JustPaste.it

i_f4f1e277a41.gif

 

مُؤسَّسَة التَّحَايَا
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ

الدرس الثالث والعشرون
من شرح الشيخ عمر محمود أبو قتادة
لكتاب (الموافقات) للإمام الشاطبي -رحمه الله-

/files/justpaste/d229/a9308629/1434222832311.jpg

 

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيدهم وإمامهم حبيبنا محمد ﷺ، وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد؛ أيها الإخوة الأحبة، فهذا الدرس الثالث والعشرون من دروس شرح كتاب الإمام/ أبي إسحاق الشاطبي المعنون ب(الموافقات).

"المقدمة التاسعة:

من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو مُلح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه؛ فهذه ثلاثة أقسام"،

مرَّ الشيخ -رحمه الله- مرورًا رائعًا على أقسام العلماء، وبيّنَ حالهم مع هذا العلم العظيم، وما هي درجة تفاعلهم وأخذهم له، ورأينا في الجملة السابقة كلامًا طيبًا في أن العلم لا يكون حقًا إلا بالعمل، وأنه ينزل من الرأس إلى القلب، ومن العقل إلى النفس.

والآن؛ يتكلم الشيخ -رحمه الله- عن أقسام العلم، ويُقسمه إلى قسمين:

- القسم الأول: هو ما كان من صلب العلم.

وكلمة "صلب" هي التي يتم بها قيام الشيء؛ ولذلك "فقار الرجل" هو صلبه، ويقال لابنه: "صلبه" لأن قيام الرجل إنما يكون من صلبه. كذلك كلمة "قوم"؛ الناس يظنون أن "القوم" يدخل فيهم النساء، والقرآن يفرق بين القوم وبين النساء: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}، ففرق بين القوم والنساء لأن كلمة "قوم" مأخوذة من "القيام"، وقيام الرجل لا يكون بالنساء، إنما قيام الرجل يكون بقومه الذين يقومون به عند الملمات وعند الحاجة، والنساء لا ينفعن لهذا.

فالصلب هو الذي إذا ذهب ذهبت الحياة، وصلب العلم هو ما يقوم به شأن الحياة. وسيأتي الشيخ إلى أوصاف صلب العلم، وصفات العلم الضروري، وما سيقوله في هذا مهم جدًّا، وقد أخذه العلماء بعده ونفروا إليه، وله بعض المقدمات في كلام السابقين، ولكنه جمعه جمعًا رائعًا.  

- القسم الثاني: هو ما كان من مُلح العلم.

و"مُلح" مأخوذ من المِلح، فإن الطعام يقوم بغير الملح، وإنما يوضع الملح للمذاق؛ وإلا فلو خلا الطعام من الملح الذي يوضع عليه لكفى الطعام. فملح العلم هو ما كان زائدًا عن ضروريات وحاجيات الحياة.

قوله: "ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه"

- وهذا قسم ثالث لا ينفع لا من جهة قيام النفس والحياة، ولا من جهة أنه فيه المتعة؛ بل هو كما وصف الشيخ المنطق سابقا بأنه: "لحم جَملٍ غَثّ، على رأس جبل وعر، لا سهلٌ فيرتقى، ولا سمينٌ فينتقل"، فهو لو كان لحم جمل فقط فإنه يعاب، فكيف إذا كان لحم جمل غث، وعلى رأس جبل وعر، الوصول إليه صعب؟! فلو وصلتَ إليه وصلت بمشقة، وحين تأتيه لا تجد إلا سرابًا.  

"القسم الأول:

هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان".

"القسم الأول":  

وهو العلم الضروري.

"هو الأصل والمعتمد":

الأصل والمعتمد أي الذي تقوم عليه بقية العلوم وهو قاعدة لها، وهو الذي تتفرع عنه العلوم جميعها.

وسيأتي الكلام أن من شروط هذا العلم الضروري أنه لا يجوز إلغاؤه، ولا يجوز تجاوزه، لأنه هو القاعدة وبقية العلوم فرع تعود إليه، ولا يجوز أن يعود الفرع على الأصل بالإبطال.

قال: "والذي عليه مدار الطلب":

هذا هو العلم الذي يجب أن يسعى إليه العلماء والساعون، وسيبين لنا الشيخ كيف يحصل هذا العلم، وكما تقدم ذكره، فالشيخ يرى أن الأصول مأخوذة من فروع ظنية، ولكنها اجتمعت حتى حصل بها اليقين، فبهذه الفروع المتكاثرة والمجتمعة حصل اليقين والقطع.

وقد ذكرنا جملة مهمة جدًا، قالها ابن العربي وهي أن: "الفروع مأخوذة من اللفظ، وأما المقاصد أو العلل؛ فمأخوذة من المعنى". وفي هذا تنازعٌ بين أهل العلم لأن اللفظ النبوي جاز روايته بالمعنى، فهل يجوز أن نتعامل مع اللفظ في الحديث كما نتعامل مع اللفظ في القرآن؟ الجواب: لا، بلا شك، فقد تقدمت القاعدة بأن القرآن لا يعدله شيء؛ ولكن لا يعني تجويز العلماء للمحدِّث أن يلفظ الحديث بالمعنى أن نُسقط قيمة اللفظ، وهذه مسألة وقف عندها ابن الهمام الحنفي في (فتح القدير)، وهو يرى أن اللفظ النبوي لا يصلح أن يُشتق منه الحكم، بل يجب النظر إلى المعاني، وهذا خطأ.

ولأن الأحناف هم أئمة البحث في المعاني، والعلل عندهم هي الأصل؛ هم يردُّون أحاديثًا بحجة كونها مخالفة للقياس، وهذه المسألة سنتكلم عنها فيما بعد إن شاء الله.

وكمثال عن هذا، عندما يقول النبي ﷺ: (إذا جاوز الختان الختان)، فكلمة "جاوز" مقصودة من كلام الشارع، ولا بد أن ننظر إليها ليتكون منها الفرع الفقهي، والآن لا نريد أن نفسرها لأن بابها الفقه وليس الأصول.

فإذا أراد المرء الفقيه أن يجمع المعاني والمقاصد، أن يجمع المقاصد والكليات، فالطريق هو النظر إلى المعنى وليس إلى اللفظ، فإذًا كما سبق وأن قلت: النظر إلى العلل والمقاصد بالنظر إلى معنى النص، والفروع بالنظر إلى لفظ النص.

والشيخ هنا يمهد للمقاصد، ومع أنه يرى أن المقاصد هي التي تحكم الشريعة، وهي نهايتها، إلا أننا لا نقبل طريقة تعامل كثير من العلماء مع هذا الكتاب، فهم يأخذون فقط بالجزء الخاص بالمقاصد -وهو الكتاب الثاني-، ويلغون البقية، وكأنَّ بقية الكتاب هي فقط دعامات لكتاب المقاصد.

فالشيخ هنا يمهد للكلام عن المقاصد ويرى أن صلب العلوم هو النظر إلى المعاني، فيقول:

"لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وما هو مكمل لها أو متمم لأطرافها وهي أصول الشريعة":

إذًا أصول الشريعة عنده هي الكليات والمقاصد، وهي منتهى الطلب.

وقد تقدم الكلام بأن العالِم مراتب، وبالنظر إلى سبيل آخر في قوله، هناك من يأخذ النص دون اعتبار معناه، وهناك من يأخذ النص باعتبار حكمته. وقد تكلمنا عن هذا وقلنا: ارجعوا إلى كتاب (حجة الله البالغة)، وكتاب (أسرار الشريعة)، إلى غير ذلك.

فالعلماء يتفاوتون بالنظر إلى مقاصد الشريعة؛ وإلا فالفروع قد يُكثر منها المرء ولا ينظر إلى مقاصدها.

ومن شروط العلم الضروري أن يكون قطعيا، كما قال: "وذلك ما كان قطعيًا". فصلب العلم؛ شرطه ألا يكون ظنيًا، لا في دلالته ولا في ثبوته، فلا يجوز فيه -على لغة الفقهاء والأصوليين- التأويل، والتأويل في كلام الفقهاء والأصوليين هو الاجتهاد، وليس المقصود هو التأويل في كلام العرب ولا في التفسير ولا في العقائد؛ لذلك يجب الانتباه للباب الذي نتكلم فيه حتى نفسر الألفاظ بمراد أصحابها، وإلا وقع الخلط.  

فأهل العلم يقولون: "لا اجتهاد في موطن النص"، طبعًا هذه مردودة من جهات كثيرة من كلام أهل العلم، ولكن نحن علينا أن نسير على طريقهم لنفهم مرادهم؛ فالفقه عند الأصوليين يقسم إلى قسمين:

- قسم منصوص عليه، دلالة النص عليه بينة وواضحة، قد يكون محكمًا، قد يكون مفسرًا، وقد يكون نصًا.

- وقسم مأخوذ بالاجتهاد والنظر، وهذا يدخل في الظاهر وما دونه.

وهذا هذه باب من أبواب أصول الفقه المهمة جدًا وهو: مراتب الألفاظ ودلالتها على المعاني، وقد تقدم الكلام عن هذا وقلنا أن الله ابتلى الناس بالأمرين: بالتعبد بظاهر النص، وبتعبدهم بالاستنباط من النص.

إذًا؛ القطعي هو ما لا يدخل فيه الاجتهاد، وقد يعترض معترض ويقول أن استنباط الحكم من النص كذلك يحتاج إلى اجتهاد، ويقصد بالاجتهاد: إعمال العقل، وهذا خطأ لأن هذا المعنى ليس هو مقصود الأصوليين الواضعين لهذه القاعدة، مقصودهم أنه لا تأويل لموطن النص.

 قال: "وذلك ما كان قطعيًا أو راجعًا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه"

الشريعة التي جاء بها رسولنا ﷺ؛ كل ما فيها إنما مقصده تحقيق العبودية، فهو من صلبها، فهي مبنية فقط على ما هو ضروري، وليس فيها ما هو من ملح العلم؛ ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها. وهذه الكلمة كلمةٌ جليلة من الشيخ، وهي ردٌّ على من زعم أن الشريعة محفوظة بأصولها، أما الفروع؛ فهي مجال إبداع وتغيير في حياة البشر. وهذا باب تعرفون أن فتحه يؤدي إلى إلغاء الأصول.

وأنا دائمًا أنبه على قاعدة مهمة مأخوذة من مجموع كلامٍ عظيمٍ لشيخ الإسلام، وهي قاعدة لم ينص عليها، ولكن لو قرأت كلامه في (درء تعارض العقل والنقل) لوجدته يدور حولها، وهي:

"ما من قولٍ يقوله زنديق في إبطال الشريعة إلا وأساس انحرافه قولٌ فقهي يقوله مسلم اجتهد فأخطأ".

وسأضرب لكم بعض الأمثلة القديمة والمعاصرة عن هذا:

الزنديق -وهو الذي ينتسب للشريعة ظاهرًا ويبطلها باطنًا-؛ حين يأتي للتأويل، يقول بأنه يسري على كل الشريعة، سواءً على أحكامها أو على أخبارها، وقول الزنادقة هذا -من إسماعيليين، وقرامطة، وباطنية- يؤدي إلى إبطال الشريعة كلها، أي إبطال الأمر والخبر، فالزنديق يؤول بلا ضابط، مثلًا:

- الجنة والنار: شهود اليهود (jeovah’s witnesses) قالوا أنه لا توجد نار في الآخرة، وأن المذكورة عندهم في التوراة والإنجيل هي المقبرة وراء الهيكل التي كان يرمي بها ويدفن فيها اليهود موتاهم. فهذا تأويل بلا ضابط أبطل الجنة والنار، حتى قال بن عربي الطائي: "ما سُميت عذابًا إلا لعذوبتها".

- الصلاة: قالوا أنها هي معرفة الإيمان، ومعرفة الحق.

فالزنديق يؤول الأحكام حتى يسقطها، ويؤول الأخبار حتى يعطل الثواب والعقاب، وهذا منتهى ما يقوله من التأويل، والذي فتح الباب لهذا هو من أجاز التأويل ابتداءً لأنه لم يستطع أن يغلقه، وهذه نقطة قد نصب ابن القيم -رحمه الله- كتابًا عظيمًا فقط لبيانها.  

فلما يأتي البعض لصفة نزول الله مثلًا، ويؤولها أنها نزول رحمته لأنه يرى أن النزول من صفات البشر التي يُنزه عنها الخالق، يأتي الزنديق فيطالبهم بضابط تأويلهم، ويؤول كما أولوا، فإن جاز لهم التأويل دون ضابط؛ ما الذي يمنعه هو؟ وكتاب (رسائل إخوان الصفا) يدور حول هذا المعنى.

فالأصل هو إغلاق باب التأويل، والأصل هو القول أنه يجب حمل الشريعة على ما وردت عليه، وأن الأحكام تُؤخذ من الألفاظ، لكن حين فتح المجتهد المخطئ الباب؛ اتسع هذا الفتح -لعدم القدرة على الإغلاق- حتى وصل إلى ما قاله الزنديق.

والآن؛ إذا أتينا إلى عصرنا، نجد أن الزنادقة الذين يبطلون الشريعة لا يهتمون لأمر الأخبار، فالعلمانية لا تناظرك ولا تعاديك في عقائدك، ولهذا لم يكتشف الناس خبثها ولا خبث الرأسمالية، بينما اكتشفوا خبث الشيوعية.

لماذا سارع مشايخنا إلى وصف الشيوعية بأنها كفر وشرك وخروج من الملة، ولكن لم يكتشفوا هذا في العلمانية؟

السبب هو أن الأمة تعظم شأن العقائد والأخبار، والشيوعية تناقض الأخبار والغيب: تنكر الجنة والنار والإله، فهذه سهل اكتشافها. لكن لما جاء المشرعون والمبدلون للشريعة، الأمة لم تكتشفهم لأن تبديلهم يتعلق بباب الأحكام.

ولذلك لو خرج رجل وأنكر وجود الجن، فلن يتوقف في تكفيره أحد، لكن عندما غُيرت وبُدلت الشريعة لم يكترث أحد، مع أنه لا يوجد فرق بين الصورتين: هذا تكذيب خبر وهذا إلغاء حكم، وكلاهما من الله.

بل إن أول كفر حدث في الوجود -وهو كفر إبليس- لا تعلق له بالاعتقاد: إبليس لم ينكر خبرًا وإنما خالف أمرًا، ومع هذا فالناس تستعظم إنكار الأخبار، حتى أنه لو أنكر أحد تلبس الجني بالإنسي لأولعت الدنيا، لكنهم لا يرون بأسًا برد الأمر وتبديل الشريعة ولا ينتبهون لخطورته، فيُحكم بجواز بيع الخمر وجواز الزنا وجواز التحالف مع الكفار والمرتدين ولا أحد ينتبه، وسبب هذا هو تعظيم جانب الخبر عند المتكلمين وتهوين جانب الأمر.

الآن؛ هناك طوائف من الزنادقة المعاصرين يريدون أن يبدلوا الشريعة، وزعموا أنه يجب تجديدها، وهم يقصدون بهذا الأحكام، لا التصورات والأخبار، مثل: حسن الحنفي، محمد أركون، العشماوي، جمال البنا، محمد شحرور في كتابه (القرآن والكتاب) -طبعًا هذا الأخير الناس اكتشفوه؛ لأنه يتحدث عن مسائل العرض والاجتماع-، وكثير غيرهم، وأنا أعطي بعض الأسماء فقط، وإلا فمراتب الزنادقة في هذا العصر تحتاج إلى مصنَّف، وأنا دعوت قديمًا طلبة العلم أن يهتموا بهذا الباب على طريقة علمائنا بجمع ما كتب الرجال.

فالذي فتح الباب لكل هؤلاء، وأساسهم الذي ارتكزوا عليه، هو ما يقوله ابتداءً بعض الفقهاء. فالزنديق يؤول والفقيه يؤول، والزنديق يقول: ما الذي يمنعني من التأويل مثلكم؟ ما ضابطكم؟ والزنديق يأتي إلى كلمات قالها العلماء، ويطير بها على غير المعنى الذي وضعوها له.

فجاؤوا مثلًا إلى كلمة الزركشي وبعض العلماء عن آيات العفو والصفح أنها أُنسئت -بمعنى أُجِّلت- ولم تُنسخ، فطاروا بها، فالعلماء قالوها على معنى، وهم نقلوها لآيات الجهاد على معنى باطل، فقالوا أنها أُجِّلت أي جاء وقتها! حتى أن بعض المشايخ ممن يزعم أنهم سلفيون أخذها وألف فيها مصنفات. وهذا باطل على هذا المعنى، وإنما المعنى الذي يقوله كل علمائنا أن المرء يطبق الحكم الملائم لواقعه.

وأنا سأفصل في هذه النقطة لأهميتها لأنها نموذج للعلماء الذين يفتون ولا يعرفون مراتب ولا مهمات الأصول: عندما قالوا كلمة "أُنسأت" بمعنى "أجلت"، قال آخرون أن معناها هو أن الحكم مخبَّأ حتى يأتي زمان يعود إليه!

والصواب في هذا أن آيات الصفح يُعمل بها في وقت الاستضعاف، وهذا إجماع لا يخالف فيه عالم، والذي يقوله الفاروق من إلغاء الشيء إنما هو لغياب العلة، فإذا عادت العلة عاد الحكم. يعني لمَّا لغى الفاروق -رضي الله تعالى عنه- سهم المؤلفة قلوبهم، كان ذلك لأن الإسلام انتشر وقوي، فذهبت العلة فذهب الحكم. فهذا غياب للحكم مرتبٌ على غياب العلة؛ لكن الذين يقولون بأن أحكام الشريعة والجهاد أُنسئت على المعنى الباطل، يقولون أنَّ الشريعة مخبَّأٌ فيها الحكم حتى يأتي وقته، فيلغي الحكمَ المستقِر، فكما أن آيات السيف ألغَتْ آيات العفو، فآيات العفو ستعود لتُلغي آيات السيف مرة أخرى، هكذا هم يصورون الآن؛ ولذلك يقولون أنه لا يوجد جهاد، لأن آيات الجهاد قد نُسخت بما أُنسئ به الحكم السابق.

وهذه جملة قالوها في سعارهم من أجل نفي الجهاد، بحثوا في بطون الكتب عن جملة ينفون بها الجهاد ويردون بها على من يثبته، فوجدوا هذه وطاروا بها.

ومفتاح باب الزندقة هي هذه القاعدة التي استعملوها، وهي: أن الشريعة يكمن فيها أحكام لم يعرفها الأوائل حتى يأتي وقتها.  

حتى أن هناك فيلسوف مغربي -يقال عنه إسلامي وهو زنديق- قال: انظروا كيف خُبِّئَ الحكم بالعلمانية في القرآن في سورة الكهف حتى يأتي وقتها!! قال هذا الفيلسوف: ألا تعلمون أن سورة الكهف هي السورة التي تقي من الدجال، إذا قرأ المرء العشر الآيات الأولى منها وقي من الدجال، إذن هي سورة الغيب والمستقبل، وسورة قرب انتهاء الزمان، فإذن فيها أحكام لهذا الوقت. فجاء إلى الآية التي ذكر فيها ربنا -عز وجل- ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ}، وقال أنه أوكل الحكم للحاكم، وهذه هي العلمانية!!!  انظروا لهذا التفلسف!

فمن الذي فتح هذا الباب؟ الجواب: الذي فتحه هو اللعب بهذه القواعد وعدم فهمها وإنزالها على الطريقة الصحيحة، وأن القرآن والسنة فيها آيات مُخبأة أنسِئت حتى يأتي وقتها، هذا هو أساسهم.

وأعطيكم أمثلة أخرى لتتبينوا خطورة ما أدى إليه فتح باب التأويل عند الفقهاء:

- الوضوء؛ قالوا أن النبي ﷺ أمر به ليتطهر الناس ويتنظفوا، أمَّا اليوم وقد صار الناس يتحممون كل يوم فلم يعد له فائدة.

- و(ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)؛ قالوا أن هذا قديم يومَ كانت المرأة في بيتها لا تستطيع أن تكون فاهمة ولا عالمة، أما اليوم فقد صارت ذكية وتستطيع أن تعمل عمل الرجل، وهناك مثال لقوم ولوا أمرهم امرأة في القرآن، وبعض الدول لم يقم لها شأن إلا بحكم امرأة مثل تاتشر في بريطانيا، إلى آخره.

فأعيد القول أن الذي فتح الباب لكل هذه الزندقة وهذا الهراء هو هذا الفقه الأعوج، وهو طريقة الفقهاء في التأويل من غير ضابط، وكما قال شيخ الإسلام في أمثال هؤلاء من الأشاعرة: لا الإسلام نصروا ولا الشرك هزموا أو كسروا.

والذي يضبط هذا الأمر هو أن تتعلم الأصول على وجهها الصحيح، وأن يكون هناك قطعيات لا يجوز أن يُلعب بها.

ومن القطعيات التي تلوعِب بها: قضية الإجماع، وبقولهم: "لعل الناس قد اختلفوا"، فتحوها على مصراعيها! فقد رأينا من تأتي إليه بمسائل عليها إجماع، فلا يعرف أن أحدًا نقضه، ولكن يقول: ما أدرانا أن هذا إجماع، من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا! وهي مسائل مُجمع عليها ذُكرت في كل كتب الفقه ولم يأت عالم بنقض هذا الإجماع.

نحن أطلنا في هذا الباب لأهميته، فإذا كنت تريد أن ترد الباطل، إياك أن ترده ببدعة أو باطل؛ لأن هذا الباطل سيأخذه غيرك ليرد به حقًا آخر هو أعظم مما رددت عليه من الباطل.

وكان هذا كله شرحا لقول الشيخ -رحمه الله-:

"ولذلك كانت محفوظة -أي الشريعة- في أصولها وفي فروعها"

فروع الشريعة محفوظة مثل أصولها، قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، فكل ما انتسب للذكر محفوظ.

"لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين":

تذكروا أن مِن مهمات قراءتنا لكتاب (الموافقات) هو نزعه من أيدي المبطلين. فالشيخ حين يتكلم عن المقاصد، هو لا يريد أن يصنع المتعة في الحياة ليكون العذاب في الآخرة، بل يقول: "حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارينهو يتحدث عن نفس الرب، يتحدث عن العبادة، يتحدث عن صلاح الآخرة.

"وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات":

الضروريات: من الضرورة، وهو ما ترتب عليها قيام الحياة.

والحاجيات: من الحاجة، وهي ما لو ذهبت أصاب الناس العنت والحرج.

التحسينيات: هي ما خلاف ذلك، التي يحصل بها تسهيل الحياة وغيره.

وسيأتي شرحها بتفصيل في موطنها.

 قال: "وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها":

هذه كلمة طويلة الذيول العلمية؛ هناك ضروريات وهناك مكمل لها، وهناك حاجيات وهناك مكمل لها، وهذا يشرح إن شاء الله في وقته.

قال: "وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها":

سيعود الشيخ لشرح "البرهان القطعي".

"وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان".

"هذا وإن كانت وضعية لا عقلية"

أي: وإن كانت هذه القواعد وهذه الأصول وضعية لا عقلية. و"وضعية" معناها أنها جاءت من الشارع، فالشريعة لا مدخل للعقل فيها إلا الفهم، العقل يحسن ويقبح، لكنه لا يشرع.

"فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي"

كيف تجاري الوضعيات العقليات في إفادة اليقين؟ الجواب: إذا قام دليلها على المعنى الذي قام عليه العقلي، ومن صورها:

- الاستفاضة.

- اجتماع الظني حتى يقوى فيصبح قطعيًا... إلخ.

ونحن الآن نشرح كلام الشيخ، وإن كنا نقول بأن هذا من مسالك المتكلمين وسبق الكلام في هذا.

"وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء التام الناظم لأشتات أفرادها".

لا يوصف فعل بأنه استقراء عام إلا بكونه ناظم لجميع أفراده، هذا تكلمنا عنه.

"حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة، ثابتة غير زائلة، ولا متبدلة".

هذه الجملة سيشرحها الشيخ بشرح رائع ينظف عقل كل أحد لو انتبه إليه، والشيخ عجيب، يؤصل لقواعد العلوم ويؤصل للأصول ويطرح الأصول لتكون ضمن مَهمات الحياة.

"وحاكمة غير محكوم عليها".

فأولاً: هي مطردة، عامة.

ثانيًا: غير متبدلة، أي ثابتة.

ثالثًا: حاكمة غير محكوم عليها.

وهذه هي صفة القطعيات، والشيخ ينثر كلامه هنا ثم يصيغه على طريقة التنبيه والشرح فيما بعد.

"وهذه خواص الكليات العقليات، وأيضا؛ فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي؛ فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما".

هذه كلمة عظيمة من الشيخ، وهي تصلح للرد على الزنادقة الذين يريدون إبطال الشريعة، والذين يزعمون أن العقل له صلاحية إعطاء الأحكام؛ لأن الصراع هو بين النبوة وبين الهوى، سواءً سُمِّي الهوى عقلًا، أو ذكاء، أو تطورا، فالشريعة تكذب هذه المزاعم.

فهناك صراع بين خط النبوة وما فيه من معالم الهداية، وبين خط الهوى، وهذا الصراع وجودي منذ آدم -عليه السلام- إلى يومنا هذا. وأس معلم الهداية أن النبوة تحمل الحق من السماء، وأس وعماد أعداء خط النبوة هو إخراج الأحكام ونبوعها من الهوى.

وتأملوا كلام الشيخ الرائع هنا، فالحق من جهة خط النبوة جاء من خارج الإنسان، جاء من الوحي، من السماء. وتقريرات العقل؛ من أين جاء أنها حق أو غير حق؟ هل العقل فرضها على الواقع، أم أن الواقع فرضها على العقل؟ هل العقل كان شيئًا منفلتًا فاستطاع أن يُنشئ أحكامًا؟

العقليات نشأت عن طريق الوجود، يعني أن الإنسان رأى أن هناك مسائل مطردة، مثل: الجزء والكل، وأن الاثنين لا يكون فيه واحد، إلى آخره. 

إذًا لا يجوز لك أن تقول بأن عقلك أنتج، إنما عقلك وعى وفهم، هذا الفرق. فالتقريرات العقلية تنشأ من التجربة والواقع، ولا ينتجها العقل ابتداءً، إنما دوره الفهم، فحين يأتي العقل ويقول: القمار سبب الغنى، فهذه استخلصها من التجربة. فالعقل وهو ناظر، قد يكون فهمه صحيحًا وقد يكون خاطئا.

فلِاسْتخلاص الحكم الشرعي؛ هناك ناظرٌ للشريعة، وهناك ناظرٌ للتجربة بزعمه؛ وإلا فهو ناظر للهوى حقيقةً كما سماه الشارع، وهذا هو خط أعداء النبوة الذين يحكمهم الهوى ولا يريدون التقيد بالشرع.

وهذه الكلمة من الشيخ هي مفتاح سر الوجود، ومفتاح سر الإدراك العقلي، ومفتاح سر العمل الإنساني، وسبق وأن تطرق لها الشيخ عند شرحه لآية: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}.

فالإنسان لا ينتج شيئًا إلا بعلم سابق، والعقل مثل الآلة التي تصنع الموجود؛ ولذلك قال الحارث المحاسبي، ونقلها شيخ الإسلام مادحًا: "العقل غريزة"، فلا يوجد شيء اسمه عقل ينتج، ولذلك؛ لا القرآن ولا السنة ذكرت العقل على جهة المدح، إنما ذكرته فعلًا، لا وجود لكلمة "عقل" في القرآن ولا في السنة، وكل أحاديث العقل باطلة وموضوعة، فما دام العقل آلة، إذًا هو ممدوح بفعله لا بما هو عليه هو، ولذلك جاء المدح للفعل، فنجد في القرآن: {يَعْقِلُونَ}.

قال: "وأيضا؛ فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي"

هذه كلمات رجل يراقب الحياة، فالكليات العقلية مقتبسة من الوجود الذي هو أمر موضوع، موجود، وضعي، لا عقلي.

"فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما".

الآن انتبهوا لأن الكلام السابق كان كلام متعة، أما الآن؛ فالكلام فيه متعة وفيه رصانة وفيه تأسيس، والشيخ سيؤسس لقضايا مهمة في موضوع العلم الضروري.

"فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما.

فإذًا لهذا القسم خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:

إحداها:

العموم والاطراد؛ فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا عمل يُفرض، ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا، وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما؛ فهو راجع إلى عموم؛ كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض، والمساقاة، والصاع في المصراة، وأشباه ذلك؛ فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها، وهي أمور عامة؛ فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك"،

لا إله إلا الله، هذا كلام رجل عظيم، أن يجمع رجل هذا الكلام هذا الجمع وبهذا الموطن، هذا من الفرادة.

الناس قد يعلمون شتات المسائل، لكن جمعها في قواعد مِن مهمات العالم. ما هي مهمات العالم؟ ما الفرق بين العالم والجاهل؟

أولاً: أن يفهم، أن تكون جامعًا لأفراد الموضوع، فشأن العالم أن يكون جامعًا لشتات وأفراد الموضوع، وإلا لا يكون عالمًا.

ثانيًا: أن يضع هذه الأفراد ضمن النسق، الائتلاف والاختلاف.

ثالثًا: أن يكون عنده القدرة على الإبانة عن نفسه.  

فإذا أردت أن تعرف مقدار العالم في تاريخنا؛ انظر إلى اجتماع هذه الأمور الثلاث فيه.

مثال:

لو جئنا إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، لما أراد أن يخرج لنا بقواعد العروض، ماذا فعل؟

أولًا: جمع أشتات هذا الشعر وأفراده، فكان حافظًا للشعر، عالمًا به، جامعًا له.

ثانيًا: نظم هذه الأفراد المتناثرة المتباعدة على أسواط المتكلمين وعلى ألسنة الشعراء، فجمعها ثم رتبها على قاعدة المتفق والمختلف: كيف يلتقي هذا مع هذا، كيف يختلف معه؟ فهو بعد أن أخذ الفروع، أنشأ القواعد لها: رأى أن هذه الأفراد المتناثرة في آلاف المقطوعات وعشرات الآلاف من المقطوعات والمعلقات والشعر إلى آخره، وجد أنها تنتظم في جوانب وتختلف في جوانب، هذا هو التقعيد.

ثالثًا: إذن هي استقرت في نفسه ورآها، ثم أوجد لها الأساليب وهي الدوائر العروضية، ثم أبان عما في نفسه من هذه التقسيمات بطريقة عالمة بيّنة جامعة لشتات هذا الشعر، فأبان عنها إبانة العلماء.

مثال ثاني:

سيباويه: هل هناك أعظم من رجل ينظر إلى كلام العرب جميعه فيرى أن كل الكلام لا يخرج مِن أن يكون اسمًا أو فعلًا أو حرفًا؟

هذا أولاً: جمع شتاتها.

ثانيًا: قعد قواعدها: متى تكون الكلمة اسمًا؟ ما الذي يفترق الاسم به عن الحرف؟  الفعل لا يدخل عليه حرف الجر... إلخ.

ثالثًا: أبان عنها.

فهذه مسائل قد يعرف شتاتها الكثير ولا يقفون عندها، لكن لا يبين عنها ولا يسغها في قواعد إلا عالم.

مثال ثالث:

مثال إمامنا الشافعي -رحمه الله-، قال عن "البيان" أنه: شيء اجتمعت أصوله وتعددت فروعه، ففروعه مع تشعبها وأصوله مع اجتماعها لا يمكن أن تتعارض، هي متفقة وإن بدت مختلفة، لكنها في دلالتها تتابين في نفس المتكلم وفي نفس السامع.

فالشافعي جمع شتات هذه القاعدة أولًا.

ثانيا: جعله مرتبًا، على مطية الاجتماع والاتفاق والاختلاف.

ثالثًا: أبان عن هذه القاعدة التي كانت حاضرة في ذهنه والتي رتب مسائلها عد جمعهم.

فالعالم العظيم هو الذي يجمع هذه المراتب الثلاث، أما الذي لا يستطيع أن يبين عما في نفسه في قواعد العلوم، وقد تكون موجودة فيه وتدور في نفسه؛ لكن لا يستطيع أن يبين عنها، هذا عالم عظيم ولكنه لا يبلغ مرتبة هؤلاء.

وإمامنا الشاطبي من هذا الصنف من العلماء، من العظماء، وهو هنا يذكر سمات وشروط صلب العلم والكليات، وأولها: العموم والاطراد، أي أنها لا تتخلف أبدًا، لا بأفرادها ولا بتركيبها، فقال: "إلَّا والشريعة عليه حاكمة إفرادًا وتركيبًا"، بمعنى أن هذه العمومات وهذه القواعد، وصلب العلم الذي نتحدث عنه، هذا عام مطرد في كل أحكام الشريعة، وثانيًا في كل المكلفين.

فعامة: بمعنى أنه لا توجد مسألة واحدة تناقض هذا الأصل الذي هو اهتمام الشريعة بالضروريات، لا يستطيع أحد أن يأتي ولو بمسألة واحدة مناقضة لهذا.

ومطردة: أي لا تتخلف، تسري على كل الأحكام، وهو لم يأت لم يأت لذكر سريانها على كل الأفراد، ولكننا نقول أنها تسري على كل الأفراد.

الآن؛ الشيخ سيأتي إلى أمثلة سماها علماؤنا: "على خلاف القياس"، وهذا فن عظيم تكلم فيه العلماء الكبار، وشرحه ابن القيم في (إعلام الموقعين)، بل إن كتاب (إعلام الموقعين) في آخرين جزأين فيه لا يخوض إلا في هذه الباب.

والقياس هو اعتبار العلة، والعلل والمقاصد هي حاكمة في الشريعة، فكيف نقول عن أمر ما أنه على خلاف المقصد؟

هذه المسألة خلافية بين الجمهور والأحناف:

فعند الأحناف: هذه المسائل جاءت على خلاف الأصل، وعلى خلاف المقصد الأول لوجود وظهور مقصد أعظم منه.

وأما الجمهور: فيقولون: لا، هذه مطردة في الأصل، وهي تجري مجرى المقصد في الابتداء.

وسنبين هذا بالأمثلة فيما بعد.

يقول: "إحداها: العموم والاطراد؛ فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق"

فالمسائل الضرورية عامة ومطردة في أفرادها، وكذلك هي جارية على عموم المكلفين.

يقول: "وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى"

وأنا سأقف هنا وقفة تتعلق بمسألتين:

- هل هناك ما يسمى بحادثة عين؟  

والصواب أنه لا يوجد في الشريعة حادثة عين، هذه يقولها الفقيه عندما يعجز عن وضع حادثة خاصة ضمن العموم، لأن القواعد تقول بشيء، وهذه خرجت عن القواعد، فهو يقول أنها حادثة عين ويستريح.

- وهل تنقيح المناط من مسالك العلة، أم هو خارج عن نطاق القياس؟  

تنقيح المناط يعني تنقيح العلة، فالمناط هو المعلَّق، الذي يعلق به، فالمناط هو الذي يعلق به الحكم.

ونحن الآن سنتجنب ذكر المناط ب"العلة" وذلك كي لا ندخل في خصومة مع الظاهرية، وكما أن الشيخ الشاطبي أراد أن يوفق بين أبي حنيفة وابن القاسم، فنحن نحاول أن نوفق بين الجمهور والظاهرية، والشيخ يأتي على ذكرهم، لكن لا يعرج عليهم كثيرًا.

إذن: هل تنقيح المناط من مسالك العلة؟

نقول بأنه ليس منها على الصحيح، بل هو عمل الفقيه بلا استثناء، سواء كان يقول بالعلة أو لا يقول بها، سواء كان ظاهريا أم من الجمهور، فتنقيح المناط إنما هو البحث عن سبب وجود الحكم وعما علّق به، وهو عمل الفقيه، وما يأتي بعد ذلك هو عمل قياسي.

مثال ذلك:

النبي ﷺ نهى عن الشرب قائمًا فقال: (لا يشربن أحدكم قائمًا، فمن نسي فليستقئ)، على خلاف بين أهل العلم في هذا النهي: هل هو للتحريم أم للكراهة -وهذا ليس مبحثنا-.

ثم رأيناه يشرب قائمًا عند زمزم كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-:"سقيْتُ رسول الله ﷺ من زمزم فشرِبَ وهو قائمٌ".

فالآن نريد أن ننقح ونغربل المناط، وأن نبحث عما عُلِّق به الحكم، فالأصل هنا هو منع الشرب قائمًا، إذًا نريد أن نبحث عن المناط الذي من أجله شَرب رسول الله قائمًا.

- فواحد يأتي يقول: إنما هو لعلة خاصة في زمزم، فعند هذا؛ الشارب من زمزم يشرب قائمًا سواءً كان شربه على الحالة التي كان عليها رسول الله أم على غيرها، فهو علق الحكم على كون الماء ماء زمزم.

- الثاني يقول: إنما شرب واقفًا لتدافع الناس وقت الزحام، فلو جلس كل واحد لكان في ذلك مشقة وعنت، فعلقه الحكم على أمر آخر.

- وثالث يقول: إنما هو مطلق الشرب وليس خاصًّا بزمزم أو بحالة، بل هو لصرف النهي عن الشرب قائمًا من التحريم إلى  الكراهة.

فما فعله هؤلاء هو ما يسمى بتنقيح المناط، وهذا لا يدخل في مسالك العلة، لا يدخل في مسائل القياس، بل الصحيح -لأن هذا على خلاف بين الأصوليين- أن القياس أمر زائد عنه، والقياس يأتي فيما يترتب على هذا التنقيح، وفيها يُبنى عليه، فننظر هل توجد علة مطردة أم لا توجد، وفي مثالنا زمزم ليست علة مطردة، وتعليق الحكم على زمزم هو من باب "تعليق الحكم على اللقب"... إلخ.

فهذه نقطة مهمة أتينا على ذكرها لتعلقها بعمل الفقيه وعمل المجتهد في النوازل، فكما سبق ذكره؛ المجتهد في النوازل ينظر إلى أمرين وله عملان:

- فهو ينظر في الواقع بمعرفة مرتبته من الفساد والصحة.

- وكذلك يبحث عن النص الملائم له، وهل الحادثة داخلة في النص دخولًا كليًّا أم جزئيًا. فهل هذا العمل هو إعمالٌ للدليل البياني أم هو إعمالٌ للقياس؟

وليتضح المقال نعود للمثال الذي أعطيناه عند ذكرنا لهذه المسألة سابقًا:

أي عمل فساد يدخل في الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًافهل يدخل فيها من جهة البيان، أم من جهة القياس؟ هل كلمة "فساد" كلمةٌ بيانية يدخل فيها أمور كثيرة، أم هي علة ندخلها في الحكم؟

هذه مسألة يجب أن تفهمها، لتعرف كيف يستدل ابن حزم وكيف يستدل الآخرون:

- فابن حزم يُدخلها بمسمى الدليل، ويقول أن الحكم داخل في البيان دخولًا جزئيًّا، ولا يلتفت إلى القياس لأنه لا ينظر إلى العلة.

- وهناك من يرى أن هذا علة يجب إعمالها.  

ونحن ذكرنا هذا في إطار قول الشيخ الشاطبي: "وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى"

فالحوادث غير متناهية، والنصوص؛ هل هي متناهية؟

هل هناك عمل في الوجود لا يدخل في النص من جهة البيان؟

 - فابن حزم يقول -وهو الذي مال إليه ابن القيم في (إعلام الموقعين)-: ما من عمل في الوجود إلا وهو داخل في بيان الشرع، فنستطيع أن ندخل أي أمر من الوجود في البيان بحسب ما تقدم من مراتب.

- الآخرون قالوا: لا، بل نضطر إلى القياس، فالأصل أن الأعمال غير متناهية والنصوص متناهية، لكنها أرشدتنا إلى العلل التي نُلحق بها هذه الحوادث غير المتناهية إلى هذا النص.

فالآن الكلام واضح، ونحن ذهبنا إلى أبعد مدى يمكن أن تفسر به النصوص، وكان يمكن أن نمر عليها بقليل من الأمثلة وقليل من البيان وننتهي، ولكن أردت أن أذهب بكم إلى المصالحة بين العلماء، ولا يمكن أن تذهب إلى المصالحة حتى تفهم كل واحد ماذا يقول، وتذهب إلى قوله.

قال الشيخ: "فلا عمل يفرد، ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادًا وتركيبًا"

كلمة "إفرادًا وتركيبًا" يعني إما أن يكون بفعل واحد أو فعل جماعة، وإما أن يكون الفعل داخلًا في كلي أو داخلًا في فرعي.

يقول: "وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما":

وهذه مسألة مهمة سبق ذكرها: هذا الخصوص الذي رأيناه خارجًا من العموم في الأمثلة التي يذكرها الشيخ، هل هو على قاعدة أنه جاءت مصلحة أعظم، فلغت المصلحة الأولى الموجودة في العام، أم أنه هو بنفسه جارٍ على مجرى العموم؟

هناك مسلكان لأهل العلم كما ذكرنا، وكلاهما يقول بالعرايا وبالمسائل الأخرى، فالفرق بينهما أن:

- الأحناف قالوا: هو قياس على خلاف الأصل، وهذا الخصوص أخرجناه من جريان العموم لظهور فائدة أخرى جرت عليه، وقول الأحناف هذا هو الذي يقرب إليكم "الاستحسان" فيما سيأتي.

- والجمهور يقول: لا، هو ضمن برنامج القياس العام، هو خصوص جارٍ مجرى العموم ولا يتخلف عن قواعده.

 قال الشيخ: "وإن فُرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما؛ فهو راجع إلى عموم":

فالشيخ الشاطبي على مسلك الجمهور.

"كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض، والمساقاة، والصاع في المصراة، وأشباه ذلك؛ فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها، وهي أمور عامة".

وهذه الأمثلة التي ضربها الشيخ هي التي تفسر جملة الكلام الذي نحن فيه.

 

 

الأسئلة

 

- يا شيخ، ذكرتم أن الأصوليين اختلفوا في تنقيح المناط، هل يدخل في مسالك العلة أم لا.

هناك خلاف بين الأصوليين في دخول تنقيح المناط في مسالك العلة، ومسالك العلة تعني القياس:

- فقال بعض الأصوليون أن تنقيح المناط خارج مسالك العلة، مثل البيضاوي في (منهاج الوصول إلى علم الأصول)، وهو الصحيح.

- وبعضهم جعل تنقيح المناط من مسالك العلة، ومنهم الشوكاني، والغزالي في (المستصفى).

ومعرفة هذا الكلام مهمة في فهمنا لاختلاف العلماء.

 

- بالنسبة لكون العلم مُلجِئًا للعمل، لماذا إبليس لم يُلجئه علمه للعمل؟  

لا شك أن إبليس عالم، بل هو أعلم العلماء، ومع ذلك العلم لم يقده ولم يلجئه إلى العمل، وسبب هذا هو غلبة الهوى والكبر والغرور عليه، فاستعلى مفهوم النفس على مفهوم العلم في صراع العلم مع الهوى.

 

- ذكرتم أن الزنديق ينصر الشريعة ظاهرًا ويبطلها في باطنه، ما الفرق بينه وبين المنافق؟

قال مالك -رحمه الله-: "منافق الأمس زنديق اليوم"، المنافق في زمن الصحابة هو الزنديق في زمن مالك، ولذلك صار العلماء يطلقون كلمة الزنديق وهي كلمة فارسية، معناها: "من لا يؤمن بالآخرة"، فدخلت هذه الكلمة عالم المسلمين وصارت تُطلق على المنافق، وخاصة الذين يبطلون الشريعة. فالزنادقة هم الذين لا يدينون للإسلام لا يعملون به ويبطلون الشريعة، فالمنافق هو الزنديق في كلام فقهائنا، ويستعملون كلمة "الزنديق" لأنه صارت له أحكام عملية.

 

 

- ذكرتم أن القرآن فرق بين "القوم" و"النساء"، وفي آية: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}، دخل في القوم الرجال والنساء.

الجواب: القوم هم الذين يقوم بهم الرجل، ولمّا كانت النساء لسن كذلك، فرق الله بينهم في قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}.

لكن لمّا قال الله -عز وجل-: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}؛ لماذا دخل فيها الرجال والنساء؟

هذه مسألة من المسائل المهمة جدًا في التعامل مع اللغة، وتحتاج إلى بيان، وسبق أن قلت لكم أن الاجتهاد يبدأ بفهم النص ومراتب بيانه.

أولاً، لننتبه لهذه القاعدة: "الألفاظ إما أن تُحمل على معانيها الخاصة بها، وإما أن تُحمل على معانيها الخاصة بها والمجاورة لها".

نضرب مثالًا ليتضح المقال:

في قوله ﷺ : (الجار أحق بسقبه)، أي شفعته. الجار من الجوار، الجار يلاصقه؛ ولذلك يقال "جارَ فلانٌ"، أي "ظلمَ"، الْتصق به حتى غلبه، واضح؟ "جار عليه" يعني: التصق به حتى ألجأه، فالجار من "الجوْر"، وهو الظلم.

فجار بيتي هو الملتصق بي. فهل جار بيتي الذي بيني وبينه حد بيِّن وليس ملتصقًا بي، هل هذا لا شفعة له؟

قال ﷺ : (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة).

الآن؛ حديث -إن صح-: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، هل هذا في مطلق الجار؟

الجواب: لا، لم يُرد به الجار في إطلاقها العام، "الجار" هنا المقصود به "الشريك"، ولمَّا كان الشريك فيه معنى الجوار،  استخدم اللفظ له، بل يقول الرجل عن زوجته "جارة": "أيا جارة بيني فإني مفارقك"، أي تطلقي.

وهذا كلام الشافعي في (الأم).

إذن: كيف يستخدم العرب الألفاظ؟

يستخدمونها إما لدلالتها الكلية، وإما يستخدمونها لمعنى جزئي فيها يكون مشاركًا للكلمة الأصلية، مثل كلمة جوار وشريك، الأصل أن يقول: "الشريك أحق بسقبه"، لكن لما كان الشريك يشابه الجار في معنى ألفاظه جاز استخدامها، وهذا من طرق العرب في الكلام.

 الآن؛ لو أراد رجل أن يأتي إلى كلمة "قوم"، معناها المحدد لها هو الذي لا تدخل فيه النساء.

طيب هل يمكن أن ندخل النساء في معنى "قوم"؟  

الجواب: نعم، يمكن؛ لأنهن في هذا الباب يدخلن دخولًا جزئيًا، فجاز إطلاق "قوم" على النساء.

وهذا كله في لغة العرب وطرائقهم، وهو مقصود العلماء لمّا يقولون عن ألفاظ: "إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا"، لأن كل واحد يدل على معنى خاص به، ولكن إذا افترقا اجتمعا.

فلو جاءت كلمة "الإيمان" مطلقة دون ذكر "العمل"، كما جاءت كلمة "قوم" دون ذكر "النساء"، هل يكون العمل داخلًا في الإيمان؟ الجواب: نعم، كما أن النساء يكنَّ داخلات في القوم؛ فلما ذُكرت متفرقة، يكون الإيمان على خلاف العمل، والقوم على خلاف النساء، ذلك أن الواو بإجماع أهل اللغة تفيد التغاير.

 

- شيخنا، لماذا لم يخرج الإمام أحمد على الخليفة المعتزلي؟

الجواب: هذه مسألة طويلة وتحتاج إلى شرح، والصواب أنه ليس كل معتزلي كافر كفرًا عينيًا، هذا باختصار.

 

- كيف يقاتل البغاة، والنبي ﷺ يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)؟

الجواب: الحديث ذكر ثلاث أمور، والنبي ﷺ قاتل لغير ذلك، فدل على أن العدد على الصحيح ليس له مفهوم، بمعنى أنه أصوليًا لا يجوز أن نقول بأنه لا يجوز أن يقتل المسلم فوق هذه الثلاث.

وأنا أختار لكم الطريقة الأصولية لتتعلموا كيفية دراستها، وإلا فهناك أجوبة كثيرة غيرها.  

 والحمد لله رب العالمين، وجزاكم الله خيرًا