JustPaste.it

i_f4f1e277a41.gif

 

مُؤسَّسَة التَّحَايَا
قِسْمُ التَّفْرِيغِ وَالنَّشْرِ


تفريغ

الدرس الثاني والعشرون
من شرح الشيخ عمر محمود أبو قتادة
لكتاب (الموافقات) للإمام الشاطبي -رحمه الله-

/files/justpaste/d229/a9308507/1434221145391.jpg

 

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيدهم وإمامهم حبيبنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم، ما زلنا أيها الإخوة الأحبة مع المقدمة الثامنة، وهي في بيان مراتب أهل العلم مع العلم، وتقدم كلام طيب كثير، وقفنا عنده، وعلى الإخوة الصبر على هذه القراءة الجديدة في الكتب، ووقوفنا على كثير من ألفاظ الشيخ، ومعاني كلامه، مع أن هذا الكتاب ليس متنًا يوقف عند كل لفظ فيه، ولكن لما توسع مطلب هذه الجلسات بأنْ تكون قراءةً لكتب السلف، وكذلك تنمية للعقل في النظر والبحث، توسعنا على وفق هذا المطلب.

"والأدلة أكثر من إحصائها هنا، وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو المُلجئ إلى العمل به.

فإن قيل: هذا غير ظاهر من وجهين:

أحدهما: أن الرسوخ في العلم؛ إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة، أو لا.

فإن لم يكن كذلك؛ فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم، ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به، ولا ملجئ إليه.

وإن كان محفوظا به من المخالفة؛ لزم ألا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه، لكن العلماء تقع منهم المعاصي، ما عدا الأنبياء -عليهم السلام- ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14].

وقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146].

وقال: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك} [المائدة: 43].

وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}.

ثم قال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102].

وسائر ما في هذا المعنى؛ فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم، فلو كان العلم صادا عن ذلك؛ لم يقع"،

بعد أن بيَّن الشيخ -رحمه الله- مراتب العلماء مع العلم فيما تقدم -ولا نريد أن نعود إليها-، وجاء إلى المرتبة الثالثة، والتي تشير إلى كون العلم أصبح صفة نفس لهؤلاء، الآن جاء إلى المعترضين، ونحن قلنا بأن الأدلة تقسم إلى ثلاثة أقسام: دليل استشهاد، دليل اعتضاد، ودليل رد الاعتراض، فهو الآن يأتي إلى الاعتراض، ويعرج عليه، ويكِر عليه ليُزيله.

ولتَعْلموا كيف يُصنف المرء كتابه، نُبَيّن مسألة: كيف يُنشئ العالم هذه الاعتراضات في كلامه ليكر عليها بالإزالة والرد؟

 الجواب:

- إما أن يكون العالِم قد عرض كتابه على إخوانه ومشايخه، فنبهوه إلى نقط يوجد ما يرد عليها، فبيَّنه، أي أن يعرض كتابه، فيقول له أخ من العلماء: هذه تحتاج إلى إبانة، فقد يعترض عليك الناس بقولهم كذا وكذا، فيأتي بها.

- وقد يكون قد بَحث هذه المسألة في حياته مع إخوانه العلماء فصار مسارًا، ونبه عليه، أي: قد يكون هو باحثَ هذه المسألة في حياته وحواراته مع العلماء فأنشأ هذا الرد،

وهذا شيء معروف ومفهوم، لكنني آتي إلى النقطة الثالثة مِن كيفية كتابة العلماء ردود الخصوم خلال مباحثهم العلمية، وهي أنَّ:  

- الكتابة اكتشاف، هذه يجب أن تعلموها، بعض الناس يظن -وما نريد أن نُشكِل، كل مبحث يحتاج إلى تطويل، ولكن نحن نأتي ونضع صورًا وعلامات فقط، للتنبيه-، بعض الناس يظن أن الكاتب تكون المسألة واضحة في ذهنه فيكتبها، هذا في الحقيقة قلَّما يوجد، قلَّما يوجد أن رجلًا تكون المسألة في ذهنه واضحة في كل أبعادها، وأطرافها، وهوامشها، ومتعلقاتها، ويذهب إليها ليكتبها، فيخرجها من ذهنه ويضعها على الورق. الحقيقة أنَّ هذه الصورة قلَّما توجد، ولكن الصواب أن الكثير من الكتابة اكتشاف، فكما أن القارئ يكتشف الجديد وهو يقرأ، ويلاحق ما يقوله الكاتب، كذلك الكاتب يكتشف -وهو يكتب- من العلوم ما لم يكن يعلمه من قبل.

من أين أتينا بهذا؟ جاء مِن قاعدة أن "العلم ينمو بالعطاء"، لا أريد أن أقول: "بالتجربة"، مع أن التجربة شاهدةٌ عليّ لو تحدثتُ عن نفسي، ولكن مصدر هذا القول، هو قول علمائنا: العلم ينمو بالعطاء، كل شيء يقِلّ بالعطاء إلا العلم، ولا أعلم أحدًا في تاريخنا جلسَ ليتكلم ولمْ يظهر له هو في كلامه شيء جديد له، لا يوجد.

وعلماؤنا يتحدثون عن هذا، نجد في كلامهم أنهم يذكرون كيف أن المسألة الفلانية لم تخطر في بال أحدهم، وكيف تكلم بها، وكيف فتح الله عليه عندما كتبها وهي لم تكن في ذهنه من قبل؛ فالكتابة اكتشاف لأنها عطاء، ولمّا كان العلم ينمو بالعطاء، وكذلك الكتابة تعطي، فالعلم ينمو بالكتابة، يعني أنه ينمو بالاكتشاف -يكتشف نفسه-. كما أن القراءة اكتشاف فكذلك الكتابة، إنْ أخلص المرء فيها يكتشف، وهو يمشي يحس أن هذه المسألة يمكن أن يعترض عليها معترض، وهكذا، وكلما نما عقل المرء، عَلِم وجهة نظر مخالفه.

هذا ينشأ بِأنْ تكون تكتب، وحاضرٌ في ذهنك لو أنك تقرأ أنت هذا الكلام، كيف تعترض عليه، وماذا يمكن أن ينشأ في نفس القارئ من الاعتراض.  فالعالِم حين ينظر إلى كلامه، ينظر إليه كأنه كلام أحد آخر، كأنه كلام غريب، وبهذا تنشأ هذه الصورة، تنشأ هذه المعاني فيرد عليها ويكتشفها، والكتابة تسوق صاحبها، فليس الكاتب هو الذي يسوق الكتابة، لكن الكتابة هي التي تسوقه، تقول له: لا بد أن تمشي هنا، هنا ضرورة، فترغمه على المشي.

وهنا تأتي مسألة: بعد أن تمارِس القراءة ممارسةً حقيقية، وتصبح القراءة لك مَلَكة أولًا، ثم تصبح الكتابة لك ملكة، حينئذ تُصبح كتابة الآخر كأنها كتابةٌ لك، تعرف أين هرب وأين دخل، أين أخلص وأين خرج، هل فهمنا هذه؟ يعني أنا الآن حين أكتب، فالهداية تقول لي: هنا مسألة لا بد أن تذكرها، لا بد أن تعرج عليها لأنها مهمة، ولكن هو يعرف أنه لا يستطيع ركوب هذه المهمة العظيمة، فينحرف، يهرب منها، لا يأتي إليها.

فأنت حين تقرأ، وكأنك تكتب، ولما تكتب يقول لك عقلك وهدايتك وطريقة إنشاء الكتابة: لا بد أن تدخل هذا المزلق، لا بد أن تعاني هذه المسألة، فهو لما يقول: كيف سأكتبها؟ يحاول فيعجز، أو ذهنه يقول: هذه لا إجابة عليها، فيهرب منها، فأنت حينئذ تدرك كيف هرب المتكلم، وكأنك تجلس مع نفسه لا مع حرفه فقط، وهذا مهم جدًا.

وهذه المرتبة، متى تنشأ لديك؟ تنشأ لديك مع القراءة الطويلة ومع الكتابة كذلك، لا يدركها من هو قارئ فقط، بل يدركها الذي يعالج الكتابة، يفهم ما الذي حدث في نفس هذا الكاتب ليقول هذه الكلمة، فكأنك تسيطر، أو تكتشف، أو كأنك تراقب حركة هذا الكاتب، فيصبح مكشوفًا لك، وحينئذ أنت تتخلل هذه الكتابة، تتخلل معانيها، وتستطيع أن تدرك ماذا يريد، وكيف قال هذه الكلمة، إلى آخر مَهمات هذه المسألة، فانتبهوا إليها لأنها مهمة.

وأنا أعود إلى القاعدة الأولى التي قلت، وهي أن الكتابة اكتشاف، الكتابة ليست إبانةً فقط، هي إبانة واكتشاف،

قد يقول قائل: هل يذهب الكاتب ليكتب ما لا يعلم؟ الجواب: لا، لا يوجد، هو يريد مسألة تكون في مهماتها واضحة في ذهنه، لكن حين يكتب، المسألة تسوقه؛ فأكثر مِن كاتب اعترف أنه في بداية الكلام أراد شيئًا، ثم خرج منه بعد ذلك، وسيطرَت عليه مسألة أخرى فتكلم فيها، إلى آخر ذلك من المهمات؛ وهذا على قاعدة أن العلم ينمو بالعطاء، والكتابة عطاء، فالعلم ينمو بها.

والعالم حين يطرح الاعتراض بصيغة: "فإن قيل"، يعني أنه نشأ لديه هو، فقول الشاطبي: "فإن قيل"، دل على أنه وهو يكتب، جاءه العقل يقول له: "قد يعترض معترض"، وليس على الحالة الأولى ولا الثانية -التي نشأت الاعتراضات فيها من عالم آخر أو من بحثه مع علماء-، وإلا لكانت عبارة إيراد الاعتراض: "وقيل هكذا"، أو "وقيل"، أو "لرد هذه كذا"، لكن استعمال عبارة: "فإن قيل"، دل على أنه نشأ في نفسه، وهذا بيّن وواضح.

طبعًا هو لم يرُدّ، فبيِّنٌ أن هناك من يعلم ويعصى، وهو الآن يتكلم عن العلم المُلجِئ، العلم الذي أصبح صفة نفس، ويكفي هذا، ونأتي إلى الثاني لأنه سيرد عليه.

"والثاني: ما جاء من ذم العلماء السوء، وهو كثير، ومن أشد ما فيه قوله -عليه السلام-: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه".

وفي القرآن: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} [البقرة: 44].

وقال: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية [البقرة: 159].

وقال: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا} الآية [البقرة: 174].

وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، والأدلة فيه كثيرة، وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلمهم، ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب؛ فكيف يقال: إن العلم مانع من العصيان؟"

الاعتراضات واضحة، متقاربة بين الأول والثاني، ولا ضرورة لنقف عندها، فهي بينة إن شاء الله تعالى.

"فالجواب عن الأول: أن الرسوخ في العلم يأبى أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا، فإن تخلف؛ فعلى أحد ثلاثة أوجه"،

انتبهوا لهذه الكلمة أولًا: "لأن ما صار كالوصف الثابت"

معنى الثبوت: الرسوخ. صار العلم صفة نفس، ثابتًا، راسخًا.

قال: "لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه -أي على وفق العلم- اعتيادًا"

الناس حين يتصرفون على هذا المعنى الذي تقدم -أنه صار صفة نفس-، كيف يتصرفون؟

هو يقوم ويصلي، كما أنه يقوم ويلبس ثيابه، ويغسل وجهه، ويذهب إلى العمل، ويركب، ولو سألته: ماذا فعلت اليوم؟ لماذا تفعل هكذا؟ وكأنه يجري فيها على مجرى لا يفكر فيه.

أسألكم: لمّا واحد يسوق السيارة، لما يتحرك ويغير بدَّال السرعة، أو يضغط على ضغطة البنزين، هل هو يحتاج إلى أن يقول: "أريد أن أفعل كذا"؟ أم هو يتصرف بتلقائية؟ تصبح الحركة ملكة نفس، صفة، وهكذا هو العلم، يتحرك على أساسه،

فهو قال: "إلا على وفقه اعتيادًا"، يصبح العلم يتحرك فيه كأنه على هذه الحالة التي ذكرنا، يعتاده.

"الأول: مجرد العناد، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي؛ فغيره أولى"

الشيخ الآن يقول: هل هناك من البشر من يخالف الطبع الجبلي؟  

في الحقيقة، أرجو أن تقرؤوا ما قاله الشيخ عبد القادر الجرجاني في (أساس البلاغة) عما هو وفق الفطرة، وعن الطبع الجبلي، مِن أنَّ الناس إمّا أن يجْروا على وفق الفطرة والطبع الجبلي، وإمّا أن يخالفوها، هو يعتمد على هذا، وله كلام رائع فيه.

الآن، هل هناك أحد يخالف ما جُبل عليه في طبعه؟ الجواب: نعم، موجود.

مثلا: طبْع الناس الجِبِلي الذي فُطِروا ونَشؤوا عليه هو أن يلبسوا لباسًا معينًا، فتجد رجلا يُخالف هذا، ويلبس لباسًا مغايرًا، وهذا خلاف طبعه الجبلي، وخلاف ما استقرت عليه نفسه من الاعتياد، فهو يقفز من الشارع الذي يجري فيه اعتيادًا، ولكنه يذهب بإرادة طارئة.

فإمّا أن تمشي على وفق الاعتياد، وحالَ المخالفة، تمشي على وفق الإرادة الطارئة، بدافع الهوى.

وهنا نضع فقط عنوانًا، وننبه على مسألة مهمة، تقرؤونها في كتاب الله، وتبحثون عنها، وتفسرونها؛ لأن القرآن قد استقصاها استقصاءً كاملًا، وهي: "موانع اتباع الحق بعد معرفته"، فهناك موانع لاتباع الحق، والقرآن يتحدث عنها:

القرآن يتحدث عن الهوى.

يتحدث عن اتباع الآباء.

يتحدث عن: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}.

يتحدث عن قضية: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}.

يتحدث عن دعواهم أنهم أتوا ليحكموهم.

يتحدث عن مانع القانون الاجتماعي، قانون المال في عصرهم: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ}، وهكذا، هذا أمر مليء به القرآن.

كذلك السفاهة، يتحدث القرآن عن السفاهة، وكلمة "السفه" في القرآن عجيبة، وهي تحتاج إلى وقوف مطول منك: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، مجرد سفه، وهو موجود في الخلق، فهذه مهمة جدًّا، وعليك أن ترجع إليها.

فالهوى، مع أن القرآن يُكثر من ذكره، إلا أنه لا يُحتَج به يوم القيامة، لا يوجد أحد يوم القيامة يُسأل: لماذا عصيت، فيقول: "اتبعت هواي"، لا أحد يقول هذا!

وهذه نقطة مهمة في قضية موانع اتباع الحق، والقرآن مليء بها: ما الذي يعتذر به الكافر من عدم اتباع الحق بعد معرفته؟ ما الذي يعتذر به المبتدع؟ -وهذه نقطة أخرى تابعة لها، وهي مهمة، ويجب أن تُبحث-.

فليس كل مانع ينفع به الاعتذار، لا يصلح أن يقول أحد: "والله، اتبعت الهوى"، فأعظم ما يعتذر به الكافرون يوم القيامة على عدم اتباع الحق هو اتباع الكبراء، وهذه ليت المشايخ يجلسون ويعلمونها؛ لأنها حجة كل مبطِل، وكل فاسد، وكل ضال، وكل مبتدع: {... يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وهذه نظرية المؤامرة، وهي موجودة في القرآن: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.

القصد؛ هذه المسألة عليكم أن تفرعوها من العنوان الأول: "ما الذي يمكن أن يعتذر منه الكافر؟"، وجوابها في القرآن.

"فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي؛ فغيره أولى، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا} الآية [النمل: 14]، وقوله تعالى] 2: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}"

أصل المعاصي -كما يقول مالك-: الكبر والحسد، فأول معصية للشيطان هي: الكبر والهوى، وأما أول معصية نشأت في الوجود من بني البشر فالحسد، حسد الآخرين:{حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}.

وانتبهوا إلى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}، نحن لسنا في درس تفسير، وإلا فهذه تحتاج في الحقيقة إلى وقفة جليلة عظيمة: لم يقف سبحانه عند "حسدا" وانتهى، إضافة "{مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}" تحتاج إلى وقفة عظيمة، وسنأتي إليها، فكروا فيها وارجعوا إلى كلام أهل العلم فيها، ولا أذكر هل عرج عليها الزمخشري أم لا، وفي مثل هذه اللفتات ارجعوا إلى الزمخشري، وارجعوا إلى ابن عطية.

"{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]} [البقرة: 109] وأشباه ذلك، والغالب على هذا الوجه ألا يقع إلا لغلبة هوى"

إذن هناك صراع بين العلم وبين الهوى، صراع إرادات مثل ما قلنا.

"والغالب على هذا الوجه ألا يقع إلا لغلبة هوى من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.

والثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؛ فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} 4 الآية [النساء: 17]"

إذن الأولى هي صفة المعاندين، وهؤلاء هم الأشبه بالشياطين، الصورة الأولى من المعاندين أشبه بإبليس، لأنه عاند، فإذا سُئل المعاند: لماذا فعلت هذا؟ يقول: أنا لا أريد أن أتبعك، مثل ما قال الشيطان، وجعل يفسر معصيته.

وهذه إن شاء الله إذا جلسنا جلسة تفسيرٍ نفسرها ونُبينها، فهي مهمة جدًا: ما الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس؟ كلاهما عصى، ووقع تفريق بين المعصية التي يُؤدَّى بها إلى جهنم، والمعصية التي توصِل صاحبها إلى أرقى الدرجات؛ لأن أساس خلقك أيها الإنسان، من أجل أن تعصي وتستغفر.

وهذه نقطة هي من أجَلِّ ما تعرف في هذا الوجود، وهو أن الله خلق الإنسان ليعصي ويستغفر.  لماذا خلقه ليعصي ويستغفر؟ لأن الملائكة يقومون بالطاعة من غير معصية، فلا تتجلى في الوجود صفاتٌ للرب يُحب ربنا أن يعرفها خلقه، بمعنى أن الملائكة يطيعون الله ولا يعصونه، فلا تتجلى بأفعالهم هذه إلا صفات الرب العظيمة، من القدوسية، من الكبرياء، من العزة، من الجلال، لكن لا يتجلى بهذا الفعل الملائكي صفة لله اسمها "الغفور"، ولا "الرحيم"؛ فأظهر الله وجودك أيها الإنسان، مِن أجْل أن يُظهر صفته "الغفور"، فقط؛ ولذلك  جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)،  فإذَا لا تذنبون لا يريدكم سبحانه.

ولذلك الملائكة لم يفهموا هذا: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، فقال سبحانه: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

وحين تحدث التوبة، يفرح لها الرب فرحًا لم يوجد له مثيل في كل المُثل المضروبة في كتاب الله وسنة رسول الله، وهو أن يصف الرب فرحه كفرح الرجل الذي ضلت دابته، فأيقن بالهلكة، ثم قام فوجدها، فقال من شدة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، أخطأ من شدة الفرح! هذا فرح يغمر النفس حتى يغطي عليها، ويحبس عليها منافذ الإدراك، ومنافذ النظر، فتقول: "اللهم إنك عبدي وأنا ربك"، أخطأ من شدة الفرح. فالله ضرب مثلاً لفرحه بفرح هذا العبد، وهذا أمر لا يمكن إدراكه قط!! ولذلك الله خلقك لهذا، وهو أعظم الفرح، هو فرح يطغى على النفس.

فالرب يفرح عندما تصلي، وهو فرح عظيم، يُقبل عليك بوجهه، وعندما تحج يقبل عليك بوجهه، وعندما تتصدق يُقبل عليك؛ ولكن لا يصل هذا الفرح الإلهي إلى درجة فرحه عندما يتوب المرء ويستغفر، هذا فرح يطغى. ومع أننا نعلم أن الرب لا يُخطئ، فلا يكون المَثل تامًا، لكننا نعلم أن النتيجة واحدة، وهي أن تنقلب نفس الرب من غضب عظيم على العاصي، إلى حب عظيم له، حتى أنه يبدل سيئاته حسنات! ولذلك أنت خلقك الله لهذا. فانتبه لهذا المعنى، أنت خُلقت لهذا، حتى يفرح الله، وتحصل صفة "الغفور"، فالله يفرح أن يحصل هذا المعنى؛ وهو لا يحصل إلا فيك، لا في الدابة، ولا في الملائكة، ولا في العرش، ولا في أي أحد، فقط فيك أيها الإنسان.

فالفرق يا جماعة -وهو بيِّن-، أن الصفة الأولى (العناد) لا يُرجع منها، فهي صفة إبليس، وهي إحدى الفوارق بين معصية إبليس ومعصية آدم؛ فنتيجة معصية آدم هي أنه استغفر ربه وأناب؛ ولذلك إذا كان مَبعث المعصية هو الهوى فقط، فالأمر محتمَل، وإذا كان مبعث المعصية هو العناد، فالأمر غير محتمَل، والمقصود بالمحتمل هو التوبة: إذا كان معاندا فأمر توبته غير محتمَل، أما إذا كان بسبب الهوى، فالهوى يعالَج.

ولا نريد أن نطيل أكثر في هذا لأنه خارج عن الكتاب، ولكنه مهم.

قال: "الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر"

وهذه نقطة تابعة لما بيَّنا، وكان ينبغي أن نبينها قبل أن نقف هذه الوقفة حتى لو كانت يسيرة: اعلم أن العبد من أجل إظهار قدوسية الرب، لا بد أن يخطئ. وهذه النقطة من باب آخر غير الباب الأول:

- الباب الأول: هو أن الله خلقك ليتجلى وليظهر أنه غفور، مِن عالم الوجود النفسي إلى عالم الفعل. هذا معنى التجلي.

- المسألة الثانية أن خطأك هو إظهارٌ لقدوسية الرب.

وخذوا مني هذه القاعدة: الله -عز وجل- عظيم، يأبى أن يشاركه أحد في صفة من صفاته على صفة الكمال والتمام التي هي فيه،  حتى لو كانت حسنة، وهذا من قدوسيه الرب وعزته. يعني: الله غفور رحيم، فهل في العباد "غفور رحيم"؟ الجواب: نعم، فالله -عز وجل- يأبى أن يشاركه أحد في تمام هذا الاسم المحبوب عنده وكماله، فلا بد أن يقع، ولما كان العبد صالحًا -أي بعيدًا عن الدنس-، فلئلا يصل إلى درجة القدوسية التي لا يخطئ فيها، لا بد أن يُخطئ. وهذا مأخوذ كذلك من منازعة الرب لمن علا ولو كان صالحًا: لو كان هناك صالح وارتفع مثل سليمان -عليه السلام-، كيف أمات الله هذا النبي؟ أماته على الجهة التي تعلمونها؛ لأن الله يأبى أن ينازَع في كمال صفاته وتمامها.

وهذا عليكم أن تعلموه، هذا من نفس الرب، والله يفرح أن نبلغكم وأن نعلمكم صفاته، الله يفرح أن نتعلم من هو؛ لأننا إن علمنا من هو؛ علمنا شرعه الحكيم، وعلمنا خبره الصادق، وإن علمنا من هو؛ علمنا قدَره كيف يجري: لماذا وقع هذا، ولِمَ ذاك.

لهذا؛ النبي ﷺ لما استغرب الصحابة كيف يغلب القعود ناقته، كيف فسرها لهم؟ لم يفسرها لهم بأن عضلاته أحسن من عضلاتها، أو بأنها عجزت، وكبرت، وكل هذا موجود، وهو يقع في السنن، لكنه فسرها بالمعنى الذي وقع في نفس الله -عز وجل-: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه).

هذه صفات الله سبحانه، وهذه هي التي تُفهمنا مفهوم العلل في نفس الرب -لماذا يفعل الرب- التي أخطأ فيها الجبرية، وابن حزم تابعهم فيها، فنفى العلة في فعل الرب ونفسه، وهم لم يفهموا هذا المعنى.

"فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}  الآية [النساء: 17]"

هذه الآية في سورة النساء مرت في ثلاثة أطوار، وابن مسعود وقف عندها، قال: والعلماء يعرفونها. وأنتم المطلوب منكم أن تقرؤوا سورة النساء، وتتأملوا التوبة فيها، فقد ذُكرت فيها أركان التوبة ومهماتها ثلاث مرات، أترك هذه المهمة لكم، ابحثوا واقرؤوا كتاب الله على هذا المعنى.

وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف: 102]"

هذه قاعدة الحياة، هذه الآية من أهم قواعد الحياة: كيف يقلب المؤمن الطرح فرحًا، وكيف يقلب المعصية طاعة، والمصيبة والهزيمة نصرًا، كيف يقلبها؟ هذه مهمة المؤمن، ولما أقول: "المؤمن"، هذا علامة على أن هذا واجب شرعي، حتى في الحياة، حتى في الرزق، حتى في الدكان، وأنت تشتغل فيه قد تخسر، فيجب أن تقلب الخسارة ربحًا، والهزيمة تقلبها نصرًا، والمعصية تقلبها طاعة. فهذه الآية يجب أن تكون حاضرة عندما تقع فيما يقع فيه البشر، والمؤمن يقع فيما يقع فيه البشر من هزيمة، ومن خسارة، ومن ألم، إلى آخره.

فربنا قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}، فكانت المعصية -أي طائف الشيطان عليهم- سببًا للتوبة والطاعة.

هذه أيها العبد، عمِّمْها تُصِب وتُفلح! {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}، انظر إلى هذا الرقي! هذه افهمْها على ما ذكرَ ربنا عن سليمان -عليه السلام-، بعد ذكر: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}، ماذا قال؟ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.

من لا يفهم القرآن، لا يفهم الحياة، لا يفهم الأمور، لا يفهم الدين، انظر إلى سليمان: استغفرَ ربه، فعلِم فرح الرب بتوبته، فأخذها سبيلًا أن يسأله. الواحد عندما يستغفر يتساءل هل غُفر له أم لا، أما هو؛ فعلِم أن هذا الموطن فرحَ فيه الرب فرحًا عظيمًا، فأخذها سبيلًا للدلال عليه، فسأله السؤال العظيم، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}.

لما حصلت التوبة، علم أن ربه فرح فرحًا عظيمًا، فقال له: أنا أريد كذا وكذا، ولما كان فرحه به، أعطاه ما سأل، والبقية عندكم. 

"ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة؛ كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية؛ فقد لا تبصر العين، ولا تسمع الأذن، لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما؛ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصاب، ومع ذلك لا يقال: إنه غير مجبول على السمع والإبصار؛ فما نحن فيه كذلك.

"والثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة؛ فلم يصر العلم له وصفا، أو كالوصف مع عده من أهلها"

"مع عده من أهلها": مع عده من مرتبة أهل العلم، هو محطوط معهم ولو لم يصر العلم وصفًا ثابتا له.

هل في هذا منفعة؟ نعم، (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)؛ ولذلك:

 

ما زال يدأب في التاريخ يكتبه *** حتى غدا اليوم في التاريخ مكتوبًا

 

أي ما زال يقرأ عن الصالحين قراءةً حتى صار في الصالحين مذكورًا، فالقصد أنه قال:

"فلم يصر العلم له وصفا، أو كالوصف مع عده من أهلها"

يعني هو معدود من أهل العلم لكن لم يدخل فيه الوصف حقيقة.

"وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]"

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}، فنضع تحت هذه الآية قاعدة: أن الهدى والهوى لا يتلقيان، وأن الهدى لا يكون فيه الهوى، وأنه إذا غاب الهدى جاء الهوى.

"وفي الحديث: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس)، إلى أن قال: (اتخذ الناس رؤساء جهالا، [فسُئلوا، فأفتوا بغير علم]؛ فضلوا وأضلوا).

وقوله: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم) الحديث"

قول: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم)، هو حديث فاسد، ليس حديثًا، اضربوا عليه، ومع أن الشيخ أكثرَ منه في مثل هذا في كتاب (الاعتصام)، فهذا حديث غير صحيح.  

"فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما؛ فليسوا من الراسخين في العلم، ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم؛ فلا اعتراض بهم"

في الحقيقة، الصواب هو: "وعند ذلك لا حظ لهم"، ولو قال: "وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم"، أي أن المقصود أن العلم لا يحفظهم يصح، فكلاهما يصح ولا بأس.

"فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة؛ فهو الداخل تحت حفظ العلم، حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: (إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به؛ حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها -أو قال: آخرها-، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان؛ فهما مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا؛ قمعا وقهرا واضطهدا) الحديث، وفي الحديث: (سيأتي على أمتي زمان يكثر القراء، ويقل الفقهاء، ويقبض العلم، ويكثر الهرج، -إلى أن قال-: ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول)"،

 لا نريد أن نقف في تخريج الحديث، هذه لها رجالها وهم كثر هذه الأيام.

"وعن علي: "يا حملة العلم! اعملوا به؛ فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حِلقا يباهي بعضهم بعضا؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله -عز وجل-"، وعن ابن مسعود: "كونوا للعلم رعاة، ولا تكونوا له رواة؛ فإنه قد يرعوي ولا يروي، وقد يروي ولا يرعوي"، وعن أبي الدرداء: "لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا".

انظروا إلى هذه الكلمة الرائعة! وأنا أطرب للكلمة الجميلة: "ولا تكون بالعلم جميلًا"، فالعلم جمال.

"ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا".

فإذا تريد جمال العلم؛ اعمل به.

"وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله؛ فذلك راوية حديث"

والرواية مأخوذة مِن: "رَوِيّ"، واحد يرتوي يعني: شرب حتى ارتوى. والراوية هي إناء الماء، ويسميها الناس هكذا إلى يومنا هذا، لأنها امتلأت؛ ولمّا كانت الراوية تُعبَّأ حتى ترتوي، ثم يُحمل بها الماء إلى مكان آخر، سُمي الذي يأخذ الحديث فيرتوي به، ثم يحمله إلى غيره راويًا.

وانتبهوا هنا إلى هذه النقطة: هل الأساس هو النظر العقلي أم الأمر العملي؟ الجواب: الأمر العملي هو الأساس.

وما سنقوله الآن تجدونه كله في سورة البقرة عند تفسير: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}.

هل الأصل في الإنسان أن يكون عالمًا أم أن يكون عاملًا؟ هل أصل الكلمة هي ما استقر في الذهن ثم اصطبغ به الواقع، أم أن الواقع هو الذي أنشأ الكلمة فأخذها الآخر إلى معاني العِلم؟

يعني الآن، هل الأصل هو كلمة "راوية" التي يُحمل فيها الماء، ثم أخذناها للعلم؛ أم أن أصلها في العلم ثم أخذناها إلى الإناء الذي يحمل الماء؟ الجواب: هو الأول، وهو أن الأصل في الكلمة هي التي أنشأها الفعل، المادة التي بين يديك هي التي أنشأت، ثم بعد ذلك تُعمَّم هذه الكلمة إلى المعاني العلمية، وإلى المعاني النفسية.

ولذلك أصل الراوية هي التي يُحمل بها الماء، فيُقال لرجل ارتوى بمعنى امتلأ، ويقال أيضا ارتوى بمعنى أنه أخذ من الراوية فارتوى.  وسُمي حامل العلم راويًا لأنه يحمل في داخله الخير (الماء)، ولأنه في الراوية يتم نقل الماء، فالراوية ينقل العلم.

وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله؛ فذلك راوية حديث، سمع شيئا فقاله"، وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طُلبوا، فإذا طلبوا هربوا"

تصور، العلماء في النهاية يهربون! كان الله في عونهم.

وعن الحسن؛ قال: "الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل"

لا إله إلا الله، ما أروع هذه الكلمة!

"وعنه في قول الله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91]؛ قال: "علمتم فعلمتم ولم تعملوا؛ فوالله ما ذلكم بعلم"

لأن الحديث عن بني إسرائيل.

"وقال الثوري: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه؛ وإلا ارتحل". وهذا تفسير كون العلم هو الذي يلجئ إلى العمل، وقال الشعبي: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"، ومثله عن وكيع بن الجراح"

والله يا إخوتي، لو جلس عالِمٌ العمر كله -كما يجلس محفظ القرآن عمره كله لتحفيظ القرآن-، لو جلس عالمٌ إلى الممات ليتحدث عن مناقب علمائنا؛ لأفلح وأنجح.

أنا تَمُر عليّ هذه الأسماء، فأشعر بالقهر لأننا لضيق الوقت لا نتكلم عنها، لا نتكلم عن الثوري، لا نتكلم عن الحسن. لا أريد أن أتكلم عن الصحابة -رضي الله تعالى- عنهم، فقط عن هؤلاء العلماء الأجلاء العظماء: الشعبي وغيره. ماذا نقول عن الثوري -رحمه الله-؟ ماذا نقول عن وكيع بن الجراح؟ ماذا نقول عن الحسن البصري؟

كأنك حين تتحدث عنهم تتحدث عن كتاب الله؛ ولذلك إذا ذُكر الصالحون ذُكر الله، والنظر إليهم عبادة.

واحد مر على مجلس قيل فيه أن النظر إلى العلماء عبادة، فقال: "لم يرِد فيها نص" هذا لا يفهم كيف ينشأ مثل هذا المعنى: النظر إليهم يذكرك بالله، يُعلمك السمت الذي يقربك إلى الله، إلى آخره؛ ولذلك كانت الأمهات يرسلن أبناءهم إلى مجلس أحمد لا للعلم؛ ولكن للنظر إلى سمته، حتى يتعلموا كيف يتأدبوا ويجلسوا، وكيف يتحركوا... إلخ. فالنظر إليهم عبادة على هذا المعنى.

"وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية الله، والآثار في هذا النحو كثيرة.

وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني؛ فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون"

وهذا من سر العربية الشريفة، انظر إلى الكلمات: "عمل" و"علم"، الحروف فيها واحدة، حتى أنك تُخطئ في مرات كثيرة حين تطلق إحدى الكلمتين، فتتساءل ما المراد بها. وكأنك لما تتحدث عن العلم؛ تتحدث عن العمل. وهذا من شرف العربية التي بلغت الكمال لتستوعب الإعجاز -كما قال ابن خلدون-.

"فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك؛ فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة -والفقه فيما رووا أمر آخر-"

"إنما هم رواة"، وهو معنى الحديث: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

فهناك أناس يحملون ولا يفقهون، وناس يحملون ويفقهون، وناس لا يحملون ولا يفقهون.

"أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله، على أن المثابرة على طلب العلم، والتففه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه؛ يجر إلى العمل به ويلجئ إليه"،

وأنا هنا أقول لكم كلمة مهمة جدًا، وكل هذا من كتاب ربنا، وكل هذا من سيرة أصحاب نبينا ﷺ: إن طريق تلقي العلم له دور في أثر العلم في النفوس، الطريقة التي تتلقى بها العلم، والوسيلة التي تطلبه بها، تؤثر على معنى العلم في قلبك، وهذا واضح؛ فالرجل الذي يسعى لطلب المسألة، ويمشي من بلد إلى بلد ليسمعها، ويجلس على طريقة الأدب، وينفق لها المال، ويبذل لها العَرق والجهد، ويبذل لها الوقت، هذا ليس كمن جاءته وهو نائم على الفراش. ولا يقولنَّ أحد: المقصود هو العلم. لا! من يقول هذا لا يعرف. فطريقة تلقي العلم لها أثر على معنى العلم في قلب الإنسان، وهذه طبعًا توضَع في مكانها؛ ولذلك يقول:

"على أن المثابرة على طلب العلم"

ونحن نأتي إلى كلمتهم أن: العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، وأن طلب العلم مع المحبرة إلى المقبرة.

"على أن المثابرة على طلب العلم، والتففه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه؛ يجر إلى العمل به ويلجئ إليه، كما تقدم بيانه"

والناس فقط تعلموا أن: "المسألة فيها خلاف وهذا رأيي" فقط يأخذون الشهادات ويمضون.

"وهو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرنا إلى الآخرة"

الله أكبر، هذه الكلمة أخذ بها العلماء وصارت مثالًا لهم، كما قال أحمد حين سئل هل طلبَ العلم ابتداءً لله: "هذا عزيز"، أو كما ذكرَ الغزالي: "طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون له".

وهذه المسألة التي يخوض فيها الشاطبي هنا هي التي اعترف الغزالي أنه كَتبَ كتاب (الإحياء) من أجلها، وهي: من هم العلماء؟ ولماذا العلماء لا يخشون ربهم؟ ولماذا يحبون الدنيا، والناس يقولون أن العلم هو الذي يحصل به الخشية؟ إلى آخر هذه المناقشات. هذه النقاط هي التي تكلمت عنها في بحث في المجلد الأول، في أول كتاب (الإحياء)، حيث اعترف الغزالي أنه أنشأ كتابه من أجل هذه المسألة، وهي: "حل مشكلة علماء أهل الدنيا"، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، وهم كالأفعى فوق الماء، لا يشربون منها ولا يتركون غيرهم يشرب، ويصدون عن سبيله، وهؤلاء أسميهم "قطاع الطريق إلى الله"؛ فهم يسلبون دين الناس كما أن قاطع الطريق يسلب مال الناس، وكلاهما قطاع طرق، فليحذر المرء أن يكون كذلك.

وعن معمر؛ أنه قال: "كان يقال: من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله"

هذه سطوة العلم وجلاله.

"وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية، ثم جاءت النية بعد".

وعن الثوري؛ قال: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرنا إلى الآخرة"، وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنت أغبط الرجل يجتمع حوله، ويكتب عنه، فلما ابتليت به؛ وددت أني نجوت منه كفافا، لا علي ولا لي"

وهنا؛ لا بأس أن أنبه على مسألة: إن من أكثر الناس أمراضًا في نفوسهم المشهورون، المنتحرين منهم وغير المنتحرين، والذي يعصم الناس من هذا أنه يهرب من الشهرة، والعلم يؤدي به إلى الهروب منها، فيقول: يا ليتني ما عُرفت حتى أخلُوَ بنفسي وديني وقراءتي؛ ولكن المشهورين -من الفسقة والفجرة وغيرهم- يحبون أن يبقوا أمام الشاشة وأمام الناس في كل وقت، فهم يخرجون خمس دقائق يكونون فيها مشهورين، ثم يعودون إلى البيت، وهم كما هم، فيملون هذه الحياة، وقد ينتحر أحدهم؛ ولذلك هم أكثر الناس مرضًا: يشربون المخدرات من أجل النسيان، ويشربون المُنومات، فأنت تعجب: ما هو سر هذا؟ السر هو هذا الأمر، أن العلماء الصالحين مع علم الناس بهم، لا يحبون هذا، ويتمنون أن لو لم يُعرفوا، كما قال الشافعي: "وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم ولم ينسبوا لي منه شيئاً". فالعالم يهرب من الشهرة؛ فهذا الذي يعيشه، وهذه الغربة التي يعيشها، وهذه المعاني، هي التي تجعلهم أقرب الناس إلى الله، وهم على درجة من الاطمئنان، والقلق الذي فيهم هو قلب التعبد، قلق العابدين، وغيرهم من المشهورين يؤدي بهم القلق إلى الانتحار، إلى آخره.

وهذه مسألة مهمة، ويلزمها شرح طويل؛ لكن نحن نطلق فقط، وكلمة الثوري هي التي دعتنا إلى هذا.

وهنا أريد أن أقول كلمة: والله يا إخوتي، ما من علماء أمةٍ في الوجود نصحوا لأمتهم كما نصح علماؤنا لنا، وهذا كله من فقه القرآن: كما أن القرآن نصح لنا وللناس جميعًا أعظم النصيحة، وبيّن أعظم البيان، ورقق، إلى آخره، فالعلماء فهِموا.

انظر إلى هذا العالِم كيف يكشف نفسه! لماذا يكشف نفسه؟ علماء الدجل الذين يبحثون عن الشهرة وغيرها، تجد أحدهم ينصح، وإذا سألته: كيف طلبت العلم؟ يقول: الله يغفر لنا يا أخي، ويتواضَع تواضُع المتكبرين والمغرورين، يُخفي غروره وراء قناع التواضع، فإذا قلت له: أنت خالفت في هذه المسألة ما كنتَ تقول في الأول، يقوم عليك يقتلك، يقول: أنا خالفت؟! أنا خرجت من بطن أمي وأنا على هذه المسألة، وبفضل الله لنا سنين ونحن نقول هذا، ونحن صغار نقول هذا! لا يعترفون ويكذبون. لكن انظروا إلى هذه النصيحة من علمائنا، يقولون: "هكذا كنا"، وذلك لفضل هذا وبيانهم ورحمتهم على أمة محمد ﷺ.

"وعن أبي الوليد الطيالسي؛ قال: سمعت ابن عيينة منذ أكثر من ستين سنة يقول: "طلبنا هذا الحديث لغير الله؛ فأعقبنا الله ما ترون"، وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده، فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده"؛ فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم"

فصل:

ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة، وما هي.

والقول في ذلك على الاختصار أنها أمر باطن"

وهذا الذي قعدنا نتكلم فيه ونعجن، ورحنا وجينا، هذا أمر باطن! إن لم تحسه لم تدرك منه شيئا. ونحن مررنا على هذه المرتبة، ماذا قلنا؟ قلنا أننا ما فهمنا شيء!

"وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية، وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب.

وقال أيضا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة: وهو التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة، وأما تفصيل القول فيه؛ فليس هذا موضع ذكره، وفي كتاب الاجتهاد منه طرَف"

"وفي كتاب الاجتهاد منه -أي من القول بأن العلم ظاهر- طرَف -أي شيء قليل-"

قال: "ولكن عليه علامة ظاهرة"

وهذا الذي نتحدث عنه: الخشية والتجافي، وأن العلم مقصود به العمل. فالعلامة الظاهرة والفرق هو أنك إما ترى المرء كلبًا يلحق الدنيا وينهشها، ويقاتل عليها ويعوي إذا أُخذت منه، ويسارع إليها، أو أنك تراه متجافيًا عنها، بعد ذلك تفهم ما في القلب. إذا رأيته بكى على فوات الصلاة، وعلى فوات قيام الليل، على أنه لم يَقم بجزئه من القرآن، على أنه لم يقم بالعمل الصالح في رمضان كما ينبغي، على أنه فاته أمر الجهاد، إذا رأيته على هذا المعنى فهذا فيه خير؛ أما إذا رأيته يهارش تَهارُشَ الحمر والكلاب على قصعاتها وعلى طعامها، فهذا ارْمِه، هو ليس من العلم في شيء، ولم يصِل به العلم إلى مستقره، يعني أنه ليس من أهل العلم.  

"وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة":

يعني لا يخالف في هذا المعنى مسلم.

وصلنا أيها الإخوة الأحبة إلى المقدمة التاسعة، وسنقف عندها بعد قراءتها فقط حتى نتأمل ما يراد تحتها، وكما قلت لكم في بداية المقدمات التي مضت، أن المقدمة الثامنة والتاسعة هي من أجَلِّ هذه المقدمات، وكلها جليلة ولا شك.

المقدمة التاسعة:

"من العلم ما هو من صلب ومنه ما هو مُلح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه؛ فهذه ثلاثة أقسام"

الآن بعد أن تحدث الشيخ عن أقسام العلماء، يتحدث عن أقسام العلم. والمُلح من المِلح، مِلح العلم، فهل يُستغنى عنه أم لا يستغنى عنه؟ الجواب: نعم، يُستغنى عنه، أما الصلب فلا يُستغنى عنه. وهذه اقرؤوها جيدًا، وتأملوها واستخرجوا منافعها بأنفسكم، ثم نكِر عليها بما نستطيع.

والمطلوب من كل طالب علم يحضر معنا هذه الجلسات، هو أن يتعود أن يقرأ بالطريقة التي نقرأ بها هذه السطور العظيمة التي سطرها علماؤنا، وأن يتعلمها.

والكثير من الإخوة لمّا يسمعون: "الموافقات"، يظنون أنه كتاب السر، كما سمى السبكي كتاب الجويني (البرهان) ب: "لغز الأمة". وهذه ليست ألغاز، لا يوجد ألغاز، ما دام أن العلماء كتبوا للإنسان، والإنسان عاقل وعالم، فأنت لك عقلك، وتستطيع أن تبلغه؛ ولكن شرط أن تعاني كما عانى، وأن تتعب كما تعب. فالآن؛ كيف تجدون الكتاب؟ جميل، رائع، سهل، ميسور، فأنت على الخيار: يمكن أن تغوص فيه، ويمكن أن تقف على ظلاله أو على شطآنه، وكلما بذلت من جهد وتفكر؛ استخرجت الدرر.

وهنا نقطة: هل الشعر يُقرأ قراءةً صامتة؟

من قال لكم أن الشعر يُقرأ قراءة صامتة فهو جاهل، لأن الشعر أصله أن فيه غناء، وفيه طبل، فيه حركة، فيه جرًس؛ فمن يقول أنه يريد أن يقرأ ديوان شعر قراءةً صامتة، هذا لا يعرف.

الشعر يُتغنى به، والقرآن يُتغنى به، العلم يُتغنى به، تقرأ وأنت تتغنى به: تمسك الكلمة والجملة فترددها على لسانك، ترددها لتفهمها، هذه طريقة علمائنا، وهي الطريقة مع القرآن كذلك، ومع السنة كذلك، ومع الفقه، تتغنى بالكلام وتردده.

وأنا أقول لكم كلمة: والله إن مذاق الكلمات في النفس كمذاق الطعام في الفم، ما هي الطريقة التي تتذوق بها الطعام؟ هل تأخذ وتبلعه، أم أنك تلوكه في فمك؟ فهذا هو الطريق: خذ الكلام وردده على لسانك، تأمله، فحينئذ يتفتح لك.

هذه طريقة قراءة العلم، لا توجد قراءة صامتة، واختر أخًا آخر يحاورك وتحاوره، ويدارسك وتدارسه، وتأخذ منه ويأخذ منك، وهكذا، ولا تخف، هذا العلم يحتاج إلى جرأة، ادخل إليه ولا تخف منه! فلن تجد في داخله إلا الجواهر، كلام علمائنا لا تجد فيه إلا الجواهر.

والله تعالى أعلم، وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.