JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم



مُؤسَّسَة التَّحَايَا
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ الدرس الأول من:

شرح سورة الأنعام

 

للشيخ: أبي قتادة عمر بن محمود

/files/justpaste/d233/a9443051/uploadd7b9a6ee86.jpg

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين وإمام المتقين حبيبنا وإمامنا وسيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه الغر الميامين وعلى من تبعهم بإحسان وهدى إلى يوم الدين، جعلنا الله -عزَّ وجلَّ- وإياكم منهم، آمين آمين.

 

أيها الإخوة الأحبة؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكر إخواني القائمين على هذا المسجد والداعين لهذا اللقاء. إن وفق الله -عزَّ وجلَّ- وأتمَّ بالخير والبركات فسيكون لنا لقاء في كل يوم من أيام رمضان بعد صلاة العصر، نقف فيها معكم على أسرار بعض الصور القرآنية التي نقرأها ونرتلها في هذا الشهر الكريم.

 

مقدمة بين يدي تفسير السورة

 

اخترت لكم أن نقف على بعض أسرار سورة الأنعام، وسبب اختياري لهذه السورة هو أنها جامعة لقضايا القرآن المكي؛ فهي تتحدث بإسهاب وببلاغ تام وبكلمة كاملة عن القضايا التي أثارها القرآن الكريم في أول نزوله ومخاطبته لقريش.

 

وهي تقوم على ثلاثة أعمد:

 

العماد الأول: قضية التوحيد بشمولها وعظمتها واتساعها واستغراقها لصفات الله -عز وجل- وجلاله، واستغراقها لحركة الإنسان في هذه الدنيا. فهذه السورة شاملة لما يتحدث عنه القرآن من أصول قضايا التوحيد، بحيث تتكلم عن جمال وعظمة وقدرة ربنا، وكذلك تتحدث عن ألوهيته، وعن وجوب عبادته، وإفراد العبادة له -جل في علاه-. وتتحدث كذلك على قضية أن هذا التوحيد يستغرق كل الإنسان؛ يستغرق حركة بدنه، وحركة لسانه، وحركة قلبه، كما أنه يستغرق ماله وكلامه وجميع تصرفاته. فهذه السورة تتحدث عن هذا بتوسع عظيم وببلاغ تام.

 

المسألة الثانية التي تتحدث عنها هذه السورة هي قضية الرسالة؛ لأن التوحيد يتعلق بأمر غيبي وهو ربنا -سبحانه وتعالى-، مع أن آثاره -كما قال أبو العتاهية-: "وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد"، إلا أنه غيب بالنسبة إلينا، وهذا الغيب لا يمكن أن يُدرك إلا بالرسالة.

وقضية الرسالة بالنسبة للمناوئين لرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- قضية مهمة؛ فقد تكلموا عن شخصه، وتكلموا عن صفاته، وتكلموا عن وعوده التي حكى عنها وتكلم بها.

 

وأما المسألة الثالثة فهي قضية الآخرة.

فهذه أركان القرآن المكي، ويكون على جوانب هذه القضيا قضايا أخلاقية وقيَمية هي أساس قيم الوجود، وهي أساس أخلاق الإنسان.

 

أهم القضايا التي تتطرق لها سورة الأنعام:

فسورة الأنعام تتحدث عن أصول القيم الإنسانية وكيف تربطنا بالتوحيد وبامتثال الرسول وبقصد بلوغ الجنان في الآخرة.

وهذه العمد الثلاث -يصح أن يُقال الثلاثة والثلاث على جهة الصفة وعلى جهة البدلية كما يعلم أهل اللغة- هي عماد الشخصية المسلمة؛ وهي أركان الشخصية المسلمة.

فالركن الأول هو توحيد الله -عزَّ وجلَّ- بأنك عبد، وأنت مفطور على هذه العبودية شئت أم أبيت؛ إما أن تكون عبدًا لله وإما أن تكون عبدًا لغيره. وكما أنك مفطور على حاجتك للطعام فأنت مفطور على حاجتك للرب فقرًا، وهذه ضرورية من ضروريات وجودك، ولذلك قالوا بأن الإنسان فقير بذاته.

والفقير بذاته يقابله الغني بذاته؛ فأنت قد تُصاب بالغنى، لكن هذا الغنى عارض من عوارض وجودك، وليس أصليًا فيك، فأنت غني بغيرك، ولولا المال لما كنت غنيًا؛ فأنت حتى في غناك فقير محتاج لغيرك، والله غني بذاته.

ومعنى الغنى الذاتي أنه لم يكتسب ربنا -سبحانه وتعالى- صفة الغنى لما خلق الخلق، فهو غني قبل أن يخلق الخلق، غني قبل أن يخلق العرش -وهو أعظم ما خلق الله-، غني قبل أن يخلق السماوات، غني قبل أن يخلق الأرض، غني قبل أن يوجَد على ظهر السماوات من يسبحه ويحمده ويثني عليه، فغناه ذاتي وأنت فقرك ذاتي؛ وما دمت أنك فقير بذاتك؛ فحاجتك لئن تكون عبدًا أمر فطري: لا غنى لك على أن تكون عبدًا، فيكون توحيدك لله -عزَّ وجلَّ- هو إملاء لهذه الضرورة، وهي ضرورة بمعنى أنك لو فقدتها؛ فقدت وجودك، بخلاف الحاجة التي إذا فقدتها تُصاب بالمشقة والتعب والعنت، ولكن الضرورة لو فقدتها فقدت حياتك،كالهواء، كالروح، كالرأس في بدنك.

فحاجتك للعبودية في نفسك هي ضرورية من ضرورياتك، والعبد المسلم يملأ هذه الضرورية بعبوديته لله؛ فإن ترك المرء أمرًا من عبودية الله ملأها بعبوديته غيره.

والإنسان بحاجة إلى الشرائع، لا يمكن للإنسان أن يعيش بغير شريعة، ولذلك من قديم قالوا أن الإنسان مدني بالطبع، ومعنى أنه مدني أي يحتاج إلى غيره، فما دام أنه يحتاج إلى غيره -كالزوجة والولد والشريك والجار والبائع والمشتري- إذًا هو يحتاج إلى شريعة. وخضوعك لشريعة ما هو امتثال للأمر، وامتثال الأمر فيه نوع عبودية.

فإما أنت تمتثل لشرع الله فتكون عبدًا له وإما لا يمكن أن تخرج إلى الفضاء، هل يمكن أن تخرج من شريعة إلى لا شريعة؟ لا يمكن؛ فإما أن تكون في شريعة نقية سوية، وإما أن تكون في شريعة باطلة غوية، إما أنك تسأل حين تحتاج أن تتوجه بقلبك إلى الله فتسأل هذا العظيم، وإما أن تذهب إلى آخر فتسأل هذا الآخر ما معه من حاجات. فأنت بوجودك محتاج إلى رب يخلق، ورب يرزق، ورب يمد ويعطي ويمنع، ويحي ويميت.

 

الحاجة الثانية الملائمة لقضايا سورة الأنعام هي قضية المثال، الإنسان؛ كما أنه مفطور على العبودية، هو مفطور على الامتثال.

كيف تدرك الفطرة؟ كيف لنا أن نعرف أن أمرا ما من الفطرة أو ليس من منها؟

الفطرة هي أمر جامع للبشرية، ولكن كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، أي أن عوامل المجتمع تعمل في تغيير هذه الفطرة، فلما يقول -صلى الله عليه وسلم-: (سبع من الفطرة)، فهذه قضايا جامعة للبشرية، ولو تُركت على حالها من غير وجود مؤثرات جانبية لسلكها الإنسان وأتاها.

اللحية فطرة، ولكن الناس بعد ذلك يأتيهم الشيطان فيجتاحهم ويجتالهم عن هذه الفطرة، الوضوء من الفطرة، الزواج من الفطرة.

ومن الفطرة التي رُكبتَ عليها أيها الإنسان هو أنه لا بد لك من مثال أمامك تقتدي به، وهذا تعرفه من الصغار. فالولد الصغير فطرته تبدأ بأن يقلد والده، وبعد ذلك ينطلق في مخيلته وواقعه إلى نماذج أخرى تمثل له صورة الامتثال. فتجد المؤمن لتعبئته بصورة النموذج العظيم وهو رسولنا -صلى الله عليه وسلم-؛ يبحث ويتقفر كل سنة: كيف كان يأكل، كيف كان يشرب، كيف كان يمشي، ما الذي يحبه من الأطعمة، كيف كان يتحرك، إلى هذه الدرجة، ولا يسأل كيف كان يصلي؛ لأن هذا من القضايا المفروغ منها.

فلإملاء حقيقة المثال في نفسك أيها الإنسان؛ جاء الرسول، وجاءت الرسالة من أجل أن تبين لك أن التوحيد في صورته الواقعية والعملية، فأنت تحتاج إلى شخص يسير أمامك يبين لك كيفية العبودية، ويملأ هذا الشخص وجدانك ونفسك وعقلك وقلبك بالحب والطاعة.

من هنا كانت قضية الرسالة قضيةً مهمة، فكما أن التوحيد هو صراع بين الإله الحق وبين الآلهة الباطلة؛ كذلك قضية الامتثال هي صراع بين النموذج العظيم الذي هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وبين النماذج الباطلة التي يصنعها الناس، فيقولون لهم: "ما أريكم إلا ما أرى". والناس الآن كما ترون يصنعون لأبنائهم النماذج، ووسائل الشياطين تصنع نماذج أخرى: ممثلين، لاعبي كرة قدم، مغنيين، إلى غير ذلك. فهذه صور الأمثلة الجاهلية التي يسعى فيها الإنسان ظانًا أنه بها يبلغ المثال ويبلغ بها الكمال.

 

القضية الثالثة بعد هذه القضايا وهي قضية المقصد، وهي قضية {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.

فقضية الدار الآخرة هي مربط حركة المسلم، وهناك أمور لو حاولت أن تفسرها لغير المسلم فلن يقبلها إلا إذا آمن باليوم الآخر.

قضية الربا مثلًا؛ حدثوا ما شئتم عن محاسنها ومنافعها الدنيوية، ولكن حين نقف عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]؛ كيف يقبل التاجر في عالم آدم سميث: "دعه يعمل دعه يمر"، عالم الاقتصاد الرأسمالي الطاغي، والذي لا يعترف إلا بالقرش وحركته وكيف ينميه وكيف يكثره، كيف يقبل أن يقول عند العجز عن أداء الدين: "فنظرة إلى ميسرة" فقط؟! ثم يأتي إلى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280]. وهذه المسألة من مسائل الوجود، والناس يقولون -وقد صدقوا-: "المال عصب الحياة"، والله يقول أعظم من هذه الكلمة عن المال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، كأن المال حقيقته كحالة تلك الشجرة التي لا تقوم بنفسها، وإنما تحتاج بجانبها لمن يقيمها -ولذلك الله قيوم، أي قائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد، وقائم على غيره فالكل يحتاج إليه-؛ فالله سمى المال "قيامًا"، فأنت لا تستطيع أن تقوم بأمر المال، المال قوام الحياة، عماد الحياة.

فكيف لهذا المال الذي هو عماد الحياة أن يُطلب منك أن تصبر عليه ولا تزيد، وكيف لك إن كنت محسنًا أن تتصدق؟! هل يمكن لأحد أن يقبل هذا العرض وهذا التشريع إلا بأن يكون مؤمنًا بالدار الآخرة؟! لا يمكن.

كيف للرجل أن يغلق مكانه ويذهب إلى الصلاة؟ كيف للرجل أن يتصدق ويتمنى ويفرح أن يجد الفقير من أجل أن يعطيه المال؟

فقوام الشريعة كلها على قضية الدار الآخرة.

سورة الأنعام تتحدث عن هذه الأركان، وتبسطها بسطًا عظيمًا مهمًا لأنها في جُلها تتحدث جمالًا ومدحًا وحمدًا لرب الوجود. وأعظم ما في القرآن هو الحديث عن ربنا. ومن لم يفهم أن القرآن إنما أنزل من أجل أن يَبين متكلمُّه عن الله، -ومتكلمه هو الله سبحانه-، ومن أجل أن يبين عن نفسه ومن هو، فما فهم شيئا.

وكل القرآن يعود إلى هذه النقطة وإلى هذه المسألة، وهي الحديث عن نفس ربنا، فعليك أن تذهب إلى القرآن من أجل أن تعرف من هو هذا الإله، وكيف يتحدث عن نفسه، وما هي صفاته، وما هي أفعاله، وما هي كمالاته، وما هو مجده -جل في علاه-. والناس ربما يفرحون لسماع قصيدة يتحدث فيها الشاعر صاحبها عن حبيبته، أو يتحدث

فيها شاعر شجاع عن شجاعته فيطربون لها؛ لكن هذا القرآن يتحدث عن الكمالات التي لا تليق إلا بواحد وهو الله.

 

إعجاز القرآن:

وقبل أن أخوض في هذه السورة أريد أن أحدثكم فقط عن النقطة التي ركض فيها العلماء، وأتعبوا خيول عقولهم وكتاباتهم وكلامهم من أجل إدراك سرها، وهي كون القرآن معجزا. فما معنى هذه كلمة الإعجاز؟

اليوم؛ بسبب انتشار الاكتشافات العلمية، وغلبة هذه الاكتشافات والصناعات على عقل الإنسان، فالناس لا يروق لهم إلا الحديث عما يسمونه بالإعجاز العلمي في القرآن، وسأبيِّن خطأ هذه التسمية.

الإعجاز: أساس هذه الكلمة أن الله -عزَّ وجلَّ- لما ألقى هذا القرآن على قلب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن طريق جبريل، قال لهم هذا هو كتاب ربنا وكلام الله، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فهذا هو كلام الله، ثم تحداه أن يأتوا بمثله، وهذا التحدي أعجزهم، فسُميت هذه الحالة بالإعجاز إلى يوم القيامة. فهو أعجزهم أن يأتوا بمثله، لا بما أتى فيه من مواضيع، فهو لم يطلب منهم أن يأتوا بأحكام عظيمة، ولم يطلب منهم أن يأتوا بمعان صحيحة، بل تحداهم قائلًا: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].

فالشاعر يطرب له الناس وهو يصف وصفًا غير حقيقي يبالغ فيه، كما يقول عمرو بن كلثوم:

ملأنا البر حتى ضاق عنا *** وماء البحر نملؤه سفينا.

فهذه كلمة جميلة طربنا لها، رجل يفتخر أنه صنع فعلًا عظيمًا، قام وقتل الملك الذي أراد أن يزل أمه في قصة معروفة تعرفونها، ثم افتخر وقال ملأنا البر حتى ضاق عنا؛ هل هذا صحيح؟ لا، هذا شعر مفترى، لكنه جليل وعظيم.

فالقرآن يقول: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، أي: افتروا كما تشاؤون من المعاني، وهم يستطيعون أن يفتروا في هذا الباب وتحلق أذهانهم في صناعة الشعر الذي قال الله -عزَّ وجلَّ-: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225]، ومع ذلك تحداهم وقال لهم أريد عشر سور مفتريات تبلغ جمال وجلال وعظمة ما أتى به القرآن.

فإذًا التحدي الذي في القرآن -مما يسمى إعجازا- ليس هو أن تأتي بمعاني صحيحة، فالله يقول "مفتريات"، افتروا، ائتوا بما شئتم! ولكنني أريد عشر سور تبلغ كمالًا ما بلغه هذا القرآن من كمال وبلاغة البيان.

نعم، نستطيع أن نستدل بما جاء في القرآن من إعجاز علمي في هذا الزمان ونطحن الملحدين المعاصرين حين يقولون أن هذا القرآن ليس من عند الله، فنذكر كدليل ما حدثنا به القرآن عن الجنين مثلًا في وقت لم يكن يوجد فيه مسبار (مختبر)، والقرآن يخبرنا بدقة متناهية عن كيفية خلق الجنين؛ فدلَّ على أن الذي أنزل القرآن هو الذي يخلق الجنين في بطن أمه. نعم، هذا من أدلة أن القرآن من عند الله، ولكن ليس هو الإعجاز.

هل فهمتم الفرق؟ الإعجاز هو الذي تحدى ربُّنا فيه العرب أن يأتوا بمثل هذا الكلام وعظمته وجلاله وبيانه وبلاغته وبديعه، حتى ولو أتوا بالمعاني المفتريات، فهذا الذي هو بهر العقل.

كيف بهرهم؟ لا بد أن ننظر إلى هذا القرآن، ولا بد أن نعيد ذوقنا.

 

أهمية البيان

وهذا الذي نريد أن نقف عليه مع سورة الأنعام، بعد الحديث عن هذه القضايا العلمية العظيمة، وهو: الذوق؛ هناك ذوق للّسان وهناك ذوق للذهن والعقل. فهذا ذوق للماديات وهذا ذوق لما هو معنوي (للمعنويات). والأعظم هو الذي اختص به الإنسان، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 -4]؛ فأعظم ذوق عليك أن تحييه وأن تعتني به هو هذا الذوق الذي فرَّق الله به بينك وبين الحيوان، ولذلك الحيوانات يُقال لها عند العرب: "العجماوات"، من العجم. يعني أنه لا يستطيع أن يَبين.

فلو أراد الخروف أن يأكل؛ لا يتكلم بكلام مبين، لو أرادت دابة أن تشتكي ظلم صاحبها؛ لا تتكلم كلامًا مبينًا.

ولما جاء الفلاسفة من أجل أن يفرقوا نوع الإنسان عن بقية هذه الأنواع المخلوقة في الوجود قالوا: "الإنسان حيوان ناطق"، يعني أن الإنسان له خصيصة واحدة تفرقه عن الحيوان هي أنه يتذوق الكلام، وحين يتكلم؛ يتكلم بكلام مبين، وكلما ارتقت إنسانيته، وكلما ارتقى علمه، وكلما ارتقت بشريته التي تميزه عن بقية الخلق؛ كلما ارتقى بيانه.

من أجل هذا قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-: "كلما اتسع ذهن المرء اتسعت عبارته".

فإذا أردت أن تخوض في غمار العبودية لله؛ لا بد أن تُنمي هذه الذائقة البيانية التي جعلتك إنسانًا (البيان). والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، وبين البهيمية والإنسانية مفاوز عظيمة، فيمكن للإنسان أن يكون فيه بعض البهيمية وبعض الإنسانية، لكن ليتخلص كل يوم من هذه البهيمية، وليرتقي في درجات الإنسانية في عبوديته لله؛ لا بد أن ترتقي ذائقته البيانية من أجل أن يدرك معاني القرآن وإعجاز القرآن.

ونحن في هذه الأيام ربما يخطر على بالنا خاطر يقول: نحن اكتشفنا من معاني القرآن ما لم يعرفه الصحابة، يعني عندما تأتي: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، مَنْ مِنَ العرب يعرف أنه إذا ارتقيت في المرتفع ضاق صدرك لقلة الهواء؟ فقد يقول البعض: نحن نعرف تفسير هذه الآية أكثر من الصحابة. وحين يأتي قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، ويتحدث علماؤنا عن البروج بما وصل إليه العلم الآن؛ وجزاهم الله خيرًا، وجهودهم مشكورة وعظيمة وعلى الرأس والعين، وقد ردت إلحاد الملحدين، وأعادت قوة اليقين إلى قلوب المسلمين، كل هذا جيد.

لكن انتبهوا إلى ما نتكلم عنه: إلى قضية أن ترتقي ذائقتك البيانية في فهم كتاب الله من أجل أن ترتقي عبوديتك لله، فكلما علمت نفسك؛ علمت ربك، وكلما علمت ذائقة البيان؛ ازددت نورًا بهذا الكتاب فازددت تعبدًا.

والدليل على هذا هو أنه مع كثرة ما نسمع من أدلة علمية؛ لا تزيدنا عبوديةً لله، فنحن نسمع كل يوم عن اكتشافات علمية قد القرآن جاء بها، فهل زادتنا عبودية لله؟ هل جعلتنا أكثر قربًا في ذكرنا لله؟ هل جعلتنا أكثر قربًا في قراءتنا للقرآن، هل جعلتنا أكثر قربًا في امتثال أوامر الله؟ ألا ترى أن البعض ربما يجلس أمام الناس ويتحدث عما يُسمى بالإعجاز العلمي، ومع ذلك هو لا يقتدي بالنبي لا في سمته ولا في هديه! بل ربما تجد زوجته سافرة، ومع ذلك يتحدث.

فهل هذا العلم زاد رقيَّ العبد في طاعته لله؟ نحن لا نرى هذا، ونراه غير مؤثر البتة. لماذا هذا القرآن أثر في الجيل الأول حتى "صنع جيلا قرآنيا فريدا" كما قال سيد -رحمه الله- في (معالم الطريق)؟ ونحن الآن يصنعنا القرآن على طريقة الاكتشافات العلمية، ولكنها لا تغير في حياتنا شيئًا؛ نحن نسمع ونقول: ما شاء الله، الحمد لله، هذا قرآن عظيم، ولكن لا يدفعنا هذا بأن يزيد وِردنا القرآني في كل يوم، لا يدفعنا بأن تنهض إرادتنا لقيام الليل من أجل أن نقف مع القرآن ونتلوه.

نحن لم نصل إلى درجة هذا الصحابي الذي جعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حارسًا عليه في غزوة من الغزوات فقام يصلي، فلحق أحد الأعراب المشركين بجيش المسلمين، ورأى سوادًا أمامه في الليل قائم؛ فوضع السهم ورماه وهو يصلي، فنزع السهم ورماه وأتمّ صلاته، فالرجل ظن أن السهم لم يصبه فرماه بسهم ثان ثم ثالث حتى مات، وقبل وفاته استيقظ أصحابه و قالوا له: ما الذي دعاك لهذا وهو يرميك؟ قال: كنت في سورة -قيل الكهف- لوددت أن تُقطع عنقي ولا أقطع قراءتها!!

فهذا الذوق مع القرآن لا يصنعه هذا الذي تجدونه اليوم، ولذلك قاعدة العلم أن "علم السلف أجل وأعظم وأشرف من علم الخلف مهما كان" صحيحة. مهما رأيت العلم كثيرًا ومؤثرًا؛ لا يمكن أن يصنع ما صنع قلب السلف بالتعامل مع القرآن.

فالسؤال: ما الذي صنع هذا الصحابي لئن يكون كثيرًا في عبادته ممتثلًا لأوامر الله، متبعًا لما يقوله القرآن، متلذذا به، يسمعه فيطرب له، بل يسمعه فيسجد، وهذه سأبينها:

العرب كانت تسجد للعظماء، وبعض الناس يظن أن أعظم ما كانت تسجد له العرب هي الأصنام، وهذا غير صحيح؛ إن أعظم ما كان يسجد له عظيمٌ عربي هو البيان، فيقال: هذا كلام يُسجد له. ومن هنا لما سمعوا كلام الله ورأوا عظمته؛ سجدوا له دون أن يشعروا.

ولذلك هذه الدعوة وهذه الجلسات التي نجلس بها هي محاولة لتقوية هذا الذوق، ولا تظنوا أننا قد فقدناه بالكلية، فما دام أنك مسلم، ولم تعش في بيئة الغرب؛ فما زالت ذائقتك حية. وهناك فرق بين أن تموت فيُقال: "ما لجرح بميت إيلام"، فيكون الكلام مقرورا لا قيمة له، وبين أن أوقن بأن هذا الكلام هو لمادة ضعفت لكنها يمكن أن تقوى. هل الميت يمكن أن يعود؟ لا، لكن هذا الذي فيه دوخة أو سكران يعود إلى صحيانه.

فنحن إلى الآن نعرف قيمة الكلمات ونتذوقها حتى لو لم نقف، فهناك فرق بين الوقوف على الشيء وتذوق الشيء، وأضرب على هذا مثالًا –غربيًا-: هل نيوتن هو الوحيد الذي رأى تفاحة تسقط من الشجرة، أم رآها كثير؟ كلهم يعرفون أن التفاح لو سقط من الأعلى يجب أن ينزل إلى الأسفل؛ ولكن الفرق بين العالم وبين غيره هو أن العالم يوقف الحركة أمامه، ويبدأ بتشخصيها، وغيره ربما تقف عنده لحظة ويمشي، تأخذه الدنيا أو يأتيه شيء آخر ويمشي.

ما الفرق بين رجل يقف أمام لوحة جميلة أمامه ويتأملها، يرى كيف أن الفنان قد رسم الشمس هنا ثم الظلال هنا ثم كذا، والآخر يمر عليها ويقول: "جميلة"، ويمشي ولا يدري؟ ففي قضية الجمال والتذوق لا بد بأن تكون عالما بمعنى التذوق من أجل أن تطبقه.

واحد فنان كان له سمة جميلة وخصلة جيدة، فكان يأتي بعد أن يرسم اللوحة فيضعها على رأس الجسر ويختفي وراءها، حتى يسمع ما يقول الناس فيستفيد منه من أجل إصلاح لوحته، ويعرف قيمته من رؤية الناس. فمرَّ رجل يشتغل في تصليح الأجهزة ووقف على اللوحة، والكندرجي عادة ينظر إلى الأحذية، فهو نظر إلى اللوحة وأول ما وقع بصره على حذاء الصورة، ورأى أن الرباط ملخبط، فقال: هذا فنان جاهل؛ رباط الحذاء يجب أن يكون هكذا، فسجلها الفنان، ولما عاد إلى البيت صلح الحذاء بما قاله صاحب الصنعة. ثاني يوم، وضع اللوحة وتخفى وراءها؛ فمر صانع الأحذية ونظر؛ فإذا الحذاء قد رُبط بالطريقة الصحيحة؛ فتطور لديه الأمر ونظر إلى الرأس، فقال: لكن شعراته ليست مرتبة، فنظر إليه الفنان من وراء اللوحة وقال له: خلي بصرك على الحذاء ولا تزيد، يعني شغل الرأس دعه لأهل تخصصه.

 

إذن؛ لا يمكن لك أن تقف على علم حتى تفهم قوانينه، وقد كان العرب أصحاب سليقة، يتذوقون ويعرفون. ولما وقف الأعشى وحسان أمام الخنساء في أحد الأسواق، فقال حسان: لنا الجفنات الغر، الخنساء قالت له: قصرت في مدح قومك، هي ليس عندها كلام البلاغة الذي تعرفونه الآن، لكن هي تتذوق، فالجفنات كلمة تقليل، قالت له: أنت لما قلت: "لك الجفنات غر"؛ احتقرت قومك، هلا قلت: "الجفان الغر". فهي تفرق بين الجفان والجفنات، وتفرق بين الرحمن والرحيم، وتعرف أن الرحمن أعظم، والجفان أعظم من الجفنات. فهذا ذوق، يعرفونه منذ الولادة ويتغلل في نفوسهم كما تتغلل رمال الصحراء إلى أنوفهم، فتشكل معالم عقولهم وقلوبهم حتى يصبح عندهم الإحساس العظيم بالبيان، والإحساس العظيم بأعظم ما يميز الإنسان عن غير الإنسان.

 

ومن هنا أنا أقول لكم اقرؤوا (معالم الطريق)، حيث يتكلم سيد -رحمه الله- عن سبب اختصاص الله العرب بالرسالة، مع أن غيرهم (الروم) مملكة منظمة. هل سمعتم عن واحد يسمى جورج زيدان؟ هذا كاتب قصصي، كل قصصه من أجل يبين أن العرب كانوا من سقط الناس والبشر، وأما النصارى من الغساسنة، فكانوا من أعظم البشر. ويضرب على هذا أمثلة أن العرب لا يعرفون البناء، لا يعرفون ترتيب الطرق، ومعرفة المدن وتخطيطاتها، العرب همج لا يعرفون إلا اللبن والخيل وغيرها. وجهِل أن العربي الذي نزل عليه القرآن هو الإنسان. إذا خوطب خطابًا إنسانيًا؛ فهم. والدليل ما أقوله لكم، الآن في بلاد الغرب لو قلت لرجل: لا تكذب، أو أنت كذاب، هو يقول لك: ما المشكلة، هو لا يحس بهذه الكلمة الإحساس العظيم، وليس على استعداد أن يموت لهذه الكلمة. يعني لو أنك جلست مع أعظم الناس هناك، مع رئيس وزراء في بريطانيا مثلًا، وقلت له: أنت كذاب؛ لا يتفاعل مع هذه الكلمة ولا أدنى تفاعل، فهو يعتقد أن الكذب هو ضرورة من ضروريات الحياة، لكن لو قلت للعربي أنه كذاب، وكان عربيًا أصيلًا؛ يموت من أجل هذه الكلمة، بخلاف طبعًا الذين لحقوا بالمشركين في أخلاقهم وسلوكهم. فهذه الكلمة لها وقع، والكلام على نفسك أيها العربي له وقع، وما زال العربي يموت من أجل الكلمة.

هم يتعجبون كيف يصعد الإمام على المنبر ويخطب فيهم خطبة وبعد ذلك الناس يتفاعلون ويخرجون ما في جيوبهم، كيف نشأ هذا؟ من تذوقه، لأنه ما زال للكلمة أثرها في داخل نفسه. الآخر لو خطبت عليه، كأنك تضرب على لوحة مفاتيح معطلة، ليس لها اتصال مع عقله ولا مع قلبه.

إذًا لا يمكن أن تنشأ عبودية حقيقية بأخذك بهذا الكتاب متفاعلًا مع أحكامه ومع ما فيه، إلا بأن تدخل من الباب، هذا الباب هو أن تعيد ما أصاب هذا العقل من موت في التذوق، لا يمكن. فيجب إذن أن يكون عند المصلحين همة، وإرادة، وطريقة، من أجل إعادة إحياء تذوق الكلام الذي لو ضرب على كلمة فيه؛ صنعت المعجزات.

عندما يقول: "قال الله تعالى"، هذه كلمة عظيمة، كلمة "الله" اسم الجلالة، واسم جامع لكل خصاله -جل في علاه- الحسنى، هذه كلمة يجب عليك أن تفتح لها الطريق لتتذوقها تذوقًا عظيمًا، حيث أنها إذا وقعت على ذهنك تصنع إرادة تستجيب لما يقوله هذا الإله، هذه نقطة.

ومنطلق هذا هو أن تدرك كيف وما هي الوسائل التي كان بها هذا القرآن معجزًا، لا بد من هذا.

 

وهذه قضية كما ترون خفية عن الدعاة والوعاظ وغيرهم، هم يطوفون حولها بوسائل أخرى، ويريدون أن يعيدوا الناس إلى الدين، ويخاطبونهم، وتجد بعض المشايخ يرفع صوته، ويريد ما يسمى بالقراءة التفسيرية، والقراءة الإشارية. يريد أن يرفع صوته ويبكي، ويتصنع البكاء ليؤثر على الآخرين. وكل هذه ما هي إلا هوامش من أجل صناعة التأثير.

أما السبيل القوي لصناعة التأثير في قلب السامع هو أن يكون السامع متذوقًا للكلام وعالما به، عارفًا من الذي يتحدث. عندما يأتي شيخ ويتكلم بالخزعبلات والأساطير ويخرج الناس يقولون: ما شاء الله على الشيخ، فهذا يدل على أنهم لا يعرفون ولا يفرقون بين ما يُقال فيه العلم، وما لا يُقال فيه العلم.

عندما يأتي واحد يقرأ كلام الله ولا يُحْدث فيه أثرًا إلا كما يحدث الحبل الذي فيه بعض الكهرباء، بخلاف ما أن يأتي هذا القرآن فيهز صاحبه ويقول كما قال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: هذا لا يخرج من إلّ.

ما هو منطلق هذه القضية؟ كيف تلج هذه النقطة التي بين يدينا؟ هي ما سنتحدث عنها في الدرس القادم -إن شاء الله -عزَّ وجلَّ- ونفتتح بها.

وأنا لا أحب المقدمات الطويلة للمواضيع، لأن موضوعنا هو تفسير سورة الأنعام، لكنها قضية مهمة من أجل أن نعرف لماذا نريد قراءة هذه السورة. نحن نريد قراءتها من أجل أن نعيد إحياء ذائقة البيان. يعني أننا نريد أن نحيي إنسانيتك، لأن ذائقة البيان إن اهتممْتَ بها؛ صرت سامعًا ملقيًا لذهنك، وما مللت كتاب الله ولا أعرضت عنه، ولا استمعت له وأنت لاعب أو لاهي، ولا وقع على قلبك آيات مواعظه وهي لا تؤثر فيك! بل يصبح الطريق بينك وبين هذا القرآن سالك مطروق.

أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يتقبل مني ومنكم، وجزاكم الله خيرًا، والحمد لله رب العالمين.

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d233/a9443051/0o4arp2.gif