفة، ولذلك الجهاد يحتاج إلى مقدّمات ومقدّمات كثيرة جداً.

ويقول: إنّ آية {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل} هذا الخطاب الآن لا يوجد تحقيقه في أرض إسلامية.

ويقول: "ليس هناك طائفة على الكتاب والسنة، فأعمالهم كلّها على ضوء الكتاب والسنّة". وهكذا يمضي الشريط في الطعن والردّ على قضايا لا يعرضها صاحب العمدة، ولكن الصِّبية من حول الشّيخ يعرضونها على أنها من العمدة، ويردّ عليها الشيخ. أي على غير ما في الكتاب، فهم يوهمون الشيخ أنّ صاحب العمدة يزعم أنّه قد أوَّل حديث الطّائفة المنصورة في حمله على جماعة الجهاد المصرية، وهذا كذبٌ صريح.

وكلام الشيخ المتقدّم فيه من الأخطاء الواضحة لصغار الطَّلبة ومن أهمها:

1 - زعمه أن الخروج على الحاكم إذا ارتدّ هو من جنس جهاد الطلب، وهذا خطأ صريح فإنه من جنس جهاد الدّفع إجماعاً.

2 - زعمه أنّ غزوة بدر هي للدّفاع عن بلد المسلمين الذي غزي من قِبل الكافرين، وهذا يعلم خطأه وبطلانه كلّ من علم شيئاً عن غزوة بدر، وأنّ سبب الغزوة هو خروج الصحابة لقطع الطريق على عير قريش بقيادة أبي سفيان قبل إسلامه.

3 - أمّا نفيه لوجود الطائفة المقاتلة المتكتّلة على الكتاب والسنّة فهو نفيٌ لحقيقة وجود الطائفة المنصورة وهذا ضدّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

4 - وأمّا الخطاب الشّنيع فهو زعمه أنّ أعمال جماعات الجهاد هي خطأ لأنّها لم تقع من رسول الله صلّى الله عليه وسـلّم إلاّ في العهد المدني، وكان في ذلك إشارة إلى أننا نعيش الآن في العهد المكّي وهي لا تجوز لنا، وهذا ينفي حقيقة كمال الدين وتمامه وأنّه لا يجوز للمسلم أن يعمل إلا بما كان عليه رسـول الله صلى الله عليه وسلم زمن الاستضعاف، ومجرّد تصوّر هذا القول كاف لإبطاله وردّه.

وهناك نموذج ثانٍ لمثل هذه الأشرطة التي يحاول فيها البعض (التيّار المذكور) في دفع الشيخ إلى الطّعن في الحركات الإسلامية والشّخصيّات الدعوية، هذا الشّريط هو: "الاعتدال في سيد قطب".

فالشريط مليء بالتّحامل من قبل بعض الصّبية على أبي الأعلى المودودي وعلى سلمان بن فهد العودة، وعلى سيّد قطب.

ولو لا أنّ الشيخ عنده من الخلفية العلمية والاحترام السابق لهؤلاء المذكورين لسمعنا ما لا يُحمد ولا يرضى عنه مسلم.

فقد بدأ شابّ يسوق بعض الأخبار والقراءات في كتب أبي الأعلى، ودروس سلمان بن فهد العودة، يحرّض الشيخ ناصر عليهما ليقول فيها قولاً يرضي غرور وطفوليّة هذا الشّاب، بل كان في الحقيقة يدفع الشيخ إلى تكـفير أبي الأعلى المودودي، فإنّه كان يسوق له كلمات (لأبي الأعلى) لا ندري كيف كان يحملها على هذا المحمل السّيء؟.

هذا التيّار البدعيّ الضّال يصبّ جام غَضَبه عادة على الأستاذ سيّد قطب، وهم ينقمون عليه أنّه أوّل من جلى في هذا العصر توحيد السيادة (الحاكمية).

وقد قام هذا التيّار بقيادة شيخ من شيوخه في الحجاز هو الدكتور ربيع المدخلي بتجميع مؤاخذات هذا التيّار على سيّد قطب في كتابٍ لهم، وكان من حسن الطّالع أنْ عُرض هذا الكتاب على بكر أبي زيد الذي كان وكيلاً لوزارة العدل في الحكومة السعودية، فما كان منه إلاّ أن قال كلمة حقٍّ في حقّ سيّد قطب، وبيّن رأيه في مستوى ربيع المدخـلي وأنه لا يعدو إلاّ أن يكون طالباً في المرحلة الإعدادية، فأسلوبه جدُّ مهترئ فجّ، ومعلوماته سطحية، ويحاول بكلّ جهده تفسير ألفاظ كتب سيّد قطب على غير المحمل الحسن، وأن النظرة السيئة والخلفيّة المتعمدة للطعن هي السائق لمثل هذا الكتاب.

ونحن لا ندري لمصلحة من تشن الغارات الجاهلية على مثل سيّد قطب؟ ولكن الذي نستطيع أن نفهمه بكلّ وضوحٍ وجلاء أن هؤلاء القوم ينكرون على سيد جوانب الحقّ فيه، فهم لا يهمّهم في سيّد في أنّه يقول أن القرآن مخلوق، أو أنّه يقـول بوحدة الوجود، أو يقول بقول الجهم في الأسماء والصفات، نحن نفهم أن هذه الأمور لا تعنيهم من قريبٍ أو من بعيد، مع أن سيّد قطب رحمه الله تعالى بريء من هذه التّهم براءة ماء المزن من شوائب الأرض، لكن الذي يغضب هؤلاء القوم هو أن سيد جلّى للمسلمين في هذا العصر الشِّرك الذي يقع فيه أولياء أمور هؤلاء الصِّبية، وأنّه يكشف للمسلم المعاصر أن شرك الدّساتير لا يقِلّ في عظيم جرمه وأهمّيته عن شرك القبور والأوثان، وسيّد رحمه الله هو الذي يكشف للمسلم جوانب الخزي الذي تعيش فيه الكثير من الحركات الإسلامية في دخولهم مع الطواغيت في الحكم والولاية.

والعجيب أن كافّة تيار الإرجاء في جميع بلاد المسلمين يصبّون جام غضبهم على سيّد وكتبه.

إن سيد قطب رحمه الله يكشف عوراتهم، فلا بدّ من إسقاط قيمته وقيمة كتبه، سيّد تأبى سياسته أن تشهد للطَّاغوت بالشرعيّة، وهم يبصمون بأنوفهم على أحذية الطّاغوت.

طرح الشيخ ناصر شعار التصفية والتربية، وجعلهما سببا التغيير وإعادة الإسلام إلى الحياة، وقد قصد بقوله التصفية أنّه يجب علينا تنقية الإسلام ومصادره من الشوائب والأخطاء التي ولجت فيه، ومن أمثلة ذلك ما دخل على الأمّة من الأحاديث الضّعيفة والموضوعة، وهما من مصادر البدع والضّلالات التي حدثت في أمّة الإسلام، فكان لابدّ من تمييز الصحيح من الضعيف، وإنّ في الصحيح غناء وكفاية، ولا حاجة للمسلم في دينه للأحاديث الضعيفة والموضوعة، بل إنّ هذه الأحاديث هي سبب انحراف تصوّر النّاس عن الدين الصّحيح، وصرف الشيخ كل جهوده في هذا المضمار، فجعل من مشاريعه القيّمة هو: تقريب السنّة بين يدي الأمّة، وكذلك سلسلة الأحاديث الصّحيحة، وسلسلة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة وأثرها السيّء في الأمة، وحُقّقت بعض كتب الحديث المهمّة ككتاب السنّة لابن أبي عاصم، واختصر كتاب العلو للإمام شمس الدين الذهبي، وهكذا جرى على هذا العمل الطيّب سيراً وتكملة لمسيرة الأئمّة الأوائل الذين اشتغلوا بهذا الفنّ العظيم مثل ابن حجر العسقلاني وتلامذته.

ولكن ما يهمّنا في هذا الباب مناقشة موضوع التصفية والتربية كأسلوب يختطه المسلم من أجل التغيير نحو إقامة الدولة الإسلامية المنشودة، وقبل أن نناقش هذا الموضوع من وجهة نظر صحيحة، فإننا لا بدّ من أن نقدّم بمقدّمات يسيرة تكشف للقارئ بعض الجوانب:

1 - ما زال الخطاب عند الشيخ ناصر والتيار المؤيّد له يرى في قضية توصيف الواقع مرتبط أهمّيته في النظر إلى شخص الحاكم والخلاف فيه، فالشيخ إلى الآن لم يخرج منه ما يحدد هذا الباب سوى أنّه يجعل قضية الحكم بما أنزل الله تعالى واستبدال الشريعة قضيّة تحاج إلى قرينةٍ أخرى للحكم على الحاكم بكفره، هذه القرينة هي الاستحلال.

وهذا كلام قاله منذ القديم حين علّق على شرح الطحاوية، وجعل الواقع الذي تعيشه الحكومات ورجالها هو قضية الخلاف الحاصل قديماً بين العلماء، وهي بأنّ الحاكم إذا حكم في واقعة، أو وقائع، بغير ما أنزل الله بغير استحلال لذلك هو عاص، وأنّه إذا استحلّ كَفَر وخرج من الملّة، ومع أنّ هذا القول هو قول قديم له إلاّ أنّه ما زال يكرّره في أشرطته، ويُنزله على الواقع المعاصر، بحيث يقسّم الحكّام المعاصرين في الدول الكافرة إلى قسمين:

أ ) قسم كافر ومرتد، وهذا المستحل للحكم بغير ما أنزل الله.

ب) قسم آخر لم يكفر كفرا صريحاً، لأنه لم يثبت عليه شرط الاستحلال.

وهذا القول قولٌ غريب من جهة الشرع، وغريب من جهة تصوّر الواقع المعاصر على هذه الصِّفة، فإن الواقع المعاصر يدلّ على أن هؤلاء الحكّام وطوائفهم شَرعوا للنّاس أحكاماً جديدة، وقد أجمع الأوائل من أئمّتنا على أن مطلق التّشـريع على خلاف الشّريعة هو كفر وردّة، وممّن ذكر الإجماع الإمام الشاطبي - رحمه الله - في الاعتصام ودليله قوله تعالى: {ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه وإنّه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون}. فقد فرّق الشّارع بين مستويين من المعصية:

المستوى الأول: هو أكل الميتة فجعله فسقاً.

المستوى الثاني: طاعة الطاغوت في القول بحِل أكل الميتة، فجعله شِركاً.

وعلى هذا فإنّ المشرّع على خلاف شريعة الرحمن هو كافرٌ ومرتد، ولو اشترطنا في حقّه الاستحلال، فإن تشريعه هو استحلال لذلك، فلو أنّ رجلاً قال للناس أحللت لكم الميتة، لكان طاغوتاً كافراً، ومن أطاعه كذلك، وهذا خلاف من أكل لحم الميتة وهو يعتقد حرمتها. ولذلك جعل الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته "تحكيم القوانين" أنّ مِن أعظم أنواع الشّرك الأكبر هو مجرّد أن يفتح الحاكم للنّاس محاكم تحكم بغير الشّريعة الإسلامية، وعلى هذا فإنّه إن جاز للأوائل التّفريق بين حاكمٍ مُستحل وآخر غير مستـحل (وهي مسألة مختلف فيها أصلاً) إلاّ أنّه لا يجوز أن يختلف النّاس عليها الآن، وأنّ واقعنا هو في مسائل لا ينتطح فيها عنزان كما يُقال.

2 - ما يزال الشّيخ يرى أنّ قضية تكفير الحاكم مسألة لا أهمّية لها، ويجب أن لا تُشغلنا ولا تشغل بال الشّباب المسلم، فإنّه كثيراً ما يسأل عن الحكّام وكُفرهم فيكون جوابه: وماذا يفيدنا تكفير الحكام وعدم تكفيرهم؟ وقوله هذا خطأ بيّن، لأنّ هذه المسألة لا تُعدُّ تَرَفاً فِكريّاً، وليست هي من المسائل التصوّريّة التي لا تفرز واقعاً وسلوكاً وعملاً، لا بل هي مسألة مهمّة جدّاً في حياة النّاس، فإنّ المرء حين يعتقد كفر هذا الحاكم، ثم جمع هذا الحاكم حوله طائفة وجماعة تدافع عن هذا الكفر وتحميه بالشّوكه والسّلاح، فإنّ الواجب على المسلم أولاً أن يعلن براءته من هذا الحاكم وجنده، لأنّه من أقسام الطاغوت التي أمرنا الله باجتنابها، ثمّ هناك حُكم شرعيّ عملي معلّق بهذا التصوّر، وهو أن الحاكم إذا كفر وجب الخروج عليه بالإجماع، ولا يجوز للمسلمين أن يقبلوا به، أو يطيعوه، بل عليهم أن يسعوا بكلّ جهودهم وطاقتهم لإسقاطه واستبداله، ولذلك نرى الكثير ممّن حول الشيخ لا يأبهون بمثل هذه الأمور، فتجد أحدهم صار معاوناً للحاكـم أو داخلاً في طائفته، ولا يُنكر عليه من قبل هذا الفكر، فمثلاً محمّد إبراهيم شقرة وهو رجل مقرب من الشّيخ ناصر، هذا الرجل يعمل مستشاراً لوليّ عهد الطاغوت في الأردن، وهو لا يرى بأساً بموالاة هذا الحاكم والدّخول في نظامه وطائفته، ثمّ هناك رجلٌ مقرّب من هذا التيّـار هو بشّـار عوّاد معروف، وهو رئيس جامعة صدام الإسلامية في العراق، وهو رجلٌ من رجالات المرتدّ صدّام، بل يُعتبر سفيراً لصدّام عند الكثير من الحركات الإسلامية.

ثم إنّ المعتقدين بإسلام هؤلاء الحكّام وأنّهم لم يخرجوا من دين الله تعالى يرى أنّ جماعات الجهاد التي تسعى جاهدة في مجاهدة هؤلاء الطواغيت واستبدالهم هم أهل فتنة وضلال، بل ينبزونهم بأنّهم من فكرِ الخوارج، بل لا يتورّعون في تسميتهم بأسماء أطلقها الكفّار عليهم كجماعات العنف، أو الإرهابيين، بينما يعتقد من آمن بكفر هؤلاء الحكّام أنّ من دخل في طاعة هؤلاء الحكّام ووالاهـم هو إمّا كافرٌ مرتد أو جاهل بحقيقة الواقع، لكنّ جهله هذا لا يمنع من دخوله في مسمّى الطائفة الممتنعة التي أجمع العلماء على قتالها كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

وعلى هذا فإن الخلاف في تكفير هذا الحاكم وعدم تكفيره هو مسألة مهمّة ينبغي أن ينظر إليها بعين الأهمّية، وخاصّة حين يكون كفره متعدّياً إلى غيره كما هو واقع الآن، فإنّ كفر الحاكم ليس مقصوراً عليه في مسألة اعتقادية، بل هو في مسألة متعدِّية، وهي إجبار الناس على الدخول في أحكام المشركين، وإجبارهم على التّقاضي إلى الطّاغوت، ثمّ إنّ السّكوت على هذا الأمر أوقع الناس في بلاءٍ عظيم شديد، وهو أنّ هؤلاء الحكّام فرضوا من الأنظمة والقوانين الكافرة وأجبروا النـّاس الاحتكام إليها، ثمّ عَمِلوا بكلِّ جهودهم على تسهيل خروج الناس من دين الله تعالى، فإنّهم حسّنوا للنّاس الكفر والعلمانية، وصوّروا لهم أنّ حسن المعيشة وطيب الحياة لا يقع إلا بولوجهم في المعاصي كالرّبا والزنا وشرب الخمر، وعلى هذا فإنّ الكثير من الدول عاد أهلها إلى الجاهليّة الأولى، حيث ترك الناس آخر حلقة تربطهم بالإسلام وهي الصلاة، وهذا كلّه لم يقع إلا بسبب هذه الطوائف الحاكمة، والسّكوت عليها.

إنّ الواجب على العلماء والدعاة أن يدرسوا هذه المسألة دراسة واعية، ويتجرّدوا في البحث وصولاً إلى الحقّ، وما أظنّ أن تكون هذه المسألة (مسألة تكفير الحاكم) هي من المسائل المتشابهة التي يجوز فيها الخلاف، لأنّها متعلِّقة بالأصول العظيمة التي أبان الشارع أمرها حقّ البيان، وليست هي بأقل أهمية من أحكام الجنائز وغيرها، بل هي فيصل الصّدق بين الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت، بل بين قتال المؤمنين في سبيل الله وبين قتال جند الطاغوت في سبيل الشيطان ودين الملك.

ثمّ ألا تستحق هذه المسألة أن تبحث كمسألة تحتاج إلى تصفية ما علق بها من شوائب فكر الإرجاء المنحرف، وتصفية إرادة المسلم من فكر الصوفيّة المهترئ؟.

كيف فهم السّلف شعار التّصفية والتربية؟

من المعلوم عقلاً وشرعاً أنّ كل فعل يحتاج المرء لتحصيله لا بدّ أن يسلك له طريقاً سننيّاً محدّداً ومعلوماً، ولا بد من أن يكون هناك رابط بين السبب والمسبّب، وهذا الرابط حين يكون قدرياً يكون شرعياً، وحين يكون شرعياً يكون قدريّاً، والمسألة تبدأ بتحديد المراد وتبيّنه ثمّ بمعرفة الأسباب الشرعيّة الصّحيحة الموصلة لهذا المراد، فهي تبدأ علماً ورغبةً ودراسة وفقها، ثمّ إنّه إذا قوي الداعي لتحصيل المطلوب بدأ المرء بتجميع هذه الأسباب والاستكثار منها، مع إزالة العوائق والتقليل منها، وحينها يشرع المرء في السير السنني الصحيح لتحصيل المراد والمطلوب.

في التاريخ الإسلامي، ولعوامل سننيّة دخل على المسلمين ما دخل على الأمم السّابقة، حيث دخلت علينا الخرافة واستقرّت في أذهاننا وصارت منهجاً متّبعاً في تفسير أحداث الحياة والكون، وإذا وجد في المسلمين من تكلّم عن توحيد الشرع، وبيّن مدى الانحراف الذي وصلت إليه الأمّة، ثم حاول المرّة تلو المرّة في ردّها إلى الطريق الصحيح - مع أنّه لا تزال تعاني مرض الإرجاء الخبيث - إلاّ أنّ توحيد القدر لا يزال وإلى الآن يعاني ضعفاً شديداً، دراسةً وفهماً، فعامّة النّاس ومنهم قادة الجماعات ما زالوا يفسّرون الأحداث عن طريق حركة الغيب الجبرية دون أيّ اهتمام بالعوامل السننية القدرية، مع أن المرء لا يمكن أن يجرّد توحيد القدر تجريداً صحيحاً إلاّ بعد أن يفهم توحيد الشرع ويعمل به حقّ العمل.

ولتفسير ذلك نقول: من المعلوم أنّ مراد توحيد الشرع هو تحصيل التقوى، والتقوى هي: امتثـال الأوامر الشرعية لتحقيق الوعود الإلهية، والأوامر الشرعية هي أسباب قدرية، وعلى هذا فإن الله أمر بالكسب، (فهو أمرٌ شرعي وسبب قدري) وبه يتحقق الكفاف، والذي هو (وعد إلهي).

وقد أمر الله تعالى بالجهاد فهو أمرٌ شرعي وسببٌ قدري وبه يتحقّق النّصر، وهو وعدٌ إلهي، فالوعد الإلهي لا يقع إلاّ بفعلٍ بشريّ على الوجه الصحيح، ويثبت الوجه الصحيح عن طريق الحكم الشرعي والحكم القدريّ، إذا فهمنا هذا وقلبنا القاعدة فإنّ المخالفات الشرعيّة، وهي ضدّ التقوى (والمخالفات تكون بالترك، أو بعمل الخطأ) تتحقق بها عقوبات إلهية، والمخالفات الشّرعية هي أسبابٌ قدريَّة.

ولو أردنا أن نمثّل الأمر عن طريق الخطوط فيكون كالتالي:

(1) القاعدة الأولى: أوامر شرعية <--> التقوى <--> أسباب قدرية
وعود إلهية (أقدار).

(2) القاعدة الثانية: مخالفات شرعية <--> المعاصي <--> أسباب قدرية
عقوبات إلهية (أقدار).

وهاتان القاعدتان هما قانونا الدنيا والآخرة.

إذاً لا بدّ أن نحدد المطلوب ثمّ نعرف سبب تحقيقه وكيفية الوصول إليه ثمّ نعمل بهذه الأسباب ونجدّ بها للوصول إلى المُراد.

وهذا أمرٌ يقع على كل أمر، وفي جميع أطوار الحياة.

ولمّا دخلت عقيدة الإرجاء الباطلة (وهي لا تعطي قيمة للأمر الشرعي، بل هي ترى القيمة الأولى والأخيرة للعلم والتصديق) وتآخت هذه العقيدة مع عقيدة الجبر (وهي كذلك لا تعطي قيمة للعمل السنني، بل ترى أن الحياة تُسيّر بطريقة غيبيّة مطلقة) أفرزتا في المسلمين طرقاً ومناهج في فهم الأمور وطرُقِ تحصيلها، فجاءت العقيدة الصّوفيّة واستغلّت ذلك كلّه (والصوفيّة تقوم على المنهج الغنوصي العرفاني الذي يقوم على تفسير الأمور تفسيراً باطنيّاً - يزعمونه غيبيّاً - ويستمدّ رؤاه من الكشف والجذبة وحقيقتهما الجنون) ولإصـباغ النظر الصّوفي صبغة إسلامية شرعية فلا بدّ من خلط الأمور بأسماء شرعيّة ولكن على الحقائق الكـاذبة، فمثلاً لو سألت رجلا (عارفاً، وليّاً، صوفيّاً) عن الطريقة المثلى لتحقيق النّصر على الأعداء لأجابك بنفس مطمئنّة أنّ الطريق الصحيح هو قيام الليل أو صوم النهار، وهو بهذا يستخدم معك سيـف اللفظ الشرعي، وبه يمنعك من الاستهزاء والرّفض، فإنَّ قيام الليل أمرٌ عظيم في دين الله، ولكن ليس بقيام الليل يتحقّق النصر، ولا بصوم النهار يتحقّق كذلك، بل الواجب على أمير الجيش أن يأمر المقاتلين بعدم السّهر ومنه قيام الليل، ويحضّهم على الإفطار تقوية لأبدانهم، فليس كلّ أمرٍ شـرعي يصلح أن يكون سبباً شرعياً وقدرياّ لأي وعدٍ إلهي، بل لا بدّ من التوافق الشرعي والقدري بين السبب والمسبّب.

إذاً القضيّة التي يجب تجليتها هي قضيّة كليّة متعلّقة بتصحيح مفهوم النّاس حول واقعهم ثمّ السير بهم نحو أهدافهم.

نعم هناك ما هو جزئي يعين هذا الكلّي ويجلّيه وهو بيان ضلال وفساد ما وضع في الشريعة من أحاديث مكذوبة وضعيفة.

وعلى هذا فشعار التصفية والتربية لا يكون له قيمة أبداً إذا لم نحدّد ماذا نريد، وهو الذي يسبقه حتماً ولزوماً وصفاً حقيقياً لواقعنا الذي نعيشه ونحياه.

وهنا أجدني مضطراً لنقل ما قاله الأخ إبراهيم العسعس في كتابه الجريء "السلف والسلفيّون رؤية من الداخل" ليخدم هذا الموضوع، يقول: "كيف سيستأنف السلفيّون الحياة الإسلامية؟".
يقول: "وقبل (كيف) هذه، هناك سؤال ينبغي أن يسبقها وهو: هل يفكّر السلفيون في هذا الموضوع؟ وما هو حجم الحيّز الذي تشغله هذه القضية من اهتماماتهم؟". ثمّ يتابع: "كانت بداية السّلفية المعاصرة بداية علمية، تدعو إلى مجموعة من الأصـول المعلومة، وجهدهم الذي تعلّق بالواقع انصبّ على محاربة المذهبية، والشرك المتعلق بالقبور والرقى والتمائم، والبدع العملية المنتشرة في الأمّة، ولم يكن لهم جهدٌ ولم يزالوا كذلك، يتعلق بالواقع العام للأمّة، ولم يطرقوا من توحيد الألوهية ما يتعلّق بالحاكميّة والتشريع، بل إنّ رموز السلفية يفتخرون بعدم وجود علاقة لهم بالسياسة، ففي نظرهم أن السلفية كلمة تنفي بمعناها المتبادر منها، أي معنى يدل على حركة سياسية".

ثم يقول: "إنّ المتتبّع لرسائل (الدعوة السلفية) يجد أمراً جديراً بالملاحظة، وهو أنّ استئناف الحياة الإسلامية لم يكن من ضمن أهدافهم التي اعتادوا ذكرها على الغلاف الأخير لرسائل الدعوة السّلفية، ثمّ منذ سنوات درجوا على ذكرها، استجابة - كما يبدو - لضغط التيّار الإسلامي الذي يدعو إلى استئناف الحياة الإسلامية، فأضافوها مجاملة ورفعاً للعتب". ويقول بعد ذلك: "الآن قطاعٌ كبير من الشّباب السلفي بدأ ينتبه إلى واقعه ولزوم تغـيره بعد أن وجد أنّه قضى ردحاً من عمره مهتمّا بواقع الأئمّة (أي القدماء)"، ثمّ يتابع: "أمن أجل هذا بدأت ألسِنة البعض تجلدهم، وأقلامهم تطعنهم؟"، ويتساءل قائلاً: "لحساب من يراد من السلفيّة أن تقبع في القبور؟ ولحساب من يراد من السلفية أن تتحول إلى دار نشر توظّف مجموعة من الكتبة الذيـن يحترفون تحقيق رسائل، جهلها لا يضر، وعلمها لا ينفع، رسائل لا يخرج تداولها - عند التدقيق - عن كونه تجارة ورق؟ لحساب من يراد للسلفية أن تبقى محصورة في تصفية الأحاديث؟ وإلى متى؟ لحساب من توضع الأيدي على آيات توحيد الإلهية، ويهمل شرك الحاكمية، ويسكت عن الطاغوت، بل ويوالى ويحبّ ويمدح؟".

ثم يقول: أسئلة مشروعة تحتاج لإجابات واضحة وتقتضي من الإخوة السلفيين لحظة تأمّل لعلنا وإياهم نحيي منهجاً للسّلف اندرس، ونسير في طريق لأهل السنّة انطمس، ولعلّنا وإيّاهم نحيي سنّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في عداوة الطاغوت ونصر التوحيد. اهـ.

نعم صدق الأخ إبراهيم، ونعم ما قال، وكتابه هذا جدير بالقراءة والدّراسة وهو يدل على أن الشباب السلفي أتقن القواعد وصار يستخدمها مع درجة عالية من الفهم لواقعه، وما أظنّ شيوخ المنهج يضرّهم أو يغضبهم أن ينطلق تلاميذهم يعيداً عنهم نحو الأمام وبالاتّجاه الصحيح، لأنّ المنهج نفسه يدعو لهذا وينصره ويريده، وقد كان الشيخ ناصـر كثيراً ما يدعو تلاميذه لمراجعته ومناقشته وينهاهم عن تقليده أقول هذا الكلام مع خشيتي على المنهج السلفي من اللصوص، وقطّاع الطّرق من أن يسرقوا جوهره، ويحوّروا حقيقته، وما هذه الورقات التي كتبتها عن الشيخ إلا محاولة لتطبيق المنهج ولتصحيح المسار لأن المنهج أهمّ وأولى من كلّ المصالح.

ومرادي من هذه الكلمات هم أصحاب النظر السديد والعقل الراجح التاركين للتقليد والعصبية مع علمي الأكيد أنّ المقلّدة لن يسكتوا بل سيُثيروا حَولي التّهم وربما استخدموا الشيخ ضدّ هذه الكلمات ببتر بعض الجمل عن موضعها وإنزالها على غير حقـيقتها بل ربّما قد فعلوها فالله حسيب الجميع وهو مرادي ومقصدي ولا حول ولا قوة إلا بالله.

tealscrollroses_small.gif

جمع وتنسيق النخبة للإعلام (تويتر)