JustPaste.it

البداية والنهاية - الجزء السادس

وقعة أليس

 

ثم كانت وقعة أليس في صفر أيضا، وذلك أن خالدا كان قد قتل يوم الولجة طائفة من بكر بن وائل من نصارى العرب ممن كان مع الفرس، فاجتمع عشائرهم وأشدهم حنقا عبد الأسود العجلي، وكان قد قتل له ابن بالأمس، فكاتبوا الأعاجم فأرسل إليهم أردشير جيشا فاجتمعوا بمكان يقال له: أليس، فبينما هم قد نصبوا لهم سماطا فيه طعام يريدون أكله إذ غافلهم خالد بجيشه، فلما رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى: بل ننهض إليه فلم يسمعوا منه.

فلما نزل خالد تقدم بين يدي جيشه ونادى بأعلى صوته لشجعان من هنالك من الأعراب: أين فلان، أين فلان، فكلهم تلكأوا عنه إلا رجلا يقال له: مالك بن قيس من بني جذرة فإنه برز إليه.

فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك على من بينهم، وليس فيك وفاء، فضربه فقتله، ونفرت الأعاجم عن الطعام، وقاموا إلى السلاح، فاقتتلوا قتالا شديدا جدا والمشركون يرقبون قدوم بهمن مددا من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة، وكلب في القتال، وصبر المسلمون صبرا بليغا.

وقال خالد: اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم، فنادى منادي خالد الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجا يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد، وكلما حضر منهم أحد ضربت عنقه في النهر وقد صرف ماء النهر إلى موضع آخر، فقال له بعض الأمراء: إن النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه فتبر بيمينك، فأرسله فسال النهر دما عبيطا فلذلك سمي نهر الدم إلى اليوم، فدارت الطواحين بذلك الماء المختلط بالدم العبيط ما كفى العسكر بكماله ثلاثة أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، ولما هزم خالد الجيش ورجع من رجع من الناس عدل خالد إلى الطعام الذي كانوا قد وضعوه ليأكلوه.

فقال للمسلمين: هذا نفل، فانزلوا فكلوا فنزل الناس فأكلوا عشاء، وقد جعل الأعاجم على طعامهم مرققا كثيرا فجعل من يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون: ما هذه الرقع؟ يحسبونها ثيابا.

فيقول لهم من يعرف ذلك من أهل الأرياف والمدن: أما سمعتم رقيق العيش؟

قالوا: بلى.

قالوا: فهذا رقيق العيش، فسموه يومئذ رقاقا، وإنما كانت العرب تسميه العود.

وقد قال سيف بن عمر: عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث، عن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والبطيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك غير متأثليه.

وكان كل من قتل بهذه الوقعة يوم أليس من بلدة يقال لها: أمغيشيا، فعدل إليها خالد وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، فوجدوا بها مغنما عظيما، فقسم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النفل ألفا وخمسمائة غير ما تهيأ له مما قبله، وبعث خالد إلى الصديق بالبشارة والفتح والخمس من الأموال، والسبي مع رجل يقال له: جندل من

بني عجل، وكان دليلا صارما فلما بلغ الصديق الرسالة، وأدى الأمانة أثنى عليه وأجازه جارية من السبي.

وقال الصديق: يا معشر قريش إن أسدكم قد عدا على الأسد فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد، ثم جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يمل سماعها، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن، ولا يحزن، بل كلما له في قوة وصرامة وشدة وشهامة، ومثل هذا إنما خلقه الله عزا للإسلام وأهله، وذلا للكفر وشتات شمله.

 

الإمام ابن كثير رحمه الله

 

نقله أخوكم المُريقبُ الشّاميّ