JustPaste.it

i_f4f1e277a41.gif

 

مُؤسَّسَة التَّحَايَا
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ

الدرس الرابع والعشرون
من شرح الشيخ عمر محمود أبو قتادة
لكتاب (الموافقات) للإمام الشاطبي -رحمه الله-

/files/justpaste/d229/a9308689/1434224893081.jpg

 

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

هذا الدرس الرابع والعشرون من دروس شرح كتاب الإمام أبي إسحاق الشاطبي -رحمه الله- المعنون بـ(الموافقات).

مراجعة من الدرس السابق:

تحدث الشيخ -رحمه الله- في المقدمة التاسعة عن صلب العلم وخواصه ومميزاته، وأن أولها: العموم والاطراد. ولأنه يتحدث عن العلم وليس عن المكلف، فهو لم يتحدث عن العموم والاطراد باعتبار المكلَّف -أن جميع المكلفين خاضعون لهذه الشريعة-، وإنما تحدث عنه باعتبار التكليف، بأنه يشمل الحياة جميعًا، وهنا تكلمنا عن نقطة مهمة جدًّا اختلف فيها العلماء، وقمنا فيها بعمل "موافقات" بينهم، وذكرناها في الكلام عن القياس، وعن تنقيح المناط، وهي:

 كيف ينظر علماء الأصول -رحمهم الله- على اختلاف مناهجهم في قضية العموم والاطراد؟

أو: كيف تدخل أعمال المكلف وموجودات الحياة كلها في الشريعة؛ هل تدخل بنصوصها أم تدخل بمعقولها؟ هل تدخل بالبيان أم تدخل بالقياس؟

  • هناك من يقول أن نصوص الشريعة تستوعب أعمال المكلف وحوادث الحياة جميعها بالبيان، وأن الشريعة جاءت بالبيان الذي يدخل فيه أعمال الناس بالحد الأدنى والحد الأعلى، ولكن لا بد من معرفة الحادث في أي بيان يدخل. وهذا الذي يجعله ابن حزم "الدليل"؛ ولذلك هو يتوسع في هذا الباب، وهذا الذي عليه الكثير من أهل العلم ويميل إليه كبار المحققين كشيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-، ويعيب على من قال بأن النصوص متناهية وأعمال ونوازل الحياة غير متناهية في كتابه (الصفدية)، وابن القيم وقف عليها وقفة العالِم في (إعلام الموقعين).
  • والآخرون قالوا: النصوص متناهية، وأعمال البشر ونوازل الحياة وتغير الظروف والزمان والمكان غير متناهية، فكيف يستوعب المتناهي غير المتناهي؟ قالوا: يدخل في معقول المتناهي، يدخل في قياسه: نعرف ما الأحكام وبعد ذلك نجعل هذه العلل مطردة، نجعلها تطرد وتدخل فيها الأشياء.

 

والأوائل الذين قالوا بأن الشريعة تستوعب الحياة بنصوصها وبيانها هم الأكثر اهتمامًا بجمع النصوص، ويهتمون كثيرًا باختلاف الألفاظ في الروايات، لأنه إذا اختلفت الألفاظ وسعت دائرة الدلالة، وهذا لأنه اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، واختلاف التنوع معناه إدخال ما بدا مختلفًا في معنى واحد، أي أن النص يستوعب هذا الخلاف، وأنه يستوعب أكثر ممّا بدا لأول وهلة -وهذه النقطة لم تُشرح في كتب الأصول، ولا في كتب التفسير-، فلما نفسر كلمة، إما أن تُفسر بالتطابق، وإما بالتضمين، وإما باللزوم، هذه إحدى دلالات الألفاظ، فكلمة "بيت" مثلًا؛ يدخل فيها الحائط، ويدخل فيها السقف، ويدخل فيها البيت بمعنى الدار، حسب سياق اللفظ.  

أما الآخرون الذين قالوا أن الحوادث تدخل في معقول النصوص فوسعوا دائرة القياس، وهم مدرسة الرأي؛ ولذلك لا تجد عندهم اهتمام المحدثين بهذه المسائل، يكفي أن يثبت عندهم حديث واحد فيجعلونه أصلًا، يقبلون ويردون عليه، فينشأ الاستحسان، وينشأ غيره من مسائل الأصول التي نجد عندهم.

 فكان هذا هو أهم ما جاء في الدرس الفائت: شرح معنى العموم والاطراد، وكيفية إدخال جميع حوادث الوجود ونوازل الحياة في الحكم الشرعي: هل بالبيان أم بالقياس.

الآن؛ الشيخ يضرب لنا أمثلة مما عدَّهُ البعض مسائل "على خلاف القياس"، وقبل شرح كلامه سنقف -كما وعدتكم- على ما يسمى بـ:

  "حادثة العين":

وهي -في إحدى معانيها- لمّا يجد الفقيه أنّ حادثة معينة تخالف قواعد مقررة في النصوص لديه -وسبق أن قلنا بأن "العموم في الألفاظ وليس في الأفعال"، الأفعال لا عموم لها-، فيخرج من هذا بالقول أنها حادثة عين.

وهذه الكلمة لها مفهوم أصولي، ولكنها كذلك شعار، فشعار الفقيه: "أنا لم أفهمها لأدخلها تحت قاعدة"، أي أنه يتركها لمن يبحث فيها ليدخلها في قواعد الشريعة لأن القواعد تتنازع. ونضرب أمثلة لهذا المعنى:

المثال الأول -وهذه لا تدخل دخولًا أوليا في حادثة العين ولكنها مقاربة-:

 قاعدة الإجارة تعارضت مع قاعدة البيع:

 فهناك من جعل الإجارة بيعًا، فجعلها على خلاف القياس، وهناك من جعل -وهذه طريقة ابن القيم- الإجارة عقدًا لها شروط تختلف عن عقد البيع، فالقواعد تعارضت.

- فالحنفي يقول: الإجارة على خلاف القياس.

والقياس هنا هو قاعدة الشريعة في عدم جواز بيع المعدوم، فالعقود لها شروط، وشرط العقد عدم جواز بيع المعدوم، والشريعة نهت عن بيع المعدوم، فيأتي إلى الإجارة فيجد أنها بيع لمعدوم: لمّا تستأجر بيتًا، أنت تدفع ثمنًا -وهو بيعٌ عندهم- ولم تقبض منفعة -بيع المعدوم-، فهذا عقد على المعدوم، والشريعة أجازته.

هذا هو ما أنشأ الاستحسان عندهم، فقالوا أن إجازة الإجارة -وهي بيع المعدوم- جرَتْ على معنى الاستحسان، والاستحسان هو مخالفة نصٍّ لنصٍّ أعظم منه لوجود ما هو أقوى منه، مثل: الضرورة، والحاجة، وعموم البلوى.

فبيع المعدوم هذا -الإجارة- جاء في معنى حادثة عين، أي لا تطرد ولا تتكرر، فحادثة العين ما كان متعلقا بشخص أو بواقع أو بنازلة، فلا يطرد.

المثال الثاني: وهو صلح الحديبية.

الشافعي -رحمه الله- جعله حادثة عين، وقال بعدم جواز أن يعقد إمام المسلمين مع عدو المسلمين عقدًا فيه الشرط الذي عقده رسول الله ﷺ في صلح الحديبية، أي أنه لا يجوز لإمام المسلمين أن يرد لأهله من جاء للمسلمين دون إذنهم.

و قال: السبب أن النبي ﷺ كان يعلم أن أهله هم أبرُّ الناس به وأكثرهم حفظًا له، فلن يفتنوه عن دينه بعذاب شديد، وقال: وهذا المعنى ممنوع في ظروف أخرى، ففي زمن النبي كان يُرد المسلم إلى أهله، إلى أبيه إلى أمه إلى عشيرته، فهؤلاء أكثر الناس حرصًا عليه، أما الآن فسيرد إلى حاكم. 

 مثال آخر:

بعضهم جعل حادثة أبي بصير حادثة عين لسبب من الأسباب وهكذا.

فهذه أمثلة عن تنازع القواعد، وإذا دققنا في الفقه وفي مسائله الخلافية التي ليس فيها نصوص بيِّنة وواضحة؛ نجد أن سبب الخلاف هو هذا: تنازع القواعد والخلاف حول: أي قاعدة تدخل تحتها الحادثة الفلانية، كالاختلاف حول إدخال الإجارة في البيع أم لا.

 الآن، نرجع للأمثلة التي ضربها الشيخ الشاطبي، ولا أريد أن أقف عند كل مسألة، بل نكتفي بتقرير القواعد.

العرية؛ هل ندخلها في البيع؟

ما الفارق بين البيع الجائز والعرية؟ الفارق هو القرض.

والدين؛ أليس ربا؟ أليس هو ربا الفضل؟

نعلم أن شرط النقد: التقابض والتماثل، فأنت لما تأخذ قدْرًا من المال وترجعه بعد شهر، فهذا عقد دين، وهذا حرام لو فعلته على معنى البيع والشراء وليس على معنى الإحسان، وهو عين ربا الفضل.

وهذا كلام يستند إليه ابن حزم في رد القياس، يقول: القياس لو أخذنا به فإمَّا نحرم هذا أو نحلل هذا. وهذا غير صحيح؛ فإن الدين أساس قيامه على الإحسان، والعقود أساس قيامها على المُحاقة -أي طلب الرجل حقه- وعلى الربح والخسارة وغير ذلك، وكون الدين بيعًا معنى بعيد، لأن إعطاءه يكون على معنى الاستحسان، فلما كان كذلك تُجوِّز فيه، بخلاف الربا فإن أساس قيامه هو الظلم؛ ولذلك قال الله -عز وجل-: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، فهذه قاعدة الشريعة في قضية الديون.

فالعرية هي بيع تمر حاضر برطب غير حاضر، والناس اليوم لا يستخدمونها، وحتى أصحاب الرطب لا يحتاجونها لأن الرطب ليس هو طعامهم الرئيسي كما كان قديمًا.

فهذه العرية؛ أين ندخلها؟ هل تدخل في البيع أم في الدين؟ تنازعها الأمران:

- هناك من قال: تدخل في البيع وهي على خلاف القواعد، على خلاف القياس، وذلك للضرورة والحاجة وعموم البلوى.

- أما الآخرون فقالوا: لا، هذه ضمن قواعد الشريعة ولم تخرج عن قياسها ولا عن عمومها؛ لأنها تدخل في باب الإحسان.  

 نكمل كلام الشيخ الشاطبي:

"فلا عمل يفرض، ولا حركة ولا سكون يُدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا"

كلمة "إفرادًا وتركيبًا"، أنا ما زلت أثق أن هناك كلامًا للشيخ سيأتي يدخلنا في هذه النقطة. ما معنى هذه الكلمة؟

معناه أنه قد يأتيك السائل ليستفتيك عن مسألة مجردة لا يوجد فيها أي موانع ولا أي شروط أخرى، ولا تتداخل فيها المسائل، فهي مفردة، وقد تدخل فيها أحوال وتكون مركبة. نضرب بعض الأمثلة:

المثال الأول:

المسألة المفردة: رجل يسأل: يا شيخ؛ كنت أصلي فوقفت فخرج مني الريح.

وقد تدخل تركيبًا: لست متأكدًّا مما خرج... إلخ.

فهذه تدخل فيها أحوال متعددة؛ فحينئذ أنت تنظر إليها بهذا الاعتبار.

المثال الثاني:

المسائل مفردة:

  • لو جاءك رجل وقال لك: يا شيخ، أنا اشتريت حذاءً بخمسين دينار.

 الجواب: هذا جائز.

  • وبعد دقيقة يقول: أنا بعت حذائي الذي اشتريت بخمسين دينارا اليوم، وقد كنت اشتريته دينًا، هل يجوز؟

 الجواب: يجوز الشراء بالدين، نعم.

  • ثم بعد دقائق، وقد أنساك المسألة الأولى، قال: يا شيخ، عندي حذاء بخمسين دينار، هل يجوز أن أبيعه بخمسة وأربعين دينار؟ الجواب: نعم، هذا جائز.

فإذا أفردت كل مسألة على حدة كان البيع جائزًا. هذا معنى "إفرادًا".

تركيبًا:

إذا ركبت كل هذه المسائل -الجائزة بإفرادها- أصبح بيع العينة.

مثال آخر:

المسألة مفردة: شرب الماء جائز، وأكلت العنب جائز.

المسألة مركبة: شرب الخمر حرام.

فحين التركيب يصبح للمسألة صورة أخرى تختلف عن الإفراد.

مثال آخر:

المسائل مفردة:

-رجل تزوج بامرأة أجنبية، هذا جائز

- وتزوج بامرأة أجنبية، هذا جائز.  

لكن عند التركيب:

لا بد من النظر إلى علاقة الزوجة الأولى بالثانية، وهل هي أختها، أو عمتها، أو خالتها.

وهذه هي مشكلة المفتين التي يعاني منها الفقيه، وهي مشكلة عند الحاكم بشكل أكبر. فحين تنازع المسائل؛ لا بد من النظر إليها باعتبار أفرادها وكذلك باعتبار تركيبها.

"وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما".

أي: وإن جاء في نصوص الشريعة الاستثناء بالنص أو بالقياس، فهو يترك المجال لمن يجيز أن يستثنى ما في النص بالقياس.

"وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما؛ فهو راجع إلى عموم".

أي: فهو راجع إلى عموم آخر، يعني يخرج من باب فيدخل في باب آخر أقوى منه؛ كالعرايا، أخرجناه من باب العقود إلى باب الدين.

"كالعرايا، وضرب الدية العاقلة".

العاقلة هم الأقرباء من جهة الأب. فالذي يدفع الدية حال القتل الخطأ هم عاقلة القاتل، والدية تقسط كما فعل عمر -رضي الله عنه-، وكما فعل علي-رضي الله عنه-.

فالرجل قَتل والجناية تحمَّلها غيره -أقرباؤه-؛ فهل هذا على خلاف القياس -الذي هو أنَّ عمل المرء مرهون به وهو مسؤول عنه مسؤوليةً شرعية مباشرة-؟

 "والقراض".

وهو المشتهر اليوم بالمضاربة.

وهناك من قال أن المضاربة هي لغة أهل العراق والقراض هي لغة أهل الحجاز، وقال آخرون: بل أهل العراق يقولون قراض ومضاربة، والحجاز يقولون قراض ومضاربة. ونعرف المضاربة، وهي أن يدفع أحد لأحد مالًا بشروطه، إلى آخره. 

 "والمساقاة".

المساقاة هي أن يتكفل أحدهم بسقي زرع أو شجر رجل آخر مقابل أن يكون له جزء معلوم من الثمرة غير محدد المكان، هذا شرط المساقاة.

 "والصاع في المصراة، وأشباه ذلك".

المصاراة هو أن يحبس -يصر- لبن الدابة في ضرعها -ثلاث أو أربعة أيام- ليكبر الضرع بُغية التدليس على المشتري، فإذا حلبها بعد ذلك وجدها على خلاف ما ظن وما أوهمه البائع. والنبي ﷺ أفتى من حدث معه هذا: (مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ).

واللبن مثلي -أي من الممكن أن يرجع للبائع لبنًا-، وقيمي -أي ممكن يرجع له قيمته العرفية-؛ فلماذا يرجع صاعا من تمر عوض ما حلب؟ لماذا لا يرجع له قيمتها العرفية أو يرجع له مثلها أو مثل اللبن؟

- قالت الحنفية: هذا خلاف القياس، ولهذا السبب ردوا هذا الحديث.

 وارجعوا لشرح هذه المسألة في (إعلام الموقعين).

 "فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها".

نظرة الشيخ أنها خارجة بسبب الحاجة، فهو أرجعها لأسباب حاجية أو تحسينية أو ضرورية، أما نحن؛ فشرحنا هذه المواضيع أكثر وبطريقة أوسع؛ لأن هذا هو حقها في هذا الباب.

وقوله: "أو ما يكملها":

ارتقبوا ما سيقول في الضروريات وتكميلها، والحاجيات وتكميلها، وهذا باب سيشرحه فيما سيأتي إن شاء الله.

"وهي أمور عامة؛ فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك.

 والثانية: الثبوت من غير زوال".

قوله: "فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة":

هذا قياس، ومعنى كلام الشيخ أن من زعم أن هذا الفعل حادثة عين له خصوصيته؛ فهذه الخصوصية ثبتت لدخوله في قاعدة أخرى، لدخوله في عامٍّ آخر، بمعنى أنه خاص ولكن داخل في عام آخر.

 قوله: "والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك":

أي معرفة تخريج الفروع في كتب الفقه دال عليه.

"والثانية: الثبوت من غير زوال":

 إذًا شروط صلب العلم هي:

أولًا: هو العموم والاطراد

 ثانيًا: الثبوت من غير زوال، وهو رد على من يريد تبديل الشريعة.

"فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أُثبت سببا؛ فهو سبب أبدا لا يرتفع، وما كان شرطا؛ فهو أبدًا شرط، وما كان واجبا؛ فهو واجب أبدا، أو مندوبا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام؛ فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فُرض بقاء التكليف إلى غير نهاية؛ لكانت أحكامها كذلك"

هذه النقطة سنقف عندها لأهميتها؛ لأنها ستعطيكم الجواب عن سؤال يسأله الناس كثيرا:

ماذا تقولون في التطبيق التدريجي للشريعة؟

هل تؤمنون بالتدرج في تطبيق الشريعة؟

هل الشريعة غيرها عمر عندما فعل كذا وكذا؟

الجواب: لا، لا نؤمن بالتدرج في تطبيق الشريعة.

ولا يسأل هذا السؤال إلا من هو جاهل في الفقه، ولا يجيب غير هذا الجواب إلا من لا يعرف كيفية إقامة الأحكام في النوازل، هؤلاء فقط قرّاء، وقراء الفقه لهم عجز في الفتوى، ولا يعرفون كيفية النظر للأحكام.

فنحن نطبق الشريعة في كل ظرف، وهذه النقطة يجب الاهتمام بها، وقد لا يفهمها حتى بعض العقلاء، وقد لا يعرف تخريجها بعض العلماء مع أنها كامنةٌ في نفوسهم.

فالشيخ الشاطبي يقول:

"بل ما أُثبت سببًا؛ فهو سبب أبدًا".

الحكم الشرعي؛ إما تكليفي أو وضعي، ومن الأحكام الوضعية: السبب، والشرط، والمانع. وإعمال الأسباب والشروط والموانع إنْ وُجدت واجب.

وسنضرب مثالًا بسيطًا، وقد يبدو غريبا، لكننا سنستطرد فيه إلى إجابة عن عمق ما يزعمونه مشكلة:

 - سؤال: هل صلاة الظهر واجبة، وهل هي من الصلوات المفروضة شرعًا؟

- جواب الفقيه: نعم.

-  هل يجوز أن نسقط صلاة الظهر، ونلغيها من أحكام الشريعة، ونقول أنه لا أهمية لها؟

- الجواب: لا، فهي باقية في وقتها الذي حدده الشارع، وبسببها بدخول الوقت، وبشروطها، فيما تعرفون من شروط الصلاة.

- الآن؛ واحد يسأل: هل عليَّ صلاة الظهر الآن، بحيث إن أخرتها أثمتُ؟ -ولا أريد أن أدخل في هذا مسألة: هل عليّ الآن أم عليَّ فيما سيأتي، ودخول المكلف فيها باعتبار العلم أو باعتبار العمل، وهل القدرة شرط للتكليف فيما يقوله المعتزلة، وأن القدرة تكون بحسب التكليف أولًا، وعند قيام المرء بالفعل ثانيًا؛ لأن القدرة قدرتان عند أهل السنة: قدرة عند التكليف -وهي أنك تستطيع أن تصوم وتستطيع أن تصلي باعتبارك إنسانًا-، لكن عند مجيء الأمر لوقوعه حالًا؛ القدرة تختلف: قد تكون وقد لا تكون. وهذه النقطة مع كونها سهلة؛ إلا أنكم تجدونها في كتب المتكلمين بألفاظ غريبة وقوية وصعبة-.

- الجواب: لا، هذا أول وقتها، وليس واجبًا عليك أن تصليها في أول وقتها، في الأمر متسع، - والحديث: (خير الأعمال: الصلاة في أول وقتها)؛ جمهور العلماء على تضعيفه، ومع ذلك زعم أحد محققي هذا الكتاب أنه في البخاري ومسلم، والحديث الذي في البخاري ومسلم هو قوله ﷺ: (الصلاة في وقتها)-.

- طيب؛ هذا الاتساع، هل يتغير باعتبار حال الشخص؟

 - الجواب: نعم، فبالنسبة للمسافر؛ هذا واجب مخيّر، يجوز له أن يصلي الظهر في وقت العصر.

وهذا الفرق بين الحكم والفتوى:

فإذا دخل الشرط، أو المانع، أو السبب، غيّر الفتوى؛ لكنه لا يغير الحكم، الحكم واحد.

 وهذه الصورة السهلة الميسورة التي رأينا تطرد عندنا.

فنعود لسؤال: هل يجب عليَّ أن أطبق الشريعة الآن؟

 نقول: نعم، يجب تطبيق الشريعة الآن، لكن حين يأتي إليك رجل سرق، أنت عندك الحكم الفقهي: "قطع يد السارق"، أما الحكم القضائي فيكون كالتالي:

القاضي يسأل: لماذا سرقت؟

يقول: والله يا شيخ، هذا البلد أهله يمنعون الزكاة، فأنا أذهب وأسرق حقي منهم في مال الزكاة، وآخذ بفتوى ابن حزم والجمهور في أنه يجوز للفقير أن يأخذ مال الغني الذي منع الزكاة لأنه يأخذ حقه.

يقول له: الله يعطيك العافية ويجزيك الخير، إن عادوا فعد!

فإذًا؛ ما هو تطبيق الشريعة هنا؟ عدم قطع اليد هو تطبيق الشريعة هنا.

الآن جماعة إسلامية مجاهدة في بلد لم يستقر سلطانها فيه، وعليها بلاء، هل يجب عليها أن تطبق الشريعة؟

الجواب: نعم، عليها تطبيق الشريعة.

لكن؛ هل واجب عليها أن تقيم الأحكام؟

الجواب: لا، ليس واجبًا، فتطبيق الشريعة في حقها هو أنه ليس واجبًا عليها أن تقيم الأحكام.  

إذًا، لما نقول أنه يجب تطبيق الشريعة الآن؛ نحن نتكلم عن الشريعة بدخول عوامل المنع لتطبيق الحكم ما لو وُجد أصالةً، لوجود عامل المانع فيه، الذي صَرف الحكم الأصلي إلى حكم آخر هو في الشريعة كذلك، فصُرف من باب إلى باب، لكنه صُرف من هذا الباب لأن الشريعة تمنع إقامته، أو تحمله على معنى الجواز خروجًا عن معاني الوجوب كما هو مقرر في الفقه لحالك أنت (الفتوى).

طيب الآن طبقها على حادثة عمر -رضي الله تعالى عنه- لما سرق الفتيان سيدهم في عام الرمادة:

الجماعة جاعوا ووصلوا إلى حد المسغبة -هو أجاعهم-، فخرجوا ووجدوا جملا في الطريق، فأخذوه وذبحوه وأكلوه.

لمّا رُفع الأمر إلى عمر؛ هل طبق الشريعة -رضي الله تعالى عنه-؟

الجواب: نعم، والشريعة هنا لوجود المانع -وجد أن الذي ألجأهم إلى السرقة والجوع هو سيدهم-، هي أمر السيد بدفع ضعف قيمة الجمل.

فهو طبق الشريعة؛ لأنه أعمل المانع في صرف حكم قطع اليد عن السارق. والشريعة أتت بالموانع، فإما أن تكون موانع كلية، أو موانع جزئية.

مثال آخر:

لمّا يُسأل فقيه عن نصيب الزوجة من الإرث؟

فهو ينظر؛ هل له أولاد لمّا مات؟ إذا لم يكن له ولد؛ نعطيها الربع، وإذا له أولاد؛ نعطيها الثمن.

هل تقول أن الشريعة لم تطبق حال إعطائها الثمن؟؟  

طبعًا لا، ففي الحالة الأولى لا يوجد المانع في صرف الربع إلى الثمن؛ فأخذت حقها الكامل، أما في الحالة الثانية فوُجد المانع (الحاجز) الذي يمنع إعطاءها الثمنين -أي الربع- بوجود الفرع الوارث مطلقًا. فالشريعة طبقناها في الحالتين.

فتطبيق الشريعة الآن؛ هل معناه: ألا ننظر إلى الموانع وإلى الشروط وإلى الأسباب؟

هذا جهل، لأنه لا بد حين وقوع الفتوى وحين وصول القضية إلى القاضي وإلى الحاكم أن ينظر هل توجد الأسباب والشروط والموانع، وأن يُعملها فيها إن وُجدت.

فنحن لا نتدرج، قد بلغت الشريعة مبلغها وتمَّ كمالها فنُعملها الآن؛ ولكن نعملها بما أمر الشارع إعمالها، أي بالنظر إلى الأسباب والشروط والموانع.

ولذلك قال: "الثبوت من غير زوال":

فالوصف الثاني لصلب العلم: الثبوت.

"بل ما أُثبت سببًا؛ فهو سبب أبدا لا يرتفع"

أي: فما جعله الشارع سببًا فهو سبب على الاطراد في الحياة والزمان والمكان.

"وما كان شرطا؛ فهو أبدًا شرط، وما كان واجبا؛ فهو واجب أبدا، أو مندوبا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام"

 هنا الشيخ يطلق. ولكن هل يمكن أن يسقط الواجب؟ نعم، ممكن لدخول مانعٍ، كمكسور اليد، سقط الواجب عليه بغسلها.

 وهل يمكن أن يرتفع المندوب إلى واجب؟ نعم، هذا سيأتي إليه الشيخ، قد يكون الحكم مستحبًا في الجزء واجبا في الكل، فهكذا ينبغي أن نفهم الكلام.

قوله: "ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال":

طيب؛ كيف نوفق بين كلام الشيخ وكلام معاصره ابن القيم الذي قال بتغيير الفتوى؟

الجواب: الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، يعني بدخول الموانع، وعدم وجود الشروط، إلى آخره. فالفقه ثابت، وإنما تتغير الفتوى.

 وهذا رد على من زعم أن ما كُتب في كتب الفقه وُضع لغير أزماننا.

هؤلاء جهلة، يعني لما كتب الإمام ابن حزم (المحلى)، وكتب ابن قدامة (المغني)، وكتب الشافعي قبلهما (الأم)، قالوا بأن هؤلاء قالوا في الفقه ما دل عليه زمانهم! هذا هو الجهل، لأنهم خلطوا بين الفقه وبين الأحكام وبين الفتوى.

وهذا مثل جهل من زعم -وهم كبار ولهم لفات كبيرة ومشايخ- أن سيد قطب -رحمه الله- كتب (الظلال) بنفسية السجن، فكان فيه الغلو والتشدد.

ومبعث هذه المسألة وأساسها ومربطها هو ما نحن فيه، وهذا ما يسمى في علم الدراسات بالتاريخانية.

لا نجد هذا المصطلح في كلام الإسلاميين، لكنه موجود في كلام الزنادقة، وكما قلنا في درس فائت: إنما الزنادقة يتنشقون أصول ما يبنون عليه زندقتهم من أسس انحراف الفقيه أو المتكلم المسلم.

فالتاريخانية كلمة تعني أن لكل زمان فقهه الخاص، والتاريخ حاكم على الأحكام، فالناس يختارون من أحكامهم ما يناسب تاريخهم.

ومثل هذا الكلام تجده ممن يزعمون الفهم وهم أجهل الناس، وهم يأخذون الكلمات دون أن يستوعبوا أصول هذا الدين، وقد قلنا أنَّ من مهمات قراءتنا ل(الموافقات) أنْ نتعلم قراءة كتب التراث.

فجاؤوا وقالوا أن ما كُتب من الفقه والتفسير في تاريخ أمتنا إنما هو على هذا الأساس، بمعنى أن ما كتب العلماء محكوم بتاريخهم ومحكوم بواقعهم، ومحكوم بأزمانهم.

نقول: كذبتم!

حتى التاريخ لما كتبه علماؤنا -ومن التاريخ: السيرة-، إنما كتبوه ليستعليَ على الزمان والمكان، تاركين حكمة عمله وتطبيقه إلى ظروف الناس وأحوالهم باعتبار حكمة الحاملين له.

لنأخذ أكبر كتاب تاريخ وهو كتاب الطبري، ما الذي فعله الإمام الطبري -رحمه الله- في تاريخه؟ الإمام ساق لنا الخبر كما وصل، وقال لنا كلمته: "إذا وجدتم كلاما ضعيفا، وكلاما متناقضا؛ فالعهدة ليست عليّ، إنما هكذا وصلني فأنا أبلغكم إياه".

فحتى التاريخ الذي ينبغي أن يُقرأ وأن يُروى بعين ناظريه، كتبه علماؤنا برؤية العين لا برؤية النظر.

ونحن لو حدثت قصة هنا، لا نسوقها إلا وقد أدخلنا فيها ذواتنا وأشخاصنا ومزاجنا؛ ولذلك لمّا يأتي من بعدنا، يرى اضطرابًا في الخبر ومشكلة فيه، ولا يستطيع أن يميز بين من رأى الحدث رؤية العين وبين من رآه رؤية النظر.

فعلماؤنا؛ من أعظم ما فعلوا أنهم قالوا: هذا هو الدين، هكذا نكتبه في كتبنا. وتركوه ليُعمله كل أهل حقبة من الزمن بحكمتهم، بالنظر إلى واقعهم، إلى ما فيه من أسباب وظروف ودخول الحكمة وغير ذلك. حتى التاريخ تحروا فيه هذه الدقة!

فالتاريخ هو أشد ما فيه لغْوصة ولعِب في تاريخ البشرية، ومع هذا تحرى علماؤنا فيه الأمانة ونقلوه كما هو، لم ينقلوا أفكارهم ولا نظرتهم ولا حكمهم، بل تركوا هذا لنا.

فهل تظنون أنهم، وقد كانوا بهذا الورع وهذا العقل وهذه الحكمة مع التاريخ الذي تدخل فيه أنظار الناس وأمزجتهم وعقائدهم وما يحبون وما يكرهون، هل تظنون أنهم يتورعون في هذا، ثم يأتوا إلى تفسير كتاب الله فيُعملون به انطباعاتهم كما يفعل الآخرون في تاريخهم؟!!

ولذلك لما يقول أحدهم: أنا أعتقد أن التفسير يجب أن يصبح فيه تطور! أعتذر؛ لكن قطعًا أن هذا أدنى من مرتبة الحمار!

وهذا ابن كثير مثلًا؛ فسر كتاب الله تفسيرًا فوق الزمن وفوق المكان، فدوْرنا حين تقع حادثة، أن نأخذ هذا الكتاب -الذي هو فوق الزمن وفوق المكان وفوق الحالة- وأن نطبقه على حالتنا.

وكذلك الفقه، لما كتب علماؤنا الفقه؛ كتبوه من أجل أن يكون مطلقًا، هكذا باب المياه، هكذا باب الطهارة، هكذا باب الصلاة، هكذا باب الزكاة، والعالم العظيم -كما هؤلاء وكما في أزمانهم-، عليه أن يُدخل هذا المطلق إلى عالَم المقيّد بدخول الأسباب والموانع والشروط في داخل الحدث. ولذلك علماؤنا لما كتبوا ديننا وأورثونا إياه، إنما أورثوا علمًا مطلقًا مستعليًا.

وطبعًا نتكلم عن أصول الكتب، وإلا فقد وردت في كتب علمائنا النوازل، وفصلوا فيها: وأنا أجزتُ كذا لدخول كذا. هذه مسألة أخرى ولا يجوز أن ترتفع فوق الزمان والمكان؛ لكن حين نتحدث عن الفقه، لا يجوز لجاهل ولا لغبي ولا لضال أن يزعم أن كتب الفقه كتبت في ظروف غير ظروفنا، هذا جهل وعجز عن تقييد ما أتى مطلقا في الزمان والمكان، بزمانه ومكانه.  

فما يسمى بالتاريخانية بدعة لم تقع فيها أمتنا، وإنما أخذوها من المستشرقين وجاء الجهلة اليوم ورددوها: "والله، كتب الفقه لغير زماننا، زماننا يحتاج إلى فقه جديد".

وزماننا لا يحتاج إلى فقه جديد، بل يحتاج إلى فتاوى جديدة، يحتاج إلى فقيه بصير بحال زمانه ليدخل الفتوى في مطلق الفقه العام الذي يجب أن يُحترم وأن يبقى سويًا كاملًا.

ولذلك السب على بعض الخصوم بأنهم كتبوا شيئًا من الدين ضمن ظروف كانت قاسية أنتجت دينًا بنوع ما ومزاج ما، هذا منتهى الجهل، وأنا أطبقها على كلامهم وجهلهم في سيد قطب -رحمه الله-، وهو له حق -ككل علمائنا وككل من خدم دين الله -عز وجل- ولو بخطوة واحدة- أن ندافع عنه بالحق الذي علمناه فيه:

فهؤلاء التاريخانيون زعموا أن سيد كتب التفسير بمزاج شخصي؛ فلخضوعه لظرفه خرج فيه التشدد، ولو كتبه وهو مستلقٍ على أريكته لصدر مختلفًا.

وهذا إضافة لكونه جهل وضلال، فسيد قطب رد عليه، وقال أخوه محمد أن الله قيّد له أن يكتب تفسيره في المستشفى وليس في السجن، حيث كانت كل ظروف النعيم حاضرة لديه، فهو لم يكتبه في السجن ولا تحت السياط ولا تحت ضرب جلادين، وكان عنده أشخاص هو فقط يلقي عليهم ويكتبون ويراجع معهم المرة بعد المرة ويحضرون له الكتب إلى المستشفى.

"والثالثة:

كون العلم حاكمًا لا محكوما عليه، بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به؛ فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل، أو يصوب نحوه، لا زائد على ذلك".

ما وجدتُ إلى الآن كلمة "علم" تنسب إلى فعل الإنسان إلا وهي منسوبة إلى كرامة الرب مباشرة له، مثل قوله: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، فانتسب العلم لله، وقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ}. ابحثوا، قد يطرد هذا فنجده باستقراء تامٍّ في كتاب الله أنَّ العلم لم يُنسب حين استقر في قلب العبد إلا إلى الله؟ هذا شرف عظيم.

الموت نسب إلى الله ونسب إلى الملائكة: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، وهكذا، ولكن ألا يأتي العلم في القرآن إلَّا منسوبًا لفعل الرب في تصويبه وإعطائه للعبد؛ هذا دلالةٌ على جلالة العلم.

فإذًا؛ العلم حاكم، لا الأمزجة ولا النظر، والعلم عندنا هو المتلقى من الكتاب والسنة.

 قوله: "كون العلم حاكمًا لا محكومًا عليه"

دور العقل أن يفهم العلم، وهذه شرحناها، وكونه حاكمًا بمعنى أن العمل الذي يصدر على مدار التاريخ هو تحت العلم، فيقول العلم: هذا الفعل الصحيح، هذا الفعل خطأ، هذا الفعل جائز، هذا الفعل غير جائز، هذا أصبت به، هذا أخطأت فيه، هذا أجزأك، هذا لم يجزئك، هذا الفعل فيه صفة الصحة، هذا فيه صفة البطلان، هذا فيه صفحة الفساد، إلى آخره. فالعلم حاكم، ولا يجوز أن نقول بأن هناك فعلًا حاكمًا على العلم.

"بمعنى كونه مفيدًا لعمل يترتب عليه مما يليق به":

إذًا الأصل العلم الذي يفيد، والعلم الذي يفيد يُخرج العمل.

قوله: "فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل، أو يصوب نحوه"

هذه كلمة رائعة: "يصوب"، كأنه يصوب بالبندقية ويضعها في الاتجاه الذي يريده، فكأن العلم حمله وأقامه، ووضعه في الطريق الصواب نحو العمل الصحيح.

"ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة؛ وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها، وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم.

فإذًا؛ كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث؛ فهو من صلب العلم، وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب، والحمد لله.

والقسم الثاني -وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه-: ما لم يكن قطعيًا ولا راجعًا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صح أن يعد في هذا القسم".

قلبوا هذه الكلمات وستجدون تحتها معاني عظيمة.

وجزاكم الله خيرًا وبارك الله فيكم.

والحمد لله رب العالمين.