JustPaste.it

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d239/a9623141/0027-small2.gif

logo-small_small.gif

حديث الذكريات

للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني

من أحسن الحديث

قال تعالى: {فاقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * اءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة...}.

في معرض ذكر الأخبار الربانية، والتي فيها حال أهل الجنة وما فيها من نعيم لأهلها المقيمين فيها، جاءت هذه الآيات لتخبرنا عن خبر " رجل من المؤمنين"، هذا الرجل جلس مع إخوانه على السرر يقابل بعضهم بعضا ويحدث بعضهم بعض حديثهم في الدنيا وماذا وقع لهم فيها...

اي: "حديث الذكريات".

ولماذا لا يحدث بعضهم بعضا؟! أليسوا قد حطوا ركائبهم في الجنان فهي نهاية المسير والمطاف؟! لقد انتهى النصب والتعب، وقالوا: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن}..

نعم... ذهب الحزن وذهبت المشقة ولم يبق من ذلك الا الذكريات ليتحدثون عنها.

لقد صبروا وصابروا وعانوا، إذ كانوا قبل في مشقة وكبد، ثم جاءت لحظات السكون والاطمئنان، وحل عليهم الرضوان، وآبوا الى منازلهم وازواجهم، وصعدوا أرصدتهم وممالكهم، وطافت عليهم سحائب الرحمة، وخدمهم الولدان المخلدون، ودنت منهم ثمرات النعم، وجلسوا على فرش علمنا أن باطنها من الحرير، وأطل عليهم الرحمن من فوقهم وصاروا ينظرون إليه، وصارت "تهيل" عليهم السبحات فتغشاهم الأنوار، فلم يبق الا توارد السعادة والفرح والغبطة والسرور، لا يغشاهم النصب {لا يمسهم فيها نصب} مهما مارسوا من اللذائذ والنعيم، فلا ملال من طعام، ولا فتور من شهوة، ولا حاجة لسنة أو نوم، ولا معاناة في خروج بقايا الشراب والطعام بل هو الجشاء كرشح المسك.

كل هذا يحيط بهم مع الأمن والأمان، والدعة والاطمئنان، فلا خوف من لحظة موت قادم يسرق منهم ملكهم، ولا اضطراب لنقصان ملك، ولا ترقب لعين تحسد وتتمنى زوال النعمة، إنما صدور خلت من الغل والحسد {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين}.

هناك حديث دار كرامة الرحمن لعبيده...

الرحمن الذي له الرحمة الواسعة، والرحمن الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، إنما يخلق ما يريد بالكلمة.

هناك حيث يجزي الله تعالى من أحبهم وأحبوه، أحبهم فأخلصهم له فلم يعبدوا سواه، ولم يطلبوا غيره {إياك نعبد وإياك نستعين}... أحبوه فتركوا لذيذ الحياة الفانية من أجله، تركوا الطعام لما أمرهم بتركه، وهجروا الفرش لما أمرهم بهجرها، وأنفقواأموالهم لما سألهم إياها.

أحبوه فلم يكن لهم عمل الا أن ينفذوا أوامره، ولم يكن لهم من طلب الا أن يقبل دماءهم تسيل وتسرح على أعتاب رضاه وحبته.

هناك حيث البشرى تتحقق، والوعود يفيها صاحبها لمستحقيها - اللهم يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد نسألك أن تجعلنا من أهلها -

هناك يكون وقت ولابد لأن يجلس الأحبة والاخوان فيتحدثون حديث الذكريات.

نعم سيجلسون، وسيرى الأحبة من أحبوهم في الدنيا ولم يروهم، سيرون نبي الله تعالى آدم ونوح وغيرهما من أنبياء الله تعالى عليهم جميعا صلوات الله تعالى وسلامه، نعم وسيحدثهم نوح عليه الصلاة والسلام عن نفسه وعن قومه، وسيحدثهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن مسيرته وسيرته، وسيتساءل الأحبة عن أخبار أنبياء الله تعالى موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام. هناك سيلتقي الأحبة بمحمد صلى الله عليه وسلم.

إيه.. أي لقاء جميل رائع هناك؟!

  • {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}...

    هات يا فلان... حدثنا وأطنب في الحديث، حدثنا عما لاقيت، كيف نجوت؟

  • {قال قائل منهم إني كان لي قرين}...

    هذه واحدة من المحن التي لاقيت، وهي محنة عجيبة، إذ للصداقة قيمها ومهماتها ولوازمها، وأول مهامها هو الائتلاف والاتفاق، فلا صداقة بمشاحنة ومخالفة.

    وقفت أنا وصديقي موقفين متضادين، فقد عرضت لنا مسألة؛

    ذلك أننا امتلكنا مالا، فنظرت فيه فأبصرت فيه ابتلاء من الله تعالى لي، وقلت: محنة وفتنة فلا بد من اجتيازها، فلست كـ " هامان " أنكر نعمة الله تعالى على، وأفتري وأقول {إنما أوتيته على علم عندي}... ولست كصاحب الجنة تلهيني جنتي عن لقاء الله تعالى حتى يصبح هذا اللقاء مثار شك وتردد {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}.

    بل هي طريق السلامة والنجاح... "انفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلال"...

    وهي التي أمرنا الله تعالى بها {يسالونك ماذا ينفقون قل العفو}... و {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، علمت هذا الطريق فسلكته أمنا مطمئنا أن المال لا تنقصه الصدقه، وان ما يقع بيد الله تعالى ىمن مما يبقى في يدي، وأن ما أنفقه هو الباقي، وما أبقيه هو الفاني، وكان شعاري؛ {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقوا قول سديدا} نعم هذا الشعار الذي كان البعض يحلو له أن نسميه آية الضمان وقد صدق.

    ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكا تلفا)).

    لكن كان لصديقي رأي آخر وله منهج يختلف عما أنا عليه؛

    نعم كان يعجب مني لدرجة الاستهزاء، وقال لي: عجيب أمرك، أليس لك عقل تفكر به؟! لماذا تنفق من مالك؟ هذا المال اختصك الله تعالى به ولو أراد أن يطعم غيرك لأعطاه {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} أوأنك لمن المصدقين، هذه الكلمات بحروفها، كان يقولها مرة بغضب مما أفعل، ومرة باستهزاء واستنكار. كنت أفهم منها أنه يستهزىء بهذا اللقب " الصدقة".

    ما هذا صدقة.. زكاة.. إنفاق.. ما هذه العبارات؟! وأي شىء ينفعك أن تكون من المتصدقين أو المزكين أو من المتبرعين أو المنفقين؟

    كان يلوي راسه مصعراً خده، ويأخذه الشيطان في بعض لماته فيفغر فاه وهو ينطق هذه الكلمة " صدقة"، يمط بها فمه ويفرك يديه تعجباً، ثم يخرج أنفاس بطنه يقطعها متوالية مع بسمة يدرك الناس معناها من غير تكلف.

    آه... سمعت أنك تنفق وتتصدق بمالك حتى تأخذ بدلاً منه أضعافاً بعد الموت.

    يا رجل.. يا عاقل.. أين عقلك... {أذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون} أي خبل أصابك؟! فهل هناك حساب أو عقاب بعد الموت، هى الدنيا.. هذه الفرصة الوحيدة.. عب منها حتى الثمالة.. واملا منها سعادتك فيل حلول الموت.

    يا رجل.. ما هي الا حياة واحدة.. وهل المرء يعيش مرتين؟ كل هذا باطل.. وأقاويل كهان.. وزمزمة وعاظ لا عقل لهم.

    هذا حال صديقي، وأعترف لكم كنت كثيرا ما تؤذيني هذه الكلمات حتى أنها لأثرت في مراراً لكن {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}... {تالله إن كدت لتردين}... إي والله: إن كدت.

    صديقي هذا أعرفه فلأنظر إليه أين مستقره.

    وتعالوا لنراه معاً...

  • {هل أنتم مطلعون}...

    فاطلع.. نظر وبحث وقلب نظره الى أهل النار.

    فرآه.. في وسط النار. في {سواء الجحيم} في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد...

    كما قال الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: (هنا مقام من كذب بآيات الله تعالى وأعرض عنها واستهزأ بأهلها).

    إيه يا صاحبي.. أتسمعني؛ أرأيت ماذا وجدت بسبب تكذيبك، وهل ترى ما أنا فيه؟!

    واعلم يا عبد الله:

    أن هناك احاديث عدة تدور بين أهل الجنة وأهل النار منها هذا الذي تقرأه.

    ومنها طلب أهل النار الماء من أهل الجنة {قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين}.

    وكقول أهل الجنة: {وقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين}.

    حينها يناديه ويؤنبه ويذكره:

  • {تالله إن كدت لتردين}...

    لقد كنت تأتيني بكل حيلة، وتحدثني بكل أسلوب، تلين لي الكلام حيناً وتقسو فيه اخرى حتى أكون مثلك. نعم كنت تشدني الى عملك السىء، وتغريني به بكل سبيل ومأخذ، حتى كدت ان أقع موقع الهلاك الذي أنت فيه، لكن...

  • {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}...

    إنما هي نعمة الله تعالى علي ورحمته بي، فقد كنت أسأله الثبات، وأن يقلب قلبي على طاعته، واستعيذ به من همزات الشياطين، وأؤوب إليه بعد كل جلسة بالإستغفار والدعاء أن يحفظني من كيد الشيطان وهمزه ونفخه ولمزه، والحمد لله رب العالمين.. كانت رحمة الله تعالى التي حفظتني منك، ومنعتني أن أكون حاضرا معك. هكذا هي بعض أحاديث الذكريات لمن استقر بهم المقام في جنة الله تعالى.

    اخرج الإمامان عبد الرازق وابن المنذر عن عطاء الخراساني رضى الله عنه أنه قال: (كان رجلان شريكين وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى بالف دينار أرضا.

    فقال: "صاحبه اللهم إن فلاناً اشترى بألف دينار أرضاً، وإني أشتري منك بألف دينار أرضاً في الجنة"، فتصدق بألف دينار.

    ثم ابتنى صاحبه داراً بألف دينار.

    فقال هذا: "اللهم إن فلاناً ابتنى داراً بألف دينار، وأني أشتري منك داراً في الجنة بألف دينار"، فتصدق بألف دينار.

    ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار.

    فقال‏: "اللهم إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني اخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار"، فتصدق بألف دينار.

    ثم اشترى - أي صاحبه - خدما ومتاعاً بألف دينار.

    فقال: "وإني أشتري منك خدماً متاعاً في الجنة بألف دينار".

    ثم أصابته حاجة شديدة، فقال: "لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني معروف"، فجلس على طريقه، فمر به في حشمه واهله، فقام إليه الآخر فنظر فعرفه، فقال: "فلان؟!"، فقال: "نعم"، " ما شأنك؟!"، فقال: "أصابتني بعدك حاجة، فأتيتك لتصيبني بخير"، فقال: "فما فعل المال فقد اقتسمناه مالاً واحداً، فأخذت شطره وأنا شطره"، فقال: "أشتريت دارا بالف دينار، ففعلت انا كذلك"، فقص عليه القصة، فقال: "إنك لمن المصدقين بهذا، إذهب فوالله لا أعطيك شيئاً ").

    إن هذا الحوار أيها الأخوة هو حوار بين طرفين كانا في طريق واحد، أحدهما زهد في هذه الدنيا واقبل على الله تعالى، والآخر زهد في الاخره وأقبل على أمر دنياه.

    صاحب الدنيا يستهزىء بالعامل لدين الله تعالى.

    هذه الصورة تتمثل بالكثير من الناس وبحالات متعددة.

    هناك شباب يجاهد في سبيل الله تعالى ويدعو لدين الله تعالى وتوحيده وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يهاجر.. ويبتلى.. ويسجن.. ويخسر الوظيفة، ويخرج من موطنه.

    وهناك آخر آثر الدعه والسلامة، خاف من تكاليف العطاء لهذا الدين، رأى أن الدين لا بد له من تضحية، ولا بد له من هجرة، ولا بد له من جهاد، ولا بد فيه من بيان وتصريح.

    خاف من هذه التكاليف، وبدل أن يشكر للآخر فعله، ويحمد له دينه وإخلاصه وتضحيتة وابتلاءه، راح يستهزىء به، ويقذفه بشتى قوارص اللفظ.

    إستعلى عليه بالوظيفه، إفتخر عليه بالشهادة، تطاول عليه بالرصيد البنكي.

    والمؤمن ينظر ويتألم من واقعه، ويصارعه هواه وشيطانه.

    لكنه ثابت لا يتزحزح.

    يحدث نفسه قائلاً: هي ايام قلائل ثم جميعنا الى حفرة القبر.

    ويثبتها ويقول: دين الله تعالى يستحق أكثر من هذا.

    ويمنيها مناجياً: وما عند الله خير وأبقى.

    ويصبرها بذكرى الراحلين السابقين من العلماء والصالحين والشهداء.

    ويرقب مع ذلك كله وعد الله تعالى بالنصر والتمكين، أو بالشهادة واللحوق بالسابقين.

    ستزول هذه الدنيا، وستذهب محنها وبلاؤها وكدها ونصبها، وسيبقى فيها فقط للمؤمن في الجنة وهو متوسد السرر... حديث ذكريات.

tealscrollroses_small.gif

جمع وتنسيق النخبة للإعلام (تويتر)