JustPaste.it

 

 

فصول في الإمامة والبيعة

للشيخ

أبي المنذر الشنقيطي

حفظه الله

 

1435ه | 2013م

 

محتويات الكتاب

المقدمة

فصل في وجوب نصب الإمام

فصل وجوب نصب الإمام على الفور لا على التراخي

فصل وجوب نصب الإمام منوط بوجود الجماعة لا بمظنة الخلاف

فصل التمكين والشوكة ليس شرطا لصحة البيعة

فصل أهل الحل والعقد لا يشترط أن يكونوا هم أهل الشوكة

فصل لا تتعين مشورة من غاب عن مجلس العقد

فصل يجب الدخول في بيعة من كان جامعا للشروط ويحرم الاعتراض عليها

فصل لا يشترط للبيعة عدد محدود

فصل إذا دار الأمر بين انعدام الإمام وجهالة عينه ثبتت البيعة ولو مع الجهالة

الخاتمة

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فقد ثارت في الفترة الماضية بعض النقاشات وترددت بعض الشبهات حول موضوع البيعة والإمامة وما يلزم فيه من شروط ويتعين من أركان ..

وقد كتب بعض الإخوة في هذا الباب فأفادوا وأجادوا وأحسنوا ما بنوه وشادوا.

لكن رأينا من ركب الموج العباب وأفرغ بدلوه في هذا الباب إلا أنه أطال في غير طائل وعاد بغير نائل ..

فأحببت أن أكتب في المسألة مختصرا معدودا وضابطا محدودا يبين ما التبس من مشكلات ويجمع ما تناثر من مهمات يكون سالما من الطول الممجوج والقصر المخدوج فلا يملّه السّرَعان ولا يستقله الظمآن ..

واجتهدت قدر المستطاع أن أتحاشى ما لا يدخل في مسائل النزاع .

وقد جعلته على شكل فصول وقواعد، ينطلق منها الشارد ويعود إليها الوارد.

ولا بد من التنبيه إلى أن باب " الإمامة وبيعة الأمراء " من الأبواب التي ضاقت فيه النصوص واتسعت الآراء .

ونرى أن العصمة فيه من ولوج الأخطاء، وركوب الأهواء، لا تكون إلا باتباع النصوص الظاهرة، واقتفاء الجماعة الوافرة، والاعتماد على دقة الاستنباط والاستدلال، لا مجرد حكايات الأقوال .

فنسأل الله تعالى أن يرزقنا التوفيق والإصابة في الأقوال والأعمال .

فصل

في وجوب نصب الإمام

لا بد للناس من أمام يجمع الكلمة ويسوس الرعية ويدفع العادية .

وبانعدام الإمام تختل مصالح الأنام وتتعطل جملة من الأحكام .

وقد قيل أنه كان من عادة الفرس وشؤونهم كلما مات ملك من ملوكهم أن يتركوا الناس خمسة أيام بلا سلطان ولا زمام، ولا رادع يردع الطغاة أو يقمع الجناة، حتى تضطرب الأمور وتعم الشرور، فيدرك الناس ضرورة السلطان وينقادوا له بالطاعة والإذعان .

قال الإمام الخطابي: (لا بد للناس من إمام يقوم بأمر الناس ويمضي فيهم أحكام الله ويردعهم عن الشر ويمنعهم من التظالم والتفاسد) معالم السنن، 3/6

وقال محمد بن عمر بن مبارك الحميري " بحرق " :

( فإنّ نصب الإمام يتضمّن دفع الضّرر، لأنّ النّاس إذا كان لهم رئيس قاهر انتظمت مصالح دينهم ودنياهم، لأنّ مقاصد الشّرع الشّريف فيما شرع الله ورسوله فيه من الأحكام والحدود، وإظهار شعائر الدّين، إنّما هي مصالح عائدة إلى الخلق، إمّا عاجلا وإمّا آجلا، ومعلوم أنّ ذلك لا يتمّ إلّا بإمام يرجعون إليه عند اختلافهم، وإلّا لأفضى ذلك إلى الهلاك. ويشهد لذلك ما يثور من الفتن عند موت الأئمّة، بحيث يقطع بأنّها لو تمادت لتعطّلت أمور المعاش والمعاد) حدائق الأنوار لبحرق، (ص: 397-398)

وقال الغزالي:

( لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا وآراءهم ولم يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، ص:128.

وما أحسن قول عبد الله بن المبارك- رحمه الله:

الله يدفع بالسّلطان معضلة ..عن ديننا وبه إصلاح دنيانا

لولا الأئمّة لم تأمن لنا سبل ..وكان أضعفنا نهبا لأقوانا

وقد دلت النصوص الصريحة من الأحاديث الصحيحة على وجوب بيعة الإمام ’ونصبه في الدوام على وجه الإلزام، ومن هذه النصوص:

1- حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال:

« من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية »رواه مسلم .

2- حديث أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»رواه أبو داود.

3- حديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم».رواه أحمد والطبراني في المعجم الكبير .

وهذا دال بالأحرى على وجوب نصب الإمام الأعظم .

وفي ذالك يقول الشوكاني :

( وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى، وفي ذلك دليل لقول من قال: إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام..) نيل الأوطار: 8/294 .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

( فإذا كان قد أوجب في أقلِّ الجماعات وأقصر الاجتماعات، أن يولي أحدهم، كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ) الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية ص: 9

وقد نقل الإجماع على وجوب نصب الإمام غير واحد من الأئمة الأعلام .

قال النووي رحمه الله: ( وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ..). شرح النووي على مسلم، 12/ 205

وقال ابن حزم :

(اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفصل في الملل والأهواء والنحل، 4/72

وقال بحرق:

(اعلم أنّ مذهب أهل السّنّة أنّ نصب الإمام واجب على الأمّة، لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على امتناع خلوّ الوقت عن خليفة له وإمام

وقد قال الصّدّيق رضي الله عنه في خطبته في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار: "ألا وإنّ محمّدا قد مات، وأنّه لا بدّ لهذا الدّين من إمام يقوم به" . فبادر الكلّ إلى قبول قوله، ولم يقل أحد لا حاجة لي إلى ذلك، بل اتّفقوا عليه، واجتمعوا له) حدائق الأنوار، ص: 397

وإذا كان وجوب نصب الإمام دلت عليه النصوص وأجمع عليه أهل الإسلام، فهو واجب على المسلمين في كل مصر ومكان ولا يختص به زمان عن زمان .

ومن زعم أن نصب الإمام غير واجب في هذه الأيام فقدافترى على الله لأنه عارض الائتلاف وزعم أن الشرع أقر الناس على التفرق والاختلاف.

وإذا لم يتيسر نصب الإمام إلا لطائفة من المسلمين تعين الأمر عليها وتحتم على سائر المسلمين متابعتها والدخول في بيعتها .

تنبيه:

ومن المهم التنبيه إلى أن البيعة المقصودة في قوله- صلى الله عليه وسلم –: « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » ليست كل بيعة على الإطلاق وإنما هي بيعة الإمام العام على السمع والطاعة، ولا تنوب عنها أي بيعة أخرى كبيعة أمير في الحرب على جهاد العدو الصائل، أو بيعة شيخ أو جماعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

فهذه البيعات وإن كانت مشروعة فهي لا تنوب عن بيعة الإمام الواجبة.

فلا يشرع تأخير نصب الإمام إن عدم، أو التأخر عن بيعته إن وجد، بحجة وجود مثل هذه البيعات، بل متى كانت هذه البيعات مانعة من بيعة الإمام أو مزاحمة لها فهي غير مشروعة .

فصل

وجوب نصب الإمام على الفور لا على التراخي

إذا تقرر وجوب نصب الإمام فاعلم أنه واجب على الفور لا على التراخي ؛ لأن ما يتعلق به من مهمة وأحكام لا يحتمل التأخير .

فإذا كان المسلمون بلا إمام يحكمهم ولا خليفة يجمعهم فمن أهم ما تجب المبادرة إليه هو السعي إلى نصب الإمام لما يتوقف على غياب بيعته من تعطل مصالح الأنام وغياب الشريعة والأحكام .

قال الجويني:

(الغرض من نصب الإمام حفظ الحوزة، والاهتمام بمهمات الإسلام، ومعظم الأمور الخطيرة لا يقبل الريث والمكث، ولو أخر النظر فيه لجر ذالك خللا لا يُتلافا، وخبلا متفاقما لا يستدرك .)غياث الأمم ص: 68.

ولهذا بادر الصحابة رضي الله عنهم إلى عقد البيعة لأبي بكر رضي الله عنه قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى اضطرهم ذالك إلى تأخير دفنه لأكثر من 24ساعة ! .

قال النووي رحمة الله عليه:

(وإنما أخروا دفنه صلى الله عليه وسلم من يوم الاثنين إلى ليلة الأربعاء أواخر نهار الثلاثاء للاشتغال بأمر البيعة ليكون لهم إمام يرجعون إلى قوله إن اختلفوا في شيء من أمور تجهيزه ودفنه وينقادون لأمره لئلا يؤدي إلى النزاع واختلاف الكلمة وكان هذا أهم الأمور والله أعلم) شرح النووي على مسلم 7/ 36

وقال الغزالي :

( فليلاحظ العصر الاول كيف تسارع الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الى نصب الامام وعقد البيعة وكيف اعتقدوا ذلك فرضا محتوما وحقا واجبا على الفور والبدار وكيف اجتنبوا فيه التواني والاستئخار حتى تركوا بسبب الاشتغال به تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا انه لو تصرم عليهم لحظة لا إمام لهم فربما هجم عليهم حادثة ملمة، وارتبكوا في حادثة عظيمة تتشتت فيها الآراء، وتخلف متبوع مطاع، يجمع شتات الآراء، لا نخرم النظام وبطل العصام وتداعت بالانفصام عرى الأحكام فلأجل ذلك آثروا البدار إليه ولم يعرجوا في الحال إلا عليه) فضائح الباطنية، ص:171.

وليت شعري إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أشرف مخلوق والأولى بأداء ما له من حقوق يشرع تأخير دفنه تلافيا لتعطيل منصب الإمامة وغياب السلطة والزعامة ..

أو يسوغ بعد هذا أن يزعم زاعم مشروعية تأخير نصب الإمام أو يدعي أن المبادرة إلى نصبه ليست على وجه الإلزام ؟

بل إن فعل الصحابة هذا فيه دليل قاطع وبرهان ساطع على وجوب المبادرة إلى عقد الولاية الشرعية وتقديمها على سائر المهمات الدينية والدنيوية .

أما تأخيرها فهو معصية يأثم بها المسلمون جميعا .

فصل

وجوب نصب الإمام منوط بوجود الجماعة لا بمظنة الخلاف

قال بعض الإخوة الفاضلين: لا مشاحة في وجوب الاجتماع والانضواء تحت راية أمير مطاع، لكن الحكمة من الاجتماع هي حصول الألفة والاتفاق والفرار من الخلاف والافتراق، فمتى كان الاجتماع سببا في الفرقة، عاد الأمر إلى عكسه وانقلب الحكم إلى ضده ولم يعد الاجتماع مأمورا به !

قلت: والجواب على هذا في مسألتين:

المسألة الأولى:

أن الله سبحانه وتعالى جعل نصب الإمام سببا من أسباب الألفة والاتفاق فمن زعم أنه سبيل إلى التنازع والشقاق وبريد إلى التباغض والافتراق، فقد كذب خبر الله تعالى، وحذر مما نهى عنه وزعم أن ما أنزل الله من الدواء قد يكون سببا إلى زيادة الداء !!

وهل يكون في التفرق خير بعد أن قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}...؟

وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... }.

قال ابن كثير :

(وقوله: {ولا تفرقوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، .... وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، )تفسير ابن كثير :2/ 77

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في جملة من أحاديثه بأن يد الله مع الجماعة..

عن عرفجة بن ضريح الأشجعي، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب الناس، فقال:

(إنه سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم كائنا من كان فاقتلوه، فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض)رواه النسائي.

وعن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما يختطف الذئب الشاة من الغنم)رواه الطبراني في المعجم الكبير.

المسألة الثانية:

أن قائل هذا الكلام التبست عليه الأمور في قواعد الأحكام .

فلا بد من التفريق بين العلة والحكمة .

فالعلة هي الوصف الذي يدور معه الحكم وجودا وعدما، فمتى عدم ذالك الوصف عدم الحكم .

كالإسكار بالنسبة للخمر فمتى كان الشراب مسكرا فهو حرام ومتى كان غير مسكر فهو حلال .

أما الحكمة فهي المعنى الذي من أجله صار الوصف علة .

قال سيدي عبد الله في مراقي السعود في تعريف الحكمة:

وهي التي من أجلها الوصف جرى ... علة حكم عند كل من درى .

فعلة حرمة الخمر هي الإسكار والحكمة من ذالك هي الحفاظ على العقل .

والحكم يدور وجودا وعدما مع العلة لا مع الحكمة .

فإذا وجد الإسكار وجدت الحرمة وإذا عدم الإسكار عدمت الحرمة .

فإن حدث في بعض الحالات أن وجد شخص لا يغلب على عقله الخمر ولا يسكره، فلا يقال إن الخمر بالنسبة له حلال .

لأن الحكم منوط بالمظنة والغالب، وتخلفهما في بعض الجزئيات لا يؤثر على الحكم .

فالصوم أبيح في السفر لأنه مظنة للمشقة، فإذا كان السفر في بعض الحالات لا توجد فيه مشقة فلا تأثير لذالك على الحكم بل يبقى الفطر مشروعا وإن كان السفر غير شاق .

والقاعدة أن " المعلل بالمظان لا يتخلف فيه الحكم بتخلف الحكمة " .

يقول ابن القيم رحمه الله:

( شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة، ولا ينقضها تخلف الحكمة في أفراد الصور، كما هذا شأن الخلق؛ فهو موجب حكمة الله في خلقه وأمره في قضائه وشرعه، ) إعلام الموقعين عن رب العالمين :2/63

ولهذا فإن علة الرخصة في الفطر التي يدور معها الحكم وجودا وعدما هي "السفر" لا وجود المشقة .

وأما التعليل بالحكمة فقد أشار إلى الخلاف فيه صاحب المراقي بقوله:

وفي ثبوت الحكم عند الانتفا ...للظن والنفي خلاف عرفا.

وأصح الأقوال في هذه المسألة هو عدم مشروعية التعليل بالحكمة، ومن الأدلة على ذالك:

أولا: أن الحكمة الغالب فيها الخفاء، وعدم الانضباط، والاختلاف بحسب الأحوال والأشخاص والأزمان.

فخشية المشقة هي الحكمة من مشروعية الفطر في السفر، وهذه المشقة تختلف من شخص لآخر حسب جلد الشخص وقوته ومن وقت لآخر حسب فصول السنة برودة وحرا وظروفا مناخية، وحسب تفاوت وسائل النقل من الدابة إلى الطائرة .

فلو جعلنا العلة في الفطر في السفر هي "خشية المشقة" فقلنا " (لا يحل الفطر إلا لمن كان سفره شاقا) لترتب على ذالك اضطراب الحكم وتغيره من حالة لحالة، ومن شخص لآخر، ومن وقت لآخر .

وأما لو جعلنا العلة مجرد السفر فقلنا: " كل مسافر يحل له الفطر" فهذا وصف ظاهر منضبط لا يتغير بحسب الأشخاص والأحوال والأزمان وبذالك يندفع الاضطراب عن الحكم.

ثانيا:

أن التعليل بالحكمة يؤدي على تخلف الحكم عن علته (أي وجود العلة مع عدم وجود الحكم) .

مثال ذالك :

العلة في وجوب حد الزنا هي الإيلاج المحرم، والحكمة في حرمة الزنا هي خشية اختلاط النسب .

فإذا عللنا بالحكمة في هذه المسألة كان الحد واجبا على كل من تسبب في اختلاط النسب (كقابلة استبدلت مولود امرأة بغيره عمدا)

وإن لم نحكم عليها بالحد كان ذالك خلاف الأصل لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فمتى وجد اختلاط النسب تعين أن يوجد الحد .

وإنما جعلت العلة هي مناط الحكم لأنها مكان نوطه أي تعليقه فحيثما وجدت وجد.

كما قال أبو تمام :

بلاد بها نيطت على تمائمي ... ... وأول أرض مس جلدي ترابها

***

إذا تقرر هذا الكلام، واطمأنت له القرائح والأفهام، فاعلم بأن الله تعالى أوجب على عباده التوحد والاعتصام والانضواء تحت راية الإمام .

وأن علة هذا الوجوب التي يدور معها وجودا وعدما هي وجود الجماعة التي لا يستقيم أمرها إلا بالسمع والطاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو: «... ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم».رواه أحمد والطبراني في المعجم الكبير .

وأما " خشية التفرق والاختلاف " فهي حكمة هذا الوجوب لا علته .

والحكم يدور مع العلة لا مع الحكمة .

ولو جعلنا الحكمة هي مناط الحكم في هذه المسألة لكان بإمكان البعض أن يقول: "لا يجب علينا نصب الإمام لأنا لا نخشى من الفرقة والانقسام " !!

وهذا من أشنع ما تتفتق عنه القرائح والأفهام ..!

فصل

التمكين والشوكة ليس شرطا لصحة البيعة

إذا بايع المسلمون إماما لهم وهم في حالة ضعف وعدم تمكين فلا يقدح ذالك في أمير المؤمنين، ولا يوهن عقد بيعة المبايعين ..

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد بايع من وفد إليه من الأنصار ليلة العقبة ولم يكن آنذاك له قوة أو شوكة .

قال جابر، رضي الله عنه في ذكر بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية: ( فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه بيعة العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقولها لا يبالي في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، وتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة»، فقمنا إليه فبايعناه، )رواه ابن حبان .

ففي هذا الحديث صرح جابر رضي الله عنه أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وتلك بيعة على الإمامة .

وقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج ويدعوهم إلى نصرته وإيوائه، وروى ابن كثير في سيرته أنه عرض نفسه على بني عامر ابن صعصعة، فقال رجل منهم يقال له بحيرة ابن فارس :"والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب".. ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم:

( أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء" ..

فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك) السيرة النبوية لابن كثير :2/ 158

والشاهد من القصة أن النصرة التي كان يطلبها النبي صلى الله عليه وسلم كانت متضمنة بيعته على الإمرة والإمامة ولم تكن منفصلة عنها .

ومن ذالك أيضا حديث عبادة بن الصامت، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» رواه البخاري.

وقد بوب البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب: كيف يبايع الإمام الناس)، أي أن البيعة الواردة في الحديث بيعة على الإمامة العظمى .

وقد كانت هذه البيعة ليلة العقبة الثانية، وقد ورد في بعض ألفاظها البيعة على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم المدينة، كما في رواية أحمد في المسند:

(فقال: عبادة لأبي هريرة: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في اليسر والعسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله تبارك وتعالى ولا نخاف لومة لائم فيه، وعلى أن ننصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة ...)..

وقال الحافظ ابن رجب تعليقا على هذا الحديث:

(وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس، عن ابن إسحاق ويحي بن سعيد وعبيد الله بن عمر، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه، عن جده قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة الآخرة على السمع والطاعة، فذكره......وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة وذلك ليلة العقبة..) فتح الباري لابن رجب 1/ 70

فأنت ترى أن حديث جابر وحديث عبادة ابن الصامت كلاهما ورد فيه البيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره وهذا هو الذي تنعقد به الإمامة وتلزم به المتابعة وأن البيعة الواردة فيهما كانت في ليلة العقبة وأن الصحابة كانوا في حالة ضعف وعدم تمكين حتى أنهم كانوا يخفون هذا الاجتماع الذي عقدت فيه البيعة، ويشهد لذالك قول جابر في حديثه السابق: (فواعدناه بيعة العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين) .

وإنما حصل التمكين بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

كما قال ابن هشام في سيرته:

(قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، ) سيرة ابن هشام 2/ 111.

فهل يسوغ بعد هذا أن يقول قائل: "لا عبرة بالبيعة في حال عدم التمكين" ؟

وكما أنه لا عبرة بهذا القول من جهة الأثر فلا عبرة له أيضا من جهة النظر،

وذالك من وجوه :

1- أن القول باشتراط التمكين لعقد البيعة ابتداء يفضي إلى القول ببطلان البيعة وانعزال الإمام كلما عدمت القوة والشوكة بعد وجودها .

2- أن هذا القول يفضي إلى التشكيك في إمامة علي رضي الله عنه فقد انعقدت له البيعة في أيام فتنة وغياب شوكة، ولم يستطع القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه لعدم القدرة .

3- أن الأمور التي ندب الشرع إليها وحض المسلمين عليها لم يجعل لها شروطا مانعة ولا حدودا رادعة، ومن ذالك الاجتماع والتوحد فإن الشرع أمر به أمرا مطلقا ولم يجعل دونه بابا مغلقا .

فمن قال لا يشرع الاجتماع تحت راية أمير إلا في حالة التمكين فقد قيد ما أطلقه الشرع.

4- أن الإمامة معقودة لاجتماع الكلمة ومجانبة الفرقة والأخذ بأسباب القوة، ولعمري إن أهل الضعف أشد حاجة إلى هذا من أهل القوة ..

ومتى يبلغ المسلمون ما يرجونه من القوة والتمكين إن بقوا على حالهم متفرقين ؟

وإن من المنافي لمقاصد الشرع وقرائح الطبع أن يقال: تفرقوا فإنكم ضعفاء !

بل إن الشرعة الحكيمة والفطرة السليمة جعلتا وجود الضعف داعيا إلى الاجتماع أملا في حصول القوة والظفر والاتساع .

فصل

أهل الحل والعقد لا يشترط أن يكونوا هم أهل الشوكة

ذهب بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والغزالي والجويني وغيرهم إلى أن أهل الحل والعقد الذين تنعقد بهم البيعة هم الذين تتحقق بهم الشوكة ..

والرد على هذا القول من وجوه:

الوجه الأول: أن ما ذكرناه في الفصل السابق من الأدلة على عدم اشتراط القوة والشوكة لعقد البيعة، يدل باللزوم على عدم اشتراط الشوكة في من تنعقد بهم البيعة .

الوجه الثاني: أن أهل الشوكة المذكورين ليس لهم نصاب محدود ولا قدر معدود .

والشروط التي من خلالها يحكم بالعدم والوجود لا بد أن تكون مقدرة الحدود.

الوجه الثالث: أن اشتراط القوة والشوكة يفضي إلى مفسدة كبرى وهي مشروعية نقض البيعة بعد إبرامها كلما عدمت الشوكة وأربابها !

الوجه الرابع: إذا كانت الإمامة لا تثبت أركانها ولا يستقر حالها إلا بعد حصول الشوكة فلك أن تتخيل أن الزمن الفاصل بين عقد البيعة وحصول الشوكة قد يتسع فيه المجال ويقتتل الرجال لأن البيعة لم تتأكد في الحال !

وهذا مخالف للحكمة من وجوب نصب الإمام على الفور والاستعجال .

الوجه الخامس: مؤدى هذا القول هو أن البيعة الشرعية لا تتحقق إلا لمن له القوة والشوكة ..

وهذا يضعنا أمام إشكال ظاهر وخلل سائر لأن الشوكة والقوة كثيرا ما تكون مع فاقد الأهلية !

فإذا بايع بعض أهل الحل والعقد لمن كان جامعا للأوصاف ولم تكن له شوكة مانعة ولا قوة رادعة وبايع آخرون فاقد الأهلية ذا المال الغزير والجمع الوفير ..

فأيهما أعظم ميزة ؟

ومن منهما أعلى ركيزة ؟

هل تقدم الشوكة والغلبة وتلغى سائر الأوصاف التي لها السبق في الحلبة ؟

وهل تجب طاعة المتغلب الغاصب وتشرع معصية المبايَع الراتب ؟

كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ممن يعتبر الغلبة ووقوع التمكين شرطا للإمامة وركنا للبيعة ويغلب جانب القوة على جانب الشرعية ولهذا فإنه يصف أهل الحل والعقد بأنهم أهل القوة والشوكة .

فالإمامة عند شيخ الإسلام لا تتحقق إلا بالتغلب والقوة بغض النظر عن مدى شرعية هذا المتغلب ..!

يقول شيخ الإسلام رحمة الله عليه:

( فالحل والحرمة متعلق بالأفعال، وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين..) منهاج السنة النبوية (1/ 530)

وكلامه يعني أن الاستيلاء على الإمامة بالغلبة مع فقد أركان البيعة وشروط الإمامة يفيد الحرمة ولا يقدح في شرعية إمامة المتغلب ..!

فكأنه رحمه الله جعل لشرعية الإمامة شرطا واحدا هو القوة، وأما بقية الأركان فهي بالنسبة له واجبة غير شرط في صحة الإمامة !!

وانطلاقه من هذا المبدأ هو الذي جعله دائما يصف أهل الحل والعقد بأنهم " أهل القدرة والشوكةّ " دون ذكر لسائر الأوصاف التي اتفق أهل العلم على ذكرها كالعلم والعدالة ..

بل ذهب رحمه الله إلى أن الإمام لا يصير إماما إلا بمبايعة أهل القدرة والشوكة له .

فقال:

(..متى صار إماما، فذلك بمبايعة أهل القدرة له.) منهاج السنة النبوية 1/ 530

و يرى أن كل بيعة لا تحدث من طرف أهل الشوكة والقدرة فهي باطلة غير نافذة:

(ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما..) منهاج السنة النبوية 1/ 527

ويرى أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه إنما تمت بمبايعة أهل القدرة والشوكة لا بمجرد بيعة أهل السقيفة ..!

قال رحمه الله:

(ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة...) منهاج السنة النبوية 1/ 530

وهو أيضا يرى أن الوصية بالعهد لا تنفذ حتى يرضى بها أهل القدرة والشوكة ويقبلوها !

يقول رحمه الله: (وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز) منهاج السنة النبوية 1/ 530

قلت: وهذه العبارة الأخيرة من كلامه وهي قوله: (سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز)، دالة على أنه رحمة الله عليه يغلب جانب القوة على جانب الشرعية ..

إذ كيف يكون هذا المتغلب وصل للإمامة بطريقة غير شرعية ومع ذالك نعتبر إمامته شرعية ..؟

فهذا مخالف للقاعدة المعلومة عند أهل الأصول: " المعدوم شرعا كالمعدوم حسا " .

والعبرة من الناحية الشرعية إنما تكون لمن حاز أوصاف الإمامة وجمع الشروط المعتبرة .

وأما من هجم على الإمامة بالقوة وانتزعها بطريق الغلبة فلا يعتبر إماما شرعيا، لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا .

فوطء الزوجة وهي حائض لا يحلل المبتوتة، ولا يعتبر به الزوج محصناً، ولا تحصل به الرجعة في العدة للمطلقة، ولا تحصل به الفيئة من الزوج المولي، لأن الوطء محرم شرعاً، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حسًّا، فكأنه لم يكن .

وإنما أفتى أهل العلم بطاعة المتغلب اضطرارا إذا لم يوجد غيره أو كان في إزاحته فتنة تدوم.

كما قال ابن جماعة:

(إن خلا الوقت من إمام فتصدى لها من ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته؛ لينتظم شمل المسلمين، ولا يقدح في إمامته كونه فاسقا أو جاهلا، ما دام قد تمت له الغلبة).

وفرق بين القول بأن المتغلب يطاع اضطرارا، والقول بأن له الشرعية ابتداء .

الوجه السادس: القول بأن الإمامة لا تنعقد إلا لمن له الغلبة يوهن عقد البيعة ويجعله إجراء شكليا لا أثر له، لأنه لا يؤخر من قدمته القوة ’ ولا يقدم من أخره الضعف !

قال الإمام الجويني:

( فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة، بحيث لو فرض ثوران خلاف، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدد والعدد، واعتضدت، وتأيدت بالمنة، واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذا ذاك تثبت الإمامة، وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر، ) غياث الأمم في التياث الظلم، ص: 70-71.

وحاصل هذا الكلام أن البيعة لا تنعقد بعقد البيعة نفسه وإنما تنعقد بظهور القوة وتأكد الشوكة !

فمن عقدت له البيعة في مجلس عقد البيعة فلا حق له في الإمامة حتى يحصل على "مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة" !!

فأين أثر العقد إذن ؟؟!

والحق أن أهل االدين والرأي هم رؤوس الناس والقدوة والأساس، وسائر الناس لهم تبع، فمن اختاروه وبايعوه تعين على سائر الناس أن ينقادوا له ويطيعوه، فإن صادف ذالك أن الشوكة والقوة عند غيره ورام بها نقض ما أبرموه فلا يعطي على ذالك ولا يتابع في المهالك .

وإلا كانت الشوكة والقوة راجحة على بيعة أهل العلم والمشورة .

وإذا تقرر هذا فليس من السائغ اشتراط عقد البيعة من طرف أصحاب القوة والشوكة ..

لأن انعقاد الإمامة إما أن يكون بالبيعة نفسها وإما أن يكون بالقوة والغلبة .

فصل :

لا تتعين مشورة من غاب عن مجلس العقد

يكفي في انعقاد البيعة ولزومها مشورة من حضر من أهل الحل والعقد لمجلسها ولا يتعين مشورة من لم يتيسر حضوره .

فأهل السقيفة الذين بايعوا أبا بكر رضي الله عنه لم يستشيروا من غاب عن المجلس، وقد كانت بيعتهم ملزمة وماضية ..

وفي هذا دليل على أنه لا تشترط مشورة من لم يتيسر حضوره لمجلس البيعة .

وأما قول عمر رضي الله عنه: (... من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا..).

فقد بتر عن سياقه وحاد به البعض عن نطاقه، لأنه رضي الله عنه قال ذالك ردا على من قال: ( والله لو قد مات عمر بايعت فلانا ).

ورد في حديث ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال:

( إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا، )رواه البخاري .

والحق أن المشورة قبل البيعة لا بد منها لقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}.

والبيعة من أهم المهمات وأعم العمومات فلا ينبغي التقحم في بابها إلا بعد المشورة والنظر في مآلها..

ولا يشرع للفرد الواحد أن يبادر إلى بيعة أحد قبل مشاورة من تيسر من أهل الحل والعقد، ولهذا اعتذر عمر رضي الله عنه عن مبايعته لأبي بكر دون مشورة من أحد لما كان يرجوه من قطع النزاع ومنع الصراع .

قال عمر رضي الله عنه: (..فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار...)رواه البخاري .

قال ابن حجر:

( وقد بين عمر سبب إسراعهم ببيعة أبي بكر لما خشوا أن يبايع الأنصار سعد بن عبادة قال أبو عبيدة عاجلوا ببيعة أبي بكر خيفة انتشار الأمر وأن يتعلق به من لا يستحقه فيقع الشر وقال الداودي معنى قوله كانت فلتة أنها وقعت من غير مشورة مع جميع من كان ينبغي أن يشاور) فتح الباري لابن حجر :12/ 150

ومنع الواحد من المبايعة لرجل دون مشورة من حضر من أهل الحل العقد لا تعني منع جماعة من أهل الحل والعقد من المبادرة إلى البيعة قبل مشورة سائر أهل الحل والعقد بل يتعين عليهم فقط التشاور مع من تيسر حضوره مجلس البيعة .

ومن فهم من كلام عمر رضي الله عنه أن البيعة التي يعقدها الحاضرون لا تعد ملزمة حتى يرضى بها الغائبون فقد جانب الصواب وأسس بنيانه على خراب .

ولو قلنا بأن البيعة لا تنعقد إلا بمشورة كل من يوصفون بأهل الحل والعقد ممن لا يضمهم مجلس واحد لاتسع الخرق على الراقع واستمر الأمر حتى تتوقف صحة البيعة على مشورة الرؤساء والأشراف في المدن والأمصار القريبة ثم النائية.

وهو ما لم يحدث في العهد الأول بل كان الأمر موقوفا على مشورة الحاضرين والمتابعة من طرف الغائبين .

وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن مضي البيعة لا يتوقف على رضا الغائبين ولا إجماع جميع المسلمين .

قال ابن حزم:

(أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع...... مع أنه لو كان ممكنا لما لزم لأنه دعوى بلا برهان) الفصل في الملل والأهواء والنحل :4/ 129

وقال محمد بن عمر الحميري "بحرق" :

(ولا يشترط في صحّة البيعة إجماع الحاضرين منهم ببلدها، من أهل الحلّ والعقد، فضلا عن إجماع أهل الأقطار، لأنّ الصّحابة لم يفتقروا في عقدها لأبي بكر إلى حضور عليّ وعبّاس وسائر بني هاشم رضي الله عنهم أجمعين، ) حدائق الأنوار، ص: 401

وقال النووي:

(الأصح: أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم، ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة، لزمهم الموافقة والمتابعة، ) روضة الطالبين وعمدة المفتين :10/ 43

وقال أيضا:

(وتنعقد الإمامة بالبيعة والأصح بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم..) منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه: ص: 292

وقال الغزالي:

(وباطل أن يعتبر إجماع أهل الحل والعقد في جميع أقطار الأرض، لأن ذالك مما يمتنع أو يتعذر ....ولأنه لما عقدت البيعة لأبي بكر رضي الله عنه لم ينتظر انتشار الأخبار إلى سائر الأمصار، ولا تواتر كتب البيعة من أقاصي الأقطار بل اشتغل بالإمامة وخاض في القيام بموجب الزعامة)فضائح الباطنية ص:175- 176.

وقال الجويني:

(مما يقطع به أن الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة بالإجماع

والذي يوضح ذلك أن أبا بكر - رضي الله عنه - صحت له البيعة ; فقضى وحكم، وأبرم وأمضى، وجهز الجيوش، وعقد الألوية، وجر العساكر إلى مانعي الزكاة، وجبى الأموال، وفرق منها، ولم ينتظر في تنفيذ الأمور انتشار الأخبار في أقطار خطة الإسلام، وتقرير البيعة من الذين لم يكونوا في بلدة الهجرة، وكذلك جرى الأمر في إمامة الخلفاء الأربعة، فهذا مما لا يستريب فيه لبيب) غياث الأمم في التياث الظلم، ص: 67

وقال القلقشندي:

(الأصح عند أصحابنا الشافعية رضي الله عنهم أنها تنعقد بمن تيسر حضوره وقت المبايعة في ذالك الموضع من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس المتصفين بصفات الشهود .....ولا التفات إلى أهل البلاد النائية، بل إذا بلغهم خبر البيعة وجب عليهم الموافقة والمتابعة) مآثر الإنافة في معالم الخلافة: 1/ 44.

وإنما ذهب إلى القول باشتراط الإجماع في البيعة من أراد الطعن في إمامة علي رضي الله عنه .

قال ابن حزم:

( هشام بن عمرو الفوطي، والأصم من أصحابه، قدحا في إمامة علي رضي الله عنه بقولهما:إن الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم)الملل والنحل:1/ 30.

ومما يدل على وجوب متابعة المبادرين إلى البيعة المعقودة، وعدم الاكتراث بمن عارضها بمزاعم مردودة، أن البيعة ربما أبرمت من طرف أهلها وأصحابها، ثم لا يستمر سريانها ولا يدوم جريانها بسبب دعوة مضادة أو عصبية حادة !

فهل يزعم ذو لب وبصيرة ليس له شوى أن بيعة أهل الحل والعقد في هذه الحالة تلغى وأن أمرها يطوى ؟

وهب أنا غلبنا على عقولنا وقبلنا ذالك .. فما المخرج إن بايعت طائفة أخرى من الصفوة وذوي الألباب، ثم لم تسر البيعة لارتياب مرتاب أولما تقدم من أسباب ..؟

أوَ تبرم البيعة من طرف الحاضرين ثم يشرع نقضها من جهة الغائبين ؟!!

فصل

يجب الدخول في بيعة من كان جامعا للشروط ويحرم الاعتراض عليها

المبادرة إلى بيعة من اجتمعت فيه الشروط المعلومة وحاز السبق في الأوصاف المرقومة، توجب على من حضر من أهل الحل والعقد المسابقة إليها والتحريض عليها.

وهذا هو المتواتر من فعل الصحابة رضي الله عنهم فإنك لا ترى لهم إلا الاستجابة الفورية والدخول في أول بيعة شرعية .

لعلمهم أن الاعتراض في مثل هذه الحال يفضي إلى الاختلاف والاختلال .

وقد سارع عمر يوم السقيفة إلى البيعة للصدّيق دون مشورة، لدعاية الحال وإملاء الضرورة، خشية أن يسرع مبادر إلى بيعة غيره من الحضور، فتحدث الفتنة وتضطرب الأمور.

ولو لم تكن متابعة المبادر إلى البيعة واجبة متعينة، وحرمة الإعراض عنها معلومة بينة، لما كان لتخوفه مكان ولا لتسرعه إلى البيعة برهان.

ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة: أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد..)رواه البخاري.

فكلام عمر رضي الله عنه مشعر بوجوب المتابعة لمن بادر إلى المبايعة ونصرته بالمشايعة لما يترتب على مخالفته من الفساد الذي يشقي به العباد وتختل به أمور البلاد. ثم إن قول عمر رضي الله عنه لسعد "قتله الله" يشعر أنه يؤثمه لتخلفه عن البيعة وقد كان حاضرا المجلس !

وإذا كان الحضور لمجلس البيعة قد يأثمون للتخلف عنها فكيف بمن غاب عنها ..

بل يتعين عليهم الموافقة والانقياد، وليس لاعتراضهم بعد إبرام الأمر حظ من السداد .

وقد نص ابن العربي المالكي على وجوب متابعة المبادرين إلى البيعة فقال:

(لأن واحدا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذالك فهو لازم له، وهو مكره على ذالك شرعا ) العواصم من القواصم (ص: 144).

فقوله رحمه الله " ومن بايع بعد ذالك فهو لازم له ومكره على ذالك شرعا " صريح في أنه لا خيار فيه وأنه لا يسع بقية الناس إلا متابعة السابق إلى عقد البيعة .

وقال النووي:

(، ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة، لزمهم الموافقة والمتابعة، ) روضة الطالبين:10/ 43

وكذالك قال القلقشندي في كلامه السابق:

(..... بل إذا بلغهم خبر البيعة وجب عليهم الموافقة والمتابعة) مآثر الإنافة في معالم الخلافة: 1/ 44.

والذي يظهر من خلال "السبر والتقسيم" أن البيعة إذا عقدت من طرف الحضور من أهل الحل والعقد وتوفرت الشروط في المعقود له وجب الدخول فيها وحرم الاعتراض.

لأن المعارض للبيعة لا يخرج عن ثلاث احتمالات:

1- أن يكون اعتراضه طلبا لمن هو أعلى مزية وأكمل مرتبة .

وهو غير مشروع بعد عقد البيعة لغيره .

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوا ببيعة الأول ..).

فإذا كانت البيعة للثاني تبطل وترد بعد إبرامها، فهذا يدل من باب أولى على حرمة إنشائها .

2-أن يكون اعتراضه ترجيحا للمساوي الذي رجح عليه المبايَع بأسبقية البيعة.

وفساد ما قبله يدل على فساده .

3-أن يكون اعتراضه ترجيحا لمن هو أدنى مرتبة من المبايَع وهذا الاحتمال أشنع من غيره وأولى بالاضمحلال .

فبان من هذا "السبر والتقسيم" أن المعترض على البيعة المسبوق إليها واقع لا محالة في المحظور ووالج باب فتنة من الشرور .

لأنه نقض الأمر بعد إبرامه وفرّق السلك بعد انتظامه .

فصل

لا يشترط للبيعة عدد محدود

وأما من قال: لو لم يبايع إلا خمسة أو عشرة ولم يتابعهم الناس على ذالك لم تمض البيعة، فلا مستند له على قوله والنصوص أقرب إلى رد هذا من قبوله .

فإن الذين عقدوا البيعة لأبي بكر رضي الله عنه في السقيفة كانوا عددا محصورا لا خلقا وفيرا أو جمعا غفيرا ..

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر..) رواه البخاري .

وقد ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ولاية الأمر تنعقد حتى وإن كان عدد الرعية محصورا محدودا .

ومن ذالك حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله عز وجل مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه، فكّه برّه، أو أَوْبَقه إثمه، أوّلها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخراه خزي يوم القيامة) .

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5 / 267) .

والطبراني في الكبير (8 / 204 رقم 7724) .

وفي لفظ في مسند الحارث: (ما من أمير عشرة إلا أتى يوم القيامة مغلولا لا يطلقه إلا العدل...).

وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المقصر في أداء حقوق الرعية يحاسب يوم القيامة على تقصيره حتى وإن كان من تولى أمرهم لا يزيدون على العشرة، وهذا على سبيل المبالغة، لكنه يدل على مشروعية عقد البيعة من طرف العشرة .

ومن ذالك أيضا ما فعله عمر رضي الله عنه من جعل الأمر شورى بين ستة من الصحابة يختارونه منهم ولم يعترض عليه أحد من الصحابة فكان ذالك إجماعا .

وهذا أيضا يدل على مشروعية عقد البيعة من طرف الخمسة .

فإذا ثبت أن العدد القليل المحصور كالخمسة والعشرة تنعقد به البيعة ولم يدل دليل على تحديد عدد معين فالصواب أن يقال بأن أقل ما تنعقد به البيعة هو أقل الجمع .

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أقل الجمع هو اثنان .

والصحيح أن أقل الجمع من الناحية الشرعية ثلاثة، ومن الأدلة على ذالك:

1- حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم..)

قال ابن عبد البر:

(وفي هذا الحديث ما يدل على أن الاثنين ليسا بجماعة فتدبره تجده كذلك إن شاء الله..) التمهيد: 20/ 7

قلت: ووجه الدلالة من الحديث أن الإثنين لا يجب عليهما تأمير أحدهما، فامتاز الثلاثة عن الاثنين بتعلق الوجوب بهم فدل ذالك على أن أقل الجمع ثلاثة .

2- حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)رواه مالك وأحمد وأبو داود .

وجه الدلالة من الحديث: أن المقصد الشرعي المرجو من رفقة الجماعة لا يتحقق إلا مع وجود الثلاثة فصاعدا، فدل ذالك على أن الثلاثة هي أقل الجمع.

3- ما رواه مالك مرسلا عن سعيد ابن المسيب ووصله ابن عبد البر في التمهيد عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم).

قال ابن عبد البر:

( وهذا في معنى ما ذكرنا أن الاثنين لا يحكم لهما بحكم الجماعة إلا فيما خصته السنة ولم يختلف العرب أن نون الاثنين مكسورة ونون الجمع مفتوحة ففرقت بين الاثنين والجماعة..) التمهيد :20/ 8.

كذا قال رحمه الله ’ إلا أنه رجح في أكثر من موضع في"الاستذكار" أن أقل الجمع اثنان!

4- حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية "

رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة .

وجه الدلالة من الحديث: أنه لما تعلق وجوب صلاة الجماعة بالثلاثة دون من دونهم دل ذالك على أن الثلاثة هي أقل الجمع .

وحتى من الناحية اللغوية فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أقل الجمع ثلاثة .

قال النووي:

(الجمهور يقولون أقل الجمع ثلاثة فجمع الاثنين مجاز وقالت طائفة أقله اثنان..) شرح النووي على مسلم (16/ 15(

وقال الحافظ العراقي :

(قوله حافظوا على الصلوات يدل على ثلاثة من الصلوات إذ أقل الجمع ثلاثة على الأصح) طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 171)

وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن البيعة تنعقد من طرف شخص واحد ويجب على الناس متابعته .

قال النووي:

(لا يتعين للاعتبار عدد، بل لا يعتبر العدد، حتى لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع، كفت بيعته ;) روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 43)

وقال القرطبي:

(فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود) تفسير القرطبي 1/ 269

وقال القلقشندي:

(لَو تعلق الْحل وَالْعقد بِوَاحِد مُطَاع كفى) مآثر الإنافة في معالم الخلافة :1/ 44

وقال محمد بن عمر بن مبارك الحميري " بحرق " :

( بل يكتفى ببيعة واحد منهم في ثبوت الإمامة لمن عقدها له، ووجوب اتّباع المعقود له على سائر أهل الإسلام، لاكتفاء الصّحابة مع صلابتهم في الدّين بعقد عمر لأبي بكر كما سبق، وعقد عبد الرّحمن بن عوف لعثمان كما سيأتي..)

والصحيح أن البيعة لا تنعقد إلا من طرف جماعة، وذالك لأمور :

الأول: لأن الأمر يتعلق بمسألة عامة تخص جميع المسلمين فلا يشرع أن يقضي فيها شخص واحد برأيه أو اجتهاده، وإنما يجب أن يكون الأمر صادرا عن شورى من المسلمين لقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}.

الثاني: حديث عمر الذي يحذر فيه أن يبايع أحد أميرا دون مشورة المسلمين .

الثالث: أن ولي الأمر يعهد لمن بعده بالأمر ويأمر الناس بمبايعته كما فعل أبوبكر رضي الله عنه بالعهد بالأمر من بعده لعمر وأجمع الصحابة على وجوب إنفاذ عهده .

وإذا قلنا بأن الناس ملزمون ببيعة صادرة من شخص واحد، فقد ألزمناهم باختياره ولم يكن للولاية بالعهد من طرف الإمام مزية على بيعة سائر الناس ..!

أي أنه لا فرق بين ولاية الأمر بالعهد وولاية الأمر بالبيعة .

تنبيه:

جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة من الصحابة فيه دليل على مشروعية اختيار جماعة محدودة مكلفة بنصب الإمام وبيعته تختاره حسب اتفاقها إما بالأغلبية أو بما تتفق عليه من مرجحات .

فمع وجود هذه الهيئة وتعيينها فالإمام الشرعي هو المبايع من طرفها .

وأما مع عدم وجودها فالإمام الشرعي هو أول حائز على الشروط بايعته جماعة من أهل الحل والعقد .

فصل

إذا دار الأمر بين انعدام الإمام وجهالة عينه ثبتت البيعة ولو مع الجهالة

إذا كان إخفاء اسم الإمام وعينه لغرض الحفاظ على منصب الإمامة وأخذ الحيطة للسلامة فلا ينبغي أن يكون لاشتراط معرفته مكان ولا للاعتراض عليه وجه أو لسان.

لأن نصب الإمام عبادة، والعبادة لا يسقط كلها بتعذر بعضها ..

لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ) رواه البخاري.

والقاعدة أن "الميسور لا يسقط بالمعسور"،

فإذا تعذر الإعلان عن اسم الشخص المبايع بعينه فلا يسقط وجوب نصب الإمام بجملته .

فيسقط شرط الإعلان وتثبت البيعة مع هذا النقصان .

لأن الاجتماع تحت راية من لم يجمع الأوصاف أولى من التفرق وبقاء الاختلاف

وفي مثل هذا يقول الغزالي:

(فلو انتهض لهذا الأمر من فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم فماذا ترون فيه، أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟

قلنا: الذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته لأن ما يفوتنا من المصارفة بين كونه عالماً بنفسه أو مستفتياً من غيره دون ما يفوتنا بتقليد غيره إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها. وربما يؤدي ذلك إلى هلاك النفوس والأموال، وزيادة صفة العلم إنما تراعى مزية وتتمة للمصالح فلا يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشوق إلى مزاياها وتكملاتها.......فإن قيل فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها، ؟!! ....ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالاضافة، ويجب على العاقل اختياره، ...)الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، ص: 129-130

والذي يظهر والله اعلم أن المتعين هو معرفة المبايَع بأوصافه وأحواله لا باسمه ووسمه.

لأن الشرع لم يشترط للإمام اسما معينا ولا صورة ثابتة، وإنما اشترط له أوصافا محددة فحيثما وجدت هذه الأوصاف كان أهلا للإمامة سواء كان اسمه عمرا أو زيدا وسواء كان أبيض او أسود أو طويلا أو قصيرا.

فلا يشترط في البيعة معرفة هيئة المبايع ولا صفة شكله .

وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة من لا يعرفه بعينه ..

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري» قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" رواه البخاري.

ولا شك أن كل من كان يبايع الإمام في الأقطار النائية لا يعرف أوصافه إلا بالسماع، ومع هذا لم يقل أحد منهم: لا بيعة إلا بعد المعاينة والاجتماع .

الخاتمة

تبين من خلال الفصول السابقة أن نصب الإمام واجب على المسلمين وأن وجوبه على الفور، وأنه لا مانع يمنع المسلمين اليوم من نصبه ولا عذر لهم في تركه .

أما من يقولون بتعطيل البيعة الواجبة وبقاء المسلمين على حال من الفرقة إلى أن يرضى بالبيعة جل المسلمين فلا يدل لقولهم نص صريح ولا عقل صحيح.

وقد عجبت من موقف بعض الشيوخ الفاضلين الذين قالوا بأن كل البيعات الموجودة اليوم ما هي إلا بيعات على الجهاد وليس فيها أي بيعة على الإمامة !

وكأنهم بهذا الكلام يستنكرون أن تقوم الجماعات المجاهدة بتنصيب الإمام ومبايعته على تطبيق الشريعة والأحكام !

وردا على ذالك نقول:

1- هذا الكلام بريد إلى وقوع النزاع وفيه حض على ترك فريضة نصب الإمام الواجبة بالإجماع ..وتحريض للجماعات المجاهدة على أن تبقى بلا راية مرفوعة ولا قيادة متبوعه، وهذا هو عين ما حذر منه الشرع الحكيم، وجعله من أسباب الخلاف الأثيم..

قال الجويني في بيان ما يترتب على تعدد الأمراء من المفاسد :

( داعية التقاطع والتدابر والشقاق ربط الأمور بنظر ناظرين، وتعليق التقدم بأميرين، وإنما تستمر أكناف الممالك برجوع أمراء الأطراف إلى رأي واحد ضابط، ونظر متحد رابط، وإذا لم يكن لهم موئل عنه يصدرون، ومطمح إليه يتشوفون، تنافسوا وتتطاولوا، وتغالبوا وتصاولوا، وتواثبوا على ابتغاء الاستيلاء والاستعلاء، وتغالبوا غير مكترثين باستئصال الجماهير والدهماء، فتكون الداهية الدهياء، وهذا مثار البلايا، ومهلكة البرايا، وفيه تنطحن السلاطين والرعايا) غياث الأمم في التياث الظلم ص: 174

فواجب على أهل العلم أن يبينوا للناس وجوب هذه الفريضة ويدعوهم إلى العمل بها لا أن ينفروهم منها ..

2- ما هو المانع من كون بعض البيعات الموجودة بيعة على الإمامة الشرعية ؟

ألأن مبايعة الإمام ونصبه في زماننا غير واجب وغير مشروع ؟

أم لأن الجماعات المجاهدة كلها ليست أهلا لأن يكون من ضمنها جماعة من أهل الحل والعقد الذين تنعقد بهم بيعة الإمامة ؟

ألا فليتق الله تعالى من يروج لهذه الشبهات ..

وليعلموا أن كل دعوة إلى ترك فريضة نصب الإمام، فمآلها إلى تفريق الجماعة والاعتراض على الواجب والطاعة ..

ونسأل الله تعالى أن يكون فيما ذكرناه تجلية للصواب وبيانا للحق في هذا الباب .

ونسأله أن يجمع كلمة المسلمين ويوفقهم للتمسك بالسنة والكتاب .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

 

كتبه:

أبو المنذر الشنقيطي

الثلاثاء 07 صفر 1435 هـ .

10 ديسمبر 2013 م .

 

 

 

 

 

 

 

ـ