JustPaste.it

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d239/a9623563/0027-small2.gif

logo-small_small.gif

حكم المشايخ الذين دخلوا في نصرة المبدلين للشريعة

للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الطيبين، وأصحابه المجاهدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد...

فعندما قلّ العلم، وتكلّمت الرويبضة، وغابت أعظم مسائل الإسلام، وجهل الناس حقيقة التوحيد، ابتلى الله الناس بأعظم بلاء، وأشدّ عذاب، بأن سلّط الله عليهم حُكاما كفرة، ارتدّوا عن دين الله من جميع أبوابه، فبدّلوا الشريعة، ووالوا المشركين، وقتلوا الموحدين بتهمة الإسلام والإنتماء لجيش محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في دين المشركين فأطاعوهم من كل وجه.

وصار أمر ردة هؤلاء الحكام وطوائفهم من المعلوم ضرورة، ولا يجهله إلا من طمس الله بصيرته، وجهل حقيقة التوحيد الذي بُعث به الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام.

ولما كان الشيطان وأتباعه وجنده ورجله يُنشئ في كل زمان من الشُبه ما يصرف بها الناس عن حقيقة التوحيد، ويلبس حقيقة الشرك حتى يوقعهم فيه، فقد تكلم بعضهم وزعم أن تكفير المبدِّلين للشريعة أمر لم يعرفه الأوائل، وليس هو من باب الردّة الصريحة التي أبان السلف أمرها، وزعم من كان سكوته خيرا من كلامه؛ أنّ هؤلاء الموحدين الذين كفّروا الطواغيت العصرية هم مُحدثون لهذا الأمر، وليس لهم سلف من الأئمة الهداة.

لهذا فإننا نسوق في هذه الورقات فتوى أطلقها الأئمة الذين عاصروا الدولة العُبيدية عندما كانت في المغرب، في حق حكامها ومن دخل معهم من المشايخ والخطباء، الذين خطبوا لهم على المنابر، ودعوا لهم بالتوفيق، وأوهموا الناس أنهم أئمة هدى وعدل، وأنهم في دين الإسلام، ولم يكشفوا للناس حقيقتهم، وأنهم في دين الشيطان.

وقد تركت التعليق عليها وبيان بعض الشُبه التي يوردها بعضهم بعد الإنتهاء من سرد هذه الفتوى كما ذكرها القاضي عياض في كتابه "ترتيب المدارك وتقريب المسالك".

قال القاضي الإمام عياض بن موسى بن عياض السبتي، المتوفى سنة 544 هجرية، في كتابه المذكور، في المجلد السابع / صفحة 274 وما يليها:

أبو بكر إسماعيل بن إسحاق بن عذرة الأنوي:

أثنى عليه ابن أبي يزيد [1] في شبيبته في كتابه معه، لأنه سُئل - أي ابن عذرة - عن خطباء بني عُبيد، وقيل له: إنهم سُنِّية، فقال: (أليس يقولون؛ اللهم صلِّ على عبدك الحاكم وورثة الأرض؟)، قالوا: نعم، قال: (أرأيتم لو أنّ خطيبا خطب فأثنى على الله ورسوله، فأحسن الثناء، ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافرا؟)، قالوا: نعم، قال: (فالحاكم أشد من أبي جهل).

قال عياض: وسُئل الداودي عن المسألة، فقال: (خطيبهم الذي يخطب لهم ويدعو لهم يوم الجمعة؛ كافرٌ يُقتل، ولا يُستتاب، وتحرم عليه زوجته، ولا يرث ولا يورث، وماله فيء للمسلمين، وتعتق أمهات أولاده، ويكون مدبّروه [2] للمسلمين، يعتق أثلاثهم بموته، لأنه لم يبق له مال، ويؤدي مكاتبوه للمسلمين، ويُعتقون بالأداء، ويرقون بالعجز، واحكامه كلها أحكام الكفر، فإن تاب قبل أن يُعزل، إظهارا للندم، ولم يكن أخذ دعوة القوم قُبلت توبته، وإن كان بعد العزل أو بشيء منعه لم تُقبل، ومن صلى وراءه خوفا أعاد الظهر أربعا، ثم لا يقيم إذا أمكنه الخروج، ولا عذر له بكثرة عيال ولا غيره).

ثم قال عياض:

أبو محمد الكبراني:

من القيروان، سُئل عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يُقتل؟ قال: (يختار القتل، ولا يعذر أحد بهذا إلا من كان أول دخولهم البلد قبل أن يعرف أمرهم، وأما بعد؛ فقد وجب الفرار، ولا يُعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في موضع يُطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز، وإنما أقام فيها من العلماء والمتعبدين على المباينة لهم، يخلو بالمسلمين عدوهم فيفتنونهم عن دينهم).

قال عياض: وعلى هذا كان جبلة بن حمود ونظرائه؛ ربيع القطان، وأبو الفضل الحمصي، ومروان ابن نصرون، والسبّائي، والجبيناني، يقولون ويفتون.

قال يوسف بن عبد الله الرعيني في كتابه: (أجمع علماء القيروان - أبو محمد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسي، وأبو القاسم بن شلبون، وأبو على بن خلدون، وأبو محمد الطبيقي، وأبو بكر بن عذرة -؛ أن حال بني عُبيد حال المرتدين والزنادقة.

فحال المرتدين؛ بما أظهروه من خلاف الشريعة، فلا يورثون بالإجماع.

وحال الزنادقة؛ بما أخفوه من التعطيل، فيُقتلون بالزندقة).

قالوا: (ولا يُعذر أحد بالإكراه على الدخول في مذهبهم، بخلاف سائر أنواع الكفر، لأنه أقام بعد علمه بكفرهم، فلا يجوز له ذلك، إلا أن يختار القتل دون أن يدخل في الكفر).

وعلى هذا الرأي كان أصحاب سحنون يفتون المسلمين.

قال أبو القاسم الدهّاني: (وهم بخلاف الكفار، لأن كفرهم خالطهم سحر، فمن اتصل بهم خالطه السحر والكفر).

ولما حُمل أهل طرابلس إلى بني عُبيد، أضمروا أن يدخلوا في دينهم عند الإكراه، ثم ردُّوا من الطريق سالمين، فقال ابن أبي زيد: (هم كفار، لاعتقادهم ذلك) انتهى [3].

* * *


ظروف الفتوى:

1) الدولة الفاطمية:

تشكلت معالمها الفكرية والعسكرية في المغرب الإسلامي على يد رجل يسمى ميمون القدّاح، وكان داعيا من دعاة الإسماعيلية، وهي طائفة تجعل الإمامة في إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي قسيم الفرقة الموسوية - نسبة إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر –

وسُمّيت بالإسماعلية نسبة لإسماعيل، وتُسمى بأسماء مختلفة مثل السبعية - لقولهم بالأئمة السبعة من علي إلى إسماعيل [+] الحسن بن علي بن أبي طالب –

وتسمى كذلك بالباطنية، لعدة أسباب مجتمعة، منها: باطنية عقيدتهم ووجوب كتمانها، وقولهم؛ إنّ للشريعة ظاهرا وباطنا، وهما مختلفان في الحقيقة، ولقولهم؛ إنّ حق تفسير النصوص الشرعية هو للإمام المستور - إسماعيل بن جعفر - وهي كلها تفسيرات لمعنى واحد.

ميمون القداح؛ ادعى نسبته لمحمد بن اسماعيل - ابن إمام الإسماعيلية - وأنه من أحفاده، فهو ينتهي نسبه فيما زعم إلى فاطمة رضي الله عنها، ولذلك يُطلقون على أنفسهم لقب الفاطميين.

ولعوامل مساعدة، منها؛ عامل الجهل عند بعض طوائف المغرب، استطاع تكوين دولته في المغرب وبسط سلطانه في شمال إفريقية، بعد انحلال دولة الأغالبة [297 هـ، 909 م] ثم خلفه في الحكم ابنه عُبيد الله، الملقب بالمهدي - ولذلك سُميت دولته بالعُبيدية لأنّ كثيرا من المأرخين ينفون نسبتهم لآل البيت، ومن هؤلاء المؤرخين؛ ابن عذاري، وابن تغري بردي، وابن خلكان، والسيوطي، وبعضهم يؤيد النسبة كابن الأثير الجوزي، وابن خلدون، والمقريزي –

أقول:

استطاع عبيد الله أن يكمل تشكيل الدولة العبيدية فكرا وتنظيما وسلطانا، حتى أنه أرسل جيوشه سنة [302 هـ، 914 م] إلى الإسكندرية، وبعدها بعامين؛ اكتسح الدلتا المصرية.

ولوجود المذهب المالكي وسلطانه على عامة أهل المغرب؛ لم يستقر له الحكم هناك، فاتضح له أن المغرب لن يكون مكانا لاسقرار دولته.

وعن طريق المراسلات بين هذه الدولة وبعض القواد العسكريين في مصر، وتمهيد شيوخ الطرق الصوفية واعتقادهم الدعوة المهدوية المزعومة، استطاع جوهر الصقلي - كان يُلقب بالرومي، وقد نشأ مسيحيا ونسبته لجزيرة الصقلية، إحدى جزر البحر الأبيض المتوسط، وكانت قبل الحروب الصليبية خلال تلك الفترة؛ مسلمة، قبل أن تقتلع من أيدي المسلمين –

أقول: استطاع جوهر الصقلي القائد العسكري للخليفة العبيدي - المعز لدين الله - أن يدخل مصر – الفسطاط - سنة [358 هجرية] بلا قتال، بل قد خرج أصحاب العمائم والطرق الصوفية إلى خارج الفسطاط لاستقباله!

فقام بعد ذلك جوهر الرومي هذا ببناء مدينة القاهرة - نسبة إلى نجم سماوي زعموا أنه ظهر عند بنائها، يسمى قاهر الفلك، وهو المعروف الآن بالمريخ –

ثم بنى الجامع الأزهر - نسبة للزهراء، لقب فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام - وجعله مركزا فكريا تربويا لتخريج الدعاة الإسماعليين ونشر فكرهم.

خلال حكم العبيديين لمصر انقسمت الإسماعيلية إلى قسمين:

1) نزارية.

2) مستعلية.

وذلك بعد أن نفق الإمام المستنصر سنة [487 هـ، 1094 م]، فاختلف إلى من تكون الإمامة بعده، لابنه الكبير نزار، أم للأصغر أحمد المستعلي؟

أما حركة الحشّاشين في الشرق؛ فأيدت نزار، واستطاع أتباع أحمد المستعلي أن يبسطوا سلطانهم على مصر - الدولة العبيدية - بمساعدة الوزير الفاطمي بدر الجمالي.

وخلال حكم العبيديين لمصر، وبعد أن نفق أحد أئمّتهم - وهو العزيز - [سنة 386 هـ، 996 م]، وتولى ابنه الحاكم بأمر الله - وعمره إحدى عشرة سنة - ظهرت عقيدة الدروز بأنه هو الإله.

وللذكر فإن الإسماعليين الآن هم فرقتان:

الأولى: الأغاخانية - وهم وُراث الإسماعيلية النزارية -

والثانية: البهرة - وهم وراث الطائفة المستعلية -

والعبيديون كانوا خلال حكمهم لمصر؛ يحرصون أشد الحرص أن لا يخالفوا عقائد الناس الظاهرة حتى يستقر لهم ملكهم، بل في عهدهم ظهرت كثير من البدع الدينية لستر عقائدهم وكفرهم الباطني، منها: الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، والإجتماع في الأعياد البدعية - كالنصف من شعبان ويوم عاشوراء - والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جهرا بعد الأذان، والتذكير قبل أذان الفجر بالأناشيد وقراءة القرآن.

بهذه البدع وغيرها وبمساعدة مشايخ الطرق الصوفية؛ استطاعوا إخضاع الناس لحكمهم وتزوير حالهم على كثير من الفقهاء.

أما عقائدهم:

    • فهم يؤلهون عليا بن أبي طالب ثم باقي الأئمة عندهم - من الحسين إلى إسماعيل والحسن - ويعتقدون فيهم القدرة على التصرف في الأكوان.

    • ثم هم من المعطلة الغلاة، يقول أحد دعاتهم: (فلا يقال عليه حي، ولا قادر، ولا عالم، ولا عاقل، ولا تام، ولا فاعل، لأنه مبدع الحي القادر العالم التام الكامل الفاعل، ولا يقال له ذات، لأن كل ذات حاملة للصفات).

      هم يقصدون بالمبتدع الحامل للصفات؛ هو العقل الأول، كما ذكر الكرماني في "راحة العقل" وهو من أهم كتبهم قديما وحديثا، وقد قام على طبعهم أحد دعاتهم المعاصرين.

      وقد تكلم عنهم جماعة من أهل العلم وكشفوا مستورهم الخبيث، ومن هؤلاء؛ أبو الوليد بن رشد في كتابه "الذخيرة في الحقيقة"، وهناك مجموعة من أقوالهم ترجمها الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" عن عقيدتهم في الإمامة، وكثير من أئمة التحقيق ينسبون كتاب "رسائل إخوان الصفا" إلى دعاتهم وأئمتهم، وأنه ألِّف قبل ظهور عبيد الله المهدي في المغرب، وقد أفردهم أبو حامد الغزالي بكتاب "فضائح الباطنية".

      وعمدة مذهبهم؛ أنهم لا يثقون بالشريعة ونصوصها، بل يرون أنها منسوخة بظهور النبي محمد بن إسماعيل، فهو قائم الزمان، وقد انتهى إليه علم الأولين، ووقف على بواطن الأمور ومدارك الغيب.

      وهم لا يعملون بالشريعة إلا بحسب الحاجة ورعاية مصالحهم عند الجهلة والدهماء، وليس على العارف المستنير أن يعمل بها، وأن الأنبياء الناطقين - تمييزا لهم عن الأنبياء الصمت، ويقال لهم السوس، وهم الأئمة السبعة - إنما وُجدوا لسياسة العامة، وأن الأنبياء الإسماعليين – الصمت - أنبياء حكمة خاصة.

      لماذا كفر العلماء العبيديين وخطباءهم، وما هو مناط التكفير؟

      لو أمعنا النظر بالفتوى المتقدمة لرأينا؛ أنّ إجماع أهل العلم قد انعقد على تكفير العبيديين وخطبائهم، وقد تعلق حكم التكفير بعلّة خاصة لكل منهما.

      أما كفر العبيديين فهو:

      قال الكبراني: (ولا يُعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في الموضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز).

      فالمناط الذي كُفِّروا من أجله هو تعطيل الشريعة.

* * *

    • شبهة وردّها:

      ولأننا أمام قوم يتمحلون للمعطلين للشريعة هذه الأيام أقوى الحجج ولا يرونه علّة مكفرة تُخرج من الملة بالإجماع، وقد يقول قائل: إنما كفّر العلماء الإسماعلية لما علِموا من زندقتهم الباطنة - كما تقدم في عقائدهم –

      فالجواب على هذا الكلام الإبليسي هو؛ ما تقدم من اجتماع العلماء على القول: (إنّ حال بني عُبيد حال المرتدين والنزادقة.

      فحال المرتدين: بما أظهروه من خلاف الشريعة.

      وحال الزنادقة: بما أخفوه من التعطيل).

      تعطيل الخالق كما تقدم في أسماء الله وصفاته، وهم كفار لأنهم عطّلوا الشرائع وأظهروا خلاف الشريعة.

      وكذلك قال محمد بن عبد الوهاب تصريحا، فقد قال: (قصة بني عبيد القداح؛ فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة فادّعى عبيد الله أنه من آل علي من ذرية فاطمة، وتزيّا بزي الطاعة والجهاد في سبيل الله، فتبعه أقوام من أهل المغرب، وصار له دولة كبيرة في المغرب ولولاده من بعده، ثم ملكوا مصر والشام وأظهروا مخالفة شرائع الإسلام وإقامة الجمعة والجماعة، ونصّبوا القضاة والمفتين، لكن اظهروا أشياء من الشرك ومخالفة الشرع، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم، فأجمع العلماء على كفرهم) انتهى [4].

      وقال في "كشف الشبهات": (ويقال أيضا؛ بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويُصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه؛ أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم).

      ومما يؤكد هذا قول أبي القاسم الدهان: (وهم بخلاف الكفار، لأن كفرهم خالطه سحر، فمن اتصل بهم خالطه سحر وكفر).

      فكما رأينا أن لهم حكم الزندقة لبواطنهم، ولهم حكم الكفر لتعطيلهم الشرائع، وهذا أمر مجمع عليه، كما ذكر القاضي عن علماء القيروان حين قال: (فلا يورثون بالإجماع).

      وأما كفر خطبائهم فهو؛ لدعائهم لهؤلاء الكفار بما يوهم أنّهم مسلمون.

      قال ابن عذرة: (أليس يقولون؛ "اللهم صلِّ على عبدك الحاكم وورثة الأرض"؟).

      فالدعاء لهؤلاء الكفرة بما يدعى به للمسلم هو كفر وردّة.

      وكذلك لأننا أمام أقوام يحبون التأويل البعيد، فقد يقولون: "ربما كان هؤلاء الخطباء على عقيدة العبيديين"؟! وما أكثر "ربما" و "قد" في مثل هذه المواطن!

      فالجواب في نفس الفتوى؛ حيث قيل لابن عذرة: (إنهم سُنّية) - أي على عقيدة أهل السنة، وليسوا على عقيدة العبيديين - فلم يناقشهم ابن عذرة في عقيدتهم، إنما ناقشهم بما قالوه وأظهروه للسامعين لهم في خطبهم، حيث قال: (أرأيتم لو أن خطيبا خطب فأثنى على الله ورسوله فأحسن الثناء ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافرا؟)، قالوا: نعم، قال: (فالحاكم أشد من أبي جهل).

      ولنتذكر أنّ كفر الحاكم من أجل تعطيله الشريعة، اما زندقته فمن أجل عقيدته في التعطيل.

      وقد يتحمل متحمل، ويراوغ ثعلب فيقول: "ألا يجوز للخطيب أن يدعو للكفرة بالهداية؟".

      فالجواب قد تقدم بعضه.

      وللتفصيل نقول:

      إنّ الدعاء المتضمن شهادة لهم بالإسلام، وتلبيس حالهم على العوام بكونهم من أهل الملة؛ فهذا هو حكمه، مثل أن يقول الخطيب: "اللهم وفّق عبدك فلان" - حاكم من الطواغيت – أو قوله: "اللهم انصر أمير المؤمنين"، وأمثالها من الأدعية.

      لكن لا يمنع أن يقول: (اللهم اهد دوسا وائت بهم مسلمين).

      وللتكرار؛ فإننا أمام قوم يحبون التأويل والثعلبة، فقد يتمسكون ببعض الألفاظ في الفتوى، كقول ابن عذرة: (أليس يقولون: اللهم صل على عبدك الحاكم وورثة الأرض؟)، فيقولون: إنما كفّر ابن عذرة هؤلاء الخطباء لأنهم أوهموا الناس بنبوة الطاغية حين قالوا: "اللهم صل".

      فنقول: إذا وصلت البلادة بأهل التأويل إلى هذا الحد، فلا ينفع معهم شيء، وحينئذ على المرء أن يسكت، والله وليّه.

      وقد ذكر الذهبي في "السير" [5] صيغة الدعاء التي كان يُدعى بها للعبيدي، وهي كالتالي: (الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغصب، وانقهرت بقدرته أركان النصب، واطلع بامره شمس الحق من الغرب، ومحى بعدله جور الظلمة، فعاد الحق إلى نصابه الباين بذاته، المنفرد بصفاته، لم يشبه الصُوَر فتحويه الأمكنة، ولم تره العيون فتصفه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وعماد العلم، وعلى أغصانه البواسق، اللهم وصلِّ على الإمام المهدي بك، والذي جاء بأمرك، وصل على القائم بأمرك، والمنصور بنصرك، وعلى المعز لدينك، المجاهد في سبيلك. وصل على العزيز بك، واجعل نوامي صلواتك على مولانا إمام الزمان، وحصن الإيمان، صاحب الدعوة العلوية عبدك ووليك أبي علي الحاكم بأمر أمير المؤمنين) انتهى.

      وأنت كما ترى؛ أنها تشبه كثيرا تلك الأدعية التي يدعو بها خطباء هذا الزمان، بل هي أقل سوءًا مما يُفعل الآن.

* * *

  • فوائد من الفتوى:

    1) لا يجوز المقام بأرض تعطلت فيها الشرائع، إلاّ إذا فارقوا المعطلين وباينوهم وعلّموا الناس دينهم.

    انظر قول الكبراني: (ولا يُعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز، وإنما أقام فيها من العلماء والمتعبدين على المباينة لهم، يخلو بالمسلمين عدوهم فيفتنونهم عن دينهم).

    2) من علم من الناس انه سيُدعى للدخول مع هؤلاء المبدلين في دينهم - ومعنى الدين شامل لمسائل الإعتقاد والنظم الحياتية، كما قال تعالى: {ما كان ليأخذ أخاهُ في دين الملك} - وعَلِم من نفسه عدم القدرة على تحمل القتل إن امتنع، ثم بقي في تلك الأرض مع قدرته على الهرب، فلم يخرج؛ فلا يُعذر بالإكراه.

    انظر فتوى ابن أبي زيد القيرواني في أهل طرابلس في آخر الفتوى، وما قاله علماء القيروان: (ولا يعذر أحد بالإكراه على الدخول في مذهبهم بخلاف سائر أنواع الكفر، لأنه أقام بعد علمه بكفرهم فلا يجوز له ذلك، إلا أن يختار القتل دون أن يدخل في الكفر).

    على هذا الرأي أصحاب سحنون - من أعلام مذهب مالك - يفتون المسلمين.

    3) العذر بالجهل:

    قول الكبراني: (ولا يُعذر أحد بهذا، إلا من كان أول دخولهم البلد قبل أن يعرف أمره).

    4) لا يُعذر المرء بكثرة العيال ولا غيره، مثل ذهاب الوظيفة وخسران المنصب وذهاب المال.

    قال الداودي: (ولا عذر له بكثرة عيال وغيره).

    5) التوبة إن شابها عدم الندم وكان فيها تهمة الهوى والشهوة؛ لا تُقبل.

    قال الداودي: (فإن تاب - أي الخطيب أو القاضي أو المفتي أو وزير الأوقاف - قبل أن يُعزل إظهارا للندم، ولم يكن أخذ دعوة القوم - الزندقة - قُبلت توبته، وإن كان بعد العزل أو بشيء منعه لم تُقبل).

    6) عدم جواز الصلاة وراء خطباء الطواغيت والداخلين في دينهم ونُظمهم.

    قال الداودي: (ومن صلى وراءه خوفا - أي صلاة الجمعة - أعاد الظهر أربعا).

    7) الإنتساب للسنة في مثل هذا الموطن الخطير؛ ليس حجة للتفريق بين خطيب وخطيب ومفتون ومفتون، انظر فتوى ابن عذرة الأنوي حيث قيل له: (إنهم سنية؟)، فالصوفي والسني على حكم واحد.

    8) هذه الفتوى ردّ على من يحتج بأنّ تعطيل الشرائع ليس كفرا وردّة، لأن كثيرا من الجهلة هذه الأيام إذا قيل إنّ الحاكم إذا عطّل الشريعة الإلهية واستبدل بها شريعة طاغوتية وضعية؛ فإنه يرتد ويخرج من الملة، كان جوابهم: "ولكن ظهر في بعض العصور من عطّل الشريعة ولم يكفره العلماء، مثل تعطيل المماليك لبعض الشريعة وتعطيل العثمانيين لبعض الأحكام"

    فالجواب عن هذه الأكذوبة من أوجه:

    أ) هذه حجّة ليست من حجج السلف الصالح، لأنّ دين الله تعالى لا يخضع لأفعال الرجال وأقوالهم، فينبغي أن يحتج المحتج بالدليل - كتاب وسنّة - لا بما يحتاج هو بنفسه إلى دليل.

    ب) إنّ ظهور بعض المعاصي في دولة من الدول وعصر من العصور وفي مجتمع من المجتمعات ليس هو "تعطيل الشرائع واستبدالها"، فبينهما فرق كبير، ومن لم يفقه؛ فالحديث معه ضياع للجهد والوقت.

    ج) إن الكثير من الفتاوى التي أصدرها أهل العلم في أزمنة خاصة وأحوال عارضة لم تُحفظ لنا، وذهبت ولم تصلنا، لأن الله تعالى لم يتكفل لنا بحفظ هذه الفتاوى، بل المحفوظ الوحيد هو الذكر - الكتاب والسنة - فعلينا أن نحتج بهما، لا بسواهما.

    ومن أمثلة هذا أنّ بعض أهل العلم كفّر الحجاج، وقال؛ "إنه مات في دين الطاغوت، لا في دين الله تعالى".

    وبعض أهل العلم كفر الدولة العثمانية.

    واستقصاء هذا يطول، وهي لا تُذكر في كتب أهل العلم إلا من قبيل الإستئناس، وليس بكونها أدلة مستقلة، فليتق المرء ربه، وليعض على توحيده بالنواجذ.

    ذيول مهمة على الفتوى والظرف:

    1) ترجم الإمام الذهبي في كتابه الماتع "سير أعلام النبلاء" [في الجزء السابع/ص148]، تحت إسم "الشهيد" قائلا: (الإمام القدوة الشهيد؛ أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل الرملي، ويُعرف بابن النابلسي).

    قال أبو الفرج بن الجوزي: (أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر – العبيدي - أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهما وفينا تسعة؟ قال: ما قلت هذا، بل قلت إذا كان معه عشرة أهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضا، فإنكم غيرتم الملّة، وقتلتم الصالحين، وادّعيتم نور الإلهية. فشهره ثم ضربه ثم أمر يهوديا فسُلخ).

    قال أبو ذر الحافظ: (سجنه بنو عبيد، وصلبوه على السنة، سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يُسلخ: {كان ذلك في الكتاب مسطورا}).

    قلت: وفي قوله رحمه الله دليل على أن قتال المرتدين أولى من قتال الكافر الأصلي.

    2) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" [ج15/ص154]: (وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه، وقد رأيت في ذلك تواريخ عدة يصدق بعضها بعضا).

    وعُوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي - من إباضية الخوارج - فقال: (وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني؟).

    وخرج أبو إسحق الفقيه مع أبي يزيد، وقال: (هم أهل القبلة، أولئك ليسوا أهل القبلة، وهم بنو عبيد، وإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت راية أبي يزيد، لأنه خارجي).

    جاء في ترجمة أبي إسحق السبائي في "ترتيب المدارك" [ج6/ص64] أن رقيته كانت بـ: (الحمد لله، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، كل ذلك سبعا، ثم يقول في آخر دعوته: "ببُغضي في بني عُبيد وذريتهم، وحبي في نبيك وأصحابه وأهل بيته؛ اشفِ كل من رقيته").

    قال أبو ميسرة الضرير: (أدخلني الله في شفاعة أسود، رمى هؤلاء القوم بحجر).

    وقال السبائي - أي أبي إسحق الفقيه -: (أي والله نجدُّ في قتل المبدل للدين).

    وتسارع الفقهاء والعبّاد في أهبة كاملة، بالطبول والبنود، وخطبهم في الجمعة أحمد بن أبي وليد، وحرّضهم وقال: (جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله، وغيّر أحكام الله، وسبّ نبيه، وأصحاب نبيه)، فبكى الناس بكاء شديدا.

    وركب ربيع القطان فرسا ملبسا، وفي عنقه المصحف، وحوله جمع كبير، وهو يتلو آيات جهاد الكفرة، فاستشهد ربيع في خلق من الناس يوم المصاف انظر - خبره في "ترتيب المدارك" لتعلم أي العلماء هو؟ -

    وفي "السِير" [ج15/ص395] في ترجمة أبي العرب محمد بن أحمد بن تميم ابن تمام المغربي الإفريقي، قال الذهبي: (وكان أحد من عقد الخروج على بني عُبيد في ثورة أبي يزيد عليهم).

    3) في ترجمة الحُبلي في "السير" [ج15/ص374] قال الذهبي: (الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة، محمد ابن الحبلى، أتاه أمير برقة – عُبيدي - فقال: غدا العيد، قال: حتى نرى الهلال، ولا أُفطر الناس وأتقلد إثمهم، فقال: بهذا جاء كتاب المنصور [6] - العبيدي - وكان هذا من رأي العبيدية؛ يفطرون بالحساب ولا يعتبرون الرؤية، فلم يُر الهلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فأمر الأمير رجلا خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور – العبيدي - فطلب القاضي إليه، فأُحضر، فقال له: تنصّل وأعفو عنك، فامتنع، فأمر فعُلِّق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث العطش فلم يُسق، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين).

    4) في ترجمة أبي جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي في "ترتيب المدارك" [ج7/ص102] قال القاضي عياض: (من أئمة المالكية بالمغرب، والمتّسعين في العلم، المجيدين للتأليف، كان فقيها فاضلا، عالما، متفننا، مؤلفا جيدا).

    قال القاضي: (بلغني أنه كان يُنكر على معاصريه من علماء القيروان سُكناهم في مملكة بني عبيد وبقائهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك، فأجابوه: اسكت لا شيخ لك).

    علّق القاضي قائلا: (أرى لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل إلى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه؛ لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام).

    تمت بحمد الله

    [1] تركنا ترجمة الأعلام مخافة الإطالة.

    [2] عبيده الذين علّق عتقهم بعد موته.

    [3] نفس الجزء صفحة 278.

    [4] الدرر السنية في الأجوبة النجدية، حكم المرتد: ص22 - 23.

    [5] ج15 / ص176 - 177.

    [6] له ترجمة في السير: ج15/ص156.

tealscrollroses_small.gif

جمع وتنسيق النخبة للإعلام (تويتر)