JustPaste.it

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d239/a9622946/0027-small2.gif

logo-small_small.gif

 

عندما تكفر القرى

للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني

من أحسن الحديث

قال الله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.

إنّ جريان السنن الإلهية أمرٌ لا مفرّ منه، وهي تقع بوقوع أسبابها، وليس هناك من شيء يقع سواء كان في الدنيا أو الآخرة إلا بسبب، وهذا تمام حكمة الربّ جلّ في علاه وتقدّست أسماؤه.

والناس يحاولون إتقان أبنيتهم حتّى لا يعتريها الدمار، فيؤسّسون القواعد، ويرفعون الأركان، ويحسبون الأمور بدقّة ومهارة، وهذا أمرٌ قد فُطروا عليه، وينسى الإنسان في لحظته إتقاناً آخر لا بدّ من مراعاته والاهتمام به، هو أمر ارتباط عالم الغيب المخفيّ عنّا بعالم الشهادة الذي نراه ونحسب حسابه.

أثر السنن الكونيّة في الأفراد والجماعات:

هذه قرية من القرى، حدَّثنا القرآن عنها على أنّها كائن واحد، له قانونه، وللجماعات والقرى قوانين خاصّة بها، كما أنّ للأفراد قوانين وسنناً خاصّة بهم، ومن الخطأ الذي يقع به البعض هو الظنّ أن سنّة الجماعات هي عبارة عن مجموع سنن الأفراد، نعم بينهما اشتراك في بعض الأمور ولكن بينهما الكثير من المغايرة، ومعرفة ذلك يتمّ من خلال شيئين:

أوّلهما: دراسة السنن الواردة في الكتاب والسنّة، فقد امتلأ المصدر المعصوم بذكر السنن التي خلقها الله تعالى في الجماعات والأفراد، وقد نبّه الأئمّة على الكثير منها، ومن ذلك كتاب الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، فهو من أجلّ الكتب في هذا الباب، وخاصّة حديثه عن أثر الذنوب والمعاصي في حياة الأمم والأفراد والشعوب.

ثانيهما: النظر في التاريخ، لأن التاريخ هو جريان سنن الله تعالى، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ منْ قَبْلكمْ سنَنٌ فَسيروا في الأَرْض فَانْظروا كَيْفَ كَانَ عَاقبَة الْمكَذّبِينَ}، فدراسة أمّة من الأمم وظاهرة من الظواهر في قوم مضوا تكشف لنا بعض السنن التي تهدينا إلى التعامل معها.

وقبل الخوض في سنّة القرية الكافرة بنعمة الله، لا بدّ من التنبيه على أمر وقع فيه أولئك الذين اهتمّوا بدراسة السنن القدرية بعيدا عن الإحاطة والمعرفة بالسنن الشرعيّة، إذ أوقعهم هذا في احتقار الشرع وعدم الاهتمام به وخاصّة ما يتعلّق بالسنن النبويّة، فأصابهم هوسُ تعظيم الكافرين وتقليدهم، وخاصّة في هذا الوقت الذي جهل أهل الإسلام دينهم وباءت محاولاتهم لإعادة الدين إلى الحياة بالفشل. ثمّ بدراسات هشة سريعة غير متأنيّة زعموا أنّهم خرجوا بنتائج واجبة التطبيق والاحترام، ولعلّ مدرسة "مذهب ابن آدم الأوّل" بقيادة جودت سعيد هي التي فتحت فتوح الشرّ في هذا الباب، ولم ينظروا إلى ما قاله الأئمة الهداة في الارتباط بين ما هو شرعيّ وما هو قَدَريّ، فإنّ عدم الفهم لهذه العلاقة تؤدّي إلى الزندقة التي نطق بها بعض أتباع هذه المدرسة، ثمّ غفلوا عن معنى النتيجة الحسنة في دين الله تعالى، وغلب على أذهانهم أنّ النتائج الحسنة هي نفس المعنى في نفوس الأغيار من الكافرين، فالموت في سبيل الله تعالى هو نتيجة حسنة في دين الله تعالى، أمّا الموت عند الأغيار على أي معنى هوَ نتيجة قبيحة ولا شك، ثمّ غفلوا عن معنى الابتلاء، وسقط من أذهانهم ولم يقيموا له شأنا، وكلّ هذا الذي وقع منهم لغفلتهم عن سنن الشرع أوّلا، ثمّ لوقوعهم في طرق الغير في دراسة سنن الكون والقدر.

الأمن والاطمئنان:

في هذه الآية ذكر قرية كانت على حال من الأمن والاطمئنان ورَغَد العيش، وهذه منتهى طلب النفوس وغاية ما يسعى إليه الناس فرادى وجماعات.

أمّا الأمن فهو سعادة الظاهر بعدم وجود الأعداء على وجه حقيقي، فليس هناك من يطرقهم بعذاب، أو يهدّدهم بقارعة، ثمّ ليس هناك ما يعكّر في داخلهم هذا الأمن، بل هم يحسّون به في نفوسهم، فهم في اطمئنان داخليّ، وهكذا توافق الظاهر والباطن، أمن خارجي واطمئنان باطنيّ، ثمّ رَغَد في العيش، وذلك بسهولة تحصيله وكثرته، فالنعم تجبى لهم، لا يبذلون الكثير في حصولها، بل هي آتية لهم من كلّ مكان تنبت أو تصنع فيه.

واعلم أنّ تحصيل هذه النعم ليس بالأمر السهل الهيّن بل هو من أشقّ الأمور، ذلك حين ينزع الله تعالى من قلوب الناس بغض قريتك فلا يقصدونها بسوء ولا يبيّتون لها شرّا، بل يقذف الله في قلوبهم محبّة الخير لها وذلك بجلب الرزق لها، فأي سهولة في هذا؟ بل هو والله غاية النعم للنفس الإنسانيّة، وهي شديدة وشاقّة.

ثمّ الكفر والنكران:

{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُم الله}...

ذَكَر بعض أهل التفسير أنّ المقصود بالقرية هي مكّة، والنعمة التي كفرها أهل مكّة هي ‌رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم، وهذا التفسير هو من نوع تفسير الشيء ببعض صوره وأنواعه، وإلا فهذا مثَلٌ لكلّ قرية أسبغ الله عليها نعمه وكفرت بها، والكفران هو ستر الحقّ وعدم الانقياد له، فالتوحيد حقّ وكفره هو الإعراض عنه ومعاندته والشرك به، والرسالة حقّ وكفرها هو عدم تصديق الرسول وترك متابعته والانقياد له، والنعم الماليّة حقّ وكفرها هو أخذها من غير طريقها الحلال وصرفها في غير طريقها الصحيح وعدم أداء حقّ الله تعالى فيها، والنعم البَدَنيّة حقّ وكفرها هو إفساد البدن بأكل وشرب ما حرّم الله، وإتعابه في غير طاعة الله تعالى.

وما من نعمة من هذه النعم كفرت بها قرية من القرى إلا وسلبها الله هذه النعمة وأبدلها ضدَّها، قال تعالى: {وَكَذَلكَ أَخْذ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقرَى وَهيَ ظَالمَة إِنَّ أَخْذَه أَليم شَديد}.

وقال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا منْ قَرْيَة كَانَتْ ظَالمَة وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرينَ * فَلَمَّا أَحَسّوا بَأْسَنَا إِذَا همْ منْهَا يَرْكضونَ لا تَرْكضوا وَارْجعُوا إِلَى مَا أتْرفْتمْ فيه وَمَسَاكنكمْ لَعَلَّكمْ تسْأَلونَ}... وكيفيّة حصول الكفران له سنّة، فإنّه ما من قرية إلا ولها كبراء يعظّمهم أهلها، وقد جرت سنّة الله تعالى أن يبدأ الكفران والمعاصي في أهل الترف.

قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نهْلكَ قَرْيَة أَمَرْنَا متْرَفيهَا فَفَسَقوا فيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْل فَدَمَّرْنَاهَا تَدْميرا}.

وقانون كفر النعمة يقع على الكفر المطلق كما هو شأن مكذّبي الرسل والأنبياء، ويقع على المسلمين عندما يكثر فيهم كفران النعيم، فهذا قانون وسنّة تضّطرد ولا تتخلّف، وهي لا تقع إلا إذا شاعت الفاحشة وكثر أهلها، وأعرض الصالحون فيها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك حضّ الصالحون على هجران أرض المعاصي وقالوا: "تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقرّ فيها".

فالجوع والخوف:

{فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}...

وهكذا لمّا أعرضت القرية عن أمر الله تعالى وسترت الحقّ وعاندت أهله وأعرضت عن اتّباعه، بدّلها الله بدل الأمن والاطمئنان خوفا، وهو خوف حقيقيّ له وجود في الواقع وأحدث أثره في نفوسهم، فأذهب الأمن وأزال الطمأنينة، وأبدلها الله تعالى بدل رغد العيش جوعاً.

وقد جاء اللفظ القرآني بقوله: {فأذاقها الله لباس}، واللباس يستر الخارج، والذوق يكون في ذات الشيء، وهكذا وقع فيهم ألم في الظاهر وألم في الباطن، وهذا الألم لم يخصّ طبقة دون طبقة، وجماعة من القرية دون جماعة، بل لبسهم جميعاً، وتسربلوا فيه كلّهم وذلك كما قال تعالى {وَاتَّقوا فتْنَة لا تصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا منْكمْ خَاصَّة}.

وقوله سبحانه وتعالى: {بما كانوا يصنعون}؛ هو تفسير لقوله تعالى: {فكفرت بأنعم الله} فإنّما عملوا كفراً، وصنعوا كفراً.

إزالة المنكر ضمان للأمن والاطمئنان:

وههنا نقطة لا ينبغي لها الفوات؛ وهو ما نراه اليوم من حرص بعض الشيوخ والعلماء على عدم إنكار المنكر بما أوجب الله تعالى، وذلك بالضرب على أيدي العصاة، أو بمقاتلة من ارتدّوا عن شريعة الرحمن، ويبرّرون هذا بأنّ إزالة المنكر باليد ومقاتلة المرتدّين بالسلاح سيورث البلاء والفوضى والاضطراب، وهم يسبغون على بلادهم وصف الأمن والاطمئان ورغد العيش، وينسون قوله صلى الله عليه وسلم في عقوبة الأمة حين تترك الضرب على يد العاصي بقوله: (يوشك الله أن يعمّهم بعقاب من عنده).

وهكذا يقلب هؤلاء الشيوخ أسماء الأشياء فيسمّون الطاعة فتنة واضطرابا، ويسمّون العيش تحت سلطة المرتدّين وانتشار الرذيلة أمنا واطمئنانا، ووالله ما هي إلا أيّام وسيرى الناس في هذه القرى ما تشيب لهولها الولدان، وما يذهل الأم عن وليدها والأخ عن أخيه، وقد رأوا بعض ذلك، ولكن أنّى للقلوب الخاوية من الإيمان العظة والعبرة، قال تعالى: {وَلكلّ أمَّة أَجل فَإِذَا جاءَ أَجلهمْ لا يَسْتَأْخرونَ سَاعَة وَلا يَسْتَقْدمونَ}.

ومما يجب أن نعلمه أنّ من هلاك القرى ودمارها حين تكفر وتُعرض عن أمر الله تعالى هو ما يصيبها من إذلال أهلها وذهاب شوكتهم، فتغنم أموالهم وتنهب ثرواتهم وتؤول إلى أيدي غيرهم، كما حصل مع يهود المدينة - بني قريظة وبني النضير - ومع يهود خيبر، فإنّهم لما رفضوا أمر الله تعالى واستكبروا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ضربهم الله تعالى بسوط عذابه، فأخربوا بيوتهم بأيديهم، وآلت ثرواتهم من بساتين وثمار وذهب ومتاع إلى أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك يوقع الله عقابه على أهل الإسلام إن كفروا بنعمة الله تعالى كما حصل مع أهل فلسطين، فإنّهم كانت نساؤهم في مدن الساحل يلبسن الذهب في أرجلهنّ، وكانت بساتين أرضها خيراً ونعيماً، ثمّ لمّا كثرت المعاصي والذنوب ورضي الناس بالحياة الدنيا بعث الله أذلّ الخلق وأحقر الشعوب على أهلها فآلت كلّها إلى أيدي اليهود ينعمون فيها ويأكلون خيراتها، فسبحان مغيّر الأحوال ومقلّب الملك والنعم.

ثمّ انظر إلى أهل سوريا الشام كيف سلّط الله تعالى عليهم إخوان اليهود في الذلّة والدناءة - النصيريين - وهم الذين كانوا من ذلّتهم يبيعون نساءهم لأهل السنّة هناك، فتبدّل الحال وصار العزيز ذليلاً والذليل عزيزاً، وكيف صار سيّد القوم من كبار الملاّك هناك لا يملكون شروى بعير كما يُقال، بل انظر إلى تشريد أهلها.

ثمّ انظر إلى العراق كذلك، وإلى مصر وإلى ليبيا وإلى كلّ بلاد المسلمين ترَ عمل هذه الآية ماثلاً بين عينيك، أما أمر أهل الجزيرة فوالله لا يعجز عن رؤيته إلاّ أعمى البصر والبصيرة.

إذا تفكّرت بهذا أدركت تزوير وبهتان الذين يخدّرون الأمّة ويدعونها إلى الرضا بواقعها، ويسلّطون نقمتهم على الشباب الرافض لهذا الواقع القبيح، هؤلاء الشباب يحاولون تبديل الكفر إلى إيمان، وتغيير المعاصي إلى طاعات، فهؤلاء الشباب يعلمون أنّ إقامة حدّ من حدود الله تعالى في الأرض خير من أن تُمطر السماء أربعين يوماً، ويعلمون أنّ قوام القرى لا يكون إلاّ بالعدل، ولا يكون العدل إلاّ بسلطان مسلم يقيم شرع الله تعالى، هؤلاء المؤمنون هم قدرُ الله تعالى الذي به يغيّر الله نعمته على أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم إلى رضا ورضوان، وهم قدر الله تعالى الذي به يرحم الله القرى فيرفع عنها الذلّ والخزي والدمار والعذاب، {وما كان ربّك ليُهلِك القُرى بظُلمٍ وأهلُها مُصْلِحُون}.

واعلم أن من الإصلاح الذي يحبه الله تعالى هو قتال وقتل أئمة الكفر، قال تعالى {وقاتِلوا أئمَّةَ الكُفرِ إنّهم لا أًيْمان لهم لعلّهُم ينتهون}، لأنّ تكنيس الأرض من هؤلاء ورميهم على مزابل الناس هو عين الإصلاح الذي يحبّه الله تعالى ويرضاه، ومن زعم من الناس أنّ هذا الأمر، وهو قتل وإزالة رؤوس الكفر، هو فتنة، فليعلم أنّه يردّ على الله أمره، وأنّه بقوله هذا هو الذي ينشر الفتنة بين الناس.

نعم لقد كثر الخبث ولا بدّ من شدّ الرنّة كلٌّ بما يستطيع لإخراج الناس من غفلتهم، هذه الغفلة التي طالت عليهم، وبسبب طولها استمرأها الناس وظنّوها أمراً صحيحاً ولا مفرّ منه ولا سبيل للخروج عنه، ولذلك على الدعاة إلى الله أن ينذروا قومهم ويخوّفوهم من موت القلوب الذي أصابهم حين رضوا حكم المرتدّين، ورضوا لقيمات الذلّ والعار التي يتصدّق بها هؤلاء المرتدون عليهم، وعليهم أن يكشفوا زيف سحرة هؤلاء الحكّام الذين زوّروا على الناس دينهم وواقعهم.

وإن قيل لك: إنّك من دعاة الفتنة!

فقل لهم: والله إنّ الفتنة هي التي تعيشون، وإنّ العذاب هو الذي تحيون ولكن لا تشعرون، وها هي القوارع تضرب الناس يوماً بعد يوم، وها هي النذر تصرخ في الآذان والقلوب.

فهل من مدّكر؟

tealscrollroses_small.gif

جمع وتنسيق النخبة للإعلام (تويتر)